تفسير سورة الزخرف

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وحذرتهم عقب ذلك من الإعراض عن ذكر الله، ورغّبتهم في النعيم الأبدي في الآخرة، وامتنّت عليهم بأن القرآن شرف لنبي الله صلّى الله عليه وسلّم ولهم على السواء:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [٤٤].
ثم ختمت السورة ببيان وصف نعيم الجنة الذي لا مثيل له، والمخصّص للمؤمنين بآيات الله المسلمين المنقادين لربهم، وإيضاح أهوال القيامة وشدائد الأشقياء أهل النار حيث يتقلّبون في عذاب جهنم، وإفلاسهم من شفاعة الأصنام والآلهة المزعومة، وإعلان اليأس من إيمان هؤلاء المشركين والإعراض عنهم، فسوف يعلمون ما يلقونه من العذاب.
القرآن كلام الله بلغة العرب وعقاب المستهزئين بالأنبياء
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
الإعراب:
جَعَلْناهُ قُرْآناً بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، وقُرْآناً حال.
114
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: خبران ل «إن» وفِي أُمِّ الْكِتابِ متعلق ب «علي» أو حال منه، ولَدَيْنا بدل من أُمِّ الْكِتابِ أو حال من الْكِتابِ.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ.. صَفْحاً: منصوب على المصدر، لأن معنى أَفَنَضْرِبُ أفنصفح. وأَنْ كُنْتُمْ بالفتح بتقدير لأن كنتم، وقرئ بالكسر: «إن» على أنها شرطية. وفاء أَفَنَضْرِبُ للعطف على محذوف، أي أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَشَدَّ: مفعول به، أو حال، وبَطْشاً: تمييز.
البلاغة:
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً... استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، يعني أنا لا نترك هذا التذكير والإنذار بسبب كونكم مسرفين.
المفردات اللغوية:
حم هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة الأحكام المبينة في السورة وَالْكِتابِ أي أقسم بالقرآن على أنه مجعول قرآنا عربيا الْمُبِينِ الموضح لطريق الهدى والشرائع والأحكام إِنَّا جَعَلْناهُ أوجدنا القرآن- الْكِتابِ- قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه أيها العرب.
وَإِنَّهُ مثبت، معطوف على إِنَّا فِي أُمِّ الْكِتابِ اللوح المحفوظ، فإنه أصل الكتب السماوية لَدَيْنا عندنا لَعَلِيٌّ رفيع الشأن لكونه معجزا من بينهما، مهيمنا على الكتب قبله حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي أنهملكم ونترككم فنمسك عنكم القرآن إمساكا، فلا تؤمرون ولا تنهون لأجل ما. أو أننحي عنكم القرآن، وتنحيته عنهم إعراض، يقال: ضربت وأضربت عنه:
تركته، والذِّكْرَ: القرآن، وصَفْحاً: إعراضا. والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب بلغتهم ليفهموه.
أَنْ كُنْتُمْ أي لأن كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ متجاوزين الحد في الإسراف، مشركين بالله، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم، أي لا نترككم لكونكم مشركين وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي ما أتاهم نبي إلا استهزءوا به، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه.
115
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أشد من قومك قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سبق وسلف في آيات الله بيان قصتهم العجيبة وإهلاكهم، فكذلك يكون قومك مثلهم، والآية وعد للرسول، ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.
الغاية والهدف من الآيات:
يريد الله تعالى أن يؤكد كون القرآن بلغة العرب، مما يقتضي إيمان العرب قاطبة به، فهم أقدر الناس على فهمه وإدراك معانيه، ويؤكد أيضا أن القرآن كلام الله ومن عنده، فهو محفوظ مصون في اللوح المحفوظ، وليس من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم كما تزعمون، وأن الإعراض عنه لا يكون سببا لترك تذكيرهم به، فضلا من الله ونعمة ورحمة، وليعتبروا بمصائر أمثالهم من الأمم التي أهلكها الله.
التفسير والبيان:
حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ تقدم بيان المراد من حم. ثم يقسم الله بالقرآن نفسه البيّن الواضح الجلي المعاني والألفاظ، المبين طريق الهدى وكل ما يحتاج إليه الناس في الدنيا والآخرة.
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي إنا أنزلنا هذا القرآن بلسان العرب أو اللغة العربية التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، وقد جعلناه بلغة العرب فصيحا واضحا، لتفهموه أيها العرب، وتتدبروا معانيه، كما جاء في آية أخرى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٥].
والآية جواب القسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد. ولعل: للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالما بعواقب الأمور، فكان المراد هاهنا كما ذكر الرازي وغيره: أنزلناه قرآنا عربيا لكي تعقلوا معناه، وتحيطوا بفحواه.
هذا في الأرض، وأما في السماء فقال تعالى:
116
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أي وإن هذا القرآن في اللوح المحفوظ عندنا رفيع القدر، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك «١»، عظيم الشرف والمكانة، ذو حكمة بالغة، ومحكم النظم لا يوجد فيه لبس واختلاف ولا تناقض، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة ٥٦/ ٧٧- ٨٠] وقال سبحانه: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس ٨٠/ ١١- ١٦] «٢».
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟ أي أنترككم دون إنذار، ونطوي عنكم القرآن طيا دون تذكير، ولا وعظ ولا أمر ولا نهي، لأنكم قوم منهمكون في الإسراف، مصرّون على الشرك؟ لا نفعل ذلك لطفا ورحمة منا بكم، فلا نترك دعوتكم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن، وإن كنتم مسرفين معرضين عنه، بل نأمر به ليهتدي المهتدون في قدر الله وعلمه، وتقوم الحجة على الأشقياء «٣».
ثمّ سلّى الله رسوله عما يلقاه من صدود قومه، فقال:
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ كَمْ: هنا خبرية، أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة، فكذبوهم، كما قال تعالى:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وما أتاهم من نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون، كتكذيب قومك واستهزائهم بك.
(١) غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري: ٢٥/ ٤٣
(٢) وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف، تشبها بالملائكة الأطهار، لتعظيمه.
(٣) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٢٢.
117
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي فدمرنا وأهلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك يا محمد، وقد سلف في القرآن ذكرهم أكثر من مرة وعرفت سنة الله فيهم، وإذا علمتم ما آل إليه أمرهم بسبب تكذيب الرسل، فاحذروا الوقوع في مثل مصائرهم.
فالمثل: سنتهم أو عقوبتهم كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [غافر ٤٠/ ٨٢].
أو المثل: عبرتهم، أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف ٤٣/ ٥٦] وقوله سبحانه: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر ٤٠/ ٨٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية:
١- القرآن الكريم أنزله الله بلسان العرب، لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، وجميع ما في القرآن عربي مادة ومعنى، لفظا ونظما، فقد أقسم الله سبحانه بالقرآن أنه جعله عربيا، وأنه جعله مبيّنا، فهو المبيّن للذين أنزل إليهم، لأنّه بلغتهم ولسانهم، ولأنه الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة، وأبان فيه أحكامه وفرائضه.
٢- ليس إنزال القرآن باللغة العربية دليلا على أنه خاص بالعرب دون العجم، لأن نصوصه قاطعة الدلالة على عالمية الإسلام للناس كافة، كما هو معروف في مواضع متقدمة، لذا كان تفسير ابن زيد لقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ:
لعلكم تتفكرون هو الأولى، لأنه على هذا التأويل يكون خطابا عاما للعرب
118
والعجم. أما على تفسير ابن عيسى: لعلكم تفهمون أحكامه ومعانيه، فيكون خاصا للعرب دون العجم «١».
والظاهر إرادة كلا المعنيين ولا يلزم التخصيص بالعرب، لأن عموم الرسالة الإسلامية من المبادئ الكبرى المعروفة.
وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يدل- كما ذكر الرازي- على أن القرآن كله معلوم، وليس فيه شيء مبهم مجهول، خلافا لمن يقول: بعضه معلوم، وبعضه مجهول «٢».
٣- وصف الله تعالى القرآن في السماء بأنه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج ٨٥/ ٢١- ٢٢]، ثم وصف اللوح المحفوظ بأربع صفات هي:
الأولى- أنه أُمِّ الْكِتابِ وأصل كل شيء: أمه، أي أن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ.
الثانية- وأنه لدى الله بقوله لَدَيْنا. وإنما خصه الله بهذا التشريف لكونه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته.
الثالثة- كونه عليا، أي كونه عاليا عن وجوه الفساد والبطلان.
الرابعة- كونه حكيما، أي محكما في وجوه البلاغة والفصاحة، وذو حكمة بالغة. ويرى مفسرون آخرون أن هذه الصفات كلها صفات القرآن.
وهذا على تفسير أم الكتاب باللوح المحفوظ، وفي تفسير آخر أنه الآيات المحكمات لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران ٣/ ٧]
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٦١.
(٢) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٩٣.
119
والمعنى: أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
٤- إن اختيار المشركين دين الشرك لا يمنع من تذكيرهم، ووعظهم، وأمرهم، ونهيهم، لطفا من الله ورحمة بهم، وقطعا لحجتهم بعدم البيان والتكليف.
٥- إن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا داعي أيها الرسول وأتباعه للتأذي من أقوام، بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء، لأن المصيبة إذا عمّت خفّت.
٦- إن عدد الأنبياء في البشر كثير، فما أكثر ما أرسل الله من الأنبياء، ولكن الله تعالى أهلك أقوامهم الذين كذبوهم واستهزءوا بهم، بالرغم من أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. ومضى مثلهم في الأمم الغابرة.
والمثل: العقوبة أو السنّة أو الوصف والخبر، أي سلفت عقوبتهم، أو صفة الأولين بأنهم أهلكوا على كفرهم، أو مضت سنة الله فيهم.
فإذا سلك كفار مكة وغيرهم في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم، فقد ضرب الله لهم مثلهم، كما قال: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ [الفرقان ٢٥/ ٣٩] وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم ١٤/ ٤٥].
120
من مصنوعات الله تعالى وصفاته
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١٤]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
الإعراب:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اللام: لام القسم ولَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين.
ما تَرْكَبُونَ حذف العائد اختصارا، أي تركبونه، وإنما قال تَرْكَبُونَ مع أنه يقال: ركبوا الأنعام، وركبوا في الفلك، لأنه غلب المتعدي بغير واسطة، لقوّته على المتعدي بواسطة، فقيل: تركبونه.
عَلى ظُهُورِهِ جمع الظهر مراعاة لمعنى ما وذكّر الضمير نظرا للفظ ما.
البلاغة:
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً تشبيه بليغ، أي كالمهد وهو الفراش، حذفت منه الأداة ووجه الشبه.
فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً استعارة تبعية، شبّه الأرض قبل نزول المطر بالميت، ثم أنشرها الله، أي أحياها بالمطر.
كَذلِكَ تُخْرَجُونَ تَرْكَبُونَ لَمُنْقَلِبُونَ سجع غير متكلف.
121
المفردات اللغوية:
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ هذا مقول المشركين، أي خلقهن ذو العزة والعلم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً استئناف من الله تعالى، المهد: الفراش، كالمهد للصبي، فتستقرون فيها سُبُلًا: طرقا، جمع سبيل، أي طريق لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.
بِقَدَرٍ بمقدار أو تقدير ينفع ولا يضر، بحسب الحاجة، ولم يجعله طوفانا فَأَنْشَرْنا أحيينا بَلْدَةً مَيْتاً خالية من النبات، وتذكير كلمة «ميت» لأن البلدة بمعنى البلد والمكان كَذلِكَ مثل ذلك الإنشار (الإحياء) تُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء.
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أصناف المخلوقات الْفُلْكِ السفن وَالْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ لتستقروا على ظهور ما تركبون سَخَّرَ ذلل مُقْرِنِينَ مطيقين، مأخوذ من أقرن الشيء: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه لَمُنْقَلِبُونَ راجعون، فالنقلة العظمى هي الانقلاب إلى الله تعالى، لتجازى كل نفس بما كسبت.
المناسبة:
هذه الآيات تذكير للمشركين المسرفين في أعمالهم وإعراضهم عن القرآن بأنهم يقرون بوجود الخالق، وتذكير لهم أيضا بنعم الله ومصنوعاته وصفاته التي عدّد منها هنا ثماني صفات، ثم أردفها بتعليم عباده ذكر الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم،
فعنه صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا- إلى قوله- وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات كما أشرت ثماني صفات له وهي:
١- ٣: كونه خالقا للسموات والأرض، العزيز، العليم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي تالله لئن سألت
122
أيها النبي هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره من قومك: من الذي خلق السموات والأرض؟ لأجابوا واعترفوا بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهو العزيز، أي الغالب القوي، إشارة إلى كمال القدرة، العليم، أي الواسع العلم، إشارة إلى كمال العلم.
وكمال القدرة والعلم دليل على أن الموصوف به قادر على خلق جميع الممكنات. ومع هذا فهم يعبدون مع الله إلها آخر من الأصنام والأنداد.
٤- الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي إنه تعالى الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش والبساط، صالحة للإقامة والاستقرار عليها، فمع أنها تدور وتتحرك، فهي ثابتة أرساها الله بالجبال، لئلا تميد وتضطرب.
٥- وخلق فيها الطرق: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي وأوجد فيها الطرق والمسالك بين الجبال والأودية، لتهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم، وتنتقلوا إلى أرجاء البلاد، للمتاجرة وطلب الرزق والسياحة وغير ذلك.
٦- منزل الغيث النافع وباعث الناس: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي والله هو الذي أنزل المطر من السماء بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة للزروع والثمار والشرب، ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم، لئلا يحدث الطوفان والغرق وهدم المنازل وتلف المزارع، ولا دون الحاجة، حتى لا يكفي النبات والزرع والناس.
فأحيينا بذلك الماء البلاد الميتة المقفرة التي لا نبات فيها، فلما جاءها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. وكما أحيينا الأرض بعد موتها نحيي الأجساد يوم المعاد بعد موتها، وتبعثون من قبوركم أحياء.
123
ونحو الآية قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر ٣٥/ ٩].
وظاهر الآية هنا يقتضي أن الماء ينزل من السماء، والواقع أنه ينزل من السحاب، وسمي نازلا من السماء، لأن كل ما سماك أو علاك فهو سماء. وقوله:
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ كما يدل على قدرة الله وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة، ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة، كهذه الأرض التي أحييت بالنبات الأخضر والثمر اليانع بعد ما كانت ميتة.
٧- كونه خالقا أصناف الأشياء: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي والله هو الذي خلق الأصناف كلها من نبات وزرع وشجر وثمر، وإنسان وحيوان وغير ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه.
٨- خالق وسيلة الركوب من الفلك والأنعام: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي والله الذي خلق لكم بالإلهام والتعليم وسيلة الركوب في البحر وهي السفن، وأوجد واسطة الركوب في البر من الأنعام وهي الإبل، إذ المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا هي، والله هو الذي ذلّلها لكم وسخّرها ويسّرها لركوب ظهورها، وكذا لأكل لحومها وشرب ألبانها والانتفاع بأوبارها،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له: لم أخلق لهذا، إنما خلقت للحرث، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر» «١».
ولا تقتصر وسائل الركوب على السفن والإبل، فهناك آية أخرى تشمل الدواب والسيارات والقطارات والطائرات ونحوها من وسائل المواصلات الحديثة، وهي قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٨].
(١) ولم يكونا حاضرين حينئذ.
124
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقُولُوا: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي لتستقروا ولتستعلوا متمكنين مرتفقين على ظهور هذا الجنس من المخلوقات وهو ما تركبونه من الفلك والأنعام، ثم تذكروا مع التعظيم في قلوبكم وألسنتكم نعمة الله التي أنعم بها عليكم من تسخير المراكب في البحر والبر، فتعرفوا أن الله تعالى خلق وجه البحر صالحا للأبحار والرياح قوة دافعة، وعلّم الإنسان كيفية صنع السفينة على نحو يتمكن فيها من الأبحار عليها إلى أي مكان شاء وأراد.
وتقولوا إذا استويتم وركبتم على المركوب. سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي تنزيها لله، عن كل عجز ونقص لا يليق، الذي ذلل لنا هذا المركب، وما كنا مطيقين لتسخيره لولا أن سخره الله لنا.
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي وإنا لصائرون راجعون إليه بعد مماتنا، فيجازي كل نفس بما عملت من خير أو شر. ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك والأنعام عرضة لخطر الهلاك، فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت وأن يعتقد أنه هالك لا محالة، وأنه راجع إلى الله تعالى.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ركب راحلته، كبّر ثلاثا، ثم قال:
سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، واطو لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، وأخلفنا في أهلنا»
. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رجع إلى أهله قال: «آيبون تائبون إن شاء الله عابدون، لربنا حامدون».
125
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
١- إذا سئل المشركون عمن خلق السموات والأرض لأجابوا بأن الخالق هو الله القوي الغالب الكامل العلم، فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم.
٢- الله تعالى كامل القدرة فهو سبحانه الذي مهد لنا الأرض وجعلها صالحة للعيش عليها بسلام واستقرار، وأوجد فيها المعايش والطرق لنسلكها إلى حيث أردنا، ولنهتدي بها في الأسفار، ونستدل بمقدوراته على قدرته.
٣- الله تعالى لطيف بعباده رحيم بهم، فهو جل وعز ينزل المطر النافع بقدر الحاجة ومقتضى الحكمة، فلا يجعله طوفانا مغرقا، ولا قليلا قاصرا عن الحاجة، حتى يكون معاشا صالحا للأنفس والأنعام، فينبت به الزرع والشجر، ويخرج به الغلال والثمار.
ومن قدر على إحياء الأرض بعد جدبها، قدر على بعث المخلوقات من القبور.
٤- الله تعالى جميل يحب الجمال، فهو الذي نوّع الأشياء كلها، وأوجد فيها الأصناف المختلفة، وأبدع مباهج الحياة، وجعل فيها الحيوية والحركة بالانتقال في أرجاء الأرض بوسائط الركوب المتنوعة برا وبحرا وجوا.
٥- قال القرطبي: علّمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرّفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى: وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها، بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ
126
رَحِيمٌ
[هود ١١/ ٤١] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت «١» أو طاح من ظهرها فهلك، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا «٢»..
والخلاصة: هناك أذكار ثلاثة ما ينبغي لعبد أن يدع قولها، وليس بواجب ذكرها في اللسان، وهي دعاء السفر في البحر: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ودعاء السفر في البر: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا..
ودعاء دخول المنازل: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «٣».
عبادة المشركين الملائكة
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ٢٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
(١) تقحم الفرس براكبه: ألقاه على وجهه.
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٦٧. [.....]
(٣) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٩٨ وما بعدها.
127
الإعراب:
مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي من رجال عباده، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَجْهُهُ: إما اسم ظَلَّ أو بدل من ضمير مقدر فيها مرفوع، لأنه اسمها. ومُسْوَدًّا: خبرها، وَهُوَ كَظِيمٌ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال.
أَمِ اتَّخَذَ.. أَمِ: بمعنى بل والهمزة، وتقديره: بل أأتخذ مما يخلق بنات، ولا يجوز أن يكون بمعنى «بل» بغير همزة، لأنه يؤدي التقدير إلى الكفر، وهو: بل اتخذ بنات.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ: إما في موضع نصب بتقدير فعل، أي أجعلتم من ينشأ، أو في موضع رفع، لأنه مبتدأ، وخبره محذوف أي كائن، وهو قول الفراء.
البلاغة:
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تأكيد بإن واللام وصيغة المبالغة على وزن فعول وفعيل.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ أسلوب تهكمي يراد به التوبيخ، والتقريع، وبين لفظ «البنات» و «البنين» طباق.
المفردات اللغوية:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي جعل المشركون بعد ذلك الاعتراف بأن الله هو الخالق، من عباده ولدا، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، باعتبار أن الولد جزء من أبيه، والملائكة من عباد الله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ قائل ما تقدم لَكَفُورٌ مُبِينٌ بالغ الكفر وظاهر الكفر.
128
أَمِ اتَّخَذَ بل أأتخذ، والهمزة، في أَمِ همزة الإنكار والتعجب، أو القول مقدر أي أتقولون: اتخذ وَأَصْفاكُمْ خصكم واختاركم، وهذا لازم من قولكم السابق ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي جعل له شبها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد ظَلَّ صار مُسْوَدًّا متغيرا لما يعتريه من الكآبة، وقرئ: مسود ومسواد، على أن في ظَلَّ ضمير المبشر، ووَجْهُهُ مُسْوَدًّا: جملة واقعة موقع الخبر كَظِيمٌ ممتلئ غما وغيظا.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي أو يجعلون لله من يتربى في الزينة؟ والهمزة همزة الإنكار، وواو العطف يعطف جملة: يجعلون لله.. إلخ الْخِصامِ الجدل والنقاش غَيْرُ مُبِينٍ غير مظهر الحجة لضعفه عنها وعجزه عن الجدل بالأنوثة. وفيه دلالة على فساد ما قالوه.
أَشَهِدُوا أحضروا خلق الله إياهم، فشاهدوهم إناثا؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بأنهم إناث وَيُسْئَلُونَ عنها في الآخرة، فيعاقبون على شهادة الزور، وهو وعيد وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما عبدنا الملائكة، فعبادتنا إياهم بمشيئته، فهو راض بها، أي إنهم استدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل، لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض، مأمورا كان أو منهيا، حسنا كان أو غيره، ولذلك حكم عليهم بالجهل بقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لمقولهم من الرضا بعبادتهم أدنى علم بمراد الله إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ما هم إلا يكذبون فيه ويحدسون، فيعاقبون عليه.
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما قالوه، ويقرر عبادة غير الله؟ مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون بذلك الكتاب، والمعنى: لم يقع ذلك.
مُتْرَفُوها منعموها وأهل الترف فيها عَلى أُمَّةٍ ملة أو طريقة ومذهب مُقْتَدُونَ متبعون، قال البيضاوي: هذه الآية تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى.. ؟ أي قال لهم النذير نبيهم: أتتبعون ذلك ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ وهذا حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قال الأقوام للنذير: إنا كافرون بما أرسلت به أنت ومن قبلك. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال الله: فانتقمنا من المكذبين للرسل قبلك عاقِبَةُ مصير ونهاية، فلا تكترث بتكذيبهم.
بسبب النزول:
نزول الآية (١٩) :
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ..: أخرج ابن المنذر عن قتادة قال: قال ناس من
129
المنافقين: إن الله صاهر الجن، فخرجت من بينهم الملائكة، فنزل فيهم:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً...
نزول الآية (٢٢) :
بَلْ قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا... حكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا، يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
المناسبة:
بعد بيان اعتراف المشركين بأن الله خالق السموات والأرض، ذكر الله تعالى ما يناقض ذلك وهو ادعاؤهم أن الملائكة بنات الله، فلم يقتصروا أن جعلوا لله ولدا، وإنما جعلوه من الإناث ومن الملائكة، فرد تعالى عليهم بأجوبة ثلاثة:
نفرتهم من الإناث، وضعف الإناث، وجهلهم بحقيقة الملائكة.
ثم ذكر تعالى شبهة أخرى للمشركين: وهي أن عبادة الملائكة بمشيئة الله، ورد عليهم بأن المشيئة ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دلالة فيها على الرضا والغضب أو الحسن والقبح، فهم جهلة كاذبون، وليس لهم دليل نقلي صحيح يعتمدون عليه إلا محض التقليد للآباء والأجداد، دون برهان معقول، وشأنهم في الكفر شأن من سبقهم من الأمم التي كذبت الرسل. فانتقم الله منهم وأهلكهم.
التفسير والبيان:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي إن المشركين بالرغم من اعترافهم بألوهية الله وكونه خالق السموات والأرض، أثبتوا له ولدا، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، باعتبار أن الولد جزء من أبيه،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور: «فاطمة بضعة مني»
إن الإنسان جحود نعم ربه جحودا
130
بيّنا، يقابل وضوح النعمة، فيكون الجحود من أبين الكذب. والآية متصلة بقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ...
وهذا من جهلهم بالله وصفاته، واستخفافهم بالملائكة حيث نسبوا إليهم الأنوثة، ونسبوهم إلى الله نسبة تقتضي نسبة الأضعف من نوعي الإنسان، فالله ليس كمثله شيء، فلا يشبهه أحد من خلقه، ونسبة الولد له تقتضي جعله مشابها للحوادث، فلا يصلح إلها، ولأن هذا الادعاء للجزء يجعل الله مركبا من أجزاء فهو حادث.
ثم أنكر تعالى عليهم أشد الإنكار، فقال:
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟ أي وإذا نسبتم الولد إلى الله،: لزم منه أن الله اتخذ ولدا له من أضعف الجنسين، واختار لكم الأفضل، وهذا يعني أنه جعل لنفسه المفضول من الصنفين، ولكن الفاضل منهما، فكيف يصح هذا مع أنه تعالى هو الخالق؟ وهذا كقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٥٣/ ٢١- ٢٢] أي جائرة.
ومعنى قوله: أَمِ اتَّخَذَ... بل أأتخذ؟ الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم حيث جعلوا ذلك الجزء أضعف الجزأين، وهو الإناث دون الذكور.
ثم ذكر الله تعالى تتمة الإنكار والتوبيخ والتعجيب، فقال:
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بما جعل لله مشابها، وهو الأنثى، أنف من ذلك واغتم، وعلته الكآبة من سوء ما بشّر به، فصار وجهه متغيرا، وأضحى ممتلئا غيظا، شديد الحزن، كثير الكرب، فكيف تأنفون أنتم من البنت، وتنسبونها إلى الله عز وجل؟!.
131
وللآية شبيه تام هي قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ... الآية [النحل ١٦/ ٥٨- ٥٩].
ثم أكد الله تعالى الإنكار، فقال:
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ، وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي أو يجعل للرحمن من الولد من صفته أنه يتربى في الزينة والنعمة، وإذا احتاج إلى مخاصمة غيره لا يقدر على الجدال وإقامة الحجة؟ فلا بيان عنده، ولا يأتي ببرهان يدفع ما يجادل به خصمه، لنقصان عقله وضعف رأيه.
والآية دليل على رقة المرأة وغلبة عاطفتها عليها، وميلها إلى التزين والنعومة، وعلى أن التحلي بالذهب والحرير مباح للنساء، وأنه حرام على الرجال، لأنه تعالى جعل ذلك عنوانا على الضعف والنقصان، وإنما زينة الرجل: الصبر على طاعة الله، والتزين بزينة التقوى، كما قال الرازي.
ومن مفتريات المشركين عدا ما ذكر من نسبة الإناث إلى الله: زعمهم أن الملائكة إناث، كما قال تعالى:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بأن الملائكة إناث، وهذا مترتب على قولهم السابق: الملائكة بنات الله.
فأنكر الله عليهم ورد مقالهم بقوله:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ، وَيُسْئَلُونَ أي هل حضروا وشاهدوا خلق الله إياهم حتى يشهدوا بأنهم إناث، كما قال تعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً، وَهُمْ شاهِدُونَ؟ [الصافات ٣٧/ ١٥٠] ستكتب شهادتهم بذلك في ديوان أعمالهم، لنجازيهم على ذلك، ويسألون عنها يوم القيامة، فهي شهادة
132
زور. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد بالعذاب، ودليل على أن الادعاء من غير برهان وإثبات جريمة.
واستدلّ بهذه الآية: هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ من قال بتفضيل الملائكة على البشر.
ثم أورد الله تعالى شبهة أخرى للمشركين، ولونا آخر من ألوان افتراءاتهم، فقال:
وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي قال الكفار: لو أراد الله ما عبدنا هذه الملائكة، فإنه قادر على أن يحول بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، ويريدون بذلك القول أن الله راض عن عبادتهم للأصنام. وهو احتجاج بالقدر، وكلمة حق يراد بها باطل، لأن المشيئة لا تستلزم الأمر، إذ هي ترجيح بعض الممكنات على بعض بحسب علمه، والله يأمر بالخير والإيمان، ونحن لا نعلم مشيئته أو إرادته إلا بعد وقوع الفعل منا.
وقد جمعوا في هذا القول بين أنواع كثيرة من الخطأ والكفر كما ذكر ابن كثير:
١- جعلهم لله تعالى ولدا، تقدّس وتنزّه عن ذلك.
٢- دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى.
٣- عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عزّ وجلّ، بل بمجرد الأهواء وتقليد الأسلاف، وتخبّط الجاهلية.
٤- احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وتقديرهم على طريقتهم قدرا، وهذا جهل شديد، فإن الله منذ أن بعث الرّسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده
133
لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه «١»، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النّحل ١٦/ ٣٦]، وقال عزّ وجلّ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزّخرف ٤٣/ ٤٥].
ونحو الآية: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا.
[الأنعام ٦/ ١٤٨]، أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس ٣٦/ ٤٧].
فردّ الله تعالى عليهم بقوله:
ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ليس لهم أي علم أو دليل بصحة ما قالوه واحتجّوا به، وما هم إلّا يكذبون فيما قالوا، ويتقولون، فإن الله يأمر بالحق والإيمان والخير، ولا يرضى لعباده الكفر والفحشاء. والآية دليل على جهلهم الفاضح، وكذبهم وافترائهم الباطل.
ثم أبطل الله تعالى قولهم بالدليل النقلي قائلا:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بما يدّعون، مكتوبا فيه: اعبدوا غير الله؟ فهم يتمسكون بذلك الكتاب، ويحتجون به، أي ليس الأمر كذلك، كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم ٣٠/ ٣٥] أي لم يكن ذلك أصلا.
ثم ذكر الله تعالى: أنه لا حجّة لهم إلا التّقليد، فقال:
بَلْ قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ بل إنهم
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٢٥.
134
قالوا: لقد وجدنا آباءنا على طريقة ساروا عليها في عبادتهم الأصنام، وإنا سائرون على منهجهم مهتدون بهديهم. وهذا اعتراف صريح منهم بأنه ليس لهم مستند ولا حجّة عقلية ولا نقلية على الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد واتّباعهم في الضّلالة. وقولهم: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ- أي وراءهم- مُهْتَدُونَ مجرد دعوى منهم بلا دليل.
ثم أبان الله تعالى تشابه الأمم في الكفر والتّقليد والمقالة، فقال:
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي إن مقال هؤلاء قد سبقهم إليه أشباههم من الأمم السالفة المكذّبة للرّسل، فمثل تلك المقالة قال المترفون المنعّمون- وهم الرؤساء والزّعماء والجبابرة- من كل أمّة لرسولهم المرسل إليهم للإنذار من عذاب الله: إنّا وجدنا آباءنا على ملّة ودين، وإنّا على طريقتهم سائرون متبعون.
وخصص المترفين تنبيها على أن التّنعم هو سبب المعارضة وإهمال النّظر وترك التفكّر في مضمون الرّسالة الإلهية.
ونحو الآية قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذّاريات ٥١/ ٥٢- ٥٣].
وإنما قال أولا: مُهْتَدُونَ لادعاء الهداية كآبائهم، ثم قال ثانيا:
مُقْتَدُونَ حكاية عن قوم تابعوا آباءهم في فعلهم، دون ادّعاء الهداية، والمعنى تقريبا واحدا.
وهذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتنبيه على أنّ التّقليد في الاعتقاد والعبادة ضلال قديم.
135
ثم ذكر تعالى جواب الرّسل لأقوامهم عن التّقليد، قائلا:
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي قال لهم رسولهم:
أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟! فأجابوه معلنين كفرهم صراحة، في قوله تعالى:
قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قالوا: لا نعمل برسالتك، ولا سمع لك ولا طاعة، وإنا كافرون جاحدون بما أرسلتم به، ومستمرون ثابتون على دين الآباء والأسلاف. والمراد أنهم لو علموا وتيقّنوا صحة ما جئتهم به أيها الرّسول، لما انقادوا لذلك، لسوء قصدهم، ومكابرتهم للحقّ وأهله. وقوله: بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ يعني بكل ما أرسل به الرّسل، فالخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه لفظ الجمع، لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه.
وما بعد الإصرار على الكسر إلا النّقمة والإهلاك، فقال تعالى:
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي فانتقمنا من الأمم المكذّبة للرّسل بأنواع من العذاب، كعذاب قوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب كيف كان مصير أمر المكذبين من تلك الأمم كيف بادوا وهلكوا، وإن آثارهم موجودة، وعبرة للنّاظر المعتبر. وهذا وعيد وتهديد لأهل مكة، وسلوة للرّسول، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بشأن قومه من رسالته.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- للمشركين افتراءات كثيرة، منها هنا: نسبة البنات إلى الله تعالى، فقالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزء له. وقد عجّب الله المؤمنين من جهلهم، إذ أقرّوا بأن خالق السموات
136
والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به، لأن هذا من صفات النّقص، كما أبان القرطبي.
ومن افتراءاتهم المذكورة في سورة أخرى: جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم (الأوثان) وبعضها لله تعالى، كما حكى تعالى عنهم قائلا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ، فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام ٦/ ١٣٦].
٢- ومن افتراءاتهم أنهم جعلوا له من الأولاد الأقل والأضعف وهو البنات.
٣- وبّخهم الله تعالى على افتراءهم ذاكرا أنه كيف يتّخذ البنات- كما زعموا أن الملائكة بنات الله- واختصّهم وأخلصهم بالبنين؟! ٤- لم يعقل المشركون ما افتروه على الله في نسبتهم البنات له، فإنهم لا يرضونه لأنفسهم، فإنه إذا بشّر الواحد منهم بولادة بنت له، اسودّ وجهه غمّا وكدرا، وأنف من نسبة البنت له، وأضحى حزينا مكروبا، فكيف ينسب إلى الله ما هو نافر منه؟! ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله، فقد جعل الملائكة شبها لله، لأن الولد من جنس الوالد وشبهه، ومن اسودّ وجهه مما ينسب إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسودّ وجهه بنسبة ذلك إلى من هو أجلّ منه، فكيف إلى الله عزّ وجلّ؟! ٥- وكيف يصح أن يجعل الله له من لا همّ له إلا الحلي والزّينة، وإذا خوصم لا يقدر على الدّفاع عن نفسه؟
137
وفي هذه الآية دلالة- كما تقدّم- على إباحة الحلي للنّساء، وتحريمه على الرجال، وهو حكم مجمع عليه ثابت بأخبار كثيرة.
٦- أوضح الله تعالى كذب المشركين وجهلهم في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث، وهم بنات الله، وحكمهم من غير دليل بأنهم إناث، فكيف تجرؤوا حتى حكموا بأنهم إناث، ولم يحضروا حالة خلقهم؟! إن شهادتهم الباطلة هذه مكتوبة عليهم في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها في الآخرة.
٧- ومن شبه المشركين المفتراة احتجاجهم بالقدر الإلهي، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية: لو شاء الرّحمن على زعمكم أيها المؤمنون ما عبدنا هذه الملائكة، والله أمرنا بهذا أو رضي لنا ذلك، ولهذا لم يعاجلنا بالعقوبة. وهذه كلمة حقّ أريد بها باطل، فإن كل شيء بإرادة الله، وعلمه نافذ لا محالة، لكن الإرادة أو المشيئة لا تقتضي الأمر والرّضا وليس الأمر والإرادة متطابقين، ولا نعلم مراد الله، فكان علينا العمل بأمره ونهيه، وليس لقولهم: الملائكة بنات الله أي دليل علمي، وما هم إلّا يحدسون ويكذبون، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عزّ وجلّ. وقوله: هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ يفيد حصر العبودية في الملائكة، وذلك يدلّ على الفضل والشّرف، مما يوجب كونهم أفضل من غيرهم.
٨- كذلك ليس لهم دليل نقلي على زعمهم، ولا كتاب لديهم بما ادّعوه قبل هذا القرآن.
٩- لا دليل للمشركين على شركهم إلا التّقليد الأعمى لآبائهم وأسلافهم، وهم لما عجزوا عن الدّليل لم يجدوا بدّا من الاعتماد على تقليد الآباء، قائلين بأنهم وحدوهم على تلك الملّة أو الطّريقة والمذهب، فقلّدوهم واهتدوا بهديهم.
138
وهذا دليل على إبطال التّقليد في العقائد والأصول، لأن الله ذمّهم على تقليد آبائهم، وتركهم النّظر فيما دعاهم إليه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
١٠- إن مقالتهم تلك تشبه مقالة من سبقهم من الأمم المكذبة لرسلها، فإنّ أهل التّرف والرؤساء فيهم اقتدوا بالآباء والأجداد دون دليل.
١١- إنهم مصرّون على الشرك والتّقليد الأعمى، حتى ولو جاءهم رسول الله من عند الله بأهدى وأرشد من ذلك الدّين الباطل.
١٢- إن المنتظر أمام هذا الإصرار على الكفر ما ذكره تعالى وهو الانتقام الشديد من الكافرين، وتدميرهم وإهلاكهم، وآثارهم ظاهرة للعيان، عبرة للمعتبر، فيا أهل مكة وأمثالكم انظروا في مصيركم المرتقب.
الرّد على تقليد الآباء، واختيار الأنبياء وبيان حال الدنيا
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٥]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوانُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
139
الإعراب:
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين، فحذف المضاف، وأراد ب الْقَرْيَتَيْنِ: مكة والطائف.
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً لِبُيُوتِهِمْ: بدل من لِمَنْ بإعادة الجار، بدل الاشتمال، وقرئ «سقفا» و «سقفا» فسقف: جمع سقف، نحو رهن ورهن. وسقف: واحد ناب مناب الجمع.
وَزُخْرُفاً إما منصوب بفعل مقدر، أي وجعلنا لهم زخرفا، أو معطوف على موضع قوله تعالى: مِنْ فِضَّةٍ. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ إِنْ: مخففة من الثقيلة، واسمها:
إما كُلُّ إلا أنه لما خففت نقصت عن شبه الفعل، فلم تعمل وارتفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، وإما بتقدير الهاء أي إنه كل ذلك، فحذف اسمها وهو الهاء وخففت، فارتفع كُلُّ بالابتداء، وجملة كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ.. من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر إِنْ. وهذا التقدير ضعيف لتأخير اللام في الخبر. ولَمَّا بمعنى إلا، ويصح أن تكون إِنْ نافية بمعنى ما. ويقرأ «لما» بالتخفيف، فتكون ما: زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف.
البلاغة:
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ كَلِمَةً: مجاز مرسل، والمراد بال كَلِمَةً: الجملة التي قالها، وهي: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم هذا، ليروا كيف تبرّأ من التقليد، وتمسّك بالدّليل. لِأَبِيهِ آزر. بَراءٌ بريء من عبادتكم أو معبوديكم، وهو مصدر نعت به، فيستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث، وقرئ «بريء» و «برآء» ككريم وكرماء.
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذي فطرني، أو متّصل على أن
140
«ما» تعمّ ما كانوا يعبدون وهو الله والأوثان، كأنه قال: إنني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني.
سَيَهْدِينِ يرشدني إليه، وهو مقرر لما قال مرة أخرى: يَهْدِيَنِ كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال.
وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحّد الله ويدعو إلى توحيده. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحّد، فيرجع عما كان عليه إلى دين إبراهيم أبي الأنبياء والمسلمين، وهو يشمل أهل مكة وغيرهم.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ أي هؤلاء المعاصرين للرسول من قريش وآباءهم، فاغتروا بذلك وانهمكوا في الشهوات، ولم أعاجلهم بالعقوبة. وقرئ «متعت» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً مبالغة في تعبيرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن ودعوة التوحيد.
وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بماله من المعجزات، أو مبين للتوحيد بالحجج والآيات المتضمنة الأحكام الشرعية، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن. هلا. مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين:
مكة والطائف. والرجلان هما: الوليد بن المغيرة من مكة، وكان يسمى ريحانة قريش، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. عَظِيمٍ زعيم ذي جاه ومال، فإن الرّسالة منصب خطير لا يليق إلا بعظيم، ولم يعلموا أن معيار اختيار الأنبياء هو التّحلي بالفضائل والكمالات الأدبية، لا بالاعتبارات الدنيوية.
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكّمهم، والرّحمة: النّبوة.
قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا جعلنا معيشتهم مقسومة فيما بينهم، فبعضهم غني، وبعضهم فقير، ويتفاوتون في مرتبتي الغنى والفقر. وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ جعلنا بينهم تفاوتا في الرّزق وغيره. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ وهو الغني. بَعْضاً وهو الفقير.
سُخْرِيًّا مسخرا في العمل بالأجرة، أي يستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم، والياء: للنسب، وقرئ بكسر السين «سخريا». وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي النّبوة وما يتبعها، أو الجنّة. خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي خشية أن يكون جميع الناس على ملّة واحدة وهي الكفر. سُقُفاً جمع سقف، وقرئ: «سقفا». وَمَعارِجَ ومصاعد جمع معرج كمنبر، وقرئ: «معاريج» جمع معراج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يصعدون ويعلون إلى السطوح.
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة. وَسُرُراً من فضة، جمع سرير. يَتَّكِؤُنَ يستندون.
وَزُخْرُفاً ذهبا أو زينة مزوقة، والمراد به الزينة كما قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
141
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ
[يونس ١٠/ ٢٤]، ومعنى الآية: لولا خوف الكفر على المؤمنين من إعطاء الكافر ما ذكر، لأعطيناه ذلك لاحتقار الدنيا عندنا.
لَمَّا بمعنى إلّا «١»، وإن نافية، وعلى قراءة التخفيف «لما» تكون ما زائدة. مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يتمتع به فيها ثم يزول. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي نعيم الآخرة وهو الجنة عند الله- عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان- لمن اتّقى الكفر والمعاصي.
سبب النّزول: نزول الآيتين (٣١- ٣٢).
تقدّم في سورة يونس في الآية (٢) سبب نزول الآيةنُزِّلَ..
وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن عباس «أن العرب قالوا: وإذا كان النّبي بشرا فغير محمد كان أحق بالرّسالة: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردّا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ».
وروى ابن المنذر عن قتادة «أن الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانة قريش- كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقّا لنزل عليّ أو على أبي مسعود، فقال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النّبوة. فيضعونها حيث شاؤوا».
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتماد المشركين على التّقليد في العقائد والأصول، بيّن فساده بأسلوب المشركين أنفسهم، وهو أن إبراهيم الخليل عليه السلام
(١) حكى سيبويه: نشدتك الله لمّا فعلت كذا، أي إلا فعلت كذا.
142
أبو العرب وأشرف آبائهم تبرأ من دين آبائه بالدّليل، وحكم بأن اتّباع الدّليل أولى من متابعة الآباء، فوجب تقليده في ترك تقليد الآباء وفي ترجيح الدّليل على التّقليد.
ثم أبان الله تعالى مفاسد اعتماد قريش على التّقليد وترك التّفكر في الحجة والدّليل، وهي: أولا- اغترارهم بالمهلة والمدّ في العمر والنّعمة، واشتغالهم بالتّنعم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد، وثانيا- تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفهم له بأنه ساحر كذاب، وثالثا- قولهم بأن الرّجل الشريف وهو كثير المال ورفيع الجاه هو الأحقّ بالنّبوة من محمد الفقير اليتيم.
فردّ تعالى عليهم بأنه هو الذي قسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، وأن التّفاوت في شؤون الدنيا هو الأصلح لنظام المجتمع، وأن ميزان الاصطفاء للنّبوة إنما يعتمد على القيم الأدبية والروحية والأخلاقية، وألا قيمة للدنيا وأمتعتها وزخارفها وثرواتها، ولولا خوف انتشار الكفر وشموله بين العالم، لجعل الله للكفار ثروات طائلة، وبيوتا ذات سقف وأبواب وسرر ومصاعد من فضة، وزينة في كل شيء، وإنما نعيم الآخرة للمتّقين الذين يتّقون الكفر والمعاصي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن إبراهيم الخليل إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأشرف آباء العرب عليه السلام بأنه تبرأ من دين الآباء بالحجة والدليل، فقال:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي واذكر أيها الرّسول لقومك قريش المعتمدين على تقليد الآباء والأجداد في عبادة الأصنام: حين تبرأ إبراهيم عليه السلام مما يعبد أبوه آزر، وقومه من الأصنام، إلا من عبادة خالقه وخالق الناس جميعا، والذي قال بأنه سيرشدني لدينه، كما أرشدني في الماضي، ويثبتني على الحق. وقوله: إِلَّا الَّذِي
143
فَطَرَنِي
إما استثناء متّصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم، وإما منقطع، أي لكن الذي فطرني فهو يهديني، قال ذلك ثقة بالله، وتنبيها لقومه أن الهداية من ربّه.
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، فلا يزال فيهم- ولله الحمد- من يوحّد الله سبحانه، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة، فإنهم إذا ذكروه، تبعوه في ملّته الحنيفية، وتأثّروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة: «لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة».
ثمّ ندّد الله تعالى بموقف أهل مكة ووبّخهم على اغترارهم بالنّعمة وطول العمر واستمرار السّلطة والنّفوذ، فقال:
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي بل متّعت هؤلاء المشركين من أهل مكة وآبائهم من ذريّة إبراهيم بطول العمر والسّعة في الرّزق، وأنعمت عليهم في كفرهم، فاغتروا بالمهلة، وأكبّوا على الشّهوات وطاعة الشّيطان، وشغلوا بالتّنعم عن كلمة التّوحيد، إلى أن جاءهم الحق وهو القرآن العظيم، والرّسول المبين الذي أوضح مبدأ التّوحيد بالبراهين الساطعة، وشرع الله وأحكامه القاطعة، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وزاد في توبيخهم بإعراضهم عن رسالة الحقّ- رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم- فقال:
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، قالُوا: هذا سِحْرٌ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ أي حينما جاءهم القرآن والرّسول المؤيّد بالمعجزات دليلا على صدقه، وصفوا ما جاء به بأنه سحر وأباطيل، وليس بوحي من عند الله، وقالوا: إنّا بما أرسل به جاحدون مكابرة
144
وعنادا وحسدا وبغيا، فضمّوا إلى شركهم وضلالهم تكذيب الحق ورفضه، والاستهزاء به، والتّصريح بالكفر برسالته وإنكار نبوته.
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من الكفر وهو النّوع الرّابع من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة «١»، فقال:
وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي وقال كفار قريش وأمثالهم: هلا أنزل القرآن على أحد رجلين عظيمين من مكة أو الطائف، وهما الوليد بن المغيرة ومسعود بن عروة الثقفي، فكل منهما عظيم المال والجاه، وسيد في قومه. المعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين. وهذا اعتراض منهم على الله الذي أنزل القرآن على رسوله.
فأبطل الله تعالى هذه الشّبهة من ثلاثة وجوه:
الأول- أَهُمْ «٢» يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي إن هؤلاء المشركين تجاوزوا حدودهم وأقدارهم، فأرادوا أن يجعلوا ما لله لأنفسهم، وليس الأمر مردودا إليهم، بل إلى الله عزّ وجلّ، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا وأشرفهم وأطهرهم أصلا. أيجوز لهم أن يقسموا رحمة ربّك وهي النّبوة، فيختاروا لها من يريدون؟ نحن الذين نقسم الأرزاق والحظوظ بين العباد، ونفضل بعضهم على بعض درجات في القوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، والغنى والفقر، لأنا لو سوّينا بينهم في هذه الأحوال لم يتعاونوا فيما بينهم، ولم يتمكنوا
(١) الثلاثة المتقدمة: هي جعلهم الملائكة بنات الله، وجعل الملائكة إناثا، وقولهم: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ.
(٢) الاستفهام هنا للإنكار والتّعجب.
145
من استخدام بعضهم بعضا، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض، وإلا فسد نظام العالم. وليس المعنى في الاستخدام أو الاستئجار أو الاستعمال على عمل شيء من الذّلّ والمهانة، لأن حقوق العامل مصونة في الإسلام، وعلى صاحب العمل واجبات خلقية ومادية كثيرة توجب عليه التّرفع عن الغبن والظلم والأذى والإساءة، فإن عجزوا عن تغيير نظام الدنيا، فكيف يعترضون على حكمنا بتخصيص النبوة والرّسالة في بعض العباد؟! والمعنى: إنكار أن الرّزق منهم، فكيف تكون النّبوة منهم؟! الوجه تكون النّبوة منهم؟! الوجه الثاني- وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي إن ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة خير مما يجمعون من الأموال وسائر متاع الدنيا، وإذا خصّ الله بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدّين، فهذه الرّحمة خير من أموال الدنيا كلها، لأن عرض الدنيا زائل، ورحمة الله وفضله باق دائم.
ثم أبان الله تعالى حقارة الدنيا، فقال:
الوجه الثالث- وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً
أي ولولا الخوف وكراهة أن يكون الناس كلهم على ملّة الكفر، ميلا إلى الدنيا وزخرفها، فلا يبقى في الأرض مؤمن، لأعطينا الكفار ثروات طائلة، وجعلنا سقف بيوتهم، وسلالمهم ومصاعدهم التي يرتقون ويصعدون عليها، وأبواب البيوت والسّرر التي يتكئون عليها من فضة خالصة، وذهب وزينة ونقوش فائقة، لهوان الدنيا عند الله تعالى.
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي ليس كل ذلك إلّا شيئا يتمتع به تمتعا قليلا في الدنيا، لأنها زائلة قصيرة الأجل، والآخرة بما فيها من أنواع النّعيم والجنان هي لمن اتّقى الشّرك والمعاصي، وآمن
146
بالله وحده، وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى، ونعيمها الدائم الذي لا يزول، وهي لهم خاصة، لا يشاركهم فيها أحد غيرهم.
أخرج التّرمذي، وابن ماجه والبغوي والطّبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء»
وفي رواية: «لو كانت الدنيا..»
وفي رواية الطبراني «أنه لما آلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم من نسائه، جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرآه على رمال حصير، قد أثّر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يا رسول الله، هذا كسرى وقيصر، هما فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متكئا، فجلس وقال: أو في شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا»
وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- لقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من عبادة الأصنام، وخرج على المألوف الفاسد بالحجة والدليل.
٢- إن ترك التّقليد في العقيدة والرّجوع إلى متابعة الدّليل واجب متعيّن على كلّ إنسان في أمر الدّين، وكذلك ترك التّقليد، واتّباع الدّليل هو الأولى في شؤون الدنيا أيضا، ليكون المرء على بيّنة من أمره، إلا فيما تتطلبه ظروف القيادة الحربية ونحوها للحفاظ على الأسرار، فيجب تنفيذ أمر القائد وطاعته، وإن لم يعرف الدّليل.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٢٧.
147
٣- جعل إبراهيم عليه السلام كلمة التّوحيد ومقالته السابقة: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ باقية في عقبه، وهم ذريته، ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة من عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب: من يأتي بعده.
٤- قال ابن العربي: كان لإبراهيم في الأعقاب دعوتان مجابتان:
إحداهما- في قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ١٢٤]، فقد قال له: نعم، إلا من ظلم منهم، فلا عهد له.
ثانيهما- قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم ١٤/ ٣٥].
وقيل: بدل الأولى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء ٢٦/ ٨٤]، فكلّ أمّة تعظّمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو في نوح «١».
٥- وقال ابن العربي أيضا: جرى ذكر العقب هاهنا موصولا في المعنى بالحقب، أي متّصلا مستمرا على ممرّ السنين، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى»
أو التّحبيس،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أبو داود والنسائي، عن جابر: «أيّما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» «٣»
، أي إن الهبات والأوقاف تشمل الدرجة الأولى من الأولاد ذكورا وإناثا، وولد الذّكور دون الإناث لغة وشرعا في الدرجة الثانية وما يليها، وهذا مذهب المالكية.
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٦٦
(٢) العمرى: تمليك الشيء مدة العمر.
(٣) أحكام القرآن، المرجع والمكان السابق.
148
وقال جماعة كابن عبد البرّ وغيره: إن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس (الأوقاف الذّرية أو الأهلية).
٦- عجبا لقريش وأمثالها متّعهم الله وآباءهم بوافر النّعم في الدنيا، ولما جاء الحقّ وهو القرآن المشتمل على التوحيد والإسلام الذي هو أصل دين إبراهيم، وكلمته الباقية في عقبه، وجاءهم الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، كفروا به وقالوا: إنه سحر لا وحي.
٧- وقالوا أيضا: هلا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من إحدى القريتين: مكة والطائف، إما الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل من مكة، وإما أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، ظانين أن النبوة لصاحب المنصب العالي والرجل الشريف وهو كثير المال، رفيع الجاه.
وفاتهم أن معيار الاصطفاء للنّبوة إنما هو القيم الرّوحية والأدبية والنّفسية.
وفاتهم أيضا أنهم يتدخلون في ولاية الله وسلطانه ومشيئته، فيضعون النّبوة حيث شاؤوا، وهذا افتئات على سلطان الله، فإن مرسل الرّسل هو الذي يختارهم، وفاتهم كذلك أن رحمة الله وفضله ونعمته في الآخرة وهي الجنة، ونعمته في الدنيا وهي النبوة أفضل مما يجمعون من الدنيا.
٨- إن الله سبحانه هو لا غيره الذي يقسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، بمقتضى حكمته ومشيئته، فيفقر قوما ويغني آخرين، فإذا لم يكن أمر الدنيا لأحد من العباد، فكيف يفوّض أمر النّبوة إليهم؟! ٩- وإن الله تعالى هو الذي يفاضل بين عباده ويفاوت بينهم في مقومات الحياة وقيمها من القوة والضعف، والعلم والجهل، والحذاقة والبلاهة، والشهرة والخمول، لأن تحقيق المساواة في هذه الأمور يؤدي إلى الإخلال بنظام العالم،
149
ويفسد المصالح، ويعطّل المكاسب، فيعجز الواحد من تسخير غيره لخدمة أو عمل، مقابل أجر عادل.
١٠- ليس التّفوق المادي في الدنيا دليلا على صلاح أصحابه، إذ لا قيمة للدنيا وثرواتها في ميزان الله، ولولا كراهة أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطاهم الله ما وصف من زخارف الدنيا، لهوانها عند الله عزّ وجلّ. والخلاصة: ردّ الله تعالى على اقتراح العرب كون الرّسالة لأحد رجلين بوجوه ثلاثة: أولها- قوله على سبيل الإنكار: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النّبوة فيضعوها حيث شاؤوا، وثانيها- قوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ لأن الدنيا فانية، ودين الله باق لا يزول. وثالثها- قوله:
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً كما تقدّم تفسيرها «١».
١١- استدلّ ابن العربي بقوله تعالى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، على أن السّقف لصاحب السّفل، ولا حقّ فيه لصاحب العلو، لأن الله تعالى جعل السّقوف للبيوت، كما جعل الأبواب لها، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى.
أما السّفل فاختلفوا فيه، فمنهم من قال: هو له، ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء، والرّاجح ما
بيّنه حديث الإسرائيلي الصحيح: أنّ رجلا باع من رجل دارا، فبناها فوجد فيها جرّة من ذهب، فجاء بها إلى البائع، فقال: إنما اشتريت الدّار دون الجرّة، وقال البائع: إنما بعت الدّار بما فيها، وكلاهما تدافعها، فقضى بينهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يزوّج أحدهما ولده من بنت الآخر، ويكون المال بينهما.
قال ابن العربي وتبعه القرطبي: والصّحيح أن العلو والسّفل له، إلا أن
(١) غرائب القرآن للنّيسابوري: ٢٥/ ٤٩.
150
يخرج عنهما بالبيع، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين، فله منه ما ينتفع به، وباقية للمبتاع منه «١».
ثم استطرد القرطبي في بيان بعض أحكام العلو والسّفل، نجتزئ منها ما يلي «٢» :
أ- ليس لصاحب السّفل أن يهدم إلا لضرورة، ويكون هدمه أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو.
ب- وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضرّ بصاحب السّفل.
ج- ولو انكسرت خشبة من سقف العلو أدخل مكانها خشبة ليست أثقل منها، منعا من ضرر صاحب السّفل.
د- وباب الدار على صاحب السّفل.
هـ- ولو انهدم السّفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السّفل، فإن أبى صاحب السّفل من البناء قيل له: بع ممن يبني.
وإن إصلاح السّفل على صاحبه.
ز- ليس لصاحب السّفل أن يحدث ما يضرّ بصاحب العلو، فإن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب السّفل، ولصاحب العلو منعه من الضّرر، لحديث السفينة الذي أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما عن النعمان بن بشير:
«مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا- اقترعوا- على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٧٠، تفسير القرطبي: ١٦/ ٨٥- ٨٦
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٨٦.
151
من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». والعبارة الأخيرة تدلّ على جواز منع الضّرر، وفي الحديث دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها.
١٢- إن التّمتع بالدنيا قليل وعمرها قصير، والآخرة أي الجنة لمن اتّقى وخاف.
أخرج التّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر».
وقد تقدّم حديث الترمذي عن سهل بن سعد: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
حال المعرض عن ذكر الله وتثبيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم على دعوته
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٥]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
152
الإعراب:
وَمَنْ يَعْشُ... نُقَيِّضْ مَنْ: شرطية، وما بعدها فعل الشرط وجوابه.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ... جمع الضميرين مراعاة لمعنى مَنْ إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. وأما ضمير لَهُ فروعي فيه لفظ مَنْ وهكذا أعاد الضمير أولا على اللفظ، ثم على المعنى. وضمير لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على جنس الشيطان وبما أن لكل عاش شيطانا قرينا، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية: ضمير وَإِنَّهُمْ عائد على الشيطان، وضمير لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على الكفار، قال أبو حيان: والأولى ما ذكر أولا لتناسق الضمائر في وَإِنَّهُمْ وفي لَيَصُدُّونَهُمْ وفي وَيَحْسَبُونَ لمدلول واحد كأن الكلام: وفي وَإِنَّهُمْ وفي لَيَصُدُّونَهُمْ وفي وَيَحْسَبُونَ لمدلول واحد كأن الكلام: وإن العشاة ليصدونهم الشياطين عن سبيل الهدى والفوز. وَيَحْسَبُونَ أي الكفار.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ... إِذْ بدل من اليوم.
فَإِمَّا فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة المؤكدة بمنزلة لام القسم في طلب النون المؤكدة.
البلاغة:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ استعارة تمثيلية، شبه الكفار بالصم والعمي.
والهمزة: إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد استغراقهم في الضلال.
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا جناس الاشتقاق، لتغير الشكل وبعض الحروف بينهما.
المفردات اللغوية:
يَعْشُ يتغافل ويتعام ويعرض، لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات، وقرئ «يعش» بالفتح، وقرئ «يعشو» على أن مَنْ موصولة يقال: عشي يعشى كرضي يرضى وعرج يعرج: إذا كان في بصره آفة ذِكْرِ الرَّحْمنِ القرآن. نُقَيِّضْ نهيئ ونسبب ونضم إليه شيطانا. قَرِينٌ رفيق ملازم لا يفارقه، يوسوسه ويغويه دائما.
وَإِنَّهُمْ أي الشياطين. لَيَصُدُّونَهُمْ أي العاشين. عَنِ السَّبِيلِ طريق الهدى.
وَيَحْسَبُونَ أي الكفار. جاءَنا العاشي، بقرينه يوم القيامة. يا لَيْتَ يا
153
للتنبيه بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد ما بين المشرق والمغرب، مغلّبا المشرق على المغرب. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت، والْقَرِينُ الصاحب والصديق.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي العاشين تمنيكم وندمكم في القيامة: إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ أي تبين لكم ظلمكم بالإشراك. أَنَّكُمْ أي لأنكم مع قرنائكم، بتقدير لام العلة، وقرئ «إنكم» بالكسر فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تشتركون مع شياطينكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه.
الصُّمَّ جمع أصم وهو الذي في أذنه صمم. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في خطإ بيّن، فهم لا يؤمنون، وقوله: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ عطف على العمي، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.
نَذْهَبَنَّ بِكَ أي فإن قبضناك وأمتناك قبل تعذيبهم. مُنْتَقِمُونَ بعدك في الدنيا أو الآخرة. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي نبصرنك ما وعدناهم به من العذاب. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قادرون على عذابهم.
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ أي تمسك بالقرآن وقرئ «أوحى» أي الله تعالى. عَلى صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ لا عوج له. لَذِكْرٌ لشرف عظيم به تذكر لَكَ وَلِقَوْمِكَ لنزوله بلغتهم. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة عن القيام بحقه، بأداء التكاليف فيه من أمر ونهي. وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي واسأل سلالتهم وعلماء دينهم. مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ غيره. آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان، وهل جاءت ملة من الملل به؟
والمراد الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، والدلالة على أن الأمر به قديم غير جديد.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٦) :
وَمَنْ يَعْشُ: أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشا قالت: قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه، وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟
قال: أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى، قال أبو بكر: وما اللّات؟ قال:
ربنا، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال
154
طلحة: قم يا أبا بكر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً الآية.
سبب نزول الآية (٤١) :
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ..: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعب نفسه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غاليا، فنزلت الآية: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن المال متاع الدنيا، وهو زائل، نبّه إلى آفات المال، لأن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله، وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدون الناس عن طريق الهداية في الدنيا، أما في الآخرة فيتبرأ الكافر من قرينه الشيطان. وهما في العذاب مشتركان، والاشتراك في العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا.
وبعد أن وصف الله تعالى المعرضين عن ذكره بالعشا، وصفهم أيضا بالصمم والعمى، بسبب كونهم في ضلال مبين، ولما بيّن تعالى أن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا تؤثر في قلوب هؤلاء، تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله منهم، إما حال حياته أو بعد وفاته، ثم أمره ربه أن يتمسك بما أمره به، فإنه على صراط مستقيم نافع، هو منهج القرآن الذي فيه شرف عظيم له ولقومه، وسوف يسألون عن القيام بحقه.
ثم أبان تعالى أن إنكار عبادة الأصنام في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ليس خاصا به، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مجمعين على إنكاره.
التفسير والبيان:
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي ومن
155
يتعام ويتغافل ويعرض عن النظر في القرآن والعمل به، نهيئ له شيطانا يوسوس له ويغويه، فهو له ملازم لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره، ويطيعه في كل ما يزين له به. والعشا في العين: ضعف البصر، والمراد هنا عشا البصيرة.
والمراد بالآية: إن من يعرف كون القرآن حقا ولكنه يتجاهل ذلك فهو في ضلال، ومادة كل آفة وبلية الركون إلى الدنيا وأهلها، فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر، ثم يصير بالتدريج كالعشى، ثم كالعمى.
والآية مثل قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [فصلت ٤١/ ٢٥]. وجاء في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي وإن الشياطين الذين يقيّضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن، ليمنعونهم بالوسواس عن سبيل الحق والرشاد، ويحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم مهتدون إلى الحق والصواب.
ثم يتبرأ الكافر في الآخرة من قرينة الشيطان، فقال تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي حتى إذا وافانا الكافر يوم القيامة، يتبرم بالشيطان الذي وكل به، ويتبرأ منه، ويتمنى الكافر أن بينه وبين الشيطان المقارن له من البعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس الصاحب الملازم للإنسان شيطانه.
وقرأ بعضهم: «حتى إذا جاءنا» أي القرين والمقارن.
ويقال لهم يوم القيامة توبيخا كما حكى تعالى:
156
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي ويقال لهم في الآخرة توبيخا وتأنيبا وتيئيسا: لن ينفعكم في هذا إذ تبين أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا اشتراككم في العذاب، فلا يخفف عن كل منكما شيء منه، بخلاف حال الدنيا، فإن المصيبة فيها إذا عمت هانت. وهذا يدل على أن حصول الشركة في العذاب لا يفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، لأن اشتغال كل واحد بنفسه في شدة العذاب، يذهله عن حال الآخر، فلا تفيد الشركة الخفة، ولا يتمكن كل واحد من مواساة الآخر في كربه وحزنه وألمه، فلكل قدر مشترك من العذاب.
ثم بيّن الله تعالى لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم تسلية له، فقال:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي أتستطيع يا محمد إسماع أهل الصمم أو هداية أهل العمى أو إرشاد من مستغرقا في ضلال واضح بيّن. وهذا بعد أن وصفهم تعالى بالعشا، وصفهم بأوصاف ثلاثة هي: الصمم والعمى والضلال البيّن، فهؤلاء الكفار ضعاف البصيرة، بمنزلة الصم الذين لا يسمعون ما جئت به أيها الرسول، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه، وهم مفرطون في الضلالة والكفر والجهالة.
وكان التناسب بينهم وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم عكسيا، فهو صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في دعوتهم إلى الإيمان الحق، وهم لا يزدادون إلا غيا وتعاميا عن بيّنات القرآن ودلائل النبوة، إمعانا في الكفر، وعنادا في الباطل.
ثم أعلم الله رسوله بانتقامه منهم، فقال:
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي إنهم لا يفلتون من العقاب في العاجل أو الآجل، فإن قبضنا روحك وأمتناك أيها الرسول قبل نزول العذاب بهم، فنحن منتقمون منهم إما في
157
الدنيا أو في الآخرة، وإن أبصرناك الذي وعدناهم به من العذاب قبل موتك، فنحن قادرون أيضا عليه، ومتى شئنا عذبناهم. وقد أقر الله عينه في حال حياته، فقهرهم يوم بدر، وأصبح المتحكم فيهم، المالك لحصونهم وقلاعهم.
والتعبير بالوعد دليل على وقوعه حتما، لأن الله لا يخلف الميعاد.
وبعد هذا الوعد بالنصر، أمره الله بشدة التمسك بالقرآن وهديه، فقال:
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي تمسّك أيها الرسول بالقرآن الموحى به إليك من ربك، فإنك على طريق قويم ومنهج سليم، مؤد إلى السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وإن كذّب به من كذّب، فذاك لا يضيرك.
ثم أبان تعالى منزلة القرآن، فقال:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقريش والعرب عامة، إذ نزل بلغتهم، وسوف تسألون عن هذا القرآن وكيف عملتم به واستجبتم له وما يلزمهم من القيام بحقه.
ونظير الآية قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء ٢١/ ١٠] أي شرفكم،
أخرج البخاري والترمذي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا الأمر في قريش، لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين»
يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم».
وهذا التنويه بمنزلة العرب يجعلهم أولى الناس باتباع القرآن والعمل بأحكامه وشرائعه، وإن كانت الرسالة الإسلامية عامة للناس قاطبة.
158
ثم نبّه اللَّه تعالى إلى أن الدعوة إلى توحيد اللَّه ونبذ الشرك قديم، فقال:
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي واسأل سلالات الأمم التي أرسلنا فيها الأنبياء وعلماءهم، هل أذن اللَّه بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ والمعنى: جميع الرسل دعوا إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كما قال جل جلاله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
والمراد بهذا التنبيه على إجماع المرسلين على التوحيد، وعلى أن محمّدا صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به، وهذا يدل على وحدة الدين الحق في أصوله، ووحدة مهمة الأنبياء عليهم السلام.
وسبب هذا الأمر أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك، فأمره اللَّه بسؤاله الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير والتأكيد، لا لأنه كان في شك منه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يلي:
١- إن الإضلال من اللَّه تعالى لا يكون إلا بعد إعراض الناس عن أوامر اللَّه، فمن يتعام ويتغافل عن آيات القرآن وشرائعه وأحكامه، ويعرض عنها إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم، نهيئ شيطانا يغويه، جزاء على كفره، فهو له قرين وصاحب ملازم في الدنيا، يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية، وقرين له في الآخرة في العذاب المشترك بينهما.
قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعث الكافر زوّج بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار».
159
٢- إن مهمة الشياطين خطيرة تستوجب الحذر من وساوسهم وإغواءاتهم، فهم يصدرون الناس عن سبيل الهدى، حتى يخيل للكفار ويجعلهم يظنون أنهم مهتدون. وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون، فيطيعونهم.
٣- تتجلى الحقيقة المرّة في الآخرة، حين يتبرأ الكافر من الشيطان، ويتمنى البعد عنه كالبعد بين المشرق والمغرب، ويقول له: فبئس القرين أنت، لأنه يورده النار. قال الفراء: أراد المشرق والمغرب، فغلّب اسم أحدهما، كما يقال:
القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة (الظهر) والعصر.
٤- يقول اللَّه للكافر يوم القيامة توبيخا: لن ينفعكم اليوم إذا أشركتم في الدنيا هذا الكلام، وهو قول الكافر: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي لا تنفع الندامة، فإنكم في العذاب مشتركون. أو لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه، ولا ينفع أهل النار التأسي كما يتأسّى أهل المصائب في الدنيا، فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكّن ذلك من حزنه، فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب.
٥- سلّى اللَّه نبيه عن حزنه وأسفه لإعراض قومه عن قبول رسالته، وقال له: ليس لك من الأمر شيء، فلا تستطيع هداية العشيّ الصمّ العمي الضالين، فلا يضيق صدرك إن كفروا.
قال القرطبي في قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ..: فيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق اللَّه تعالى، يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء.
٦- إن تعذيب المشركين آت عاجلا أم آجلا، سواء في حال حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو بعد وفاته، فاللَّه قادر على كل شيء.
160
٧- رفع اللَّه تعالى من معنويات نبيه إلى القمّة بأمرين:
الأول- إعلامه بأنه على صراط مستقيم يوصله إلى اللَّه ورضاه وثوابه.
الثاني- إعلاء مجده وشرفه بالقرآن الذي هو شرف له ولقومه من قريش والعرب قاطبة، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم، وسوف تسألون عن الشكر عليه، وعن العمل بتكاليفه. قال المحققون: في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان.
وقال القرطبي: والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أو من غيرهم.
أخرج الطبري عن ابن عباس قال: أقبل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سريّة أو غزاة، فدعا فاطمة، فقال: «يا فاطمة اشتري نفسك من اللَّه، فإنّي لا أغني عنك من اللَّه شيئا» وقال مثل ذلك لنسوته، ولعترته، ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا قريش بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة كجمام «١» الصاع، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى».
وأخرج الطبري أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم، أو يكونون شرّا عند اللَّه من الجعلان التي تدفع النّتن بأنفها، كلكم بنو آدم، وآدم من تراب، إن اللَّه أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس مؤمن تقي وفاجر شقي» «٢».
(١) الجمام: ما عدا رأس المكيال من الطفاف.
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٦٤. [.....]
161
٨- إن دين التوحيد قديم، ونبذ الشرك قديم، فإذا سئلت أمم الرسل عليهم السلام قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل أذن اللَّه بعبادة الأوثان، وهل أمر بعبادة غير اللَّه؟ أجابوا عن السؤالين بالنفي. والسبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنكاره لأصنامهم، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذا الإنكار، ولكنه دين كل الأنبياء ودعوتهم.
العبرة من قصة موسى عليه السلام وفرعون
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
162
الإعراب:
وَهذِهِ الْأَنْهارُ الواو: إما عاطفة على مُلْكُ مِصْرَ وتَجْرِي حال منها، أو واو الحال، وهذِهِ مبتدأ والْأَنْهارُ صفتها، وتَجْرِي خبرها.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ هنا: منقطعة، لأنه لو أراد أم المعادلة لقال: أم تبصرون، لكنه أضرب عن الأول بقوله: أَنَا خَيْرٌ وكأنه قال: أنا خير منه، فلما كان فيه هذا المعنى، لم تكن أَمْ للمعادلة للهمزة.
البلاغة:
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ الاستفهام للتقرير، لا للإنكار، أي أقروا بما تعلمون من أني ملك مصر.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا الآيات هي المعجزات. وَمَلَائِهِ أشراف قومه ورعاياهم القبط، والمراد بإيراد القصة هنا الاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد، وتسلية الرسول ومناقضة قول قريش:
نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ حين جاءهم بآياتنا الدالة على رسالته، فاجؤوه بضحكهم منها واستهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من آيات العذاب كالطوفان والجراد. إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلا وهي أعظم في الإعجاز بحيث يظن أنها أكبر من الآيات الأخرى، وأُخْتِها قرينتها التي قبلها، والمراد وصف الكل بالكبر، كقولك:
رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، أو إلا وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي أخذ قهر بعذاب كالسنين (الجدب) والطوفان والجراد.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ليرجعوا عن الكفر أو على نحو يرجى رجوعهم.
وَقالُوا لموسى لما رأوا العذاب. السَّاحِرُ العالم الماهر، لأن السحر عندهم علم عظيم.
بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده إليك أنا إن آمنا كشف العذاب عنا، أو بعهده عندك من النبوة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مؤمنون بشرط أن تدعو لنا، فيكشف عنا العذاب. يَنْكُثُونَ ينقضون العهد الذي عاهدوا به موسى، ويصرون على الكفر.
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ افتخارا، إما بنفسه أو بواسطة مناديه، في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمن بعضهم. وَهذِهِ الْأَنْهارُ فروع النيل، وأهمها أربعة:
163
نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس، والمشهور الآن فرع دمياط وفرع الرشيد المكونان لدلتا النيل فيما بينهما. مِنْ تَحْتِي تحت قصري وفي جناتي. أَفَلا تُبْصِرُونَ عظمتي.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ منقطعة أي بل أنا مع هذا الملك والسعة أفضل من موسى، أو متصلة بمعنى: أم تبصرون فتعلمون أني خير منه. الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير ليس أهلا للرياسة، مأخوذ من المهانة: وهي القلة. يُبِينُ يفصح عن مراده بكلامه، بسبب لثغته في لسانه بالجمرة التي تناولها في صغره.
فَلَوْلا هلا. أُلْقِيَ عَلَيْهِ إن كان صادقا. أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ جمع سوار كأخمرة وخمار، وقرئ «أساورة» جمع الجمع، أي جمع أسورة، وهذا تأثر منه بعادة الملوك، فإنهم كانوا إذا سؤدوه وتوّجوه ألبسوه أسورة ذهب وطوق ذهب. مُقْتَرِنِينَ مقرونين به يعينونه على مخالفه، أو متتابعين يشهدون بصدقه.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ استخف واستصغر عقولهم، فدعاهم إلى الضلال، فأجابوه.
فَأَطاعُوهُ فيما يريد من تكذيب موسى. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ هذا تعليل للطاعة.
آسَفُونا أغضبونا بالإفراط في العصيان والعناد، والأسف: الحزن والغضب معا، وقد يطلق على أحدهما. فَأَغْرَقْناهُمْ في اليم. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار، جمع سالف، كخدم وخادم، وقرئ «سلفا» جمع سليف كرغف. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ عظة وعبرة لمن يأتي بعدهم.
المناسبة:
بعد بيان طعن قريش بنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال والجاه، ذكر اللَّه تعالى شبيها لذلك في قصة فرعون حيث قال: إنّي غني كثير المال والجاه. ولما أمر اللَّه نبيه بسؤال أمم المرسلين، ذكر هنا قصة موسى، وبعده عيسى عليهما السلام، للاستدلال بما جاءا به من التوحيد، وإبطال عبادة الأصنام. ثم ذكر شبهة لفرعون وهي أن الملك يلازم النبوة، فطلب من موسى بما جرت العادة لديهم أنهم إذا جعلوا منهم رئيسا لهم سوّروه بسوار من ذهب، وطوّقوه بطوق من ذهب، أو طلب أن تصاحبه الملائكة لدعم موقفه أمام المخالفين.
164
وأعقب هذا توضيحا لأثر السلطة والحكم، فإن فرعون استخف عقول قومه، حينما دعاهم إلى تكذيب موسى، فأطاعوه لضلالهم، فانتقم اللَّه منهم أشد الانتقام.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. فَقالَ: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي لقد بعثنا موسى مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية ١٠١] إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وقال لهم: إني مرسل إليكم من اللَّه رب العالمين: الإنس والجن.
ومعجزاته: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والسنين. أي نقص الزروع والأنفس، والثمرات، واليد، والعصا، فاستكبروا عن الإيمان بها وكذبوها وسخروا منها، كما قال تعالى:
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فلما أتاهم بتلك الآيات والأدلة على صدقه، إذا فرعون وقومه يضحكون ويسخرون ممن جاءهم بها.
وقوله: إِذا هُمْ معناه أنهم فاجؤوا المجيء بها بالضحك عليها والسخرية منها.
وهذا تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها، وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وما نري فرعون وملأه من كل حجة دالة على صدق موسى في دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، والدلالة على صحة دعوته إلى التوحيد، مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها، لقوله: أُخْتِها أي مثيلتها وقرينتها في الدلالة على صدق نبوة موسى.
165
ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، فأخذناهم أخذ قهر بإنزال العذاب عليهم بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، لكي يرجعوا عن كفرهم، ويؤمنوا باللَّه وحده لا شريك له، ويطيعوه فيما أمر ونهى.
وكانوا كلما جاءتهم آية يصفونها بالسحر وبأن موسى ساحر، كما قال تعالى:
وَقالُوا: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي وقالوا يا أيها الساحر العالم- وكانوا يسمون العلماء سحرة تعظيما لهم- ادع لنا ربك لكشف العذاب عنا بما أخبرتنا به من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، فإننا بعدئذ لمؤمنون بما جئت به.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما كشف عنهم العذاب، نقضوا عهدهم، وعادوا إلى كفرهم، كما جاء في آية أخرى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف ٧/ ١٣٣- ١٣٥].
ثم أخبر اللَّه تعالى عن تمرد فرعون وعتوّه وكفره وعناده، فقال:
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أي لما خاف فرعون ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيهم مفتخرا، أو أمر مناديا ينادي بقوله: أليس لي ملك مصر العظيم، فلا ينازعني فيه أحد، والسلطة المطلقة لي، وأنهار النيل تجري من تحت قصري وبين يدي في جناتي، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، وتستدلون به على أحقيتي بالسلطة وفرض النظام، وتنظروا إلى فقر موسى
166
وضعفه هو وأتباعه عن مقاومتي؟
ونحو الآية فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النازعات ٧٩/ ٢٣- ٢٥].
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، وَلا يَكادُ يُبِينُ أي بل أنا خير وأفضل بمالي من الملك والسلطة والسعة والجاه من هذا، أي موسى الذي هو ضعيف حقير ممتهن في نفسه، لا عزّ له، ولا يكاد يبين الكلام، لما في لسانه من العقدة. وهذا حكم عليه بما يعلم عنه في الماضي، دون أن يدري أن الله الكريم أزال عقدته، فقال تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي إلى أن قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه ٢٠/ ٢٧- ٢٨ و٣٦] فقد كان أصاب لسانه في حال صغره شيء من اللكنة بسبب الجمرة التي تناولها، فسأل الله عز وجل أن يحل عقدة لسانه، ليفقهوا قوله، فاستجاب الله ذلك. والتعييب بالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد خسّة ونقيصة في صاحبه الذي يعيب، فذلك لا يعاب به ولا يذم عليه. وفرعون، وإن كان يدرك هذا، لكنه أراد التزويج على رعيته الجهلة الأغبياء.
ثم استعلى فرعون على موسى بمظاهر الترف والملوك، ظنّا منه أن الرئاسة تلازم النبوة، فقال تعالى:
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي فهلّا حلّي بأساور الذهب إن كان عظيما، أو هلّا ألقى عليه ربه أساور الذهب إن كان صادقا في نبوته، وهذا يشبه قول كفار قريش عن استحقاق عظيم القريتين النبوة.
أو جاء معه الملائكة متتابعين متقاربين إن كان صادقا، يعينونه على مهمته، ويشهدون له بالنبوة، فأوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة
167
الجبابرة أو محفوفين بالملائكة، ونظر إلى الشكل الظاهر، ولم يدرك الجوهر المعنوي لحقيقة الرسل.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي فاستهان بعقول قومه ورعيته، ودعاهم إلى الضلالة، فاستجابوا له، وأطاعوه فيما أمرهم به، وكذّبوا موسى، إنهم كانوا خارجين عن طاعة الله تعالى.
ثم جاء دور العقاب مما فعلوا، فقال تعالى:
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي فلما أسخطونا وأغضبونا، انتقمنا منهم أشد الانتقام، فأغرقناهم جميعا في البحر، وإنما أهلكوا بالغرق ليناسب ما تفاخروا وتباهوا به وهو قوله: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، ثم تلا صلّى الله عليه وسلّم: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي فجعلنا فرعون وقومه قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب، وعبرة وعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من القصة ما يأتي:
١- إن هذه القصة تمثل صراع الجبابرة الطغاة أصحاب الثروة والمال مع أهل القيم الإنسانية والدينية الرشيدة ذوي الدخل المتوسط أو الفقراء، تشابهت حالة
168
فرعون مع موسى، مع حالة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كفار قريش أصحاب النفوذ والثراء.
اتفق الأنبياء كلهم على توحيد الإله، فكذب فرعون وقومه موسى عليه السلام، بالرغم من تدعيمه بالمعجزات وهي التسع آيات، فكانت عاقبتهم الإغراق بسبب التكذيب، ونجّى الله موسى وقومه بني إسرائيل، وجعلت العاقبة الحميدة له. وكذلك حصل الأمر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم كذّبه قومه فأهلكهم الله، ونصر رسوله والمؤمنين بدعوته.
٢- كانت حيثيات الحكم ومسوغاته على فرعون وقومه هي الضحك والسخرية والاستهزاء من معجزات موسى عليه السلام، كالسنين (نقص الأنفس والزروع) ونقص الثمرات، والطوفان والجراد والقمّل والضفادع، وكانت هذه الآيات عذابا لهم وآيات لموسى.
وكانت المعجزات قوية التأثير، فما من آية إلا وهي أعظم من أختها- سابقتها- ومع ذلك لم يؤمنوا بها، فأخذهم الله بالعذاب على تكذيبهم بتلك الآيات.
ووصفوا موسى بأنه ساحر لما عاينوا العذاب، تعظيما له على حسب عادتهم في احترام السحرة، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويحتمل أنهم أرادوا به الساحر على الحقيقة على الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا، وطلبوا منه كشف العذاب عنهم بما أخبرهم عن عهد الله إليه أنهم إن آمنوا كشف عنهم، فقالوا: إنا لمهتدون فيما يستقبل.
فلما دعا فكشف الله عنهم الكرب والغم، عادوا إلى كفرهم، ونقضوا العهد والميثاق الذي جعلوه على أنفسهم، فلم يؤمنوا.
٣- وبعد أن حكى الله معاملة فرعون مع موسى، حكى أيضا معاملة فرعون مع ربه، فلما رأى آيات موسى خاف ميل القوم إليه، فجمع قومه، فقال،
169
ونادى بمعنى قال، فرفع صوته بينهم: يا قوم، أليس لي ملك مصر، لا ينازعني فيه أحد، وأنهار النيل تجري من تحت قصري، أفلا تبصرون عظمتي وقوتي وضعف موسى؟.
ثم صرح بحاله فقال: بل أنا خير من موسى المهين الحقير الضعيف، والذي لا يكاد يفصح كلامه بسبب العقدة التي كانت في لسانه بحسب علمهم السابق عنه، ومن لا بيان له ولا لسان كيف يكون نبيا؟! والرجل الفقير كيف يكون رسولا من عند الله إلى الملك الكبير الغني؟! ثم تعاظم فرعون وتغطرس واعتز بالثروة والملك والمال، فقال: هلا ألقي عليه أساور من ذهب، جريا على عادة الوقت وزيّ أهل الشرف، أو تأيد بجماعة من الملائكة يمشون معا متتابعين مقترنين إن كان صادقا يعاونونه على من خالفه؟ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه، حتى يتعزّز بهم ويستعملهم في أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب.
فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في المظاهر، ولم يعلم أن رسول الله إنما أيّدوا بالجنود السماوية، وكل إنسان عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء، كان أبلغ في التأييد من أن يكون له أسورة ذهب أو ملائكة أعوان وأدلة على صدقه.
٤- ثم حكى الله علاقة فرعون بقومه، فإنه استخف عقولهم واستجهلهم فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، إنهم كانوا فسقة خارجين عن طاعة الله تعالى.
٥- لما تجاوز فرعون وقومه الحدود القصوى، وأسخطوا الله وأغضبوه، عاجلهم بالانتقام الشديد، وأغرقهم الله في أليم.
170
والفرق بين السخط والغضب: أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام، ولما كان ذكر الأسف والانتقام في حق الله محالا، أوّل المفسرون ذلك، فجعلوا الغضب في حق الله إرادة العقاب، والانتقام إرادة العقاب لجرم سابق.
٦- جعل الله قوم فرعون قدوة لمن عمل عملهم من الكفار، وعبرة وعظة لهم ولمن يأتي بعدهم من الكافرين.
والخلاصة: إن المقصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين:
أحدهما- أن الكفار والجهال يحتجون دائما على الأنبياء بشبهة الفقر والضعف، وهذا هو سر النبوة والقوة، فلا يلتفت لما يقولون.
الثاني- أن فرعون في أعز حالاته في الدنيا صار مقهورا، فيكون الأمر في حق أعداء رسول الله هكذا إلى يوم القيامة «١».
العبرة من قصة عيسى عليه السلام
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٦]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦)
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ٢١٧.
171
الإعراب:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَرْيَمَ: ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والعجمة، أو للتعريف والتأنيث.
أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أَمْ هنا متصلة، لأنها معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى «أي» وتقديره: أيهما خير؟ كقولك: أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك.
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً.. من: إما بمعنى البدل، أي لو نشاء لجعلنا بدلا منكم، أو زائدة، أي لجعلناكم.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بدل من الساعة، والمعنى: هل ينظرون إلا إتيان الساعة؟
المفردات اللغوية:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا جعل مثلا، أي حجة وبرهانا، حين نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨] فقال المشركون- على لسان ابن الزّبعرى أو غيره-: رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى، لأنه عبد من دون الله إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أي إذا المشركون في قريش من المثل يضحكون ويصيحون ويضجون فرحا بما سمعوا.
وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي قال المشركون: هل آلهتنا الأصنام خير عندك أم عيسى، فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه، أو هل آلهتنا الملائكة خير أم عيسى؟ فإذا جاز أن يعبد، ويكون ابن الله، كانت آلهتنا الملائكة أولى بذلك ما ضَرَبُوهُ المثل إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل، لعلمهم أن ما لغير العاقل، فلا يتناول عيسى عليه السلام بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شديد والخصومة معتاد واللجاج.
172
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي ما عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي جعلناه بإيجاده من غير أب كالمثل السائر في الغرابة، يستدل به على قدرة الله تعالى على ما يشاء لَجَعَلْنا مِنْكُمْ بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بأن نهلككم ونخلفكم بالملائكة في الأرض. والمعنى: أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة، فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا، ويحتمل خلقها إبداعا، فمن أين لكم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى؟
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي وإن عيسى أو نزوله لدليل تعلم الساعة بنزوله فَلا تَمْتَرُنَّ بِها لا تشكن فيها، حذف منها نون الرفع للجزم، وواو الضمير لالتقاء الساكنين وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ يصرفكم عن دين الله وَاتَّبِعُونِ واتبعوا شرعي وهداي القائم على التوحيد هذا الذي آمركم به صِراطٌ طريق مُسْتَقِيمٌ يوقم وَلا يَصُدَّنَّكُمُ يمنعنكم عن المتابعة ويصرفكم عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة ثابت عليها.
بِالْبَيِّناتِ المعجزات أو بآيات الإنجيل بِالْحِكْمَةِ بالإنجيل أو بالشريعة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمر الدين لا من أمر الدنيا، فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أنس وعائشة: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وَأَطِيعُونِ فيما أبلغكم عنه إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة لمجموع الأمرين، وهو تتمة كلام عيسى عليه السلام، أو استئناف من الله يدل على مقتضي الطاعة في ذلك.
الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم في عيسى: أهو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة فَوَيْلٌ كلمة عذاب أو واد في جهنم لِلَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بما قالوه في عيسى من المتحزبين هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ الضمير لقريش أو للذين ظلموا أَنْ تَأْتِيَهُمْ أي هل ينظرون إلا إتيان الساعة بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئها لاشتغالهم بأمور الدنيا.
سبب النزول: نزول الآية (٥٧) :
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا:
أخرج أحمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله،
173
وفيه خير، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا صالحا، وقد عبد من دون الله؟ فأنزل الله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الآية».
وقد تقدم في آخر سورة الأنبياء عند قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أن عبد الله بن الزّبعري السّهمي قال: خصمت وربّ هذه البنية، يعني الكعبة، ألست- الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم- تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون عيسى عليه السلام، وهذه اليهود يعبدون عزيرا؟ قال:
فصاح أهل مكة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى - الملائكة وعزير وعيسى عليهم السلام- أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ.
التفسير والبيان:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ هذا لون آخر من تعنت قريش في كفرهم وعنادهم وجدلهم بالباطل ونوع خامس من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة «١»، والمعنى: ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا في مجادلته مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨] إذا قومك قريش منه يضجون ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب. أو لم يدروا أن ما في قوله وَما تَعْبُدُونَ لغير العاقل، وأن المقصود الأصنام والأوثان، ولا تتناول الآية عيسى والعزير والملائكة، فهؤلاء كلهم عباد لله موحدون، قال عيسى في وصية قومه: الربّ إلهنا إله واحد.
(١) الأربعة السابقة: هي (١) أنهم جعلوا لله من عباده جزءا (٢) جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (٣) قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا الأصنام (٤) قولهم: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.
174
وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي وقال كفار قريش مجادلين بالباطل: آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإن كان كل من عبد من غير الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك، فهم قوم شديد والخصومة، كثير واللّدد والجدل.
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن جرير عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية:
ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ»
.
ثم أبان الله تعالى أن عيسى عبد من عبيد الله، فقال:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي ما عيسى ابن مريم إلا عبد من عبيدنا أكرمناه وأنعمنا عليه بالنبوة والرسالة، وجعلنا آية وعبرة لبني إسرائيل، وبرهانا وحجة على قدرتنا على من نشاء، فإنا خلقناه من غير أب، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص وكل مريض بإذن الله، وخلقه أسهل من خلق آدم من غير أب ولا أم، قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران ٣/ ٥٩]. والله قادر على كل شيء، ومن مظاهر قدرته:
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي ولو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يعمرونها يخلفونكم فيها. قال بعض النحويين: من: تكون للبدل، أي لجعلنا بدلكم ملائكة، مثل قوله تعالى:
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة ٩/ ٣٨] أي بدل الآخرة. والمراد بالآية التهديد والتخويف وبيان عجائب قدرة الله تعالى.
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، فَلا تَمْتَرُنَّ بِها، وَاتَّبِعُونِ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي
175
وإن نزول المسيح وخروجه أمارة ودليل على وقوع الساعة، لكونه من أشراطها- علاماتها- لأن الله سبحانه ينزّله من السماء قبيل الساعة، كما أن خروج الدجال قبله من أمارات الساعة، فلا تشكوا في وقوعها ولا تكذبوا بها فإنها كائنة لا محالة، قبل من أمارات الساعة، فلا تشكوا في وقوعها ولا تكذبوا فإنها كائنة لا محالة، واتبعوا هداي فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وهذا المأمور به المدعو إليه طريق قويم موصل إلى النجاة والسعادة.
قال ابن كثير: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مسقطا «١».
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ولا يصرفنكم الشيطان عن اتباع الحق بوساوسه التي يلقيها في نفوسكم، إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة من عهد أبيكم آدم عليه السلام.
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي لما جاء عيسى بالمعجزات والآيات الدالة على صدقه، وبالشرائع في الإنجيل قال لبني إسرائيل: جئتكم بالشرائع الصالحة التي ترغب في الجميل وتكف عن القبيح، وبأصول الدين العامة، من توحيد الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، وجئتكم أيضا لأوضّح لكم بعض ما تختلفون فيه من أحكام التوراة، فاتقوا المعاصي، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وشرائعه وتكاليفه.
ورأس الأمر: التوحيد والعبادة، فقال مبينا ما أمرهم أن يطيعوه فيه:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي إن الله عز وجل هو ربي وربكم وإلهي وإلهكم، فأخلصوا العبادة له، وعبادة الله وحده، فإن العمل بشرائعه هو الطريق القويم والمنهج الصحيح السليم.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٣٢.
176
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي فاختلفت الفرق المتحزبة من اليهود والنصارى الذين بعث إليهم عيسى، في شأنه أهو الله أم ابن الله أم ثالث ثلاثة؟ وصاروا فرقا وأحزابا، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله، وهو الحق، ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول: إنه الله، وقد استقر أمر طوائف النصارى، الكاثوليك والأرثوذكس على أنه هو الرب والإله، وكتبوا على الصفحة الأولى من الإنجيل: «هذا كتاب ربّنا وإلهنا يسوع المسيح».
فالويل ثم الويل والعذاب الشديد للذين ظلموا من هؤلاء المختلفين في طبيعة المسيح، أهي بشرية أم ناسوتية إلهية؟ وهم الذين أشركوا بالله، ولم يعملوا بشرائعه، إنه عذاب مؤلم شديد دائم في يوم القيامة.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل إلا مجيء القيامة فجأة، وهم لا يشعرون أو لا يعلمون بمجيئها لانشغالهم بشؤون الدنيا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- ذكر الله تعالى أنواعا خمسة من كفريات المشركين في هذه السورة:
أولها- قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً.
ثانيها- قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً.
ثالثها- قوله: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ.
رابعها- قوله: وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ. عَظِيمٍ.
177
خامسها- قوله هنا: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.
٢- يتعلق المشركون عادة بشبه واهية، فتراهم يسلكون مسلك الغوغائية، فيضجون ويصيحون إذا وجدوا شبهة يمكن التعلق بها في الظاهر، فلو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها، لأنه تعالى قال: وَما تَعْبُدُونَ ولم يقل:
ومن تعبدون، وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة، وإن كانوا معبودين.
٣- يعتمد المشركون على الجدل السوفسطائي الذي يفقد الموضوعية والهدف، فهو جدل بالباطل، لذا قالوا: آلهتنا خير أم عيسى؟ وما ضربوا هذا المثل للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بقصد إرادة الجدل غير الهادف، الذي أريد به الغلبة في الكلام، لا طلب الفرق بين الحق والباطل.
٤- تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا..
والحق التفرقة بين نوعين من الجدل: الجدل لتقرير الحق، وهذا محمود، والجدل لتقرير الباطل، وهذا مذموم، قال تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر ٤٠/ ٤].
٥- إن جميع الأنبياء والرسل صرحوا لأقوامهم أنهم بشر عبيد لله تعالى، فلا يصح رفع أحد عن المنزلة البشرية كسائر الناس، وعلى هذا فإن عيسى عليه السلام ذو طبيعة بشرية، وليست إلهية كما يزعم النصارى، وما هو إلا عبد كسائر عبيد الله أنعم الله عليه بالنبوة، وجعل خلقه من غير أب آية، وعبرة لبني إسرائيل والنصارى، يستدل بها على قدرة الله تعالى، وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام كلها بإذن الله، ولم يجعل هذا لغيره في زمانه، وكان بنو
178
إسرائيل يومئذ أحبّ الخلق إلى الله عز وجل، لإيمانهم بالله وتوحيدهم إياه، فلما كفروا هانوا وغضب الله عليهم.
٦- الله تعالى قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يجعل بدل الإنس ملائكة يكونون خلفاء عنهم في الأرض، يعمرونها ويشيدون حضارتها، ويتعاقبون بعضهم إثر بعض في تولي شؤونها كلها.
٧- إن خروج عيسى عليه السلام ونزوله من السماء آخر الزمان من أعلام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة.
ورد في صحيح مسلم: «فبينما هو- يعني المسيح الدجال- إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقيّ دمشق بين مهرودتين «١»، واضعا كفّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه، حتى يدركه بباب لدّ «٢»، فيقتله..».
وثبت في صحيح مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لينزلنّ عيسى ابن مريم حكما عادلا، فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنزير، وليضعنّ الجزية، ولتتركنّ القلاص «٣»، فلا يسعى عليها، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد».
٨- لمّا جاء عيسى عليه السلام بالحكمة وهي أصول الدين كمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وبعض الذي يختلفون فيه وهو فروع الدين، أمر قومه بني إسرائيل أن يتقوا الشرك ولا يعبدوا إلا الله وحده، وأن يطيعوه فيما يدعوهم
(١) أي شقتين أو حلتين.
(٢) اللّد: بلد معروف قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين.
(٣) القلاص: جمع القلص، والقلص جمع قلوص: وهي الناقة الشابة من الإبل.
179
إليه من التوحيد، وأعلن أن الله ربه وربهم، وأمرهم بإخلاص العبادة لله، والتوحيد والعبادة صراط مستقيم، وما سواه معوّج لا يؤدي إلى الحق.
وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام، فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله؟
٩- اختلفت أحزاب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو الفرق المتحزبة بعد عيسى من النصارى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية، اختلفوا في عيسى، فقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت اليعاقبة: هو الله، وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله، فويل للذين كفروا وأشركوا عذاب يوم مؤلم وهو يوم القيامة.
١٠- لا ينتظر الأحزاب إلا مجيء القيامة فجأة، وهم لا يفطنون بمجيئها، ولا يشعرون بحدوثها. وفائدة قوله: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بعد قوله:
بَغْتَةً بيان أنهم لا يعرفون وجودها بسبب من الأسباب التي يشاهدونها.
ألوان نعيم المتقين أهل الجنة
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
180
الإعراب:
الَّذِينَ آمَنُوا صفة ل عِبادِ.
وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من واو الَّذِينَ آمَنُوا.
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ أَنْتُمْ: مبتدأ، وخبره: تُحْبَرُونَ.
تِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر.
البلاغة:
بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ بعد الكلمة الأخيرة ما يسمى بحذف الإيجاز، أي أكواب من ذهب، وحذف لدلالة ما قبله عليه.
وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عام بعد خاص هو قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ.
المفردات اللغوية:
الْأَخِلَّاءُ الأحباء في الدنيا، جمع خليل: وهو الصاحب والصديق يَوْمَئِذٍ يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي يتعادون يومئذ، لأن مودتهم في الدنيا كانت قائمة على المعصية إِلَّا الْمُتَّقِينَ المتحابين في الله على طاعته فإنهم أصدقاء، لأن الصداقة إذا كانت مبنية على تقوى الله بقيت نافعة إلى الأبد.
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ هذا ما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ الَّذِينَ آمَنُوا صفة أو نعت لكلمة يا عِبادِ. بِآياتِنا القرآن وَكانُوا مُسْلِمِينَ مخلصين، وهذه العبارة آكد من سابقتها، لأنها عبرت عن الإخلاص وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم أو زوجاتكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تسرّون وتكرمون، يقال: حبره الله: سرّه، والحبور يدل على ظهور أثر السرور على الوجه نضارة وحسنا.
بِصِحافٍ جمع صحفة: وهي كالقصعة: إناء يوضع فيه الأكل يكفي خمسة.
وَأَكْوابٍ جمع كوب: وهو إناء لا عروة له يشرب منه الشارب وَفِيها في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ تلذذا وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ بمشاهدته وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ الخلود ينبئ بمعنى الاستقرار والأمان، فإن كل نعيم زائل إلا نعيم الجنة أُورِثْتُمُوها شبّه جزاء العمل بالميراث، لأنه يخلفه ويأتي بعده مِنْها تَأْكُلُونَ تأكلون بعضها لكثرتها ودوام نوعها، فكل ما يؤكل يخلف بدله.
181
سبب النزول: نزول الآية (٦٧) :
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ..: حكى النقّاش أن هذه الآية نزلت في أميّة بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين، وكان عقبة يجالس النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا، ولم تتفل في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صلّى الله عليه وسلّم قتله، فقتله يوم بدر صبرا «١»، وقتل أمية في المعركة، وفيهم نزلت هذه الآية.
المناسبة:
بعد التهديد بمجيء القيامة بغتة، ذكر الله تعالى عقيبه بعض أحوال القيامة، ووصف هنا ألوان نعيم أهل الجنة، ثم أتبعه ببيان أوصاف عذاب أهل النار، فذكر هنا تعادي الأخلاء إلا المتقين، واطمئنان المؤمنين في نعيم الجنة في سرور دائم وتمتعهم بأصناف الترف جزاء عملهم الصالح في الدنيا.
التفسير والبيان:
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي الأصدقاء في الدنيا المتحابون فيها يعادي بعضهم بعضا يوم القيامة إلا المتقين فإن صداقاتهم تستمر في الآخرة، والمعنى: أن كل صداقة وصحابة لغير الله تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة ٢/ ٢٥٤] وكما قال إبراهيم عليه السلام لقومه:
(١) الصبر: نصب الإنسان للقتل.
182
إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٥].
ثم وصف الله تعالى أنواع نعيم المتقين، فقال:
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله: لا تخافوا من العقاب في الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا، فإن نعيم الآخرة هو الباقي، والدنيا فانية.
روى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال:
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن رجلين تحابا في الله، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، لجمع الله تعالى يوم القيامة بينهما، يقول: هذا الذي أحببته فيّ».
وبعد أن نفى تعالى عنهم المخاوف والأحزان، خصص ذلك بالمؤمنين المسلمين بقوله:
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ أي إن القول المتقدم ليس لجميع الناس، بل للمؤمنين بالقرآن، المنقادين لأحكام الله، المخلصين له العبادة والطاعة، أي آمنت قلوبهم، وانقادت جوارحهم لشرع الله، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: إذا كان يوم القيامة، فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع، فينادي مناد: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرجوها الناس كلهم، فيتبعها: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس الناس منها غير المؤمنين.
ثم بشرهم صراحة بالجنة قائلا:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات تكرمون وتنعمون وتسعدون غاية الإكرام والسعادة.
183
وألوان النعيم هي:
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ، وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ أي لكم في الجنة أنواع مختلفة من المطاعم والمشارب، يقدم فيها الطعام والشراب بآنية الذهب، والكوب: كوز لا عروة له. ولكم فيها من ألوان الأطعمة والأشربة وغيرها من الألبسة والمسموعات كل ما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان، وكل ما يمتع الأعين من المستلذات والمشاهد والمناظر الخلابة، وأسماها النظر إلى وجه الله الكريم من غير حصر ولا كيف، وأنتم فيها ماكثون على الدوام، لا تموتون ولا تخرجون منها، ولا تبغون عنها تحولا.
وسبب هذا الجزاء عملهم الصالح، فقال تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن تلك الجنة بما فيها من ألوان النعيم صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث، بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة، فيكون له، فيقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقول: وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فيكون له شكرا» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة، وذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
وبعد ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لإتمام النعمة، فقال تعالى:
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْها تَأْكُلُونَ أي لكم في الجنة غير الطعام
184
والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف، تأكلون منها مهما اخترتم وأردتم، كلما قطفتم ثمرة جددت لكم ثمرة أخرى.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات الأحكام التالية من أحكام يوم القيامة:
١- الأصحاب والأصدقاء في الدنيا يكونون يوم القيامة أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا إلا المتقين، فإنهم أصدقاء متحابون في الدنيا والآخرة.
وهذا دليل على أن الخلّة أو الصحبة إذا كانت على المعصية والكفر، صارت عداوة يوم القيامة، أما الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة.
٢- عباد الله المؤمنون المطيعون المتقون آمنون في الآخرة من الخوف، متخلصون من الحزن، قد أزال الله عنهم الخوف والحزن كما وعدهم، وأشعرهم بالفرح من نواح أربع هي:
أ- خاطبهم تعالى بنفسه من غير واسطة، بقوله: يا عِبادِ...
ب- وصفهم تعالى بالعبودية، وهذا تشريف عظيم، كما شرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، فقال:- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ... [الإسراء ١٧/ ١].
ج- أزال عنهم الخوف يوم القيامة بالكلية، وهذا من أعظم النعم.
د- نفى عنهم الحزن عما فاتهم من نعيم الدنيا الماضية «١».
٣- يكرم الله المؤمنين إكراما على سبيل المبالغة، فيدخلهم الجنة هم
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ٢٢٥.
185
وأزواجهم المؤمنات المسلمات في الدنيا، بعد أن أمّنهم من الخوف والحزن. وهذا يعني أن حسابهم يمر على أسهل الوجوه وأحسنها.
٤- تقدّم الأطعمة والأشربة لأهل الجنة فيها بآنية الذهب. أما في الدنيا فيحرم استعمال أواني الذهب والفضة،
جاء في الصحيحين عن حذيفة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الدّيباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة».
وروى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»
وهذان الحديثان يقتضيان التحريم، بلا خلاف في ذلك.
والنهي عن الأكل والشرب يدل على تحريم الاستعمال والانتفاع بمختلف الأوجه، لأنه نوع من المتاع، فلم يجز، ومن استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
أما الإناء المضبب بالذهب أو الفضة أو المشتمل على حلقة منهما، كالمرآة ذات الحلقة الفضية، فلا يشرب فيه، ولا ينظر في المرآة.
وإذا لم يجز استعمال الإناء لم يجز اقتناؤه، لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطّنبور «١».
٥- في الجنة كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأهلها باقون دائمون فيها،
روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه: «أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من خيل؟ قال: إن الله أدخلك الجنة، فلا تشاء أن تحمل على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت.
(١) الطنبور: من آلات الطرب، ذو عنق طويل، وستة أوتار من نحاس.
186
وسأله رجل، فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من إبل؟ قال: إن يدخلك الله الجنة، يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك».
٦- إن الظفر بنعيم الجنة يكون بسبب العمل الصالح في الدنيا.
٧- في الجنة ألوان كثيرة من الفواكه المختلفة والثمار الطيبة كلها، رطبها ويابسها، سوى الطعام والشراب، يأكل أهلها منها، دون انقطاع ولا فناء، وهذا تعويض لمن حرم منها في الدنيا، وتكميل للرغبة، وتقوية لدواعي العمل المؤدي إليها.
عذاب أهل النار وأسبابه
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٨٠]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
الإعراب:
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ، خالِدُونَ خبران ل إِنَّ أو خالِدُونَ خبر، والظرف متعلق به.
البلاغة:
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ التفات من الخطاب في قوله: لَقَدْ جِئْناكُمْ إلى الغيبة للإشعار بأن الإبرام أسوأ من كراهتهم للحق.
187
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بين السر والنجوى طباق، أي الخفاء والعلانية.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ذوي الجريمة الكبرى وهم الكفار الذين هم جعلوا في مقابل المؤمنين بالآيات لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفف عنهم، بجعل العذاب متقطعا على فترات مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة، حزينون من شدة اليأس، من الإبلاس وهو الحزن الناشئ من شدة اليأس، ويصاحبه عادة سكوت.
مالِكُ خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ليمتنا، أي سل ربك أن يقضي علينا، من قضى عليه إذا أماته ماكِثُونَ مقيمون في العذاب دائما، لا خلاص لكم بموت ولا غيره لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ قال تعالى: لقد جئناكم يا أهل مكة بالحق الثابت على لسان الرسول أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً بل أحكموا تدبير أمر في كيد النبي محمد وتكذيب الحق ورده، ولم يقتصروا على كراهيته فَإِنَّا مُبْرِمُونَ محكمون كيدنا في إهلاكهم ومجازاتهم.
سِرَّهُمْ حديث الخفية مع النفس أو الغير في مكان وَنَجْواهُمْ تناجيهم فيما بينهم وهو ما يجهرون به بينهم بَلى نسمع ذلك وَرُسُلُنا والحفظة لَدَيْهِمْ عندهم، ملازمون يَكْتُبُونَ ذلك.
سبب النزول:
نزول الآية (٧٩) :
أَمْ أَبْرَمُوا.. قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر به- بالنبي صلّى الله عليه وسلّم- في دار الندوة.
نزول الآية (٨٠) :
أَمْ يَحْسَبُونَ..: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم، ترون الله يسمع كلامنا؟ فقال آخر: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فأنزلت: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ... الآية.
188
المناسبة:
لما ذكر اللَّه تعالى أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا، ليبين فضل المطيع على العاصي، ولما ذكر تعالى الوعد، أردفه بالوعيد، على الترتيب المستمر في القرآن، فبعد أن ذكر ما أعد لأهل الجنة المتقين من ألوان النعيم، ذكر ما أعد لأهل النار الكفار من العذاب الأليم وأسبابه وهي الكفر والمعاصي، مع إحباط مكائدهم ومؤامراتهم لرد الحق المنزل، وإعلامهم بأن اللَّه عليم بذلك، والحفظة الملازمون لهم يكتبون كل ما بدر منهم من قول أو فعل، ليكون عنصر إثبات وحجة عليهم.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي إن الذين ارتكبوا الكفر بالله في دار الدنيا هم معذبون في عذاب النار، عذابا دائما، مخلّدون فيه أبدا.
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ لا يخفف عنهم ذلك العذاب فترة أو لحظة ليستريحوا منه، وهم آيسون من النجاة ومن كل خير، حزينون أشد الحزن.
وسببه ما اقترفوا في الدنيا كما قال تعالى:
وَما ظَلَمْناهُمْ، وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أي ما عذبناهم بغير ذنب، ولا زدناهم على ما يستحقونه، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما ارتكبوا من الذنوب، وبما عملوا من الأعمال السيئة، حيث كفروا بالله ربهم، وكذبوا رسله وعصوا ما جاؤوا به، فجوزوا بذلك جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي ونادى المجرمون للتخلص مما هم فيه من العذاب الشديد: يا مالك- وهو خازن النار-
189
ليمتنا اللَّه أو ليقبض أرواحنا، فيريحنا مما نحن فيه من العذاب، فأجابهم بقوله:
إنكم مقيمون في العذاب، لا خروج لكم من النار، ولا محيد لكم عنها. قال المحققون: سمي خازن النار مالكا، لأن الملك علقة، والتعلق من أسباب دخول النار، كما سمي خازن الجنة رضوانا، لأن الرضا بحكم اللَّه سبب كل راحة وسعادة، وصلاح وفلاح.
وذلك كقوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر ٣٥/ ٣٦] وقوله سبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى ٨٧/ ١١- ١٣]. وقد روي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، وسألوهم أن يخفف عنهم ربهم يوما واحدا من العذاب، فردت الخزنة عليهم أسوأ رد: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، قالُوا: بَلى، قالُوا فَادْعُوا، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر ٤٠/ ٤٩- ٥٠].
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب عقابهم قائلا:
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي لقد بينا لكم الحق ووضحناه وفسرناه، وأرسلنا إليكم الرسل، وأنزلنا عليهم الكتب، فدعوكم إلى الصراط المستقيم، فأبيتم وكذبتم وكفرتم وعاندتم، وكان أكثركم أي كلكم كارهين للحق وأهله لا يقبلونه.
ولما ذكر اللَّه تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفسادهم في الدنيا، فقال بطريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة لبيان كون تدبيرهم أسوأ من كراهتهم للحق:
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي بل دبّر مشركو مكة بإحكام كيدا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار الندوة بمكة ليقتلوه أو يحبسوه أو يطردوه، والمعنى أنهم كلما
190
أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم، وإنا محكمون لهم كيدا، أي نبيّت لهم جزاء وعقابا شديدا، كما قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل ٢٧/ ٥٠] وقال سبحانه: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور ٥٢/ ٤٢] وكل من الكيد والمكر يراد به العقاب من اللَّه تعالى، جزاء على تحايلهم في رد الحق بالباطل، ورد وبال ذلك عليهم، وإحباطه، ولهذا قال تعالى:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي بل أيظنون أننا لا نسمع سرهم وعلانيتهم، سواء ما يضمرونه من شر وسوء وكيد، أو ما يتناجون به فيما بينهم علانية لحبك المؤامرة، والتخطيط لإنفاذها؟ بلى، نحن نسمع ذلك ونعلم به تماما، والملائكة الحفظة أيضا يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل، صغير أو كبير: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق ٥٠/ ١٧- ١٨].
قال يحيى بن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات ما يأتي:
١- إن جزاء الكفار الذين لم يؤمنوا بوجود اللَّه ووحدانيته، ولم يصدقوا بالرسل والكتب الإلهية هو نار جهنم. وقد وصفهم اللَّه تعالى بصفة المجرمين.
٢- وصف تعالى عذاب جهنم بثلاث صفات: هي أولا- الخلود وهو في رأي الرازي: عبارة عن طول المكث، ولا يفيد الدوم، وثانيا- عدم التخفيف من العذاب، وثالثا- الإياس من الرحمة أو السكوت سكوت يأس.
191
٣- لا ظلم للكفار بالعذاب يوم القيامة، ولكنهم هم الظالمون لأنفسهم بالشرك، وإن أعظم جريمة في حق اللَّه هي الشرك به، لذا قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
٤- يطلب الكفار من مالك خازن جهنم أن يتخلصوا من العذاب بالموت الأبدي، وهم بالرغم من أنهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب، طلبوا ذلك إما على سبيل التمني أو على وجه الاستغاثة، وكلا الأمرين تعبير عن الحيرة والقلق والاضطراب ونحوها مما يفعله اليائس المتخبط في أحواله كلها، فأجيبوا بأنهم مقيمون على الدوام في نار جهنم.
ويذكر المفسرون أن بين سؤالهم هذا وبين جوابهم ثمانين سنة، أو ألف سنة، أو مائة سنة، أو أربعين سنة، الأول قول عبد اللَّه بن المبارك، والثاني قول الأعمش، والثالث قول ابن عباس، والرابع قول عبد اللَّه بن عمرو «١». وكل ذلك يحتاج لدليل أوثق وأثبت، ونفوض العلم فيه إلى اللَّه تعالى.
٥- إن سبب عقاب الكفار أن اللَّه تعالى جاءهم بالحق فلم يقبلوا، وكلهم نافر من محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن القرآن، شديد البغض لقبول الدين الحق، وهو الإسلام ودين اللَّه تعالى.
٦- أحبط اللَّه كل مؤامرات الكفار على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن اللَّه عاصمه من الناس، قال مقاتل- كما تقدم-: نزلت آية أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ في تدبيرهم بالمكر بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار النّدوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل، ليشتركوا في قتله، فتضعف المطالبة بدمه، فنزلت الآية «٢».
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ١١٧
(٢) المرجع السابق: ١٦/ ١١٨.
192
٧- يخطئ الناس وبخاصة الكفار حين يظنون أن اللَّه لا يسمع سرهم ونجواهم، والسر: ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى:
ما تكلموا به فيما بينهم، فإن اللَّه سميع بصير، يسمع ويعلم كل شيء، والملائكة الحفظة يكتبون عليهم تلك الأحوال، وستكون الكتابة في سجل الأعمال يوم القيامة يحاسبون بناء عليها، وحجة وبرهانا لإثبات معاصيهم ومنكراتهم، وهذا تأكيد لعلم اللَّه.
تنزيه اللَّه سبحانه عن الولد والشريك
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨١ الى ٨٩]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
الإعراب:
إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ إِنْ: إما شرطية على سبيل الافتراض، أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده، على أنه لا ولد له، أو على حد قول الرجل لصاحبه: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، والمعنى: لست بكاتب، ولا أنا حاسب. أو أن تكون إِنْ بمعنى «ما» وتقديره:
ما كان للرحمن من ولد.
193
فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ كل من الجار والمجرور متعلق بما بعده.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللام في لَئِنْ لام القسم. ولَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع وواو الضمير.
وَقِيلِهِ يا رَبِّ بالجر لكلمة قِيلِهِ عطفا على السَّاعَةِ أي وعنده علم الساعة وعلم قيله، أو بالرفع عطفا على عِلْمُ في قوله: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي وعلم قيله، فحذف المضاف، أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: وقيله: يا رب، مسموع، أو بالنصب على المصدر، أي ويقول قيله، أو عطفا على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ في قوله: نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أو عطفا على معنى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي ويعلم الساعة ويعلم قيله، أو عطفا على المفعول المحذوف ل يَكْتُبُونَ في قوله: وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله.
وَقُلْ: سَلامٌ سَلامٌ: خبر مبتدأ محذوف، أي أمري سلام، أي مسالمة منكم، وليس من السلام بمعنى التحية.
المفردات اللغوية:
قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي إن وجد له ولد على سبيل الفرض والتقدير، وثبت ذلك بالدليل القاطع، فأنا- أي محمد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أول العابدين أي المعظمين للولد تعظيما للوالد، لكن ثبت ألا ولد له تعالى، فانتفت عبادته وبطلت سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ..
أي تنزيها لله عن كونه ذا ولد وعن كل نقص رَبِّ الْعَرْشِ العرش أو الكرسي: مخلوق عظيم أعظم من السموات والأرض، اللَّه أعلم به عَمَّا يَصِفُونَ يقولون كذبا بنسبة الولد إليه.
فَذَرْهُمْ اتركهم يَخُوضُوا يعبثوا في باطلهم، ويبطلوا مع المبطلين وَيَلْعَبُوا في دنياهم يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة الذي يوعدون فيه العذاب إِلهٌ أي أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض الْحَكِيمُ في تدبير خلقه الْعَلِيمُ بمصالحهم، وهما دليلان على استحقاق العبادة، والمعنى أن اللَّه في السماء والأرض بالألوهية والربوبية، وليس الاستقرار.
تَبارَكَ تعالى وتعاظم وَما بَيْنَهُما كالهواء وجميع المخلوقات وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للحساب والجزاء يَدْعُونَ يعبدون، وهم الكفار مِنْ دُونِهِ من غير اللَّه الشَّفاعَةَ لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي قال: لا إله إلا اللَّه. والاستثناء إما متصل، لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيرا، أو منقطع، أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة وَهُمْ يَعْلَمُونَ يتيقنون بقلوبهم مثلما شهدت به ألسنتهم، وهم عيسى وعزير والملائكة، فهؤلاء هم الذين يشفعون بإذن اللَّه للمؤمنين يُؤْفَكُونَ يصرفون عن عبادة اللَّه.
194
وَقِيلِهِ معطوف على السَّاعَةِ أي وعنده علم الساعة وعلم قيله، أي قيل محمد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والقيل والقال والمقالة والقول بمعنى واحد، أي وقوله فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أعرض عنهم وَقُلْ: سَلامٌ سلام متاركة وهجران، لا سلام تحية فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يطلعون على ما أعد لهم من عذاب، وهذا تهديد وتوبيخ لهم أي للكفار.
المناسبة:
بعد بيان أحوال المجرمين الكفار في الآخرة، أردفه تعالى ببيان استحالة نسبة الولد والشريك له، وأنه المعبود بحق في السماء والأرض وأنه الحكيم في صنعه العليم بكل شيء، وأن اللَّه سبحانه مالك السموات والأرض ومالك كل شيء في الكون، وأن الآلهة المعبودة من دون اللَّه ليس لها أي نفع كالشفاعة في الآخرة، وأن المشركين متناقضون حين يقرون بأن الخالق للكون هو اللَّه، ثم يعبدون معه غيره، وأن حسابهم آت يوم القيامة الذي لا يعلم بميقاته أحد غير اللَّه تعالى.
التفسير والبيان:
قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي قل يا محمد: إن ثبت ببرهان صحيح لله تعالى ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، وأول من يعظمه كما يعظّم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، ويستحيل أن يكون له ولد فهو محال في ذاته، لأنه يؤدي إلى العجز والحاجة لغيره والنقص، والإله كامل الصفات. والجملة شرطية لفظا ومعنى، مركبة من شرط وجزاء، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل، بقصد المبالغة في نفي الولد، وهو أبلغ وجوه النفي وأقواها، كما تقول لمن يجادلك: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقد به.
وهو مثل قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر ٣٩/ ٤] وقوله سبحانه: لَوْ
195
كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
[الأنبياء ٢١/ ٢٢] أي لو كان في السموات والأرض أكثر من إله لفسدت.
ويؤكد نفي الولد قوله تعالى:
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبِّ الْعَرْشِ، عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا، ويفترون عليه تعالى ما لا يليق بجنابه، أو تعالى وتنزه وتقدس خالق الأشياء عن أن يكون له ولد، فهو مالك السموات والأرض، ورب العرش المحيط بالكون، وهو منزه عما يصفه به المشركون كذبا من نسبة الولد إليه.
ثم أمر اللَّه تعالى نبيه بالإعراض عن المشركين المعاندين قائلا:
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فاتركهم أيها النبي يخوضوا في جهلهم وباطلهم وضلالهم، ويلعبوا ويلهوا في دنياهم، حتى يلقوا يوم القيامة الذي يوعدون به. وفي هذا تهديد ووعيد.
ويزيد اللَّه تعالى تأكيده تنزيه نفسه عن الولد قائلا:
١- وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي هو اللَّه المعبود بحق في السماء، والمعبود بحق في الأرض، فلا يستحق العبادة سواه، وهو الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم. والمعنى: كما أنه تعالى ليس له ولد، ليس له مكان يستقر فيه، بل له الألوهية والربوبية في الكون كله، وفي كل مكان، ويستحيل عليه المكان، لأنه يكون محدودا محصورا في جهة معينة، له حجم ونهاية، وتلك صفات الحوادث، واللَّه منزه عنها، فلا يحده زمان ومكان، والحكمة البالغة والعلم الواسع يتنافيان مع إثبات الولد لله.
ثم أبطل اللَّه تعالى قول الكفرة: إن الأصنام تنفعهم، فقال:
196
٢- وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تعاظم وتعالى وزادت خيراته وبركاته اللَّه مالك السموات ومالك الأرض، وما بينهما من الفضاء والهواء وأنواع الحيوان والإنسان وخالق كل شيء، وهو المختص بعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة، وإليه مرجع ومصير الخلائق كلها، فيجازي كل إنسان بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهذه صفات تتنافى كلها أيضا مع إثبات ولد لله، لأنه تعالى غير محتاج لمعونة أحد من خلقه، كما أن له السلطان المطلق في الحساب والجزاء في عالم القيامة، ولما نفى اللَّه تعالى الولد أتبعه بنفي الشركاء، فقال مؤكدا عدم نفع الأصنام:
٣- وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ، إِلَّا «١» مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي ولا تملك- ولا تقدر- الأصنام وكل معبود مدعو من دون اللَّه الشفاعة عند اللَّه كما يزعم عبادها أنهم يشفعون لهم، لكن من آمن وشهد بالحق على بصيرة ويقين بأن اللَّه واحد لا شريك له، فإن شفاعته مقبولة عند اللَّه بإذن اللَّه. فقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ معناه: وهم على علم وبصيرة بما شهدوا به. وهذا دليل على أن إيمان المقلّد وشهادته غير معتبرين.
ثم أبان اللَّه تعالى تناقض المشركين قائلا:
٤- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي وتا لله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره عمن خلقهم؟ لأجابوا بأنه اللَّه، فهم يعترفون بأنه الخالق للأشياء، جميعها، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا، ولا يقدر على شيء، فكيف يصرفون عن العبادة الحقه عبادة اللَّه إلى عبادة غيره، مع هذا الاعتراف؟ إنهم في هذا التناقض في غاية الجهل والسفاهة وسخافة
(١) استثناء منقطع بمعنى لكن، ويجوز أن يكون متصلا كما بينا.
197
العقل، وهذا مدعاة للعجب من إشراكهم، والغرض من الآية: التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع، ثم يجعلون له أندادا.
ثم أعلن اللَّه تعالى علمه بشكوى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من إعراض قومه قائلا:
٥- وَقِيلِهِ: يا رَبِّ، إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي ويعلم اللَّه تعالى علم الساعة وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وشكواه إلى ربه من قومه الذين كذبوه: يا ربّ، إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون ولا يصدقون بك ولا برسالتي إليهم، كما أخبر تعالى في آية أخرى: وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان ٢٥/ ٣٠].
ثم أمر اللَّه تعالى نبيه بالإعراض عنهم ونبذهم لإشراكهم قائلا:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ: سَلامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي اصفح عن المشركين صفح المغاضب لا الموافق المجامل، وأعرض عما يقولون وما يرمونك به من السحر والكهانة، واصبر على دعوتهم إلى أن يأتي أمر اللَّه، وقل: أمري معكم مسالمة ومتاركة إلى حين، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد من اللَّه لهم، ووعد ضمني بنصر الإسلام والمسلمين عليهم، وقد أنجز اللَّه وعده، فأيد رسوله والمؤمنين، وهزم أركان الشرك والمشركين، وطهر جزيرة العرب من فلولهم وآثارهم، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا، وانتشر الإسلام- وللَّه الحمد- في المشارق والمغارب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي:
١- إن إنكار وجود الولد لله تعالى ليس عنادا ولا منازعة، وإنما بدلالة الأدلّة القاطعة على نفي وجود الولد، فالعبرة للدّليل، وقد أثبت الدّليل القاطع
198
عدم وجود الولد لله تعالى، لأن صفة الألوهية تقتضي الكمال والقدرة والحكمة والعلم، واتّخاذ الولد دليل العجز والنقص.
وهذا مأخوذ من معنى الآية الأولى: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ.. أي لو كان له ولد كنت أول من عبده، على افتراض أن له ولدا ثابتا بالبرهان، ولكن لا ينبغي ذلك، ولم يقم دليل عليه.
٢- نزّه اللَّه نفسه ربّ السموات والأرض عن كلّ ما يقتضي الحدوث، وأمر النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتّنزيه عما يقوله المشركون من الكذب.
٣- أمر اللَّه نبيّه أيضا أن يترك المشركين يخوضون في باطلهم، ويلعبون في دنياهم، حتى يأتيهم إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة.
٤- كذب اللَّه المشركين بقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ.. في أن لله شريكا وولدا، فهو وحده المستحق للعبادة في السماء والأرض.
قال الرّازي: هذه الآية من أدلّ الدّلائل على أنه تعالى غير مستقرّ في السماء، لأنه تعالى بيّن بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلها للأرض، مع أنه غير مستقرّ فيها، فكذلك يجب أن يكون إلها للسماء، مع أنه لا يكون مستقرّا فيها «١».
٥- اللَّه تعالى مصدر الخير والبركة، وهو صاحب العظمة، مالك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والموجودات والعناصر، وهو العالم بوقت قيام القيامة، وإليه مصير الخلق للحساب والجزاء. وقوله: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ بعد بيان كمال قدرته: هو التّنبيه على أن من كان كامل الذّات والعلم والقدرة، امتنع عليه اتّخاذ ولد كعيسى موصوف بالعجز وعدم الاطّلاع على أحوال العالم.
(١) تفسير الرّازي: ٢٧/ ٢٣٢
199
٦- نفى اللَّه تعالى الولد إليه، ثم نفى الشّركاء بقوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ.. أي لا يملك عيسى وعزير والملائكة وغيرهم من الأصنام الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وآمن على علم وبصيرة، وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
٧- دلّ قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ على أمرين:
الأول- أنّ الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم، وأن التّقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة.
الثاني- أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها،
كما روى البيهقي والحاكم وابن عدي عن ابن عباس- وهو ضعيف- عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع».
٨- المشركون قوم متناقضون كما ثبت في أول السورة وآخرها، فلما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو اللَّه تعالى، فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام جامدة لا تضرّ ولا تنفع؟ الواقع أنهم يكذبون على اللَّه حين يقولون: إن اللَّه أمرنا بعبادة الأصنام.
ودلّ قوله تعالى: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم.
٩- شكا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قومه إلى ربّه بأنّهم لا يؤمنون بالله وحده لا شريك له، ولا برسالته ولا بالقرآن المنزل عليه. وهذه الشكوى صدرت منه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد أن ضجر منهم، وعرف إصرارهم على الكفر. وهذا قريب مما حكى اللَّه عن نوح أنه قال: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح ٧١/ ٢١].
200
١٠- أمر اللَّه نبيّه بالصّفح عن المشركين صفح الغاضب النّاقم لا الرّاضى بفعلهم، وبالمتاركة حتى حين، فسوف يعلمون ما ينتظرهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وهذا تهديد للمشركين، ولا حاجة كما ذكر الرّازي إلى القول بأن هذه الآية منسوخة بآية السّيف، لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ، وأما التّكرار فيكون بدليل آخر، كما أن اللفظ قد يتقيّد بقرينة العرف.
201

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الدخان
مكيّة، وهي تسع وخمسون آية.
تسميتها:
سمّيت (سورة الدّخان) لما فيها من تهديد المشركين في الماضي بالجدب والقحط الذي يجعل الجائع كأنه يرى في الفضاء دخانا من شدة الجوع، وتهديد الأجيال المقبلة بظهور الدّخان في السماء مدة أربعين يوما والذي يعدّ أمارة من أمارات السّاعة.
مناسبتها لما قبلها:
تتجلّى مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حاميم من وجوه ثلاثة:
١- افتتاح كلتا السّورتين بالقسم بالقرآن العظيم تنويها به، في قوله تعالى:
حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ.
٢- تشابه خاتمة السّورة المتقدّمة ومطلع هذه السّورة، حيث ختمت سورة الزّخرف بالتّهديد والوعيد في قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [٨٣] فذكر يوما غير معيّن ولا موصوفا، ثم أبان وصفه في سورة الدّخان في القسم الأول منها حيث أنذر تعالى المشركين في قوله:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [١٠].
٣- حكاية ما قاله النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لقومه وما قاله أخوه موسى عليه السّلام لقوم
202
فرعون، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في السّورة المتقدّمة: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [٨٨]، ثم قال اللَّه له: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ: سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [٨٩]، وحكى اللَّه عن موسى في هذه السّورة: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [٢٢]، وقال موسى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [٢٠- ٢١]، والتّشابه واضح في الموقفين.
ما اشتملت عليه السّورة:
موضوع سورة الدّخان المكيّة كسائر موضوعات السّور المكيّة وسور آل حاميم السّبع، وهو بيان أصول العقيدة الإسلاميّة: التوحيد، والنّبوة والرّسالة، والبعث.
بدئت السورة ببيان تاريخ بدء إنزال القرآن في ليلة القدر من رمضان، رحمة من اللَّه بعباده، وأن منزله هو مالك الكون كله والمخلوقات جميعها، وأنه هو الإله الحقّ الواحد الذي لا شريك له، غير أن المشركين في شكّ وارتياب من أمر القرآن.
ثم أعدتهم بالعذاب الشديد، وبالدّخان المخيف الذي ينذرهم بأسوأ العواقب، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا.
وأردفت ما سبق بعظتهم بقصة فرعون وقومه مع موسى عليه السّلام، حيث نجّى اللَّه المؤمنين، وأغرق الكافرين في البحر.
ثم وصفت مشركي مكة بأنهم قوم منكرون للبعث في قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٣٥]، وهدّدتهم بالإهلاك كما أهلك المجرمين الأشدّاء من قبلهم، مثل قوم تبّع الحميري، مع إيراد الدّليل على قدرة اللَّه عزّ وجلّ على كلّ شيء.
203
Icon