تفسير سورة الزخرف

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٨) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ».
ورد هذا المقطع: «حم» بدءا لست سور من القرآن الكريم، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وهذا الاتفاق فى اللفظ- كما قلنا- لا يلزم منه الاتفاق فى المحتوى والمضمون، الذي ينكشف للنبى منها.. فهذه الأحرف، هى رمز وإشارة إلى معان وأمور يعرفها النبي، على حين تظل هذه المعاني وتلك الأمور، غيبا لا يعلمه إلا هو، والراسخون فى العلم من أمته.
وقوله تعالى: «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ».. معطوف على قوله تعالى: «حم» المقسم به.. وبين المتعاطفين، اختلاف، واتفاق.. فهما مختلفان: لأن
103
أحدهما رمز وإشارة، وهو «حم» والآخر، كلام بيّن القصد، واضح الدلالة، وهو «الْكِتابِ الْمُبِينِ».. وهما متفقان لأنهما- الخفي والجلى- كلاهما من عند الله، ومن كلام الله..
هذا، وأوثر أن أفهم قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» (٣٨- ٤٣:
الحاقة) - أوثر أن أفهم القسم بما يبصرون وما لا يبصرون، على أن ما يبصرون، هو ما تتضح لهم دلالته من ألفاظ القرآن، وما لا يبصرون، هو ما لا يرون له دلالة أصلا، وهى تلك الحروف المقطعة، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهما معا، كما جاء القسم فى قوله تعالى: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» وفى أمثالها.. فهو قسم بالخفّى والظاهر من آيات الله.. ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع أن يشمل القسم، ما يبصرون وما لا يبصرون، من آيات الله القرآنية والكونية.. على السواء..
ومما يستأنس به فى هذا المقام، أنه قد جاء بعد هذا القسم، نفى صفة الكهانة عن الرسول الكريم، وأن ما يقوله من ألفاظ لا يفهمون دلالتها- كهذه الحروف المقطعة- ليس هو من قبيل كلام الكهان الذي يجىء كله رموزا، وطلاسم، وإنما هو قول رسول كريم، تلقاه وحيا منزلا من رب العالمين.
قوله تعالى:
«إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
أي أن الله سبحانه، وتعالى قد أكرم هذه الأمة العربية، ببركة هذا
104
النبىّ الذي هو صفوة خلق الله، فجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجعل لغتها هى اللغة التي تحمل دين الله كاملا، وهو الإسلام، فجاء القرآن الكريم بلغة العرب، ليكون لهم حظّهم الكامل منه، وليكونوا هم أول من يقطف من كرمه، ويطعم من ثمره..
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» - إشارة إلى الحكمة من جعل القرآن الكريم قرآنا عربيا، وهى لكى يتمكن العرب من الاتصال به، وإدراك معانيه، وعقلها، حتى يفيدوا منه، وينتفعوا بما فيه من خير.. وهذا يعنى أن العقل هو الوسيلة التي يتوسل بها إلى الإفادة من القرآن، وأن من يجىء إليه متخليا عن عقله، غير متدبر لآياته، لا ينال من خيره شيئا..
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ».
هو وصف للقرآن الكريم، وأنه مودع فى أم الكتاب عند الله، وحسبه بهذا علوّا وشرفا، وإنه علىّ فى ذاته، حكيم فى أحكامه، ومن شأن من يتصل به أن يستعلى بإنسانيته عن مستوى أهل الجهالة والضلال، وأن يتزيّا بزىّ الحكمة، التي هى العقل المتحرر من الأوهام والخرافات، المستنير بنور العلم والمعرفة..
وقد وصف القرآن الكريم هنا بصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى، هما، العلىّ والحكيم.. لأن القرآن كلام الله، من صفات الله..
فكل ما لله سبحانه وتعالى من صفات الكمال، هو لكل صفة من صفاته..
105
هذا هو القرآن الذي يدعى العرب إلى تعقله، وتدبره، والحياة معه بعقولهم وقلوبهم.. فماذا كان منهم إزاء هذه الدعوة؟ لقد تلبّثوا كثيرا، ووقفوا طويلا على حال من التردد بين الإقدام والإحجام، حتى إذا تبخرت سحب الضلال المتكاثفة حولهم، تحت أشعة هذه الشمس الطالعة فى سمائهم- صحوا صحوة مشرقة، اهتزت لها أنفسهم من أقطارها، فاندفعوا وراء راية القرآن، اندفاع السيل الهادر، وقد اكتسح بقوته ما بين يديه من حواجز ومعوقات.
قوله تعالى:
«أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ».
هو استفهام يحمل التهديد لهؤلاء المشركين من العرب، الذين لم يلتفتوا إلى هذا القرآن الذي بين أيديهم، ولم يمدّوا أيديهم إلى تناول قطوفه الدانية-فماذا يظنون؟ أيحسبون أن هذا الخير سيظل محبوسا على قوم لم يربدوه، وهناك نفوس كثيرة تشتهيه، وتنتظر حظها منه؟ إنهم إن لم يبادروا إلى هذا الخير، ويمسكوا به، فإنه يوشك أن يتحول عنهم، وإذا هم إن طلبوه وجدوا غيرهم قد سبقهم إليه، وأخذ مقام الصدارة التي كان من شأنها أن تكون لهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (٣٨: محمد) والذكر: هو القرآن الكريم..
وضرب الذكر عنهم صفحا: صرفه عنهم.. أي تحوّل القرآن الكريم عنهم، وتنحيته جانبا.. وصفحة الوجه، وصفحة السيف: جانبه، وكذلك الصفحة من كل شىء.. وفى التعبير عن صرف القرآن عن المشركين، وتحوله عنهم- فى التعبير عن هذا بضربه عنهم- إشارة إلى أن القرآن الكريم متجه
106
إليهم، راغب فى الاتصال بهم، والحياة معهم، وأنه لا يتحول عنهم إلا مكرها..
وهذا يعنى أن هذه النعمة لا تتحول أبدا عن الأمة العربية لأن القرآن لا يضرب أبدا، لمقامه العظيم عند الله، ولأنه صفة من صفاته جل وعلا، وأنه إذا كان هؤلاء المشركون قد استقبلوا القرآن الكريم هذا الاستقبال العدائى، فإنه سيجد منهم آخر الأمر، الأمة التي تحتفى به أعظم احتفاء، وتنزله من نفسها أكرم منزل..
وهذا هو بعض السر فى التعبير بضرب الذكر عنهم صفحا، أي جانبا.. بمعنى أنه لا ينصرف عنهم انصرافا كاملا، بل ينصرف عنهم بجانب منه، أشبه بالمغاضب، الذي يريد العتبى ممن أغضبه، وينتظر مصالحته..! وقد صالح العرب القرآن، وأعتبوه، وأدّبوا المتطاولين عليه، وقتلوا من أجل ذلك أبناءهم، وآباءهم، وإخوانهم، وباعوا أنفسهم بيع السماح لله، فى سبيل نصرة دين الله الذي جاء به..
وفى الاستفهام بقوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً» إنذار وتنبيه، يشعر بالحرص على هداية هؤلاء المشركين، مع أنّ إسرافهم فى الضلال والعناد، كان يقضى بأن يصرف القرآن عنهم، من غير إنذار، أو إعذار! قوله تعالى:
«وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو عزاء للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وتسلية له مما يلقى من تأتى قومه عليه، وسخريتهم منه، واستهزائهم به.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- ليس بدعا من الرسل فى هذا الذي يناله من قومه من أذى.. فهذا شأن أنبياء الله ورسله جميعا مع أقوامهم: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
«وَكَمْ» هنا خبرية، يراد بها التكثير.. أي ما أكثر ما أرسلنا من نبى فى الأولين، أي السابقين.. فكانت حالهم أنهم لا يلقون النبي المرسل إليهم إلا بالاستهزاء، والتحدّى، والأذى..
107
قوله تعالى:
«فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ».
هو تهديد، ووعيد للمشركين، فقد أهلك الله المكذبين بالرسل من قبلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة وبطشا.. فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين من قبلهم؟ أم أنهم أخذوا على الله عهدا أن يكونوا بمنجاة من عذاب الله؟.
وقوله تعالى: «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» - أي مضى المثل الذي يرى فيه المشركون العبرة والعظة، وهو ما حدثهم به القرآن الكريم من مصارع القوم الظالمين، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط..! كما يقول الله سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ.. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٤٠: العنكبوت)
الآيات: (٩- ١٩) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
108
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» أي أن هؤلاء المشركين يختانون أنفسهم، ويخادعون عقولهم، فهم- مع علمهم بأن الله سبحانه هو خالق هذا الوجود، والقائم عليه- لا يقيمون أنفسهم على هذا العلم، ولا يأخذون به، بل يتبعون أهواءهم، ويتجهون مع الريح التي تهبّ عليهم من أهوائهم.. فلو سألهم سائل: «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» لقالوا فى غير تردد: خلقهن الله.. ثم إنهم من جهة أخرى لا يعطون الخالق ما ينبغى له من صفات الكمال والجلال، والتفرد بالخلق والأمر، بل يجعلون له أندادا وأعوانا، وينسبون إليه بنين وبنات.. بغير علم..
وفى قوله تعالى: «الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه الإقرار الصحيح منهم، بعد أن أقروا بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض..
فإن الذي خلق السموات والأرض، ينبغى أن يكون عزيزا متفردا بالعزة، فلا يحتاج إلى معين من صاحبة أو ولد، ولا يدخل على عزته ضيم بمشاركة شريك..
كما ينبغى أن يكون عليما محيطا علمه بكل شىء.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟» (١٤: الملك)
109
فقوله تعالى: «خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» - هو- وإن لم يكن مما نطق به القوم مقالا، فقد نطقوا به حالا والتزاما.. فإن إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، يقضى بأن يكون لله العزة المطلقة، والعلم الشامل.
قوله تعالى:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» هو إلفات لهؤلاء المشركين، وهم فى موقف الاعتراف الملجئ لهم، إلى القول بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض- إلفات لهم إلى أن الله الذي خلق السموات والأرض، هو الله الذي جعل لهم هذه الأرض مهدا، أي موطنا ممهدا، كأنه المهد الذي يهيأ للوليد ساعة يولد، حيث يقوم على هذا المهد من يرعى هذا الوليد، ويسهر على راحته. فهذه الأرض هى المهد الذي يحتوى الناس، والذي تحفه عناية الله ورعايته، بما يمدهم به- سبحانه- من نعمه، وما يفيض عليهم من فضله، وأنه لولا هذه الأمداد لم يكن للناس حياة..
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» - إشارة إلى بعض هذه النعم التي أنعم الله سبحانه بها على الناس، وهم فى هذا المهاد الممهّد..
فمن هذه النعم، تلك السبل، وهذه المسالك التي فى البر وفى البحر، والتي بها يعرفون وجوه الأرض، وينتقلون من مكان إلى مكان دون أن يضلوا..
فهم يضربون فى كل وجه من وجوه الأرض، ثم يعودون إلى مواطنهم، كما تعود الطير آخر النهار إلى أعشاشها..
قوله تعالى:
«وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ».
أي ومن نعم الله العزيز العليم، هذا الماء الذي ينزله من السماء بقدر
110
وحساب، حسب علمه وحكمته.. وهذا الماء المنزل من السماء، هو الذي يبعث الحياة فى كل حى، ويمسك الحياة على كل حى..
وفى قوله تعالى: «فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» إشارة إلى أن هذه البلاد العامرة، بما تزخر به من عوالم الحياة من نبات، وحيوان، وإنسان- هذه البلاد، قد كانت مواتا، لا أثر للحياة فيها، شأنها فى هذا شأن المقابر.. فلما نزل هذا الماء بقدرة القادر وتقديره، دبّت الحياة فى الأرض الموات، وقامت المدن والقرى، وهذا هو بعض السر فى قوله تعالى: «فَأَنْشَرْنا» الذي يشير إلى أن هذه البلاد العامرة نشرت من عالم الموات، وأنها كانت مطوية فى التراب فنشرها الله، وأخرج منها هذه الحياة الدافقة..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ تُخْرَجُونَ» - إشارة إلى أن بعث الموتى من القبور، هو صورة من هذا النشور، الذي نشرت به الحياة فى الأرض الموات..
وفى وصف البلدة بأنها ميتة، إشارة إلى أن هذا الموت يحوى فى كيانه حياة، ولكنها حياة ميتة، وستظل هكذا ميتة إلى أن يأذن الله لها بالحياة والنشور، بما ينزل من السماء من ماء فتحيا به الأرض بعد موتها.. وفى إفراد البلدة، وتنكيرها- إشارة إلى الوقوف بالنظر عند بلدة واحدة من تلك البلاد القائمة، حتى تستخلص منها العبرة والعظة، من غير أن يتشتت النظر ويتوزع فى كل بلد.. فإذا وقعت للإنسان العبرة والعظة فى البلد الواحد، كانت كل بلدة بعد هذا، هى هذا البلد.. فهى أولا بلدة، ثم هى بعد ذلك بلاد كثيرة، تشمل ما وقع عليه النظر وما لم يقع!.
قوله تعالى:
«وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ
111
ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ».
أي ومن نعم الله العزيز العليم، كذلك، أنه خلق الأزواج كلها، من جميع ما على الأرض من مخلوقات، من عوالم النبات، والحيوان، والإنسان- فهذه المخلوقات كلها متزاوجة من ذكر وأنثى، وهى بهذا التزاوج تتوالد فتتكاثر، كما يتوالد ويتكاثر الإنسان.. وبهذا يعتدل ميزان الحياة بين الأحياء، ويكون تكاثر النبات والحيوان فى البر والبحر مكافئا لتوالد الإنسان وتناسله، وبهذا يجد الإنسان كفايته مما على الأرض.
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» - إشارة إلى ما سخر الله سبحانه للإنسان من أدوات الركوب، فى البر والبحر، والتي بها ينتقل الإنسان من مكان إلى مكان لم يكن ليبلغه مشيا على رجليه إلا بشق النفس.
وقوله تعالى: «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ».
الضمير فى ظهوره يعود إلى الاسم الموصول «ما» أي لتستووا على ظهور ما جعل الله لكم من الفلك والأنعام من أدوات حمل وركوب.
والاستواء على الظهور، هو التمكن منها، والاقتدار عليها، واقتيادها من زمامها إلى الوجهة التي يريدها الإنسان..
ففى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» - إشارة إلى أن هذا الجعل يحمل معه تذليل هذه المخلوقات وتسخيرها للإنسان، وأنه لولا هذا لما كان للإنسان أن ينتفع بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
112
«وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» (٣٢: إبراهيم) أي ذللها لتجرى بسلطانه لا بسلطانكم عليها.. كما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» أي ما كنا قادرين على قيادة هذه المخلوقات، التي هى أقوى قوة منا، لولا أن سخرها الله سبحانه وتعالى لنا، وملّكنا أمرها، والتصرف فيها..
فاللام فى قوله تعالى: «لِتَسْتَوُوا» هى لام التعليل الكاشفة عن العلة التي من أجلها سخر الله هذه المخلوقات.. فقد سخرها سبحانه ليستوى الإنسان على ظهورها، ويملك تصريفها حيث يشاء..
وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» - إشارة إلى أن ذكر هذه النعمة، إنما يكون على أتمه وأكمله، حين يكون الإنسان متلبسا بها، معايشا لها، مستظلا بظلها، طاعما من ثمرها..
عندئذ يكون إحساسه بهذه النعمة كاملا، ويكون ذكر المنعم بها قائما على شعور مدرك، يقدّر هذه النعمة، ومالها من أثر بالغ فى الحال التي هو فيها مع هذه النعمة، فيجد لذلك قلبا منشرحا، ولسانا رطبا طلقا، يسبح بحمد الله، ويشكر له.. ولهذا جاء العطف بالحرف «ثم» الذي يفيد التراخي، والذي يشير إلى أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله، والنعمة غائبة عنه، فإنه لا ينبغى أن يغفل والنعمة حاضرة بين يديه، يعيش فيها وينعم بها..
قوله تعالى:
«وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ».
معطوف على قوله تعالى: «وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا».. فهو من مقول القول.. أي وتقولوا.. إنا إلى ربنا لمنقلبون.. أي راجعون إليه، بعد رحلتنا فى هذه الحياة الدنيا..
113
وذكر الرجوع إلى الله فى هذا المقام، هو أنسب الأوقات الداعية إليه، حيث المشابهة قوية بين هذه الرحلة التي يقطعها الإنسان على ظهر السفينة أو الدابة، ثم يعود بعدها إلى مستقره، الذي خرج منه. فكذلك الحياة الدنيا، هى رحلة بدأها الإنسان من يوم أن كان له وجود فيها، هذا الوجود الذي خرج من عالم قائم وراء هذه الدنيا، ثم لا يلبث أن يعود من حيث بدأ إلى هذا العالم الذي خرج منه. «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
(٨: العلق) قوله تعالى:
«وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ».
هو معطوف على محذوف، هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ماذا كان من أمر المشركين إزاء هذه النعم التي بين أيديهم؟ وهل قالوا ما هو مطلوب منهم وهذا المقام، من ذكر الله، والتسبيح بحمده، حين استووا على ظهور هذه الأدوات المسخرة لهم؟ وكان الجواب: إنهم لم يقولوا هذا، بل استقبلوا تلك النعم بالجحود والكفران.. فلقد جعل سبحانه وتعالى لهم من الفلك والأنعام ما يركبون، وجعلوا هم له من عباده جزءا، بأن أشركوا به، وأضافوا إليه معبودات أخرى يعبدونها معه، ونسبوا إليه الولد.. وهذا ضلال عظيم، وكفران مبين، إذ كيف يكون المخلوق بعضا من الخالق؟ وكيف يكون الله أبعاضا، وأجزاء فالولد بضعة من أبيه، وفلذة من أفلاذه!.
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟».
استفهام إنكارى، يكشف عن ضلال المشركين، وفساد منطقهم..
فإنهم- وفد أراهم ضلالهم المبين أن ينسبوا الولد إلى الله- استغواهم الغى،
114
فنزلوا بقدر الله سبحانه عن أن يكون مساويا لهم، فجعلوا لله البنات، وجعلوا لهم هم البنين وقالوا إن الملائكة بنات الله، ولم يروا أن يكون هؤلاء الملائكة ذكورا.. وهذا منطق سقيم إذ كيف يكون الذكور والإناث من خلق الله، ثم يكون لهم هم أن يختاروا ما يشتهون منها، ويدعون لله ما لا يشتهون؟ «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (١٥٣: ١٥٤ الصافات).
«لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤: الزمر).
قوله تعالى:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ»
هو تسفيه للمشركين، ولقسمنهم تلك الجائرة. إنهم لا يرضون أن يكون البنات ممن يولد لهم فإذا ولد لأحدهم أنثى امتلأت نفسه غمّا وكمدا.. فكيف ينسب إلى الله من هو- حسب تقديرهم هدا- مصدر همّ وغم؟ أهذا أدب مع الله، عند من يعترف بوجود لله؟ إنهم لو أنكروا الله أصلا، ولم يعترفوا بوجوده، لكان لذلك منطق عندهم أما أنهم يعترفون بالله، ثم ينزلونه من أنفسهم هذه المنزلة التي لا يرضونها لأنفسهم، فذلك هو الضلال المبين، الذي لا يمكن أن يقام له منطق، حتى من الضلال نفسه! وفى قوله تعالى: «بُشِّرَ أَحَدُهُمْ» إشارة إلى أن «بِالْأُنْثى» نعمة من نعم الله، وأن ورودها على لإنسان من البشريات المسعدة، التي من شأنها أن تشرح الصدر، وتسر القلب. ولكن القوم لجهلهم وضلالهم، يضيقون بهذه النعمة، ويشقون بلقائها.
وقوله تعالى: «بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» - إشارة إلى ما نسبه المشركون
115
إلى الله من ولد، حين جعلوا الملائكة بنات الله، وأن هذه النسبة من شأنها أن تجعل تماثلا بين الله، وبين خلقه. إذ كان الوالد والأولاد على صورة متشابهة أو متقاربة، أو متماثلة.. جنسا، وهيئة، ولونا، وشكلا..
قوله تعالى:
«أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ».
ينشأ: يربى، ويشبّ، ويكبر..
والحلية: الزينة، وما يتحلّى به من حلى، وثياب.. وهذا من شأن النساء غالبا..
والآية تنكر على المشركين- فى أسلوب استفهامى- أن يجعلوا لله سبحانه الجانب الضعيف، من المخلوقات وهو جانب الأنوثة، على حين يجعلون لأنفسهم الجانب القوى، وهو جانب الذكورة..
إذ المعروف فى عالم الأحياء، أن الذكر أقوى من الأنثى، وأشدّ بأسا، فى مجال الصراع والخصام..
والمراد بالإبانة فى قوله تعالى: «وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» الكشف والتجلية والإفصاح عن القوة، حين تدعو دواعيها، وتعرض فى مجال الامتحان.
والآية معطوفة على قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ»..
أي أم اتخذ ممن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين، وترك لكم أن تتخذوا من تجعلون منهم فرسان قتال وأبطال حروب؟.
116
قوله تعالى:
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ».
هو معطوف على قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ». وهو بيان شارح للعباد الذين جعلهم المشركون جزءا من الله، فهذا الجزء هو الملائكة، وقد جعلوا هؤلاء الملائكة إناثا..
فالمشركون يعملهم هذا، قد اقترفوا جرما غليظا، يضم فى كيانه ثلاث جرائم:
نسبة الولد إلى الله، وجعل أولاد الله إناثا، ووصف الملائكة بأنهم إناث..
وكل هذا زور وبهتان.. لا منطق له من العقل، ولا مستند له من الكتاب.
وقوله تعالى: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟» إنكار لهذا القول الذي يقوله المشركون فى الملائكة، إذ قالوه بغير علم.. إنهم لم يشهدوا خلقهم حتى يعلموا من أمرهم شيئا يقولونه فيهم..
وقوله تعالى: «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ!» تهديد ووعيد للمشركين وأنهم سيحاسبون على هذا القول الذي يقولونه فى الملائكة، والذي سيكتب على أنه شهادة منهم فى هذا الأمر.. وإذ كانت تلك الشهادة زورا، فإنهم سيماقبون عليها عقاب شاهد الزور!
الآيات: (٢٠- ٢٥) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
117
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ»..
هو معطوف على جرائم المشركين التي عرضتها الآيات السابقة.. وجريمتهم هنا أنهم يذهبون مذهب السفسطة، والمماحكة، فيعترفون بأن الله سبحانه مشيئة عامة غالبة.. وهذا حق، ولكنه حق أرادوا به باطلا، فجعلوا عبادتهم الملائكة مشيئة لله فيهم، وأن الله لو شاء لهم أن يعبدوا غيرها لعبدوه.. فهم- والحال كذلك- قائمون على أمر الله، غير خارجين على مشيئته.. وهذا مكر سيىء منهم، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله..
ونعم إن لله سبحانه وتعالى كلّ شىء.. وإنهم لن يملكوا مع الله نفسا يتنفسونه إلا بأمره ومشيئته.. ولكن أين مشيئتهم هم؟ أليست لهم مشيئة عاملة، يأخذون بها الأمور أو يدعونها؟ إنهم لو عطلوا مشيئتهم فى كل أمر لكان لهم أن يقولوا هذا القول.. ولكنهم إذا حضرهم الطعام مدوا أيديهم إليه، وأخذوا منه ما يسد جوعهم، فإذا شبعوا رفعوا أيديهم عنه.. فلم يمدّون أيديهم إلى الطعام، ولا يقولون لو شاء الله أن نأكل لأكلنا؟ هذه أقرب
118
صورة من صور مشيئتهم، إلى ما لا يحصى من السور التي تتحرك فيها تلك المشيئة، فى أقوالهم وأفعالهم.. فكيف يجعلون أفعالهم الضالة وأقوالهم المنكرة من مشيئة لله، ولا يجعلون لمشيئتهم وجودا هنا، مع أنها موجودة فى كل حال معهم؟ إن ذلك- كما قلنا- مكر بالله، وتبرير لكل جناية يجنونها على الناس أو على أنفسهم..
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الغواة الضالين لو جروا على منطقهم الذي يجعلون به لله سبحانه وتعالى مشيئة عامة شاملة، لكان مؤدّى هذا أن بعبدوا الله وحده، وأن يتبرءوا من كل شريك له، إذ كان سبحانه، صاحب السلطان المطلق، والمشيئة النافذة.. وإنه لضلال سفيه أن يعبد المرء من لا سلطان له ولا مشيئة، ويدع صاحب السلطان، ورب المشيئة! ولكن هكذا يزيّن الضلال لأهله سوء أعمالهم، فيرونها حسنة.. وفى هذا يقول الله سبحانه على لسان أهل الضلال: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» (١٤٨: الأنعام) ويقول سبحانه على لسانهم كذلك:
«أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟» (٤٧: يس).
وقوله تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ».. الإشارة بذلك إلى هذا القول الذي يقولونه باطلا وزورا، ويضيفون فيه عبادتهم الملائكة إلى مشيئة الله..
فهذا الذي يقولونه لا علم لهم به.. لأنهم لا يعلمون ما هى مشيئة الله، ولا يقدرونها قدرها، فهم إذا أساءوا، ووضعوا موضع المساءلة والحساب قالوا هذا من مشيئة الله فينا، وإذا كانوا فى عافية من أمرهم، لم يلتفتوا إلى هذه المشيئة، ولم يضيفوا إليها شيئا مما هم فيه، بل جعلوه من كسب أيديهم، كما قال قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (٧٨: القصص).. وكما يقول
119
الضالون فيما ذكره الله تعالى على لسان كل ضال: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي» (٩- ١٠: هود) وقوله تعالى: «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» توكيد لجهل القوم وضلالهم، وسفاهة منطقهم فيما يقولون عن مشيئة الله.. فهو قول لا مستند له من علم، أو عقل، وإنما هو قائم على الوهم والتخمين.. «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» أي ما هم إلا يخرصون، أي يرجمون بالغيب.. وإن من يبنى معتقده، ويقيم دينه على مثل هذه الأوهام والظنون، لا يصل إلى حق أبدا، والله سبحانه وتعالى يقول:
«قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» (١٠- ١١: الذاريات).
قوله تعالى:
«أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ».
هو معطوف على قوله تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» أي ليس عندهم بما يقولون علم ذاتىّ، اهتدوا إليه بعقولهم، ولا علم من كتاب آتاهم الله إياه، قبل هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول رب العالمين..
فالمراد بالاستفهام هنا، النفي..
قوله تعالى:
«بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» أي إنه ليس لهم علم من ذات أنفسهم، ولا من كتاب جاءهم قبل هذا الكتاب، وإنما كل ما عندهم، هو ضلال ورثوه عن آبائهم، وقالوا لمن يسألهم عن دينهم الذي يدينون به، ويعبدون عليه الملائكة من دون الله، على اعتبار أنهم، بنات الله- قالوا: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» أي على دين.. فالأمة
120
فى اللغة تجىء بمعنى الدين، حيث تجتمع الجماعة عليه، وتكون أمة تنتسب إليه، كما تنتسب بقومينها، فكما يقال الأمة العربية، يقال كذلك الأمة الإسلامية..
يقول النابغة الذبياني:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع؟
أي وهل يحلفنّ كاذبا متأثما من كان ذا دين؟
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» - إشارة إلى ما بلغ بهم استسلامهم لموروثات آبائهم من ثقة، فيما ورثوه عنهم، فتلقوه فى اطمئنان، دون أن ينظروا فيه بعقولهم، وأن يكشفوا عما فيه من حق أو باطل.. وإن هذا لا يكون إلا من سفيه أحمق، يعطل عقله، ويزهد فيه، ويسترخصه، فلا يعيش إلا من هذا الغذاء الذي هو فضلة مما ترك الآكلون، وقد تعفّن وفسد!! فهل هذا شأنهم مع ما ورثوا عن آبائهم من أموال ومتاع؟ ألم يقلّبوا هذه الأموال والأمتعة بين أيديهم؟ ألم يطرحوا منها ما هو غير صالح؟ ألم يأخذوا الصالح منها، ويعملوا على الإفادة منه؟ فما بالهم مع ما تلقوا عن آبائهم من عادات ومعتقدات هى مما يتصل بعقولهم، - ما بالهم قد قبلوه على علاته، وأخذوه دون نظر فيه:
«أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟ (١٧٠: البقرة) قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ»
.
أي ليس هذا شأن هؤلاء المشركين وحدهم، بل هو شأن أهل الضلال جميعا فى الأمم السابقة، ما جاءهم من نذير إلا تلقوه بهذا القول الضالّ المضلّ:
«إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» ! وهكذا يقيم الضلال له مجرّى آسنا، يتوارد عليه من منبعه إلى مصبّه
121
أصحاب العقول السقيمة، والنفوس الخبيثة، كما يسقط خسيس الطير على الجيف.
واختصاص المترفين بالذكر هنا، لأنهم هم الذين يقومون دائما فى وجه كل دعوة تخرج بالنّاس عما هم فيه من حال إلى حال، فإن هذا التحول يؤذن أهل الترف والغنى بأن يخرجوا عما هم فيه.. ومن هنا كان أكثر الناس حربا وأشدهم عداوة لدعوات الإصلاح، هم أصحاب المال، والجاه والسلطان، حيث لا يريدون تحوّلا عن حالهم التي هم فيها.
قوله تعالى:
«قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ».
أي أنه إذا جاء الرسول، يحاجّ هؤلاء المترفين، ويردّ عليهم قولهم هذا الذي يقولونه عن موروثاتهم من آبائهم، فقال لهم: «أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟» أي أنظلّون ممسكين بهذا الذي ورثتموه عن آبائكم، ولو دعوتكم إلى ما هو خير منه طريقا، وأهدى سبيلا؟ - فلا يتلقى الرسول منهم إلّا إصرارا على ما هم فيه، وإلّا كفرا وتكذيبا بما يدعوهم إليه..
وفى مخاطبة الرسول لهم فردا، وردّهم على الرسل جمعا- فى هذا إشارة إلى أن هذا هو الجواب الذي تلقاه الرسل جميعا من المترفين من أقوامهم.
قوله تعالى:
«فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ».
هو إنذار لهؤلاء المشركين، وتهديد لهم بأن يلقوا ما لقى المكذبون قبلهم من نقمة الله، ومن عذابه فى الدنيا والآخرة.. وفى هذا وعد كريم للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بالنصر والتأييد.
122
الآيات: (٢٦- ٣٥) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٥]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه قد ذكر فى الآيات السابقة ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسلهم، وكفر بما أرسلوا
123
به إليهم.. فناسب أن يجىء ذكر إبراهيم- أبى الأنبياء- وموقفه هو من قومه، بعد أن كذبوه، وأنكروا عليه ما يدعوهم إليه من عبادة الله رب العالمين..
فإبراهيم عليه السلام، يتبرأ من دين أبيه وقومه، كما تبرءوا هم من الدّين الذي يدعوهم إليه.. «إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ»..
وقوله تعالى:
«إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ».
إلا هنا بمعنى لكن.. أي لكن الذي «فَطَرَنِي» أي خلقنى ابتداء، هو الذي سيهدين إلى الحقّ، ويقيمنى على طريق الهدى..
ويجوز أن تكون «إِلَّا» دالة على الاستثناء، وفى هذا إشارة إلى أن هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، لم تكن عندهم إلا أربابا مع الله..
فهم كانوا يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله. ولهذا صحّ عندهم أن يدخل الله سبحانه وتعالى فى معبوداتهم التي يتبرأ إبراهيم من عبادتها. ثم يجىء الاستثناء منها لله، سبحانه، الذي هو المعبود الحقّ الذي يعبده إبراهيم، ويطلب الهداية منه..
قوله تعالى:
«جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».
الضمير فى جعلها يعود إلى مضمون قوله: «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ».. فمضمون هذا القول هو الإيمان بالله وحده، والإقرار بتفرده سبحانه بالخلق والأمر.. لا شريك له.. ومضمون هذا المضمون، كلمة واحدة هى «التوحيد» فالكلمة التي جعلها إبراهيم ميراثا منه لذريته من بعده
124
هى كلمة التوحيد، وهى الإسلام، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (١٣٢: البقرة) وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».. أي لعلّ ذرية إبراهيم يرجعون إلى هذا الميراث الذي تركه فيهم، ويذكرون ما وصّاهم به من الإيمان بالله وحده، والا يموتوا الا وهم مسلمون..
وإذ كان مشركو العرب، من ذرّيّة إبراهيم- عليه السلام- فإن لهم ميراثهم من كلمته تلك، وإنهم إذا كانوا قد وجدوا آباءهم على دين غير دين أبيهم الأكبر إبراهيم- فإن أباهم هذا قد ترك فيهم ميراثا خيرا من هذا الميراث، ودينا أقوم من هذا الدين الذين تلقوه عن آبائهم.. إن آباءهم قد ضيّعوا هذا الميراث، فليمدّوا هم أيديهم لتلقيه، والانتفاع به..
«بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ».
«بَلْ» إضراب عن كلام محذوف، دلّ عليه قوله تعالى: «وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».. وهنا كلام كثير يقتضيه المقام، فكان سؤال، وهو: هل رجع عقب إبراهيم إلى كلمته تلك؟ وهل أقاموا دينهم عليها؟ وكان جواب: «كلا» لم يرجعوا إلى كلمته، ولم يستقيموا على دينه..
ثم كان سؤال، وهو: «ماذا فعل الله بهم؟» وكان جواب هو: كلا..
«بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين» أي أن الله سبحانه وتعالى قد ترك هؤلاء المشركين كما ترك آباءهم من قبل، فلم يبعث فيهم رسولا، فعاشوا كما تشاء لهم أهواؤهم، مطلقين من كلّ قيد، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، غير منذرين، أو مبشّرين.. وقد ظلّوا هكذا، معفين من التكاليف
125
الشرعية حتى جاءهم الحق، وهو القرآن الكريم، وجاءهم رسول مبين..
هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الإعفاء من التكاليف للشرعية، هو دليل مرض، وليس علامة صحة.. فهو يشير إلى أنّ الذين اعفوا من هذه التكاليف ليسوا أهلا للتكاليف.. شأنهم فى هذا شأن أصحاب الأعذار من الأطفال، والمرضى، والبلهاء والمجانين..
وفى دعوة هؤلاء المشركين إلى دين الله، وإلى حمل ما يدعون إليه من التكاليف الشرعية، إشارة إلى أنهم أهل لهذه الدعوة، وأنهم قد بلغوا مبلغ الرجال القادرين على حمل المسئوليات، وتلقى الجزاء عليها ثوابا، وعقابا..
قوله تعالى:
«وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ».
أي أنه حين جاءهم الحقّ، وهو القرآن الكريم، لم ينظروا فيه، ولم يقفوا عنده، بل بادروا بالإعراض عنه، والتكذيب له، وتحديد موقفهم منه، وهو الكفر بكل ما جاء فيه..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».
أي وقالوا تعليلا لتكذيبهم بالقرآن، وبأنه سحر.. «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ؟ أي لو كان هذا القرآن من عند الله، فلم لم يكن المبعوث به إليهم من السّماء، سيّدا من ساداتهم فى مكة أو الطائف؟ ولم يقع الاختيار على رجل نشأ فيهم يتيما فقيرا، لم يكن له فيهم رياسة فى سلم أو حرب؟.
126
وقوله تعالى:
«أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».
هو رد على هذا المنطق السقيم السفيه، الذي تجرى عليه مقابيس الأمور عند هؤلاء المشركين، وأنهم لا يفرّقون بين مطالب الجسد وحاجة الروح، ولا ما هو من غذاء الأجسام، وغذاء العقول..! فالإنسان العظيم عندهم هو من جمع ما جمع من مال، وما استكثر من عتاد ورجال، وإن كان لا حظّ له من عقل سليم، أو خلق قويم.
وقوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ». إنكار على المشركين ما أنكروه على النبىّ أن يكون موضع هذا الإحسان العظيم، وحامل هذا النور القدسىّ السماوي.. إنهم ليسوا هم الذين يقسمون هذه الرحمة، بل هى بيد الله سبحانه وتعالى، يضعها حيث يشاء، وتختصّ بها من عباده من يشاء.
وهذه هى حظوظهم التي بين أيديهم من الدنيا.. هى بيد الله.. يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. فليست حظوظهم منها على سواء.. فكل له منها ما قسم الله له.. فبعضهم غنىّ واسع الغنى كثير المال، وبعضهم فقير، لا يملك شيئا، وبعضهم كثير المال لا ولد له، وبعضهم كثير الأولاد ولا مال له، وبعضهم سقيم امتلأت يداه بالمال، وبعضهم صحيح صفرت يداه من المال.
وهكذا.. هم فى معيشة الحياة الدنيا درجات بعضها فوق بعض.. وذلك لأمر أراده الله، وهو أن يعيش النّاس فى هذه المستويات المختلفة، حتى يملأوا كلّ فراغ فيها، وحتى تتدافع بهم تيارات الحياة، كما تتدافع الأمواج على صدر المحيط.
وقوله تعالى: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا».. إشارة إلى أن هذا
127
الاختلاف بين الناس فى حظوظ الحياة، هو الذي جعل لكل واحد منهم مكانه فيها.. فهذا خادم، وذاك مخدوم، وذلك مرءوس، وهذا رئيس..
وهذا ينسج وذلك يلبس، وهذا يخبز وذاك يأكل.. وهكذا.. كلّ إنسان يخدم ويخدم، من طريق مباشر أو غير مباشر:
الناس الناس من بدو ومن حضر بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
قوله تعالى: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».. الرحمة هنا هى القرآن الكريم، الذي هو رحمة من رحمة الله، التي أشار إليها سبحانه فى قوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» فهذا القرآن، وما يحمل إلى الناس من خير، هو خير من كل ما يجمع الناس جميعا من مال، وما يقتنون من متاع، وما يرزقون من بنين..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً».
تكشف هذه الآية وما بعدها عن الطبيعة البشرية التي يستهوبها حبّ المال، وتفتنها شهوته.. فالنّاس جميعا- إلا من عصم الله- أضعف من أن يقاوموا شهوة المال، وأن يقهروا سلطانه المتمكن من نفوسهم..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ» بيان لتجربة عملية يمكن أن يمتحن بها الناس، ويرى فيها هذا الطبع الغالب عليهم، من حبّ المال وفتنته.. وتلك التجربة هى أن يساق المال بغير حساب، لكل من يكفر بالرحمن، حتى يتخذ هؤلاء الكافرون لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج- أي سلالم- من فضة، عليها
128
يظهرون، أي يصعدون بها على ظهور هذه البيوت، كذلك يتخذون لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة كذلك، يتكئون عليها، ويسمزون فوقها، كما يجلبون إلى هذه البيوت ألوانا من المتاع والزخرف حتى تفيض وتمتلىء..
هذه هى التجربة المفترضة.. فماذا يكون الشأن لو أنها وقعت فعلا، فكان لكل من يكفر بالرحمن، هذا العطاء، يساق إليه بغير حساب؟.
والجواب الذي تعطيه التجربة، هو أن يتحول الناس إلى الكفر، ويتزاحموا على طريقه، حتى يكون لهم هذا المال الذي يعطاه كل كافر..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً»..
فالأمة التي سيكون الناس عليها، هى أمة الكفر، والدّين الذي سيدينون به هو الكفر، لو فرض ووقع جواب هذا الشرط، وهو أن يكون لبيوتهم سقف من فضة ومعارج عليها يظهرون.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد لعباده الخير، فعافاهم من هذا الابتلاء، ودفع عنهم تلك الفتنة، فجعل متاع الدنيا قسمة بينهم، ينال منه الكافرون والمؤمنون على السواء.. كلّ حسب ما قدّر له.. دون أن يكون المال من حظ المؤمنين وحدهم، أو الكافرين وحدهم.. فإنه لا حساب للإيمان أو الكفر، فيما يساق إلى الناس من متاع الدنيا، لأن هذا المتاع- مهما كثر- لا يصح أن يكون معيارا يقوم عليه ميزان الإيمان أو الكفر..
وقوله تعالى: «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ».. أي ما كل ذلك مما يساق إلى الناس من مال، وما يقيم لهم هذا المال من زينة الحياة الدنيا وزخرفها- ما كل ذلك إلا متاع هذه الحياة الدنيا وزاد أهلها.. أما الآخرة فلها زاد غير هذا الزاد، هو التقوى.. فالمتقون وحدهم هم
129
الذين ستكون لهم الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم.. أما من سواهم، فلا شىء لهم من هذا النعيم.. وليس لهم فى الآخرة إلا النار..
والجنة ونعيمها، لا يقوم متاع الدنيا كلها بلحظات قليلة منه، والنار وعذابها، لا يكفى مال الدنيا كلها لدفع ساعة منه..
الآيات: (٣٦- ٤٤) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٥]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»..
130
عشا عن الشيء يعشو، عشوا: فعل فعل الأعشى، وهو كليل البصر..
والعشو عن ذكر الرحمن، الإعراض عنه، مع قيام الحجج والبراهين بين يديه، كما يعشو بعض الناس فى ضوء النهار لآفة تعرض لأبصارهم..
فالذى يعرض عن ذكر الرحمن هنا، هو من قامت بين يديه الدلائل، والحجج على صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.. فهذا المعرض عن ذكر الله، يقيّض الله له شيطانا، أي يسوق ويهيىء له شيطانا «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» أي ملازم له، مسلط عليه، يقوده إلى حيث يشاء.. فهو شيطان مع الشيطان حيث يكون..
وفى اختصاص صفة الرحمن بالذكر هنا من بين صفات الله سبحانه وتعالى- تذكير بهذه الرحمة المنزلة من الرحمن، وهى القرآن، وهى التي يعرض عنها أصحاب القلوب المريضة، فيتسلط عليهم الشيطان، ويملك أمرهم.. وإنها لمفارقة بعيدة أن يرى الإنسان يد الرحمن الرحيم تمتد إليه بالرحمة، ثم ينظر فيرى يد الشيطان الرجيم تمتد إليه بالبلاء والشقاء.. ثم يكون له- مع هذا- موقف للنظر والاختيار.. ثم يكون فى الناس من يمد يده إلى الشيطان مبايعا على أن يصحبه إلى حيث ما يرى رأى العين من شقاء وبلاء!.
قوله تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ»..
الضمير فى «إِنَّهُمْ» للشياطين، أي وإن الشياطين ليصدون المشركين عن سبيل الله، ويدفعون بهم إلى طرق الغواية والضلال، ويزينونها لهم حتى ليحسبون أنهم مهتدون.
131
فقوله تعالى: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» جملة حالية، تكشف عن الحال الشعورية التي يكون عليها المشركون وهم يركبون طرق الضلال..
فهم يساقون إلى الضلال وقد خيل إليهم أنهم قائمون على الهدى، مستمسكون بالعروة الوثقى!.
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ»..
حتى: حرف غاية، لما تضمنه قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» - أي أن الشيطان يظل فى هذه الحياة قرينا لصاحبه هذا الذي لزمه، وأمسك بزمامه- إلى أن يجىء يوم الحساب والجزاء.. وهنا يتخلى الشيطان عن صاحبه، ويتخلى صاحبه عنه، ويتولى كلّ منهما رجم صاحبه بكل منكر، وقذفه بكل تهمة.. وفى هذا يقول الله تعالى، عن الكافرين أصحاب الشياطين: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» (٢٩: فصلت) ويقول سبحانه عن الشيطان: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (٢٢: إبراهيم) ويقول سبحانه وتعالى عن إخوان السوء، ورفاق الضلال:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (٦٧: الزخرف)..
وقوله تعالى: «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» - هو بيان لما
132
فى نفس هذا الضال الذي عشى عن ذكر الرحمن، وأصبح من قرناء الشيطان- من ضيق بصاحبه، ومن حسرة وندم على تلك الصلة التي كانت بينهما، والتي أوقعته فيما هو فيه اليوم من بلاء وعذاب.. ولهذا فهو يتمنى أن لو لم يجمعهما فلك، وأن لو كان كلّ منهما فى عالم غير العالم الذي يعيش فيه صاحبه..
فقوله تعالى: «بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» - إشارة إلى استحالة الالتقاء بينهما، كما يستحيل التقاء مشرق الشمس شتاء بمشرقها صيفا.. مثلا..
وأما قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» - فهو اعتراض بين الآيتين، يراد به الإلفات إلى أن الحكم الذي يقع على الواحد من أتباع الشيطان، هو حكم عام يشمل أتباع الشياطين جميعا، وأنهم كلهم قرناء سوء، كلما كثرت أعدادهم زاد إغواؤهم، وإضلال بعضهم بعضا، حيث تشتد داعية الإغراء والإغواء، كلما كثرت الأعداد المتزاحمة على موارد الغواية والضلال.
قوله تعالى:
«وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ».
الخطاب هنا للفريقين.. التابعين والمتبوعين.. إنه لن ينفعهم اشتراكهم جميعا فى العذاب.. ولن يشفى ما بصدور الضالين من نقمة وحنق على من كانوا سببا فى إغوائهم وإضلالهم- أن يلقى هؤلاء المغوون ما يلقون من عذاب وبلاء.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان التابعين، وهم يطلبون مزيدا من العذاب لمن كانوا سببا فى فتنتهم وبلائهم: «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» فيجيبهم سبحانه بقوله:
133
«قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ» (٣٨: الأعراف) ويقول سبحانه على لسان أئمة الكفر، ودعاة الضلال، وهم يردّون على أتباعهم الذين يتمنون لهم عذابا فوق العذاب: «إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» (٤٨: غافر).
فالمراد بقوله تعالى: «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ» ليس نفى مجرد النفع، وإنما المراد به النفع الذي يخلصهم من هذا العذاب، ويخرجهم من هذا البلاء.. إذ لا شك أن فى رؤية التابعين مشاركة سادتهم لهم فى العذاب، بعض العزاء لهم، وإن كان هذا لا يخفف من العذاب الذي هم فيه شيئا.
قوله تعالى:
«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
الاستفهام هنا يراد به النفي.. أي إنك أيها النبىّ لن تسمع الصمّ، ولن تهدى العمى، ولن تنقذ من كان فى ضلال مبين..
وفى هذا عزاء للنبىّ الكريم عن مصابه فى هؤلاء الضالين المفسدين من قومه.. الذين ركبوا رءوسهم، ومضوا يتخبطون فى طرق الغواية والضلال، غير ملتفتين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى النجاة، ويرفع لهم بين يديه نورا كاشفا من نور الله..
وفى هذا أيضا تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون.. فليتركهم النبىّ مع قرنائهم هؤلاء، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يبعث ليسمع الصمّ أو يهدى العمى..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (٨١: النمل).
134
قوله تعالى:
«فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ».
أي أن هؤلاء الصمّ، العمى، الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة- هؤلاء هم واقعون تحت بأس الله، مأخوذون بعذابه.. فى الدنيا وفى الآخرة..
ففى قوله تعالى: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» - إشارة إلى أنهم لن يفلتوا من قبضة الله، ولن يخلصوا من العقاب الراصد لهم، سواء أكان ذلك فى حياة النبىّ أو بعد موته.. فإنه إن ذهب الله سبحانه بالنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- ورفعه تعالى إليه، فإن انتقام الله سبحانه واقع بهم، وليس على النبىّ أن يشهد هذا الانتقام، وإنما حسبه أن الله سبحانه آخذ له بحقه من هؤلاء الذين ظلموه، وبغوا عليه..
وقوله تعالى: «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» إشارة أخرى إلى ما قد يحل بالمشركين من انتقام الله فى الدنيا، مما توعدهم الله به، ومما يراه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فيهم، وذلك بما كان من قتل رءوس المشركين يوم بدر، ومن خزيهم يوم الخندق، ثم ذلّتهم وانكسارهم يوم الفتح.. فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شىء، غالب على أمره.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
قوله تعالى:
«فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
هو تعقيب على ما توعد الله سبحانه وتعالى به المشركين، من انتقام على
135
تكذيبهم للرسول، واستهزائهم به، واستكثارهم عليه أن يكون مبعوث الله إليهم، دون سادتهم وأشرافهم.
وفى هذا التعقيب دعوة من الله سبحانه إلى النبي الكريم ألّا يحفل بهؤلاء المشركين، وألا يفتّ ذلك من عزمه، وألا يقف به ذلك عن المضىّ فى سبيله، مستمسكا بالذي أوحى إليه من ربه.. وفى هذا يقول له الله تعالى:
«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» (١٠: المزمل). ويقول له سبحانه: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (٤٨: الأحزاب).
وفى قوله تعالى: «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» تحريض للنبىّ، وتثبيت لقلبه.. ليمضى فى طريقه، مع كتاب الله الذي بين يديه.. فإنه به على صراط مستقيم.. صراط الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض.. ومن كان على هذا الصراط فهو على طريق النجاة، والفلاح.. إنه على نور من ربه..
«وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (٤٠: النور).
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» هو تحريض كذلك، وشدّ لعزم النبىّ على الاستمساك بهذا الكتاب الذي بين يديه، فإن فيه ذكرا للنبىّ، ولقومه، وتمجيدا له ولهم على مرّ الأزمان.. إذ كان القرآن بلسان النبىّ ولسان قومه، وكان الرسول المبلغ لرسالة القرآن عربيا من هؤلاء العرب.. وإنه مادام للقرآن ذكر، ولرسالة القرآن ذاكرون- وهذا ما قدر الله له أن يكون إلى آخر الزمان- فإن ذكر الرسول باق، وذكر قومه باق كذلك.. فما آمن مؤمن بالله، ولا
136
دان ذو دين بالإسلام، إلا كان إيمانه برسول الله، وبكتاب الله، من تمام إيمانه بالله.. وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى على النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، إذ رفع فى العالمين ذكره، وأعلى فى المصطفين من عباده منزلته، كما يقول سبحانه: «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» (٤: الانشراح)..
كما أنه إحسان عظيم، ونعمة سابغة على الأمة العربية، التي اختارها الله سبحانه وتعالى، لتكون الأفق الذي تطلع فيه شمس الهداية المرسلة إلى العالمين، وليكون لسانها اللسان الذي ينقل إلى الناس هذا الهدى المرسل إليهم من ربهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (٣: الزخرف) وقوله تعالى: «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ».. إلفات إلى هذه النعمة العظيمة التي امتنّ الله بها على الأمة العربية، إذ اختارها لحمل هذه الأمانة العظيمة..
وإنها لمسئولة عن حفظ هذه الأمانة، وعن حراستها من كل عاد يعد وعليها، كما أنها مسئولة عن أداء هذه الأمانة إلى أهلها، وإزاحة المعوقات والعلل من طريقها، وإلا كان الحساب العسير على أي تقصير أو تفريط يقع من أولئك الذين حملوا هذه الأمانة.. أفرادا وجماعات.
إن الدعوة إلى الإسلام، هى مسئولية هذه الأمة التي جاءت شريعة الإسلام بلسانها.. وإنه لشرف عظيم لهذه الأمة، يكسو أفرادها وجماعاتها على مدى الأجيال، أثواب العزّة والفخار..
ولهذا الشرف العظيم ثمن عظيم، يؤديه كل من يريد أن يتحلى بهذا الشرف، بما يبذل من جهد، ومال، وجهاد فى سبيل الله، وتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن دين الله، وكتاب الله..
137
قوله تعالى:
«وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة أشارت إلى هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على الأمة العربية، بأن جعل خاتم الرسل منها، وجعل خاتم الرسالات دينها وشريعتها، وجعل لها القوامة على هذا الدين، وتلك الشريعة.. وهذا من شأنه أن يثير فى نفوس العرب حمية وغيرة على هذا الدين واجتماعا على نصرته والدعوة له، لا أن يكون منهم العدوّ الراصد له، المتربص به، الخارج على طريقه..!!
فقوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» - إلفات إلى هؤلاء المشركين الذين يعبدون ما يعبدون من دون الله، من أوثان، وكواكب، وملائكة، وإلى أن ما هم عليه من هذا المعتقدات ليس من دين الله فى شىء.. وأن دين الله هو إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية المبرأة عن الشريك، والصاحبة والولد.. فمن أىّ رسول من رسل الله تلقى المشركون هذا الدين الذي يدينون به؟ أكان من رسل الله من دعا إلى عبادة غير الله؟ وحاش لله أن يحمل رسول من رسل الله دعوة إلى عبادة غير الله!! إذ كيف يكون رسولا لله من يدعو لغير الله؟
والسؤال من النبىّ لرسل الله هنا، ليس سؤالا مباشرا، بحيث يسأل الرسل ويتلقى الجواب منهم.. وإنما هو سؤال بالنظر فيما قصّ الله سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسل، ومحامل رسالاتهم إلى أقوامهم.. فقد كانت دعوة كل رسول إلى قومه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».
فهذا نوح- عليه السلام- يقول لقومه: «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» (٢٦: هود).
138
وهذا هود- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (٥٠: هود).
وصالح- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (٦١: هود)..
وإبراهيم- عليه السلام- يقول لأبيه وقومه: «ماذا تَعْبُدُونَ؟ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» (٨٥ ٨٦: الصافات).
وشعيب- عليه السلام- يهتف بقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (٨٤: هود).
وهكذا كانت دعوة الرسل إلى أقوامهم، تدور كلها حول تصحيح معتقدهم فى الله، وإقامة وجوههم إلى الله وحده لا شريك له..
وفى نظر الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى أخبار الرسل مع أقوامهم يجد أن دعوتهم قائمة على توحيد الله، وتحرير العقول من ضلالات الشرك به.
وكأنه- عليه الصلاة والسلام- بهذا، قد سأل الرسل، وتلقى الجواب منهم.
وليس الرسول- عليه الصلاة والسلام- فى حاجة إلى أن يسأل عن أمر هو عالم به، ولكن هذا السؤال منه، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يشاركوا فى هذا السؤال، وأن يتلقوا الجواب عليه، حتى يكون لهم من ذلك علم يصححون به معتقداتهم الفاسدة، التي جاء رسول الله- عليه الصلاة السلام- لعلاج ما بها من أدواء، كما جاء رسل الله جميعا بدواء تلك الأدواء.
الآيات: (٤٦- ٥٦) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
139
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»..
مناسبة هذه القصة هنا، هو هذا الشبه القريب بين فرعون، وبين فراعين قريش، الذين كانوا ينظرون إلى النبىّ من سماء عالية، من الغرور الكاذب، والوهم الخادع، فيكذّبون رسول الله، ويهزءون به، لا لشىء إلا لأنه ليس أكثرهم مالا، ولا أوسعهم غنى، وإنهم لينكرون أن يختار الله لرسالته من لا يختارونه هم للرياسة عليهم، والسيادة فيهم.. «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» (٣١: الزخرف).
وقصة موسى مع فرعون، هنا، هى مرآة يرى المشركون على صفحتها
140
وجوههم المنكرة فى شخص فرعون، وماركبه من غرور واستعلاء، حتى أورده ذلك وقومه موارد الهلاك..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ».. هو رجع لصدى هذه الضحكات الهازئة الساخرة التي كان المشركون يلقون بها النبي، كلما طلع عليهم بآية من آيات الله.. كما يقول الله تعالى فى آية تالية من هذه السورة: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» أي يضجون بالضحك الهازئ، الساخر.. وكما يقول سبحانه: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ؟ وَتَضْحَكُونَ؟ وَلا تَبْكُونَ؟» (٥٩- ٦٠: النجم).
قوله تعالى:
«وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».
هو إشارة إلى ما كان بين يدى موسى من آيات عجبا، عرضها على فرعون وملائه، آية آية.. ليكون لهم فى هذا مزدجر، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا، وضلالا..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» - إشارة إلى الآثار التي كانت تحدثها هذه الآيات فى حياة القوم.. فكانت تنتقل بهم من سيىء إلى أسوأ.. كما يقول الله سبحانه: «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» (٤٢: الأنعام).
والمراد بالآيات هنا هى تلك الآيات التي أرسلها الله عليهم بالبلاء بعد البلاء..
كما يقول سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» (١٣٣: الأعراف).
قوله تعالى:
«وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ».
141
أي أنهم كانوا كلما نزل بهم البلاء، وأحاط بهم الكرب، جاءوا إلى موسى يسألونه أن يرفع عنهم هذا البلاء، على أن يؤمنوا بالله الذي يؤمن به هو، ويدعوهم إليه..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» - إشارة كاشفة عما فى نفوسهم من إصرار على الكفر، وإن نطقت ألسنتهم بالإيمان.. فهم لا يرون فى موسى إلا ساحرا كبيرا. وأنه قادر بسحره هذا على أن يسوق إليهم البلاء، وأن يمسكه إذا شاء.. فهم بهذه الصفة يتعاملون معه.. أما دعواه بأنه رسول من رب العالمين، فهذا ادعاء لم يصحّ عندهم، وإن قبلوه منه، فهو إلى أن ينكشف البلاء عنهم.. «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (١٣٤- ١٣٥: الأعراف).
وفى قوله تعالى: «رَبَّكَ» - اعتراف ضمنى منهم، بأنهم على ما هم عليه من كفر بالله.. فهو رب موسى.. وليس ربّهم.. وهو الذي عهد إلى موسى بهذا السحر الذي بين يديه، وعلّمه إياه..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ».
أي فلما استجاب الله لموسى فيما طلبه من رفع البلاء عنهم، لم يستقيموا على العهد الذي عاهدوا موسى عليه، من الإيمان بالله، بعد رفع البلاء عنهم..
بل نكثوا العهد، وأمسكوا بما هم عليه من كفر..
قوله تعالى:
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ».
142
هو معطوف على قوله تعالى: «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ».. أي لم يكتفوا بنكث العهد، بعد أن رفع عنهم البلاء، الذي كان مشتملا عليهم، ولم يشكروا الله على العافية، بل ازدادوا كفرا وضلالا، فجمع فرعون قومه، وحشدهم بين يديه، ليعيد إليهم ثقتهم فيه، وإيمانهم به، بعد هذه الزلزلة العاتية التي أصابتهم من هذا البلاء الذي لم يجدوا من فرعون حيلة يحتال بها لدفعه، حتى اضطروا إلى الوقوف بين يدى موسى موقف التذلل والرجاء، طالبين إليه كشف الضر عنهم، فكان لهم ما طلبوا!! وهذا موقف من شأنه أن يذهب بهيبة فرعون، ويتحيّف سلطانه القائم فى قومه، فكان هذا التدبير الذي جاء عقب هذه التجربة التي دخل فيها القوم بيد موسى، ثم أخرجوا منها بيد موسى أيضا..
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ.. قالَ يا قَوْمِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.. وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟».
ومن أنكر على فرعون هذا الملك الذي له؟ إنه هو الذي ينكر على نفسه هذا الملك، بعد أن رأى كيف تهزه الأحداث، وتزلزله النكبات، وتكاد تبتلعه الأمواج المضطربة، وهو لا يملك لذلك دفعا!! فأين سلطانه؟ وأين جبروته؟ لقد تعرّى من كل شىء، وأصبح فى هذه المحنة نبتة هزيلة، تعصف بها الرياح فيما تعصف به من نبات وأعشاب! إنه يلوذ بموسى عدوّه، طالبا أن يمد إليه يده ليدفع عنه هذا البلاء الذي نزل به..
إن فرعون هنا يفكر بصوت عال- كما يقولون- فهو بهذا الحديث إلى قومه، يكشف عما يشعر به من ضياع لسلطانه، وذهاب لهيبته. وهو بهذا الحديث يتحسس وجوده الذي ذهب، وسلطانه الذي ضاع.. تماما كما يفعل من صحا من حلم مزعج، رأى فيه أنه سقط من قمة جبل فتحطم، وتبدّد
143
أشلاء، إنّه ليتحسس جسده ليرى إن كان حيّا أو هو فى عالم الأموات، وإن كان هو فى يقظة أو فى حلم!.
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تُبْصِرُونَ» طلب من فرعون لمزيد من الصفعات على وجهه، ليتأكد له أنه موجود على قيد الحياة، وأنه لا يزال قائما على كرسى الملك.. وإن من شك فى ذلك فلينظر.. فها هو ذا فرعون.. وها هو ذا عرش فرعون.. وها هو ذا قائم على كرسى مملكته!! إنه الغريق الذي احتواه اليمّ، وقد بئس الذي ينظرون إليه من نجاته،. وهو يهتف بهم: أنا هنا.. ما زلت حيّا.. فلا تهيلوا التراب علىّ!!.
قوله تعالى:
«أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ»..
أم هنا للإضراب على تلك المشاعر التي يراها فرعون تتحرك فى صدور قومه، من استخفاف به، وإكبار لموسى.. فهو يقول لهم: لا تظنوا هذه الظنون بموسى، ولا تجعلوه معى على كفة ميزان.. إنه ليس مثلى، ولا خيرا منّى.. بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، لا ملك معه، ولا سلطان له، ولا منطق مستقيم على لسانه..
ومن قال من القوم إن موسى خير منه؟.
إن فرعون نفسه هو الذي يقول هذا، وإنه ليرى موسى، وقد نازعه سلطانه، بل وانتزعه منه.. وإن فرعون لينزل من سمائه العالية، ويرضى أن يكون هو وموسى على كفتى ميزان.. على أن تكون كفته أرجح من كفة موسى.. أنا خير منه!!.
لقد نفذ القرآن الكريم بهذه الكلمات القليلة، إلى أغوار النفس الإنسانية
144
ورصد حركاتها وسكناتها، وكشف عما يندس فى مساربها من خواطر وتصورات، وما يزدحم فى أعماقها من رؤى وخيالات..
وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، يطالع من ينظر فيه متأملا، آيات بينات، تشهد بأن هذا القرآن هو من كلام رب العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد..
قوله تعالى:
«فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ».
إن فرعون إذ يجلس على كرسى عرشه، فزعا مضطربا، ليرى- بلمح الخاطر- يد موسى تكاد تمتد إليه وتنتزعه من هذا العرش، ثم يرى هذه اليد عطلا من كل حلىّ، على حين يرى يديه هو قد حليتا بأساور من ذهب، مما يدل على أنه الملك الجدير بالجلوس على هذا العرش- وهنا يجدها فرعون فرصة ليضع فى كفة ميزانه ثقلا جديدا تثقل به كفته، على حين تخف كفة موسى..
فيقول: «أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ».. ثم أنا خير من هذا الذي لم تحلّ يده بحلية من ذهب، شأن الملوك وأصحاب السلطان.. فلو أن هذا الإنسان كان رسولا من عند الله حقّا لما ضنّ عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية، ذات بأس، وذات سلطان! فإن لم يكن أهلا لأن ينال من ربه هذه المكرمة، أفلا جاء معه ملك أو ملائكة من السماء، يشهدون له أنه رسول من عند الله؟ فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فبأى وجه يكون لموسى مقام بيننا ومكانة فينا؟.
واقتران الملائكة: هو اتصالهم ومرافقتهم لموسى.
145
قوله تعالى:
«فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ».
أي أن فرعون استخف بعقول قومه، واستصغر أحلامهم، فتحدث إليهم بهذا الحديث الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه عاقل.. ومع هذا فقد تلقاه القوم بالتسليم والطاعة، ولم يقم من بينهم قائم ينكر هذا القول المنكر، ويسفه هذا المنطق السفيه.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ..» أي كانوا على ما كان عليه فرعون من سفاهة، وجهل، فراجت عندهم هذه البضاعة الفاسدة! وهكذا يستغلظ الضلال، وتنتشر سحبه القائمة فى المواطن التي تقبل الباطل، وتستجيب له.. تماما كالبرك والمستنقعات، تتداعى عليها الهوامّ والحشرات، وتتوالد وتتكاثر فى أعداد لا تعدّ ولا تحصى..
وإنها ليست مسئولية داعية الضلال وحده، بل هى كذلك مسئولية..
الذين يستجيبون له، ولا ينكرون عليه المنكر الذي يدعوهم إليه.. ومن هنا كان الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر مسئولية منوطة بكل مجتمع إنسانىّ، فى أفراده وجماعاته، إذ كانت الجماعة أشبه بالجسد، فيما يعرض له من عوارض العلل والآفات.. فأى عضو فى الجماعة، يعرض له عارض من عوارض الفساد، يهدد الجماعة كلها بتلك الآفة، التي إن لم تجد من يطبّ له منها، سرت عدواها فى المجتمع كله، وتهددت وجوده..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ».
وهكذا كانت عاقبة الجماعة كلها.. داعية الضلال، ومن ضلّ بضلاله..
لقد أخذهم الله جميعا بعذابه، فأغرقهم كما أغرق فرعون..
146
وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ».. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أمهل هؤلاء الضالين، ومدّ لهم فى ضلالهم، حتى يكون لهم فسحة من الوقت، يراجعون فيها أنفسهم، ويعدّلون موقفهم المنحرف..
فلما لم يكن لهم فى هذا الإمهال، وفى تلك المطاولة، إلا الإمعان فى الضلال، والإسراف فى العناد- أخذهم الله بذنوبهم، ولم يكن لهم من دون الله من ولى ولا نصير.
فقوله تعالى: «آسَفُونا» أي أسخطونا عليهم.. والله سبحانه وتعالى «حليم» فلا يغضب الله إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا..
قوله تعالى:
«فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ».
أي أن العذاب الذي أخذ به هؤلاء الضالون، المسرفون فى الضلال، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم، ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف..
الآيات: (٥٧- ٦٥) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٥]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
147
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ».
يصدّون: أي يتصايحون، ويكثرون من الضجيج، شأن الجماعة يطلع عليها أمر على غير ما تتوقع، وهى فى مأزق حرج، فتتعلق بهذا الأمر الذي ترى فيه فرجا ومخرجا، فتصيح بصيحات الفرح المجنون، الذي تختلط فيه الأصوات، فلا يعرف الكلمات مدلول، وإن عرف للإشارة والحركات مفهوم، يدل على الفرحة والابتهاج.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قصة موسى مع فرعون انتهت بتلك النهاية التي كانت مثلا فيما تنتهى إليه طريق الضالين، المكذبين بآيات الله وبرسل الله.. وإن فى هذا المثل لعبرة لمعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفى عيسى بن مريم مثل بارز، لمن يتعقل الأمثال، وينتفع بها..
148
ففى ميلاده هذا الميلاد العجيب، من غير أب- مثل شاهد على قدرة الله، وعلى أنه سبحانه يخلق ما يشاء، على غير مثال سبق من تلك المخلوقات، التي تجرى على طريق الأسباب الظاهرة لنا.. فالله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات جميعا..
وفى هذا الميلاد العجيب، الذي يبدو لنا من خلق عيسى عليه السلام من غير أب، إشارة دالة على أكثر من أمر..
فأولا: أن صفة هذا الميلاد الذي يكاد ينفرد به عيسى من بين بنى الإنسان لا يصحّ أن يكون داعية لبعض الناس إلى عبادته، وإلى رفعه عن مقام المخلوقين من مخلوقات الله.. فما هو إلا عبد من عباد الله، وخلق من خلقه.. وأنه إذا كان قد ولد من غير أب، فالإنسان- أصلا- خلق من غير أب وأم..
«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٥٩ آل عمران) فعيسى وآدم عند الله على سواء.. كلاهما مخلوق لله..
سواء منهما من خلق ابتداء من غير أب ولا أم، أو من خلق من أمّ دون أب..
ومن هنا، فلا يكون لأولئك الذين يعبدون عيسى، ويجعلون له نسبة خاصة بالله- لا يكون لهم حجة يتخذونها من ميلاده الذي جاء على تلك الصفة..
وأنه إذا كانت لهم حجة، فهى من واردات الأوهام والضلالات، كتلك الحجج التي يقيمها عبّاد الأحجار والأصنام والكواكب، والملائكة على معبوداتهم.. فالذى يعبد الحجر لا يعدم أن يجد له منطقا يعبده عليه، تماما كالذى يعبد الشمس، أو القمر، أو الملائكة، أو الجن.. فكل
149
معبود من تلك المعبودات له عند من يعبده وجه يعبده عليه، ومنطق يتعامل به معه..
وثانيا: أن ميلاد عيسى على غير الأسلوب الذي ولد عليه سائر الناس، دليل على قدرة الله التي لا تحكمها الأسباب.. وأن الله سبحانه قادر على كل شىء..
وأنه سبحانه بهذه القدرة قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، وأن يحيى هذه الأجساد بعد أن أبلاها البلى، وذهب التراب بمعالمها..
وفى قوله تعالى: «ابْنُ مَرْيَمَ» دون ذكر عيسى باسمه، أو لقبه «المسيح» - فى هذا إشارة إلى أنه ابن امرأة، هى مولود من مواليد الإنسانية.. فهو- أيّا كان ميلاده- ثمرة من شجرة الإنسانية، موصول نسبه بنسبها.. أيّا كان لون هذه الثمرة، أو طعمها!!.
وفى قوله تعالى: «إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» - إشارة إلى هذا اللغط والصخب، الذي أثاره المشركون عند ضرب هذا المثل فى تشبيه خلق عيسى بخلق آدم، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٥٩: آل عمران).. فقد انتهزها المشركون فرصة يشغبون بها على النبي، ويأخذون منها الحجة عليه من لسانه، بهذا المثل الذي ضربه..
فهو سبحانه يقول لهم: إن عيسى بشر مثل سائر البشر، وإنه مولود من الإناء الذي يولد منه كل إنسان، وهو رحم الأم.. وهم- أي المشركون- يقولون للنبى: هذا عيسى، هو بشر- كما تقول- وقد عبده من هم أهل كتاب سماوى، ولا بد أن تكون هذه العبادة عن دعوة من الله لهم- وإذن فعبادة غير الله
150
جائرة عند الله.. ونحن إنما نعبد الملائكة الذين هم بنات الله.. والذين نتمثلهم فى هذه الأصنام التي نسميها بأسمائهم، كهبل، واللّات، والعزّى، ومناة.. فأىّ خير؟ آلهتنا تلك التي هى بنات الله؟ أم المسيح الذي هو ابن مريم؟ وإذا كان الله قد رضى لأهل الكتاب أن يعبدوا ابن امرأة، أفلا يرضى الله لنا أن نعبد الملائكة.. وهن بنات الله؟.
هذا منطق القوم الذي استخرجوه من هذا المثل الذي ضرب لهم فى خلق عيسى.. وهو منطق قائم على المماحكة والسفسطة.. إنهم أمسكوا بمقدمات باطلة، ثم خلصوا منها إلى نتائج فاسدة..
فمن قال لهم إن عبادة الذين يعبدون المسيح قائمة على الحق؟ إنها كفر وشرك بالله، مثل كفرهم وشركهم، بما يعبدون من هذه الآلهة التي أقاموها بأيديهم، وسموها بأسماء الملائكة كما يقول الله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (١٩- ٢٢ النجم)..
إن عبادة الذين يعبدون المسيح قضية أخرى.. لم يكن من شأن الدعوة الإسلامية أن تعرض لها فى هذا الدور الذي تواجه فيه هؤلاء المشركين من قريش.. وتعلّق المشركين بهذه القضية فى هذا الوقت، ودعوة النبي إلى الدخول معهم فى مناقشتها والفصل فيها- هو مما يجعل المعركة بين النبي وبين المشركين تنتقل إلى ميدان آخر، يقفون هم فيه موقف المتفرجين..
وهذا من شأنه أن يغمد سيوف الحق التي تضرب فى وجوههم، من قبل أن توقع الهزيمة بهم.. ولهذا جاء القرآن الكريم مبطلا مكرهم هذا بقوله سبحانه:
«ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ».. أي ما ضربوا هذا
151
المثل الذي يوقع الشبه بينهم وبين أتباع المسيح الذين يعبدونه، من جهة، وبين آلهتهم التي يعبدونها، وبين المسيح- من جهة أخرى- ما ضربوا هذا المثل إلا جدلا، أي لأجل الجدل الذي يصرف عن الحق، وبعمّى السبل عنه..
وهذا شأن القوم فى أكثر أمورهم.. فهم قوم خصمون.. أي شديد والجدل فى الخصومة.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» (٩٧: مريم) أي شديد والدد والعناد فى الخصومة..
وفى قوله تعالى: «قَوْمُكَ» إشارة إلى قوم آخرين، لهم خصومة فى ابن مريم، وهم أتباع المسيح الذين يعبدونه..
قوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ»..
هذا هو مقطع القول فى المسيح، بلا جدل، ولا مماحكة.. ما هو إلا عبد من عباد الله، ورسول من رسله، أنعم الله عليه بالرسالة، وجعله معلما من معالم الهدى لبنى إسرائيل، بعد أن ماجوا فى الفتن، وغرقوا فى الضلال.. فإذا ضل فيه الضالون، وفتن به المفتتنون، فليس فى هذا حجة يحتج بها المشركون على النبي، ويتخذون منها ذريعة لتبرير منكرهم الذي هم فيه، من عبادة الملائكة الذين نصبوا لهم هذه التماثيل، وأطلقوا عليها ما أطلقوا من أسماء..
قوله تعالى:
«وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ».
هو ردّ على المشركين الذين ينظرون إلى الملائكة نظرة ترفعهم إلى مقام
152
الألوهية.. بهذا النسب الذي ينسبونهم به إلى الله.. وهذا نظر فاسد.. فإنه مهما يكن مقام المخلوق فى المخلوقات، فإنه عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، يعبد الله ويسبح بحمده، شأنه فى هذا شأن كل مخلوق لله.. «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (١٧٢- ١٧٣: النساء).
فهذا هو المسيح- على ما يرى الناس من عجيب مولده- وهؤلاء هم الملائكة- على ما يرى الناس من عظمة خلقهم، وقربهم من ربهم- إنهم جميعا عبيد لله: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (٦: التحريم)..
فكيف يعبد العبد مع السيد، ويؤلّه المخلوق مع الخالق! وقوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» - أي أنه لو شاء الله لجعل الناس على صورة الملائكة، خلقا وتكوينا، ولأقامهم على خلافة الأرض ملائكة لا بشرا.. فإن الذي خلق الملائكة جندا فى السماء قادر على أن يخلق ملائكة ليكونوا خلفاء فى الأرض.. وفى هذا تذكير للناس بهذه الخلافة التي لهم على هذه الأرض.. وأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها للناس دون الملائكة الذي طمعوا فيها، ورأوا أنهم أحق من البشر بها، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (٣٠: البقرة) وفى هذا ما يرى منه هؤلاء المشركون الذين يعبدون الملائكة أنهم إنما يعبدون خلقا مثلهم، أرادوا مرّة أن يكون لهم ما للإنسان من هذا السلطان الذي له فى هذه الأرض..
فكيف يجوز فى عقل عاقل أن يعبد الإنسان من كان يطمع فى أن
153
يكون فى منزلته؟.. أليس ذلك تدلّيا وسقوطا؟ وبلى إنه التدلّى السفيه، والسقوط المهين! قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ».
هو تعقيب على قوله تعالى فى شأن عيسى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ».
وهذا التعقيب يجب أن يكون من كل عاقل على ما سمع من قول الله تبارك وتعالى فى شأن عيسى، وأنه عبد من عباد الله، وأنه إذا كان المشركون المعاندون قد تعلقوا بحبال الضلال من هذا المثل، واستخرجوا منه هذا المنطق الفاسد الذي تصابحوا به فرحا- فإن العاقل ليجد فى هذا المثل دليلا يستدلّ به على البعث، فيزداد إيمانا به، ويقينا بأن الساعة آتية لا ريب فيها..
أي «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» أي وانه، أي ابن مريم- فى الميلاد الذي ولد به- ليفيد علما بالساعة، أي بالبعث، حيث يتجلى فى خلقه على تلك الصورة بعض من مظاهر قدرة الله، وأن البعث الذي ينكره المشركون، استعظاما له، إذ يقولون: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» (٧٨: يس). ويقولون: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» (٣: ق) - هذا البعث، هو أمر واقع تحت سلطان قدرة الله التي لا يعجزها شىء.. فمن نظر إلى ميلاد المسيح الذي جاء على غير تلك الأسباب التي يعرفها الناس، لم ينكر البعث وإعادة الحياة إلى من فى القبور، وإن جاء على غير ما يعرف الناس من أسباب.. وهذا هو العلم الذي يستدل به أولو النظر، على إمكان البعث، والحساب، والجزاء، إذا هم نظروا نظرا مستبصرا فى ميلاد المسيح على تلك الصورة الفريدة التي ولد بها..
154
وقوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ»..
بمعنى أنه إذا كان ميلاد المسيح يفيد علما بإمكان البعث، ومجىء الساعة- فإنه يجب الا يمترى فيها الممترون، وألا يجادل فيها المجادلون، وألا يكذب بها المكذبون، وبين أيديهم الدلائل والشواهد عليها..
وقوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» معطوف على قوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» أي فدعوا المراء والجدل فى الساعة، والتكذيب بها، واتبعون فيما أدعوكم إليه أيها المشركون من الإيمان بالله، واليوم الآخر.. فهذا هو الصراط المستقيم، الذي يسلك بمن يأخذ طريقه عليه، إلى غايات الأمن، والسلامة، والنجاة..
قوله تعالى:
«وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» أي اتبعونى ولا تتبعوا ما يدعوكم إليه الشيطان، الذي يصدكم عن اتباع هذا الصراط المستقيم الذي أدعوكم إليه.. فأنا أدعوكم إلى الخير، وأرتاد لكم طريق النجاة، لأنى محبّ لكم، حريص على سلامتكم ونجاتكم.. أما الشيطان، فهو عدو ظاهر العداوة لكم، لا يدعوكم إلا إلى ما فيه بلاؤكم وهلاككم.
قوله تعالى:
«وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ»..
155
أي أنه لما جاء عيسى إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات، بما أجرى الله سبحانه وتعالى على يديه من معجزات، وبما أجرى على لسانه من الكلم الطيب الحكيم، الذي يشفى سقم العقول، وآفات القلوب- لما جاء إلى بنى إسرائيل «قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» أي أن هذا الذي جئتكم به من آيات بينات، هو مما أمرنى الله سبحانه وتعالى أن أحمله إليكم من عنده لأطبّ لكم به من عللكم وأدوائكم العقيلة والروحية والجسدية.. «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» - أي ولأكشف لكم عن مواقع الحق فيما اختلفتم فيه من التوراة، وأحكامها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى آية أخرى على لسان المسيح: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (٥٠: آل عمران).
فالمسيح لم يجىء إلى بنى إسرائيل داعيا لهم أن يعبدوه من دون الله، كما ذهب إلى ذلك أهل الضلال ممن عبدوه، وجعلوه إلها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (١١٦- ١١٧: المائدة).
قوله تعالى:
«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» أي أنه قد وقع الخلاف بين بنى إسرائيل فى شأن المسيح، وفى مفهوم
156
دعوته التي جاءهم بها، فكانوا فى ذلك أحزابا وشيعا.
ففريق منهم بهته وكذبه، ورماه وأمه بالفحش والزور من القول..
وقالوا إنه ابن زنى، وإن أمه جاءت به من سفاح! وفريق غالى فيه، ورفعه إلى مقام الألوهية.. فقالوا إنه الله تجسد فى مريم، وجاء على صورة المسيح! وهكذا هلك الفريقان فيه..
وبين هذين الفريقين فرق أخرى كثيرة، بعضها مبالغ، وبعضها مقتصد..
وفى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» وعيد لهذه الفرق المنحرفة جميعها.. فكلّ جائر، حائد عن طريق الحقّ فى المسيح، وفى المفهوم الذي فهموه عليه.. فهو ليس إلها ولا ابن إله، كما زعم أنصاره وأتباعه.. وهو ليس ابن زنى، ولا كذابا، ولا دجالا، كما رماه بذلك المفترون الضالون من اليهود.. وإنما هو كما قال الله سبحانه وتعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ».
الآيات: (٦٦- ٧٣) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٦ الى ٧٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
157
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ».
هو عودة بالخطاب إلى المشركين، بعد أن ضرب لهم المثل بالمسيح بن مريم، وبما كان منهم من شغب فى هذا المثل، وما كان من بنى إسرائيل من خلاف فى شأنه.. وفى هذا الخطاب الاستفهامى تهديد للمشركين بما سيحل بهم، إذا هم أمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. فماذا ينتظرون؟ إنه ليس وراء هذا الانتظار إلا أن يموتوا على شركهم، وإلا أن يجدوا أنفسهم فجأة، وعلى غير توقع منهم- أنهم بين يدى عذاب الله، الذي أعدّ للضالين المكذبين..
قوله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» الأخلاء: جمع خليل.. وهو الصاحب الذي اتصل الودّ بينه وبين صاحبه..
والمعنى: أنه فى يوم القيامة يشغل كل إنسان بأمر نفسه، لما يرى من أهوال هذا اليوم.. «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (٣٤- ٣٧: عبس).. هذا شأن الناس جميعا..
أما أهل الضلال، وإخوان السوء، فإن لهم إلى هذا الشأن شأنا آخر.. وهو أنهم
158
يترامون بالتهم، ويتقاذفون باللعنات.. كل منهم يلقى باللأئمة على صاحبه ويقول له أنت الذي دعوتنى إلى كذا وكذا من المعاصي، وأنت الذي زينت لى كذا وكذا من الشرور، كما يقول الله سبحانه على لسان المستضعفين، ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ».
(٣٨: الأعراف).
وكما يقول سبحانه عن أهل الضلال جميعا: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٢٥: العنكبوت)..
وقوله تعالى: «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» استثناء من هذا الحكم العام: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ».. فليس كل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.. وإنما هذا الحكم واقع على إخوان السوء، وأهل الضلال.. أما أهل الإيمان، والتقوى، المتحابون فى لله، المجتمعون على ذكره وطاعته- فهؤلاء يلقى بعضهم بعضا بالحمد والثناء، حيث كان بعضهم لبعض ناصحا وهاديا..
قوله تعالى:
«يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ»..
هو دعاء من رب كريم، لعباده المتقين، الذين استخلصهم سبحانه من بين هذه الجموع المتخاصمة الملاعنة من أهل الفسق والضلال..
فأهل المحشر جميعا بعضهم عدو لبعض إلا المتقين، الذين ينادون من قبل الرحمن بقوله تعالى: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ»..
159
وفى نداء المتقين من بين هذا المعترك الصاحب من حولهم، وفى إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى: «يا عِبادِ» لطف من لطف الله بهم، حيث تسكن بهذا النداء الكريم نفوسهم المضطربة، وتطمئن قلوبهم الواجفة، لما يرون من تناهش أهل الضلال حولهم، وتراميهم بالعداوة والشنآن.. فإذا سمعوا هذا النداء الكريم بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أمنوا من خوف، واطمأنوا من فزع.. إنهم ناجون وحدهم من بين الركب الذي تتخبط به السفينة فى متلاطم الأمواج، وتوشك أن تهوى إلى القاع!.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ».
هو وصف لهؤلاء العباد، الذين ناداهم الحق جل وعلا بقوله: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ».. فهم إنما استحقوا هذا التكريم من الله سبحانه وتعالى، بندائهم، وبإضافاتهم إلى ذاته جل وعلا..
لأنهم آمنوا بآيات الله.. وكانوا مسلمين..
وفى وصفهم بالإيمان، ثم وصفهم بأنهم كانوا مسلمين قبل أن يكونوا مؤمنين- فى هذا إشارة إلى أنهم قبل أن يؤمنوا على يد الرسل، ويصدّفوا بآيات الله التي فى أيديهم- كانوا مسلمين، أي على فطرتهم السليمة، التي لم تفسدها الأهواء الموروثة، لقل كانوا على السلامة والبراءة، حتى إذا التقوا برسل الله، ونظروا فيما معهم من آيات، استجابوا لدعوة الحق، وآمنوا بآيات الله.. أشبه بالأرض الطيبة، التي احتفظت بكل ما فيها خير، حين لم تجد الماء الذي يحيى مواتها، حتى إذا غائها الغيث، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.. وليس كذلك الأرض الخبيثة، فإنها حين
160
لا تجد الماء، حيث تنضح بكل ما فيها من خبث، فتصبح منبتا للحسك والشوك، ومأوى للآفات والهوام..
وقوله تعالى:
«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ».
بعد أن يجتمع المؤمنون على هذا النداء الكريم من ربهم، يدعوهم الله سبحانه وتعالى إلى ضيافته فى الجنة.. «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» أي حيث تلقون المسرة والحبور مع أزواجكم اللاتي آمنّ معكم..
وبهذا يكمل أنسهم، ويتم نعيمهم..
قوله تعالى:
«يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ»..
فى الانتقال من الخطاب فى قوله (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) إلى الغيبة، فى قوله تعالى: «يُطافُ عَلَيْهِمْ» بدلا من «يطاف عليكم» - فى هذا إلفات للأنظار إلى هذا النعيم الذي يساق إلى عباد الله المتقين، الذين استضافهم سبحانه وتعالى فى رحاب كرمه، وأنزلهم منازل رضوانه.. وفى هذا ما يبعث فى قلوب المكذبين والضالين، من حسرات، إلى ما هم فيه من آلام، وأحزان، كما أنه يضاعف من نعيم أهل هذا النعيم، حيث ينظرون إلى أنفسهم وإلى ما هم فيه من عافية، وحيث يلقى غيرهم صنوف البلاء والهوان..
وفى قوله تعالى: «بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ» - إشارة إلى الطعام
161
وهو فى آنية الطعام، وهى الصحاف، جمع صحفة.. وإلى الشراب وهو فى آنية الشراب، وهى الأكواب: جمع كوب.. وهى جميعا من ذهب..
وقوله تعالى: «وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ» - إشارة أخرى إلى أن وراء هذه الأطعمة والأشربة التي يطاف على أهل الجنة بها- وراء هذه الأطعمة كل ما تشتهى الأنفس من طيبات.. فلا يطلب أحد شيئا إلا وجده حاضرا بين يديه، كما يقول الله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
(٣١: فصلت)..
وقوله تعالى: «وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» - إشارة ثالثة إلى ما للأعين من متع خاصة، تجدها فيما ترى من آيات الله، وبديع صنعه فى هذه المنازل الكريمة، التي استضافهم الله سبحانه وتعالى فيها..
هذا، وقد تأول بعض المفسرين قوله تعالى: «وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» بأنه النظر إلى الله سبحانه وتعالى، حيث لا يكمل نعيم أهل الجنة إلا بالنظر إلى الله سبحانه، فيتجلى الله سبحانه وتعالى على أهل الجنة، فيكون لهم من ذلك ما لا يحيط به الوصف من رضا ورضوان..
هذا وقد أشرنا فى أكثر من موضع إلى أن هذه الأوصاف الحسية التي يذكرها القرآن لنعيم الجنة، من ألوان الطعام والشراب، وأنواع اللباس والحلىّ- كلها مما يساق إلى أهل الجنة، الذين كانوا يشتهون هذه الأمور فى الدنيا، ثم تقصر أيديهم عنها، أو كانوا يحرمون أنفسهم منها، ابتغاء مرضاة الله!.
فكان من تمام إكرامهم، أن يجدوا بين أيديهم كل ما كان من نعيم الدنيا، الذي فاتهم حظهم منه.. عجزا، أو استعلاء..
162
قوله تعالى:
«وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ».
الإشارة إلى الجنة هنا، هى دعوة لأهلها إلى أن يزفّوا إليها، وأن ينالوا منها ما يشاءون.. فقد أصبحت ملكا لهم، يتصرفون فيها تصرف المالك فيما ملك..
وقد عبّر القرآن عن الملك بالميراث، لأمرين:
أولا: أن الوارث لا يبخل على نفسه بالتمتع بكل ما ورث، حيث لا يشتد حرصه عليه، لأن ما ورثه قد جاء إليه من غير عناء.. وفى هذا دعوة إلى أهل الجنة أن ينالوا من هذا النعيم الموروث ما يشاءون، غير مضيقين على أنفسهم فى شىء..
وثانيا: أن هذه الجنة التي نزل المؤمنون رحابها، وورثوا نعيمها- هى فضل من فضل الله عليهم، وإحسان من إحسانه إليهم، وأن أعمالهم الصالحة التي عملوها فى الدنيا ليست هى الثمن الذي يكافىء هذا النعيم العظيم..
وأن هذه الأعمال لم تكن إلا سببا ووسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة الله..
كما يتوسل الوارث إلى مورثه بسبب من قرابة ونسب، فتكون هذه القرابة سببا لميراث ما يرث، وإن لم يكن له فيما ورثه من عمل..
أما قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» - فهو لتحقيق أمرين كذلك..
أولهما: الاحتفاء بالأعمال الصالحة، والإشارة بقدرها، وإلى أنها تثمر ثمرا طيبا.. وأن من يغرس فى مغارسها لا بد أن يجنى منها ثمرا طيبا مباركا..
163
وثانيهما: تكريم العاملين، وإطعامهم من ثمرة عملهم.. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا مغارسه، وتعهدوها بالعمل.. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له.. فإنه وإن كان طيبا كريما، يجد فيه المرء هناءته وسعادته- فإنه يقوم معه شعور فى النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه.. وفى هذا ما يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة..
وفى التعبير القرآنى: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ما يجعل هذه الجنة ونعيمها، ملكا، مصفّى من كل شائبة، معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم، أو يقطعه عنه.. فهى ميراث ينفق منه الإنسان كيف يشاء، وينال منه ما يريد.. وهى ثمرة عمل وجهد.. ومن حق العامل أن ينعم بما عمل!.
الآيات: (٧٤- ٨٣) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٨٣]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
164
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ».
هو بيان لما يلقى أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء فى الآخرة، بعد هذا البيان الذي كشف عما للمؤمنين المتقين عند الله من جنات ونعيم.. فالناس فى الآخرة فريقان: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فريق يتلقى الكرامة والتكريم، وفريق يلقى الهوان والعذاب..
وفى التعبير عن أهل الضلال بالمجرمين، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم من عباد الله.. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به فى الآخرة بالخلود فى نار جهنم- إنما هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها فى دنياهم..
قوله تعالى:
«لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ».
هو صفة للعذاب الذي يخلد فيه المجرمون.. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا، ولا يفتر أو يضعف أبدا، بل هو متصل دائما، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء، وإن اختلف صورا وألوانا.
وقوله تعالى: «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم.. والإبلاس: هو الوجوم، والجمود، من شدة الحزن واليأس.. فهم أجسام قد تبلدت فيها العقول، وجمدت منها المشاعر، وذهلت النفوس..
165
قوله تعالى:
«وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ».
أي أن هذا العذاب الذي هم فيه، لم يكن لظلم وقع عليهم، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب، الذي لا ينقطع أبدا، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا تحتمله السموات والأرض.. وكلا فإنهم لم يظلموا، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم، فأوردوها هذا المورد، وسعوا بها إلى هذا البلاء، فكفروا بالله، وحاربوا الخالق، وخرجوا بهذا على الولاء لله، والانقياد لرب العالمين، الذي انقاد له الوجود كله..
قوله تعالى:
«وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ».
مالك، هو الملك الموكّل بالنار من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقوم على أهل النار، كما يقوم السبحان على المسجونين..
وفى قولهم: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ما يكشف البلاء النازل بهم، كما يكشف اليأس الذي وقع فى نفوسهم من أن ينالوا من الله خيرا.. فهم لا يرجون الله فى هذا اليوم، ولا يطمعون فى رحمته، حتى إنهم لينادون مالكا:
«يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ولم يقولوا «ليقض علينا ربنا» - إنهم على يأس من أن ينسبوا إلى الله، وأن يقبل الله منهم قولا.. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم فى آخرتهم. فلم يقدروا الله قدره.. ولم يروا سعة رحمته..
وقوله تعالى: «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» - هو ردّ مالك على ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم، وإهلاكهم، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب..
وقول مالك: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ».. أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن
166
يقضى عليكم، لأن قوله: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» يدل على أنهم لن يموتوا، ولن يقضى عليهم، كما يدل فى نفس الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها.. إنهم ماكثون فيما هم فيه من عذاب أليم، وعلى تلك الحال التي هم عليها..
أما لو قيل لهم لن يقضى عليكم، أو لن تموتوا، فقد يظلون أحياء، ولكن فى غير صحبة هذا العذاب الذي معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب، وفى هذا القول متعلق لهم، وإن كان متعلقا كاذبا.. فجاء قوله تعالى: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!.
قوله تعالى:
«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ»..
يكاد يجمع المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار، وأنه من مقول القول الذي ردّ به مالك عليهم، وأن جمع الضمير فى قوله «جِئْناكُمْ» لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم، فيما حملوا إلى رسل الله من آيات الله! وهذا مردود من وجهين:
فأولا: فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين للحق، بل هم مستعدون لقبوله، والانتفاع به..
وهذا لا يتفق مع أهل النار، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها للحق، مجانبا له، بل ومحاربا لكل من
167
يتجه إليه.. ولو كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد، ولما لقى هذا المصير المشئوم!! وثانيا: أن قوله تعالى فى الآية التالية: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ».
- هو- وبإجماع المفسرين- خطاب إلى المشركين! وهذا الخطاب- كما ترى متصل بالكلام الذي سبقه، إذ هو إضراب عنه، وإنشاء لخطاب آخر معهم.. كما سنرى..
وعلى هذا، فإن قوله تعالى:
«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» - هو خطاب.
من الله سبحانه وتعالى للمشركين، على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه..
وفى هذا الخطاب ردّ على هؤلاء المشركين، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون، الذين نادوا مالكا قائلين: «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هؤلاء المشركون يدعون فى هذه اللحظة إلى تلك النار، وهم إذ يطلبون وجها للفرار منها، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم، ويدفعهم دفعا إلى جهنم: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ».. والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى هذا الوقت يقفون من الله هذا الموقف العنادي، فأبوا أن يستمعوا لآيات الله، وأن يستجيبوا لها..
أما الذين استجابوا للرسول، وآمنوا بالله، فقد كانوا قلة قليلة منهم..
ولهذا صح أن يخاطبوا بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ»..
قوله تعالى:
«أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ».
168
هو إضراب عن هذا الخطاب الذي وجه إليهم، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا، وأن ينقادوا للحق، ويذعنوا له.. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة، فقد كان من التدبير الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه، وهو أنهم قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال، والله سبحانه قد أحكم أمره، على أن يأخذ المجرمين يجرمهم.. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
قوله تعالى:
«أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ».
هو إضراب أيضا عن الخطاب الذي وجه إليهم فى قوله تعالى: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ».. حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم إلا استهزاء، واستخفافا، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء.. وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء- فأين هى أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد من الناس، فأين من يعلم ما يعملونه فى الخفاء، وما يضمرونه فى الصدور؟.
فجاء قوله تعالى: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟» ليكشف عن هذا الوسواس، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة، عن علم الله سبحانه وتعالى، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم، وهى أن كل شىء عملوه فى السرّ أو فى الجهر، يعلمه الله الذي لا تخفى عليه خافية.. بل وليس هذا فحسب، بل إن أعمالهم كلها- سرها وجهرها- مسجلة فى كتب يكتبها رسل من عند الله موكّلون بهم.. «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (١٨: ق)
169
قوله تعالى:
«قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ».
هو بيان للموقف الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن لله ولدا، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى الله، ثم عبدوهم من دونه..
فلو أنه سلّم بهذا الأمر جدلا، وكان للرحمن ولد كما يزعمون- فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على الوالد، حتى يؤثر بالعبادة من دونه.. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا.. فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد.. فإذا وجد الولد بعد هذا، فليس له أن يزيل الوالد عن مكانه! وعلى هذا، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن لله ولدا، فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد.. ولهذا كان أن واجههم النبي بما ينبغى أن يكون عليه الأمر- على فرض التسليم بدعواهم الباطلة- وهو أن النبىّ أول العابدين لله، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به..!
وهذا الأسلوب فى محاجّة الخصم، هو أبلغ الأساليب فى إفجامه، وقطع حجته، وذلك بإقامة الحجة عليه من واقع إقراره واعترافه، عملا بالمثل القائل:
«من فمك أدينك».
قوله تعالى:
«سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ».
هو تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون بالله، من نسبة الولد إليه، والذي سلم به جدلا، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه على الله.. أما الله سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
170
قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ»..
هو استصغار لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم أشبه بالأطفال، يخوضون ويلعبون، فلا معتبر لما يقولون.. لأنهم يرمون بالكلام على عواهنه، دون أن يكون لعقولهم نظر فيه، أو تقدير له، ولهذا فإن الأولى بالنبي- صلوات الله وسلامه عليه- أن ينصرف عنهم، وأن يدعهم لما هم فيه من لهو ولعب، حتى تقع بهم الواقعة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون..
الآيات: (٨٤- ٨٩) [سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ».
هو بيان لقدرة الله، وجلاله، وعظمة ملكه، واقتدار سلطانه..
171
فهو سبحانه، المتفرد بالألوهة فى السماء.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل السماء بالعبودية..
وهو سبحانه، المتفرد بالألوهة فى الأرض.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل الأرض بالولاء ويخصّونه بالعبادة.. وأنه إذا كان فى الناس من ضلّ وغوى، فانحرف عن هذا الوضع الذي يتخذه أهل السماء والأرض، فإنهم- مع هذا- مقهورون لله، واقعون تحت سلطانه.. طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم) وكما يقول جل شأنه، «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (١٥: الرعد).
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى الصفتين الكريمتين اللتين يتجلّى الله سبحانه وتعالى بهما على ملكه فى السموات والأرض.. وهما:
الحكمة والعلم فكل ما خلق الله سبحانه، موزون بميزان الحكمة، مقدر بقدرها.. وكل ما فى السموات والأرض، واقع فى علم الله «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» (٣: سبأ) وهكذا كل أمر- صغر أو كبر- إنما ملاكه الحكمة والعلم.. فبالحكمة يقوم الأمر، وبالعلم تضبط مصادره وموارده، ولهذا كان مما طلب به «يوسف» القيام على تدبير خزائن الأرض- أنه حفيظ عليم، فقال للملك: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ.. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (٥٥: يوسف) والحفظ شعبة من شعب الحكمة!.
قوله تعالى:
«وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
172
هو تسبيح بحمد الله وتقديس لجلاله، بلسان كل مخلوق فى السموات والأرض.. فهو سبحانه- المتفرد بالألوهة فى السماء، والأرض.. ومن ثمّ كان كل من فى السموات والأرض لسان حمد لله، وتسبيح لله، وولاء لجلاله.
وفى قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» تذكير للناس- وهم يشهدون جلال الله، وعظمته فى هذا الملك العظيم الذي له وحده- تذكير لهم بيوم الحساب والجزاء، الذي لا يعلمه إلا هو.. وذلك يوم يرجعون إلى الله، ويجزى كل امرئ بما عمل..
قوله تعالى:
«وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» المراد بالمدعوّين من دون الله هنا، هم الملائكة، الذين يعبدهم المشركون فى هذه الأصنام التي سموها بأسماء أطلقوها على بعض الملائكة، مثل اللات، والعزى، ومناة، وغيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى» (٢٧: النجم) وهؤلاء الملائكة الذين يعبدهم المشركون فى تلك الأصنام التي يتمثلونها فيهم- وبتلك الأسماء التي يسمونهم بها- هؤلاء الملائكة، لا يملكون الشفاعة لأحد، كما يتوهم هؤلاء المشركون إذ يقولون عنهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر) ويقولون فيهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (١٨: يونس).
وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» هو استثناء من عموم النفي الواقع على شفاعة الملائكة.. أي أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، فآمن بالله، ويرسل الله، وباليوم الآخر.. كما يقول الله تعالى: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» (٧٨: الزخرف).. فهؤلاء الذين كرهوا
173
الحق وأنكروه ليس للملائكة شفاعة فيهم.. وهم أكثر المشركين.. أما من شهد بالحق من هؤلاء المشركين- وهم أقلية- وآمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله له، فإن للملائكة شفاعة فيهم، تنال العاصين منهم.. وتلك الشفاعة، هى الاستغفار لهم كما يقول الله تعالى: «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (٧: غافر). فهذا من شفاعة الملائكة للعصاة من المؤمنين.. وهى شفاعة مقبوله عند الله سبحانه وتعالى..
وقوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» يمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول «الذين» أي أن الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.. وهم يعلمون هذا.. أي يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.
ويمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول «مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» أي لا تشفع للملائكة إلا لمن شهد بالحق، أي شهادة قائمة على علم، يملأ القلب إيمانا واطمئنانا، لا مجرد شهادة ينطق بها اللسان دون أن تقع من القلب موقعا..
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ».
أي أن هؤلاء المشركين إذا سئلوا عمن خلقهم، لما وجدوا بين أيديهم إلا جوابا واحدا، وهو أن الله هو الذي خلقهم.. إنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الملائكة الذين يعبدونهم، هم الذين خلقوهم، وخلقوا من فى السموات والأرض..
بل إنهم ليعلمون أن الملائكة من خلق الله، وإن كانوا أبناء لله عندهم.
ومع هذا الإقرار منهم بخلق الله لهم، فإنهم لا يعبدون رب السموات والأرض، الذي خلقهم ويعبدون خلقا من خلقه.. وهذا منطق معكوس، لا يلتقى أوله مع آخره.. ولذا جاء قوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» منكرا على هؤلاء
174
المشركين هذا الإفك والافتراء الذي جعلوا منه دينا يدينون به، ولا مستند له من منطق، حتى منطقهم هم الذي ينتزع قضاياه من الوهم والضلال..
قوله تعالى:
«وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ».
القيل: معناه القول.. والضمير المضاف إليه هذا القول، هو للنبى صلوات لله وسلامه عليه.. ومقول القول هو قوله تعالى: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ».
وهو مثل قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» (٣٠: الفرقان) وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فى الربط بين هذه الآية وما قبلها.. كما اختلف القرّاء فى قراءة «وَقِيلِهِ» فقرىء بفتح اللام، وقرىء بكسرها، وقرىء بضمها.. ولكل قراءة تأويل تؤول عليه..
ولا نريد أن نعرض لهذه المقولات، فهى مبسوطة فى كتب التفاسير، يرجع إليها من شاء مزيدا من العلم، أو الرياضة الذهنية..
والذي نراه فى تأويل هذه الآية، ونرجو أن يكون بتوفيق الله صوابا، هو- والله اعلم- أن الواو فى قوله تعالى: «وَقِيلِهِ».. هى بمعنى «مع»..
وعلى هذا تكون الآية مرتبطة بقوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟».. فهذا الاستفهام ينكر عليهم أن يعبدوا غير الله، وأن ينصرفوا إلى غير خالفهم وخالق السموات والأرض، الذي شهدت له بذلك ألسنتهم.. ومع هذا فهم يعبدون غير الله، بشهادة الواقع الذي هم فيه، وبشهادة الرسول الذي خبر حالهم، وعرف الداء المتمكن منهم، فقال شاكيا إلى ربه: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ..»
175
وتحرير المعنى، هو: إلى أين ينصرف هؤلاء المشركون، مع شركهم الذي هم فيه، ومع ما يرى الرسول من حالهم فى المستقبل، وأنهم ممن لا يرجى صلاحهم، أو يتوقّع شفاؤهم من هذا الداء الذي معهم؟.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».
- جاء رداّ على قول النبي: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» وداعيا له إلى الرفق بهم، ومقابلة جهلهم بالحلم، وسفاهتهم بالمغفرة والصفح.. وأنهم كلما قالوا فحشا وهجرا قال لهم سلاما ومغفرة، كما يقول سبحانه فى وصف عباد الرحمن: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (٦٣: الفرقان) وكما يقول جل شأنه لنبيه الكريم: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (١٩٩:
الأعراف).
وفى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين ينتظر منهم خير كثير، وسيكون منهم بناة الإسلام، ومادة دولته التي ستظهر عما قريب.. وقد كان، فدخل كثير من هؤلاء المشركين فى دين الله، حتى أنه إذا جاء يوم الفتح لم يبق مشرك من قريش- خاصة- لم يدخل فى الإسلام.
وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي أنهم هم الآن على جهل يزيّن لهم هذا الباطل الذي هم فيه، ويغذيهم بهذا السفه الذي ترمى به أفواههم..
ولكنهم مع الزمن، ومع ما يأخذهم به الرسول الكريم من حلم، وصفح ومغفرة، سيعلمون بعد جهل، ويؤمنون بعد كفر.. ويصبحون جندا من جنود الله، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق فى آفاق الأرض.. وليس هذا من الوعيد، كما يذهب إلى ذلك جمهور المفسرين.. فإن السورة قد ختمت بهذا الختام الذي يدعو النبي إلى الصفح والمغفرة والمسالمة.. ولا يتفق مع هذا
176
أن يلقى النبىّ المشركين بالصفح والمسالمة، ثم يلقاهم الله سبحانه بعد ذلك بالوعيد..
هذا، والله اعلم.
ونود هنا، بعد ختام هذه السورة أن نشير إلى أمر كان ملفتا للنظر..
فقد كثر فى هذه السورة ذكر الاسم الكريم «الرَّحْمنِ» الذي تكرر فى سبعة مواضع من السورة هى:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا... » الآية: (١٧) «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً... » الآية: (١٩) «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ... » الآية: (٢٠) «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ... » الآية (٣٣) «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ... » الآية: (٣٦) «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ..» (٤٥).
«قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ... » الآية: (٨١) ولذكر «الرَّحْمنِ» موقعه فى الآية التي ذكر فيها، كما له حكمته التي تلتمس من هذا الذكر فى هذا الموضع.. فحيث ذكر «الرحمن» جلّ وعلا، كانت تجليات الرحمة، ورحمات الرحمن، مبسوطة لكل طالب، طالبة لكل
177
معرض فمن فاته حظه من رحمة الله فى هذا المقام فهو الشقي المحروم من كل خير..
ولكن الذي نريد أن نقف بين يديه موقف النظر والاعتبار، هو هذا الإكثار من ذكر هذا الاسم الكريم فى تلك السورة..
وبادىء ذى بدء، فإن تكرار هذا الذكر للاسم الكريم «الرَّحْمنِ» هو تأكيد لتلك الدعوة التي يدعو إليها الرحمن عباده، ويبسط بها يده تبارك وتعالى إليهم بالرحمة، يلقاهم بها على كل طريق من طرق الغواية والضلال التي يركبونها.. فهذا الذكر نداءات متتابعة، إلى موارد هذه الرحمة الواسعة..
وهذا التكرار فى ذاته، هو رحمة من رحمة الله..
ثم إنه- من جهة أخرى- كانت السورة كلها معرضا لمواجهة المشركين بعبادتهم الملائكة، على أنهم أبناء الله، وأنهم كانوا يعرفون الله تعالى، ويعترفون بأنه خالق السموات والأرض- كما أنه كان من أكثر أسماء الله عندهم هو اسم «الرَّحْمنِ» ولهذا كان الحديث إليهم عن الله باسم (الرحمن) إشارة إلى أنه هو الإله لذى يدعون إلى عبادته، وأن اسمه «الرَّحْمنِ» وأنه ليس له ولد.. ولهذا أنكروا أن يكون الرحمن الذي يعرفونه، هو الرحمن الذي يدعوهم النبي إلى عبادته، كما يقول الله سبحانه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» (٦٠: الفرقان) إن الرحمن فى تصورهم هو أب لقبيلة كبيرة، هى الملائكة!!.
ومن جهة ثالثة، فإن موقف هذه السورة من المشركين، هو موقف ملاطفة، وموادعة، على مسيرة لدعوة التي كثرت فيها القوارع التي يقرع بها
178
القرآن عناد المشركين، ويسفّه أحلامهم، ويفضح جهلهم.. فكانت هذه السورة أشبه بالهدنة التي يراجع فيها المتحاربون موقفهم، وقد ينتهى الأمر إلى الصلح، والسلام.. ومن أجل هذا كثر فى السورة ذكر الرحمن الذي يذكّر بالرحمة التي ينبغى أن تكون بين النبي وأهله.. ولهذا دعى النبي إلى أن يصفح عنهم، وأن يلقاهم بالموادعة والسلام، وقد وعد بأنهم سيعلمون بعد الجهل، ويؤمنون بعد الكفر، فكان ختام السورة قوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ.. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»..
179
٤٤- سورة الدخان
نزولها: مكية.. باتفاق.
عدد آياتها: تسع وخمسون.. آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة وست وأربعون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الزخرف» التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».. وقد قلنا إن هذا الختام يتّسق مع السورة التي كانت تمثّل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية فى مواجهة المشركين، وأن هذه المرحلة كانت أشبه بالهدنة بعد هذا الصراع الذي كان محتدما بين النبي والمشركين..
وقد بدئت سورة «الدخان»، بذكر القرآن الكريم، وأنه نزل فى ليلة مباركة، يفرق فيها كل «أَمْرٍ حَكِيمٍ» وهذا البدء، هو تحريك لمسيرة الدعوة، بعد تلك الهدنة، ومن أول المسيرة يواجه المشركون بالقرآن الكريم، وما يحمل إليهم من خير وبركة، وأنه إذا كان قد أنذرهم وتوعدهم بالعذاب، فإنما ذلك لأنه حريص على هدايتهم، ضنين بهم على النار التي أعدت للكافرين..
180
Icon