تفسير سورة الزخرف

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٤٣) سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
الإعراب:
(حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) حم: تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا والواو واو القسم والكتاب مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والمبين نعت للكتاب (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إن واسمها وجملة جعلناه خبرها وجعلناه أي صيّرناه وفعل وفاعل ومفعول به وقرآنا مفعول به ثان وعربيا نعت ولعلّ
59
واسمها وجملة تعقلون خبرها وجملة إنّا جعلناه جواب القسم وقد استهوى هذا الجواب علماء البلاغة كما سيأتي. وأجاز الزمخشري أن يكون جعلناه بمعنى خلقناه جريا على قاعدة المعتزلة في القول بخلق القرآن وسيأتي حديث عنها في باب الفوائد فيكون قرآنا حالا من الهاء وجملة لعلكم تعقلون تعليلية لا محل لها لأن الترجّي مستعار لمعنى الإرادة أي جعلناه قرآنا عربيا إرادة أن تعقله العرب (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جواب القسم فهي بمثابة جواب ثان وإن واسمها وفي أم الكتاب متعلقان بمحذوف خبرها والتقدير مثبت وأم الكتاب أصل الكتب أي اللوح المحفوظ قال تعالى:
«بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» ولدينا ظرف متعلق بمحذوف حال واللام المزحلقة وعليّ خبر ثان وحكيم خبر ثالث، واعترض بعضهم على هذا الإعراب لأن فيه تقديم الخبر غير المقرون باللام على المقرون بها قال أبو البقاء: «في أم الكتاب يتعلق بعلي واللام لا تمنع من ذلك ولدينا بدل من الجار والمجرور ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من أم ولا يجوز أن يكون واحد من الظرفين خبرا لأن الخبر قد لزم أن يكون علي من أجل اللام ولكن يجوز أن يكون كل واحد منهما صفة للخبر فصارت حالا بتقدمها» (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر بينها وبين الهمزة تقديره أنهملكم فنضرب، ونضرب فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن وعنكم متعلقان بنضرب والذكر مفعول به أي القرآن وصفحا فيه أوجه أحدها أنه مصدر مرادف لمعنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه والثاني أنه منصوب على الحال من فاعل نضرب أي صافحين والثالث أنه منصوب على أنه ظرف بمعنى الجانب من قولهم
60
نظر إليه بصفح وجهه كما تقول ضع هذا الكتاب جانبا وامش جانبا والرابع أنه مفعول من أجله والمعنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية. وأن مصدرية وقرىء بكسر الهمزة فهي شرطية فهي ومدخولها على الأول مفعول من أجله وعلى الثاني يكون كنتم فعل الشرط والجواب محذوف وعبارة الزمخشري: «فإن قلت كيف استقام معنى إن الشرطية وقد كانوا مسرفين على البت؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدلّ بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له» وكنتم: كان واسمها وقوما خبرها ومسرفين نعت (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) كم خبرية في محل نصب مفعول مقدّم لأرسلنا ومن نبي تمييز لكم الخبرية وفي الأولين متعلقان بأرسلنا (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع مرفوع ومفعول به مقدم ومن حرف جر زائد ونبي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حضر وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) الفاء الفصيحة وأهلكنا فعل وفاعل وأشد مفعول به ومنهم متعلقان بأشد وبطشا تمييز على الأرجح وقيل حال من فاعل أهلكنا أي باطشين وأراه محض تكلّف، ومضى عطف على فأهلكنا ومثل الأولين فاعل مضى.
البلاغة:
١- القسم في قوله «والكتاب المبين إنّا جعلناه» الآية فن التناسب، فقد أقسم بالقرآن وإنما يقسم بعظيم ثم جعل المقسم عليه
61
تعظيم القرآن بأنه قرآن عربي مرجو له أن يعقل به العالمون فكان جواب القسم مصححا للقسم وتم التناسب بين القسم والمقسم به لأنهما من واد واحد، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه البلاغة العالية فأقسم أبو تمام بالثنايا إذ قال:
وثناياك إنها إغريض... ولآل توم وبرق وميض
وأقاح منوّر في بطاح... هزّه في الصباح روض أريض
وارتكاض الكرى بعيني... ك في النوم فنونا وما لعيني غموض
فقد أقسم أبو تمام بالثنايا وهي مقدم أسنانها أنها أغريض فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد، والإغريض- كما في الصحاح- الطلع وكل أبيض طري، والتوم واحدة تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة.
٢- الاستعارة: وفي قوله «وإنه في أم الكتاب» استعارة تصريحية، وقد استعير لفظ الام للأصل وهو المشبه المحذوف لأن الأولاد تنشأ من الام كما تنشأ الفروع من الأصول وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا ولم تفد هذه الاستعارة سوى الظهور لأن الام أظهر للحس من الأصل.
الفوائد:
١- فتنة خلق القرآن: كانت المعتزلة تقول بنفي صفات المعاني عن الله تعالى، ومنها الكلام، لأن إثباتها يؤدي إلى التشبيه وإلى تعدّد القديم وذلك ينافي التوحيد وكان من النتائج اللازمة لذلك أن قالوا: بأن القرآن كلام الله مخلوق، قال صاحب المواقف: «قالت المعتزلة: كلامه تعالى أصوات وحروف لكنها ليست قائمة بذاته بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث» وليست المعتزلة أول
62
من قال بخلق القرآن، كما أنهم ليسوا أول من أنكر الصفات، بل إن أول من عرف بالقول بخلقه الجعد بن درهم بدمشق، وهو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وأخذ عنه ذلك القول جهم بن صفوان الترمذي زعيم فرقة الجهمية الجبرية فقال بخلقه إذ أن الجهمية تنكر الصفات وذكروا أن بشر بن غياث المريسي، وهو زعيم المريسية من فرق المرجئة، قال أيضا بخلق القرآن في عصر الرشيد ونهاه أبو يوسف عن ذلك فلم ينته فهجره وطرده من مجلسه وقال: لا تنتهي أو تفسد خشبة- يريد الصلب- ولما بلغ ذلك الرشيد قال عليّ إن أظفرني الله به أن أقتله وظل بشر مختفيا طول خلافة الرشيد ولم يظفر به مع شدّة طلبه له، وذكروا أيضا أن حفصا الفرد، وهو من أكابر المجبرة، قال بذلك القول وأن الشافعي ناظره وكفّره، وكان الناس في تلك المسألة، في عصر الرشيد، بين أخذ وترك حتى ولي المأمون فقال بخلقه وكان من أشد نصراء الاعتزال، ويطول بنا القول إن عمدنا إلى نقل مجريات هذه الفتنة فارجع إليها في مظانها الكثيرة إن شئت.
على أننا لا نمرّ بهذا البحث دون أن نشير إلى محنة الإمام أحمد بن حنبل لذيوعها فنقول: أحضر المعتصم الإمام أحمد وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحق والقاضي أحمد بن داود وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام ولم يزل معهم في جدال إلى اليوم الرابع فأمر المعتصم بضربه بالسياط، ولم يحل عن رأيه إلى أن أغمي عليه ونخسه عجيف بن عنبسة بالسيف ورمى عليه بارية (وهي الحصير المنسوج) وديس عليه ثم حمل إلى منزله بعد أن ضرب ثمانية وثلاثين سوطا وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا وارجع إلى تاريخ الطبري ووفيات الأعيان ومروج الذهب لتقرأ العجيب من أخبار هذه الفتنة.
63
٢- وعدناك بأن نتحدث إليك عن أسلوب القرآن فنقول:
احتوى القرآن على ألفاظ كثيرة وصفها بعض الصحابة والتابعين أنها من غير لغة العرب، كما ألّف العلماء في ذلك كتبا خاصة، ووجود المعرب في القرآن قضية علمية اختلف حولها العلماء اختلافا كبيرا على رأيين، أحدهما:
الرأي الأول: وجود المعرب في القرآن وإلى ذلك ذهب بعض الصحابة والتابعين والعلماء منهم ابن عباس ووهب بن منبّه وابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك والسدي وأبو عمران الجويني وعمرو بن شرحبيل وأبو موسى الأشعري والزمخشري وابن الحاجب والسيوطي وغيرهم.
الرأي الثاني: أن القرآن لا يحتوي على غير العربي من الألفاظ وهو مذهب كثير من العلماء ومنهم الإمام الشافعي وأبو عبيدة وابن فارس وابن جرير الطبري والباقلاني والرازي وغيرهم.
وليس مما يفيد كثيرا أن نعرض التفاصيل لكلا الرأيين وأدلتهما والردّ عليهما وإنما المفيد في ذلك فهم الأمور الآتية:
١- أن الدارسين المتأخرين قد ارتضوا الرواية التالية عن أبي عبيد القاسم بن سلام وكأنما وجدوا فيها حلا للقضية وخروجا من هذا الخلاف والرواية هي: قال أبو عبيد: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة أنه من غير لسان العرب مثل (سجيل والمشكاة واليم والطور وأباريق واستبرق) وغير ذلك فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هذا إلى غيره وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى.
وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقال أولئك
64
على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربيا إياه فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل فهذا القول يصدق على الفريقين جميعا.
وقد أورد هذه الرواية الجواليقي بعد أن أورد قول عبيدة: من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول واحتجّ بقوله تعالى: «إنّا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» ثم نقل هذه الرواية من جاء بعد الجواليقي ودرس موضوع التعريب في القرآن كالسيوطي وغيره.
٢- إنه سواء أكانت الألفاظ الواردة في القرآن من لغات أخرى أعجمية باعتبار الأصل عربية باعتبار الحال أو أعجمية باعتبار الأصل والحال فإن ورودها في القرآن يدل على أن العرب قد فهموها وتقبلوها وفهمهم لها يدل على شيوعها بينهم من قبل أن يأتيهم بها وهذا يثبت ما نحن بصدده من وجود الألفاظ المنقولة من لغات أخرى في الجاهلية ومن استمرار ذلك حين جاء الإسلام.
٣- يبدو أن الذين رفضوا وجود المعرب في القرآن سيطر عليهم الوازع الديني أكثر من تقرير الواقع اللغوي ولذلك فإن السيوطي حين أورد هذه الألفاظ في كتابيه «المتوكلي فيما في القرآن من المعرب» و «المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب» ساق بين يديها أسانيد نسبتها إلى الصحابة والتابعين كأنما يتحرز هو أيضا من القول بذلك بنفسه وقد عدّد اللغات المنقول عنها تلك الألفاظ فأوصلها إلى عشر وهي الحبشية والفارسية والرومية والهندية والسريانية والعبرانية والنبطية والقبطية والتركية والزنجية والبربرية.
65

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١٤]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
اللغة:
(بِقَدَرٍ) بمقدار أي يؤدي ما تحتاجون إليه فلا يكون قليلا لا ينفع ولا يكون كثيرا فيؤذي ويضرّ.
(فَأَنْشَرْنا) أحيينا، وفي المصباح: «نشر الموتى نشورا حيوا، ونشرهم الله يتعدى ولا يتعدى ويتعدى بالهمزة أيضا فيقال أنشرهم الله ونشرت الأرض نشورا أيضا حييت وأنبتت ويتعدى بالهمزة فيقال أنشرتها إذا أحييتها بالماء».
(مُقْرِنِينَ) مطيقين يقال أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة:
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر
قال الزمخشري: «وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن
66
الصعب لا يكون قرينة للضعيف» وقال الأخفش وأبو عبيدة: «مقرنين ضابطين وقيل مماثلين في الأيدي والقوة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة ويقال فلان مقرن لفلان أي ضابط له وأقرنت كذا أي أطقته وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه كأنه صار له قرنا قال الله تعالى:
«وما كنّا له مقرنين»
أي مطيقين، وقال آخرون: وفي أصله قولان أحدهما أنه مأخوذ من الأقران يقال أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق أو أقرنت كذا إذا أطقته وأحكمته كأنه جعله في قرن وهو الحبل فأوثقه به وشده والثاني أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في حبل تقول: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه.
الإعراب:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء فاعل والهاء مفعول به (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول ثان لسألتهم المعلقة عن العمل بالاستفهام (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) اللام واقعة في جواب القسم لأنه المتقدم كما هي القاعدة ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وقد تقدمت له نظائر والواو المحذوفة فاعل والنون للتوكيد ولو كان مجزوما لكان الحذف للجازم لا لتوالي الأمثال وجملة خلقهنّ مقول القول وكرر الفعل للتأكيد والعزيز فاعل والعليم صفة وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) اسم الموصول صفة ثانية أو بدل وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل على أنها بمعنى خلق وإن كانت بمعنى صير
67
فيكون متعلقا بمحذوف حال والأرض مفعول به أول ومهدا مفعول به ثان أو حال (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بجعل أو في موضع المفعول الثاني وفيها حال وسبلا مفعول به (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لعل واسمها وجملة تهتدون خبرها (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) عطف على الموصول الأول وجملة نزل صلة ومن السماء متعلقان بنزل وماء مفعول به وبقدر في موضع نصب على الحال (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الفاء عاطفة وأنشرنا عطف على نزل، وفيه التفات سيأتي سره في باب البلاغة، وبه متعلقان بأنشرنا وبلدة مفعول به وميتا صفة لبلدة وكذلك صفة لمصدر محذوف وتخرجون فعل وفاعل (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) عطف أيضا وجملة خلق الأزواج صلة وكلها تأكيد (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) عطف على خلق الأزواج داخل في حيز الصلة ولكم في موضع المفعول الثاني ومن الفلك حال والأنعام عطف على الفلك وما موصول مفعول به وجملة تركبون صلة والعائد محذوف أي ما تركبونه وسيأتي بحث عن فعل الركوب في باب الفوائد (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) اللام للتعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل وتستووا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وعلى ظهوره متعلقان بتستووا، ثم حرف عطف وتذكروا عطف على تستووا ونعمة ربكم مفعول تذكروا وإذا ظرف مستقبل متعلق بجوابه المحذوف والمدلول عليه بتذكروا وجملة استويتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان باستويتم وذكر الضمير في ظهوره نظرا للفظ ما كما جمع الظهور لذلك (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) وتقولوا عطف على ما تقدم وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والذي مضاف إليه وجملة سخر صلة ولنا متعلقان بسخر وهذا مفعول به (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) الواو للحال وما نافية وكان واسمها وله متعلقان بمقرنين ومقرنين
68
خبر كنا (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) الواو حالية أيضا وسيأتي سرّ هذا الحال في باب البلاغة وإن واسمها وإلى ربنا متعلقان بمنقلبون واللام المزحلقة ومنقلبون خبر إن.
البلاغة:
انطوت هذه الآيات على أفانين من البلاغة نوجزها فيما يلي:
١- فأول فن فيها هو الحذف، فقد حذف الموصوف وهو الله تعالى وأقام صفاته مقامه لأن الكلام مجزأ فبعضه من قولهم وبعضه من قول الله تعالى فالذي هو من قولهم خلقهنّ وما بعده هو من قول الله تعالى وأصل الكلام أنهم قالوا خلقهنّ الله بدلالة قوله في آية أخرى:
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله ثم لما قالوا خلقهنّ الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات وأقيمت مقام الموصوف كأنه كلام واحد ونظير هذا أن تقول للرجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمني زيد فتقول أنت واصفا له: الكريم الجوّاد المفضال الذي من صفته كذا وكذا.
٢- الالتفات: والفن الثاني هو الالتفات فإنه لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عزّ وجلّ جاء أوله على لفظه الغيبة وآخره على الانتقال منها إلى التكلم في قوله فأنشرنا افتنانا في أفانين البلاغة ولتسجيل المنّة على عباده وقرع أسماعهم بها ومن هذا النمط في القرآن كثير.
٣- سرّ الحال: والسر في قوله «وإنا إلى ربنا لمنقلبون» أنه كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو طاح عن ظهرها فهلك وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم ففرقوا فلما كان الركوب بحد ذاته أمرا شديدا لخطورة مجهول المغبة والراكب مستهدف لأنواع المتالف
69
وصنوف المخاطر كان من حقه أن لا ينسى أنه هالك لا محالة، وأنه منقلب إلى الله، ولن يتاح له الإفلات من قضائه إذا حمّ، ومن قدره إذا حلّ، والغاية من كل ذلك أن يكون منتبها إلى نفسه، غير مؤثر لدنياه على آخرته.
الفوائد:
من الأسرار التي تدق على الأفهام، مباحث تعدية الأفعال فالعرب يعدّون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة، مثل سكرت وأخواته ويعدّون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة مثل دعوت وصلّيت فإنك تقول: صلى النبيّ على آل أبي أوفى ولو قلت: دعا على آل أبي أوفى لأفهم عكس المقصود ولكن دعا لآل أبي أوفى، ويعدّون بعضهما إلى مفعولين ومرادفه إلى مفعول واحد كعلم وعرف فلا يترتب على الاختلاف بالتعدّي والقصور والاختلاف في المعنى، ويستنتج من هنا أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد وإن خصّ أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها فالصواب أحد الأمرين، أما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه والأقرب تعليله باعتبار التعدّي بنفسه ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى «فأجمعوا أمركم وشركاءكم» على أحد التأويلين فيه فإن التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى أعني جمع الأمر وجمع الشركاء ولكن لما تقاربا غلب أحدهما على الآخر ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
70
اللغة:
(جُزْءاً) قال في القاموس: «الجزء: البعض ويفتح والجمع أجزاء وبالضم موضع ورمل، وجزأه كجعله: قسّمه أجزاء كجزّأه، وبالشيء اكتفى كاجتزأ وتجزأ، والشيء شدّه، والإبل بالرطب عن الماء: قنعت كجزئت بالكسر، وأجزأتها أنا وجزّأتها، وأجزأت عنك مجزأ فلان ومجزأته، ويضمّان: أغنيت عنك مغناه، والمخصف جعلت له جزأة أي نصابا، والخاتم في إصبعي أدخلته، والمرعى التفّ نبته، والأم ولدت الإناث، وشاة عنك: قضت لغة في جزت، والشيء إياي: كفاني، والجوازئ الوحش. «وجعلوا له من عباده جزءا» أي إناثا» وأنكره الزمخشري وقال إنه اصطناع لا لغة وفيما يلي نص عبارته: ومعنى من عباده جزءا أن قالوا: الملائكة بنات الله فجعلوهم جزءا له وبعضا منه كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له، ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادّعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحوّل، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا بيتا:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئة
قد يكون للزمخشري عذره في استبعاد هذا التفسير، ولكن عذره يصبح معدوما عند ما نذكر أن الزجّاج والمبرّد هما اللذان روياه وهما
71
إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها.
(الْحِلْيَةِ) الزينة.
الإعراب:
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) الواو عاطفة على رأي الزمخشري لأنه جعل الكلام متصلا بقوله: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض أي وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين ولك أن تجعلها مستأنفة. وجعلوا فعل وفاعل والجعل هنا بمعنى التصيير وله في موضع المفعول الثاني ومن عباده حال وجزءا مفعول جعلوا الأول (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وكفور خبر إن ومبين صفة أي مظهر لكفره (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أم متصلة معطوف على استفهام محذوف المقصود منه الإنكار والتوبيخ والتقدير أتقولون أم اتخذ وقال بعضهم منقطعة بمعنى بل وقال آخرون بهما معا وكل صحيح وقد تقدم القول مطولا في أم. واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومما متعلقان بمحذوف هو مفعول اتخذ الثاني وجملة يخلق صلة وبنات مفعول اتخذ الأول وأصفاكم عطف على اتخذ وبالبنين متعلقان بأصفاكم (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وبشّر فعل ماض مبني للمجهول وأحدهم نائب فاعل وبما متعلقان ببشر وجملة ضرب صلة وضرب متضمن معنى جعل فيتعلق للرحمن بمحذوف في موضع المفعول الثاني ومثلا مفعول ضرب الأول (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ظل فعل ماض ناقص ووجهه اسمها ومسودّا خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو حالية وهو مبتدأ وكظيم خبر والجملة حالية (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
72
الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حرف عطف عطفت الجملة على جملة مقدرة أي يجترئون ويبلغون أبعد الآماد في سوء الأدب ويجعلون لله من ينشّؤ في الحلية، فمن موصول مفعول به لفعل محذوف وقيل هي مبتدأ خبره محذوف تقديره جزءا وولدا، وجملة ينشّؤ صلة وينشّؤ مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على من، وفي الحلية متعلقان بينشّؤ، وفي الخصام متعلقان بمبين، وغير مبين خبر هو والجملة حالية وعبارة أبي البقاء: «فإن قلت المضاف إليه لا يعمل فيما قبله قيل إلا في غير لأن فيها معنى النفي فكأنه قال: وهو لا يبين في الخصام ومثله مسألة الكتاب: أنا زيدا غير ضارب وقيل ينتصب بفعل يفسره ضارب وكذا في الآية» وقيل هو من باب «على لا حب لا يهتدي بناره» أي لا منار له فيهتدي به أي لا يكون منها خصام وليس ببعيد. (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل والملائكة مفعول جعلوا الأول والذين نعت وهم مبتدأ وعباد الرحمن خبره والجملة صلة الذين وإناثا مفعول جعلوا الثاني (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) السين حرف استقبال وسيأتي سره في باب البلاغة وتكتب فعل مضارع مبني للمجهول وشهادتهم نائب فاعل ويسألون عطف على ستكتب.
البلاغة:
معنى الاستقبال: إنما ضجّ إلى الاستقبال فأتى بالسين الدّالة عليه ليتضمن الكلام معنى انفساح الوقت للتوبة وبناء الرجاء على الاستعطاف لقبولها قبل كتابة ما قالوا جريا على ما كانوا يعتقدون من تفضيل الذكور على الإناث ونسبة شرّ الجزأين وهو الإناث إلى الله، وفي هذا منتهى التسفيه لآرائهم لأنهم تجنّوا على نصفنا الثاني فنسبوا إليه الشرّ ونقصان العقل ثم تجنّوا على خالقهم بنسبتهم هذا الجزء
73
الذي هو شر إليه، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا حكمة ربي ذي الجلال فينا
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
اللغة:
(يَخْرُصُونَ) في المصباح: «وخرص الكافر خرصا من باب قتل كذب فهو خارص» وفي القاموس والتاج «الخراص: الكذاب» وللخاء والراء فاء وعينا للكلمة سر عجيب أنهما تدلّان على المهانة والاستقذار وإحداث الأثر السيّء: فخرئ خرءا وخراءة وخروءا تغوط وسلح يقال:
خرئت بينهم الضبع أي دخلت بينهم العداوة والمخراة والمخرأة:
74
المكان الذي يخرأ فيه والجمع مخارئ، وخرب البيت ضد عمر وخرب الرجل: صار مشقوق الأذن أو مثقوبها فهو أخرب وهي خرباء، وخربش الكتاب أو العمل: أفسد، وهي من العامي الفصيح، وخربص أيضا بمعنى أخذ المال وذهب به عامية فصيحة أيضا، وخرت الأذن: ثقبها وخرّت الأرض عرفها ولم تخف عليه طرقها لأنه ذهب في أرجائها وخرب في أكنافها، والخرثاء من صفات المرأة المستقبحة فهي الضخمة الخاصرتين المسترخية اللحم، والخرتي بضم الخاء أردأ المتاع وسقطه وخرتي الكلام ما لا خير فيه، وخرج برز وهو معروف والخراج الولّاج بالتشديد كثير الخروج والولوج والخراج مثلثة الخاء الأتاوة وأصله ما يخرج من غلة الأرض والمال والخراج بضم الخاء كل ما يخرج بالبدن كالدمل والخارجي: من خلف السلطان والجماعة ومنه سمّيت الخوارج وهم سبع فرق من كبار الفرق الإسلامية، وخرخر النائم: غطّ، والخريدة اللؤلؤة التي لم تثقب، والخرور معروف وفيه مهانة لصاحبه، والخرازة مهنة ممتهنة وأخرسه الله معروف وأطعموا النفساء خرستها وهو طعامها خاصة وقد خرّست فتخرّست قال:
فلله عينا من رأى مثل مقبسي إذا النفساء أصبحت لم تخرّس
ورماه الله بخرساء وهي الداهية قال الأخطل:
وكم أنقذتني من جرور حبالكم وخرساء لو يرمى بها الفيل تلبّدا
وأصلها الأفعى، قال عنترة:
عليهم كل محكمة دلاص كأن قتيرها أعيان خرس
ورأيت عليه قميصا مثل خرشاء الحية رقة وصفاء وهو سلحها وهو يلقي من صدره خراشيّ منكرة وهي النخامة والبلغم، وخرط الورق قشره عن الشجرة اجتذابا له ووسمه على الخرطوم أذله وهم خراطيم القوم وشرب الخرطوم: السلامة لأنها أول ما ينعصر، قال الأخطل:
75
جادت بها من ذوات القار مترعة كلفاء ينحتّ عن خرطومها المدر
وفي العود خرع أي لين ورخاوة ومنه قيل للفاجرة الخريع قال:
يزيد جمال الدّل منها رزانة وحلم إذا خفّ النساء الخرائع
وهو رخو كالخروع، وخرف الثمار اجتناها وأخرفي لنا يا جارية، وخرق الثوب وخرّقه: وسّع شقّه وانخرق وتخرّق واتسع الخرق على الراقع وشاة خرقاء مثقوبة الأذن وقد خرق في عمله وفيه خرق وهو أخرق وهي خرقاء، وخرم الشيء خرقه واخترمهم الدهر وتخرمهم، قال أبو ذؤيب الهذلي:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم فتخرّموا ولكل جنب مصرع
وهذا من أعاجيب لغتنا الشريفة.
(أُمَّةٍ) طريقة تؤم وتقصد وتكسر همزتها.
الإعراب:
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع آخر من أنواع كفرهم، وقالوا فعل وفاعل ولو شرطية وشاء الرحمن فعل وفاعل والمفعول به محذوف وكثير حذفه بعد فعل المشيئة كما تقدم أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم وما نافية وعبدناهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها واقعة في جواب لو (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ما نافية ولهم خبر مقدم وبذلك حال لأنه كان في الأصل صفة ومن حرف جر زائد وعلم مبتدأ مؤخر ولك أن تجعل ما حجازية على رأي من يجيز تقديم خبرها على اسمها وإن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر ويخرّصون فعل مضارع مرفوع (أَمْ آتَيْناهُمْ
76
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)
أم حرف عطف معادل للاستفهام في قوله اشهدوا خلقهم فهي متصلة وقال بعضهم أم منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري كأنه بعد أن نفى حجتهم العقلية أضرب عن الكلام إلى نفي حجتهم النقلية ورجح الشهاب الخفاجي هذا الوجه لبعده عن قوله شهدوا (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) بل حرف عطف وإضراب وقالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة وجدنا آباءنا خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول قولهم وعلى أمة في موضع المفعول الثاني لوجدنا (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها وعلى آثارهم متعلقان بمهتدون ومهتدون خبرها وقيل على آثارهم هو الخبر أي ماشون ومهتدون خبر ثان ولعله أولى (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) الواو عاطفة وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك متعلقان بأرسلنا، في قرية متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أرسلنا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) إلا أداة حصر والاستثناء من أعمّ الأحوال وقال مترفوها فعل وفاعل وما بعده تقدم إعرابه (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) قال فعل ماض والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والهمزة للاستفهام والواو حالية والتقدير أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة ولو شرطية وجئتكم فعل وفاعل ومفعول به وبأهدى متعلقان بجئتكم وسيأتي سرّ التفضيل في باب البلاغة ومما متعلقان بأهدى وجملة وجدتم صلة وعليه متعلقان بوجدتم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وجملة أرسلتم صلة الموصول وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إنّا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء حرف عطف وانتقمنا فعل وفاعل ومنهم متعلقان بانتقمنا، فانظر الفاء
77
عاطفة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقدره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدّم لكان وكان فعل ماض ناقص وعاقبة المكذبين اسمها المؤخر.
البلاغة:
في قوله «قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون» فن الإلجاء وهو أن يبادره المتكلم الخصم بما يلجئه إلى الاعتراف بحقيقة نفسه ودخيلة قلبه، فالتعبير في الآية بالتفضيل المقتضي أن ما عليه آباؤهم فيه هداية لم يكن إلا لإلجائهم إلى الاعتراف بحقيقة نيّاتهم التي يضمرونها كأنه يتنزل معهم إلى أبعد الحدود ويرخي لهم العنان إلى أقصى الآماد ليعترفوا بالتالي بمكابرتهم التي لا تجدي معها المناصحة في القول ولا ينفع في تذليلها الإتيان بالحجّة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٢]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
78
اللغة:
(بَراءٌ) بفتح الباء وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة ولذلك استوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والاثنان والجماعة وفي المختار: «وتبرأ من كذا فهو براء منه بالفتح والمدّ لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالسماع» وفي القاموس: «وأنا براء منه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث أي بريء».
(عَقِبِهِ) ذريته وفي القاموس: «العقب: الجري بعد الجري والولد وولد الولد كالعقب ككتف».
(سُخْرِيًّا) بضم السين نسبة إلى السخرة وهي العمل بلا أجرة وفي القاموس «وسخره كمنعه سخريا بالكسر ويضم كلّفه ما لا يريد وقهره» وقد تقدم شرحها ويبعد أن تكون من السخرية التي هي الاستهزاء والتهكم خلافا لمن قال إنها من السخرية التي هي بمعنى الاستهزاء أي ليستهزئ الغني بالفقير.
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتذكير العرب بحال جدّهم الأعلى، والظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة قال إبراهيم في محل جر بإضافة الظرف إليها ولأبيه متعلقان بقال وقومه عطف على أبيه وجملة إنني برآء في محل نصب مقول للقول ومما متعلقان ببراء وجملة تعبدون صلة ما (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) إلا أداة استثناء والذي مستثنى والاستثناء
79
منقطع كأنه قال لكن الذي فطرني فإنه سيهدين ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا بناء على أنهم كانوا يسركون مع الله الأصنام، وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن «ما» في ما تعبدون موصوفة تقديره إنني برآء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو نظير قوله تعالى «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» ورجح أبو حيان انقطاع الاستثناء إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم. وجملة فطرني صلة للموصول والفاء تعليلية وإن واسمها وجملة سيهدين خبرها والسين للتأكيد لا للاستقبال أي يديم هدايتي لأنه تعالى هاديه في المستقبل والحال والمفعول به محذوف أي سيهديني لرعاية الفاصلة (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو حرف عطف وجعلها فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول والضمير يعود على إبراهيم وكلمة مفعول به ثان وباقية صفة وفي عقبه متعلقان بباقية، ولعلهم لعل واسمها وجملة يرجعون خبرها وسيأتي المراد بالكلمة الباقية في باب الفوائد (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) بل حرف إضراب وعطف والإضراب عن محذوف لا بدّ من تقديره ليتسلسل الكلام والتقدير وجعلها كلمة باقية في عقبه بأن وصّاهم بها رجاء أن يثوب إليها المشركون فلم يحصل ما ترجاه بل متعت هؤلاء الذين يمتّون بالنسبة إلى إبراهيم ولم أعاملهم بالعقوبة وأنسأت في آجالهم. وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به وآباءهم عطف على هؤلاء أو مفعول معه وحتى حرف غاية وجر، وسيأتي سر غاية التمتيع في باب البلاغة، وجاءهم الحق فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ورسول عطف على الحق ومبين صفة لرسول (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) الواو حرف عطف ولما رابطة أو حينية وجاءهم الحق فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة قالوا لا محل لها لأنها واقعة في جواب شرط غير جازم وهذا مبتدأ وسحر خبره والجملة
80
مقول قولهم وإنّا إن واسمها وبه متعلقان بكافرون وكافرون خبر إنّا (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الواو عطف على الكلام المتقدم وقالوا فعل وفاعل ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ونزل فعل ماضي مبني للمجهول وهذا اسم إشارة نائب فاعل والقرآن بدل وعلى رجل متعلقان بنزل ومن القريتين صفة لرجل وعظيم صفة ثانية لرجل وسيأتي القول عنهما في باب الفوائد (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري تجهيلا لهم واستركاكا لعقولهم وهم مبتدأ وجملة يقسمون خبر ورحمة ربك مفعول يقسمون وكتبت رحمة ربك في المصحف بالتاء المفتوحة وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نحن مبتدأ وجملة قسمنا خبر وبينهم ظرف متعلق بقسمنا ومعيشتهم مفعول به وفي الحياة الدنيا متعلقان بمحذوف حال (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) الواو حرف عطف ورفعنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به وفوق بعض ظرف متعلق برفعنا ودرجات تمييز واللام للتعليل وقيل للصيرورة أو العاقبة ويتخذ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام وبعضهم فاعل وبعضا مفعول به أول وسخريا مفعول به ثان ويترتب على هذا ما أفصح عنه الخازن بقوله: «يعني أنّا لو سوّينا بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا» (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الواو عاطفة أو حالية ورحمة ربك مبتدأ وخير خبر ومما متعلقان بيجمعون وجملة يجمعون صلة ما.
البلاغة:
في مجيء الإضراب بقوله تعالى «بل متّعت هؤلاء» الآية، وجعل الغاية للتمتع مجيء الحق نكتة بديعة لأنه ليس المقصود من الإضراب
81
رد الكلام السابق ولكن المقصود هو التأكيد والاستمرار ليبيّن أنهم شغلوا عمّا جاءهم من الحق إذ لا مناسبة بين مجيء الحق والتمتيع، والمعنى أنهم شغلوا عن شكر المنعم فإنهم بدلا من أن ينصاعوا إلى الحق ويأخذوا بأسبابه، ويعكفوا عليه واستجلاء آلائه جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها.
الفوائد:
١- المراد بالكلمة الباقية في عقب إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله: إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني.
٢- المراد بالقريتين مكة والطائف والمراد بالرجلين الوليد بن المغيرة المخزومي بمكة وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف لأن الرجل الشريف عندهم وحسب معتقداتهم السخيفة هو الذي يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فليست الرسالة لائقة به.
٣- رسمت التاء مفتوحة في قوله «ورحمة ربك» في المصحف كما رسمت في الأعراف والروم وهود والبقرة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٩]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
82
اللغة:
(سُقُفاً) في القاموس: «السقف للبيت كالسقيف والجمع سقوف وسقف بضمتين» وعن الفراء جمع سقيفة وقرىء سقوفا جمعا على فعول نحو كعب وكعوب.
(وَمَعارِجَ) جمع معرج بفتح الميم وكسرها وسمّيت المصاعد من الدرج معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج.
(وَزُخْرُفاً) الزخرف الذهب والزينة، وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث، وقال الحسن: النقوش وأصله الزينة يقال زخرفت الدار أي زينتها وتزخرف فلان أي تزين، وأوردت معاجم اللغة معاني عديدة للزخرف منها الذهب وحسن الشيء وزخرف الكلام أباطيله المموّهة وزخرف الأرض ألوان بناتها والجمع زخارف.
(يَعْشُ) في القاموس: العشا مقصور سوء البصر في الليل والنهار والعمى عشا كرضي ودعا وفي المختار وعشا عنه أعرض وبابه عدا ومنه قوله تعالى: «ومن يعش عن ذكر الرحمن» قلت وفسره بعضهم في الآية بضعف البصر وقال أبو الهيثم والأزهري: عشوت إلى كذا أي قصدته وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه فيفرّق بين إلى وعن مثل ملت إليه وملت عنه.
(نُقَيِّضْ) نسبب ونقدّر يقال قيّض الله له كذا: قدّره له وقيض الله فلانا لفلان: جاءه به.
83
الإعراب:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ محذوف الخبر والناس اسم يكون وأمة خبرها وواحدة صفة ومعنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد، وأريد به هنا الكفر بقرينة الجواب كما سيأتي (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) اللام رابطة للجواب وجعلنا فعل وفاعل ولمن في موضع المفعول الثاني وجملة يكفر صلة لمن وبالرحمن متعلقان بيكفر ولبيوتهم بدل اشتمال من لمن يكفر بإعادة الجار وسقفا مفعول جعلنا الأول ومن فضة صفة لسقفا ومعارج عطف على سقفا وعليها متعلقان بيظهرون ويظهرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والجملة صفة لمعارج (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) عطف على ما تقدم وتكرر لفظ البيوت لزيادة التقرير ولك أن تقدّر مقدرا لتنصب أبوابا وسررا فيكون من عطف الجمل (وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وزخرفا عطف أيضا على سررا أو مفعول به لفعل محذوف أي وجعلنا لهم زخرفا وعطفه الزمخشري على محل من فضة كأنه قال سقفا من فضة وذهب أي بعضها كذا وبعضها كذا والواو عاطفة وإن نافية وكل ذلك مبتدأ ولما بالتشديد بمعنى إلا ومتاع الحياة الدنيا خبر وقرىء بتخفيف لما فإن عندئذ مخففة من الثقيلة مهملة واللام الفارقة وما زائدة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الواو حالية والآخرة مبتدأ وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف حال وللمتقين متعلقان بمحذوف خبر الآخرة وفي هذا تقرير واف على أن العظيم حقا هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) كلام مستأنف مسوق لسرد مآل المعرضين عن ذكر الله وقيل هو متصل بقوله أول بالسورة
84
أفنضرب عنكم الذكر صفحا، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعش فعل الشرط وعن ذكر الرحمن متعلقان بيعش ونقيض جواب الشرط وجملتا الشرط والجزاء خبر من وله متعلقان بنقيض وشيطانا مفعول به لنقيض والفاء حرف عطف وهو مبتدأ وله حال لأنه كان في الأصل صفة لقرين وتقدمت عليه وقرين خبر (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة يصدّونهم خبر إن وعن السبيل متعلقان بيصدّونهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الواو حالية أو عاطفة ويحسبون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ مفعولي يحسبون وسيأتي سرّ الجمع في باب البلاغة (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة جاءنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل جاءنا يعود على العاشي المأخوذ من يعش الآنف وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف ظاهر التقدير وليت حرف تمن ونصب وبيني ظرف متعلق بمحذوف خبرها المقدم وبينك عطف على بيني وبعد المشرقين اسم ليست المؤخر وسيأتي معنى المشرقين في باب البلاغة (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) الفاء الفصيحة وبئس فعل ماض جازم لإنشاء الذم والقرين فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره أنت (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كلام مستأنف مسوق لبسط ما يقال لهم في الآخرة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن واليوم ظرف متعلق بينفعكم وإذ ظرف لما مضى من الزمن بدل من اليوم ولا يقال إن إذ للمضي واليوم للحال فلا يجوز البدل لأن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه فكأن إذ مستقبلة وكأن اليوم ماض، قال ابن جنّي في مساءلته أبا علي: راجعت فيها مرارا وآخر ما
85
حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه.
وجملة ظلمتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ينفعكم أي لن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الاشتراك في مصائب الدنيا حيث يتأسى المصاب بمثله وقيل الفاعل مستتر تقديره تمنّيكم وهو المدلول عليه بقوله «يا ليت بيني وبينه» أي لن ينفعكم تمنّيكم البعد ويؤيد إضمار الفاعل قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناف يفيد التعليل إما بالفتح فأن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض أي لأنكم والجار والمجرور متعلقان بينفعكم وفي العذاب متعلقان بمشتركون ومشتركون خبر إن.
البلاغة:
١- النكرة الواقعة في سياق الشرط: في قوله: «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا» الآية نكتة بديعة وهي أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم ولذلك أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله:
«وإنهم ليصدّونهم» والثاني الواو في قوله «ويحسبون» والثالث الهاء في قوله إنهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشا قالت قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله فأتاه وهو في القوم فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟
قال: أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى قال أبو بكر: وما اللات؟ قال:
أولاد الله، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر فمن أمهم؟
فسكت طلحة ولم يجبه فقال لأصحابه: أجيبوا الرجل فسكت القوم.
فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأنزل الله: ومن يعش عن ذكر الرحمن، الآية.
86
٢- وفي هذه الآية أيضا من التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ مسدّه لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، فإن لقائل أن يقول لأي نكتة عدل عن لفظ الحقيقة فلم يقل: ومن يعرض عن ذكر الرحمن فاستعار لفظة العشا للضلال فنقول: النكتة في ذلك أن لفظ الاستعارة موفّ بالمعنى المراد بخلاف لفظ الحقيقة فإن الإعراض إعراضان: إعراض يرجى بعده الإقبال لأن المعرض متمكّن من الإقبال وذلك إعراض المؤمن المعتقد أحسن معتقد فيعرض له من الملاذّ التي تستغرق فكره وتشغل قلبه وعقله شغلا بتلك اللذة أو ضدها أو غيرها من أمور الدنيا فيعرض عن الذكر في تلك الحالة فمصاحبة الشيطان لذلك غير دائمة لأنه يمكن أن يؤوب إلى الله سبحانه ويتوب عن ذلك فيقبل على ما كان أعرض عنه من الذكر الذي عرف قديما طريقه واهتدى إلى سبيله وربي عليه أو لأجل عناية إلهية اقتضتها سابقة أزلية تجذبه إليه وإعراض ضلال عن طريق الرشد وسبيل الخير حتى لو قدّرنا أنه أراد الإقبال على الخير لمنعته منه سابقة الضلال والشقوة التي غلبت عليه، والمراد بالإعراض في الآية إعراض الضلال لا إعراض الغفلة فلا جرم أنه حسن استعارة العشا للضلال فيها وهذا المعرض هو الذي يقيض له مقارنة الشيطان أين كان وحيث كان وبذلك يتبين موضع النكتة التي رجّحت العدول عن لفظ الحقيقة إلى لفظ الاستعارة.
٣- التغليب: وفي قوله: «بعد المشرقين» فن التغليب وهو شائع في كلامهم يغلبون الشيء على ما لغيره وذلك بأن يطلق اسمه على الآخر ويثنى بهذا الاعتبار لتناسب بينهما واختلاط فمثال التغليب للتناسب قولهم الأبوين للأب والأم ومنه قوله تعالى «ولأبويه لكل واحد منهما السدس» والمشرقين والمغربين والخافقين وهو محل الخفوق أي
87
الغروب من خفق النجم أي غرب والقمرين في الشمس والقمر قال أبو الطيب:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السما بوجهها فأرتني القمرين في وقت معا
أي الشمس وهو وجهها وقمر السماء، والقمران في العرف الشمس والقمر، وقيل إن منه قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
وقيل إنما أراد محمدا والخليل عليهما الصلاة والسلام لأن نسبه يمتّ إليها، وقالوا العمرين في أبي بكر وعمر وقيل المراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فلا تغليب، وأما الأول ففيه تغليب غلبوا الأخف وقيل لطول عمره، وقالوا العجاجين في رؤبة والعجاج، والمروتين في الصفا والمروة، ومثال التغليب للاختلاط قوله تعالى:
«فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فإن الاختلاط حاصل في العموم السابق في قوله «كل دابة» ثم فصله فيما بعد وفي من يمشي على رجلين في عبارة التفصيل فإنه يضم الإنسان والطائر وقوله تعالى: «اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون» لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا لئلا يلزم تعليل الشيء بنفسه أي اعبدوا لأجل التقوى والتقوى هي العبادة وغلبوا المذكر على المؤنث حتى عدت منهم في قوله تعالى: «وكانت من القانتين» أي مريم وعدت من الذكور حيث جعلت بمثابتهم في التعبير بلفظ يخصّ به الذكور في أصل الوضع ولو لم يغلب لقال: من القانتات.
الفوائد:
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر في صحيح الترمذي: «عن أبي
88
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
الإعراب:
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته ﷺ أي إن هؤلاء صم فلا يمكنك إسماعهم وعمي فلا يمكنك هدايتهم، والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي والفاء عاطفة على محذوف مقدر وأنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة تسمع خبر والصمّ مفعول به واو حرف عطف وجملة تهدي العمي عطف على تسمع الصمّ (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ومن اسم موصول معطوف على العمي وجملة كان صلة من واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وفي ضلال خبر كان ومبين صفة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها في ما الزائدة
89
ونذهبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط وبك متعلقان بنذهبنّ، فإنّا: الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها ومنهم متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن وجملة فإنّا في محل جزم جواب الشرط (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) عطف على الجملة السابقة والذي مفعول نرينك الثاني وجملة وعدناهم صلة وإن واسمها وخبرها (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) الفاء الفصيحة أي إن علمت هذا وتأكدت منه فاستمسك، واستمسك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالذي متعلقان باستمسك وجملة أوحي إليك صلة (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تعليل للأمر وإن واسمها وعلى صراط خبرها ومستقيم صفة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وذكر خبر إن ولك متعلقان بذكر أو صفة له ولقومك عطف على لك والواو عاطفة وسوف حرف تسويف وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) الواو عاطفة واسأل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة أرسلنا صلة الموصول ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ومن رسلنا حال وسيأتي بحث المجاز في هذا السؤال في باب البلاغة (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الجملة سدّت مسدّ مفعولي اسأل المعلقة عن العمل بالاستفهام والهمزة للاستفهام وجعلنا فعل وفاعل ومن دون الرحمن مفعول جعلنا الثاني وآلهة مفعول جعلنا الأول وجملة يعبدون صفة لآلهة ويعبدون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
البلاغة:
المجاز في مساءلة الشعراء للديار والرسوم: في قوله «واسأل من
90
أرسلنا من قبلك» مجاز مرسل فقد أوقع السؤال على الرسل مع أن المراد أممهم لعلاقة الهداية المفضية بهم إلى معرفة اليقين ويكثر في العربية السؤال الواقع مجازا حيث لا يصحّ السؤال على الحقيقة ومنه مساءلة الشعر الديار والرسوم والأطلال على حدّ قول عنترة:
هلّا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
وقيل هو على حذف مضاف فيكون مجازا بالحذف أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك وهلّا سألت راكبي الخيل، ويشهد لهذا التأويل وإرادة سؤال الأمم قوله تعالى «فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك».
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
91
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان شبهة أوردها فرعون على موسى كما أوردت قريش شبهة الفقر على محمد صلى الله عليه وسلم. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا حال فالباء للملابسة وإلى فرعون متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء حرف عطف وإني: إن واسمها ورسول رب العالمين خبرها وجملة إن وما بعدها مقول القول (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) الفاء عاطفة على مقدر أي فطلبوا منه الآيات الدالّة على صدقه، ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبآياتنا متعلقان بجاءهم وإذا فجائية ولك أن تجعلها ظرفا معمولا لفعل المفاجأة الذي هو جواب لما ولك أن تجعلها حرفا، وفيما يلي نص عبارة أبي حيان بهذا الصدد قال: «قال الزمخشري: فإن قلت كيف جاز أن تجاب لما بإذا الفجائية؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدّر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقد ضحكهم انتهى. ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة مذاهب: أما إنها حرف فلا تحتاج إلى عامل أو ظرف مكان أو ظرف زمان فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر نحو خرجت فإذا زيد قائم تقديره وخرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم أو
92
ففي الوقت الذي خرجت فيه زيد قائم وإن لم يذكر بعد الاسم أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبر للمبتدأ فإن كان الاسم جثة وقلنا إنها ظرف مكان كان الأمر واضحا نحو خرجت فإذا الأسد أي ففي الحضرة الأسد أو فإذا الأسد رابضا وإن قلنا إنها ظرف زمان كان على حذف مضاف لئلا يخبر الزمان عن الجثة نحو خرجت فإذا الأسد أي ففي الزمان حضور الأسد وما ادّعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة لم ينطق به ولا في موضع واحد ثم المفاجأة التي ادّعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا تقول خرجت فإذا الأسد والمعنى ففاجأني الأسد وليس المعنى ففاجأت الأسد» وقد أوردنا القول في إذا الفجائية، وهم مبتدأ ومنها متعلقان بيضحكون وجملة يضحكون خبرهم (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) الواو عاطفة وما نافية ونريهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول ومن حرف جر زائد وآية مفعول به ثان لنريهم وإلا أداة حصر وهي مبتدأ وأكبر خبر ومن أختها متعلقان بأكبر والجملة صفة لآية وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في باب البلاغة (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذناهم ولعل واسمها وخبرها (وَقالُوا: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ويا أيها نداء تقدم إعرابه والساحر بدل من أي أو نعت لها وادع فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ولنا متعلقان بادع وربك مفعول به وبما متعلقان بادع وما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية وجملة عهد صلة أو مؤولة بمصدر مجرور بالبناء وعندك ظرف متعلّق بعهد وإن واسمها ولمهتدون خبرها واللام المزحلقة (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فدعا موسى فلما كشفنا، ولما رابطة أو حينية وكشفنا فعل وفاعل وعنهم
93
متعلقان بكشفنا والعذاب مفعول به وإذا فجائية تقدّم القول فيها مفصلا وهم مبتدأ وجملة ينكثون خبرها (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية أو عاطفة ونادى فرعون فعل وفاعل وفي قومه متعلقان بنادى، وسيأتي سر هذا النداء والظرفية في باب البلاغة، وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة تفسيرية ويا قوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة
والهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص جامد ولي خبرها المقدم وملك مصر اسمها المؤخر وهذه الواو إما حالية فالجملة نصب على الحال وإما عاطفة وهذه عطف على ملك مصر وعلى الأول تكون هذه مبتدأ والأنهار بدل وجملة تجري خبر ومن تحتي متعلقان بتجري، أفلا: الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدّر ولا نافية وتبصرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أم حرف عطف وهي منقطعة مقدّرة ببل والهمزة أي بل أنا خير فهي منقطعة لفظا متصلة معنى وقال الزمخشري والسيوطي: أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله أنا خير منه موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير كانوا عنده بصراء وهذا من إنزال السبب منزلة المسبّب. واعترض أبو حيان على الزمخشري بأن المعادل لا يحذف بعد أم إلا إن كان بعدها لفظ لا نحو أتقول أم لا أي أم لا تقول أما حذفه بدون لا كما هنا فلا يجوز على أنه جاء حذف أم والمعادل وهو قليل ومنه قول الشاعر:
دعاني إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد أم غي.
وقال أبو البقاء: «أم هنا منقطعة في اللفظ الوقوع الجملة بعدها وهي في المعنى متصلة معادلة إذ المعنى أنا خير منه أم لا» وسيأتي
94
مزيد من هذا البحث في باب الفوائد، وأنا مبتدأ وخير خبر ومن هذا متعلقان بخير والذي بدل من اسم الإشارة وهو مبتدأ ومهين خبر والجملة صلة الذي (وَلا يَكادُ يُبِينُ) لك في الواو أن تجعلها عاطفة فالجملة معطوفة على صلة الموصول ولك أن تجعلها مستأنفة فالجملة لا محل لها أيضا وأجازوا أن تكون حالية ولا نافية ويكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة واسمها ضمير مستتر تقديره هو وجملة يبين خبر يكاد أي يظهر كلامه (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا وألقي فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بألقي وأسورة نائب فاعل وهو جمع سوار ومن ذهب صفة لأسورة (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)
أو حرف عطف وجاء فعل ماض ومعه ظرف متعلق بجاء والملائكة فاعل ومقترنين حال أي متتابعين يشهدون بصدقه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الفاء عاطفة واستخف فعل ماض أي استفز، وفي المختار: «استفزه الخوف: استخفه» وفي المصباح: «واستخف قومه: حملهم على الخفّة والجهل» وقومه مفعول به. فأطاعوه: الفاء عاطفة وأطاعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وإن واسمها وجملة كانوا خبرها وجملة إن تعليلية لا محل لها وقوما خبر كانوا وفاسقين صفة (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وآسفونا فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو منقول بالهمزة من أسف إذا غضب فعداه بالهمزة والمعنى فلما عملوا ما يوجب دالة الحلم ويثير الحفائظ، وجملة انتقمنا لا محل لها لأنها جواب لما ومنهم متعلقان بانتقمنا، فأغرقناهم عطف على انتقمنا وأجمعين تأكيد للهاء (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) الفاء عاطفة وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وسلفا مفعول به ثان أي سابقين متقدمين إلى العذاب ليتعظ بهم غيرهم ومثلا عطف على سلفا وللآخرين صفة لمثلا.
95
البلاغة:
١- في قوله «وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها» كلام جامع مانع يعني أنهنّ موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه، قال الزمخشري: «وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا أرأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ومنه بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقد فاضلت الأنمارية بين الكلمة من بنيها ثم قالت لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها»
فالوصف بالكبر مجاز وإن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها.
٢- المجاز أيضا: وفي قوله «ونادى فرعون في قومه» مجاز مرسل علاقته المحلية فقد جعل قومه محلا لندائه وموقعا له والمعنى أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم كما أن المراد من نادى فيها فأسند النداء إليه كقولك قطع الأمير اللص إذا أمر بقطعه.
الفوائد:
أم أيضا: قدّمنا في باب الإعراب لمحة عن أم وذكرنا في مواضع متقدمة من هذا الكتاب مباحث جليلة فيها وننقل هنا الفصل الممتع الذي عقده صاحب المغني بصددها مع تعليق مفيد عليه، قال ابن هشام: «سمع حذف أم المتصلة ومعطوفها كقول الهذلي:
96
دعاني أيها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها
تقديره أم غي، كذا قالوا، وفيه بحث كما مر،- أي في الألف المفردة من أن الهمزة هنا كهل فلا تحتاج إلى معادل- وأجاز بعضهم حذف معطوفها بدونها فقال في قوله تعالى: «أفلا تبصرون أم» إن الوقف هنا وإن التقدير أم تبصرون ثم يبتدئ أنا خير وهذا باطل إذ لم يسمع حذف معطوف بدون عاطفه وإنما المعطوف جملة أنا خير ووجه المعادلة بينهما وبين الجملة قبلها أن الأصل أم تبصرون ثم أقيمت الاسمية مقام الفعلية والسبب مقام المسبّب لأنهم إذا قالوا له: أنت خير كانوا عنده بصراء وهذا معنى كلام سيبويه. فإن قلت: فإنهم يقولون أتفعل هذا أم لا والأصل أم لا تفعل، قلت: إنما وقع الحذف بعد لا ولم يقع بعد العاطف وأحرف الجواب تحذف الجمل بعدها كثيرا وتقوم هي في اللفظ مقام تلك الجمل فكأن الجملة هنا مذكورة لوجود ما يغني عنها».
وعبارة سيبويه في الكتاب: «هذا باب أم منقطعة وذلك قولك أعمرو عندك أم عندك زيد فهذا ليس بمنزلة أيّهما عندك، ألا ترى أنك لو قلت أيّهما عندك لم يستقم إلا على التكرير والتوكيد ويدلك على أن الآخر منقطع عن الأول قول الرجل إنها لا بل ثم يقول أم شاء فكما جاءت أم هنا بعد الخبر منقطعة كذلك تجيء بعد الاستفهام وذلك أنه حين قال: أعمرو عندك فقد ظن أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظن في زيد بعد أن استغنى كلامه ثم قال ومثل ذلك: وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير كأن فرعون قال أفلا تبصرون أم أنتم بصراء فقوله أم أنا خير من هذا بمنزلة أم أنتم بصراء لأنهم لو قالوا أنت خير منه كان بمنزلة قولهم نحن بصراء فكذلك أم أنا خير بمنزلة أم أنتم بصراء» فقد حكم سيبويه بأن أم منقطعة.
97

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٢]

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)
الإعراب:
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع آخر من لجاجهم وإمعانهم في المكابرة، ولما ظرفية حينية أو رابطة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وابن مريم نائب فاعل ومثلا مفعول به ثان لأن ضرب ضمن معنى جعل ويجوز أن يعرب حالا أي ذكر ممثلا به وإذا فجائية تقدم القول فيها وقومك مبتدأ ومنه متعلقان بيصدون وجملة يصدون خبر قومك وهو بكسر الصاد أي ترتفع لهم جلبة وضوضاء فرحا وجذلا وضحكا مما سمعوا، وستأتي القصة في باب الفوائد وقرئ يصدون بالضم من الصدود أي الإعراض وقيل هما لغتان (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام وآلهتنا مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وهي متصلة وهو معطوف على آلهتنا (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ما نافية وضربوه فعل وفاعل ومفعول به ولك متعلقان بضربوه وإلا أداة
98
حصر وجدلا مفعول من أجله أي لأجل الجدال والمراء واللجاج لا لإظهار الحق ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال أي لا مجادلين وبل حرف إضراب وهم مبتدأ وقوم خبر وخصمون صفة لقوم (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وعبد خبر هو وجملة أنعمنا صفة لعبد وعليه متعلقان بأنعمنا وجعلناه عطف على أنعمنا ومثلا مفعول به ثان لجعلناه ولبني إسرائيل صفة لمثلا (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لولا وجعلنا فعل وفاعل ومنكم في موضع المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا وإن كانت بمعنى خلقنا فالجار والمجرور متعلقان بجعلنا وفي الأرض متعلقان بيخلفون وجملة يخلفون صفة لملائكة، وقال بعض النحويين: «من تكون للبدل أي لجعلنا بدلكم ملائكة وجعل من ذلك قوله تعالى «أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة» أي بدل الآخرة وقول الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أقالا
أي بدل الفصيل والأولى أنها للتبعيض كما ذكرنا في الإعراض (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وعلم خبر إنه وللساعة صفة لعلم أي شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط علما لحصول العلم به والفاء الفصيحة ولا ناهية وتمترن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والمرية الشك (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو عاطفة واتبعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة خطا اتّباعا لسنّة المصحف مفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم
99
صفة (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الواو عاطفة ولا ناهية ويصدنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا والكاف مفعول به والشيطان فاعل وجملة إنه لكم عدوّ مبين تعليلية لا محل لها من الإعراب.
الفوائد:
من القصص الممتع ما يرويه المؤرخون بصدد هذه الآية «ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون» فقد ذكروا أنه لما قرأ رسول الله ﷺ على قريش: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام هو لكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون عزيرا وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى: إذا قومك منه يصدون، ففند الله مكابرتهم بأنه إنما قصد به الأصنام ولم يقصد به الأنبياء والملائكة إلا أن ابن الزبعرى لما رأى كلام رسول الله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم ليس غير وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة على طريق المماحكة واللجاج فتوقر رسول الله عن إجابته حتى أجاب عنه ربه بقوله: «إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون»، فدلّ به على أن الآية خاصة بالأصنام، هذه خلاصة القصة ولا بدّ من التنبيه إلى أن عبد الله بن الزبعرى صحابي مشهور وشاعر معروف وقد أسلم وحسن إسلامه وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل إسلامه، والزبعرى
100
بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين والراء المفتوحة والألف المقصورة ومعناه في اللغة السيئ الخلق.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
الإعراب:
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان تعنت بني إسرائيل ولما رابطة أو حينية وجاء عيسى فعل ماض وفاعل وبالبيّنات متعلقان بجاء وجملة قال لا محل لها وجملة قد جئتكم بالحكمة مقول القول، ولأبين: الواو عاطفة واللام لام التعليل وأبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور معطوفان على بالحكمة وعبارة الشهاب: «قوله ولأبين لكم متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلّة حتى جعلت كأنها كلام برأسه» ولكم متعلقان بأبين وبعض الذي مفعول به لأبين وجملة تختلفون صلة وفيه متعلقان بتختلفون (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) لك أن تجعل الفاء عاطفة فيكون الكلام معطوفا على ما سبقه على أنه تتمة كلام عيسى ولك أن تجعلها استئنافية فيكون الكلام مستأنفا من الله للدلالة
على طريق الطاعة ومحجتها الواضحة، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون عطف على فاتقوا والياء المحذوفة لمراعاة خط المصحف مفعول به (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الجملة تفسير لما تقدم من قوله وأطيعون وإن واسمها وهو مبتدأ وربي خبر والجملة خبر إن وربكم عطف على ربي والفاء الفصيحة واعبدوه فعل وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء عاطفة واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وقد تقدم أنها كلمة عذاب فلذلك ساغ الابتداء بها وللذين خبره ومن عذاب يوم أليم خبر ثان أو حال أي حال كونه كائنا من عذاب يوم القيامة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٦ الى ٧٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
102
اللغة:
(الْأَخِلَّاءُ) جمع خليل وهو الصديق وفي المصباح: «الخليل الصديق والجمع أخلاء كأصدقاء وفي القاموس: «والخل بالكسر والضم الصديق المختص أو لا يضم إلا مع ود يقال: كان لي ودّا وخلّا والجمع أخلال كالخليل والجمع أخلّاء وخلّان أو الخليل الصادق أو من أصفى المودّة وأصحّها» واستدرك في التاج فقال: «قال ابن سيده وكسر الخاء أكثر ويقال للأنثى خل أيضا».
(تُحْبَرُونَ) تسرّون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم، وقال الزجّاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل وفي القاموس: «والحبر بفتحتين الأثر كالحبار بكسر أوله وفتحه».
(بِصِحافٍ) بقصاع قال الكسائي: «أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة وهي تشبع العشرة ثم الصحفة وهي تشبع الخمسة ثم المئكلة وهي تشبع الرجلين أو الثلاثة».
(وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء لا عروة له قال قطرب: الإبريق لا عروة له وقال الأخفش: الإبريق لا خرطوم له وقيل كالإبريق إلا أنه لا أذن له ولا مقبض. وقال أبو منصور الجواليقي: «إنما كان بغير عروة ليشرب الشارب من أين يشاء لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات» وقال عدي:
متكئا تصفق أبوابه... يسعى عليه العبد بالكوب
الإعراب:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هل حرف استفهام معناه النفي أي لا ينظرون، وينظرون فعل مضارع مرفوع
103
بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والساعة مفعول به وأن تأتيهم:
المصدر المنسبك من أن وتأتيهم بدل من الساعة بدل اشتمال والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة وبغتة حال والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال ثانية (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء مبتدأ ويومئذ ظرف منصوب بعدو أي تنقطع في ذلك اليوم كل آصرة أو خلّة بين المتخالين وتستحيل عداوة ومقتا وإذ ظرف مضاف إلى مثله والتنوين عوض عن الجملة وتقديرها يوم إذ تأتيهم الساعة وبعضهم مبتدأ ثان ولبعض متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعدو وعدو خبر بعضهم والجملة الاسمية خبر الأخلاء وإلا أداة استثناء والمتقين مستثنى بإلا منصوب (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم ويا حرف نداء وعباد منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة مراعاة لخط المصحف ولا نافية وخوف مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه سبق بنفي وعليكم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال ولا عطف على ما تقدم وأنتم مبتدأ وتحزنون جملة فعلية في محل رفع خبر (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) الذين صفة لعبادي لأنه منادى مضاف وجملة آمنوا صلة الذين وبآياتنا متعلقان بآمنوا وكانوا كان واسمها ومسلمين خبرها والجملة معطوفة على الصلة، واختار بعضهم أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من الواو وقال أنها آكد (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) ادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجنة مفعول به على السعة وأنتم مبتدأ وأزواجكم عطف على أنتم وجملة تحبرون خبر أنتم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) يطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم في موضع رفع نائب فاعل وبصحاف متعلقان بيطاف ومن ذهب صفة لصحاف وأكواب عطف على صحاف وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب
104
كقوله تعالى «والذاكرون الله كثيرا والذاكرات» (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة وفيها خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر وجملة تشتهيه الأنفس صلة ما وتلذ الأعين عطف على الصلة داخلة في حيزها وأنتم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر أنتم (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والجنة خبر والتي نعت للجنة وجملة أورثتموها صلة وبما متعلقان بأورثتموها وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبر كنتم (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)
لكم خبر مقدم وفيها حال وفاكهة مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة ومنها متعلقان بتأكلون وجملة تأكلون نصب لفاكهة، ويجوز أن تعرب الجنة بدلا من اسم الإشارة فتكون جملة لكم فيها فاكهة هي الخبر، وعبارة أبي حيان المتفقة مع عبارة الزمخشري هي: «وتلك الجنة مبتدأ وخبر والتي أورثتموها صفة أو الجنة صفة والتي أورثتموها وبما كنتم تعملون الخبر وما قبله صفتان فإذا كان بما الخبر تتعلق بمحذوف وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها».
البلاغة:
حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة وأفانين من البيان نوجزها فيما يلي:
١- الإيجاز: وذلك في نداء الله تعالى لعباده، فقد اشتمل هذا النداء على أمور أربعة: ١- نفى عنهم الخوف ٢- نفى عنهم الحزن ٣- أمرهم بدخول الجنة ٤- بشّرهم باستحواذ السرور على أنفسهم.
٢- الإيجاز أيضا: وذلك في قوله تعالى «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين» فقد حصر أنواع النعم لأنها لا تعدو أمرين اثنين: إما مشتهاة في القلوب وإما مستلذة في العيون، وجاء في الحديث: إن
105
رجلا قال يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل، فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أيّ الجنة شئت إلا فعلت فقال أعرابي يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك.
٣- الالتفات: في قوله «وتلك الجنة التي أورثتموها» فقد التفت من الغيبة إلى الخطاب للتشريف والمخاطب كل واحد ممّن دخل الجنة ولذلك أفرد الكاف ولم يقل وتلكم مع أن مقتضى أورثتموها أن يقول وتلكم وذلك للإيذان بأن كل واحد من أهل الجنة مقصود بالذكر لذاته.
٤- الاستعارة: فقد شبّه الجنة بالمال الموروث والتلاد الموفور ثم استعار له الإرث على طريق الاستعارة المكنية لأن كل عمل لا بد أن يلقى جزاءه إذ يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل، أو أنها شبّهت في بقائها على أهلها وإفاضة النعم السوابغ عليهم بالميراث الباقي لا ينضب له معين ولا ينتهي إلى نفاد.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا ذلك قول الله عزّ وجلّ «ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» رواه مسلم والترمذي.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٧٨]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
106
اللغة:
(يُفَتَّرُ) يخفف وفي القاموس: «فتر يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد مدة ولان بعد شدّة وفتره تفتيرا وفتر الماء سكن».
(مُبْلِسُونَ) ساكتون سكوت يأس وفي المصباح: «أبلس الرجل إبلاسا سكت وأبلس سكن».
الإعراب:
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في الوعيد بعد الإفاضة في حديث الوعد وإن واسمها وفي عذاب جهنم خبر أول وخالدون خبر ثان ولك أن تعلّق الجار والمجرور بخالدون (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الجملة حالية ولا نافية ويفتر فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي العذاب وعنهم متعلقان بيفتر والواو للحال وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون ومبلسون خبرهم والجملة حال ثانية (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والواو حالية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له أو هو توكيد للواو والظالمين خبر كانوا (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الواو عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل وعبر بالماضي عن المضارع إيذانا بحقيقة وقوعه فهو من باب أتى أمر الله، ويا مالك نداء، وسيأتي الحديث عن مالك وندائه في باب الفوائد، واللام لام الأمر ويقض فعل
107
مضارع مجزوم بلام الأمر وعلينا متعلقان بيقض أي ليمتنا وربك فاعل (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إن واسمها وخبرها في موضع نصب مقول القول (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئناكم فعل وفاعل وبالحق متعلقان بجئناكم والواو حالية وإن واسمها وللحق متعلقان بكارهون وكارهون خبر إن.
الفوائد:
١- قرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما يا مال بحذف الكاف للترخيم وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ ونادوا يا مال فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم أن الذي حسن الترخيم لأهل النار ضعفهم عن إتمام الاسم لأنهم في غنية عن الترخيم قال ابن جنّي: «وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم عليه خفتت أصواتهم ووهنت قواهم وذلّت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة» قال الطيبي «قلت هذا اعتذار منه لقراءة ابن مسعود حيث ردّها ابن عباس بقوله: ما أشغل أهل النار عن الترخيم فإن ما للتعجب وفيه معنى الصدّ نظير قولك لمن كان في شدة واشتغل عنها بما لا يهمه: ما أشغلك عن هذا أما يصدّك عن هذا ما أنت فيه من الهول والشدّة» قلت والترخيم هو لغة التسهيل والتليين يقال صوت رخيم أي سهل لين، واصطلاحا حذف بعض الكلمة على وجه مخصوص وهو ثلاثة أنواع:
١- ترخيم النداء ٢- ترخيم الضرورة ٣- ترخيم التصغير، ومباحثها في كتب النحو.
ومالك هو خازن النار أي رئيس سدنتها الماضي عليهم كلامه
108
ومجلسه في وسط النار وفيها جسور تمر عليها ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها.
٢- الحديث المتعلق بالآية: وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون «ألم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال» قال: فيقولون: ادعوا مالكا فيقولون: «يا مالك ليقض علينا ربك» قال فيجيبهم: إنكم ماكثون قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون: «ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون» قال: فيجيبهم:
«اخسئوا فيها ولا تكلمون» قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إنّ أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يقول: إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم فيقولون: «ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون» فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: «اخسئوا فيها ولا تكلمون» ثم ييئس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٩]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
109
اللغة:
(أَبْرَمُوا) أحكموا وفي المصباح: «وأبرمت العقد إبراما: أحكمته فانبرم هو وأبرمت الشيء دبرته» ويقال أبرم الحبل إذا أتقن فتله والمراد القتل الثاني وأما الأول فيقال له سحل وفي القاموس: السحل ثوب لا يبرم غزله كالسحيل، قال زهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف:
110
الإعراب:
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كلام مستأنف مسوق للانحاء باللائمة على المشركين لما بدر منهم، وأم منقطعة بمعنى بل فبل للإضراب والانتقال من توبيخ أهل النار وحكاية حالهم إلى حكاية جناية هؤلاء المشركين والهمزة للإنكار وأبرموا فعل ماض وفاعل وأمرا مفعول به والفاء عاطفة وإن واسمها وخبرها (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟) أم تقدم القول فيها ويحسبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي تحسبون وجملة لا نسمع خبر أنّا وسرّهم مفعول نسمع ونجواهم عطف على سرّهم (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) بلى حرف جواب أي نسمع ذلك والواو للحال ورسلنا مبتدأ ولديهم ظرف متعلق بيكتبون وجملة يكتبون خبر رسلنا والجملة حالية (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة مسوقة لتفنيد ما ورد من مزاعم لهم في أول السورة بأن لله ولدا من الملائكة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص وللرحمن خبرها المقدّم وولد اسمها المؤخر والفاء رابطة لجواب الشرط وأنا مبتدأ وأول العابدين خبر وسيأتي معنى تعليق العبادة بكينونة الولد في باب الفوائد (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ورب السموات والأرض مضاف إليه ورب العرش بدل من رب الأولى وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ما (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويخوضوا جواب الطلب ولذلك جزم ويلعبوا عطف على يخوضوا، حتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل ويومهم مفعول به والذي صفة وجملة يوعدون صلة ويوعدون مضارع
111
مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) الواو استئنافية وهو مبتدأ والذي خبره وفي السماء متعلقان بإله لأنه بمعنى معبود، ومثل له الزمخشري بقولهم هو حاتم طي حاتم في تغلب على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت هو جواد في طي جواد في تغلب. وإله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو والجملة صلة الذي وفي الأرض إله عطف على قوله في السماء إله وهو مبتدا والحكيم العليم خبران (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) الواو عاطفة وتبارك فعل ماض والذي فاعله وله خبر مقدم وملك السموات مبتدأ مؤخر والجملة صلة وما عطف على السموات والأرض والظرف متعلق بمحذوف هو الصلة (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الساعة مبتدأ مؤخر وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) الواو عاطفة ولا نافية ويملك فعل مضارع والذين فاعله وجملة يدعون صلة الموصول ومن دونه متعلقان بيدعون والشفاعة مفعول يملك (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إلا أداة حصر ومن مستثنى من الذين وهو استثناء منقطع والمعنى ولا يملك آلهتهم ويعني بهم الأصنام والأوثان الشفاعة كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ولكن من شهد بالحق وهو توحيد الله وهو يعلم ما شهد به هو الذي يملك الشفاعة ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا لأنه يكون المستثنى منه محذوفا كأنه قال ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق فهو استثناء من المفعول المحذوف على حدّ قول الشاعر:
يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
فهو استثناء من المشفوع فيهم. وجملة شهد بالحق صلة من وهم
112
الواو حالية أو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبر (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلقهم خبر من وجملة الاستفهام المعلقة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم وليقولنّ اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة المعروفة وهي اجتماع قسم وشرط ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والله فاعل بفعل محذوف دلّ عليه موصول الاستفهام والتقدير خلقنا الله لأن القضية الشرطية لا تستدعي الوقوع ولا عدمه والدليل على أن المرفوع فاعل فعله محذوف لا مبتدأ أنه جاء عند عدم الحذف كقوله تعالى الآنف الذكر «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهنّ العزيز العليم» على أن هذه الحجة قد تعارض بالمثل فيقال والدليل على أنه مبتدأ أنه قد جاء كذلك كقوله تعالى: «قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر- إلى قوله- قل الله ينجيكم منها» وما يقال أنه قدّم لإفادة الاختصاص ممنوع لأن الفاعل لا يجوز تقديمه على عامله على الأصح والأحسن أن يقال إن الحجة الفعلية في هذا الباب أكثر فالحمل عليها أولى. وقال ابن هشام: «يقول بعضهم في ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله إن اسم الله سبحانه وتعالى مبتدأ أو فاعل أي الله خلقهم أو خلقهم الله والصواب الحمل على الثاني بدليل ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز الحكيم» وتعقبه الدماميني شارع المغني فقال «هذا معارض بقوله تعالى: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه إلى أن قال: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب» وتعقبه الشمني فقال: «وأقول لا يعارضه لأن الكلام إنما هو في خصوص الجواب الذي سنده خلق لا في كل جواب».
113
والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) الواو للقسم وقيله أي قوله مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والجواب إما محذوف أي لأفعلنّ بهم ما أريد وإما مذكور وهو قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قيل وأقسم بقيله يا رب وقيل هو معطوف على الساعة وفيه بعد وقرئ بالنصب قال الجلال السيوطي «ونصبه على المصدر بفعله المقدّر وقيل إن النصب بالعطف على سرهم ونجواهم وقيل إنه بالعطف على محل الساعة كأنه قيل إنه يعلم الساعة وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده أو إن الخبر محذوف تقديره وقيله مسموع أو متقبل» وإن واسمها وخبرها وجملة لا يؤمنون صفة (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان باصفح وقل عطف على فاصفح وسلام خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر سلام فسوف الفاء عاطفة وسوف حرف تسويف ويعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والمفعول به محذوف للتفخيم أي مغبة أمرهم.
الفوائد:
وعدناك بالحديث عن تعليق العبادة بكينونة الولد وقد شجر بين المفسرين والمتكلمين جدال طويل في صددها وخاصة بين أهل السنّة والمعتزلة، فقال الزمخشري بأسلوبه البارع ما يلي: «قل إن كان للرحمن ولد وصحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل
114
الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علّق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلّق بها محالا مثلها فهو في صورة إثباته الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها» ثم أورد تهكما بأهل السنّة وأرخى للسانه العنان فأساء إلى الذات الإلهية إذ قال: «ونظيره أن يقول العدلي للمجبر إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذب عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله تعالى خالقا للكفر وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه».
وقد نوّه أبو حيان بإساءة الزمخشري فقال بعد أن نقل ما نقلناه من كلام الزمخشري: «ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب بل السيف نزّهت كتابي عن ذكره» وهذا ليس بالردّ كما ترى بل فيه مقابلة المهاترة بالمهاترة والشطط بالشطط.
وردّ الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية المتوفى سنة ٦٨٣ هـ على الزمخشري ردّا حسنا سلك فيه جادة النقد الصحيح فقال «لقد اجترأ عظيما واقتحم مهلكة في تمثيله بقول من سمّاه عدليا إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس بإله فلينتقم عليه ذلك بقول القائل: قد ثبت عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الإيمان وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله وتصديقا بمضمون قوله تعالى: «هل من خالق غير الله
115
وقوله: الله خالق كل شيء وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا لزمه فرك أذنه وغلّ عنقه إذ يلحد في الله إلحادا لم يسبقه إليه أحد من عباده الكفرة ولا تجرأ عليه ما ردّ من مردّة الفجرة» إلى آخر هذا الرد الذي لم يخل من السباب والشتائم أيضا.
ثم قال الزمخشري: «وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه فقيل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه وقيل إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد» وقيل: هي إن النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد وقد فنّد أبو حيان هذه الوجوه كلها بما لا يتّسع له صدر هذا الكتاب.
وعبارة الشوكاني: «أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة وقال الحسن والسدّي: إن المعنى ما كان للرحمن ولد ويكون قوله فأنا أول العابدين ابتداء كلام، وقيل المعنى:
قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ولكنه يستحيل أن يكون له ولد وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، ومن هذا القبيل قوله تعالى: وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، فتكون إن شرطية وهذا ما اخترناه ورجحه ابن جرير وغيره وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها من التمحّل والتكلّف لا يليق بالقرآن الكريم أن يأتي بها أو يرمي إليها لأن القرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ.
116
Icon