تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سميت في المصاحف العتيقة والحديثة ﴿ سورة الزخرف ﴾ وكذلك وجدتها في جوء عتيق من مصحف كوفي الخط مما كتب في أواخر القرن الخامس، وبذلك ترجم لها الترمذي في كتاب التفسير من جامعة، وسميت كذلك في كتب التفسير.
وسماها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ﴿ سورة حم الزخرف ﴾ وإضافة كلمة حم إلى الزخرف على نحو ما بيناه في تسمية سورة ﴿ حم المؤمن ﴾ روى الطبرسي عن الباقر أنه سماها كذلك.
ووجه التسمية أن كلمة ﴿ وزخرفا ﴾ وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرفوها بهذه الكلمة.
وهي مكية : وحكى ابن عطية الاتفاق على أنها مكية، وأما ما روى عن قتادة وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن آية ﴿ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ﴾ نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافيا لهذا لأن المراد بالمكي ما أنزل قبل الهجرة.
وهي معدودة السور الثانية والستين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة فصلت وقبل سورة الدخان.
وعدت آيها عند العادين من معظم الأمصار تسعا وثمانين، وعدها أهل الشام ثمانيا وثمانين.
أغراضها
أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من الأغراض : التحدي بإعجاز القرآن لأنه آية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به والتنويه به عدة مرات وأنه أوحى الله به لتذكيرهم وتكرير تذكيرهم وإن أعرضوا كما أعرض من قبلهم عن رسلهم.
وإذ قد كان باعثهم على الطعن في القرآن تعلقهم بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها كان من أهم أغراض السورة، التعجيب من حالهم إذ جمعوا بين الاعتراف بأن الله خالقهم والمنعم عليهم وخالق المخلوقات كلها. وبين اتخاذهم آلهة يعبدونها شركاء لله، حتى إذا انتقض أساس عنادهم اتضح لهم ولغيرهم باطلهم.
وجعلوا بنات لله مع اعتقادهم أن البنات أحط قدرا من الذكور فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص.
وإبطال عبادة كل ما دون الله على تفاوت درجات المعبودين في الشرف فإنهم سواء في عدم الإلهية للألوهية ولبنوة الله تعالى.
وعرج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفه تخييلاتهم وترهاتهم.
وذكرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وخص إبراهيم بأنه جعل كلمة التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنهم في مأمن بعد الموت.
وقد رتبت هذه الأغراض وتفاريعها على نسخ بديع وأسلوب رائع في التقديم والتأخير والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسبات التي اقتضتها البلاغة، وتجديد نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه. وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمثل والقوارع والترغيب والترهيب، شيء عجيب، مع دحض شبه المعاندين بأفانين الإقناع بانحطاط ملة كفرهم وعسف معوج سلوكهم.
وأدمج في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على الناس والإنذار والتبشير.
وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره.
وسماها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ﴿ سورة حم الزخرف ﴾ وإضافة كلمة حم إلى الزخرف على نحو ما بيناه في تسمية سورة ﴿ حم المؤمن ﴾ روى الطبرسي عن الباقر أنه سماها كذلك.
ووجه التسمية أن كلمة ﴿ وزخرفا ﴾ وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرفوها بهذه الكلمة.
وهي مكية : وحكى ابن عطية الاتفاق على أنها مكية، وأما ما روى عن قتادة وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن آية ﴿ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ﴾ نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافيا لهذا لأن المراد بالمكي ما أنزل قبل الهجرة.
وهي معدودة السور الثانية والستين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة فصلت وقبل سورة الدخان.
وعدت آيها عند العادين من معظم الأمصار تسعا وثمانين، وعدها أهل الشام ثمانيا وثمانين.
أغراضها
أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من الأغراض : التحدي بإعجاز القرآن لأنه آية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به والتنويه به عدة مرات وأنه أوحى الله به لتذكيرهم وتكرير تذكيرهم وإن أعرضوا كما أعرض من قبلهم عن رسلهم.
وإذ قد كان باعثهم على الطعن في القرآن تعلقهم بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها كان من أهم أغراض السورة، التعجيب من حالهم إذ جمعوا بين الاعتراف بأن الله خالقهم والمنعم عليهم وخالق المخلوقات كلها. وبين اتخاذهم آلهة يعبدونها شركاء لله، حتى إذا انتقض أساس عنادهم اتضح لهم ولغيرهم باطلهم.
وجعلوا بنات لله مع اعتقادهم أن البنات أحط قدرا من الذكور فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص.
وإبطال عبادة كل ما دون الله على تفاوت درجات المعبودين في الشرف فإنهم سواء في عدم الإلهية للألوهية ولبنوة الله تعالى.
وعرج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفه تخييلاتهم وترهاتهم.
وذكرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وخص إبراهيم بأنه جعل كلمة التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنهم في مأمن بعد الموت.
وقد رتبت هذه الأغراض وتفاريعها على نسخ بديع وأسلوب رائع في التقديم والتأخير والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسبات التي اقتضتها البلاغة، وتجديد نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه. وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمثل والقوارع والترغيب والترهيب، شيء عجيب، مع دحض شبه المعاندين بأفانين الإقناع بانحطاط ملة كفرهم وعسف معوج سلوكهم.
وأدمج في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على الناس والإنذار والتبشير.
وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره.
ﰡ
وَالْمَثَلِ وَالْقَوَارِعِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ شَيْءٌ عَجِيبٌ، مَعَ دَحْضِ شُبَهِ الْمُعَانِدِينَ بِأَفَانِينِ الْإِقْنَاعِ بِانْحِطَاطِ مِلَّةِ كُفْرِهِمْ وَعَسْفِ مُعْوَجِّ سُلُوكِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ.
وَقَدْ جَرَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أُسْلُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَدَا مَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى غَيره.
[١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١]
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِره ومواقعها قَبْلَ ذِكْرِ الْقُرْآن وتنزيله.
[٢، ٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢ إِلَى ٣]
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)
أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ عَرَبِيًّا وَاضِحَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُصَدِّقُوا بِهِ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مُكَابِرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ كَانُوا كَمَنْ لَا يَعْقِلُونَ.
فَالْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَهُوَ تَوْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ إِذْ لَيْسَ الْقَسَمُ هُنَا بِرَافِعٍ لِتَكْذِيبِ الْمُنْكِرِينَ إِذْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْمُقْسِمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْقَسَمِ هُمُ الْمُنْكِرُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَتَفْرِيعِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥] عَلَيْهِ. وَتَوْكِيدُ الْجَوَابِ بِ (إِنَّ) زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ لِلْخَبَرِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ.
وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ الْقُرْآنَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُبِينًا، وَجَعْلِ جَوَابِ الْقَسَمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُبِينًا، تَنْوِيهٌ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ إِذْ جَعَلَ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ الْمُقَسَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَبِيلِهِ قَوْلَ أَبِي تَمَّامٍ:
وَقَدْ جَرَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أُسْلُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَدَا مَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى غَيره.
[١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١)تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِره ومواقعها قَبْلَ ذِكْرِ الْقُرْآن وتنزيله.
[٢، ٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢ إِلَى ٣]
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)
أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ عَرَبِيًّا وَاضِحَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُصَدِّقُوا بِهِ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مُكَابِرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ كَانُوا كَمَنْ لَا يَعْقِلُونَ.
فَالْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَهُوَ تَوْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ إِذْ لَيْسَ الْقَسَمُ هُنَا بِرَافِعٍ لِتَكْذِيبِ الْمُنْكِرِينَ إِذْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْمُقْسِمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْقَسَمِ هُمُ الْمُنْكِرُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَتَفْرِيعِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥] عَلَيْهِ. وَتَوْكِيدُ الْجَوَابِ بِ (إِنَّ) زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ لِلْخَبَرِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ.
وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ الْقُرْآنَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُبِينًا، وَجَعْلِ جَوَابِ الْقَسَمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُبِينًا، تَنْوِيهٌ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ إِذْ جَعَلَ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ الْمُقَسَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَبِيلِهِ قَوْلَ أَبِي تَمَّامٍ:
159
وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضُ | وَلَآلٍ تُؤْمٌ وَبَرْقٌ وَمِيضُ |
لتكادني غِمَارٌ مِنَ الْأَحْ | دَاثِ لَمْ أَدْرِ أَيَّهُنَّ أَخُوضُ |
وَارْتِكَاضُ الْكَرَى بِعَيْنَيْكَ فِي النَّ | وْمِ فُنُونًا وَمَا بِعَيْنِي غُمُوضُ |
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ لِيُكْتَبَ وَأَنَّ الْأُمَّةَ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَتِهِ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْمُرَادُ بِ الْكِتابِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ.
وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ، أَيْ إِنَّا جَعَلْنَا الْكِتَابَ الْمُبِينَ قُرْآنًا وَالْجَعْلُ: الْإِيجَادُ وَالتَّكْوِينُ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَقْرُوءٌ دُونَ حُضُورِ كِتَابٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ وَلَوْلَا ذَلِكَ
لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مَقْرُوءٌ لِأَنَّ كُلَّ كِتَابٍ صَالِحٌ لِأَنْ يُقْرَأُ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ قُرْآنٌ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ هَذَا الْكِتَابِ مَقْرُوءًا، أَيْ مُيَسَّرًا لِأَنْ يُقْرَأُ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ١٧] وَقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[الْقِيَامَة: ١٧]. وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: ٩].
فَحَصَلَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِوَصْفَيْنِ: كَوْنِهِ كِتَابًا، وَكَوْنِهِ مَقْرُوءًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ كِتَابُ الْإِسْلَامِ.
160
وَ (عَرَبِيًّا) نِسْبَةً إِلَى الْعَرَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَنْسُوبُ كِتَابًا وَمَقْرُوءًا فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى الْعَرَبِ نِسْبَةُ الْكَلَامِ وَاللُّغَةِ إِلَى أَهْلِهَا، أَيْ هُوَ مِمَّا يَنْطِقُ الْعَرَبُ بِمِثْلِ أَلْفَاظِهِ، وَبِأَنْوَاعِ تَرَاكِيبِهِ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَعَلْناهُ.
وَمَعْنَى جَعْلِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا تَكْوِينُهُ عَلَى مَا كُوِّنَتْ عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَاهِرِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ قُرْآنًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا دَلَالَةً عَلَى عَدِيدِ الْمَعَانِي، وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ أَفْهَمُ لِدَقَائِقِهَا، وَلِذَلِكَ اصْطَفَى رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِتَتَظَاهَرَ وَسَائِلُ الدَّلَالَةِ وَالْفَهْمِ فَيَكُونُوا الْمُبَلِّغِينَ مُرَادَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَمِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بِهَاتِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَأْبَى مِنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ بُعَدَاءُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَالرُّشْدِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَدْيَهُمْ فَلَا يُقْطَعُ عَنْهُمْ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتِمَّ مُرَادُهُ وَيَكْمُلَ انْتِشَارُ دِينِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَيَتَدَبَّرُوا إِخْلَاصَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ إِنْ هُمْ ثَابُوا إِلَى رُشْدِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَرَضَانِ: أَحَدُهُمَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَمَدْحُهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوجٌ عَلَى مِنْوَالِ أَفْصَحِ لُغَةٍ، وَثَانِيهِمَا التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْعَرَبِ حِينَ لَمْ يَتَأَثَّرُوا بِمَعَانِيهِ بِأَنَّهُمْ كَمَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ الْمُفْتَتَحَةُ بِهِمَا السُّورَةُ مِنْ مَعْنَى التَّحَدِّي بِأَنَّ هَذَا كِتَابٌ بِلُغَتِكُمْ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَحَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٣].
وَالْعَقْلُ الْفَهْمُ. وَالْغَرَضُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا التَّدَبُّرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنَّ كَمَالَهُ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفْصَاحِ نَسْتَأْهِلُ الْعِنَايَةَ بِهِ لَا الْإِعْرَاضَ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مُشْعِرٌ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّا يَسَّرْنَا فَهْمَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَأَعْرَضْتُمْ وَلَمْ تَعْقِلُوا مَعَانِيَهُ،
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَعَلْناهُ.
وَمَعْنَى جَعْلِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا تَكْوِينُهُ عَلَى مَا كُوِّنَتْ عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَاهِرِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ قُرْآنًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا دَلَالَةً عَلَى عَدِيدِ الْمَعَانِي، وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ أَفْهَمُ لِدَقَائِقِهَا، وَلِذَلِكَ اصْطَفَى رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِتَتَظَاهَرَ وَسَائِلُ الدَّلَالَةِ وَالْفَهْمِ فَيَكُونُوا الْمُبَلِّغِينَ مُرَادَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَمِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بِهَاتِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَأْبَى مِنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ بُعَدَاءُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَالرُّشْدِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَدْيَهُمْ فَلَا يُقْطَعُ عَنْهُمْ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتِمَّ مُرَادُهُ وَيَكْمُلَ انْتِشَارُ دِينِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَيَتَدَبَّرُوا إِخْلَاصَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ إِنْ هُمْ ثَابُوا إِلَى رُشْدِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَرَضَانِ: أَحَدُهُمَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَمَدْحُهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوجٌ عَلَى مِنْوَالِ أَفْصَحِ لُغَةٍ، وَثَانِيهِمَا التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْعَرَبِ حِينَ لَمْ يَتَأَثَّرُوا بِمَعَانِيهِ بِأَنَّهُمْ كَمَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ الْمُفْتَتَحَةُ بِهِمَا السُّورَةُ مِنْ مَعْنَى التَّحَدِّي بِأَنَّ هَذَا كِتَابٌ بِلُغَتِكُمْ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَحَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٣].
وَالْعَقْلُ الْفَهْمُ. وَالْغَرَضُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا التَّدَبُّرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنَّ كَمَالَهُ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفْصَاحِ نَسْتَأْهِلُ الْعِنَايَةَ بِهِ لَا الْإِعْرَاضَ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مُشْعِرٌ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّا يَسَّرْنَا فَهْمَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَأَعْرَضْتُمْ وَلَمْ تَعْقِلُوا مَعَانِيَهُ،
161
لِأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِقْدَارٌ عَظِيمٌ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَقَلُوا، فَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ عَلَى طَريقَة الْكِنَايَة.
[٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣]، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ ثَنَاءً ثَانِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ رِفْعَةً وَإِرْشَادًا.
وأُمِّ الْكِتابِ: أَصْلُ الْكِتَابِ. وَالْمُرَادُ بِ أُمِّ الْكِتابِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٩]، لِأَنَّ الْأُمَّ بِمَعْنَى الْأَصْلِ وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، أَيِ الْمُحَقَّقُ الْمُوَثَّقُ وَهَذَا كِنَايَةً عَنِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا عَهْدًا عَلَى طُولِ مُدَّةٍ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَعلي أَصْلُهُ الْمُرْتَفِعُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِشَرَفِ الصِّفَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ.
وحَكِيمٌ: أَصْلُهُ الَّذِي الْحِكْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَأْيِهِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِمَا يَحْوِي الْحِكْمَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَالْقَوَانِينِ الْمُقِيمَةِ لِنِظَامِ الْأُمَّةِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْمَعَانِي هُوَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ وَصَدَرَ عَنْ عِلْمِهِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ هَذَا شَهَادَةً بِعُلُوِّ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ فِي الْيَمِينِ: اللَّهُ يَعْلَمُ، وَعلم اللَّهُ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ.
ولَدَيْنا ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّهُ أَوْ مِنْ أُمِّ الْكِتابِ
[٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣]، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ ثَنَاءً ثَانِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ رِفْعَةً وَإِرْشَادًا.
وأُمِّ الْكِتابِ: أَصْلُ الْكِتَابِ. وَالْمُرَادُ بِ أُمِّ الْكِتابِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٩]، لِأَنَّ الْأُمَّ بِمَعْنَى الْأَصْلِ وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، أَيِ الْمُحَقَّقُ الْمُوَثَّقُ وَهَذَا كِنَايَةً عَنِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا عَهْدًا عَلَى طُولِ مُدَّةٍ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذِرُ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ | قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ |
وحَكِيمٌ: أَصْلُهُ الَّذِي الْحِكْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَأْيِهِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِمَا يَحْوِي الْحِكْمَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَالْقَوَانِينِ الْمُقِيمَةِ لِنِظَامِ الْأُمَّةِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْمَعَانِي هُوَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ وَصَدَرَ عَنْ عِلْمِهِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ هَذَا شَهَادَةً بِعُلُوِّ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ فِي الْيَمِينِ: اللَّهُ يَعْلَمُ، وَعلم اللَّهُ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ.
ولَدَيْنا ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّهُ أَوْ مِنْ أُمِّ الْكِتابِ
وَالْمَقْصُودُ:
زِيَادَةُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَشْرِيفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي أُمِّ الْكِتابِ بِضَمِّ هَمْزَةِ أُمِّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ أُمِّ الْكِتابِ فِي الْوَصْلِ اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ فِي، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى فِي لَمْ يكسر الْهمزَة.
[٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: ٣]، أَيْ أَتَحْسَبُونَ أَنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَمَّا نَزَلَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَبْعَثُنَا عَلَى أَنْ نَقْطَعَ عَنْكُمْ تَجَدُّدَ التَّذْكِيرِ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِعَادَةُ تَذْكِيرِهِمْ وَكَانُوا قَدْ قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ مَا فِيهِ هَدْيُهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا، وَكَانَتْ إِعَادَةُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ مَوْسُومَةً فِي نَظَرِهِمْ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَ إِعْرَاضِهِمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي قَطْعِ الْإِرْشَادِ عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِهِمْ مُرِيدٌ لِصَلَاحِهِمْ لَا يَصُدُّهُ إِسْرَافُهُمْ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ زِيَادَةِ التَقَدُّمِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْهَدْيِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ نَضْرِبَ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا مِنْ جَرَّاءِ إِسْرَافِكُمْ.
وَالضَّرْبُ حَقِيقَتُهُ قَرْعُ جِسْمٍ بِآخَرَ، وَلَهُ إِطْلَاقَاتٌ أَشْهَرُهَا: قَرَعَ الْبَعِيرَ بِعَصًا، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالصَّرْفِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ الْغَرَائِبَ عَنِ الْحَوْضِ، أَيْ أَطْرَدَهَا وَصَرَفَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِأَهْلِ الْمَاءِ، فَاسْتَعَارُوا الضَّرْبَ لِلصَّرْفِ وَالطَّرْدِ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
_________
(١) (اضْرِب) فعل أَمر فهمزته همزَة وصل مَكْسُورَة. وَجَاء بِهِ مَفْتُوح الآخر على تَقْدِير نون التوكيد ضَرُورَة، و (طارقها) بدل من (الهموم) أَي الَّتِي تحدث لَك فِي اللَّيْل، و (القونس) عظم ناتىء بَين أُذُنِي الْفرس إِذا ضرب بِالسَّيْفِ فِي الْحَرْب هلك الْفرس، أَرَادَ: اضْرِب الهموم ضربا قَاطعا.
زِيَادَةُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَشْرِيفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي أُمِّ الْكِتابِ بِضَمِّ هَمْزَةِ أُمِّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ أُمِّ الْكِتابِ فِي الْوَصْلِ اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ فِي، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى فِي لَمْ يكسر الْهمزَة.
[٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: ٣]، أَيْ أَتَحْسَبُونَ أَنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَمَّا نَزَلَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَبْعَثُنَا عَلَى أَنْ نَقْطَعَ عَنْكُمْ تَجَدُّدَ التَّذْكِيرِ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِعَادَةُ تَذْكِيرِهِمْ وَكَانُوا قَدْ قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ مَا فِيهِ هَدْيُهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا، وَكَانَتْ إِعَادَةُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ مَوْسُومَةً فِي نَظَرِهِمْ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَ إِعْرَاضِهِمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي قَطْعِ الْإِرْشَادِ عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِهِمْ مُرِيدٌ لِصَلَاحِهِمْ لَا يَصُدُّهُ إِسْرَافُهُمْ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ زِيَادَةِ التَقَدُّمِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْهَدْيِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ نَضْرِبَ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا مِنْ جَرَّاءِ إِسْرَافِكُمْ.
وَالضَّرْبُ حَقِيقَتُهُ قَرْعُ جِسْمٍ بِآخَرَ، وَلَهُ إِطْلَاقَاتٌ أَشْهَرُهَا: قَرَعَ الْبَعِيرَ بِعَصًا، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالصَّرْفِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ الْغَرَائِبَ عَنِ الْحَوْضِ، أَيْ أَطْرَدَهَا وَصَرَفَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِأَهْلِ الْمَاءِ، فَاسْتَعَارُوا الضَّرْبَ لِلصَّرْفِ وَالطَّرْدِ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا | ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ (١) |
(١) (اضْرِب) فعل أَمر فهمزته همزَة وصل مَكْسُورَة. وَجَاء بِهِ مَفْتُوح الآخر على تَقْدِير نون التوكيد ضَرُورَة، و (طارقها) بدل من (الهموم) أَي الَّتِي تحدث لَك فِي اللَّيْل، و (القونس) عظم ناتىء بَين أُذُنِي الْفرس إِذا ضرب بِالسَّيْفِ فِي الْحَرْب هلك الْفرس، أَرَادَ: اضْرِب الهموم ضربا قَاطعا.
163
وَالذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ.
وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحِ الْوَجْهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ تَرْكَ اسْتِمَاعِهِ وَتَرْكَ النَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَانْتَصَبَ صَفْحاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي مَكَانِ صَفْحٍ، كَمَا يُقَالُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَفْحاً مَصْدَرَ صَفَحَ عَنْ كَذَا، إِذَا أَعْرَضَ، فَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالْإِعْرَاضِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ الضَّائِرِ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ «لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ فَتَكُونُ
إِنْ شَرْطِيَّةً، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ أَنْ تَقَعَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ بِخِلَافِ (إِذَا) الَّتِي هِيَ لِلشَّرْطِ الْمُتَيَقَّنِ وُقُوعه، فالإتيان بإن فِي قَوْلِهِ:
إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لِقَصْدِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ الْمَعْلُومِ إِسْرَافُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي إِسْرَافِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ إِسْرَافَهُمْ وَفِي هَذَا ثِقَةٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى إِمْعَانِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى جَعْلِ إِنَّ مَصْدَرِيَّةً وَتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفًا، أَيْ لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ، أَيْ لَا نَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْرِفِينَ بَلْ لَا نَزَالُ نُعِيدُ التَّذْكِيرَ رَحْمَةً بِكُمْ.
وَإِقْحَامُ قَوْماً قَبْلَ مُسْرِفِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْرَافَ صَارَ طَبْعًا لَهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحِ الْوَجْهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ تَرْكَ اسْتِمَاعِهِ وَتَرْكَ النَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَانْتَصَبَ صَفْحاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي مَكَانِ صَفْحٍ، كَمَا يُقَالُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَفْحاً مَصْدَرَ صَفَحَ عَنْ كَذَا، إِذَا أَعْرَضَ، فَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالْإِعْرَاضِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ الضَّائِرِ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ «لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ فَتَكُونُ
إِنْ شَرْطِيَّةً، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ أَنْ تَقَعَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ بِخِلَافِ (إِذَا) الَّتِي هِيَ لِلشَّرْطِ الْمُتَيَقَّنِ وُقُوعه، فالإتيان بإن فِي قَوْلِهِ:
إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لِقَصْدِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ الْمَعْلُومِ إِسْرَافُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي إِسْرَافِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ إِسْرَافَهُمْ وَفِي هَذَا ثِقَةٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى إِمْعَانِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى جَعْلِ إِنَّ مَصْدَرِيَّةً وَتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفًا، أَيْ لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ، أَيْ لَا نَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْرِفِينَ بَلْ لَا نَزَالُ نُعِيدُ التَّذْكِيرَ رَحْمَةً بِكُمْ.
وَإِقْحَامُ قَوْماً قَبْلَ مُسْرِفِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْرَافَ صَارَ طَبْعًا لَهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
164
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٦ إِلَى ٨]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)لَمَّا ذَكَرَ إِسْرَافَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِصْغَاءِ لِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ وَأَعْقَبَهُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً عَمَّا يُلَاقِيهِ مِنْهُمْ فِي خِلَالِ الْإِعْرَاضِ مِنَ الْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ حَالَهُ فِي ذَلِكَ حَالُ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ وَسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ، ووعد للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى قَوْمِهِ بِتَذْكِيرِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهُمْ. وَجُعِلَ لِلتَّسْلِيَةِ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بِقَرِينَةِ الْعَدْلِ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِزَجْرِهِمْ عَنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ.
فَجُمْلَةُ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف:
٣] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى هُنَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ.
وكَمْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ، وَمُوقِعُ كَمْ نَصْبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَرْسَلْنا، وَهُوَ مُلْتَزَمٌ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فَنُقِلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ.
وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْإِخْبَارُ بِالْكَثْرَةِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي كَمْ. وَالدَّاعِي
إِلَى اجْتِلَابِ اسْمِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِ هَذَا الْحُكْمِ أَدْخَلُ فِي زَجْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ وَأَدْخَلُ فِي تَسْلِيَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْصِيلِ صَبْرِهِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ تُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا تَتَخَلَّفُ، وَذَلِكَ أَزْجَرُ وَأَسْلَى.
والْأَوَّلِينَ جَمْعُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِينَ السَّابِقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: ٧١] فَإِنَّ الَّذِينَ أُهْلِكُوا قَدِ انْقَرَضُوا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ خَلَفَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ
165
نَبِيءٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا يُقَارِنُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ إِتْيَانَ ذَلِكَ النَّبِيءِ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ.
وَضَمِيرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُسْرِفِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطَابُهُمْ فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسَالِ خِطَابِهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَبْلُغُهُمْ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الْإِضْمَارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الِالْتِفَاتِ فِي الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَنَاطَ الِالْتِفَاتِ هُوَ اتِّحَادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأَتِّي الِاقْتِصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ الْأُولَى، وَهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضَى نَقْلِ الْإِضْمَارِ، وَلَا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً بِازْدِيَادِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنَا الْتِفَاتٌ وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شَارِحُوهُ، وَلَكِن الْعَلامَة التفتازانيّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِيهِ الضَّمِيرَانِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالٌ، وَخُصُوصِيَّاتُ الْبَلَاغَةِ وَاسِعَةُ الْأَطْرَافِ. وَالَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَنْ يَأْتِيهم من نبيء. وَهَذَا تَرْتِيب بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَقْتَضِي كَلَامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلَا نَعْجِزُ عَن إهلاك هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَهُمْ أَقَلُّ بَطْشًا.
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ
[مُحَمَّد: ١٣].
وَجُمْلَةُ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ.
وَضَمِيرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُسْرِفِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطَابُهُمْ فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسَالِ خِطَابِهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَبْلُغُهُمْ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الْإِضْمَارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الِالْتِفَاتِ فِي الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَنَاطَ الِالْتِفَاتِ هُوَ اتِّحَادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأَتِّي الِاقْتِصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ الْأُولَى، وَهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضَى نَقْلِ الْإِضْمَارِ، وَلَا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً بِازْدِيَادِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنَا الْتِفَاتٌ وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شَارِحُوهُ، وَلَكِن الْعَلامَة التفتازانيّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِيهِ الضَّمِيرَانِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالٌ، وَخُصُوصِيَّاتُ الْبَلَاغَةِ وَاسِعَةُ الْأَطْرَافِ. وَالَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَنْ يَأْتِيهم من نبيء. وَهَذَا تَرْتِيب بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَقْتَضِي كَلَامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلَا نَعْجِزُ عَن إهلاك هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَهُمْ أَقَلُّ بَطْشًا.
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ
[مُحَمَّد: ١٣].
166
وَالْبَطْشُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ.
وَانْتَصَبَ بَطْشاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْأَشُدِّيَّةِ.
ومَثَلُ الْأَوَّلِينَ حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ. وَمَعْنَى مَضى: انْقَرَضَ، أَيْ ذَهَبُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَمُضِيِّ الْمَثَلِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّ مُضِيَّ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِمُضِيِّ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: ٤٥]. وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: فِي الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ إِظْهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ صَرِيحًا وَجَارِيًا مجْرى الْمثل.
[٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] مُوَجَّهًا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّسْلِيَةِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، عَطَفَ عَلَيْهِ خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الْآيَةَ، لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ عَجَبًا مَعَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُ خَالِقِ الْعَابِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَوْ سَأَلَهُمْ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ خَالِقِ الْخَلْقِ لَمَا اسْتَطَاعُوا غَيْرَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَجُمْلَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] عَطْفَ الْغَرَضِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِإِقْرَارِهِمُ الضِّمْنِيِّ: أَنَّ أَصْنَامَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ صِفَةِ اسْتِحْقَاقِ أَنْ تُعْبَدَ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ وَلَامِ الْجَوَابِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ تَنْزِيلًا لِغَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ، وَهَذَا التَّنْزِيلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَدَارَةِ حَالَتِهِمْ بِالتَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْكَشْفَ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ فِي صُورَةِ سُؤَالِهِمْ عَنْ خَالِقِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي
وَانْتَصَبَ بَطْشاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْأَشُدِّيَّةِ.
ومَثَلُ الْأَوَّلِينَ حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ. وَمَعْنَى مَضى: انْقَرَضَ، أَيْ ذَهَبُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَمُضِيِّ الْمَثَلِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّ مُضِيَّ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِمُضِيِّ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: ٤٥]. وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: فِي الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ إِظْهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ صَرِيحًا وَجَارِيًا مجْرى الْمثل.
[٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] مُوَجَّهًا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّسْلِيَةِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، عَطَفَ عَلَيْهِ خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الْآيَةَ، لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ عَجَبًا مَعَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُ خَالِقِ الْعَابِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَوْ سَأَلَهُمْ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ خَالِقِ الْخَلْقِ لَمَا اسْتَطَاعُوا غَيْرَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَجُمْلَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] عَطْفَ الْغَرَضِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِإِقْرَارِهِمُ الضِّمْنِيِّ: أَنَّ أَصْنَامَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ صِفَةِ اسْتِحْقَاقِ أَنْ تُعْبَدَ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ وَلَامِ الْجَوَابِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ تَنْزِيلًا لِغَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ، وَهَذَا التَّنْزِيلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَدَارَةِ حَالَتِهِمْ بِالتَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْكَشْفَ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ فِي صُورَةِ سُؤَالِهِمْ عَنْ خَالِقِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي
مَجْرَى أَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ حَتَّى إِذَا سَأَلَهُمُ السَّائِلُ عَنْ خَالِقِهِمْ لَمْ يَتَرَيَّثُوا أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّهُ اللَّهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ.
وَتَاءُ الْخِطَابِ فِي سَأَلْتَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ التَّسْلِيَةِ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ يَتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ.
والْعَزِيزُ الْعَلِيمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ مِنْ مَقُولِ جَوَابِهِمْ وَإِنَّمَا حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِالْمَعْنَى، أَيْ لَيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الَّذِي الصِّفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَقُولُونَ: خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٢٥] ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. وَذَلِكَ هُوَ المستقرى مِنْ كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَشِعْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِنَّمَا عدل عَن اسْم الْعَلِيِّ إِلَى الصِّفَتَيْنِ زِيَادَةً فِي إِفْحَامِهِمْ بِأَنَّ الَّذِي انْصَرَفُوا عَنْ تَوْحِيدِهِ بِالْعِبَادَةِ عَزِيزٌ عَلِيمٌ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَرْجُوَهُ النَّاسُ لِلشَّدَائِدِ لِعِزَّتِهِ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ بَاطِنَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرُّهُمْ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمْ فَإِنَّهَا أَذِلَّةٌ لَا تَعْلَمُ، وَإِنَّهُمْ لَا يُنَازَعُونَ وَصْفَهُ بِ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.
وَتَخْصِيصُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِصِفَاتِ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ عَاجِزَةٌ عَنْ دَفْعِ الْأَيْدِي.
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَإِنْ سَأَلْتَهُمْ: أَهْوَ الْعَزِيز الْعَلِيم.
[١٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
هَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ تَخَلُّصٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِسْدَاءِ النِّعَمِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَوَدِ حَيَاةِ النَّاسِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ
وَتَاءُ الْخِطَابِ فِي سَأَلْتَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ التَّسْلِيَةِ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ يَتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ.
والْعَزِيزُ الْعَلِيمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ مِنْ مَقُولِ جَوَابِهِمْ وَإِنَّمَا حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِالْمَعْنَى، أَيْ لَيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الَّذِي الصِّفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَقُولُونَ: خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٢٥] ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. وَذَلِكَ هُوَ المستقرى مِنْ كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَشِعْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِنَّمَا عدل عَن اسْم الْعَلِيِّ إِلَى الصِّفَتَيْنِ زِيَادَةً فِي إِفْحَامِهِمْ بِأَنَّ الَّذِي انْصَرَفُوا عَنْ تَوْحِيدِهِ بِالْعِبَادَةِ عَزِيزٌ عَلِيمٌ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَرْجُوَهُ النَّاسُ لِلشَّدَائِدِ لِعِزَّتِهِ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ بَاطِنَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرُّهُمْ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمْ فَإِنَّهَا أَذِلَّةٌ لَا تَعْلَمُ، وَإِنَّهُمْ لَا يُنَازَعُونَ وَصْفَهُ بِ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.
وَتَخْصِيصُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِصِفَاتِ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ عَاجِزَةٌ عَنْ دَفْعِ الْأَيْدِي.
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَإِنْ سَأَلْتَهُمْ: أَهْوَ الْعَزِيز الْعَلِيم.
[١٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
هَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ تَخَلُّصٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِسْدَاءِ النِّعَمِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَوَدِ حَيَاةِ النَّاسِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ
168
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] الْآيَةَ وَجُمْلَةِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥] الْآيَةَ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْوَارِدِ عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاجْتِلَابُ الْمَوْصُولِ لِلِاشْتِهَارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَسَاوَى الِاسْمَ الْعَلَمَ فِي الدَّلَالَةِ.
وَذُكِرَتْ صِلَتَانِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ لَكُمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِنْشَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ إِعَادَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا شَيْئًا عَجِيبًا.
وَلَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعَانِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ إِذْ كِلْتَاهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَجَعْلُهُمَا كَجَعْلٍ وَاحِدٍ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الْأَحَدَ عَشَرَ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْله مُقْرِنِينَ [الزخرف: ١٠- ١٣] لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَالْمِهَادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ، أَيْ يُوَطَّأُ وَيُسَهَّلُ لِمَا يَحِلُّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤١]. وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ جَعَلَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا وَذَلِكَ الِانْبِسَاطُ لِنَفْعِ الْبَشَرِ السَّاكِنِينَ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ جِسْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُرَوِيَّتَهَا لَيْسَتْ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مَهْداً بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمِهَادُ.
وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَيُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلَى وَسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤٤]. وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُهَا، وَهِيَ السُّهُولُ وَسُفُوحُ الْجِبَالِ وَشِعَابُهَا، أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ كُلَّهَا
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْوَارِدِ عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاجْتِلَابُ الْمَوْصُولِ لِلِاشْتِهَارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَسَاوَى الِاسْمَ الْعَلَمَ فِي الدَّلَالَةِ.
وَذُكِرَتْ صِلَتَانِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ لَكُمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِنْشَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ إِعَادَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا شَيْئًا عَجِيبًا.
وَلَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعَانِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ إِذْ كِلْتَاهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَجَعْلُهُمَا كَجَعْلٍ وَاحِدٍ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الْأَحَدَ عَشَرَ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْله مُقْرِنِينَ [الزخرف: ١٠- ١٣] لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَالْمِهَادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ، أَيْ يُوَطَّأُ وَيُسَهَّلُ لِمَا يَحِلُّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤١]. وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ جَعَلَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا وَذَلِكَ الِانْبِسَاطُ لِنَفْعِ الْبَشَرِ السَّاكِنِينَ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ جِسْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُرَوِيَّتَهَا لَيْسَتْ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مَهْداً بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمِهَادُ.
وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَيُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلَى وَسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤٤]. وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُهَا، وَهِيَ السُّهُولُ وَسُفُوحُ الْجِبَالِ وَشِعَابُهَا، أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ كُلَّهَا
169
جِبَالًا فَيَعْسُرَ عَلَى الْمَاشِينَ سُلُوكُهَا، بَلْ جَعَلَ فِيهَا سُبُلًا سَهْلَةً وَجَعَلَ جِبَالًا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَلِأَنَّ الْأَرْضَ صَالِحَةٌ لِاتِّخَاذِ طُرُقٍ مَطْرُوقَةٍ سَابِلَةٍ.
وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهِ تِلْكَ الطُّرُقَ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاتِّبَاعَ بَعْضِهِمْ آثَارَ بَعْضٍ حَتَّى تَتَعَبَّدَ الطُّرُقُ لَهُمْ وَتَتَسَهَّلَ وَيَعْلَمَ السَّائِرُ، أَيَّ تِلْكَ السُّبُلِ يُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ.
وَفِي تَيْسِيرِ وَسَائِلِ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ بِهِ تَيْسِيرَ التَّجَمُّعِ وَالتَّعَارُفِ وَاجْتِلَابَ الْمَنَافِعِ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَى دَفْعِ الْغَوَائِلِ وَالْأَضْرَارِ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْمَدَنِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ النَّاسِ مِنَ النَّبَاتِ وَالثَّمَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَالْكَمْأَةِ وَالْفَقْعِ وَهِيَ وَسَائِلُ الْعَيْشِ فَهِيَ سُبُلٌ مَجَازِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ
هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ طه.
وَالِاهْتِدَاءُ: مُطَاوِعُ هَدَاهُ فَاهْتَدَى. وَالْهِدَايَةُ حَقِيقَتُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الدَّالُّ عَلَى الطَّرَائِقِ هَادِيًا، وَتُطْلَقُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ وَمِنْهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤]. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ رَجَاءَ حُصُولِ عِلْمِكُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
وَمَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، مَثَّلَ حَالَ مَنْ كَانَتْ وَسَائِلُ الشَّيْءِ حَاضِرَةً لَدَيْهِ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى لِحُصُولِ المتوسل إِلَيْهِ.
[١١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١١]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)
انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْعَيْشِ فِيهَا، وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ تُنْبِتُ الْأَرْضُ مَا يصلح لاقيات النَّاسِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ اهْتِمَامًا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً فَلَا يَخْطُرُ حُضُورُهَا بِالْبَالِ عِنْدَ حُظُورِ الصِّلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا فِي الْجَامِعِ
وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهِ تِلْكَ الطُّرُقَ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاتِّبَاعَ بَعْضِهِمْ آثَارَ بَعْضٍ حَتَّى تَتَعَبَّدَ الطُّرُقُ لَهُمْ وَتَتَسَهَّلَ وَيَعْلَمَ السَّائِرُ، أَيَّ تِلْكَ السُّبُلِ يُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ.
وَفِي تَيْسِيرِ وَسَائِلِ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ بِهِ تَيْسِيرَ التَّجَمُّعِ وَالتَّعَارُفِ وَاجْتِلَابَ الْمَنَافِعِ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَى دَفْعِ الْغَوَائِلِ وَالْأَضْرَارِ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْمَدَنِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ النَّاسِ مِنَ النَّبَاتِ وَالثَّمَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَالْكَمْأَةِ وَالْفَقْعِ وَهِيَ وَسَائِلُ الْعَيْشِ فَهِيَ سُبُلٌ مَجَازِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ
هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ طه.
وَالِاهْتِدَاءُ: مُطَاوِعُ هَدَاهُ فَاهْتَدَى. وَالْهِدَايَةُ حَقِيقَتُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الدَّالُّ عَلَى الطَّرَائِقِ هَادِيًا، وَتُطْلَقُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ وَمِنْهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤]. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ رَجَاءَ حُصُولِ عِلْمِكُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
وَمَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، مَثَّلَ حَالَ مَنْ كَانَتْ وَسَائِلُ الشَّيْءِ حَاضِرَةً لَدَيْهِ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى لِحُصُولِ المتوسل إِلَيْهِ.
[١١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١١]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)
انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْعَيْشِ فِيهَا، وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ تُنْبِتُ الْأَرْضُ مَا يصلح لاقيات النَّاسِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ اهْتِمَامًا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً فَلَا يَخْطُرُ حُضُورُهَا بِالْبَالِ عِنْدَ حُظُورِ الصِّلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا فِي الْجَامِعِ
170
الْخَيَالِيِّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ وَغَيْرِهَا فَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ مِصْدَاقَهُ هُوَ فَاعِلُ جَمِيعِهَا.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْيَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَيْفَ نُنْشِزُها [الْبَقَرَة: ٢٥٩] بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَتَلَا ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢] فَأَصْلُ الْهَمْزَةِ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ نَشَرَ بِمَعْنَى حَيِيَ، يُقَالُ: نَشَرَ الْمَيِّتُ، بِرَفْعِ الْمَيِّتِ قَالَ الْأَعْشَى:
وَأَصْلُ النَّشْرِ بَسْطُ مَا كَانَ مَطْوِيًّا وَتَفَرَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَعَانِي الْإِعَادَةِ وَالِانْتِشَارِ.
وَالنَّشْرُ هُنَا مَجَازٌ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لِلْأَرْضِ مَجَازٌ، وَزَادَهُ حُسْنًا هُنَا أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِ: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ.
وَضَمِيرُ فَأَنْشَرْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَالْمَيِّتُ ضِدُّ الْحَيِّ. وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ مَجَازٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣].
وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْبَلْدَةُ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ بِالْمَيِّتِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْوَصْفِ الَّذِي أَصْلُهُ مَصْدَرٌ نَحْوَ: عَدْلٌ وَزُورٌ فَحَسُنَ تَجْرِيدُهُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، بِمُنَاسَبَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ فِي بَعْضِهَا دَلَالَةٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ إِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الِانْتِشَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَأَنْشَرْنا، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ تُخْرَجُونَ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ فَنَائِكُمْ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِحْدَاثُ الْحَيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ إِظْهَارُ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْيَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَيْفَ نُنْشِزُها [الْبَقَرَة: ٢٥٩] بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَتَلَا ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢] فَأَصْلُ الْهَمْزَةِ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ نَشَرَ بِمَعْنَى حَيِيَ، يُقَالُ: نَشَرَ الْمَيِّتُ، بِرَفْعِ الْمَيِّتِ قَالَ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا | يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ |
وَالنَّشْرُ هُنَا مَجَازٌ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لِلْأَرْضِ مَجَازٌ، وَزَادَهُ حُسْنًا هُنَا أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِ: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ.
وَضَمِيرُ فَأَنْشَرْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَالْمَيِّتُ ضِدُّ الْحَيِّ. وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ مَجَازٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣].
وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْبَلْدَةُ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ بِالْمَيِّتِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْوَصْفِ الَّذِي أَصْلُهُ مَصْدَرٌ نَحْوَ: عَدْلٌ وَزُورٌ فَحَسُنَ تَجْرِيدُهُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، بِمُنَاسَبَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ فِي بَعْضِهَا دَلَالَةٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ إِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الِانْتِشَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَأَنْشَرْنا، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ تُخْرَجُونَ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ فَنَائِكُمْ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِحْدَاثُ الْحَيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ إِظْهَارُ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
171
فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ | فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ |
[١٢- ١٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
هَذَا الِانْتِقَالُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْحَيَاةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الِاكْتِسَابِ لِصَلَاحِ الْمَعَاشِ، وَذَكَرَ مِنْهَا وَسَائِلَ الْإِنْتَاجِ وَأَتْبَعَهَا بِوَسَائِلِ الِاكْتِسَابِ بِالْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاحِدُ ثَانِيًا، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ زَوْجٌ لِلْآخَرِ مِثْلَ الشَّفْعِ. وَغُلِّبَ الزَّوْجُ عَلَى الذَّكَرِ وَأُنْثَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٣]، وَتُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ الزَّوْجُ عَلَى الصِّنْفِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: ٣]. وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا، وَفِي أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ مَنَافِعُ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا وَنِتَاجِهَا.
وَلَمَّا كَانَ الْمُتَبَادَرُ من الْأزْوَاج بادىء النَّظَرِ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ وَكَانَ مِنْ أَهَمِّهَا عِنْدَهُمُ الرَّوَاحِلُ عَطَفَ عَلَيْهَا مَا هُوَ مِنْهَا وَسَائِلُ لِلتَّنَقُّلِ بَرَّا وَأَدْمَجَ مَعَهَا وَسَائِلَ السَّفَرِ بَحْرًا. فَقَالَ:
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ فَالْمُرَادُ بِ مَا تَرْكَبُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ
هُوَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا وَسِيلَةُ الْأَسْفَارِ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: ٤١، ٤٢] وَقَدْ قَالُوا: الْإِبِلُ سَفَائِنُ الْبَرِّ.
172
وَجِيءَ بِفِعْلِ جَعَلَ مُرَاعَاةً لِأَنَّ الْفُلْكَ مَصْنُوعَةٌ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً، وَالْأَنْعَامُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِشُمُولِ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَزْواجَ إِيَّاهَا. وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهُ الْفُلْكَ وَالْأَنْعَامَ مَرْكُوبَةً: أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةَ التَّفْكِيرِ الَّتِي يَنْسَاقُ بِهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَوْجُودَاتِ فِي نَفْعِهِ فَاحْتَالَ كَيْفَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَيَرْكَبُ فِيهَا وَاحْتَالَ كَيْفَ يُرَوِّضُ الْأَنْعَامَ وَيَرْكَبُهَا.
وَقَدَّمَ الْفُلْكَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظُ الْأَزْوَاجِ فَذِكْرُهَا ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى وَلَوْ ذَكَرَ الْأَنْعَامَ لَكَانَ ذِكْرُهُ عَقِبَ الْأَزْوَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَادَةِ. فَلَمَّا ذَكَرَ الْفُلْكَ بِعُنْوَانِ كَوْنِهَا مَرْكُوبًا عَطَفَ عَلَيْهَا الْأَنْعَامَ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ مُتَرَقَّبًا لِلنَّفْسِ لِمُنَاسَبَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذْ أَعْقَبَ ذِكْرَ رُكُوبِ الْجَوَادِ بِذِكْرِ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يُعْقِبْهُ بَقَوْلِهِ: وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً، لِاخْتِلَافِ حَالِ الرُّكُوبَيْنِ: رُكُوبِ اللَّذَّةِ وَرُكُوبِ الْحَرْبِ.
وَالرُّكُوبُ حَقِيقَتُهُ: اعْتِلَاءُ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْفُلْكِ لِتَشْبِيهِهِمُ الْفُلْكَ بِالدَّابَّةِ بِجَامِعِ السَّيْرِ فَرُكُوبُ الدَّابَّةِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَرُكُوبُ الْفُلْكِ يَتَعَدَّى بِ (فِي) لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصِيلِ وَاللَّاحِقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [٤١].
ومِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ.
وَحَذَفَ عَائِدَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَفْعُولُ تَرْكَبُونَ هُنَا مُبَيَّنًا بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَانَ حَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى إِلَى أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِ (فِي) فَغَلَبَتِ التَّعْدِيَةُ الْمُبَاشِرَةُ عَلَى التَّعْدِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، وَحَذَفَ الْعَائِدَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ التَّغْلِيبِ. وَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ تَرْكَبُونَ هُنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَالِاسْتِوَاءُ الِاعْتِلَاءُ. وَالظُّهُورُ: جَمْعُ ظَهْرٍ، وَالظَّهْرُ مِنْ عَلَائِقِ الْأَنْعَامِ لَا مِنِِْ
وَقَدَّمَ الْفُلْكَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظُ الْأَزْوَاجِ فَذِكْرُهَا ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى وَلَوْ ذَكَرَ الْأَنْعَامَ لَكَانَ ذِكْرُهُ عَقِبَ الْأَزْوَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَادَةِ. فَلَمَّا ذَكَرَ الْفُلْكَ بِعُنْوَانِ كَوْنِهَا مَرْكُوبًا عَطَفَ عَلَيْهَا الْأَنْعَامَ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ مُتَرَقَّبًا لِلنَّفْسِ لِمُنَاسَبَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ | وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ |
وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ | لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ |
وَالرُّكُوبُ حَقِيقَتُهُ: اعْتِلَاءُ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْفُلْكِ لِتَشْبِيهِهِمُ الْفُلْكَ بِالدَّابَّةِ بِجَامِعِ السَّيْرِ فَرُكُوبُ الدَّابَّةِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَرُكُوبُ الْفُلْكِ يَتَعَدَّى بِ (فِي) لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصِيلِ وَاللَّاحِقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [٤١].
ومِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ.
وَحَذَفَ عَائِدَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَفْعُولُ تَرْكَبُونَ هُنَا مُبَيَّنًا بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَانَ حَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى إِلَى أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِ (فِي) فَغَلَبَتِ التَّعْدِيَةُ الْمُبَاشِرَةُ عَلَى التَّعْدِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، وَحَذَفَ الْعَائِدَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ التَّغْلِيبِ. وَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ تَرْكَبُونَ هُنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَالِاسْتِوَاءُ الِاعْتِلَاءُ. وَالظُّهُورُ: جَمْعُ ظَهْرٍ، وَالظَّهْرُ مِنْ عَلَائِقِ الْأَنْعَامِ لَا مِنِِْ
173
عَلَائِقِ الْفُلْكِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّغْلِيبِ. وَالْمَعْنَى: عَلَى ظُهُورِهِ وَفِي بُطُونِهِ. فَضَمِيرُ ظُهُورِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ الصَّادِقِ بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْبَيَانِ، عَلَى أَنَّ السَّفَائِنَ
الْعَظِيمَةَ تَكُونُ لَهَا ظُهُورٌ، وَهِيَ أَعَالِيهَا الْمَجْعُولَةُ كَالسُّطُوحِ لِتَقِيَ الرَّاكِبِينَ الْمَطَرَ وَشِدَّةَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ. وَلِذَلِكَ فَجَمْعُ الظُّهُورِ مِنْ جَمْعِ الْمُشْتَرِكِ وَالتَّعْدِيَةُ بِحَرْفِ عَلى بُنِيَتْ عَلَى أَنَّ لِلسَّفِينَةِ ظَهْرًا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٨].
وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِمَنَافِعِهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا. وَأَجْدَرُ بِعَدَمِ الذُّهُولِ عَنْهَا، أَيْ جَعَلَ لَكُمْ ذَلِكَ نِعْمَةً لِتَشْعُرُوا بِهَا فَتَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، فَالذِّكْرُ هُنَا هُوَ التَّذَكُّرُ بِالْفِكْرِ لَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ.
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ تَقَلَّبُوا فِي نَعَمِ اللَّهِ وَشَكَرُوا غَيْرَهُ إِذِ اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُ فِي الْأَنْعَامِ. وَذِكْرُ النِّعْمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ شُكْرِهَا لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَازِمٌ لِلْإِنْعَامِ عُرْفًا فَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ إِلَّا نِسْيَانُهُ فَإِذَا ذَكَرَهُ شَكَرَ النِّعْمَةَ.
وَعَطَفَ عَلَى تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ قَوْلَهُ: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا، أَيْ لِتَشْكُرُوا اللَّهَ فِي نُفُوسِكُمْ وَتُعْلِنُوا بِالشُّكْرِ بِأَلْسِنَتِكُمْ، فَلَقَّنَهُمْ صِيغَةَ شُكْرٍ عِنَايَةً بِهِ كَمَا لَقَّنَهُمْ صِيغَةَ الْحَمْدِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَصِيغَةَ الدُّعَاءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَافْتَتَحَ هَذَا الشُّكْرَ اللِّسَانِيَّ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلثَّنَاءِ إِذِ التَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ بِالصَّرِيحِ وَيَدُلُّ ضِمْنًا عَلَى إِثْبَاتِ الْكِمَالَاتِ لِلَّهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ. وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ التَّسْبِيحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَمْدُ الَّذِي أَفَادَهُ التَّسْبِيحُ شُكْرًا لِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ التَّسْخِيرِ لَنَا.
الْعَظِيمَةَ تَكُونُ لَهَا ظُهُورٌ، وَهِيَ أَعَالِيهَا الْمَجْعُولَةُ كَالسُّطُوحِ لِتَقِيَ الرَّاكِبِينَ الْمَطَرَ وَشِدَّةَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ. وَلِذَلِكَ فَجَمْعُ الظُّهُورِ مِنْ جَمْعِ الْمُشْتَرِكِ وَالتَّعْدِيَةُ بِحَرْفِ عَلى بُنِيَتْ عَلَى أَنَّ لِلسَّفِينَةِ ظَهْرًا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٨].
وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِمَنَافِعِهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا. وَأَجْدَرُ بِعَدَمِ الذُّهُولِ عَنْهَا، أَيْ جَعَلَ لَكُمْ ذَلِكَ نِعْمَةً لِتَشْعُرُوا بِهَا فَتَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، فَالذِّكْرُ هُنَا هُوَ التَّذَكُّرُ بِالْفِكْرِ لَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ.
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ تَقَلَّبُوا فِي نَعَمِ اللَّهِ وَشَكَرُوا غَيْرَهُ إِذِ اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُ فِي الْأَنْعَامِ. وَذِكْرُ النِّعْمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ شُكْرِهَا لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَازِمٌ لِلْإِنْعَامِ عُرْفًا فَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ إِلَّا نِسْيَانُهُ فَإِذَا ذَكَرَهُ شَكَرَ النِّعْمَةَ.
وَعَطَفَ عَلَى تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ قَوْلَهُ: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا، أَيْ لِتَشْكُرُوا اللَّهَ فِي نُفُوسِكُمْ وَتُعْلِنُوا بِالشُّكْرِ بِأَلْسِنَتِكُمْ، فَلَقَّنَهُمْ صِيغَةَ شُكْرٍ عِنَايَةً بِهِ كَمَا لَقَّنَهُمْ صِيغَةَ الْحَمْدِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَصِيغَةَ الدُّعَاءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَافْتَتَحَ هَذَا الشُّكْرَ اللِّسَانِيَّ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلثَّنَاءِ إِذِ التَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ بِالصَّرِيحِ وَيَدُلُّ ضِمْنًا عَلَى إِثْبَاتِ الْكِمَالَاتِ لِلَّهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ. وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ التَّسْبِيحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَمْدُ الَّذِي أَفَادَهُ التَّسْبِيحُ شُكْرًا لِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ التَّسْخِيرِ لَنَا.
174
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَرْكُوبِ حِينَمَا يَقُولُ الرَّاكِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سفينة.
والتسخير: التذييل وَالتَّطْوِيعُ. وَتَسْخِيرُ اللَّهِ الدَّوَابَّ هُوَ خَلْقُهُ إِيَّاهَا قَابِلَةً لِلتَّرْوِيضِ فَاهِمَةً لِمُرَادِ الرَّاكِبِ، وَتَسْخِيرُ الْفُلْكِ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ الْبَحْرِ صَالِحًا لَسَبْحِ السُّفُنِ عَلَى مَائِهِ، وَخَلْقِ الرِّيَاحَ تَهُبُّ فَتَدْفَعُ السُّفُنَ عَلَى الْمَاءِ، وَخَلْقِ حِيلَةِ الْإِنْسَانِ لِصُنْعِ الْفُلْكِ، وَرَصْدِ مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَوَضْعِ الْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ دُونَ أَنْ تَبْلُغَ اسْتِخْدَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ. وَلِهَذَا عَقَّبَ بَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ، أَيْ بِمُجَرَّدِ الْقُوَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، أَيْ لَوْلَا التَّسْخِيرُ الْمَذْكُورُ، فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَنا أَيْ سَخَّرَهَا لَنَا فِي حَالِ ضَعْفِنَا بِأَنْ كَانَ تَسْخِيرُهُ قَائِمًا مَقَامَ الْقُوَّةِ.
وَالْمُقْرِنُ: الْمُطِيقُ، يُقَالُ: أَقْرَنَ، إِذَا أَطَاقَ، قَالَ عَمْرو بن معديكرب:
وَخُتِمَ هَذَا الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَى اللَّهِ، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْبَعْثِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِتَلْقِينِهِمُ الْإِقْرَارَ بِالْبَعْثِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِسُؤَالِ إِرْجَاعِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَاتِ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرْجَى لِإِرْجَاعِ الْمُسَافِرِ سَالِمًا إِلَى أَهْلِهِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُفَارِقُهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْزِيهِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ وَبِنِسْبَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَشْكُرُوا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَمْ تَفْعَلُوا، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَكَّدَ الْخَبَرَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا شَكَرُوا لِلَّهِ مَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ.
والتسخير: التذييل وَالتَّطْوِيعُ. وَتَسْخِيرُ اللَّهِ الدَّوَابَّ هُوَ خَلْقُهُ إِيَّاهَا قَابِلَةً لِلتَّرْوِيضِ فَاهِمَةً لِمُرَادِ الرَّاكِبِ، وَتَسْخِيرُ الْفُلْكِ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ الْبَحْرِ صَالِحًا لَسَبْحِ السُّفُنِ عَلَى مَائِهِ، وَخَلْقِ الرِّيَاحَ تَهُبُّ فَتَدْفَعُ السُّفُنَ عَلَى الْمَاءِ، وَخَلْقِ حِيلَةِ الْإِنْسَانِ لِصُنْعِ الْفُلْكِ، وَرَصْدِ مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَوَضْعِ الْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ دُونَ أَنْ تَبْلُغَ اسْتِخْدَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ. وَلِهَذَا عَقَّبَ بَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ، أَيْ بِمُجَرَّدِ الْقُوَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، أَيْ لَوْلَا التَّسْخِيرُ الْمَذْكُورُ، فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَنا أَيْ سَخَّرَهَا لَنَا فِي حَالِ ضَعْفِنَا بِأَنْ كَانَ تَسْخِيرُهُ قَائِمًا مَقَامَ الْقُوَّةِ.
وَالْمُقْرِنُ: الْمُطِيقُ، يُقَالُ: أَقْرَنَ، إِذَا أَطَاقَ، قَالَ عَمْرو بن معديكرب:
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ | لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا |
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُفَارِقُهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْزِيهِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ وَبِنِسْبَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَشْكُرُوا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَمْ تَفْعَلُوا، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَكَّدَ الْخَبَرَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا شَكَرُوا لِلَّهِ مَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ.
175
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا مُلَاحِظًا لِلْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ نَاظِرًا لِتَقَلُّبَاتِ الْحَيَاةِ نَظَرَ الْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِبَسَائِطِ الْأُمُورِ على عظيمها.
[١٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)
هَذَا مُتَّصِلٌ بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنْ خَالِقِ الْأَشْيَاءِ لَيَعْتَرِفُنَّ بِهِ وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ جُزْءًا.
فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَمَعْنَى الْحَالِ تُفِيدُ تَعْجِيبًا مِنْهُمْ فِي تَنَاقُضِ آرَائِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَقَلْبِهِمُ الْحَقَائِقَ، وَهِيَ غَبَارَةٌ فِي الرَّأْيِ تَعْرِضُ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ عَقَائِدَهُمْ مِنْ مُخْتَلِفِ آرَاءِ الدُّعَاةِ فَيَجْتَمِعُ لِلْمُقَلِّدِ مِنْ آرَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي النَّظَرِ مَا لَوِ اطَّلَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَأَبْطَلَهُ أَوْ رَجَعَ عَنِ الرَّأْيِ الْمُضَادِّ لَهُ.
فَالْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ إِلَهًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ، وَالْبُنُوَّةُ تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لِخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَنَاتٌ فَهُنَّ لَا مَحَالَةَ مَخْلُوقَاتٌ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنَّ مَخْلُوقَاتٍ لَزِمَ أَنْ يَكُنَّ مَوْجُودَاتٍ بِوُجُودِهِ فَكَيْفَ تَكُنَّ بَنَاتِهِ. وَإِلَى هَذَا التَّنَاقُضِ
الْإِشَارَةُ بَقَوْلِهِ: مِنْ عِبادِهِ أَيْ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ لَيْسَتِ الْعُبُودِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا عُبُودِيَّةَ الْمَخْلُوقِ جُزْءًا، أَيْ قِطْعَةً.
وَالْجُزْءُ: بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ. وَالْوَلَدُ كَجُزْءٍ مِنَ الْوَالِدِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْوَلَدِ: بَضْعَةٌ. فَهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ اعْتِقَادِ حُدُوثِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا عِبَادُ اللَّهِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ عَقِيدَةُ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفَةً لَهُمْ وَمَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجُزْءِ:
[١٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)
هَذَا مُتَّصِلٌ بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنْ خَالِقِ الْأَشْيَاءِ لَيَعْتَرِفُنَّ بِهِ وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ جُزْءًا.
فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَمَعْنَى الْحَالِ تُفِيدُ تَعْجِيبًا مِنْهُمْ فِي تَنَاقُضِ آرَائِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَقَلْبِهِمُ الْحَقَائِقَ، وَهِيَ غَبَارَةٌ فِي الرَّأْيِ تَعْرِضُ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ عَقَائِدَهُمْ مِنْ مُخْتَلِفِ آرَاءِ الدُّعَاةِ فَيَجْتَمِعُ لِلْمُقَلِّدِ مِنْ آرَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي النَّظَرِ مَا لَوِ اطَّلَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَأَبْطَلَهُ أَوْ رَجَعَ عَنِ الرَّأْيِ الْمُضَادِّ لَهُ.
فَالْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ إِلَهًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ، وَالْبُنُوَّةُ تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لِخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَنَاتٌ فَهُنَّ لَا مَحَالَةَ مَخْلُوقَاتٌ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنَّ مَخْلُوقَاتٍ لَزِمَ أَنْ يَكُنَّ مَوْجُودَاتٍ بِوُجُودِهِ فَكَيْفَ تَكُنَّ بَنَاتِهِ. وَإِلَى هَذَا التَّنَاقُضِ
الْإِشَارَةُ بَقَوْلِهِ: مِنْ عِبادِهِ أَيْ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ لَيْسَتِ الْعُبُودِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا عُبُودِيَّةَ الْمَخْلُوقِ جُزْءًا، أَيْ قِطْعَةً.
وَالْجُزْءُ: بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ. وَالْوَلَدُ كَجُزْءٍ مِنَ الْوَالِدِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْوَلَدِ: بَضْعَةٌ. فَهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ اعْتِقَادِ حُدُوثِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا عِبَادُ اللَّهِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ عَقِيدَةُ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفَةً لَهُمْ وَمَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجُزْءِ:
الْبَنَاتِ، لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ أُمَّهَاتُهُمْ سَرَوَاتُ الْجِنِّ، أَيْ شَرِيفَاتُ الْجِنِّ فَسَرَوَاتُ جَمْعُ سُرِّيَّةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُبَرِّدَ قَالَ: الْجُزْءُ هَاهُنَا الْبَنَاتُ، يُقَالُ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. وَفِي «اللِّسَانِ» عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ:
أَنْشَدْتُ بَيْتًا فِي أَنَّ مَعْنَى جُزْءِ مَعْنَى الْإِنَاثِ وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ أَقَدِيمٌ أَمْ مَصْنُوعٌ، وَهُوَ:
وَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» : أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ، وَفِي «اللِّسَانِ» أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ:
وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ. وَجَزَمَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ وَأَنَّ الْبَيْتَيْنِ مَصْنُوعَانِ.
وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ على الشَّيْء بوصفه حُكْمًا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فَكَأَنَّهُ صُنْعٌ بِالْيَدِ وَالصُّنْعُ بِالْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجَعْلُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تَذْيِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنْكَارِ مَا زَعَمُوهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ شَدِيدٌ. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ خَاصَّةً.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ كُفْرَهُ فِي أَقْوَالِهِ الصَّرِيحَةِ فِي كُفْرِ نعْمَة الله.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَمِ لِلْإِضْرَابِ وَهُوَ هُنَا انْتِقَالِيٌّ لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَزِمَهُ من انتقاص حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنِِِ
أَنْشَدْتُ بَيْتًا فِي أَنَّ مَعْنَى جُزْءِ مَعْنَى الْإِنَاثِ وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ أَقَدِيمٌ أَمْ مَصْنُوعٌ، وَهُوَ:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبٌ | قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارُ أَحْيَانًا |
زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً | لِلْعَوْسَجِ الرَّطْبِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ |
وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ على الشَّيْء بوصفه حُكْمًا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فَكَأَنَّهُ صُنْعٌ بِالْيَدِ وَالصُّنْعُ بِالْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجَعْلُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تَذْيِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنْكَارِ مَا زَعَمُوهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ شَدِيدٌ. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ خَاصَّةً.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ كُفْرَهُ فِي أَقْوَالِهِ الصَّرِيحَةِ فِي كُفْرِ نعْمَة الله.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَمِ لِلْإِضْرَابِ وَهُوَ هُنَا انْتِقَالِيٌّ لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَزِمَهُ من انتقاص حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنِِِ
177
انْتِقَاصٍ يُنَافِي الْكَمَالَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ:
وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَبْنَاءً إِنَاثًا وَهَلَّا جَعَلُوهَا ذُكُورًا. وَلَيْسَتْ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ عَنِ الْفَسَادِ الْمُنْجَرِّ إِلَى معتقدهم بالطريقين لِأَنَّ الْإِبْطَالَ الْأَوَّلَ نَظَرِيٌّ يَقِينِيٌّ وَالْإِبْطَالُ الثَّانِي جَدَلِيٌّ بَدِيهِيٌّ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْم: ٢١، ٢٢]. فَهَذِهِ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ عَلَيْهِمْ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا ادَّعَتْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ النُّبُوءَةَ فِي بَنِي تَمِيمٍ أَيَّامَ الرِّدَّةِ وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَطَلِيحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ التَّمِيمِيُّ:
وَأُوثِرَ فِعْلُ اتَّخَذَ هُنَا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِاتِّخَاذَ بِالْوِلَادَةِ، أَيْ بِتَكْوِينِ الِانْفِصَالِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُزَاوَجَةِ مَعَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَيَشْمَلُ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّبَنِّي فَعَلَى كِلَا الْفَرْضَيْنِ يَتَوَجَّهُ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ لِلَّهِ أَدْوَنَ مِمَّا هُوَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْل: ٦٢]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بِإِبْطَالِ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَنَّى الْمَلَائِكَةَ، سَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَابَ التَّأَوُّلِ وَالتَّنَصُّلِ مِنْ فَسَادِ نِسْبَتِهِمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا التَّبَنِّيَ، كَمَا تَنَصَّلُوا حِينَ دَمَغَتَهُمْ بَرَاهِينُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ فَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]، وَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨].
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا هُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَتَسَلُّطُ الْإِنْكَارِ عَلَى اتِّخَاذِ الْبَنَاتِ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْبَنَاتِ لِكَوْنِ الْمَعْلُومِ مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ جُزْءًا أَنَّ الْمَجْعُولَ جُزْءًا لَهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالنَّفْيُ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ مُنْصَبٌّ إِلَى قَيْدِ الْحَالِ، فَحَصَلَ
وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَبْنَاءً إِنَاثًا وَهَلَّا جَعَلُوهَا ذُكُورًا. وَلَيْسَتْ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ عَنِ الْفَسَادِ الْمُنْجَرِّ إِلَى معتقدهم بالطريقين لِأَنَّ الْإِبْطَالَ الْأَوَّلَ نَظَرِيٌّ يَقِينِيٌّ وَالْإِبْطَالُ الثَّانِي جَدَلِيٌّ بَدِيهِيٌّ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْم: ٢١، ٢٢]. فَهَذِهِ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ عَلَيْهِمْ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا ادَّعَتْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ النُّبُوءَةَ فِي بَنِي تَمِيمٍ أَيَّامَ الرِّدَّةِ وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَطَلِيحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ التَّمِيمِيُّ:
أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا | وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا |
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا هُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَتَسَلُّطُ الْإِنْكَارِ عَلَى اتِّخَاذِ الْبَنَاتِ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْبَنَاتِ لِكَوْنِ الْمَعْلُومِ مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ جُزْءًا أَنَّ الْمَجْعُولَ جُزْءًا لَهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالنَّفْيُ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ مُنْصَبٌّ إِلَى قَيْدِ الْحَالِ، فَحَصَلَ
178
إِبْطَالُ اتِّخَاذِ اللَّهِ الْبَنَاتِ بِدَلِيلَيْنِ، لِأَنَّ إِعْطَاءَهُمُ الْبَنِينَ وَاقِعٌ فَنَفْيُ اقْتِرَانِهِ بِاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ اتِّخَاذِهِ الْبَنَاتِ فَالْمَقْصُودُ اقْتِرَانُ الْإِنْكَارِ بِهَذَا الْقَيْدِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الْوَاوَ فِي جُمْلَةِ وَأَصْفاكُمْ لَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ أَصْفَاهُمْ بِالْبَنِينِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخِطَابُ فِي وَأَصْفاكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ لِمُوَاجَهَتِهِمْ بِهِ.
وَتَنْكِيرُ بَناتٍ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَأما تَعْرِيف بِالْبَنِينَ بِاللَّامِ فَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمُ الْمُتَنَافَسِ فِي وُجُودِهِ لَدَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٩].
وَتَقْدِيمُ الْبَنَاتِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْبَنِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُنَّ أَهَمُّ هُنَا إِذْ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٠]. وَلِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَحْقِيرِهِمُ الْبَنَاتِ وَتَطَيُّرِهِمْ مِنْهُنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّورَى.
وَالْإِصْفَاءُ: إِعْطَاءُ الصَّفْوَةِ، وَهِيَ الْخِيَارُ مِنْ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي وأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَحَدُهُمْ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِيَكُونُوا مَحْكِيًّا حَالَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ فَسَادِ مَقَالَتِهِمْ وَتَشْنِيعًا بِهَا إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ دُونَ الذُّكُورِ وَهُوَ نَقْصٌ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكْرَهُ الْبَنَاتِ وَيُحَقِّرُهُنَّ فَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِجَانِبِ الإلهية.
وَالْمعْنَى: أأتّخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ اللَّهُ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي حَالِ أَنَّكُمْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُكُمْ بِمَا ضربه للرحمان مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.
وَتَنْكِيرُ بَناتٍ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَأما تَعْرِيف بِالْبَنِينَ بِاللَّامِ فَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمُ الْمُتَنَافَسِ فِي وُجُودِهِ لَدَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٩].
وَتَقْدِيمُ الْبَنَاتِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْبَنِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُنَّ أَهَمُّ هُنَا إِذْ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٠]. وَلِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَحْقِيرِهِمُ الْبَنَاتِ وَتَطَيُّرِهِمْ مِنْهُنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّورَى.
وَالْإِصْفَاءُ: إِعْطَاءُ الصَّفْوَةِ، وَهِيَ الْخِيَارُ مِنْ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي وأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَحَدُهُمْ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِيَكُونُوا مَحْكِيًّا حَالَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ فَسَادِ مَقَالَتِهِمْ وَتَشْنِيعًا بِهَا إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ دُونَ الذُّكُورِ وَهُوَ نَقْصٌ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكْرَهُ الْبَنَاتِ وَيُحَقِّرُهُنَّ فَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِجَانِبِ الإلهية.
وَالْمعْنَى: أأتّخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ اللَّهُ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي حَالِ أَنَّكُمْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُكُمْ بِمَا ضربه للرحمان مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.
179
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَجُمْلَة أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: ١٨].
وَاسْتِعْمَالُ الْبِشَارَةِ هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: ٢] لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إِعْلَامٌ بِحُصُولِ أَمْرٍ مُسَرٍّ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا مَوْصُولَةٌ، أَيْ بُشِّرَ بِالْجِنْسِ الَّذِي ضَرَبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مَثَلًا وَشَبَهًا لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ جَعَلُوا جِنْسَ الْأُنْثَى جُزْءًا لِلَّهِ، أَيْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ فَالْمُبَشَّرُ بِهِ جِنْسُ الْأُنْثَى، وَالْجِنْسُ لَا يَتَعَيَّنُ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ بُشِّرَ بِمِثْلِ مَا ضربه للرحمان مَثَلًا.
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ.
وَالضَّرْبُ: الْجَعْلُ وَالصُّنْعُ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّينَارِ، وَقَوْلُهُمْ: ضَرْبَة لازب، فَمَا صدق
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا هُوَ الْإِنَاثُ.
وَمَعْنَى ظَلَّ هُنَا: صَارَ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ النَّاقِصَةَ الْخَمْسَةَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا بَابُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْغَيْظِ إِذْ يَصْعَدُ الدَّمُ إِلَى الْوَجْهِ فَتَصِيرُ حُمْرَتُهُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمَعْنَى: تَغَيَّظَ.
وَالْكَظِيمُ: الْمُمْسِكُ، أَيْ عَنِ الْكَلَامِ كربا وحزنا.
[١٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٨]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
عَطْفُ إِنْكَارٍ عَلَى إِنْكَارٍ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ وَأَصْلُ التَّرْتِيبِ: وَأَمَنْ يُنَشَّأُ. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْإِنْكَارِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ أَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَلِذَلِكَ يكون مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ اتَّخَذَ
وَاسْتِعْمَالُ الْبِشَارَةِ هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: ٢] لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إِعْلَامٌ بِحُصُولِ أَمْرٍ مُسَرٍّ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا مَوْصُولَةٌ، أَيْ بُشِّرَ بِالْجِنْسِ الَّذِي ضَرَبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مَثَلًا وَشَبَهًا لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ جَعَلُوا جِنْسَ الْأُنْثَى جُزْءًا لِلَّهِ، أَيْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ فَالْمُبَشَّرُ بِهِ جِنْسُ الْأُنْثَى، وَالْجِنْسُ لَا يَتَعَيَّنُ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ بُشِّرَ بِمِثْلِ مَا ضربه للرحمان مَثَلًا.
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ.
وَالضَّرْبُ: الْجَعْلُ وَالصُّنْعُ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّينَارِ، وَقَوْلُهُمْ: ضَرْبَة لازب، فَمَا صدق
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا هُوَ الْإِنَاثُ.
وَمَعْنَى ظَلَّ هُنَا: صَارَ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ النَّاقِصَةَ الْخَمْسَةَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا بَابُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْغَيْظِ إِذْ يَصْعَدُ الدَّمُ إِلَى الْوَجْهِ فَتَصِيرُ حُمْرَتُهُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمَعْنَى: تَغَيَّظَ.
وَالْكَظِيمُ: الْمُمْسِكُ، أَيْ عَنِ الْكَلَامِ كربا وحزنا.
[١٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٨]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
عَطْفُ إِنْكَارٍ عَلَى إِنْكَارٍ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ وَأَصْلُ التَّرْتِيبِ: وَأَمَنْ يُنَشَّأُ. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْإِنْكَارِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ أَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَلِذَلِكَ يكون مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ اتَّخَذَ
180
فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَالتَّقْدِيرُ: أَاتَّخَذَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ إِلَخْ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بَناتٍ بَدَلًا مُطَابِقًا وَأُبْرِزَ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ حُذِفَ مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَإِذْ كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى حُكْمِ الْخَبَرِ كَانَ مُوجِبُ الْإِنْكَارِ الثَّانِي مُغَايِرًا لِمُوجِبِ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوف بِمَا لوصفين اللَّذَيْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْإِنْكَارُ مَوْصُوفًا وَاحِدًا وَهُوَ الْأُنْثَى.
وَنَشْءُ الشَّيْءِ فِي حَالَةٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مُقَارِنًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فَتَكُونَ لِلشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ. وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ حَرْفُ فِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ فَمَعْنَى مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ تُجْعَلُ لَهُ الْحِلْيَةُ مَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ كَوْنِهِ وَلَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّ الْبِنْتَ تُتَّخَذُ لَهَا الْحِلْيَةُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهَا وَتُسْتَصْحَبُ فِي سَائِرِ أَطْوَارِهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا شُقَّتْ طَرَفَا أُذُنَيْهَا لِتُجْعَلَ لَهَا فِيهِمَا الْأَقْرَاطُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَلَا يُحَلَّى بِمِثْلِ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَدَامُ لَهُ. وَالنَّشْءُ فِي الْحِلْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّعْفِ عَنْ مُزَاوَلَةِ الصِّعَابِ بِحَسَبِ الْمُلَازَمَةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي اتِّخَاذِ اللَّهِ بَنَاتٍ لَا غَنَاءَ لَهُنَّ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِاتِّخَاذِهَا زِيَادَةُ عِزَّةٍ، بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِهِمْ، فَهَذَا احْتِجَاجٌ إِقْنَاعِيٌّ خِطَابِيٌّ.
والْخِصامِ ظَاهِرُهُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَازَعَةُ بِالْكَلَامِ وَالْمُحَاجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى إِبَانَةِ حُجَّتِهَا. وَعَنْ قَتَادَةَ: مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا حُجَّةٌ إِلَّا
جَعَلَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَعنهُ: مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ هُنَّ الْجَوَارِي يُسَفِّهُهُنَّ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّهُنَّ غَيْرُ قَوَادِرَ عَلَى الِانْتِصَار بالْقَوْل فبلأولى لَا يَقْدِرْنَ عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، أَيْ فَلَا جَدْوَى لِاتِّخَاذِهِنَّ أَوْلَادًا.
وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يُحْمَلَ الْخِصَامُ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالدِّفَاعِ بِالْيَدِ فَإِنَّ الْخَصْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَارِبِ، قَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: ١٩] فُسِّرَ بِأَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بَناتٍ بَدَلًا مُطَابِقًا وَأُبْرِزَ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ حُذِفَ مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَإِذْ كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى حُكْمِ الْخَبَرِ كَانَ مُوجِبُ الْإِنْكَارِ الثَّانِي مُغَايِرًا لِمُوجِبِ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوف بِمَا لوصفين اللَّذَيْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْإِنْكَارُ مَوْصُوفًا وَاحِدًا وَهُوَ الْأُنْثَى.
وَنَشْءُ الشَّيْءِ فِي حَالَةٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مُقَارِنًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فَتَكُونَ لِلشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ. وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ حَرْفُ فِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ فَمَعْنَى مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ تُجْعَلُ لَهُ الْحِلْيَةُ مَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ كَوْنِهِ وَلَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّ الْبِنْتَ تُتَّخَذُ لَهَا الْحِلْيَةُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهَا وَتُسْتَصْحَبُ فِي سَائِرِ أَطْوَارِهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا شُقَّتْ طَرَفَا أُذُنَيْهَا لِتُجْعَلَ لَهَا فِيهِمَا الْأَقْرَاطُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَلَا يُحَلَّى بِمِثْلِ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَدَامُ لَهُ. وَالنَّشْءُ فِي الْحِلْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّعْفِ عَنْ مُزَاوَلَةِ الصِّعَابِ بِحَسَبِ الْمُلَازَمَةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي اتِّخَاذِ اللَّهِ بَنَاتٍ لَا غَنَاءَ لَهُنَّ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِاتِّخَاذِهَا زِيَادَةُ عِزَّةٍ، بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِهِمْ، فَهَذَا احْتِجَاجٌ إِقْنَاعِيٌّ خِطَابِيٌّ.
والْخِصامِ ظَاهِرُهُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَازَعَةُ بِالْكَلَامِ وَالْمُحَاجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى إِبَانَةِ حُجَّتِهَا. وَعَنْ قَتَادَةَ: مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا حُجَّةٌ إِلَّا
جَعَلَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَعنهُ: مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ هُنَّ الْجَوَارِي يُسَفِّهُهُنَّ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّهُنَّ غَيْرُ قَوَادِرَ عَلَى الِانْتِصَار بالْقَوْل فبلأولى لَا يَقْدِرْنَ عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، أَيْ فَلَا جَدْوَى لِاتِّخَاذِهِنَّ أَوْلَادًا.
وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يُحْمَلَ الْخِصَامُ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالدِّفَاعِ بِالْيَدِ فَإِنَّ الْخَصْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَارِبِ، قَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: ١٩] فُسِّرَ بِأَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
181
فَمَعْنَى غَيْرُ مُبِينٍ غَيْرُ مُحَقِّقِ النَّصْرِ. قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ:
«وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدِ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ».
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا فَضْحُ مُعْتَقَدِهِمُ الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَإِلَّا لَكَانُوا حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بُنُوَّةً أَنْ لَا يَجْعَلُوا لَهُ بُنُوَّةَ الْإِنَاثِ وَهُمْ يَعُدُّونَ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَاتٍ مُسْتَضْعَفَاتٍ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ.
والْحِلْيَةِ: اسْمٌ لِمَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُون مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [النَّحْل: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْشَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ يُنَشَّؤُا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ: يُعَوِّدُهُ عَلَى النَّشْأَةِ فِي الْحِلْية ويربّى.
[١٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٩]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥]، أُعِيدَ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦] لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بَقَوْلِهِ:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ اسْتِقْرَاءً لِإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ إِذْ أُبْطِلَ ابْتِدَاءً بِمُخَالَفَتِهِ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِمُخَالَفَتِهِ لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالِ، فَكَمُلَ هُنَا إِبْطَالُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ لِدَلِيلِ الْحِسِّ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ عِنْدَ بِعَيْنٍ فَنُونٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ، أَيِ الَّذِينَ هُمْ مَعْدُودُونَ فِي حَضْرَةِ الْقُدْسِ الْمُقَدَّسَةِ بِتَقْدِيسِ اللَّهِ فَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ بِدُونِ وَسَاطَةٍ
وَهُمْ دَائِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩]
«وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدِ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ».
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا فَضْحُ مُعْتَقَدِهِمُ الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَإِلَّا لَكَانُوا حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بُنُوَّةً أَنْ لَا يَجْعَلُوا لَهُ بُنُوَّةَ الْإِنَاثِ وَهُمْ يَعُدُّونَ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَاتٍ مُسْتَضْعَفَاتٍ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ.
والْحِلْيَةِ: اسْمٌ لِمَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُون مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [النَّحْل: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْشَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ يُنَشَّؤُا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ: يُعَوِّدُهُ عَلَى النَّشْأَةِ فِي الْحِلْية ويربّى.
[١٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٩]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥]، أُعِيدَ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦] لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بَقَوْلِهِ:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ اسْتِقْرَاءً لِإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ إِذْ أُبْطِلَ ابْتِدَاءً بِمُخَالَفَتِهِ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِمُخَالَفَتِهِ لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالِ، فَكَمُلَ هُنَا إِبْطَالُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ لِدَلِيلِ الْحِسِّ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ عِنْدَ بِعَيْنٍ فَنُونٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ، أَيِ الَّذِينَ هُمْ مَعْدُودُونَ فِي حَضْرَةِ الْقُدْسِ الْمُقَدَّسَةِ بِتَقْدِيسِ اللَّهِ فَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ بِدُونِ وَسَاطَةٍ
وَهُمْ دَائِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩]
182
وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَاف: ٢٠٦] وَمِنْهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
الْحَدِيثَ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ وَالْقَرِينَةُ هِيَ شَأْن من أضيف إِلَيْهِ عِنْدَ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عِبادُ الرَّحْمنِ بِعَيْنٍ وَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ دَالٌ مَضْمُومَةٌ عَلَى مَعْنَى:
الَّذِينَ هُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى اسْم الرحمان تُفِيدُ تَشْرِيفَهُمْ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ عُبُودِيَّةُ الْقُرْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩].
وَجُمْلَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ وَجُمْلَةِ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مَضْمُومَةٌ وَسُكُونِ شِينِ أَشَهِدُوا مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ وَكَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الْهَمْزَتَيْنِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ دُونَ صِيغَةِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَلْقُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْضُرُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِحُضُورِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ لِجِبْرِيلَ حِينَ يَسْتَفْتِحُ» مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ، قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ وَفَتَحَ لَهُ»
. وَالْمَعْنَى: أَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْف: ٥١].
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَشِينٍ مَفْتُوحَةٍ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، فَالْهَمْزَةُ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ شَهِدَ، أَيْ مَا حَضَرُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: ١٥٠].
وَجُمْلَةُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ لِأَنَّ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
الْحَدِيثَ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ وَالْقَرِينَةُ هِيَ شَأْن من أضيف إِلَيْهِ عِنْدَ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عِبادُ الرَّحْمنِ بِعَيْنٍ وَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ دَالٌ مَضْمُومَةٌ عَلَى مَعْنَى:
الَّذِينَ هُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى اسْم الرحمان تُفِيدُ تَشْرِيفَهُمْ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ عُبُودِيَّةُ الْقُرْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩].
وَجُمْلَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ وَجُمْلَةِ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مَضْمُومَةٌ وَسُكُونِ شِينِ أَشَهِدُوا مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ وَكَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الْهَمْزَتَيْنِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ دُونَ صِيغَةِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَلْقُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْضُرُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِحُضُورِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ لِجِبْرِيلَ حِينَ يَسْتَفْتِحُ» مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ، قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ وَفَتَحَ لَهُ»
. وَالْمَعْنَى: أَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْف: ٥١].
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَشِينٍ مَفْتُوحَةٍ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، فَالْهَمْزَةُ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ شَهِدَ، أَيْ مَا حَضَرُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: ١٥٠].
وَجُمْلَةُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ لِأَنَّ
183
ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَعِيدِ. وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوَعُّدِ. وَكِتَابَةُ الشَّهَادَةِ كِنَايَةٌ عَن تحقق الْعقَاب عَلَى كَذِبِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
[الزخرف: ٤] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا [آل عمرَان: ١٨١]. والسّين فِي سَتُكْتَبُ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَتِهِمْ: ادِّعَاؤُهُمْ أَن الْمَلَائِكَة إِنَاثًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا شَهَادَةً تَهَكُّمًا بِهِمْ.
وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَهْدِيدٍ وَإِنْذَارٍ بِالْعِقَابِ وَلَيْسَ مِمَّا يُتَطَلَّبُ عَنْهُ جَوَابٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: ٨]، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
أَي مسؤول عَمَّا سَبَقَ مِنْكَ مِنَ التَّكْذِيبِ الَّذِي هُوَ مَعْلُوم للسَّائِل.
[٢٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩]، فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِأَنْ تُعْبَدَ. فَحُكِيَ هُنَا مَا اسْتَظْهَرُوهُ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ عِنْدَ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ يَرُومُونَ بِهَا إفحام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، أَيْ لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ نَعْبُدَهَا لَكَانَ اللَّهُ صَرَفَنَا عَنْ أَنْ نَعْبُدَهَا، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا قَاطِعٌ لجدال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ دِينِهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْحَوَادِثِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي مَا عَبَدْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْغَالِبُ، وَأَقْوَامٌ مِنْهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَأَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ مِثْلَ بَنِي مُلَيْحٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ. فَضَمِيرُ جَمْعِ
[الزخرف: ٤] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا [آل عمرَان: ١٨١]. والسّين فِي سَتُكْتَبُ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَتِهِمْ: ادِّعَاؤُهُمْ أَن الْمَلَائِكَة إِنَاثًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا شَهَادَةً تَهَكُّمًا بِهِمْ.
وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَهْدِيدٍ وَإِنْذَارٍ بِالْعِقَابِ وَلَيْسَ مِمَّا يُتَطَلَّبُ عَنْهُ جَوَابٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: ٨]، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ | وَقِيلَ إنّك مَنْسُوب ومسؤول |
[٢٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩]، فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِأَنْ تُعْبَدَ. فَحُكِيَ هُنَا مَا اسْتَظْهَرُوهُ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ عِنْدَ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ يَرُومُونَ بِهَا إفحام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، أَيْ لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ نَعْبُدَهَا لَكَانَ اللَّهُ صَرَفَنَا عَنْ أَنْ نَعْبُدَهَا، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا قَاطِعٌ لجدال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ دِينِهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْحَوَادِثِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي مَا عَبَدْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْغَالِبُ، وَأَقْوَامٌ مِنْهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَأَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ مِثْلَ بَنِي مُلَيْحٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ. فَضَمِيرُ جَمْعِ
184
الْمُذَكِّرِ تَغْلِيبٌ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا فَلَوْ أَرَادُوا الْمَلَائِكَةَ لَقَالُوا مَا عَبَدْنَاهَا أَو مَا عَبدنَا هنّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطَبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مُعَادَ الضَّمِير الْمَلائِكَةَ [الزخرف: ١٩] وَلَعَلَّهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ: إِنَّهُمْ إِنَاثٌ وَلَيْسَ اقْتِرَانُ كَلَامٍ بِكَلَامٍ بِمُوجِبٍ اتِّحَادَ مَحْمَلَيْهِمَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ بعيد من اللَّفْظِ لِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِنَ
الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا طَوَائِفُ قَلِيلَةٌ عَبَدُوا الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ مَعَ الْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ الدِّيَانَةَ الْعَامَّةَ لِلْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مَثَارُهَا تَخْلِيطُ الْعَامَّةِ وَالدَّهْمَاءِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ والإرادة، وَبَين الرضى وَالْمَحَبَّةِ، فَالْعَرَبُ كَانُوا يَقُولُونَ: شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ تَخْلِيطًا بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِوُقُوعِ شَيْءٍ، وَبَيْنَ مَشِيئَتِهِ الَّتِي قَدَّرَهَا فِي نِظَامِ الْعَالَمِ مِنْ إِنَاطَةِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَاتِّصَالِ الْآثَارِ بِمُؤَثِّرَاتِهَا الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ بِقَدَرٍ حِينَ كَوَّنَ الْعَالَمَ وَنَظَّمَهُ وَأَقَامَ لَهُ سُنَنًا وَنَوَامِيسَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَدَارِهَا إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَلْبَ نُظُمِهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى. فَمَشِيئَةُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا أَقَامَهُ مِنْ نِظَامِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَأَهْلِهِ. وَمَشِيئَتُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي تَدُلُّ عَلَيْهَا شرائعه الْمَبْعُوث بِهَا رُسُلُهُ.
وَهَذَا التَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ هُوَ مَثَارُ خَبْطِ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَثَارُ حَيْرَةِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْقُصُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَالْخِطَابِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٨].
وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّادِر مِنْهُم يَنْتَظِم مِنْهُ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا طَوَائِفُ قَلِيلَةٌ عَبَدُوا الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ مَعَ الْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ الدِّيَانَةَ الْعَامَّةَ لِلْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مَثَارُهَا تَخْلِيطُ الْعَامَّةِ وَالدَّهْمَاءِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ والإرادة، وَبَين الرضى وَالْمَحَبَّةِ، فَالْعَرَبُ كَانُوا يَقُولُونَ: شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
وَهَذَا التَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ هُوَ مَثَارُ خَبْطِ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَثَارُ حَيْرَةِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْقُصُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَالْخِطَابِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٨].
وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّادِر مِنْهُم يَنْتَظِم مِنْهُ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
185
عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرف فِي شؤوننا وشؤون الْخَلَائِقِ لَكِنَّا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ.
وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ وَلَا حُجَّةٌ عَلَى قِيَاسِهِمْ لِأَنَّ مُقَدَّمَ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ وَهُوَ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِبَاسِ الْمَشِيئَةِ التَّكْوِينِيَّةِ بِالْمَشِيئَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَكَانَ قِيَاسُهُمْ خَلِيًّا عَنِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْيَقِينُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ أَيْ بَقَوْلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ بَلْ هُوَ مِنْ جَهَالَةِ السَّفْسَطَةِ وَاللَّبْسِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْخَرْصُ: التَّوَهُّمُ وَالظَّنُّ الَّذِي لَا حُجَّةَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: ١٠].
[٢١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢١]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: ٢٠] فَبَعْدَ أَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ الْعَقْلِ، انْتَقَلَ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ النَّقْلِ عَنْ إِخْبَارِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ من شؤونه.
وَاجْتَلَبَ لِلْإِضْرَابِ حَرْفَ أَمْ دُونَ (بَلْ) لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمْ مِنِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: ٤].
وَفِي هَذَا ثَنَاءٌ ثَالِثٌ عَلَى الْقُرْآنِ ضِمْنِيٌّ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُسْتَمْسَكُ بِهِ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف:
٢٢].
ومِنْ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى (قَبْلَ). وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلَ) ضَمِيرُ
وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ وَلَا حُجَّةٌ عَلَى قِيَاسِهِمْ لِأَنَّ مُقَدَّمَ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ وَهُوَ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِبَاسِ الْمَشِيئَةِ التَّكْوِينِيَّةِ بِالْمَشِيئَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَكَانَ قِيَاسُهُمْ خَلِيًّا عَنِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْيَقِينُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ أَيْ بَقَوْلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ بَلْ هُوَ مِنْ جَهَالَةِ السَّفْسَطَةِ وَاللَّبْسِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْخَرْصُ: التَّوَهُّمُ وَالظَّنُّ الَّذِي لَا حُجَّةَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: ١٠].
[٢١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢١]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: ٢٠] فَبَعْدَ أَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ الْعَقْلِ، انْتَقَلَ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ النَّقْلِ عَنْ إِخْبَارِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ من شؤونه.
وَاجْتَلَبَ لِلْإِضْرَابِ حَرْفَ أَمْ دُونَ (بَلْ) لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمْ مِنِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: ٤].
وَفِي هَذَا ثَنَاءٌ ثَالِثٌ عَلَى الْقُرْآنِ ضِمْنِيٌّ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُسْتَمْسَكُ بِهِ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف:
٢٢].
ومِنْ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى (قَبْلَ). وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلَ) ضَمِيرُ
الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: كِتاباً.
ومُسْتَمْسِكُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (مُمْسِكُونَ) يُقَالُ: أَمْسَكَ بِالشَّيْءِ، إِذَا شَدَّ عَلَيْهِ يَدَهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَى الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: ٤٣].
[٢٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٢]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
هَذَا إِضْرَابُ إِبْطَالٍ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: ٢١] فَهُوَ إِبْطَالٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ فِيمَا قَالُوهُ وَلَا نَقْلٌ. فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ إِذْ لَمْ يُقَارِنُوا بَيْنَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ آبَائِهِمْ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُمَيِّزَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَيَعْرِضَهُ عَلَى مِعْيَارِ الْحَقِّ.
وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٢] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ أَيْ ذُو دِينٍ.
وعَلى اسْتِعَارَةُ تَبَعِيَّةٌ لِلْمُلَابَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ.
وَقَوْلُهُ: عَلى آثارِهِمْ خَبَرُ (إِنَّ). ومُهْتَدُونَ خَبَرٌ ثَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى آثارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِ مُهْتَدُونَ بِتَضْمِينِ مُهْتَدُونَ مَعْنَى سَائِرُونَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ إِلَّا تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ، وَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُمُ اهْتِدَاءً لِشِدَّةِ غُرُورِهِمْ بِأَحْوَالِ آبَائِهِمْ بِحَيْثُ لَا يتأملون فِي مصادفة أَحْوَالهم للحق.
ومُسْتَمْسِكُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (مُمْسِكُونَ) يُقَالُ: أَمْسَكَ بِالشَّيْءِ، إِذَا شَدَّ عَلَيْهِ يَدَهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَى الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: ٤٣].
[٢٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٢]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
هَذَا إِضْرَابُ إِبْطَالٍ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: ٢١] فَهُوَ إِبْطَالٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ فِيمَا قَالُوهُ وَلَا نَقْلٌ. فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ إِذْ لَمْ يُقَارِنُوا بَيْنَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ آبَائِهِمْ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُمَيِّزَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَيَعْرِضَهُ عَلَى مِعْيَارِ الْحَقِّ.
وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٢] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ أَيْ ذُو دِينٍ.
وعَلى اسْتِعَارَةُ تَبَعِيَّةٌ لِلْمُلَابَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ.
وَقَوْلُهُ: عَلى آثارِهِمْ خَبَرُ (إِنَّ). ومُهْتَدُونَ خَبَرٌ ثَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى آثارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِ مُهْتَدُونَ بِتَضْمِينِ مُهْتَدُونَ مَعْنَى سَائِرُونَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ إِلَّا تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ، وَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُمُ اهْتِدَاءً لِشِدَّةِ غُرُورِهِمْ بِأَحْوَالِ آبَائِهِمْ بِحَيْثُ لَا يتأملون فِي مصادفة أَحْوَالهم للحق.
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٣]
وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَمَسُّكِ الْمُشْرِكِينَ بِدِينِ آبَائِهِمْ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢]، أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُتْرَفُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ.
وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوْ لِلِاعْتِرَاضِ وَمَا الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا تَعْطِفُ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفًا لَفْظِيًّا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، قَدِ اسْتَوَوْا فِيهِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي مُثَارِهِ وَهُوَ النَّظَرُ الْقَاصِرُ الْمُخْطِئُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٣]، أَيْ بَلْ هُمُ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِهِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ وَهُوَ الطُّغْيَانُ. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا تَسْلِيَة للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ، بِأَنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ لَقُوا مِثْلَ مَا لَقِيَ.
وَكَافُ التَّشْبِيهِ مُتَعَلِّقٌ بَقَوْلِهِ: قالَ مُتْرَفُوها. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ وَالتَّشْوِيقِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مِنْ أَحْوَالٍ مُقَدَّرَةٍ أَيْ مَا أَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ قَوْلٍ قَالَهُ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا إِلَخْ.
وَالْمُتْرَفُونَ: جَمْعُ الْمُتْرَفِ وَهُوَ الَّذِي أُعْطِيَ التَّرَفَ، أَيِ النِّعْمَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٣].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِثْلُ قُرَيْشٍ فِي الِازْدِهَاءِ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، أَيْ فِي بَطَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. فَالتَّشْبِيهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مِثْلُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي سَبَبِ الِازْدِهَاءِ وَهُوَ مَا هُمْ
فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ حَتَّى نَسُوا احْتِيَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١].
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْحَاضِرِينَ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِآثَارِ آبَائِهِمْ، وَجَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ السَّابِقَيْنِ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ بِآبَائِهِمْ مُقْتَدُونَ، لِأَنَّ أَقْوَالَ السَّابِقَيْنِ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُ مُخْتَلِفَهَا أَنَّهَا اقْتِدَاءٌ بِآبَائِهِمْ، فَحِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى، وَحِكَايَةُ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى طَرِيقَةٌ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ كَثُرَ وُرُودُهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَام الْعَرَب.
[٢٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٤]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ لِمُفْرَدٍ فَيَكُونُ أمرا للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢].
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ قالَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نَذِيرِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣]. فَحَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَجَابُوا أَقْوَامَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ فِعْلُ قُلْ أَوْ قالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي مَجَالِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جِئْتُكُمْ بِضَمِيرِ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ جِئْنَاكُمْ بِنُونِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الَّذِينَ قَرَأُوا قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ جِئْنَاكُمْ عَائِدًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَاطَبِ بِفِعْلِ قل لتعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِ تَعَالَى الَّذِي خَاطَبَهُ بَقَوْلِهِ: قُلْ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ عَاطِفَةٌ الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْعَطْفُ مِمَّا
يُسَمَّى عَطْفَ التَّلْقِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤].
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْحَاضِرِينَ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِآثَارِ آبَائِهِمْ، وَجَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ السَّابِقَيْنِ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ بِآبَائِهِمْ مُقْتَدُونَ، لِأَنَّ أَقْوَالَ السَّابِقَيْنِ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُ مُخْتَلِفَهَا أَنَّهَا اقْتِدَاءٌ بِآبَائِهِمْ، فَحِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى، وَحِكَايَةُ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى طَرِيقَةٌ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ كَثُرَ وُرُودُهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَام الْعَرَب.
[٢٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٤]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ لِمُفْرَدٍ فَيَكُونُ أمرا للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢].
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ قالَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نَذِيرِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣]. فَحَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَجَابُوا أَقْوَامَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ فِعْلُ قُلْ أَوْ قالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي مَجَالِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جِئْتُكُمْ بِضَمِيرِ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ جِئْنَاكُمْ بِنُونِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الَّذِينَ قَرَأُوا قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ جِئْنَاكُمْ عَائِدًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَاطَبِ بِفِعْلِ قل لتعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِ تَعَالَى الَّذِي خَاطَبَهُ بَقَوْلِهِ: قُلْ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ عَاطِفَةٌ الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْعَطْفُ مِمَّا
يُسَمَّى عَطْفَ التَّلْقِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤].
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمَشُوبِ بِالْإِنْكَارِ. وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَجْلِ التَّصْدِيرِ.
ولَوْ وَصْلِيَّةٌ، ولَوْ الْوَصْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ بِنِهَايَةِ مَدْلُولِ شَرْطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١]، أَيْ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ تَبْقَوْنَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ وَتَتْرُكُونَ مَا هُوَ أَهْدَى.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ لَعَلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ أَهْدَى مِنْهُمْ. وَصَوْغُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْهَدْيِ إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ لَهُمْ لِيَتَدَبَّرُوا، نَزَّلَ مَا كَانَ عَلَيْهِم آبَاؤُهُمْ مَنْزِلَةَ مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَتَصَدَّوْا لِلنَّظَرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:
٢٤].
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:
٢٣]، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى: لَا نَتَّبِعُكُمْ وَنَتْرُكُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَضَمِيرُ قالُوا رَاجِعٌ إِلَى مُتْرَفُوها [الزخرف: ٢٣] لِأَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف:
٢٥] يُعَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ وَقَعَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَقَعَ تَهْدِيدُهُمْ بِأُولَئِكَ.
وَقَوْلُهُمْ: (مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، فَإِطْلَاقُهُمُ اسْمَ الْإِرْسَالِ عَلَى دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ تَهَكُّمٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ مُرْسَلُونَ بِهِ، وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ تَوْحِيد الْإِلَه.
[٢٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٥]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٤]، أَيِ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عَقِبَ
ولَوْ وَصْلِيَّةٌ، ولَوْ الْوَصْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ بِنِهَايَةِ مَدْلُولِ شَرْطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١]، أَيْ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ تَبْقَوْنَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ وَتَتْرُكُونَ مَا هُوَ أَهْدَى.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ لَعَلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ أَهْدَى مِنْهُمْ. وَصَوْغُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْهَدْيِ إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ لَهُمْ لِيَتَدَبَّرُوا، نَزَّلَ مَا كَانَ عَلَيْهِم آبَاؤُهُمْ مَنْزِلَةَ مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَتَصَدَّوْا لِلنَّظَرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:
٢٤].
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:
٢٣]، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى: لَا نَتَّبِعُكُمْ وَنَتْرُكُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَضَمِيرُ قالُوا رَاجِعٌ إِلَى مُتْرَفُوها [الزخرف: ٢٣] لِأَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف:
٢٥] يُعَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ وَقَعَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَقَعَ تَهْدِيدُهُمْ بِأُولَئِكَ.
وَقَوْلُهُمْ: (مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، فَإِطْلَاقُهُمُ اسْمَ الْإِرْسَالِ عَلَى دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ تَهَكُّمٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ مُرْسَلُونَ بِهِ، وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ تَوْحِيد الْإِلَه.
[٢٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٥]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٤]، أَيِ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عَقِبَ
تَصْرِيحِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي مَقَالِهِمْ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَالِانْتِقَامُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ بِالسُّوءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: نَقِمَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، إِذَا كَافَأَ عَلَى السُّوءِ بِسوء، وَفِي الْمثل: هُوَ كَالْأَرْقَمِ إِنْ يُتْرَكْ
يَلْقَمْ وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ. الْأَرْقَمُ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يَعْتَقِدُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَإِنْ تَرَكَهُ الْمَرْءُ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهِ فَيَلْسَعُهُ وَيَقْتُلُهُ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمَرْءُ انْتَقَمَ بِتَأْثِيرِهِ فَأَمَاتَ قَاتِلَهُ وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالِانْتِقَامِ اسْتِئْصَالُهُمْ وَانْقِرَاضُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦]. وَلِذَلِكَ فَالنَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ نَظَرُ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَخْبَارِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٧]، وَلَيْسَ نَظَرَ الْبَصَرِ إِذْ لَمْ يَرَ النَّبِيءُ حَالَةَ الِانْتِقَامِ فِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّأَمُّلُ.
وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحَالَةِ وَهُوَ قَدْ عَلَّقَ فِعْلَ النَّظَرِ عَن مَفْعُوله.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
لَمَّا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَشَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِهِمْ سَاقَ لَهُمْ أَمْثَالًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ مِنْهَا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ. وَابْتَدَأَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]، بِأَنَّ أَوْلَى آبَائِهِمْ بِأَنْ يَقْتَدُوا بِهِ هُوَ أَبُوهُمُ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِنِسْبَتِهِ إِبْرَاهِيمُ.
وَالِانْتِقَامُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ بِالسُّوءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: نَقِمَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، إِذَا كَافَأَ عَلَى السُّوءِ بِسوء، وَفِي الْمثل: هُوَ كَالْأَرْقَمِ إِنْ يُتْرَكْ
يَلْقَمْ وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ. الْأَرْقَمُ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يَعْتَقِدُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَإِنْ تَرَكَهُ الْمَرْءُ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهِ فَيَلْسَعُهُ وَيَقْتُلُهُ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمَرْءُ انْتَقَمَ بِتَأْثِيرِهِ فَأَمَاتَ قَاتِلَهُ وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالِانْتِقَامِ اسْتِئْصَالُهُمْ وَانْقِرَاضُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦]. وَلِذَلِكَ فَالنَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ نَظَرُ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَخْبَارِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٧]، وَلَيْسَ نَظَرَ الْبَصَرِ إِذْ لَمْ يَرَ النَّبِيءُ حَالَةَ الِانْتِقَامِ فِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّأَمُّلُ.
وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحَالَةِ وَهُوَ قَدْ عَلَّقَ فِعْلَ النَّظَرِ عَن مَفْعُوله.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
لَمَّا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَشَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِهِمْ سَاقَ لَهُمْ أَمْثَالًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ مِنْهَا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ. وَابْتَدَأَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]، بِأَنَّ أَوْلَى آبَائِهِمْ بِأَنْ يَقْتَدُوا بِهِ هُوَ أَبُوهُمُ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِنِسْبَتِهِ إِبْرَاهِيمُ.
191
وَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ عَطْفٌ عَلَى عُمُومِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [الزخرف: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ، وَهُوَ عَطْفُ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ.
وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ زَمَانَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ قَوْلًا صَرِيحًا فِي التبرّؤ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَخُصَّ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ قَوْمِهِ وَمَا هُوَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمُ اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَعْبُدُ أَبُوهُ أَدَلُّ عَلَى تَجَنُّبِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِحَيْثُ لَا يُتَسَامَحُ فِيهَا وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَعْبُدُهَا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مُوَحِّدِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ مِثْلَ الْأَبِ، وَلِتَكُونَ حِكَايَةُ كَلَامِ
إِبْرَاهِيمَ قُدْوَةً لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢] قَالَ تَعَالَى:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: ٤] أَيْ فَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَقْتَدُوا بِآبَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَهَلَّا اقْتَدَيْتُمْ بِأَفْضَلِ آبَائِكُمْ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ.
وَالْبَرَاءُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْفَعَالِ مِثْلُ الظَّمَاءِ وَالسَّمَاعِ يُخْبَرُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ- وَهِيَ مَا فَوْقَ نَجْدٍ إِلَى أَرْضِ تِهَامَةَ مِمَّا وَرَاءَ مَكَّةَ- وَأَمَّا أَهْلُ نَجْدٍ فَيَقُولُونَ بَرِيءٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ (مَا تَعْبُدُونَ)، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَيْ مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤].
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى: إِنَّنِي اهْتَدَيْتُ إِلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ بِهَدْيٍ مِنَ اللَّهِ.
وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ زَمَانَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ قَوْلًا صَرِيحًا فِي التبرّؤ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَخُصَّ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ قَوْمِهِ وَمَا هُوَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمُ اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَعْبُدُ أَبُوهُ أَدَلُّ عَلَى تَجَنُّبِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِحَيْثُ لَا يُتَسَامَحُ فِيهَا وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَعْبُدُهَا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مُوَحِّدِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ مِثْلَ الْأَبِ، وَلِتَكُونَ حِكَايَةُ كَلَامِ
إِبْرَاهِيمَ قُدْوَةً لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢] قَالَ تَعَالَى:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: ٤] أَيْ فَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَقْتَدُوا بِآبَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَهَلَّا اقْتَدَيْتُمْ بِأَفْضَلِ آبَائِكُمْ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ.
وَالْبَرَاءُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْفَعَالِ مِثْلُ الظَّمَاءِ وَالسَّمَاعِ يُخْبَرُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ- وَهِيَ مَا فَوْقَ نَجْدٍ إِلَى أَرْضِ تِهَامَةَ مِمَّا وَرَاءَ مَكَّةَ- وَأَمَّا أَهْلُ نَجْدٍ فَيَقُولُونَ بَرِيءٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ (مَا تَعْبُدُونَ)، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَيْ مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤].
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى: إِنَّنِي اهْتَدَيْتُ إِلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ بِهَدْيٍ مِنَ اللَّهِ.
192
وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هِدَايَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَسْتَمِرُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُفْهَمُ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ الْآنَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ الْآنَ عَلَى هُدًى فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى هُدًى فِي الْمُسْتَقْبل.
[٢٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٨]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
عَطَفَ عَلَى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ [الزخرف: ٢٦] أَيْ أَعْلَنَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِي قَوْمِهِ مُعَاصِرِيهِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَنْقُلُونَهَا إِلَى مُعَاصِرِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. إِذْ أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ وَأَنْ يُوصُوا بَنِيهِمْ بِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١- ١٣٢] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَبِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ أَبْقَى إِبْرَاهِيمُ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي عَقِبِهِ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ. وَلِذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ لِصَاحِبَيْهِ فِي السَّجْنِ يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] وَقَالَ لَهُمَا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يُوسُف: ٣٧- ٤٠].
فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي جَعَلَها عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَها. وَحَكَى فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ بِالْكَلِمَةِ نَظَرًا لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي لَفْظَ كَلِمَةً لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١٠٠] إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، أَيْ
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ الْآنَ عَلَى هُدًى فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى هُدًى فِي الْمُسْتَقْبل.
[٢٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٨]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
عَطَفَ عَلَى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ [الزخرف: ٢٦] أَيْ أَعْلَنَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِي قَوْمِهِ مُعَاصِرِيهِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَنْقُلُونَهَا إِلَى مُعَاصِرِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. إِذْ أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ وَأَنْ يُوصُوا بَنِيهِمْ بِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١- ١٣٢] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَبِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ أَبْقَى إِبْرَاهِيمُ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي عَقِبِهِ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ. وَلِذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ لِصَاحِبَيْهِ فِي السَّجْنِ يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] وَقَالَ لَهُمَا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يُوسُف: ٣٧- ٤٠].
فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي جَعَلَها عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَها. وَحَكَى فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ بِالْكَلِمَةِ نَظَرًا لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي لَفْظَ كَلِمَةً لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١٠٠] إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، أَيْ
193
قَوْلُ الْكَافِرِ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]. وَقَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: ٥] وَهِيَ قَوْلُهُمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢]، أَيْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: ١٣١] فَأَعَادَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ التَّأْنِيثِ عَلَى تَأْوِيلِ (الْكَلِمَةِ).
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ كَلِمَةٌ إِذَا كَانَ كَلَامًا سَائِرًا عَلَى الْأَلْسِنَةِ مُتَمَثَّلًا بِهِ، كَمَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»
، أَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَجْعُولًا شِعَارًا كَقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ٧٤] ».
فَالْمَعْنَى: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: ٢٦، ٢٧] شِعَارًا لِعَقِبِهِ، أَيْ جَعَلَهَا هِيَ وَمَا يُرَادِفُهَا قَوْلًا بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَلَا يَخْلُو عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ نَابِذِينَ لِلْأَصْنَامِ. وَأَشْعَرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ بِأَنَّ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ أَنْ تَعُمَّ الْعَقِبَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقِبِ مَجْمُوعُ أَعْقَابِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنَ الْيَهُودِ وَانْقَطَعَتْ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ تَقَلَّدُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ إِلَّا مَنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ أَوْ تَنَصَّرَ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ كُلِّ عَقِبٍ فَإِنَّ الْعَرَب لم يَخْلُو مِنْ قَائِمٍ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِثْلَ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ كَالْقَبَائِلِ الْمُتَنَصِّرَةِ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَمِثْلَ الْمُتَحَنِّفِينَ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرِدُ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥]. وَقَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ مِنَ الْحَمَاسَةِ:
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَالْعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ الَّذِينَ لَا يَنْفَصِلُونَ مِنْ أَصْلِهِمْ بِأُنْثَى، أَيْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ بِالْوِصَايَةِ عَلَيْهَا رَاجِيًا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا التَّوْحِيدَ إِذَا رَانَ رَيْنٌ
عَلَى قُلُوبِهِمْ، أَوِ اسْتَحْسَنُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] فَيَهْتَدُونَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ حِين يضيق الزّمن عَنْ بَسْطِ الْحُجَّةِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَلَامِ الَّذِي يُجْعَلُ شِعَارًا لِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَصْلًا مَوْضُوعًا قَدْ تَبَيَّنَ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ كَلِمَةٌ إِذَا كَانَ كَلَامًا سَائِرًا عَلَى الْأَلْسِنَةِ مُتَمَثَّلًا بِهِ، كَمَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»
، أَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَجْعُولًا شِعَارًا كَقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ٧٤] ».
فَالْمَعْنَى: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: ٢٦، ٢٧] شِعَارًا لِعَقِبِهِ، أَيْ جَعَلَهَا هِيَ وَمَا يُرَادِفُهَا قَوْلًا بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَلَا يَخْلُو عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ نَابِذِينَ لِلْأَصْنَامِ. وَأَشْعَرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ بِأَنَّ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ أَنْ تَعُمَّ الْعَقِبَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقِبِ مَجْمُوعُ أَعْقَابِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنَ الْيَهُودِ وَانْقَطَعَتْ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ تَقَلَّدُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ إِلَّا مَنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ أَوْ تَنَصَّرَ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ كُلِّ عَقِبٍ فَإِنَّ الْعَرَب لم يَخْلُو مِنْ قَائِمٍ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِثْلَ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ كَالْقَبَائِلِ الْمُتَنَصِّرَةِ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَمِثْلَ الْمُتَحَنِّفِينَ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرِدُ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥]. وَقَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ مِنَ الْحَمَاسَةِ:
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَالْعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ الَّذِينَ لَا يَنْفَصِلُونَ مِنْ أَصْلِهِمْ بِأُنْثَى، أَيْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ بِالْوِصَايَةِ عَلَيْهَا رَاجِيًا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا التَّوْحِيدَ إِذَا رَانَ رَيْنٌ
عَلَى قُلُوبِهِمْ، أَوِ اسْتَحْسَنُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] فَيَهْتَدُونَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ حِين يضيق الزّمن عَنْ بَسْطِ الْحُجَّةِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَلَامِ الَّذِي يُجْعَلُ شِعَارًا لِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَصْلًا مَوْضُوعًا قَدْ تَبَيَّنَ
194
صِدْقُهُ وَإِصَابَتُهُ، فَاسْتِحْضَارُهُ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ بَسْطِ الْحُجَّةِ لَهُ.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لِأَنَّ جَعْلَهُ كَلِمَةَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف: ٢٦] بَاقِيَةً فِي عقبه، أَرَادَ مِنْهُ مَصَالِحَ لِعَقِبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ رَجَا بِذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ فُتِنُوا بِعِبَادَتِهَا أَوْ يَتَذَكَّرُوا بِهَا الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ عَبَدُوهَا، فَمَعْنَى الرُّجُوعِ، الْعَوْدُ إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٤٨]، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ.
فَحَرْفُ (لَعَلَّ) لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هَنَا رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى قَوْلٍ صَادِرٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِإِنْشَاءِ رَجَائِهِ، بِأَنْ يُقَدَّرَ: قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَوْ قَائِلًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ إِلَى تَغْيِيرِ اعْتِقَادٍ طَارِئٍ بِاعْتِقَادٍ سَابِقٍ، شَبَّهَ تَرْكَ الِاعْتِقَادِ الطَّارِئِ وَالْأَخْذَ بِالِاعْتِقَادِ السَّابِقِ بِرُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ رُجُوعِ السَّاعِي إِلَى بَيْتِهِ.
وَالْمَعْنَى: يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ حَادَ عَنْهَا إِلَيْهَا، وَهَذَا رَجَاؤُهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِ عَقِبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة:
١٢٤] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَلَّ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِ رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَمُودُ نَسَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي رِسَالَةِ «طَهَارَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّقَائِصِ» (١).
وَفِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ كَانَتْ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَتَّجِهُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَانَتْ بَالِغَةً لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ بِمَا تَنَاقَلُوهُ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَمِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْعَرَبُ، فَيَتَّجِهُ مُؤَاخَذَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا النَّظَرَ فِيمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَهُمْ أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهُ أَوْ أَعْرَضُوا. فَيَكُونُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مُؤَاخَذِينَ عَلَى نَبْذِ
_________
(١) نشرت فِي مجلة........ بِبَغْدَاد سنة.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لِأَنَّ جَعْلَهُ كَلِمَةَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف: ٢٦] بَاقِيَةً فِي عقبه، أَرَادَ مِنْهُ مَصَالِحَ لِعَقِبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ رَجَا بِذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ فُتِنُوا بِعِبَادَتِهَا أَوْ يَتَذَكَّرُوا بِهَا الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ عَبَدُوهَا، فَمَعْنَى الرُّجُوعِ، الْعَوْدُ إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٤٨]، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ.
فَحَرْفُ (لَعَلَّ) لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هَنَا رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى قَوْلٍ صَادِرٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِإِنْشَاءِ رَجَائِهِ، بِأَنْ يُقَدَّرَ: قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَوْ قَائِلًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ إِلَى تَغْيِيرِ اعْتِقَادٍ طَارِئٍ بِاعْتِقَادٍ سَابِقٍ، شَبَّهَ تَرْكَ الِاعْتِقَادِ الطَّارِئِ وَالْأَخْذَ بِالِاعْتِقَادِ السَّابِقِ بِرُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ رُجُوعِ السَّاعِي إِلَى بَيْتِهِ.
وَالْمَعْنَى: يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ حَادَ عَنْهَا إِلَيْهَا، وَهَذَا رَجَاؤُهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِ عَقِبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة:
١٢٤] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَلَّ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِ رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَمُودُ نَسَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي رِسَالَةِ «طَهَارَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّقَائِصِ» (١).
وَفِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ كَانَتْ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَتَّجِهُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَانَتْ بَالِغَةً لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ بِمَا تَنَاقَلُوهُ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَمِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْعَرَبُ، فَيَتَّجِهُ مُؤَاخَذَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا النَّظَرَ فِيمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَهُمْ أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهُ أَوْ أَعْرَضُوا. فَيَكُونُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مُؤَاخَذِينَ عَلَى نَبْذِ
_________
(١) نشرت فِي مجلة........ بِبَغْدَاد سنة.
195
التَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا وَمُعَاقَبِينَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي صِحَاحِ الْآثَارِ مِنْ تَعْذِيبِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي سَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ حَامِلُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ عَلَى الشِّرْكِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ على قَوْلهم.
[٢٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٩]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٨]، وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ مَا رَجَاهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ عَقِبِهِ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِرَعْيِهَا. فَإِنَّ أَقْدَمَ أُمَّةٍ مِنْ عَقِبِهِ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى كَلِمَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ.
وَبَعْدَ بَلْ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَ الْإِبْطَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ:
بَلْ لَمْ يَرْجِعْ هَؤُلَاءِ وَآبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَتَبَرَّأُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا أَخَذُوا بِوِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ يَسْأَلُ عَمَّا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ جَزَاءً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي وِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَلَّا اسْتَأْصَلَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٢٣- ٢٥]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ يَجِيئَهُمْ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ يَرْتَبِطُ بِهَا وُجُودُ الْعَرَبِ زَمَنًا طَوِيلًا بِدُونِ رَسُولٍ، وَتَأَخُّرُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إِلَى الْإِبَّانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ.
وَبِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ حَصَلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَا بَدَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي صِحَاحِ الْآثَارِ مِنْ تَعْذِيبِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي سَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ حَامِلُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ عَلَى الشِّرْكِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ على قَوْلهم.
[٢٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٩]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٨]، وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ مَا رَجَاهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ عَقِبِهِ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِرَعْيِهَا. فَإِنَّ أَقْدَمَ أُمَّةٍ مِنْ عَقِبِهِ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى كَلِمَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ.
وَبَعْدَ بَلْ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَ الْإِبْطَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ:
بَلْ لَمْ يَرْجِعْ هَؤُلَاءِ وَآبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَتَبَرَّأُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا أَخَذُوا بِوِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ يَسْأَلُ عَمَّا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ جَزَاءً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي وِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَلَّا اسْتَأْصَلَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٢٣- ٢٥]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ يَجِيئَهُمْ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ يَرْتَبِطُ بِهَا وُجُودُ الْعَرَبِ زَمَنًا طَوِيلًا بِدُونِ رَسُولٍ، وَتَأَخُّرُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إِلَى الْإِبَّانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ.
وَبِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ حَصَلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَا بَدَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
196
مِنْ فَظِيعِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُمْ فَكَانَ مُوقِعُ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغَ مِنْ مَوْقِعِهَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
إِذْ كَانَ انْتِقَالُهُ اقْتِضَابًا وَكَانَ هُنَا تَخَلُّصًا حَسَنًا.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَّ مُصْطَلَحَ الْقُرْآنِ أَنْ يُرِيدَ بِمِثْلِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَمْ أَرَ مَنِ اهْتَدَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١] وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَالْمُرَادُ بِآبَائِهِمْ آبَاؤُهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَالَّذِينَ عَبَدُوهَا مِنْ بَعْدِهِ. وَتَمْتِيعُ آبَائِهِمْ تَمْهِيدٌ لِتَمْتِيعِ هَؤُلَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَةُ التَّمْتِيعِ مَجِيءَ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَجِيئَهُ لِهَؤُلَاءِ. وَالتَّمْتِيعُ هُنَا التَّمْتِيعُ بِالْإِمْهَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ.
وَالْمُرَادُ بِ الْحَقُّ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] وَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وَهَذِهِ الْآيَةُ ثَنَاءٌ رَاجِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ مُتَّصِلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ.
فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى التَّمْتِيعُ وَأُخِذُوا بِالْعَذَابِ تَدْرِيجًا إِلَى أَنْ كَانَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهَدَى اللَّهِ لِلْإِسْلَامِ مَنْ بَقِيَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَيَّامَ الْوُفُودِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨].
وَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ هُوَ: الْقُرْآنُ، وَالرَّسُولُ الْمُبين: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصْفُهُ بِ مُبِينٌ لِأَنَّهُ أَوْضَحَ الْهُدَى وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ كَلَامٍ. فَالْإِبَانَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعَانِي دِينِهِ وَأَلْفَاظِ كِتَابِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ بِالِانْتِشَالِ
بَلْ مَا تَذَكَّرُ مِنْ نَوَارَ وَقَدْ نَأَتْ | وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَرِمَامُهَا |
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَّ مُصْطَلَحَ الْقُرْآنِ أَنْ يُرِيدَ بِمِثْلِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَمْ أَرَ مَنِ اهْتَدَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١] وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَالْمُرَادُ بِآبَائِهِمْ آبَاؤُهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَالَّذِينَ عَبَدُوهَا مِنْ بَعْدِهِ. وَتَمْتِيعُ آبَائِهِمْ تَمْهِيدٌ لِتَمْتِيعِ هَؤُلَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَةُ التَّمْتِيعِ مَجِيءَ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَجِيئَهُ لِهَؤُلَاءِ. وَالتَّمْتِيعُ هُنَا التَّمْتِيعُ بِالْإِمْهَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ.
وَالْمُرَادُ بِ الْحَقُّ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] وَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وَهَذِهِ الْآيَةُ ثَنَاءٌ رَاجِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ مُتَّصِلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ.
فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى التَّمْتِيعُ وَأُخِذُوا بِالْعَذَابِ تَدْرِيجًا إِلَى أَنْ كَانَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهَدَى اللَّهِ لِلْإِسْلَامِ مَنْ بَقِيَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَيَّامَ الْوُفُودِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨].
وَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ هُوَ: الْقُرْآنُ، وَالرَّسُولُ الْمُبين: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصْفُهُ بِ مُبِينٌ لِأَنَّهُ أَوْضَحَ الْهُدَى وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ كَلَامٍ. فَالْإِبَانَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعَانِي دِينِهِ وَأَلْفَاظِ كِتَابِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ بِالِانْتِشَالِ
197
مِنْ أَوْحَالِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ إِلَى مَنَاهِجِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ وَأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، فَيَجْبُرَ لِأُمَّةٍ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِأَبِيهِمْ حَتَّى يَكْمُلَ لِدَعْوَتِهِ شَرَفُ الِاسْتِجَابَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا زِيَادَةُ الْإِمْهَالِ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧].
وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِلَى قَوْله: وَآباءَهُمْ [الزخرف: ٢٨، ٢٩] أَنَّ آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ الشِّرْكَ وَأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ بَقِيَتْ كَلِمَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِمُخَالَفَةِ قَوْمِهِمُ اتِّقَاءَ الْفِتْنَةِ. وَلَا
عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لديهم شرع.
[٣٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٠]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ تَغَافُلِهِمْ، أَيْ قَدْ كَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ قَبْلَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ لِأَنَّ لِلْغَفَلَاتِ الْمُتَقَادِمَةِ غِشَاوَةً تُصَيِّرُ الْغَفْلَةُ جَهَالَةً، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسْتَيْقِظُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ فَيَتَذَكَّرُوا كَلِمَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا:
هَذَا سِحْرٌ، أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَازْدَادُوا رَيْنًا عَلَى رَيْنٍ.
فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لَا فِي إِفَادَةِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا زِيَادَةُ الْإِمْهَالِ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧].
وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِلَى قَوْله: وَآباءَهُمْ [الزخرف: ٢٨، ٢٩] أَنَّ آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ الشِّرْكَ وَأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ بَقِيَتْ كَلِمَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِمُخَالَفَةِ قَوْمِهِمُ اتِّقَاءَ الْفِتْنَةِ. وَلَا
عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لديهم شرع.
[٣٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٠]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ تَغَافُلِهِمْ، أَيْ قَدْ كَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ قَبْلَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ لِأَنَّ لِلْغَفَلَاتِ الْمُتَقَادِمَةِ غِشَاوَةً تُصَيِّرُ الْغَفْلَةُ جَهَالَةً، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسْتَيْقِظُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ فَيَتَذَكَّرُوا كَلِمَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا:
هَذَا سِحْرٌ، أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَازْدَادُوا رَيْنًا عَلَى رَيْنٍ.
فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لَا فِي إِفَادَةِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي تَعْقِيبِ الْغَايَةِ بِهَذَا الْكَلَامِ إِيذَانٌ بِأَنَّ تَمْتِيعَهُمْ أَصْبَحَ عَلَى وَشْكِ الِانْتِهَاءِ.
فَجُمْلَةُ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف: ٢٩] فَإِنَّ لَمَّا تَوْقِيتِيَّةٌ فَهِيَ فِي قُوَّةِ حَتَّى الْغَائِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ عَقِبَ ذَلِكَ التَّمْتِيعِ لَمْ يَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، أَيْ كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْحَقِّ مُشْرِكِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَتَسَاهُلٍ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ صَارُوا مُشْرِكِينَ عَنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ مَقُولٌ ثَانٍ، أَيْ قَالُوا: هَذَا سِحْرٌ فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّا بِهِ، أَيْ بِالْقُرْآنِ، كَافِرُونَ، أَيْ سَوَاءَ كَانَ سِحْرًا أَمْ غَيْرَهُ، أَيْ فَرَضُوا أَنَّهُ سِحْرٌ ثُمَّ ارْتَقَوْا فَقَالُوا إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، أَيْ كَافِرُونَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءً كَانَ سِحْرًا أَمْ شِعْرًا أَمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ ليؤيسوا الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانهم بِهِ.
[٣١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣١]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] فَهُوَ فِي حَيِّزِ جَوَاب لَمَّا [الزخرف: ٣٠] التَّوْقِيتِيَّةِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْجِيبِ أَيْضًا، أَيْ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ لِإِنْكَارِ الْحَقِّ إِذْ قَالُوا لِلْقُرْآنِ: هَذَا سِحْرٌ، وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ سَاحِرٌ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ طَعْنٍ آخَرَ مِنْهُمْ فِي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ.
ولَوْلا أَصْلُهُ حَرْفُ تَحْضِيضٍ، اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازِمَةِ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ عَلَى تَحْصِيلٍ مَا هُوَ مَقْطُوعٌ بِانْتِفَاءِ
حُصُولِهِ يَسْتَلْزِمُ الْجَزْمَ بِانْتِفَائِهِ.
وَالْقَرْيَتَانِ هُمَا: مَكَّةُ وَالطَّائِفُ لِأَنَّهُمَا أَكْبَرُ قُرَى تِهَامَةَ بَلَدِ الْقَائِلِينَ وَأَمَّا يَثْرِبُ وَتَيْمَاءُ وَنَحْوَهُمَا فَهِيَ مِنْ بَلَدِ الْحِجَازِ.
فَجُمْلَةُ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف: ٢٩] فَإِنَّ لَمَّا تَوْقِيتِيَّةٌ فَهِيَ فِي قُوَّةِ حَتَّى الْغَائِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ عَقِبَ ذَلِكَ التَّمْتِيعِ لَمْ يَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، أَيْ كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْحَقِّ مُشْرِكِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَتَسَاهُلٍ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ صَارُوا مُشْرِكِينَ عَنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ مَقُولٌ ثَانٍ، أَيْ قَالُوا: هَذَا سِحْرٌ فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّا بِهِ، أَيْ بِالْقُرْآنِ، كَافِرُونَ، أَيْ سَوَاءَ كَانَ سِحْرًا أَمْ غَيْرَهُ، أَيْ فَرَضُوا أَنَّهُ سِحْرٌ ثُمَّ ارْتَقَوْا فَقَالُوا إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، أَيْ كَافِرُونَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءً كَانَ سِحْرًا أَمْ شِعْرًا أَمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ ليؤيسوا الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانهم بِهِ.
[٣١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣١]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] فَهُوَ فِي حَيِّزِ جَوَاب لَمَّا [الزخرف: ٣٠] التَّوْقِيتِيَّةِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْجِيبِ أَيْضًا، أَيْ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ لِإِنْكَارِ الْحَقِّ إِذْ قَالُوا لِلْقُرْآنِ: هَذَا سِحْرٌ، وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ سَاحِرٌ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ طَعْنٍ آخَرَ مِنْهُمْ فِي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ.
ولَوْلا أَصْلُهُ حَرْفُ تَحْضِيضٍ، اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازِمَةِ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ عَلَى تَحْصِيلٍ مَا هُوَ مَقْطُوعٌ بِانْتِفَاءِ
حُصُولِهِ يَسْتَلْزِمُ الْجَزْمَ بِانْتِفَائِهِ.
وَالْقَرْيَتَانِ هُمَا: مَكَّةُ وَالطَّائِفُ لِأَنَّهُمَا أَكْبَرُ قُرَى تِهَامَةَ بَلَدِ الْقَائِلِينَ وَأَمَّا يَثْرِبُ وَتَيْمَاءُ وَنَحْوَهُمَا فَهِيَ مِنْ بَلَدِ الْحِجَازِ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ لِلْعَهْدِ، جَعَلُوا عِمَادَ التَّأَهُّلِ لِسِيَادَةِ الْأَقْوَامِ أَمْرَيْنِ: عَظَمَةُ الْمُسَوَّدِ، وَعَظَمَةُ قَرْيَتِهِ، فَهُمْ لَا يَدِينُونَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَبَائِلِ فِي أَشْهَرِ الْقُرَى لِأَنَّ الْقُرَى هِيَ مأوى شؤون الْقَبَائِلِ وَتَمْوِينِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، وَالْعَظِيمُ:
مستعار لصَاحب السؤدد فِي قَوْمِهِ، فَكَأَنَّهُ عَظِيمُ الذَّاتِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ حَبِيبَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَنَوُا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ.
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآن وَلم يسموا شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا شَخْصَيْنِ وَوَصَفُوهُمَا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَاقْتَصَرَ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ إِيجَازًا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا كَانُوا يُؤَهِّلُونَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لِلرِّسَالَةِ تَحْمِيقًا لِرَأْيِهِمْ.
وَكَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ عَنَوْهُمَا ذَوَيْ مَالٍ لِأَنَّ سَعَةَ الْمَالِ كَانَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ وَصْفِ السُّؤْدَدِ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [الْبَقَرَة: ٢٤٧].
[٣٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٢]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:
٣١]، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ مَنْ يَتَخَيَّرُ أَصْنَافَ النَّاسِ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلرِّسَالَةِ بِيَدِهِمْ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ ضَمِيرُ هُمْ الْمَجْعُولُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، عَلَى مُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ لِيُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ وَتَخْطِئَةً لَهُمْ فِي تَحَكُّمِهِمْ.
مستعار لصَاحب السؤدد فِي قَوْمِهِ، فَكَأَنَّهُ عَظِيمُ الذَّاتِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ حَبِيبَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَنَوُا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ.
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآن وَلم يسموا شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا شَخْصَيْنِ وَوَصَفُوهُمَا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَاقْتَصَرَ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ إِيجَازًا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا كَانُوا يُؤَهِّلُونَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لِلرِّسَالَةِ تَحْمِيقًا لِرَأْيِهِمْ.
وَكَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ عَنَوْهُمَا ذَوَيْ مَالٍ لِأَنَّ سَعَةَ الْمَالِ كَانَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ وَصْفِ السُّؤْدَدِ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [الْبَقَرَة: ٢٤٧].
[٣٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٢]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:
٣١]، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ مَنْ يَتَخَيَّرُ أَصْنَافَ النَّاسِ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلرِّسَالَةِ بِيَدِهِمْ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ ضَمِيرُ هُمْ الْمَجْعُولُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، عَلَى مُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ لِيُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ وَتَخْطِئَةً لَهُمْ فِي تَحَكُّمِهِمْ.
200
وَلَمَّا كَانَ الِاصْطِفَاءُ لِلرِّسَالَةِ رَحْمَةً لِمَنْ يُصْطَفَى لَهَا وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، جَعَلَ تَحَكُّمَهُمْ فِي ذَلِكَ قِسْمَةً مِنْهُمْ لرحمة الله بِاخْتِيَار هم مَنْ يَخْتَارُ لَهَا وَتَعْيِينِ الْمُتَأَهِّلِ لِإِبْلَاغِهَا إِلَى الْمَرْحُومِينِ.
وَوُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُضِيفَ لِفَظُ (الرَّبِّ) إِلَى ضَمِيرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُ تَأْنِيسًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ شَأْنَهُ بِإِبْلَاغِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ وَبِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَتَدْبِيرَهُ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا قَسَمْنَا بَيْنَ النَّاسِ مَعِيشَتَهُمْ فَكَانُوا مُسَيَّرِينَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا هَيَّأْنَا لَهُمْ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَأَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ، فَسَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِي أَشْغَالِهِمْ عَلَى حِسَابِ دَوَاعِي حَاجَةِ الْحَيَاةِ، وَرَفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى بعض ومسخّرا بِهِ. فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي تَدْبِيرِ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي إِقَامَةِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّ ذَلِك أعظم شؤون الْبَشَرِ. فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْن محيص فِي الشَّاذِّ بِكَسْرِ السِّينِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَخَّرِ، أَيِ الْمَجْبُورِ عَلَى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَاسْمٌ لِمَنْ يُسْخَرُ بِهِ، أَيْ يُسْتَهْزَأُ بِهِ كَمَا فِي «مُفْرَدَات» الرَّاغِب و «الأساس» و «الْقَامُوس». وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ وَلَا تَدَخُّلَ لِمَعْنَى الْهُزْءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَكَلَامُ الرَّاغِبِ مُحْتَمَلٌ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْخِيرِ. فَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنِيَّيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ سُخْرِيًّا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِتَحَمُّلِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَتَعَمَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شؤون حَيَاتِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ، أَيْ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ وَابْنُ زَيْدٍ،
وَوُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُضِيفَ لِفَظُ (الرَّبِّ) إِلَى ضَمِيرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُ تَأْنِيسًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ شَأْنَهُ بِإِبْلَاغِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ وَبِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَتَدْبِيرَهُ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا قَسَمْنَا بَيْنَ النَّاسِ مَعِيشَتَهُمْ فَكَانُوا مُسَيَّرِينَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا هَيَّأْنَا لَهُمْ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَأَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ، فَسَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِي أَشْغَالِهِمْ عَلَى حِسَابِ دَوَاعِي حَاجَةِ الْحَيَاةِ، وَرَفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى بعض ومسخّرا بِهِ. فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي تَدْبِيرِ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي إِقَامَةِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّ ذَلِك أعظم شؤون الْبَشَرِ. فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْن محيص فِي الشَّاذِّ بِكَسْرِ السِّينِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَخَّرِ، أَيِ الْمَجْبُورِ عَلَى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَاسْمٌ لِمَنْ يُسْخَرُ بِهِ، أَيْ يُسْتَهْزَأُ بِهِ كَمَا فِي «مُفْرَدَات» الرَّاغِب و «الأساس» و «الْقَامُوس». وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ وَلَا تَدَخُّلَ لِمَعْنَى الْهُزْءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَكَلَامُ الرَّاغِبِ مُحْتَمَلٌ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْخِيرِ. فَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنِيَّيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ سُخْرِيًّا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِتَحَمُّلِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَتَعَمَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شؤون حَيَاتِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ، أَيْ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ وَابْنُ زَيْدٍ،
201
فَلَامَ لِيَتَّخِذَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِفِعْلِ قَسَمْنا، أَيْ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ، أَيْ أَسْبَابَ مَعِيشَتِهِمْ لِيَسْتَعِينَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَتَعَارَفُوا وَيَتَجَمَّعُوا لِأَجْلِ حَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَتَتَكَوَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبَائِلُ وَالْمُدُنُ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَامًّا فِي كُلِّ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِغَيْرٍ آخَرَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْمًا مِنَ السُّخْرِيَةِ وَهِيَ الِاسْتِهْزَاءُ. وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ وَبِذَلِكَ تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]
وَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْرِيضٌ بالمشركين الَّذين استهزؤوا بِالْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [١١٠]. وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ السُّخْرِيِّ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] وَقَوْلُهُ: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ [ص: ٦٣].
وَلَعَلَّ الَّذِي عَدَلَ بِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِهَذَا الْمَعْنَى اسْتِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَسْخَرَةً عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي رَفْعِهِ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ وَاسِعٌ فِي نَظَائِرِهِ وَأَشْبَاهِهِ. وَتَأْوِيلُ مَعْنَى اللَّامِ ظَاهر.
وَجُمْلَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَذْيِيلٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ رَدٌّ ثَانٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي جَعَلُوهُ عِمَادَ الِاصْطِفَاءِ لِلرِّسَالَةِ هُوَ أَقَلُّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَهِيَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّفْضِيلِ حِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فَإِنَّ الْمَالَ شَيْءٌ جَمَعَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ اصْطِفَاءِ اللَّهِ الْعَبْدَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى النَّاسِ.
وَرَحْمَةُ اللَّهِ: هِيَ اصْطِفَاؤُهُ عَبْدَهُ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانُوا غَيْرَ قَاسِمِينَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ يَقْسِمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِهِمْ
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَامًّا فِي كُلِّ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِغَيْرٍ آخَرَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْمًا مِنَ السُّخْرِيَةِ وَهِيَ الِاسْتِهْزَاءُ. وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ وَبِذَلِكَ تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]
وَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْرِيضٌ بالمشركين الَّذين استهزؤوا بِالْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [١١٠]. وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ السُّخْرِيِّ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] وَقَوْلُهُ: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ [ص: ٦٣].
وَلَعَلَّ الَّذِي عَدَلَ بِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِهَذَا الْمَعْنَى اسْتِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَسْخَرَةً عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي رَفْعِهِ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ وَاسِعٌ فِي نَظَائِرِهِ وَأَشْبَاهِهِ. وَتَأْوِيلُ مَعْنَى اللَّامِ ظَاهر.
وَجُمْلَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَذْيِيلٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ رَدٌّ ثَانٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي جَعَلُوهُ عِمَادَ الِاصْطِفَاءِ لِلرِّسَالَةِ هُوَ أَقَلُّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَهِيَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّفْضِيلِ حِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فَإِنَّ الْمَالَ شَيْءٌ جَمَعَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ اصْطِفَاءِ اللَّهِ الْعَبْدَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى النَّاسِ.
وَرَحْمَةُ اللَّهِ: هِيَ اصْطِفَاؤُهُ عَبْدَهُ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانُوا غَيْرَ قَاسِمِينَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ يَقْسِمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِهِمْ
202
[٣٣- ٣٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
وَلَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ دَلَّ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ امْتِنَاعَ وُقُوعِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَيْ أَرَادَ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَضْمُونِ شَرْطِهَا.
لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ خُلُقِهِمْ تَعْظِيمَ الْمَالِ وَأَهْلِ الثَّرَاءِ وَحُسْبَانَهُمْ ذَلِكَ أَصْلَ الْفَضَائِلِ وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِزَكَاءِ النُّفُوسِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جَعْلَهُمُ الْمَالَ سَبَبَ الْفَضْلِ بِإِبْطَالَيْنِ، بِقَوْلِهِ:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وَقَوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: ٣٢]، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَعْرِيفِهِمْ أَنَّ الْمَالَ وَالْغِنَى لَا حَظَّ لَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَجَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ حَقَائِقَهَا وَمَقَادِيرَهَا فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمَالُ لِلْكَافِرِينَ
وَمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ جَعَلَ لَهُ أَسْبَابًا نَظَمَهَا فِي سِلْكِ النُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَجَعَلَ لَهَا آثَارًا مُنَاسِبَةً لَهَا، وَشَتَّانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوَاهِبِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّرَائِرِ الطَّيِّبَةِ، فَالْمَالُ فِي الْغَالِبِ مَصْدَرٌ لِإِرْضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَمَرْصَدٌ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّطَاوُلِ. وَأَمَّا مَوَاهِبُ النُّفُوسِ الطَّيِّبَةِ فَمَصَادِرُ لِنَفْعِ أَصْحَابِهَا وَنَفْعِ الْأُمَّةِ، فَفِي أَهْلِ الشَّرِّ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَفِي أَهْلِ الْخَيْرِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، فَظَهَرَ التَّبَايُنُ بَيْنَ آثَارِ كَسْبِ الْمَالِ وَأَثَارِ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ.
وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّحْقِيرِ لِلْمَالِ إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِمَا أَسَّسُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١]، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ على جملَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: ٣٢].
وَالنَّاسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْبَشَرِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْبَشَرِ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا بِاتِّحَادٍ فِي نَسَبٍ أَوْ دِينٍ أَوْ
203
حَالَةٍ مُعَرَّفٍ بِهَا فَمَعْنَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يَحْتَمِلُ أَنَّ لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ الْبَشَرُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ، أَيِ الْكُفْرُ وَنَبْذُ الْفِكْرَةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ (١).
فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَخَصَّصْنَا الْكَافِرِينَ بِالْمَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَتَرَكْنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا ادَّخَرْنَا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَيَحْسَبُ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ أَنَّ لِلْكُفْرِ أَثَرًا فِي حُصُولِ الْمَالِ جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً لِمَنْ سَمَّاهُمْ بِالْكَافِرِينَ فَيَتْبَعُوا دِينَ الْكُفْرِ لِتَخَيُّلِهِمُ الْمُلَازِمَةَ بَيْنَ سَعَادَةِ الْعَيْشِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَجْيَالِ الْأَوْلَى أَصْحَابَ أَوْهَامٍ وَأَغْلَاطٍ يَجْعَلُونَ لِلْمُقَارَنَةِ حُكْمَ التَّسَبُّبِ فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْلَا تَجَنُّبُ مَا يُفْضِي إِلَى عُمُومِ الْكُفْرِ وَانْقِرَاضِ الْإِيمَانِ، لَجَعَلْنَا الْمَالَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ خَاصَّةً، أَيْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ انْقِرَاضَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يُقَدِّرِ اتِّحَادَ النَّاسِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: ١١٨، ١١٩] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْعِبَادِ فَعَطَّلَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى اضْمِحْلَالِ الْهُدَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَيْ أَبْقَى بَيْنَهُمْ بَصِيصًا مِنْ نُورِ الْهُدَى.
وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلْعَهْدِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَعَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: ١٧٣] وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً اتِّحَادُهُمْ فِي الثَّرَاءِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنْ تَصِيرَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَهْلَ ثَرْوَةٍ كُلَّهُمْ أَيْ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ بَلَدٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ وَكُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْعُمْرَانِ وَاحْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، هَذَا لِمَالِهِ، وَهَذَا لِصِنَاعَتِهِ، وَآخَرُ لِمَقْدِرَةِ بَدَنِهِ لَجَعَلْنَا من يكفر بالرحمان وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءً فِي الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَلَخَّصُ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ الثَّرَاءَ وَالرَّفَاهِيَةَ لَا يُقِيمُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ لَهُمَا وَزْنًا فَلَا يُمْسِكُهُمَا عَنِ النَّاكِبِينَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ، فَصَارَ الْكَلَامُ يَقْتَضِي مُقَدَّرًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ لَكِنْ لَا يَكُونُ النَّاسُ سَوَاءً فِي الْغِنَى لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْكَوْنِ الْبِشْرِيِّ
_________
(١) جمعناهم فِي هَذَا التَّأْوِيل لِأَن مآل أَقْوَالهم مُتَقَارِبَة.
فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَخَصَّصْنَا الْكَافِرِينَ بِالْمَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَتَرَكْنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا ادَّخَرْنَا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَيَحْسَبُ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ أَنَّ لِلْكُفْرِ أَثَرًا فِي حُصُولِ الْمَالِ جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً لِمَنْ سَمَّاهُمْ بِالْكَافِرِينَ فَيَتْبَعُوا دِينَ الْكُفْرِ لِتَخَيُّلِهِمُ الْمُلَازِمَةَ بَيْنَ سَعَادَةِ الْعَيْشِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَجْيَالِ الْأَوْلَى أَصْحَابَ أَوْهَامٍ وَأَغْلَاطٍ يَجْعَلُونَ لِلْمُقَارَنَةِ حُكْمَ التَّسَبُّبِ فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْلَا تَجَنُّبُ مَا يُفْضِي إِلَى عُمُومِ الْكُفْرِ وَانْقِرَاضِ الْإِيمَانِ، لَجَعَلْنَا الْمَالَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ خَاصَّةً، أَيْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ انْقِرَاضَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يُقَدِّرِ اتِّحَادَ النَّاسِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: ١١٨، ١١٩] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْعِبَادِ فَعَطَّلَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى اضْمِحْلَالِ الْهُدَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَيْ أَبْقَى بَيْنَهُمْ بَصِيصًا مِنْ نُورِ الْهُدَى.
وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلْعَهْدِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَعَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: ١٧٣] وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً اتِّحَادُهُمْ فِي الثَّرَاءِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنْ تَصِيرَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَهْلَ ثَرْوَةٍ كُلَّهُمْ أَيْ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ بَلَدٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ وَكُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْعُمْرَانِ وَاحْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، هَذَا لِمَالِهِ، وَهَذَا لِصِنَاعَتِهِ، وَآخَرُ لِمَقْدِرَةِ بَدَنِهِ لَجَعَلْنَا من يكفر بالرحمان وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءً فِي الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَلَخَّصُ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ الثَّرَاءَ وَالرَّفَاهِيَةَ لَا يُقِيمُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ لَهُمَا وَزْنًا فَلَا يُمْسِكُهُمَا عَنِ النَّاكِبِينَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ، فَصَارَ الْكَلَامُ يَقْتَضِي مُقَدَّرًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ لَكِنْ لَا يَكُونُ النَّاسُ سَوَاءً فِي الْغِنَى لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْكَوْنِ الْبِشْرِيِّ
_________
(١) جمعناهم فِي هَذَا التَّأْوِيل لِأَن مآل أَقْوَالهم مُتَقَارِبَة.
204
أَنْ لَا تَكُونَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَوْ قَبِيلَةٌ أَوْ أَهَلُ بَلْدَةٍ أَغْنِيَاءَ لَيْسَ فِيهِمْ مَحَاوِيجُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انخرام نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَارْتِفَاعِ احْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَيَهْلِكُ مُجْتَمَعُهُمْ، وَاللَّهُ أَرَادَ بَقَاءَهُمْ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ.
وَيُرَجِّحُ هَذَا جَعْلُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ يَكْفُرُ خُصُوص وصف الرحمان فَإِنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا وصف الرحمان قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠] وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ.
وَمَعْنَى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ لَقَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ أَسْبَابَ الثَّرَاءِ مُتَّصِلَةً بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْكُفْرُ سَبَبًا وَمَجْلَبَةً لِلْغِنَى، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ فِي عُقُولِ النَّاسِ وَأَسَالِيبِ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ أَسْبَابَ تَعْمِيمِ الْكُفْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفًا مِنْهُ بِالْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ كُفْرٍ جُزْئِيٍّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ حِفْظًا مِنْهُ تَعَالَى لِنَامُوسِ تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا. وَهَذَا مِنْ تَفَارِيعِ التَّفْرِقَة بَين الرضى وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبُيُوتِهِمْ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ، أَيْ لَجَعَلْنَا لِبُيُوتِ من يكفر بالرحمان فَيَكُونُ قَوْلُهُ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ ممّن يكفر بالرحمان. وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لِلتَّوْكِيدِ كَمَا فَعَلُوا فِي الْبَدَلِ مِنَ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ فِي نَحْوِ: مَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ فَقَرَنُوا الْبَدَلَ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ وَلَمْ يَقُولُوا: مَنْ ذَا سَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ ابْتِدَاءً بِفِعْلِ الْجَعْلِ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ من يكفر بالرحمان فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ قَرْنُهُ مَعَ مَظَاهِرِ الْغِنَى فِي قَرْنِ التَّحْقِيرِ، ثُمَّ يَذْكُرُ مَا
يَعِزُّ وُجُودُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْخَبَرُ كُلُّهُ مُسْتَغْرَبًا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُنْظَمَ فِي أُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُقُفاً بِضَمِّ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ جَمْعُ سَقْفٍ بِفَتْحِ السِّينِ
وَيُرَجِّحُ هَذَا جَعْلُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ يَكْفُرُ خُصُوص وصف الرحمان فَإِنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا وصف الرحمان قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠] وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ.
وَمَعْنَى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ لَقَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ أَسْبَابَ الثَّرَاءِ مُتَّصِلَةً بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْكُفْرُ سَبَبًا وَمَجْلَبَةً لِلْغِنَى، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ فِي عُقُولِ النَّاسِ وَأَسَالِيبِ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ أَسْبَابَ تَعْمِيمِ الْكُفْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفًا مِنْهُ بِالْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ كُفْرٍ جُزْئِيٍّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ حِفْظًا مِنْهُ تَعَالَى لِنَامُوسِ تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا. وَهَذَا مِنْ تَفَارِيعِ التَّفْرِقَة بَين الرضى وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبُيُوتِهِمْ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ، أَيْ لَجَعَلْنَا لِبُيُوتِ من يكفر بالرحمان فَيَكُونُ قَوْلُهُ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ ممّن يكفر بالرحمان. وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لِلتَّوْكِيدِ كَمَا فَعَلُوا فِي الْبَدَلِ مِنَ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ فِي نَحْوِ: مَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ فَقَرَنُوا الْبَدَلَ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ وَلَمْ يَقُولُوا: مَنْ ذَا سَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ ابْتِدَاءً بِفِعْلِ الْجَعْلِ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ من يكفر بالرحمان فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ قَرْنُهُ مَعَ مَظَاهِرِ الْغِنَى فِي قَرْنِ التَّحْقِيرِ، ثُمَّ يَذْكُرُ مَا
يَعِزُّ وُجُودُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْخَبَرُ كُلُّهُ مُسْتَغْرَبًا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُنْظَمَ فِي أُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُقُفاً بِضَمِّ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ جَمْعُ سَقْفٍ بِفَتْحِ السِّينِ
205
وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ: الْبِنَاءُ الْمُمْتَدُّ عَلَى جُدْرَانِ الْبَيْتِ الْمُغَطِّي فَضَاءَ الْبَيْتَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٦]. وَهَذَا الْجَمْعُ لَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا رَهْنٌ وَرُهُنٌ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُفْرَدِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِبُيُوتِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِكُلِّ بَيْتٍ سَقْفٌ.
وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ قَالَ تَعَالَى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢]، فَيَكُونُ هُنَا عَطْفًا عَلَى سُقُفاً جَمْعًا لِعَدِيدِ الْمَحَاسِنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّهَبِ لِأَنَّ الذَّهَبَ يُتَزَيَّنُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الْإِسْرَاء: ٩٣]، فَيَكُونُ وَزُخْرُفاً عَطْفًا عَلَى سُقُفاً بِتَأْوِيلِ: لَجَعَلْنَا لَهُمْ ذَهَبًا، أَيْ لَكَانَتْ سُقُفُهُمْ وَمَعَارِجُهُمْ وَأَبْوَابُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ مُنَوَّعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ فِي تَلْوِينِهَا. وَابْتُدِئَ بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فِي التَّحَلِّيَاتِ وَأَجْمَلُ فِي اللَّوْنِ، وَأَخَّرَ الذَّهَبَ لِأَنَّهُ أَنْدَرُ فِي الْحُلِيِّ، وَلِأَنَّ لَفْظَهُ أَسْعَدُ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِ آخِرِهِ تَنْوِينًا يَنْقَلِبُ فِي الْوَقْفِ أَلِفًا فَيُنَاسِبُ امْتِدَادَ الصَّوْتِ وَهُوَ أَفْصَحُ فِي الْوَقْفِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ زُخْرُفاً مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَرِدُ سُؤَالٌ عَنْ تَخْصِيصِ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ بِالْفِضَّةِ. ومَعارِجَ اسْمُ جَمْعِ مِعْرَاجٍ، وَهُوَ الدَّرَجُ الَّذِي يُعْرَجُ بِهِ إِلَى الْعَلَالِي.
وَمَعْنَى يَظْهَرُونَ: يَعْلُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْف: ٩٧]، أَيْ أَنْ يَتَسَوَّرُوهُ.
وَسُرُرُ بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٤]، وَفَائِدَةُ وَصْفِهَا بجملة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ هَذِهِ الْبَهْرَجَةَ مَعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي دَعَةِ الْعَيْشِ وَالْخُلُوِّ عَنِ التَّعَبِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَعَارِجَ وَالْأَبْوَابَ وَالسُّرُرَ مِنْ فِضَّةٍ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ لِدَلَالَةِ مَا وُصِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ.
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٦]. وَهَذَا الْجَمْعُ لَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا رَهْنٌ وَرُهُنٌ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُفْرَدِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِبُيُوتِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِكُلِّ بَيْتٍ سَقْفٌ.
وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ قَالَ تَعَالَى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢]، فَيَكُونُ هُنَا عَطْفًا عَلَى سُقُفاً جَمْعًا لِعَدِيدِ الْمَحَاسِنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّهَبِ لِأَنَّ الذَّهَبَ يُتَزَيَّنُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الْإِسْرَاء: ٩٣]، فَيَكُونُ وَزُخْرُفاً عَطْفًا عَلَى سُقُفاً بِتَأْوِيلِ: لَجَعَلْنَا لَهُمْ ذَهَبًا، أَيْ لَكَانَتْ سُقُفُهُمْ وَمَعَارِجُهُمْ وَأَبْوَابُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ مُنَوَّعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ فِي تَلْوِينِهَا. وَابْتُدِئَ بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فِي التَّحَلِّيَاتِ وَأَجْمَلُ فِي اللَّوْنِ، وَأَخَّرَ الذَّهَبَ لِأَنَّهُ أَنْدَرُ فِي الْحُلِيِّ، وَلِأَنَّ لَفْظَهُ أَسْعَدُ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِ آخِرِهِ تَنْوِينًا يَنْقَلِبُ فِي الْوَقْفِ أَلِفًا فَيُنَاسِبُ امْتِدَادَ الصَّوْتِ وَهُوَ أَفْصَحُ فِي الْوَقْفِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ زُخْرُفاً مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَرِدُ سُؤَالٌ عَنْ تَخْصِيصِ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ بِالْفِضَّةِ. ومَعارِجَ اسْمُ جَمْعِ مِعْرَاجٍ، وَهُوَ الدَّرَجُ الَّذِي يُعْرَجُ بِهِ إِلَى الْعَلَالِي.
وَمَعْنَى يَظْهَرُونَ: يَعْلُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْف: ٩٧]، أَيْ أَنْ يَتَسَوَّرُوهُ.
وَسُرُرُ بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٤]، وَفَائِدَةُ وَصْفِهَا بجملة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ هَذِهِ الْبَهْرَجَةَ مَعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي دَعَةِ الْعَيْشِ وَالْخُلُوِّ عَنِ التَّعَبِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَعَارِجَ وَالْأَبْوَابَ وَالسُّرُرَ مِنْ فِضَّةٍ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ لِدَلَالَةِ مَا وُصِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ.
206
وَذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ وَالْأَبْوَابِ وَالسُّرُرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَتَاعُ الدُّنْيَا لَا يَعُودُ عَلَى مَنْ أُعْطِيَهُ بِالسَّعَادَةِ
الْأَبَدِيَّةِ وَأَمَّا السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ فَقَدِ ادَّخَرَهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ وَلَيْسَتْ كَمَثَلِ الْبَهَارِجِ وَالزِّينَةِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تُصَادِفُ مُخْتَلَفَ النُّفُوسِ وَتَكْثُرُ لِأَهْلِ النُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ الْخَسِيسَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمرَان: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَتَكُونُ إِنْ الَّتِي قَبْلَهَا مُخَفِّفَةً مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ لِلتَّوْكِيدِ وَتَكُونُ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَمَّا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ وَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةِ وَ (مَا) زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَهِيَ لَمَّا أُخْتُ (إِلَّا) الْمُخْتَصَّةِ بِالْوُقُوعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا.
[٣٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٦]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)
ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَبَيَانٌ لِلنَّاسِ، وَوَصْفِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ، وَأَعْلَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ تَذْكِيرَهُمْ وَمُحَاجَّتَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ يَدْعُو بِالْحَقِّ وَيَعِدُ بِهِ.
وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ تَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَيْقِظُونَ مِنْ غِشَاوَتِهِمْ، وَفِي تَنْبِيهِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ حَقِّيَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَفُضِحَتْ شُبُهَاتُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا تَعْوِيلَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ الضَّالُّونَ، وَأُنْذِرُوا بِاقْتِرَابِ انْتِهَاءِ تَمْتِيعِهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَتَقَضَّى ذَلِكَ بِمَزِيدِ الْبَيَانِ، وَأَفْضَى الْكَلَامُ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ إِلَى قَوْله عَظِيمٍ [الزخرف: ٣٠، ٣١]، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ، عَادَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى عَوَاقِبِ صَرْفِهِمْ عُقُولَهُمْ
الْأَبَدِيَّةِ وَأَمَّا السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ فَقَدِ ادَّخَرَهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ وَلَيْسَتْ كَمَثَلِ الْبَهَارِجِ وَالزِّينَةِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تُصَادِفُ مُخْتَلَفَ النُّفُوسِ وَتَكْثُرُ لِأَهْلِ النُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ الْخَسِيسَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمرَان: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَتَكُونُ إِنْ الَّتِي قَبْلَهَا مُخَفِّفَةً مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ لِلتَّوْكِيدِ وَتَكُونُ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَمَّا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ وَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةِ وَ (مَا) زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَهِيَ لَمَّا أُخْتُ (إِلَّا) الْمُخْتَصَّةِ بِالْوُقُوعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا.
[٣٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٦]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)
ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَبَيَانٌ لِلنَّاسِ، وَوَصْفِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ، وَأَعْلَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ تَذْكِيرَهُمْ وَمُحَاجَّتَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ يَدْعُو بِالْحَقِّ وَيَعِدُ بِهِ.
وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ تَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَيْقِظُونَ مِنْ غِشَاوَتِهِمْ، وَفِي تَنْبِيهِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ حَقِّيَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَفُضِحَتْ شُبُهَاتُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا تَعْوِيلَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ الضَّالُّونَ، وَأُنْذِرُوا بِاقْتِرَابِ انْتِهَاءِ تَمْتِيعِهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَتَقَضَّى ذَلِكَ بِمَزِيدِ الْبَيَانِ، وَأَفْضَى الْكَلَامُ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ إِلَى قَوْله عَظِيمٍ [الزخرف: ٣٠، ٣١]، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ، عَادَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى عَوَاقِبِ صَرْفِهِمْ عُقُولَهُمْ
207
عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الدَّعْوَةِ الْقُرْآنِيَّةِ فَكَانَ انْصِرَافُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يُسَخِّرُ اللَّهُ شَيَاطِينَ لَهُمْ تُلَازِمُهُمْ فَلَا تَزَالُ تَصْرِفُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الْحَقِّ وَأَدِلَّةِ الرُّشْدِ. وَهُوَ تَسْخِيرٌ اقْتَضَاهُ نِظَامُ تَوَلُّدِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِهَا، فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ عَمَى بَصَائِرِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ الْبَيِّنِ، وَهَذَا مِنْ سُنَّةِ الْوُجُودِ فِي تَوَلُّدِ الْأَشْيَاءِ مِنْ عَنَاصِرِهَا فَالضَّلَالُ يَنْمِي وَيَتَوَلَّدُ فِي النُّفُوسِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا عَلَى الْقَلْبِ وَأَكِنَّةً فِيهِ وَخَتْمًا عَلَيْهِ وَلَا يَضْعُفُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِتَكَرُّرِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَبِالزَّجْرِ وَالْإِنْذَارِ، فَمِنْ زِنَادِ التَّذْكِيرِ تَنْقَدِحُ شَرَارَاتُ نُورٍ فَرُبَّمَا أَضَاءَتْ فَصَادَفَتْ قُوَّةَ نُورِ
الْحَقِّ حَالَةَ وَهَنِ الشَّيْطَانِ فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيُفِيقُ صَاحِبُهَا مِنْ نَوْمَةِ ضَلَالِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ارْعَوَى ضَالٌّ عَنْ ضَلَالِهِ وَلَمَا نَفَعَ إِرْشَادُ الْمُرْشِدِينَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] الْآيَة.
فجملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَدَمَ فَهْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] بِحَالِ مَنْ يَعْشُو عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ لِلْبَصَرِ.
ويَعْشُ: مُضَارِعُ عَشَا كَغَزَا عَشْوًا بِالْوَاوِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا غَيْرَ ثَابِتٍ يُشْبِهُ نَظَرَ الْأَعْشَى، وَإِمَّا الْعَشَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ فَهُوَ اسْمُ ضَعْفِ الْعَيْنِ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: عَشَيَ بِالْيَاءِ مِثْلُ عَرَجَ إِذَا كَانَتْ فِي بَصَرِهِ آفَةُ الْعَشَا وَمَصْدُرُهُ عَشَىَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ مِثْلُ الْعَرَجِ. وَالْفِعْلُ وَاوِيٌّ عَشَا يَعْشُو، وَيُقَالُ عَشِيَ يَعْشَى إِذَا صَارَ الْعَشَا لَهُ آفَةٌ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْأَدْوَاءِ تَأْتِي كَثِيرًا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلَ مَرَضٍ. وَعَشِيَ يَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِأَجْلِ كَسْرَةِ صِيغَةِ الْأَدْوَاءِ.
الْحَقِّ حَالَةَ وَهَنِ الشَّيْطَانِ فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيُفِيقُ صَاحِبُهَا مِنْ نَوْمَةِ ضَلَالِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ارْعَوَى ضَالٌّ عَنْ ضَلَالِهِ وَلَمَا نَفَعَ إِرْشَادُ الْمُرْشِدِينَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] الْآيَة.
فجملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَدَمَ فَهْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] بِحَالِ مَنْ يَعْشُو عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ لِلْبَصَرِ.
ويَعْشُ: مُضَارِعُ عَشَا كَغَزَا عَشْوًا بِالْوَاوِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا غَيْرَ ثَابِتٍ يُشْبِهُ نَظَرَ الْأَعْشَى، وَإِمَّا الْعَشَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ فَهُوَ اسْمُ ضَعْفِ الْعَيْنِ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: عَشَيَ بِالْيَاءِ مِثْلُ عَرَجَ إِذَا كَانَتْ فِي بَصَرِهِ آفَةُ الْعَشَا وَمَصْدُرُهُ عَشَىَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ مِثْلُ الْعَرَجِ. وَالْفِعْلُ وَاوِيٌّ عَشَا يَعْشُو، وَيُقَالُ عَشِيَ يَعْشَى إِذَا صَارَ الْعَشَا لَهُ آفَةٌ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْأَدْوَاءِ تَأْتِي كَثِيرًا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلَ مَرَضٍ. وَعَشِيَ يَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِأَجْلِ كَسْرَةِ صِيغَةِ الْأَدْوَاءِ.
208
فَمَعْنَى وَمَنْ يَعْشُ مَنْ يَنْظُرُ نَظَرًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ إِلَّا سَمَاعُ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ دُونَ تَدَبُّرٍ وَقَصْدٍ لِلِانْتِفَاعِ بِمَعَانِيهِ، فَشَبَّهَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مَعَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِنَظَرِ النَّاظِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ.
وَعُدِّيَ يَعْشُ بِ عَنْ الْمُفِيدَةِ لِلْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَن ذكر الرحمان وَإِلَّا فَإِنَّ حَقَّ عَشَا أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) كَمَا قَالَ الْحَطِيئَةُ:
وَلَا يُقَالُ: عَشَوْتُ عَنِ النَّارِ إِلَّا بِمِثْلِ التَّضْمِينِ الَّذِي فِي هَاتِهِ الْآيَةِ. فَتَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى يُعْرِضُ: أَرَادَ تَحْصِيلَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ التَّعْدِيَةِ بِ عَنْ، وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ (عَشَا) بِمَعْنَى أَعْرَضَ أَرَادَ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى أَصْلِيًّا لِفِعْلِ (عَشَا) وَظَنَّ أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْإِعْرَاضِ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْفِعْلِ وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلتَّعْدِيَةِ بِ عَنْ فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيٌّ.
وذِكْرِ الرَّحْمنِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥]. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّحْمنِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَهَذَا ثَنَاءٌ خَامِسٌ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالتَّقْيِيضُ: الْإِتَاحَةُ وَتَهْيِئَةُ شَيْءٍ لِمُلَازَمَةِ شَيْءٍ لِعَمَلٍ حَتَّى يُتِمَّهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ قَيَّضَ الْبَيْضَةَ، أَيِ الْقِشْرَ الْمُحِيطَ بِمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الْمُحِّ لِأَنَّ الْقَيْضَ يُلَازِمُ الْبَيْضَةَ فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا الْفَرْخُ فَيَتِمَّ مَا أُتِيحَ لَهُ الْقَيْضُ.
فَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ لِلْجَعْلِ مِثْلُ طَيَّنَ الْجِدَارَ: وَمِثْلُ أَزَرَهُ، أَيْ أَلْبَسَهُ الْإِزَارَ، وَدَرَعُوا الْجَارِيَةَ، أَيْ أَلْبَسُوهَا الدِّرْعَ. وَأَصْلُهُ هُنَا تَشْبِيهٌ أَيْ نَجْعَلُهُ كَالْقَيْضِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٢٥] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا. وَأَتَى الضَّمِيرُ فِي لَهُ مُفْرَدًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الشَّرْطُ شَيْطَانًا وَلَيْسَ لِجَمِيعِهِمْ شَيْطَانٌ وَاحِدٌ وَلِذَلِكَ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [الزخرف:
٣٨] بِالْإِفْرَادِ، أَيْ قَالَ كُلُّ مَنْ لَهُ قَرِينٌ لِقَرِينِهِ.
وَعُدِّيَ يَعْشُ بِ عَنْ الْمُفِيدَةِ لِلْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَن ذكر الرحمان وَإِلَّا فَإِنَّ حَقَّ عَشَا أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) كَمَا قَالَ الْحَطِيئَةُ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُهُ إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ | تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ |
وذِكْرِ الرَّحْمنِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥]. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّحْمنِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَهَذَا ثَنَاءٌ خَامِسٌ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالتَّقْيِيضُ: الْإِتَاحَةُ وَتَهْيِئَةُ شَيْءٍ لِمُلَازَمَةِ شَيْءٍ لِعَمَلٍ حَتَّى يُتِمَّهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ قَيَّضَ الْبَيْضَةَ، أَيِ الْقِشْرَ الْمُحِيطَ بِمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الْمُحِّ لِأَنَّ الْقَيْضَ يُلَازِمُ الْبَيْضَةَ فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا الْفَرْخُ فَيَتِمَّ مَا أُتِيحَ لَهُ الْقَيْضُ.
فَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ لِلْجَعْلِ مِثْلُ طَيَّنَ الْجِدَارَ: وَمِثْلُ أَزَرَهُ، أَيْ أَلْبَسَهُ الْإِزَارَ، وَدَرَعُوا الْجَارِيَةَ، أَيْ أَلْبَسُوهَا الدِّرْعَ. وَأَصْلُهُ هُنَا تَشْبِيهٌ أَيْ نَجْعَلُهُ كَالْقَيْضِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٢٥] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا. وَأَتَى الضَّمِيرُ فِي لَهُ مُفْرَدًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الشَّرْطُ شَيْطَانًا وَلَيْسَ لِجَمِيعِهِمْ شَيْطَانٌ وَاحِدٌ وَلِذَلِكَ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [الزخرف:
٣٨] بِالْإِفْرَادِ، أَيْ قَالَ كُلُّ مَنْ لَهُ قَرِينٌ لِقَرِينِهِ.
209
وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ نُقَيِّضْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ شَيْطاناً فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مُقَيَّضٌ لِإِضْلَالِهِ، أَيْ هُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ.
وَفُرِّعَ عَنْ نُقَيِّضْ قَوْلُهُ: فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ لِأَن التقيض كَانَ لِأَجْلِ مُقَارَنَتِهِ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي جَرَتْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «نَيْلِ الِابْتِهَاجِ بِتَطْرِيزِ الدِّيبَاجِ» فِي تَرْجَمَةِ الْحَفِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ شَيْخِنَا ابْنِ عَرَفَةَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ حَضَرْتُهُ فَقَرَأَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فَقَالَ: قرىء يَعْشُو بِالرَّفْعِ ونُقَيِّضْ بِالْجَزْمِ (١). وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِكَلَامٍ مَا فَهِمْتُهُ. وَذَكَرَ أَنَّ فِي النُّسْخَةِ خَلَلًا وَذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ. فَاهْتَدَيْتُ إِلَى تَمَامِهِ وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّ جَزْمَ نُقَيِّضْ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِشَبَهِهَا بِالشَّرْطِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا كَانُوا يُعَامِلُونَ الْمَوْصُولَ الَّذِي لَا يُشْبِهُ لَفْظَ الشَّرْطِ بِذَلِكَ فَمَا يُشْبِهُ لَفْظُهُ لَفْظَ الشَّرْطِ أَوْلَى بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ. فَوَافَقَ وَفَرِحَ لَمَّا أَنَّ الْإِنْصَافَ كَانَ طَبْعَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَطَالَبُونِي بِإِثْبَاتِ مُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَقُلْتُ: نَصُّهُمْ عَلَى دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ فِي نَحْوِ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ،
فَنَازَعُونِي فِي ذَلِكَ وَكُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِحِفْظِ التَّسْهِيلِ فَقُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيمَا يُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ «وَقَدْ يَجْزِمُهُ مُسَبِّبٌ عَنْ صِلَةِ الَّذِي تَشْبِيهًا بِجَوَابِ الشَّرْطِ وَأَنْشَدْتُ مِنْ شَوَاهِدِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَجَاءَ الشَّاهِدُ مُوَافِقًا لِلْحَالِ. قَالَ: وَكُنْتُ فِي طَرَفٍ الْحَلْقَةِ، فَصَاحَ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَالَ:
يَا أَخِي مَا بَغَيْنَا، لَعَلَّكَ ابْنُ مَرْزُوقٍ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُكُمْ» انْتَهَى مِنِ «اغتنام الفرصة». اهـ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ فَكَانَ قَرِينًا مُقَارَنَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَلْ: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا قَرِينًا لَهُ. وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى
_________
(١) هَذِه الْقِرَاءَة تنْسب إِلَى زيد بن عَليّ إِمَام الزيدية. [.....]
وَفُرِّعَ عَنْ نُقَيِّضْ قَوْلُهُ: فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ لِأَن التقيض كَانَ لِأَجْلِ مُقَارَنَتِهِ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي جَرَتْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «نَيْلِ الِابْتِهَاجِ بِتَطْرِيزِ الدِّيبَاجِ» فِي تَرْجَمَةِ الْحَفِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ شَيْخِنَا ابْنِ عَرَفَةَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ حَضَرْتُهُ فَقَرَأَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فَقَالَ: قرىء يَعْشُو بِالرَّفْعِ ونُقَيِّضْ بِالْجَزْمِ (١). وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِكَلَامٍ مَا فَهِمْتُهُ. وَذَكَرَ أَنَّ فِي النُّسْخَةِ خَلَلًا وَذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ. فَاهْتَدَيْتُ إِلَى تَمَامِهِ وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّ جَزْمَ نُقَيِّضْ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِشَبَهِهَا بِالشَّرْطِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا كَانُوا يُعَامِلُونَ الْمَوْصُولَ الَّذِي لَا يُشْبِهُ لَفْظَ الشَّرْطِ بِذَلِكَ فَمَا يُشْبِهُ لَفْظُهُ لَفْظَ الشَّرْطِ أَوْلَى بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ. فَوَافَقَ وَفَرِحَ لَمَّا أَنَّ الْإِنْصَافَ كَانَ طَبْعَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَطَالَبُونِي بِإِثْبَاتِ مُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَقُلْتُ: نَصُّهُمْ عَلَى دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ فِي نَحْوِ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ،
فَنَازَعُونِي فِي ذَلِكَ وَكُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِحِفْظِ التَّسْهِيلِ فَقُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيمَا يُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ «وَقَدْ يَجْزِمُهُ مُسَبِّبٌ عَنْ صِلَةِ الَّذِي تَشْبِيهًا بِجَوَابِ الشَّرْطِ وَأَنْشَدْتُ مِنْ شَوَاهِدِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا | تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ |
يَا أَخِي مَا بَغَيْنَا، لَعَلَّكَ ابْنُ مَرْزُوقٍ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُكُمْ» انْتَهَى مِنِ «اغتنام الفرصة». اهـ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ فَكَانَ قَرِينًا مُقَارَنَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَلْ: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا قَرِينًا لَهُ. وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى
_________
(١) هَذِه الْقِرَاءَة تنْسب إِلَى زيد بن عَليّ إِمَام الزيدية. [.....]
210
مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ قَرِينٌ لِلِاهْتِمَامِ بضمير مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أَيْ قَرِينٌ لَهُ مُقَارَنَةً تَامَّةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ يَعْقُوب بياء الْغَائِبِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ على الرَّحْمنِ.
[٣٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٧]
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: ٣٦] أَيْ مُقَارَنَةَ صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرَا إِنَّهُمْ وَ (يَصُدُّونَ) عَائِدَانِ إِلَى شَيْطاناً [الزخرف: ٣٦] لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابَ شَرْطٍ اكْتَسَبَ الْعُمُومَ تَبَعًا لِعُمُومِ مَنْ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ مِثْلُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ عَلَى خلاف بَين أيمة أُصُولِ الْفِقْهِ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ لَا يَجْرِي هُنَا لِأَنَّ عُمُومَ شَيْطاناً تَابِعٌ لِعُمُومِ مَنْ إِذْ أَجْزَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ تَجْرِي عَلَى حُكْمِ أَجْزَاءِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَقَرِينَةُ عُمُومِ النَّكِرَةِ هُنَا لَا تَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ لَا لِمُطْلَقِ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي (يَصُدُّونَهُمْ) عَائِدٌ إِلَى مَنْ لِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْشُو عَن ذكر الرحمان نُقَيِّضْ لَهُمْ شَيَاطِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْطَانٌ.
وَضَمِيرَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ (يَصُدُّونَهُمْ)، أَيْ وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ أَنْفُسَهُمْ مُهْتَدِينَ.
وَقَدْ تَتَشَابَهُ الضَّمَائِرُ فَتَرُدُّ الْقَرِينَةُ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ يَعْقُوب بياء الْغَائِبِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ على الرَّحْمنِ.
[٣٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٧]
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: ٣٦] أَيْ مُقَارَنَةَ صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرَا إِنَّهُمْ وَ (يَصُدُّونَ) عَائِدَانِ إِلَى شَيْطاناً [الزخرف: ٣٦] لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابَ شَرْطٍ اكْتَسَبَ الْعُمُومَ تَبَعًا لِعُمُومِ مَنْ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ مِثْلُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ عَلَى خلاف بَين أيمة أُصُولِ الْفِقْهِ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ لَا يَجْرِي هُنَا لِأَنَّ عُمُومَ شَيْطاناً تَابِعٌ لِعُمُومِ مَنْ إِذْ أَجْزَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ تَجْرِي عَلَى حُكْمِ أَجْزَاءِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَقَرِينَةُ عُمُومِ النَّكِرَةِ هُنَا لَا تَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ لَا لِمُطْلَقِ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي (يَصُدُّونَهُمْ) عَائِدٌ إِلَى مَنْ لِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْشُو عَن ذكر الرحمان نُقَيِّضْ لَهُمْ شَيَاطِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْطَانٌ.
وَضَمِيرَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ (يَصُدُّونَهُمْ)، أَيْ وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ أَنْفُسَهُمْ مُهْتَدِينَ.
وَقَدْ تَتَشَابَهُ الضَّمَائِرُ فَتَرُدُّ الْقَرِينَةُ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: