تفسير سورة سورة الطور من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها تسع وأربعون
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والطور.. ﴾ أقسم الله في مفتتح هذه السورة بخمسة من أعظم المخلوقات ؛ دلالة على عظيم قدرته تعالى وبديع صنعته ؛ لتأكيد وقوع العذاب بالكافرين يوم البعث والجزاء. فأقسم بجبل طور سيناء، الذي كلم الله موسى عليه السلام تكريما له وتذكيرا لما فيه من الآيات. وبكتبه المنزلة على أنبيائه بالهدى والحق. وببيته الحرام المعمور بالطائفين والقائمين والركع السجود، الذي جعله للناس مثابة وأمنا. وبالسماء المرفوعة بلا عمد، وفيها من عجائب الصنعة مالا يقادر قدره. وبالبحار المحيطة التي تسير فيها السفن كالأعلام، وفيها عجائب شتى. وجواب القسم : " إن عذاب ربك لواقع " بالمكذبين.
﴿ وكتاب مسطور ﴾ أي مكتوب متسق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة. وقيل : المراد به التوراة، أو القرآن، أو صحائف الأعمال.
﴿ في رق ﴾ هو كل ما يكتب فيه من ألواح وغيرها. وأصله : الجلد الرقيق يكتب فيه. ﴿ منشور ﴾ مفتوح غير مطوي. والمراد : أنه معرض لكل ناظر. وفيه إلماع إلى سلامته من العيوب ؛ شأن ما يعرض للناس عامة.
﴿ والبيت المعمور ﴾ هو البيت الحرام. وقيل : هو بيت في السماء، " ومسامت للكعبة تطوف به الملائكة.
﴿ والبحر المسجور ﴾ أي المملوء ماء. يقال : سجر النهر، ملأه. وهو البحر المحيط ؛ والمراد الجنس. وقيل : الموقد نارا عند قيام الساعة ؛ كما قال تعالى : " وإذا البحار سجرت " . أي أوقدت نارا ؛ من سجر التنور يسجره
سجرا، أحماه. وصف البحر بذلك إعلاما بأن البحار عند فناء الدنيا تحمى بنار من تحتها فتتبخر مياهها، وتندلع النار في تجاويفها وتصير كلها حمما.
﴿ يوم تمور السماء مورا ﴾ أي أن هذا العذاب لواقع يوم تضطرب السماء وتدور كالرحى، وتتداخل وتختلف أجزاؤها وتتكفأ بأهلها ؛ وذلك عند خراب العالم وانقضاء الدنيا. والمور : الحركة والاضطراب والدوران، والمجئ والذهاب، والتموج والتكفؤ.
﴿ وتسير الجبال سيرا ﴾ تزول عن أماكنها وتطير كالسحاب، ثم تتفتت كالرمل، ثم تصير كالعهن المنفوض، ثم تطيرها الرياح فتكون هباء منبثا.
﴿ في خوض يلعبون ﴾ في اندفاع في الباطل يلهون، لا يذكرون حسابا، ولا يخشون عقابا [ آية ١٤٠ النساء ص ١٧٤ ].
﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ﴾ يدفعون إليها دفعا بعنف ؛ ويطرحون فيها ؛ من الدع وهو الدفع العنيف. يقال : دعه يدعه دعا، دفعه في جوفة ؛ ومنه " فذلك الذي يدع اليتيم " .
﴿ اصلوها ﴾ ادخلوها، أو قاسوا حرّها [ آية ١٠ النساء ص ١٤١ ].
﴿ فاكهين ﴾ ناعمين. وقرئ " فكهين " وهو بمعناه [ آية ٥٥ يس ص ٢٢١ ].
﴿ على سرر مصفوفة ﴾ موضوعة على صف وخط مستو. ﴿ وزوجناهم بجور عين ﴾ قرناهم بهن [ آية ٥٤ الدخان ص ٣١٠ ].
﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.. ﴾ بيان لحال طائفة من أهل الجنة، وهم الذين شاركتهم ذريتهم – الأقل منهم عملا – في الإيمان. والذرية : تصدق على الأبناء والآباء ؛ أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر، ألحق به من دونه في العمل، ابنا كان أو أبا، سواء كان الأبناء صغارا أم كبارا. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل ؛ لتقر بهم عينه. وعنه مرفوعا :( إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ؛ فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به ). وقوله " والذين آمنوا " مبتدأ خبره جملة " ألحقنا بهم ذريتهم " أي في الدرجة، " واتبعتهم " عطف على " آمنوا ". و " بإيمان " متعلق به، والباء للسببية أو الظرفية ؛ أي اتبعتهم بسبب الإيمان أو فيه. ﴿ وما ألتناهم من عملهم من شيء ﴾ أي وما نقصنا المتبوعين من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق ذريتهم بهم في الدرجة ؛ بل أعطيناهم ثوابهم كاملا، ورفعنا ذريتهم إلى درجتهم فضلا وإحسانا. يقال : ألته حقه يألته – من باب ضرب – نقصه. ﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾ أي كل امرئ مرهون عند الله بكسبه وعمله ؛ فإن كان عمله صالحا فكّ نفسه وخلصها، كما يخلص المرهون من يد مرتهنه ؛ وإلا أهلكها.
﴿ يتنازعون فيها كأسا ﴾ أي يتجاذبون للمداعبة، أو يتعاطفون فيها إناء فيه الشراب المسمى خمرا. أو نفس الشراب الذي في الإناء. ﴿ لا لغو فيها ولا تأثيم ﴾ أي لا يصدر منهم في شربها كلام ساقط لا خير فيه، ولا يأتون ما يؤثم به فاعله ؛ وإنما يتحدثون بأحاسن الكلام، لا كما يحصل بين ندامى الخمر في الدنيا.
﴿ كأنهم لؤلؤ مكنون ﴾ أي كأنهم في الصفا والبياض : لؤلؤ مصون محفوظ في الصدف، لم تنله الأيدي. يقال : كننت الشيء كنا وكنونا، جعلته في كن، وسترته بنحو بين أو ثوب ؛
فهو مكنون.
﴿ مشفقين ﴾ أي معتنين بطاعته تعالى، خائفين من عصيانه. والإشفاق : عناية مختلطة بخوف وإذا عدى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر. وإذ عدى بفي – كما هنا – فمعنى العناية فيه أظهر.
﴿ ووقانا عذاب السموم ﴾ عذاب النار النافذه في المسام نفوذ السموم، وهي الريح الحارة التي تتخلل المسام، وتؤثر في الأجسام تأثير السم.
﴿ إنه هو البر ﴾ المحسن على عباده.
﴿ فذكر ﴾ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير، ولا تكترث بما يصفونك من الأوصاف القبيحة.
﴿ فما أنت بنعمة ربك ﴾ أي فما أنت بسبب إنعام الله عليك﴿ بكاهن ﴾ تخبر بالغيب من غير وحى من الله﴿ ولا مجنون ﴾ تقول ما لا تقصد. أم يقولون شاعر أي بل أيقولون هو شاعر !
﴿ نتربص به ريب المنون ﴾ ننتظر به حوادث الدهر وصروفه المهلكة ! والريب : مصدر رابه إذا أقلقه. والمنون : الدهر ؛ من المن بمعنى القطع ؛ لأنه يقطع الأعمار وغيرها أريد به حوادث الدهر مجازا ؛ لأنها تقلق النفوس كما يقلقها الشك، وعبر عنها بالمصدر مبالغة. أو ننتظر به نزول المنية. والمنون : المنية ؛ لأنها نقص العدد وتقطع المدد. والريب : النزول ؛ من راب عليه الدهر : أي نزل. والمراد بنزولها الهلاك. وذكرت " أم " في هذه السورة خمس عشرة مرة، وكلها إلزامات للمخاطبين ليس لهم عنها جواب. وقال الخليل : إن كل ما في سورة الطور من " أم " فهو استفهام لا عطف، وإنما استفهم تعالى مع علمه توبيخا لهم ؛ على نمط قول الإنسان لغيره : أجاهل أنت ! مع علمه بجهله.
﴿ أحلامهم ﴾ عقولهم. جمع حلم – بالكسر – وهو في الأصل : ضبط النفس عن هيجان الغضب. وإطلاقه على العقل لكونه منشأ له. ﴿ قوم طاغون ﴾ مجاوزون الحد في المكابرة والعناد.
﴿ تقوّله ﴾ اختلق القرآن وافتراه من تلقاء نفسه. والتقول : تكلف القول، ويستعمل غالبا في
الكذب. يقال : تقول عليه، أي كذب. وقولتني ما لم أقل : ادعيته علي
﴿ بل لا يوقنون ﴾ بأنه الخالق وإلا لما أعرضوا عن عبادته تعالى ؛ فإيقانهم به كالعدم.
﴿ خزائن ربك ﴾ مقدوراته.
﴿ هم المصيطرون ﴾ الأرباب القاهرون المتسلطون، حتى يدبروا أمر الربوبية على إرادتهم ومشيئتهم ! والمسيطر : القاهر الغالب ؛ من سيطر عليه : إذا قهره. والمسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب أعماله.
﴿ فهم من مغرم مثقلون ﴾ أي فهم من ثقل ما حملتهم من الغرم متبعون مجهدون ؛ فلذلك لا يتبعونك ! يقال : أثقله الحمل، أتعبه. والمغرم والغرم : ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه أو خيانة.
﴿ هم المكيدون ﴾ هم المغلوبون الذين يحيق بهم كيدهم، ويعود عليهم وباله. اسم مفعول من المكيد، وهو المكر والخبث والحيلة والحرب. وهو إشارة إلى ما دبروه في دار الندوة بمكة من الفتك به صلى الله عليه وسلم ؛ فعصمه الله منهم وردهم خائبين. وقتلوا يوم بدر في السنة الخامسة عشرة من البعثة. وقد كررت " أم " – كما قدمنا – خمس عشرة مرة ؛ بعدد هذه السنين، ولذا قالوا : إنه من معجزات القرآن ؛ وكم له من معجزات وغرائب وأسرار ! !
﴿ كسفا من السماء ﴾ قطعة عظيمة نازلة من السماء. أي أنهم لفرط طغيانهم إن عاينوا ذلك﴿ يقولوا سحاب مركوم ﴾ أي هو سحاب متراكم، ملقى بعضه على بعض بسقينا ؛ ولم يصدقوا أنه كسف عذاب.
﴿ فيه يصعقون ﴾ يهلكون ؛ وذلك يوم بدر.
﴿ عذابا دون ذلك ﴾ أي غير ذلك العذاب الذي وقع يوم بدر، وهو عذاب القبر وعذاب الآخرة.
﴿ فإنك بأعيننا ﴾ مذهب السلف في هذه الآية : ما بيناه في أمثالها. والخلف يقولون : المعنى فإنك بمرأى منا : أو كما قال ابن عباس : نرى ما يعمل بك. ؟ أو فإنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إليك بمكروه ؛ فالعين مجاز عن الحفظ.
﴿ وسبح بحمد ربك ﴾ أي سبحه متلبسا بحمده تعالى. ﴿ حين تقوم ﴾ من مجلسك أو من منامك، أو حين تقوم إلى الصلاة. وقيل : التسبيح الصلاة إذا قام من نومه.
﴿ ومن الليل فسبحه ﴾ نزهه بقولك : سبحان الله وبحمده. أو صل له النوافل، أو صلاة المغرب والعشاء. ﴿ وإدبار النجوم ﴾ أي وقت إدبارها وغروبها آخر الليل. والتسبيح فيه : التنزيه، أو صلاة ركعتي الفجر، أو صلاة فريضة الصبح. والله أعلم.