ثم تتحدث السورة عن ألوان عذاب الكافرين يوم القيامة حيث يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون. هل ما ترونه سحرا أم أنتم لا تبصرون ؟ ادخلوها وذوقوا حرها. وسواء أصبرتم أم لم تفعلوا فإن هذا جزاؤكو على كفركم وعنادكم.
ثم في مقابل ألوان العذاب هذه ينتقل الحديث عن نعيم المتقين وما يتفكهون به في جنات الخلد. ويأتي النص واضحا بأن الإنسان يلقى ما يعمله من خير أو شر لا ينقصه الله منه شيئا : كل امرىء بما كسب رهين.
ثم يأتي الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداومة على التذكير دون مبالاة بما يتقول الكافرون أو التفات لما يصفون به القرآن الكريم. وهو يتحداهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين. وقد سفهت السورة كثيرا من آراء المشركين أقوالهم الفاسدة، مبينة ضلالهم، وسوء تقديرهم، وهل لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون.
ثم يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بخطاب كريم بقوله تعالى : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون فيهلكون جميعا. في ذلك اليوم لا يغني عنهم أحد، ولايجدون من ينصرهم. ثم يسليه بكلام لطيف بأن يصبر لحكم الله على أذاهم، وأنه في حفظ ربه ورعايته، ويحثه على الذكر والتسبيح والعبادة في ختام هذه السورة الكريمة بقوله تعالى : وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم.
ﰡ
أقسم الله تعالى بخمسة مقدَّسات في الأرض والسماء، بعضُها مكشوفٌ معلوم وبعضُها مغيَّب مجهول، بطورِ سيناء الذي كلّم الله عليه موسى، وبالكتُب المنزلة من عنده ( وعبر عنها بكتابِ، بالإفراد، لأنها وحدةٌ واحدة تدعو الى نهجٍ واحد ) في صحفٍ ميسّرة للقراءة،
منشور : مفتوح للناس.
وبالبيت المعمور بالعبادةِ ليلَ نهار.
وبالسماء وما فيها من عجائب الكون.
وبالبحر المملوء بالمخلوقات.
وذلك يوم القيامة، يوم تضطربُ السماء اضطراباً شديداً بما فيها.
الذين يخوضون في الباطل ويتخذون الدينَ لَهواً ولعبا.
ففي ذلك اليوم يُدفعون الى النار دفعاً شديدا
فادخلوها وقاسوا حَرَّها وعذابها. وسواء عليكم أصبرتم أم لم تصبروا، فليس لكم منها مَهرب، وأنتم تلاقون اليوم ذلك الجزاء الذي كنتم توعَدون به على أعمالكم السيئة في الدنيا.
وقاهم : حفظهم.
وما يتمتعون به في جنّات النعيم، من مختلِفِ أنواع الملذّات في المسكَن والمأكل والأزواج.
ويجلسون على الأسرّة يتجاذبون أطراف الاحاديث.
رهين : مرهون بعمله عند الله.
هم وذريّاتهم الطيبة، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم، وكل إنسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : واتبعناهم ذرياتهم بجمع ذريات. وقرأ ابن عامر ويعقوب : واتبعتهم ذرياتهم بالجمع. والباقون : واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع.
لا لغو فيها ولا تأثيم : إن خمر الجنة لا تذهبُ بعقل الشارب، فيلغو ويأثمُ في كلامه.
ويشربون من شراب الجنة ﴿ كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ فيها شرابٌ لا يَعْبَث بالعقل، ولا يدع شاربها يتكلم باللغو او الباطل.
مكنون : مصون.
ويقوم على خدمتهم غلمانٌ غاية في الحسن والجمال ﴿ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴾ من حيث الصفاء والبياض وحُسن الرونق.
ويقولون : كنا في دار الدنيا خائفين من عذاب الآخرة، ﴿ فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم ﴾.
إذ تفضّل برحمته لنا، ووقانا عذاب النار.
إنا كنّا نعبده في الدنيا، ونسأله أن يمنَّ علينا بالمغفرة و الرحمة، فاستجابَ لنا وأعطانا مآلنا، إنه هو المُحسِن الواسعُ الرحمة والفضل.
يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يداوم على التذكير والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد المشركون، فما أنت أيها الرسول، بفضل ما أنعم الله به عليك من النبوة ورجاحة العقل بكاهن، ولا بمجنون كما يزعمون.
المنون : المنية، والدهر. ريب المنون : حوادثُ الدهر وصروفه.
ولا أنت شاعرٌ كما يقولون حتى يتربّصوا بك حوادثَ الدهر ونكباته.
قومٌ طاغون : ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد.
ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى :﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ؟ ﴾
هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء، والمجنونُ لا عقل له، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً ! ؟، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها.
ثم زادوا في الإنكار ونسَبوا الى النبيِّ الكريم أنه اختلق القرآن من عنده، بل هم بمكابرتهم لا يؤمنون.
ثم انتقل الكتابُ الى الردّ عليهم في إنكارهم وجودَ الخالق كما هو شأن الدهريين فقال :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون ؟ ﴾
هل خُلقوا من غير إله، أم هم الّذين خلَقوا أنفسَهم، فلا يعترفون بخالقٍ يعبدونه.
المصيطرون : بالصاد وبالسين : القاهرون، المسلَّطون، سيطر عليه : تسلط عليه.
وهل عندهم خزائنُ ربّك يتصرفون بها، ﴿ أَمْ هُمُ المسيطرون ﴾ القادرون المدبِّرون للأمور كما يشاؤون. الحقيقة أن الأمرَ ليس كذلك، بل اللهُ هو المالكُ المتصرف الفعال لما يريد.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي المسيطرون بالسين. والباقون بالصاد.
يقال : سيطر وصيطر.
روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرِب بالطّور، فلما بلغ قوله تعالى :
﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون ؟ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسيطرون ﴾ قال : كادَ قلبي يطير، وأثّرت فيه هذه الآياتُ وكان ذلك من أسباب دخوله الاسلام.
وكان جبير من الذين وفَدوا على النبي الكريم بعد وقعةِ بدرٍ في فداء أسرى قريش.
فإذا كانت أقوالُهم هذه غيرَ صحيحة فهل يدَّعون أنهم ارتقوا بمصعَدٍ إلى السماء وسمعوا شيئاً من الله ؟
﴿ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾
فليأتِ الذي استمع شيئاً بحجّة واضحةٍ تصدِّق دعواه.
هل طلبَ منهم أجرة باهظة تُثقل كواهلهم ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ ؟
مَكيدون : يحيق بهم الشر ويعود عليهم وباله.
بل يريد هؤلاء المشركون بقولهم هذا وافترائهم كيداً في رسول الله وفي الناس. فإن كان هذا ما يريدون فكيدُهم راجعٌ إليهم ووبالُه على أنفسهم.
إن هؤلاء القوم معانِدون مكابرون، فحتى لو رأَوا بعضَ ما سألوه من الآيات، فعاينوا بعضَ السماءِ ساقطاً لكذّبوا وقالوا : هذا سحابٌ بعضُه فوق بعض. وذلك لأن الله ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارَهم.
يتّجه الخطاب هنا الى الرسول الكريم تسليةً له بأن يدعَ هؤلاء الكفار وشأنهم حتى يلاقوا يومَهم الذي يهلكون فيه.
أو ينصرهم.
بل إن لِلذين ظلموا أنفسهم بالكفر، مثل هؤلاء، عذاباً آخر قبل يوم القيامة،
﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
فاصبر يا محمد لحكم ربك بإمهالهم، وعلى ما يلحقُك من أذاهم، فإنك في حِفظِنا ورعايتنا فلا يضرّك كيدهم.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ في الليل، وسبِّحه حين تغيبُ النجوم، واذكر الله في جميع الحالات والأوقات، آناءَ الليل وأطرافَ النهار.