تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب أضواء البيان
المعروف بـأضواء البيان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الشنقيطي
.
المتوفي سنة 1393 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ».
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [٢٦ ١٩٤ - ١٩٥]. وَفِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [٣٩ ٢٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُمْ) عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الْمُسْرِفِينَ، الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [٤٣ ٥]. وَفِيهِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ بِالِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: أَشَدَّ مِنْهُمْ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ (أَهْلَكَنَا)، وَأَصْلُهُ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ | يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ |
وَالْبَطْشُ: أَصْلُهُ الْأَخْذُ بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ.
وَالْمَعْنَى: فَأَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، فَلْيَحْذَرِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ أَنْ نُهْلِكَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا أَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، أَيْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وعُدَدًا وَجَلَدًا. ُُُُ
82
فَعَلَى الْأَضْعَفِ الْأَقَلِّ أَنْ يُتَّعَظَ بِإِهْلَاكِ الْأَقْوَى الْأَكْثَرِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ صِفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ إِهْلَاكُهُمُ الْمُسْتَأْصِلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ عُقُوبَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمُ - رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ هُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، لِيَحْذَرُوا أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ مَا فُعِلَ بِأُولَئِكَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الْآيَةَ [٣٠ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [٤٠ ٨٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا إِلَى قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ الْآيَةَ [٦ ٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [٣٤ ٤٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [٣٥ ٤٤].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ، إِهْلَاكُهُمْ وَسُنَّتُهُ فِيهِمُ الَّتِي هِيَ الْعُقُوبَةُ وَعَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [٣٥ ٤٢ - ٤٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [٤٠ ٨٣ - ٨٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الْآيَةَ [١٨ ٥٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ صِفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ إِهْلَاكُهُمُ الْمُسْتَأْصِلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ عُقُوبَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمُ - رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ هُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، لِيَحْذَرُوا أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ مَا فُعِلَ بِأُولَئِكَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الْآيَةَ [٣٠ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [٤٠ ٨٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا إِلَى قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ الْآيَةَ [٦ ٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [٣٤ ٤٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [٣٥ ٤٤].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ، إِهْلَاكُهُمْ وَسُنَّتُهُ فِيهِمُ الَّتِي هِيَ الْعُقُوبَةُ وَعَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [٣٥ ٤٢ - ٤٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [٤٠ ٨٣ - ٨٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الْآيَةَ [١٨ ٥٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
83
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [٤٣ ٥٥ - ٥٦].
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [٥ ٣٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَهْدًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ مِهَادًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفِرَاشُ.
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ لِبَنِي آدَمَ مَهْدًا أَيْ فِرَاشًا، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا سُبُلًا أَيْ طُرُقًا لِيَمْشُوا فِيهَا وَيَسْلُكُوهَا، فَيَصِلُوا بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا الطُّرُقَ لِيَنْفُذُوا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [٧١ ١٩ - ٢٠]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [٢١ ٣١].
وَذَكَرَ كَوْنَ الْأَرْضُ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [٥١ ٤٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً الْآيَةَ [٤٠ ٦٤].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [٥ ٣٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَهْدًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ مِهَادًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفِرَاشُ.
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ لِبَنِي آدَمَ مَهْدًا أَيْ فِرَاشًا، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا سُبُلًا أَيْ طُرُقًا لِيَمْشُوا فِيهَا وَيَسْلُكُوهَا، فَيَصِلُوا بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا الطُّرُقَ لِيَنْفُذُوا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [٧١ ١٩ - ٢٠]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [٢١ ٣١].
وَذَكَرَ كَوْنَ الْأَرْضُ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [٥١ ٤٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً الْآيَةَ [٤٠ ٦٤].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [١٦ ١٥].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَلَالَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢] مَعَ بَقِيَّةِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [١٦ ١٠]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» مَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالنُّشُورِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ اللُّغَاتِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِقَدَرٍ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِقَدَرٍ سَابِقٍ وَقَضَاءٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِمِقْدَارٍ يَكُونُ بِهِ إِصْلَاحُ الْبَشَرِ، فَلَمْ يَكْثُرِ الْمَاءُ جِدًّا فَيَكُونُ طُوفَانًا فَيُهْلِكُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَلِيلًا دُونَ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، بَلْ نَزَّلَهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [٢٣ ١٨].
وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [١٥ ٢١ - ٢٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا.
الْأَزْوَاجُ الْأَصْنَافُ، وَالزَّوْجُ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ عَلَى الصِّنْفِ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ الْأَزْوَاجَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا تَشْمَلُ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَبَنِي آدَمَ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [٣٦ ٣٦].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَلَالَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢] مَعَ بَقِيَّةِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [١٦ ١٠]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» مَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالنُّشُورِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ اللُّغَاتِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِقَدَرٍ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِقَدَرٍ سَابِقٍ وَقَضَاءٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِمِقْدَارٍ يَكُونُ بِهِ إِصْلَاحُ الْبَشَرِ، فَلَمْ يَكْثُرِ الْمَاءُ جِدًّا فَيَكُونُ طُوفَانًا فَيُهْلِكُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَلِيلًا دُونَ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، بَلْ نَزَّلَهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [٢٣ ١٨].
وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [١٥ ٢١ - ٢٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا.
الْأَزْوَاجُ الْأَصْنَافُ، وَالزَّوْجُ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ عَلَى الصِّنْفِ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ الْأَزْوَاجَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا تَشْمَلُ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَبَنِي آدَمَ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [٣٦ ٣٦].
85
وَقَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [٢٠ ٥٣].
وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [٢٢ ٥]. أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ.
وَقَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [٣١ ١٠].
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْأَصْنَافِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [٣٨ ٥٨]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [٢٠ ١٣١].
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ [٣٧ ٢٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا الْآيَةَ [٤٠ ٧٩]. وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ - رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
يَعْنِي - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ جَعَلَ لِبَنِي آدَمَ مَا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْفُلْكِ الَّتِي هِيَ السُّفُنُ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ لِيَسْتَوُوا، أَيْ يَرْتَفِعُوا مُعْتَدِلِينَ عَلَى ظُهُورِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُوا فِي قُلُوبِهِمْ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْمَرْكُوبَاتِ، ثُمَّ يَقُولُوا - بِأَلْسِنَتِهِمْ مَعَ تَفَهُّمِ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ -: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: «سُبْحَانَ» قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» مَعْنَاهُ بِإِيضَاحٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَكْمَلَ التَّنْزِيهِ وَأَتَمَّهُ، عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا رَاجِعَةٌ إِلَى لَفْظِ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ وَجَمَعَ الظُّهُورَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى مَا ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا عَامٌّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهَا، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ، فَالْجَمْعُ فِي الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا.
وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [٢٢ ٥]. أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ.
وَقَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [٣١ ١٠].
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْأَصْنَافِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [٣٨ ٥٨]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [٢٠ ١٣١].
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ [٣٧ ٢٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا الْآيَةَ [٤٠ ٧٩]. وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ - رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
يَعْنِي - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ جَعَلَ لِبَنِي آدَمَ مَا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْفُلْكِ الَّتِي هِيَ السُّفُنُ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ لِيَسْتَوُوا، أَيْ يَرْتَفِعُوا مُعْتَدِلِينَ عَلَى ظُهُورِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُوا فِي قُلُوبِهِمْ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْمَرْكُوبَاتِ، ثُمَّ يَقُولُوا - بِأَلْسِنَتِهِمْ مَعَ تَفَهُّمِ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ -: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: «سُبْحَانَ» قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» مَعْنَاهُ بِإِيضَاحٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَكْمَلَ التَّنْزِيهِ وَأَتَمَّهُ، عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا رَاجِعَةٌ إِلَى لَفْظِ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ وَجَمَعَ الظُّهُورَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى مَا ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا عَامٌّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهَا، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ، فَالْجَمْعُ فِي الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا.
86
وَقَوْلُهُ: الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا أَيِ الَّذِي ذَلَّلَ لَنَا هَذَا الَّذِي هُوَ مَا نَرْكَبُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالسُّفُنِ ; لِأَنَّ الْأَنْعَامَ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهَا اللَّهُ لَهُمْ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمَلَ أَقْوَى مِنَ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهُ لَهُمْ وَيُسَخِّرْ لَهُمْ إِجْرَاءَ السُّفُنِ فِيهِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَقْرَنَ الرَّجُلُ لِلْأَمْرِ وَأَقْرَنَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ كُفُؤًا لِلْقِيَامِ بِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَرَنْتُ الدَّابَّةَ لِلدَّابَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا قَرَنْتَهُمَا فِي حَبْلٍ قَدَرْتَ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ أَضْعَفَ مِنْهَا فَتَجُرَّهَا; لِأَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا لُزَّ فِي الْقَرَنِ، أَيِ الْحَبْلِ، مَعَ الْقَوِيِّ - جَرَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ وَقَدْ أَنْشَدَهُ قُطْرُبُ لِهَذَا الْمَعْنَى:
وَقَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ:
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ السُّفُنِ وَالْأَنْعَامِ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهُ اللَّهُ لَهُمْ لَمَا أَقْرَنُوا لَهُ وَلَمَا أَطَاقُوهُ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; قَالَ - تَعَالَى - فِي رُكُوبِ الْفُلْكِ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [٣٦ ٤١ - ٤٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا الْآيَةَ [١٦ ١٤]. وَقَالَ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [٤٥ ١٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَُُ
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَقْرَنَ الرَّجُلُ لِلْأَمْرِ وَأَقْرَنَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ كُفُؤًا لِلْقِيَامِ بِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَرَنْتُ الدَّابَّةَ لِلدَّابَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا قَرَنْتَهُمَا فِي حَبْلٍ قَدَرْتَ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ أَضْعَفَ مِنْهَا فَتَجُرَّهَا; لِأَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا لُزَّ فِي الْقَرَنِ، أَيِ الْحَبْلِ، مَعَ الْقَوِيِّ - جَرَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ | لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ |
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عَقِيلُ | لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا |
وَأَقْرَنَتْ مَا حَمَلَتْنِي وَلَقَلَّمَا | يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدْيَادِ عَدُوِّ الْهَجْرِ |
رَكِبْتُمْ صَعْبَتَيْ أَشَرًا وَحَيْفًا | وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا |
87
الْآيَةَ [١٤ ٣٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَةَ [٢ ١٦٤]. وَقَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي تَسْخِيرِ الْأَنْعَامِ: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [٣٦ ٧٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [٢٢ ٣٦ - ٣٧]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ عِدْلًا وَنَظِيرًا، يَعْنِي الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ وَلَدًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا يَعْنِي الْبَنَاتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْجُزْءَ النَّصِيبُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَةِ «الْأَنْعَامِ»، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا الْآيَةَ [٦ ١٣٦].
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ صَوَابٍ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْمَجْعُولَ لِلَّهِ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» هُوَ النَّصِيبُ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَالْمَجْعُولَ لَهُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَأَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ الْعِدْلُ وَالنَّظِيرُ الَّذِي هُوَ الشَّرِيكُ - غَيْرُ صَوَابٍ أَيْضًا; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْجُزْءِ عَلَى النَّظِيرِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدَ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ خُصُوصَ الْإِنَاثِ - فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي تَسْخِيرِ الْأَنْعَامِ: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [٣٦ ٧٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [٢٢ ٣٦ - ٣٧]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ عِدْلًا وَنَظِيرًا، يَعْنِي الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ وَلَدًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا يَعْنِي الْبَنَاتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْجُزْءَ النَّصِيبُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَةِ «الْأَنْعَامِ»، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا الْآيَةَ [٦ ١٣٦].
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ صَوَابٍ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْمَجْعُولَ لِلَّهِ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» هُوَ النَّصِيبُ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَالْمَجْعُولَ لَهُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَأَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ الْعِدْلُ وَالنَّظِيرُ الَّذِي هُوَ الشَّرِيكُ - غَيْرُ صَوَابٍ أَيْضًا; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْجُزْءِ عَلَى النَّظِيرِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدَ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ خُصُوصَ الْإِنَاثِ - فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْآيَةِ.
88
وَإِطْلَاقُ الْجُزْءِ عَلَى الْوَلَدِ يُوَجَّهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْجُزْءَ مُرَادًا بِهِ الْبَنَاتُ، وَيَقُولُونَ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْبَنَاتِ، وَامْرَأَةُ مُجْزِئَةٌ، أَيْ تَلِدُ الْبَنَاتِ، قَالُوا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَأَنْكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ اللُّغَةَ قَائِلًا: إِنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الْعَرَبِ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ بِالْإِنَاثِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْجُزْءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ، وَمَا هُوَ إِلَّا كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ، وَوَضْعٌ مُسْتَحْدَثٌ مَنْحُولٌ، وَلَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى اشْتَقُّوا مِنْهُ (أَجَزَأَتِ الْمَرْأَةُ) ثُمَّ صَنَعُوا بَيْتًا وَبَيْتًا:
اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ: وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَمَّا افْتَرَوْا، قَالَ: وَقَدْ أَنْشَدْتُ بَيْتًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى جُزْءًا مَعْنَى الْإِنَاثِ ; قَالَ - وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مَصْنُوعٌ -:
إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ
الْبَيْتَ.
وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، أَيْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ مِنَ الْوَلَدُُِ
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةً يَوْمًا فَلَا عَجَبَ | قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانًا |
زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً | لِلْعَوْسَجِ اللَّدْنِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ |
قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ بِالْإِنَاثِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْجُزْءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ، وَمَا هُوَ إِلَّا كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ، وَوَضْعٌ مُسْتَحْدَثٌ مَنْحُولٌ، وَلَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى اشْتَقُّوا مِنْهُ (أَجَزَأَتِ الْمَرْأَةُ) ثُمَّ صَنَعُوا بَيْتًا وَبَيْتًا:
إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ | زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً |
وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ: وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَمَّا افْتَرَوْا، قَالَ: وَقَدْ أَنْشَدْتُ بَيْتًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى جُزْءًا مَعْنَى الْإِنَاثِ ; قَالَ - وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مَصْنُوعٌ -:
إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ
الْبَيْتَ.
وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، أَيْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ مِنَ الْوَلَدُُِ
89
الْإِنَاثَ، قَالَ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي شِعْرٍ قَدِيمٍ وَلَا رَوَاهُ عَنِ الْعَرَبِ الثِّقَاتِ، وَأَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَتِ الْإِنَاثَ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ:
زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً
الْبَيْتَ.
انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ اللِّسَانِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ الزُّجَاجِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْإِنَاثَ - مَعْرُوفٌ ; وَلِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَالْمُسَلِّمِ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدُ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجُزْءِ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْوَلَدَ كَأَنَّهُ بِضْعَةٌ مِنَ الْوَالِدِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ - خُصُوصُ الْإِنَاثِ، فَقَرِينَةُ السِّيَاقِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً ; لِأَنَّ جَعْلَ الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا، وَقَرَّعَ مُرْتَكِبَهُ تَقْرِيعًا شَدِيدًا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [٤٣ ١٦ - ١٨].
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ جُزْءًا بِضَمِّ الزَّايِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا، وَحَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ يُسْقِطُ الْهَمْزَةَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الزَّايِ مَعَ حَذْفِ التَّنْوِينِ لِلْوَقْفِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ.
(أَمْ) هُنَا بِمَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ ; فَالْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ - أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، مُوَبِّخًا لَهُمْ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ ; حَيْثُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ الْوَلَدَ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَحْقَرَهُمَا، وَهُوَ الْأُنْثَى، كَمَا قَالَ هُنَا: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ، وَهِيَ النَّصِيبُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَوْلَادِ، (وَأَصْفَاكُمْ) أَنْتُمْ، أَيْ خُصِّكُمْ وَآثَرَكُمْ (بِالْبَنِينَ) الَّذِينَ هُمُ النَّصِيبُ الْأَعْلَى مِنَ الْأَوْلَادِ.
وَإِنْكَارُ هَذَا عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ هُنَا:
زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً
الْبَيْتَ.
انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ اللِّسَانِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ الزُّجَاجِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْإِنَاثَ - مَعْرُوفٌ ; وَلِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَالْمُسَلِّمِ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدُ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجُزْءِ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْوَلَدَ كَأَنَّهُ بِضْعَةٌ مِنَ الْوَالِدِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ - خُصُوصُ الْإِنَاثِ، فَقَرِينَةُ السِّيَاقِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً ; لِأَنَّ جَعْلَ الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا، وَقَرَّعَ مُرْتَكِبَهُ تَقْرِيعًا شَدِيدًا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [٤٣ ١٦ - ١٨].
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ جُزْءًا بِضَمِّ الزَّايِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا، وَحَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ يُسْقِطُ الْهَمْزَةَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الزَّايِ مَعَ حَذْفِ التَّنْوِينِ لِلْوَقْفِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ.
(أَمْ) هُنَا بِمَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ ; فَالْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ - أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، مُوَبِّخًا لَهُمْ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ ; حَيْثُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ الْوَلَدَ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَحْقَرَهُمَا، وَهُوَ الْأُنْثَى، كَمَا قَالَ هُنَا: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ، وَهِيَ النَّصِيبُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَوْلَادِ، (وَأَصْفَاكُمْ) أَنْتُمْ، أَيْ خُصِّكُمْ وَآثَرَكُمْ (بِالْبَنِينَ) الَّذِينَ هُمُ النَّصِيبُ الْأَعْلَى مِنَ الْأَوْلَادِ.
وَإِنْكَارُ هَذَا عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ هُنَا:
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا [٤٣ ١٧]. يَعْنِي الْأُنْثَى، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [١٦ ٥٨] يَعْنِي فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْإِنَاثَ وَأَنْتُمْ لَوْ بُشِّرَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ أُنْثَى لَظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، يَعْنِي مِنَ الْكَآبَةِ، وَهُوَ كَظِيمٌ، أَيْ مُمْتَلِئٌ حُزْنًا وَغَمًّا، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - هُنَا: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [٤٣ ١٨] فَفِيهِ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ عَظِيمٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ افْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ - جَلَّ وَعَلَا - الْوَلَدَ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ، الَّذِي لِنَقْصِهِ الْخُلُقِيِّ يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ - مِنَ الْحُلِيِّ، وَالْحُلَلِ وَأَنْوَاعِ الزِّينَةِ - مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ; لِيَجْبُرَ بِتِلْكَ الزِّينَةِ نَقْصَهُ الْخُلُقِيَّ الطَّبِيعِيَّ، وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ; لِأَنَّ الْأُنْثَى غَالِبًا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِحُجَّتِهَا وَلَا الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِهَا.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [١٦ ٦٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [٥٣ ٢١ - ٢٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣٧ ١٤٩ - ١٥٧].
وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧]. وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْأُنْثَى بِمَا ضُرِبَ مَثَلًا لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا الْآيَةَ [٤٣ ١٧]- ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْبَنَاتِ الْمَزْعُومَةَ يُلْزِمُ ادِّعَاؤُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا يُشْبِهُ الْآخَرَ فِي صِفَاتِهِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [١٦ ٦٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [٥٣ ٢١ - ٢٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣٧ ١٤٩ - ١٥٧].
وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧]. وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْأُنْثَى بِمَا ضُرِبَ مَثَلًا لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا الْآيَةَ [٤٣ ١٧]- ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْبَنَاتِ الْمَزْعُومَةَ يُلْزِمُ ادِّعَاؤُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا يُشْبِهُ الْآخَرَ فِي صِفَاتِهِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ.
91
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ عِنْدَ الرَّحْمَنِ بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ، ظَرْفٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [٧ ٢٠٦]. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَضَمِّ الدَّالِ، جَمْعُ عَبْدٍ، كَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الْآيَةَ [٢٥ ٦٣].
وَقَوْلُهُ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ. قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ (أَشَهِدُوا) بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ فَتْحِ الشِّينِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ (أَأُشْهِدُوا). بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ مُحَقَّقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةٌ مُسَهَّلَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَالُوا: يُجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ أَلِفُ الْإِدْخَالِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَرَوْا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا شَدِيدًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ يَعْنِي هَلْ حَضَرُوا خَلْقَ اللَّهِ لَهُمْ فَعَايَنُوهُمْ إنَاثًا.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ شَهَادَتَهُمُ الْكَاذِبَةَ بِذَلِكَ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الْأُولَى مِنْهَا. وَهِيَ كَوْنُهُمُ اعْتَقَدُوا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا، فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى الْآيَةَ [٥٣ ٢٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا الْآيَةَ [٣٧ ١٤٩ - ١٥٠]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ سُؤَالُهُ - تَعَالَى - لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ:
وَقَوْلُهُ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ. قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ (أَشَهِدُوا) بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ فَتْحِ الشِّينِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ (أَأُشْهِدُوا). بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ مُحَقَّقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةٌ مُسَهَّلَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَالُوا: يُجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ أَلِفُ الْإِدْخَالِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَرَوْا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا شَدِيدًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ يَعْنِي هَلْ حَضَرُوا خَلْقَ اللَّهِ لَهُمْ فَعَايَنُوهُمْ إنَاثًا.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ شَهَادَتَهُمُ الْكَاذِبَةَ بِذَلِكَ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الْأُولَى مِنْهَا. وَهِيَ كَوْنُهُمُ اعْتَقَدُوا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا، فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى الْآيَةَ [٥٣ ٢٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا الْآيَةَ [٣٧ ١٤٩ - ١٥٠]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ سُؤَالُهُ - تَعَالَى - لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ:
92
هَلْ شَهِدُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَحَضَرُوهُ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ خُلِقُوا إنَاثًا؟ فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ [٣٧ ١٥٠]. وَبَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدِ الْكُفَّارَ خَلْقَ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [١٨ ٥١].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي هِيَ كَوْنُ شَهَادَتِهِمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [٨٢ ١٠ - ١٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [٤٣ ٨٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [١٠ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ الْآيَةَ [١٧ ١٣، ١٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [١٩ ٧٩].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ كَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٢٩ ١٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٥ ٩٢ - ٩٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [٤٣ ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [١٦ ٥٦]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْكُفَّارِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ هُنَا، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [٤٣ ٢٠]- هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى ظَاهِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [٦ ١٠٧]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [٦ ٣٥]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الْآيَةَ
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي هِيَ كَوْنُ شَهَادَتِهِمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [٨٢ ١٠ - ١٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [٤٣ ٨٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [١٠ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ الْآيَةَ [١٧ ١٣، ١٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [١٩ ٧٩].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ كَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٢٩ ١٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٥ ٩٢ - ٩٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [٤٣ ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [١٦ ٥٦]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْكُفَّارِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ هُنَا، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [٤٣ ٢٠]- هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى ظَاهِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [٦ ١٠٧]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [٦ ٣٥]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الْآيَةَ
93
[٣٢ ١٣]. وَقَالَ - تَعَالَى -: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [١٠ ٩٩].
وَهَذَا الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هُوَ بِعَيْنِهِ وَاقِعٌ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ»، وَآيَةِ «النَّحْلِ».
أَمَّا آيَةُ «الْأَنْعَامِ» فَهِيَ قَوْلُهُ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [٦ ١٤٨].
وَأَمَّا آيَةُ «النَّحْلِ» فَهِيَ قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا الْآيَةَ [١٦ ٣٥].
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ «الزُّخْرُفِ» وَآيَةِ «الْأَنْعَامِ» وَآيَةِ «النَّحْلِ» - أَنَّ مَا قَالَهُ الْكُفَّارُ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مَا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَلَا أَشْرَكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةِ قَرِيبًا - فَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ، أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِكَذِبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي ظَاهَرُهَا حَقٌّ، قَالَ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [٤٣ ٢٠]. أَيْ يَكْذِبُونَ، وَقَالَ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» : كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦ ١٤٨]. وَقَالَ فِي آيَةِ «النَّحْلِ» : كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [١٦ ٣٥].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مُرَادَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [٦ ١٤٨]- مُرَادَهُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِالشِّرْكِ فِي زَعْمِهِمْ.
وَهَذَا الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هُوَ بِعَيْنِهِ وَاقِعٌ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ»، وَآيَةِ «النَّحْلِ».
أَمَّا آيَةُ «الْأَنْعَامِ» فَهِيَ قَوْلُهُ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [٦ ١٤٨].
وَأَمَّا آيَةُ «النَّحْلِ» فَهِيَ قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا الْآيَةَ [١٦ ٣٥].
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ «الزُّخْرُفِ» وَآيَةِ «الْأَنْعَامِ» وَآيَةِ «النَّحْلِ» - أَنَّ مَا قَالَهُ الْكُفَّارُ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مَا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَلَا أَشْرَكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةِ قَرِيبًا - فَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ، أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِكَذِبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي ظَاهَرُهَا حَقٌّ، قَالَ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [٤٣ ٢٠]. أَيْ يَكْذِبُونَ، وَقَالَ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» : كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦ ١٤٨]. وَقَالَ فِي آيَةِ «النَّحْلِ» : كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [١٦ ٣٥].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مُرَادَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [٦ ١٤٨]- مُرَادَهُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِالشِّرْكِ فِي زَعْمِهِمْ.
94
قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ لَصَرَفَنَا عَنْهُ، فَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مُنْصَبٌّ عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يُكَذِّبُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [٣٩ ٧].
فَالْكُفَّارُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الرِّضَى، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ الَّذِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَيْثُ قَالَ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [٤٣ ٢١]. أَيْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا رَاضُونَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ هُوَ تَقْلِيدُ آبَائِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [٤٣ ٢٢]. أَيْ شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [٤٣ ٢٢].
فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: (مُهْتَدُونَ) وَهُوَ مَصَبُّ التَّكْذِيبِ ; لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَرْضَى بِالِاهْتِدَاءِ لَا بِالضَّلَالِ.
فَالِاهْتِدَاءُ الْمَزْعُومُ أَسَاسُهُ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ الْأَعْمَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «النَّحْلِ» بَعْدَ ذِكْرِهِ دَعْوَاهُمُ الْمَذْكُورَةَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [١٦ ٣٦].
فَأَوْضَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَيَجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، أَيْ يَتَبَاعَدُوا عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ.
وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بَعْضَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالشَّقَاءُ.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
فَالْكُفَّارُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الرِّضَى، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ الَّذِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَيْثُ قَالَ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [٤٣ ٢١]. أَيْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا رَاضُونَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ هُوَ تَقْلِيدُ آبَائِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [٤٣ ٢٢]. أَيْ شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [٤٣ ٢٢].
فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: (مُهْتَدُونَ) وَهُوَ مَصَبُّ التَّكْذِيبِ ; لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَرْضَى بِالِاهْتِدَاءِ لَا بِالضَّلَالِ.
فَالِاهْتِدَاءُ الْمَزْعُومُ أَسَاسُهُ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ الْأَعْمَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «النَّحْلِ» بَعْدَ ذِكْرِهِ دَعْوَاهُمُ الْمَذْكُورَةَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [١٦ ٣٦].
فَأَوْضَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَيَجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، أَيْ يَتَبَاعَدُوا عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ.
وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بَعْضَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالشَّقَاءُ.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
95
فَمِلْكُهُ - تَعَالَى - وَحْدَهُ لِلتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، هُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، يَعْنِي فَمَنْ هَدَيْنَاهُ وَتَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ، فَهُوَ فَضْلٌ مِنَّا وَرَحْمَةٌ.
وَمَنْ لَمْ نَفْعَلْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ مِنَّا وَحِكْمَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْنَا، وَلَا وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْنَا، بَلْ إِنْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ فَعَدْلٌ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَعَلِمَ أَنَّ قَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى الشَّقَاءِ وَقَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى السَّعَادَةِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَتَأْيِيدِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَفَّقَ مَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ، وَلَمْ يُوَفِّقْ مَنْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ الشَّقَاءُ الْأَزَلِيُّ، وَخَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَصَرَفَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَاتِهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ، وَأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلشَّقَاءِ.
فَأَتَوْا كُلَّ مَا أَتَوْا وَفَعَلُوا كُلَّ مَا فَعَلُوا، طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، غَيْرَ مَجْبُورِينَ وَلَا مَقْهُورِينَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [٧٦]. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
وَادِّعَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ لَا إِرَادَةَ لَهُ ضَرُورِيُّ السُّقُوطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الضَّرُورِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ - فَرْقًا ضَرْورِيًا، لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ.
وَأَنَّكَ لَوْ ضَرَبْتَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْخَلْقَ مَجْبُورُونَ، وَفَقَأَتْ عَيْنَهُ مَثَلًا، وَقَتَلْتَ وَلَدَهُ وَاعْتَذَرْتَ لَهُ بِالْجَبْرِ، فَقُلْتَ لَهُ: أَنَا مَجْبُورٌ وَلَا إِرَادَةَ لِي فِي هَذَا السُّوءِ الَّذِي فَعَلْتُهُ بِكَ، بَلْ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَنَا لَا دَخْلَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِلَا شَكٍّ.
بَلْ يُبَالِغُ فِي إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ مِنْكَ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا بِإِرَادَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ.
وَمَنْ لَمْ نَفْعَلْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ مِنَّا وَحِكْمَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْنَا، وَلَا وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْنَا، بَلْ إِنْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ فَعَدْلٌ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَعَلِمَ أَنَّ قَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى الشَّقَاءِ وَقَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى السَّعَادَةِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَتَأْيِيدِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَفَّقَ مَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ، وَلَمْ يُوَفِّقْ مَنْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ الشَّقَاءُ الْأَزَلِيُّ، وَخَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَصَرَفَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَاتِهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ، وَأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلشَّقَاءِ.
فَأَتَوْا كُلَّ مَا أَتَوْا وَفَعَلُوا كُلَّ مَا فَعَلُوا، طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، غَيْرَ مَجْبُورِينَ وَلَا مَقْهُورِينَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [٧٦]. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
وَادِّعَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ لَا إِرَادَةَ لَهُ ضَرُورِيُّ السُّقُوطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الضَّرُورِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ - فَرْقًا ضَرْورِيًا، لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ.
وَأَنَّكَ لَوْ ضَرَبْتَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْخَلْقَ مَجْبُورُونَ، وَفَقَأَتْ عَيْنَهُ مَثَلًا، وَقَتَلْتَ وَلَدَهُ وَاعْتَذَرْتَ لَهُ بِالْجَبْرِ، فَقُلْتَ لَهُ: أَنَا مَجْبُورٌ وَلَا إِرَادَةَ لِي فِي هَذَا السُّوءِ الَّذِي فَعَلْتُهُ بِكَ، بَلْ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَنَا لَا دَخْلَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِلَا شَكٍّ.
بَلْ يُبَالِغُ فِي إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ مِنْكَ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا بِإِرَادَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ.
96
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَفْعَالِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ - أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُنْكِرَ عِلْمَ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ.
وَسَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلْقَدَرِيِّ: إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ تَعَلَّقَ بِأَنَّكَ تَقَعُ مِنْكَ السَّرِقَةُ أَوِ الزِّنَا فِي مَحَلِّ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَرَدْتَ أَنْتَ بِإِرَادَتِكَ الْمُسْتَقِلَّةِ فِي زَعْمِكَ دُونَ إِرَادَةِ اللَّهِ أَلَّا تَفْعَلَ تِلْكَ السَّرِقَةَ أَوِ الزِّنَا الَّذِي سَبَقَ بِعِلْمِ اللَّهِ وُقُوعُهُ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ؟ وَتُصَيِّرَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدِّدِ لَهُ؟
وَالْجَوَابُ بِلَا شَكٍّ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [٧٦]. وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
وَلَا إِشْكَالَ أَلْبَتَّةَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، ثُمَّ يَصْرِفُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَإِرَادَتَهُ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، فَيَأْتِيهِ الْعَبْدُ طَائِعًا مُخَتَارًا غَيْرَ مَقْهُورٍ وَلَا مَجْبُورٍ، وَغَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
وَالْمُنَاظَرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ تُوَضِّحُ هَذَا.
وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا لَيْسَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ فِي زَعْمِهِ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّذَائِلُ بِمَشِيئَتِهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ.
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَتَرَاكَ تَفْعَلُهُ جَبْرًا عَلَيْهِ، آنْتَ الرَّبُّ وَهُوَ الْعَبْدُ؟
وَسَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلْقَدَرِيِّ: إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ تَعَلَّقَ بِأَنَّكَ تَقَعُ مِنْكَ السَّرِقَةُ أَوِ الزِّنَا فِي مَحَلِّ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَرَدْتَ أَنْتَ بِإِرَادَتِكَ الْمُسْتَقِلَّةِ فِي زَعْمِكَ دُونَ إِرَادَةِ اللَّهِ أَلَّا تَفْعَلَ تِلْكَ السَّرِقَةَ أَوِ الزِّنَا الَّذِي سَبَقَ بِعِلْمِ اللَّهِ وُقُوعُهُ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ؟ وَتُصَيِّرَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدِّدِ لَهُ؟
وَالْجَوَابُ بِلَا شَكٍّ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [٧٦]. وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
وَلَا إِشْكَالَ أَلْبَتَّةَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، ثُمَّ يَصْرِفُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَإِرَادَتَهُ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، فَيَأْتِيهِ الْعَبْدُ طَائِعًا مُخَتَارًا غَيْرَ مَقْهُورٍ وَلَا مَجْبُورٍ، وَغَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
وَالْمُنَاظَرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ تُوَضِّحُ هَذَا.
وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا لَيْسَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ فِي زَعْمِهِ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّذَائِلُ بِمَشِيئَتِهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ.
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَتَرَاكَ تَفْعَلُهُ جَبْرًا عَلَيْهِ، آنْتَ الرَّبُّ وَهُوَ الْعَبْدُ؟
97
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَانِي إِلَى الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدِيءِ، دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ دُونِي؟ أَتَرَاهُ أَحْسَنَ أَمْ أَسَاءَ؟
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي مَنَعَكَ إِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا لَكَ عَلَيْهِ - فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقَدْ أَسَاءَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ الْمَحْضُ فَإِنْ أَعْطَاكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ مَنْعَكَ فَعَدْلٌ. فَبُهِتَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَقَالَ الْحَاضِرُونَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا جَوَابٌ.
وَمَضْمُونُ جَوَابِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الَّذِي أَفْحَمَ بِهِ عَبْدَ الْجَبَّارِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِيَرُدَّهَا إِلَيْهِ.
فَقَالَ عَمْرٌو مَا مَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا; لِأَنَّكَ أَنْزَهُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُدَبِّرَ هَذَا الْخَنَا.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا هَذَا، إِلَّا مَا كَفَفْتَ عَنِّي مِنْ دُعَائِكَ هَذَا الْخَبِيثِ، إِنْ كَانَتْ سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ، وَلَا ثِقَةَ لِي بِرَبٍّ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ. فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَنْ آيَةِ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَفِي سُورَةِ «الشَّمْسِ» فِي الْكَلَامِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ.
(أَمْ) هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، يَعْنِي - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ الْكُفَّارُ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَجَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ - لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ ; وَلِذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ آتَاهُمْ كِتَابًا يَحِلُّ فِيهِ ذَلِكَ وَأَنَّ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ فِي ذَلِكَ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا هُنَا إِنْكِارًا دَالًّا عَلَى النَّفْيِ لِلتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، مَعَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمَذْكُورَ لَمْ يَكُنْ عَنْ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَلَا كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» :
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي مَنَعَكَ إِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا لَكَ عَلَيْهِ - فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقَدْ أَسَاءَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ الْمَحْضُ فَإِنْ أَعْطَاكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ مَنْعَكَ فَعَدْلٌ. فَبُهِتَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَقَالَ الْحَاضِرُونَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا جَوَابٌ.
وَمَضْمُونُ جَوَابِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الَّذِي أَفْحَمَ بِهِ عَبْدَ الْجَبَّارِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [٦ ١٤٩].
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِيَرُدَّهَا إِلَيْهِ.
فَقَالَ عَمْرٌو مَا مَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا; لِأَنَّكَ أَنْزَهُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُدَبِّرَ هَذَا الْخَنَا.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا هَذَا، إِلَّا مَا كَفَفْتَ عَنِّي مِنْ دُعَائِكَ هَذَا الْخَبِيثِ، إِنْ كَانَتْ سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ، وَلَا ثِقَةَ لِي بِرَبٍّ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ. فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَنْ آيَةِ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَفِي سُورَةِ «الشَّمْسِ» فِي الْكَلَامِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ.
(أَمْ) هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، يَعْنِي - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ الْكُفَّارُ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَجَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ - لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ ; وَلِذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ آتَاهُمْ كِتَابًا يَحِلُّ فِيهِ ذَلِكَ وَأَنَّ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ فِي ذَلِكَ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا هُنَا إِنْكِارًا دَالًّا عَلَى النَّفْيِ لِلتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، مَعَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمَذْكُورَ لَمْ يَكُنْ عَنْ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَلَا كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» :
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [٣٥ ٤٠].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَحْقَافِ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٤٦ ٤].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الرُّومِ» : أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [٣٠ ٣٥].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣٧ ١٥٦ - ١٥٧].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٢٧ ٦٤].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» وَ «لُقْمَانَ» : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [٢٢ ٨] وَ [٣١ ٢٠].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦ ١٤٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الْآيَةَ [٢٣ ٤٤].
وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [٦ ١٢٣]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [٤٣ ٢٤].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَحْقَافِ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٤٦ ٤].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الرُّومِ» : أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [٣٠ ٣٥].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣٧ ١٥٦ - ١٥٧].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٢٧ ٦٤].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» وَ «لُقْمَانَ» : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [٢٢ ٨] وَ [٣١ ٢٠].
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦ ١٤٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الْآيَةَ [٢٣ ٤٤].
وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [٦ ١٢٣]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [٤٣ ٢٤].
قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: (قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَتَقْتَدُونَ بِآبَائِكُمْ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى، أَيْ بِدِينٍ أَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ أَصْلًا.
وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ فَالْمَعْنَى: قَالَ هُوَ: أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَسْفِيهِ رَأْيِ الْكُفَّارِ وَبَيَانِ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ آبَاءَهُمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٢ ١٧٠]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمَائِدَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٥ ١٠٤].
وَأَوْضَحَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «لُقْمَانَ» أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الشَّيْطَانِ يَدْعُوهُمْ بِسُلُوكِهَا إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [٣١ ٢١]. كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [٣٧ ٦٩ - ٧٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٢١ ٥١ - ٥٤]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَتَقْتَدُونَ بِآبَائِكُمْ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى، أَيْ بِدِينٍ أَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ أَصْلًا.
وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ فَالْمَعْنَى: قَالَ هُوَ: أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَسْفِيهِ رَأْيِ الْكُفَّارِ وَبَيَانِ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ آبَاءَهُمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٢ ١٧٠]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمَائِدَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٥ ١٠٤].
وَأَوْضَحَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «لُقْمَانَ» أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الشَّيْطَانِ يَدْعُوهُمْ بِسُلُوكِهَا إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [٣١ ٢١]. كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [٣٧ ٦٩ - ٧٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٢١ ٥١ - ٥٤]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.
100
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّهُ بَرَاءٌ، أَيْ بَرِيءٌ، مِنْ جَمِيعِ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ يَعْنِي أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ، إِلَّا الْمَعْبُودَ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ مَعْبُودُهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الْآيَةَ [٢٦ ٥٧ - ٧٨]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [٦ ٧٨ - ٧٩].
وَزَادَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» بَرَاءَتَهُ أَيْضًا مِنَ الْعَابِدِينَ، وَعَدَاوَتَهُ لَهُمْ، وَبُغْضَهُ لَهُمْ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [٦٠ ٤].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [٢٦ ٧٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [٣٧ ٩٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [٦ ٧٧].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ خَلَقَنِي - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا الْخَالِقُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [٢ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [٢٦ ١٨٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [١٣ ١٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ [١٦ ١٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الْآيَةَ [٢٦ ٥٧ - ٧٨]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [٦ ٧٨ - ٧٩].
وَزَادَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» بَرَاءَتَهُ أَيْضًا مِنَ الْعَابِدِينَ، وَعَدَاوَتَهُ لَهُمْ، وَبُغْضَهُ لَهُمْ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [٦٠ ٤].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [٢٦ ٧٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [٣٧ ٩٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [٦ ٧٧].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ خَلَقَنِي - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا الْخَالِقُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [٢ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [٢٦ ١٨٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [١٣ ١٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ [١٦ ١٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
101
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [٧ ١٩١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الْآيَةَ [٢٥ ٢ - ٣]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.
الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (جَعَلَهَا) عَلَى التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [٤٣ ٢٦ - ٢٧]. لِأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ.
وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى صَيَّرَ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ (بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أَيْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصَّيْتُهُ لِأَوْلَادِهِ بِذَلِكَ، وَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ عَنْهُ، فَيُوصِي بِهِ السَّلَفُ مِنْهُمُ الْخَلْفَ، كَمَا أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ الْآيَةَ [٢ ١٣٠ - ١٣٢]
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.
الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (جَعَلَهَا) عَلَى التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [٤٣ ٢٦ - ٢٧]. لِأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ.
وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى صَيَّرَ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ (بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أَيْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصَّيْتُهُ لِأَوْلَادِهِ بِذَلِكَ، وَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ عَنْهُ، فَيُوصِي بِهِ السَّلَفُ مِنْهُمُ الْخَلْفَ، كَمَا أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ الْآيَةَ [٢ ١٣٠ - ١٣٢]
102
وَالْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ سُؤَالُهُ رَبَّهُ - تَعَالَى - لِذُرِّيَّتِهِ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [٢ ١٢٤]. أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْضًا أَئِمَّةً، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [١٤ ٤٠]. وَقَوْلِهِ عَنْهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [١٤ ٣٥]. وَقَوْلِهِ عَنْهُ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [٢ ١٢٩].
وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي بَعْثِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ».
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [٢٩ ٢٧]. وَقَالَ عَنْهُ وَعَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الْآيَةَ [٥٧ ٢٦].
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا إِشْكَالَ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِي جَمِيعِ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَقِبِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: إِنَّهُ سَاحِرٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَآبَاءَهُمْ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الْكَلِمَةَ الْمَذْكُورَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» :
وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي بَعْثِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ».
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [٢٩ ٢٧]. وَقَالَ عَنْهُ وَعَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الْآيَةَ [٥٧ ٢٦].
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا إِشْكَالَ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِي جَمِيعِ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَقِبِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: إِنَّهُ سَاحِرٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَآبَاءَهُمْ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الْكَلِمَةَ الْمَذْكُورَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» :
103
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [٢ ١٢٤]. أَيِ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [٣٧ ١١٣].
فَالْمُحْسِنُ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي الْكَلِمَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُبِينُ مِنْهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «النِّسَاءِ» : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي «الْحَدِيدِ» أَنَّ غَيْرَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [٥٧ ٢٦].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ جَعَلَ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ; لَعَلَّ الزَّائِغَيْنِ الضَّالَّيْنِ مِنْهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ بِإِرْشَادِ الْمُؤْمِنِينَ الِمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ مَا دَامَ قَائِمًا فِي جُمْلَتِهِمْ فَرُجُوعُ الزَّائِغَيْنِ عَنْهُ إِلَيْهِ مَرْجُوٌّ مَأْمُولٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَالرَّجَاءُ الْمَذْكُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَنِي آدَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ يَصِيرُ إِلَى الْهُدَى، وَمَنْ يَصِيرُ إِلَى الضَّلَالِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
وَالْمَعْنَى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أَيْ قَالَ لَهُمْ، يَتُوبُونَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. اهـ مِنْهُ.
وَإِيضَاحُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) لِأَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْحَقِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عَلَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [٣٧ ١١٣].
فَالْمُحْسِنُ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي الْكَلِمَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُبِينُ مِنْهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «النِّسَاءِ» : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي «الْحَدِيدِ» أَنَّ غَيْرَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [٥٧ ٢٦].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ جَعَلَ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ; لَعَلَّ الزَّائِغَيْنِ الضَّالَّيْنِ مِنْهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ بِإِرْشَادِ الْمُؤْمِنِينَ الِمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ مَا دَامَ قَائِمًا فِي جُمْلَتِهِمْ فَرُجُوعُ الزَّائِغَيْنِ عَنْهُ إِلَيْهِ مَرْجُوٌّ مَأْمُولٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَالرَّجَاءُ الْمَذْكُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَنِي آدَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ يَصِيرُ إِلَى الْهُدَى، وَمَنْ يَصِيرُ إِلَى الضَّلَالِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
وَالْمَعْنَى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أَيْ قَالَ لَهُمْ، يَتُوبُونَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. اهـ مِنْهُ.
وَإِيضَاحُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) لِأَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْحَقِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عَلَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ.
104
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ ضَلَّ مِنْ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ الضَّالِّينَ مِنْهُمْ دَاخِلُونَ فِي لَفْظِ الْعَقِبِ.
فَرُجُوعُ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الْعَقِبِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
مَسْأَلَةٌ
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَعْنَى الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [١٤ ٣٥].
وَقَالَ عَنْهُ فِي بَعْضِهَا: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [١٤ ٤٠]. وَفِي بَعْضِهَا: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [١٤ ٣٧]. وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [٢٩ ٢٧]. وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ.
فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَنِينَ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْعَقِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ وَقْفًا أَوْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ عَقِبِهِ - أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ وَاسْمِ الْبَنِينَ.
وَإِذَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَقِبَ بِمَعْنَاهُمَا - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْعَقِبِ أَيْضًا، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ [٦ ٨٤ - ٨٥]. وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ ; لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدُ بِنْتٍ، إِذْ لَا أَبَ لَهُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الْبَنِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [٤ ٢٣]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [٤ ٢٣]. لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنَاتِ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ - شَامِلٌ لِبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ
فَرُجُوعُ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الْعَقِبِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
مَسْأَلَةٌ
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَعْنَى الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [١٤ ٣٥].
وَقَالَ عَنْهُ فِي بَعْضِهَا: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [١٤ ٤٠]. وَفِي بَعْضِهَا: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [١٤ ٣٧]. وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [٢٩ ٢٧]. وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ.
فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَنِينَ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْعَقِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ وَقْفًا أَوْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ عَقِبِهِ - أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ وَاسْمِ الْبَنِينَ.
وَإِذَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَقِبَ بِمَعْنَاهُمَا - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْعَقِبِ أَيْضًا، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ [٦ ٨٤ - ٨٥]. وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ ; لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدُ بِنْتٍ، إِذْ لَا أَبَ لَهُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الْبَنِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [٤ ٢٣]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [٤ ٢٣]. لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنَاتِ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ - شَامِلٌ لِبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ
105
الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَحِيحٌ فِي اسْتِوَاءِ بَنَاتِ بَنِيهِنَّ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ دُخُولَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ وَالْعَقِبِ، هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ.
وَكَلَامُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ مَعْرُوفٌ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ نَبْسُطْ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ هُنَا ; لِأَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ.
أَمَّا لَفْظُ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ.
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ [٤ ١١]. فَإِنَّ قَوْلَهُ: (فِي أَوْلَادِكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي اسْمِ الْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَقِبَ وَالْوَلَدَ سَوَاءٌ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
أَمَّا لَفْظُ النَّسْلِ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ شُمُولُهُ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [٣٢ ٦ - ٨]- ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَةَ النَّسْلِ فِي الْآيَةِ شَامِلَةٌ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هِيَ أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا ذَكَرْنَا خَمْسَةً مِنْهَا وَهِيَ: الذُّرِّيَّةُ وَالْبَنُونَ وَالْعَقِبُ وَالْوَلَدُ وَالنَّسْلُ. وَذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهَا يَدْخُلُ فِيهَا أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَوَاحِدٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الْوَلَدُ.
وَأَمَّا السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ: الْآلُ وَالْأَهْلُ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَالْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ وَالْقَوْمُ وَالْمَوَالِي، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مُضْطَرِبٌ.
وَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ تَحْدِيدٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مَا يَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، إِلَّا لَفْظَيْنِ مِنْهَا وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ.
أَمَّا الْقَرَابَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي
فَتَحَصَّلَ أَنَّ دُخُولَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ وَالْعَقِبِ، هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ.
وَكَلَامُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ مَعْرُوفٌ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ نَبْسُطْ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ هُنَا ; لِأَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ.
أَمَّا لَفْظُ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ.
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ [٤ ١١]. فَإِنَّ قَوْلَهُ: (فِي أَوْلَادِكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي اسْمِ الْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَقِبَ وَالْوَلَدَ سَوَاءٌ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
أَمَّا لَفْظُ النَّسْلِ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ شُمُولُهُ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [٣٢ ٦ - ٨]- ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَةَ النَّسْلِ فِي الْآيَةِ شَامِلَةٌ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هِيَ أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا ذَكَرْنَا خَمْسَةً مِنْهَا وَهِيَ: الذُّرِّيَّةُ وَالْبَنُونَ وَالْعَقِبُ وَالْوَلَدُ وَالنَّسْلُ. وَذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهَا يَدْخُلُ فِيهَا أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَوَاحِدٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الْوَلَدُ.
وَأَمَّا السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ: الْآلُ وَالْأَهْلُ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَالْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ وَالْقَوْمُ وَالْمَوَالِي، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مُضْطَرِبٌ.
وَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ تَحْدِيدٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مَا يَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، إِلَّا لَفْظَيْنِ مِنْهَا وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ.
أَمَّا الْقَرَابَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي
106
الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ»، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [٨ ٤١]. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْخُمُسِ هَذِهِ.
وَأَمَّا الْعَشِيرَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [٢٦ ٢١٤]- صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَحْدِيدُ الْعَشِيرَةِ الْأَقْرَبِينَ بِجَمِيعِ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الْعَاشِرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، الْحَدِيثَ، وَقُرَيْشٌ هُمْ أَوْلَادُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
تَنْبِيهٌ
[فَإِنْ قِيلَ] : ذَكَرْتُمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي لَفْظِ الْبَنِينَ، وَالشَّاعِرُ يَقُولُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ:
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ يَذْكُرُونَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيمِ لَهُ، قَالُوا: وَمِمَّا يُوَضِّحُ صِدْقَهُ أَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً لِأَهْلِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ وَعُصْبَتَهُ فِي عَدَاوَةِ أَخْوَالِهِ وَبُغْضِهِمْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
[فَالْجَوَابُ] أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَهُ جِهَتَانِ، فَمَعْنَى لَفْظِ الِابْنِ لَهُ جِهَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ مَعْنَى كَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ مَاءِ هَذَا الرَّجُلِ عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبُهُ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنْ وَالِدِ أُمِّهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ: ابْنٌ - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَثَابِتٌ لِأَبِيهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ مَائِهِ، وَلَهُ جِهَةٌ أُخْرَى هِيَ كَوْنُهُ خَارِجًا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ، سَوَاءً كَانَ بِالْمُبَاشِرَةِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَإِنْ سَفُلَ، فَالْبُنُوَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِوَلَدِ الْبِنْتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي عَنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وَإِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [٤ ٢٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [٤ ٢٣]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ُُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ
وَأَمَّا الْعَشِيرَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [٢٦ ٢١٤]- صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَحْدِيدُ الْعَشِيرَةِ الْأَقْرَبِينَ بِجَمِيعِ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الْعَاشِرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، الْحَدِيثَ، وَقُرَيْشٌ هُمْ أَوْلَادُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
تَنْبِيهٌ
[فَإِنْ قِيلَ] : ذَكَرْتُمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي لَفْظِ الْبَنِينَ، وَالشَّاعِرُ يَقُولُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ:
بَنُونَا بَنُوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا | بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ |
[فَالْجَوَابُ] أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَهُ جِهَتَانِ، فَمَعْنَى لَفْظِ الِابْنِ لَهُ جِهَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ مَعْنَى كَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ مَاءِ هَذَا الرَّجُلِ عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبُهُ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنْ وَالِدِ أُمِّهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ: ابْنٌ - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَثَابِتٌ لِأَبِيهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ مَائِهِ، وَلَهُ جِهَةٌ أُخْرَى هِيَ كَوْنُهُ خَارِجًا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ، سَوَاءً كَانَ بِالْمُبَاشِرَةِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَإِنْ سَفُلَ، فَالْبُنُوَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِوَلَدِ الْبِنْتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي عَنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وَإِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [٤ ٢٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [٤ ٢٣]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ُُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ
107
وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ الْآيَةَ [٣٣ ٥٥].
فَلَفْظُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَإِنَّمَا شَمِلَهُمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الِابْنِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّخْصِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ بَنَاتِهِ.
وَأَمَّا الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ الْأُولَى وَالِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ.
فَإِنَّ بَنِي الْبَنَاتِ لَيْسُوا أَبْنَاءً لِآبَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَائِهِمْ، وَإِنَّمَا خُلِقُوا مِنْ مَاءِ رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَبَاعِدَ، وَرُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً.
فَصَحَّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَفْيُ الْبُنُوَّةِ عَنِ ابْنِ الْبِنْتِ.
وَصَحَّ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ الْبُنُوَّةِ لَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ مَعَ انْفِكَاكِ الْجِهَةِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى إِحْدَاهُمَا تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ لِابْنِ الْبِنْتِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأُخْرَى تَنْتَفِي عَنْهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [٤ ٢٣]. وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَنْزِلُ عَلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [٣٣ ٤٠]- يَتَنَزَّلُ عَلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ الَّتِي يَعْنِي الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ قَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَمُقَاتَلَاتٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْقِتَالُ بَيْنَ أَعْمَامِ الرَّجُلِ وَأَخْوَالِهِ، فَيَكُونُ مَعَ عُصْبَتِهِ دَائِمًا عَلَى أَخْوَالِهِ، كَمَا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي أَخْوَالِهِ فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً دُونَ مُعَامَلَتِهِمْ لِأَبْنَائِهِمْ.
كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ غَسَّانُ بْنُ وَعْلَةَ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
فَلَفْظُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَإِنَّمَا شَمِلَهُمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الِابْنِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّخْصِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ بَنَاتِهِ.
وَأَمَّا الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ الْأُولَى وَالِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ.
فَإِنَّ بَنِي الْبَنَاتِ لَيْسُوا أَبْنَاءً لِآبَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَائِهِمْ، وَإِنَّمَا خُلِقُوا مِنْ مَاءِ رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَبَاعِدَ، وَرُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً.
فَصَحَّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَفْيُ الْبُنُوَّةِ عَنِ ابْنِ الْبِنْتِ.
وَصَحَّ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ الْبُنُوَّةِ لَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ مَعَ انْفِكَاكِ الْجِهَةِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى إِحْدَاهُمَا تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ لِابْنِ الْبِنْتِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأُخْرَى تَنْتَفِي عَنْهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [٤ ٢٣]. وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَنْزِلُ عَلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [٣٣ ٤٠]- يَتَنَزَّلُ عَلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ الَّتِي يَعْنِي الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ قَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَمُقَاتَلَاتٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْقِتَالُ بَيْنَ أَعْمَامِ الرَّجُلِ وَأَخْوَالِهِ، فَيَكُونُ مَعَ عُصْبَتِهِ دَائِمًا عَلَى أَخْوَالِهِ، كَمَا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي أَخْوَالِهِ فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً دُونَ مُعَامَلَتِهِمْ لِأَبْنَائِهِمْ.
كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ غَسَّانُ بْنُ وَعْلَةَ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ: