مكية
وآياتها تسع وثمانون
كلماتها : ٨٣٣ ؛ حروفها : ٣٤٠٠.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم ﴾.شأنها شأن فواتح السور التي تتكون من حروف المعجم، تنطق أسماؤها، فكل حرف منها حين نقرأه ننطق باسمه كاملا [ حاء ] [ ميم ]، وهكذا، ويقال في معناها ما قيل في مثيلاتها : يمكن أن يكون مما استأثر الله تعالى بعلمه، أو يكون اسما للسورة، أو يكون للتحدي بمعنى أن القرآن الكريم مكون من الحاء والميم وما شابههما وهي حروف تتكلمون بها، ولكنكم عجزتم وسيضل الخلق جميعا عاجزين عن الإتيان بكلام مثل كلام الله الحكيم، وفي ذلك برهان على أنه ليس من كلام البشر وإنما هو وحي رب القوى والقدر.
يقسم المولى العليم- تبارك اسمه- بالكتاب الذي بيّن فيه الحق والباطل، والحلال والحرام، وكل ما لو استقام الناس عليه لهدوا وسعدوا.
توكيد من الله الحق أنه سمى القرآن وصيّره ووصفه بأنه القرآن الذي جمع كل النور والموعظة، وأوحي بلسان عربي واضح مستقيم غير ذي عوج.
﴿ لعلكم تعقلون( ٣ ) ﴾.
جاء هدي الكتاب العزيز موافقا لما يسيغه الفكر السليم، فإذا أعملتم فكركم زاد يقينكم فيما يتلوه عليكم نبيكم.
وإن القرآن في اللوح المحفوظ عندنا.
﴿ لعلي حكيم( ٤ ) ﴾.
اللام موطئة للقسم، فهو رفيع القدر، محكم لا اختلاف فيه ولا تناقض.
أفنمسك عن إنزال القرآن لأنكم لا تؤمنون به فلا ننزله عليكم وننحيه ونبعده، ونترك تذكيركم لأنكم قوم أسرفتم في العناد، وأكثرتم من الفساد ؟ !.
و﴿ صفحا ﴾ أي إعراضا ؛ من لطفه ورحمته بعباده- تبارك اسمه- لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن مهما كانوا مسرفين معرضين، بل أمر به ليهتدي من قدر هدايته، وتقوم الحجة على من غلبت عليه الشقوة.
كثير رسلنا الذين أرسلناهم في الأمم الأولى السابقة لكم.
و﴿ كم ﴾ هنا ليست للاستفهام، وإنما للإخبار، والمراد بها التكثير.
يسلي الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن الأمم السابقة استهزأت كل أمة منها برسولها :﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ﴾١.
فكان عاقبة المستهزئين- وهم أشد بأسا من المستهزئين بك من قومك- أن أهلكناهم وقومهم أجمعين، وجعلناهم عبرة للمعتبرين، وانتهى شأنهم ملعونين مقبوحين ؛ و﴿ مثل ﴾ قد تعني : الوصف والخبر، وقد يراد بها العقوبة. و﴿ أشد ﴾ مفعول، أو : حال.
ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون، فإن سألت عُبّاد الأصنام، والمكذبين بالقرآن، من خالق الأرض والسماوات ؟ فإنهم يجيبون : إن خالقهن هو القوي الذي لا يُغلب، الخبير الذي لا يضل، لكن مع ذلك يعبدون معه غيره ؛ وفتنة بعض الذين اتخذوا آلهة من دون ربنا
أن قالوا :﴿ .. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.. ﴾١.
هذا ابتداء إخبار من الله- تبارك اسمه- عن نفسه، فهو سبحانه الذي صير الأرض ممهدة، أو جعل مأوى من عليها وما عليها إليها كمهاد الصبي وفراشه، وصيّر الله ويسّر لنا فيها طرقا ومعايش، رجاء أن يدلنا إحكام الصنعة على حكمة الصانع القدير الخبير ؛ أو جعل لكل طريق علامة لنهتدي بها في أسفارنا، ولا نضل السبيل.
الآيات الأولى من السورة الكريمة كانت لتثبيت الإيمان بالقرآن، وبعدها آيات في سنة الله العزيز في المكذبين للرسل من السابقين واللاحقين، ثم آيات في البرهان على قدرة الخلاق العليم، وهذه مع التذكير بنعم المولى فيها بحجة تزيد اليقين في البعث والآخرة، فربنا بديع السماوات والأرض هو الذي ينزل مطرا من جهة السماء – وما ينزله إلا بقدر معلوم- فيحيل البلاد الهامدة بغيثه ورحمته إلى روضات يانعات وحدائق مثمرات، وزروع نافعات.
﴿ كذلك تخرجون( ١١ ) ﴾.
ومثل هذا الذي نشاهد من حياة الأرض بعد موتها- بإذن الله- يكون إحياؤنا بعد موتنا، وإخراجنا من قبورنا، لنعرض على ربنا، فيجازينا ويقضي-عز مقامه- في مصيرنا.
والله المعبود بحق هو – دون سواه- خالق الأصناف كلها، وما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر، ونفع وضر.
﴿ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون( ١٢ ) ﴾.
وصير وسخر لنا من السفن والإبل ما نركبه في البر والبحر١.
لتستقروا على السفن والإبل.
﴿ ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ﴾.
ثم تتفكروا في فضل الله عليكم أن هيأ لكم ويسر الاستقرار على مراكبكم برّا وبحرا. فتحمدوه.
﴿ وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين( ١٣ ) ﴾.
تنزيها لربنا العظيم، وثناء على الوهاب الكريم، الذي ذلل لنا هذه المراكب والدواب، وما كنا لهذا الخلق- من سفن وإبل ونحوها- بمطيقين، ولا لتصريفه بضابطين، ولا على قوته بغالبين، لولا ما يسر ربنا رب العالمين١.
واليقين الذي لا شك فيه أننا جميعا إلى الله راجعون، إذ الراكب على خطر إلا ما وقى الله، فينبغي أن لا نغفل عن تذكر الآخرة.
أخرج أحمد، وأبو داوود، والترمذي وصححه، والنسائي وجماعة، عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه أنه أُوتِيَ بدابة، فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثلاثا، والله أكبر ثلاثا ﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون ﴾ سبحانك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك فقيل له : مما ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت : يا رسول الله مما ضحكت ؟ فقال :( يتعجب الرب من عبده إذا قال رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ).
وفي حديث أخرجه مسلم، والترمذي، وأبو داود، والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال :( ﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا.. ﴾ إلى ﴿ لمنقلبون ﴾ ).
يبهت القرآن أهل الضلالة والجهالة الذين زعموا للمتعالي ولدا-ذكرا أو أنثى—ويكشف عن سفههم وشططهم ؛ فبعد أن ذكرهم بإقرارهم أن بارئ الكون هو الواحد ذو الجلال-كما شهد بذلك قول الحق جل وعلا.. ﴿ .. ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾١ بكتهم بمقالتهم التي حكتها الآية الكريمة :﴿ وجعلوا له من عباده جزءا ﴾ يعني : إقرارهم بأن خالق السماوات والأرض ليس كمثله شيء يأبى أن تصفوه بصفات المخلوقين، ولا يليق أن تجعلوا العابد جزءا من المعبود وبعضا منه إذ هو سبحانه لا يتجزأ.
يقول بعض المفسرين :﴿ جزءا ﴾ أي بضعا منه، كما يكون الولد بضعة من والده-أي قطعة منه- وفي الأمثال : أولادنا أكبادنا.
﴿ إن الإنسان لكفور ﴾.
يغطي أنعم الله التي جاءته ويخفيها- وأعلاها وأكملها الفطرة الإيمانية- ﴿ .. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.. ﴾٢ وفسرها بعضهم ﴿ إن الإنسان لكفور ﴾ بقوله : يعدّ المصائب وينسى النعم.
﴿ مبين( ١٥ ) ﴾.
مظهر الكفر.
٢ سورة المائدة. من الآية ٣..
﴿ وأصفاكم بالبنين( ١٦ ) ﴾.
واختصكم وآثركم.
ومما جاء في[ الجامع لأحكام القرآن.. ] : عجّب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد ؛ وإن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين ! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين وله الأخس ؟ ! كقوله تعالى :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى ﴾١.
يأنفون من أن تصير لهم بنات، وإذا أُخبر واحد منهم بأن امرأته ولدت بنتا تعلوه الكآبة وكأنما سود الكدر وجهه فهو يخجل أن يلقى الناس من سوء ما بشر به، .. والحسرة تعلو جبينه وتعم جوانحه، والحيرة تملأ نفسه أيمسكها على مذلة أم يدفنها حية ؟ ! فكيف ينفرون من ذلك وينسبونه إلى الله العلي الكبير ؟ !.
﴿ ينشأ ﴾ بمعنى : يشب وينبت، ويكبر ويربى.
﴿ الحلية ﴾ ما تتحلى به المرأة وتتزين.
والمرأة لنقصانها عن الرجل تكمل بلبس الحلي، كما قال الشاعر :
وما الحلي إلا زينة لنقيصة ***يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفرا | كحسنك لم يحتج إلى أن يُزوّرا |
﴿ الخصام ﴾ الجدال.
[ والإبانة ] : الإفصاح عن الشيء وإظهاره ؛ يعني : إذا جادلت الأنثى فهي عاجزة عن تبيان حجتها عيية، لنقصان عقلها وضعف رأيها.
أورد الألوسي ما حاصله : فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى ؛ ومن نقص معناها : عجزها عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة ولا همة ؛ حتى قال بعض العرب وقد بُشر ببنت : ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء وبرها سرقة. اه.
أو من يكون هكذا يُنسب إلى جناب الله العظيم ؟ !
اعتقدوا وزعموا، أو سمّوا وحكموا، أو قالوا فيهم ذلك ؛ فأنكر الله عليهم قولهم ذلك.
﴿ أشهدوا خلقهم ﴾
هل حضروا واطلعوا وكانوا شهودا حضورا خلق الله الملائكة، فعرفوا أن طبيعة خلقتهم مؤنثة ؟ ! ١ وهذا كقوله تعالى :﴿ أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ﴾. ٢
﴿ ستكتب شهادتهم ويسألون( ١٩ ) ﴾.
ستدون ملائكتنا من الكتبة والحفظة عليهم هذا البهتان والزور، ويسألون عنه يوم القيامة، ويجزون بما كانوا يقترفون ؛ فختمت الآية بالوعيد على هذا الزيف والافتراء٣.
٢ سورة الصافات. الآية١٥٠..
٣ السين التي أدخلت على الفعل في القول الرباني الكريم ﴿ستكتب﴾ هل هي لما يستقبل مثلما عدها أهل اللغة [للتنفيس] أي المستقبل القريب في مقابل [سوف] التي للتسويف وهو المستقبل البعيد؟.
وخروجا من ذلك قال بعض المفسرين: السين للتأكيد، وقيل يجوز أن تحمل على ظاهرها من الاستقبال، ويكون ذلك إشارة إلى تأخير كتابة السيئات لرجاء التوبة والرجوع.. اهـ..
عطف على ما بيّن القرآن من ضلال المشركين، فمن ضلالهم وجهلهم وغيهم أن ادّعوا لله تعالى أولادا، وأن وصفوا الملائكة بالأنوثة، وأن عبدوهم من دون الله، وأن قالوا- زورا وافتراء ؛ أو سخرية واستهزاء- لو أراد الله أن لا نعبدهم لم نعبدهم.
﴿ ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون( ٢٠ ) ﴾.
ليس لهم بهذه الأفعال والأقوال من علم، وما هو إلا الحرز والحدس والتخمين.
بل هل أنزلنا عليهم كتابا من قبل هذا- القرآن أو النبي- ؟ يدل على صحة ما ادعوه فهم بالبرهان يتمسكون، وعليه يعولون.
لا بل ليس عندهم برهان من عقل أو نقل، وإنما يريدون متابعة الآباء والأجداد على مذاهبهم الباطلة. و﴿ أمة ﴾ أي طريقة وملة.
﴿ وإنا على آثارهم مهتدون( ٢٢ ) ﴾.
ويؤكدون أنهم ليسوا إلا تابعين لمنهاج الآباء السفهاء ؛ يهتدون إلى طريقهم ؛ والهدى يأتي في القرآن بمعنى الدلالة ولو على ما يسوء الوصول إليه، كما جاء في الآية الكريمة :﴿ .. فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾١.
وكما سقطت حجة المشركين من قومك في مزاعمهم الباطلة، كانت حجة كل المترفين المكذبين السابقين داحضة، إذ أصروا على تقليد الآباء في زيفهم وعوجهم ؛ و﴿ مترفوها ﴾ أي أغنياؤها البطرون المحبّون للبطالة، كأن تنعمهم وعكوفهم على الشهوات قصر هممهم عن تعرف طرق الحق والخير، وزيّن لهم التقليد ؛ وفي الآية تسلية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس أول من عانده وكذبه قومه، بل هي سنة الله في الذين خلوا من قبل :﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك.. ﴾١.
﴿ وإنا على آثارهم مقتدون( ٢٣ ) ﴾.
وأصروا على الاقتداء بأسلافهم في الغي والبغي ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
قال كل رسول لمن ركن إلى تقليد الأسلاف : أتفضلون اتباعهم ولو دعوتكم إلى طريق أهدى وأقوم مما يدين به من تقدموكم ؟ ! أو قال محمد لقومه : أو ليس قد جئتكم من عند الله بأرشد مما عرفتموه من حيرة آباءكم وضلالهم الذين لم يعرفوا الهدى قط ؟ !.
﴿ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون( ٢٤ ) ﴾.
قال المشركون المقلدون ردا على ما نادى إليه المرسلون : لن نؤمن بما جئتم به ؛ من شقوتهم تمادوا في التكذيب والنكران والجحود.
جازى الله- بقدرته- الجاحدين، فهزمهم وحرمهم وأذل شأنهم، فليتدبر كل عاقل وليُعمل بصيرته فيما يؤول إليه أمر الفاسقين الكافرين، كما حُرِمت قريش المطر سبع سنين، ثم قتل كبراؤهم يوم بدر وانقلبوا صاغرين- وكذلك يجزي الله كل كفور.
واذكر وقت قول إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الملوك والكواكب والأصنام- وقد أبطل إفكهم بالحجة والبرهان، فتمادوا في الضلال والبهتان- قال لهم : إنني بريء مما عبدتم، إذ ما عبدتم من دون الله إلا الخلق والأوثان.
لكن الذي يستحق العبادة وأدعوكم إلى تقديسه والإيمان به هو الخالق الذي خلقني وخلقكم، فاعبدوا الذي خلقكم :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾١ وهو- بفضله- يثبّت على الهداية، والسين للتوكيد لا للاستقبال.
جعل الله كلمة الإيمان والتوحيد والإسلام باقية بعد إبراهيم في ذريته وإلى يوم الدين استجابة لدعوته عليه الصلاة والتسليم :﴿ .. واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾١ ﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾٢ كي يرجع من اعوج أو غوى، فيعود إلى طريق الحق والهدى.
٢ سورة البقرة. الآية ١٣٢..
لكني متعت الكفار الذين دعوتهم يا محمد، كما متعت أسلافهم بطول العمر، وسعة الرزق، ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وبغيهم، حتى جاءهم الكتاب الحق- القرآن الذي لا يأتيه الباطل- وبعث إليهم رسول يبين الرشد ويهدي للتي هي أقوم.
وحين آتاهم رسولنا بكلامنا الحكيم الهادي إلى الطريق المستقيم، لم يكفهم إعراضهم عنه، بل سخروا من النبي ومن الوحي الذي أنزل عليه، فسمّوا الكتاب العزيز سحرا- تخييلا وأوهاما- واستعلنوا بجحودهم له.
وكأنهم- وهم يجادلون بالباطل ليخفوا ويطمسوا به الحق- أضافوا إلى التطاول على الرسالة والرسول تطاولا على اصطفاء الله- تبارك اسمه- فقالوا : هلا ألقى هذا الوحي إلى عظيم من عظماء إحدى القريتين- مكة والطائف- ؟
تعجيب من حالهم، وتجهيل وإنكار لمقالهم، إذ تحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول من أصحاب الأموال والأولاد ومتع الدنيا، فهل هم المدبرون للأمر ؟ ! كلا :﴿ .. الله أعلم حيث يجعل رسالاته.. ﴾١.
﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾.
إن أمور الدنيا ليس لهم من تدبيرها شيء، وإنما قضت حكمتي أن أقسم بينهم أسباب معاشهم وما به يحيون ويتمتعون، وأفضل بعضا على بعض في الرزق وما فيه يتقلبون، وأجعلهم في ذلك على درجات متفاوتة- في قوتهم وضعفهم، وغناهم وفقرهم، وسلطانهم وجاههم- ليسخر الأغنياء الفقراء، وليستعمل بعضهم بعضا في المهن والأعمال حتى يتعايشوا، لا لكمال فيمن وسعنا عليه، ولا لنقص في المُقتّر عليه.
﴿ ورحمت ربك خير مما يجمعون( ٣٢ ) ﴾.
جنة الله ورضاه، وفضله وهداه، ونبوة من اصطفاه، أفضل من كل متع الحياة.
توكيد لهوان الدنيا- وحطامها وزينتها- على الله، إذ لولا كراهة أن يُفتن الناس بالعاجلة فيطلبوها ولو بالخروج من الإيمان، والاجتماع على الكفر- لولا هذا لأتم الله زهرة الدنيا لمن كفر فجعل سُقُفَ بيوتهم من الفضة، وجعل لهم مصاعد- يعلون بها السطوح- تكون من الفضة كذلك.
ولأعطيناهم لبيوتهم أبوابا وسررا من الفضة يتكئون-كالملوك- على سررهم لا يشغلهم عن ذلك شيء.
ولأعطيناهم وجعلنا لبيوتهم نقوشا وأثاثا وتجميلا مزخرفا ؛ وما كل ما ذكر إلا شيء يتمتع به في حياة عاجلة زائلة باطلة، قد يشاركه أو يفضله في الاستمتاع بها الحيوان ﴿ .. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.. ﴾١.
روى الترمذي-وصححه-وابن ماجه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء ).
﴿ والآخرة عند ربك للمتقين( ٣٥ ) ﴾.
وما في الحياة الآجلة الباقية من نعيم لا يبلى، وملك لا يفنى، وقرار لا يتحول، في ضيافة المولى الكريم، البر الرحيم لمن اتقى السوء والشرك.
ومن يعرض ويتعامى عن القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين به، بل وفيه الرحمة للعالمين- من يغلق بصره وبصيرته عن هذا الذكر نُتِح له ونسبب شيطانا- وسمي هكذا لأنه شطن عن الحق والخير والطاعة وبعد- يقارنه ويلازمه زيغا على زيغه جزاء استكباره عن آيات ربه.
وإن الشياطين القرناء يزينون لقرنائهم الشرور والفجور، ويخلطون عليهم الأمور حتى يروا حسنا ما هو سيء، وفي أمثالهم يقول الله-تبارك اسمه- :﴿ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾١ فهم يرجعونهم عن سلوك سبيل السعادة وطريقها، ويظنون أن ما اختاروه من الكفران والغرور هو الهدى.
يبقى العاشون يتولى بعضهم بعضا وهم عن الحق مفتونون، حتى إذا بعثوا لملاقاة ربهم قال كل واحد منهم لقرينه ليتني ما كنت لقيتك، وليتني أتباعد عنك بعد المشرق عن المغرب ؛ يقول اللغويون : مثل هذه المثنيات يغلبُ فيها أحد اللفظين على الآخر ثم يثنيان، كالمغربين- يراد المشرق والمغرب- وكالموصلين- للموصل والجزيرة- وكالقمرين- للشمس والقمر- وكالأبوين-للأب والوالدة، والأب لم يلد إنما تلد الأم فغلب أحدهما على الآخر- وكالأبوين-للأب والأم.
﴿ فبئس القرين( ٣٨ ) ﴾.
يتخاصم الكفار والفجار، ويتلاعنون في الآخرة ويتلاومون، ويكفر بعضهم ببعض ويندمون، لكن حين لا ينفع الندم، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
ربما يكون هذا مما سيقال لهم يوم القيامة من الله تبارك وتعالى- توبيخا لهم وتحسيرا- لن ينفعكم قولكم وندمكم وتمنيكم البعد عن قرنائكم، إذ تبين ظلمكم في حياتكم الدنيا، وأنتم هنا في العذاب مشتركون، مستسلمون لا تتناصرون.
استفهام قد يراد به النفي ؛ والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنه لتفريج همه وحزنه على غيهم. هؤلاء العاشون عمُوا عن سبيل الرشاد، وصمّوا عن نداء الحق، واختاروا الضلال البين منهاجا :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ﴾.
﴿ ما ﴾ للتوكيد. فأقسم لئن قبضناك وتوفيناك يا محمد قبل أن نُخْزِيَ الكافرين ونهزمهم ونخذلهم فإنا سننزل العذاب بهم في الدنيا قبل الآخرة.
وإذا أحييناك حتى ترى خذلانهم ونصرة أهل الإيمان عليهم فذلك في مقدورنا، فإن سلطاننا وملكنا عليهم وعلى كل المخلوقين.
أمر لنا في شخص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نداوم على تقديس ما أوحي إلينا من ربنا، نُحلّ حلاله، ونحرّم حرامه، وننفذ أحكامه، مع تلاوته وتدبره طرفي النهار وزلفا من الليل بل وساعات العمر ما وسعنا ؛ إنه الطريق التي لا عوج فيها ؛ وذلك عهد الله إلينا، نوقن به حين لا نرى انتقام الله العاجل من المجرمين، أو حين نشهده ويشفي الله بالنصر قلوب قوم مؤمنين.
وإن الكتاب العزيز لشرف لك ولقومك، وسوف تسألون عن الوفاء بأماناته، وتبليغ هداياته، وتقديس آياته، ".. والقرآن حجة لك أو عليك.. ".
الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وسبب الأمر بالسؤال : أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك- ويشهد لهذا الرأي قوله تعالى :﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل.. ﴾١ ومثله في القرآن كثير- فأمر الله بسؤاله الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير، لا أنه كان في شك منه ؛ رووا أنه سألهم – صلوات الله عليهم أجمعين- ليلة الإسراء به، فقالت الرسل : بعثنا بالتوحيد ؛ فهل حكمنا بعبادة أحد غير الله سبحانه الخلاق العليم الرحمن الرحيم ؟ !
[ الملأ ] الأكابر والكبراء والمتبوعون.
والحق أننا بعثنا موسى مؤيّدا بالكلام الرباني الحكيم، وبالمعجزات الحسية التسع : اليد، العصا، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، نقص الأموال والثمرات- بعثناه إلى فرعون ملك مصر الذي ادعى أنه الرب الأعلى، وإلى قوم فرعون- وإنما خص الملأ لأن غيرهم تبع لهم- فذكّرهم بأن الخلاق الوليّ مدبر الأمر هو الله المنفرد بالسلطان، والمستحق للعبادة.
فحين أراهم موسى آيات ربنا القوي القدير سخروا منها واستهزؤوا.
وما ساق إليهم موسى- بأمرنا- معجزة إلا وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. و﴿ أختها ﴾ بمعنى تناسبها وتشاكلها وتماثلها في الدلالة على النبوة الحقة.
﴿ وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون( ٤٨ ) ﴾.
ضيقنا عليهم معايشهم، وسقنا بعضا من البلاء عسى أن يرجعوا عن الغواية، ويسلكوا طريق الإيمان والهداية ؛ وتلك من سنن الله- تبارك اسمه- مضت في الأولين، وتمضي إلى يوم الدين :﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ﴾١ ﴿ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ﴾٢.
٢ سورة السجدة. الآية ٣١..
سخروا من موسى صلى الله عليه وسلم، وأوهموا قومهم أن ما جاءهم به من معجزات إنما هو تخييل وسحر، فلما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر، نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل، أو أرادوا : يا أيها الذي غلبنا على سحرنا بسحره ؛ ادع ربك الذي عهد إليك أنّا إن آمنا كشف عنّا، فسله يكشف ما حل بنا، إننا سنكون من المتبعين للهدى الذي ناديتنا إليه.
فدعانا موسى فاستجبنا له، فلما رفعنا ما حل بهم من البلاء، إذا هم ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه من الإيمان والاهتداء، وذلك شأن أهل الطغيان والخسران ﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ﴾١ ﴿ .. حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.. ﴾٢.
٢ سورة يونس. من الآيتين٢٢، ٢٣..
وكان الطاغية فرعون خاف أن يفتتن أهل مصر بما يسوق الله على يد موسى-صلوات ربنا عليه وتسليمه- فنادى في زعمائهم أنه صاحب السلطان المسيطر على البلاد، والمتحكم في أنهارها- ومن مائها حياة الإنسان، والزرع والحيوان-أفلستم ترون ذلك، وعلى يقين منه ؟ !.
بعد ما عدد فرعون ما يختال به من مفاخر، أراد أن يتحدث عن موسى بما افتراه عليه من المهانة والعيّ.
تمادى اللعين يشك في صدق موسى- عليه صلوات الله وعلى سائر المرسلين- فقال ما حكاه الكتاب الحكيم : أي إن كان موسى صادقا في دعوى الرسالة فهلا ألقى ربه عليه أساور الذهب ؛
﴿ أو جاء معه الملائكة مقترنين( ٥٣ ) ﴾.
أو بعث معه ملائكة يمشون معه ويعاونونه ويهيبونه.
أوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد. ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية، وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى- مع تفرده ووحدته- من فرعون مع كثرة أتباعه ؛ وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا.. أو دليلا على صدقه.. لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم.
فما أسرع انصياع قومه له، وانخداعهم بتضليله، لأنهم غواة، خفاف أحلامهم وعقولهم، ولذلك أعرضوا عن الحق الذي جاء به موسى، وأقبلوا على ما زينه فرعون لهم من شر وباطل.
فبتماديهم في الإفك استنزلوا غضب الله وبطشته العاجلة، فأغرقهم المولى القدير، لم يفلت منهم فاجر واحد.
فصيرناهم عبرة لمن يأتي بعدهم، أو كالقدوة للكفار الذين يأتون بعدهم يستوجبون مثل عقابهم إذا اقتدوا بهم، فينزل الله عليهم من بأسه مثل الذي أحل بسابقيهم وأسلافهم.
نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعري حالة كفره١ لما قالت قريش إن محمدا يتلو :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم.. ﴾٢ فقال : لو حضرته رددت عليه، قالوا : وما كنت تقول له ؟ قال كنت أقول له : هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرا، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم ؛ و﴿ يصدون ﴾ يعني يعجبون ويضحكون ويضجون ؛ أو يعرضون ؛ أو : من أجل الميل يعدلون عن الحق وينحرفون. فأنزل الله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾٣.
روى ابن إسحاق في السيرة.. قال : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاءه النضر بن الحارث حتى جلس معهم-وفي المجلس غير واحد من رجال قريش- فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون.. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ﴾٤ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري التميمي حتى جلس، فقال الوليد ابن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته ؛ سلوا محمدا : أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ؛ واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم ؛ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال٥ :( كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته ) فأنزل الله عز وجل :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾أي عيسى والعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكر أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون. ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ﴾٦.
يا رسول المليك إن لسانـــــــــي | راتق ما فتقت إذا أنا بور |
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ | ي ومن مال ميله مثبور |
وقال:
مما أتاني أن أحمد لامني | فيه فبت كأنني محموم |
فاليوم آمن بالنبي محمد *** قلبي ومخطئ هذه محروم.
٢ سورة الأنبياء. الآية ٩٨..
٣ سورة الأنبياء. الآية ١٠١..
٤ سورة الأنبياء. الآيات:. ١٠٠، ٩٩، ٩٨.
٥ مع أن الحديث من رواية أهل السير فإن معناه صحيح وحق دل عليه القرآن في مثل قول الله تبارك اسمه:﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى.....﴾وقوله سبحانه:﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق..﴾والحديث يخص"من أحب أن يعبد"..
٦ سورة الأنبياء. الآيات: ٢٩، ٢٨، ٢٧، ٢٦..
وقال المشركون- لجاجة ومراء- أألهتنا أفضل أم عيسى ؟ ما ضربوا لك هذا المثل وساقوه إلا للددهم في الخصومة، وتلمسهم للمماراة، محاولة منهم لطمس الحق﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾١.
مما نقل عن السدّي : خاصموه وقالوا : إن كل من عُبِدَ من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾.
ونقل القرطبي عن قتادة :﴿ أم هو ﴾ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال : فهو استفهام تقرير في أن آلهتهم خير. و﴿ جدلا ﴾ حال، أي جدلين. يعني ما ضربوا لك هذا المثل إلا إرادة الجدل، لأنهم علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموات :﴿ بل هم قوم خصمون ﴾ مجادلون بالباطل.
وفي صحيح الترمذي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل- ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية :﴿ ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ﴾.
ما عيسى بإله، وما خلقه من غير أب، وإحياؤه الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وذوي الأسقام إلا لأننا أنعمنا عليه وأردناه عبرة لبني إسرائيل ؛ ففي كل ما رأيتم من شأن عيسى ابن مريم علامات بينات على قدرة الخالق – تبارك اسمه- وحجة على كل من اقترف زورا في أمر المسيح- عليه السلام- إفراطا أو تفريطا-﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم.. ﴾١ ﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام.. ﴾٢﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية.. ﴾٣ ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾٤.
٢ سورة المائدة. من الآية ٧٥..
٣ سورة المؤمنون. من الآية ٥٠..
٤ سورة آل عمران. من الآية ٥٩..
ولو أردنا لجعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الأرض ويعمرونها، ويكونون مكانكم بعد إذهابكم. ف[ من ] في﴿ منكم ﴾ للبدل، وليست للابتداء ولا للتبعيض، أو﴿ يخلفون ﴾ يخلف بعضهم بعضا.
وإن نزول عيسى-عليه السلام- وخروجه لمن العلامات التي يُعلم بها اقتراب الساعة ومجيء القيامة، فلا تَشُكُّنَّ في وقوعها وإتيانها، واتبعوا ما جئت به، فإن الذي أدعوكم إليه هو الطريق المعتدل الموصل إلى الحق والنجاة.
يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : تقدم تفسير ابن إسحق أن المراد من ذلك ما بُعِثَ به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وغير ذلك من الأسقام، وفي هذا نظر ؛ وأبعد منه ما حكاه قتادة عن الحسن البصري وسعيد ابن جبير أن الضمير في ﴿ وإنه ﴾ عائد على القرآن ؛ بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام، فإن السياق في ذكره ؛ ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة، كما قال تبارك وتعالى :﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته.. ﴾١ أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام﴿ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ﴾٢.. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا، وحكما مقسطا. اه.
وفي صحيح مسلم :( فبينما هو- يعني المسيح الدجال- إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق. بين مهرودتين٣ واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونَفَسه- ينتهي- حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ٤ فيقتله.. ).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ).
٢ سورة النساء. من الآية ١٥٩.
٣ أي: شقين أو حلتين..
٤ لدّ: قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين..
لا يردنكم الوسواس ولا يمنعنكم إبليس وأعوانه عن اتباع الحق ودعوة الرسل، فإنهم جميعا- صلوات الله وسلامه عليهم- لم تختلف شرائعهم في وجوب عبادة المولى سبحانه وطاعته، ولا فيما يكون من أمر الآخرة من موت وبعث وحساب وجزاء، أما نزغ الشيطان فاحذروه فإنه واضح العداوة لكم، حيث أبى السجود لأبيكم، وأقسم ليغوينكم، وحسدكم على ما كرمكم به ربكم.
ولما آتاهم عيسى بالعلامات والمعجزات الدالة علة صدق نبوته وقدرة من أرسله سبحانه- أو بآيات الإنجيل وفيها الهدى والنور، قال : قد جئتكم بما هو موافق للصواب، ولأوضح لكم وجه الحق في بعض ما اختلفتم فيه. فاحذروا الله أن يراكم على ميل عن الحق، وأطيعوا أمر ربكم الذي بعثني به.
[ وإذا كان هذا قول عيسى فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله ] ؟ ١ ﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله.. ﴾٢.
٢ سورة آل عمران. من الآية ٧٩..
توكيد لأهم مطالب الإيمان ﴿ إن الله هو ربي وربكم ﴾ ؛ وأمر جامع للعمل الصالح ﴿ فاعبدوه ﴾ ؛ وهذا الإيمان والعمل الصالح طريق لا تلتوي، معتدلة توصل إلى رضوان الله تعالى وجنته، [ وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق ]١.
يقول ابن كثير : أي أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له.
فتفرقت الشيع والطوائف التي بعث إليها عيسى-عليه الصلاة والسلام- فمنهم ملكانية ومنهم يعقوبية ومنهم نسطورية.. فنكال مُعَدّ لمن لم يشهد أنه عبد الله ورسوله، والعذاب الموجع ينتظرهم يوم القيامة.
[ منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق، ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول : إنه الله ؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ]١.
وعن السدّي فقالت النسطورية : هو ابن الله، وقالت اليعاقبة : هو الله. وقالت الملكية : ثالث ثلاثة أحدهم الله.
هل ينتظر المختلفون في أمر عيسى إلا أن تحل بهم القيامة فجأة وهم في غفلة لا يفطنون لها. أو لا ينتظروا مشركو العرب إلا الساعة، ويكون﴿ الأحزاب ﴾ على هذا : الذين تحزبوا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه من الكافرين.
ويوم تقوم الساعة تنقطع كل خلة﴿ .. من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.. ﴾١﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ﴾٢ إلا المتصادقين في الله عز وجل.
٢ سورة العنكبوت. الآية ٢٥..
ينادي المتقون المتحابون فيقال لهم : يا عبادي لا خوف عليكم من وقوع مكروه، ولا أنتم تحزنون لفوات محبوب.
كل من في السماوات والأرض هم عبيد لله الكبير المتعال الملك القدوس، لكن الأمن وانصراف الحزن لا يكون إلا لأهل ولاية ربنا سبحانه، وهم المصدقون المستيقنون بمطالب الإيمان- آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والآخرة- وكانوا منقادين لشرع الله، مستقيمين على منهاجه، مخلصين الدين له.
يا عبادي الذين آمنوا تبوؤا منازلكم في الجنة ومعكم نساؤكم المؤمنات أو زوجاتكم من الحور العين، وابقوا فيها مكرمين مسرورين، وما أنتم منها بمخرجين ؛ وقد أذهبت عنكم الحزن والنصب، ولن تذوقوا الموت ولكن ستنعمون خالدين.
ومطاعم أهل الجنة ومشاربهم ميسورة موفورة، وآنيتهم الذهب، ويقوم على خدمتهم﴿ .. ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ﴾١ وكل ما تتمناه الأنفس ويطيب مرآه للأعين فإنه مضمون لهم ﴿ .. ولهم ما يدعون ﴾٢، وهم ماكثون في الجنة لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم.
٢ سورة يس. من الآية ٥٧..
ومع ما يطاف به من طعام وشراب وما يشتهون، تدنو ثمار الجنة وتكثر :﴿ .. كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها.. ﴾١.
[ لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في أشجارها، فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها- كما في الدنيا- ]٢.
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
إن الكفار، وعشاق الجرائم الفجار ماكثون في النار، لا يخرجون منها.
ولا يضعف ولا يخفف ولا يسكن عنهم العذاب، بل يحيرهم ويسكتهم لشدة بأسه، وانقطاع حجتهم :﴿ ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾١.
ومهما طال العذاب واشتد فما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم كانوا يظلمون، بتأبيهم عن الحق، وبغيهم على الخلق.
يستشفعون بمالك-عليه السلام- خازن النار ويستغيثون به لهول ما يلاقون قائلين : ليمتنا ربك فنستريح مما نحن فيه.
مما أورد الألوسي : وهذا لا ينافي الإبلاس.. فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا خلاص لهم ولو بالموت. ويغوثون أوقاتا لشدة ما بهم.. اه.
فيجيبهم مالك : إنكم مقيمون في العذاب أبدا لا تخلصون منه بموت ولا بغيره.
وينادون من قبل المولى- تبارك اسمه- لقد بيّنا لكم الحجج وأرسلنا إليكم الرسل، ولكن الأكثرين منكم كانوا لا يقبلون الحق وينفرون منه ويشمئزون ﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة.. ﴾١.
بل يظنون أنا لا نسمع ما يسرون به، وما يكون في خلواتهم من حديث خفي ؟ بلى ! إنا نسمع ذلك ونعلمه، وملائكتنا يدونونه ويدونون كل ما يقولون وما يفعلون، والملائكة الكتبة تلازمهم فلا تغادر صغيرة ولا كبيرة من أفعالهم وأقوالهم إلا نسختها :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ﴾١.
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما :﴿ إن ﴾ بمعنى[ ما ]. والمعنى ما كان للرحمن ولد، ولا وجدت له ذرية، وأنا أول الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له.
أو يكون المعنى :[ قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد ]١.
تنزه بارئ السماوات والأرض ومالك العرش عن وصفهم الذي يصفونه به من كونه سبحانه له ولد.
دع يا محمد كفار مكة، واتركهم يخوضوا في لهوهم، ويتخبطوا في باطلهم حتى يتلقوا اليوم الذي وعدوا العذاب فيه في دنياهم وأخراهم.
هو المعبود في السموات وفي الأرض، والقائم على أمرهما، وهو الذي يدبر الأمر موافقا للحكمة والصواب، ويقدره على علم فليس في فعله جهل ولا عبث.
وكثر خير الله الذي يملك السماء والأرض بما فيهما وما بينهما من هواء وسحاب وغيرها، ويعلم وقت قيام الساعة، وإليه يرجع الخلائق للحساب والثواب والعقاب.
ما للظالمين من شفيع ولا حميم يطاع، وما تغني عن المشركين آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عز وجل، لكن من شهد بالحق منهم على علم يؤذن له :﴿ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ﴾١.
يقول القرطبي : أراد ب﴿ الذين يدعون من دونه ﴾ عيسى وعزيرا والملائكة، والمعنى لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة.. وقيل إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه، فأنزل الله :﴿ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق ﴾ أي : اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم، ولا شفاعة لأحد يوم القيامة.. قيل.. ﴿ إلا ﴾ بمعنى لكن، أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق، فهو استثناء منقطع.. قوله تعالى :﴿ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ﴾ يدل على معنيين : أحدهما-أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة ؛ والثاني- أن شرط سائر الشهادات في الحقوق أن يكون الشاهد عالما بها ؛ ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ). اه.
وإن سألت المشركين هل خلقتهم أصنامهم وما يشركون ؟ فسيقرون بأن الله خالقهم، فكيف ينقلبون عن عبادة الخالق وينصرفون عنها ويدعون مع الله آلهة أخرى ؟ !.
[ والمراد التعجب من إشراكهم مع ذلك ؛ وقيل : المعنى : فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك، فهو تعجب من عبادة غيره تعالى وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم ]١.
نحن نعلم ما يسرون وما يعلنون، ونعلم قول الرسول يا رب إن هؤلاء قوم استحبوا العمى على الهدى، واختاروا الكفر على الإيمان.
[ والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد، والمنادى وما في خبره مقول القول، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم، وفي الإشارة إليهم ب﴿ هؤلاء ﴾ دون قومي ونحوه تحقير لهم، وتبرؤ منهم لسوء حالهم ؛ والمراد من إخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم ]١.
أمر الله تعالى نبيه أن يعرض عنهم ولا يحزن لتماديهم في ضلالهم، فليعرض عنهم وليتركهم، فإن لهم مع الله الواحد القهار موعدا سيعلمون حين يجيء كم كان ضلالهم وغيهم.
[ وأصل الصفح ليّ صفحة العنق فكني به عن الإعراض. ﴿ وقل ﴾ لهم ﴿ سلام ﴾ أي أمري سلام منكم ومتاركة، فليس أمرا بالسلام عليهم والتحية ؛ وإنما هو أمر بالمتاركة.... وإن أريد بالآية الكف عن القتال فهي منسوخة، وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة. والله تعالى أعلم ]١.