تفسير سورة الطور

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الطور من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الطُّورِ
قوله تعالى: ﴿وَالطُّورِ (١)﴾
ابن عطية: قال بعض اللغويين: الطور اسم لكل جبل أجرد لَا ينبت [شجرا*].
وقال مجاهد: الطور الجبل [بالسريانية*]، انتهى. إن [أرادها عُرِّبت*] فحق، وإن [أرادها*] لم تزل سريانية فباطل، والظاهر أن المراد بالكتاب القرآن؛ لأن القسم بالشيء تعظيم له، وإذا تعلق التعظيم بواحد من أمور متعددة قد احتملها اللفظ فالأولى [الحمل*] على أعظمها وأشرفها، ولا شك أن القرآن له من التعظيم والشرف بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبالإعجاز ما ليس لغيره.
قال الزمخشري: وقيل: إنه القرآن ونكر؛ لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، وقال في تلك الآية: نكرت (نَفْسٍ) لأحد وجهين:
أحدهما: أن يريد نفس خاصة وهي نفس آدم عليه الصلاة والسلام كأنه قال: وواحدة من النفوس.
والثاني: أن يريد كل نفس والتنكير لإرادة الخصوص؛ لأن ما به التعظيم نظير ما قال تعالى في سورة الفجر (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، ويرد بأن التنكير فيها إنما هو [للإبهام*] والشيوع لَا للخصوص.
ويجاب: بأن التعظيم يقتضي الخصوص؛ لأن ما به التعظيم خاص بالمعظم، وكذا التنكير لإرادة التعظيم، ثم وصف ما سوى الطور؛ لأن الطور علم لَا اشتراك فيه.
فإن قلت: وكذا الكتاب علم، قلت: لَا يلزم من الوصف هو الاشتراك للموصوف بدليل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
قوله تعالى: ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥)﴾
ابن عطية: هو السماء والسقف طول في انحناء، ومنه أسقف النصارى، وهو عالمهم، انتهى، ظاهره أنها عنده [كورية*]، وفي وصفه بالمرفوع إشارة إلى أنه العرش لأنه فوق كل مخلوق، وما تحته من السماوات بالنسبة إليه [مخوضة*] لَا مرفوعة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾
إشارة إلى تغليظ العذاب وشدته، وأنه إذا كان بتحقق وقوعه مع استحضار مقام التربية والحنان والشفقة، فأحرى مع استحضار مقام الجبروت والعزة والقوة والانتقام.
وقال الفخر: ذكر الرب إشارة إلى أن المكلف لَا يزال طامعا في رحمة الله راجيا عفوه.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ... (٩)﴾
قال مكي: العامل فيه (واقع) ولا يصح أن يعمل فيه (ما له من دافع).
قال أبو حيان: ولم يبين له وجها، انتهى. توجيهه أن القضية السالبة عند المنطقيين لَا تقتضي وجود الموضوع ولا إمكان وجوده.
فإذا قلت: ليس زيد بقائم أمكن أن يكون جالسا وأن يكون معدوما، فأثبت أولا وقوع العذاب بالإطلاق أعم من أن يكون في ذلك أو غيره، ثم أخبر أنه ليس له [دافع*] في ذلك اليوم، ونفي [الدافع أعم من وجود المدفوع*] في ذلك اليوم وهو العذاب أو عدم وجوده، وإذا كان العامل فيه أن عذاب ربك لواقع اقتضت الآية إثبات وقوع العذاب في ذلك اليوم، وفي الآية رد على [الطبائعيين*] القائلين بأن هذه السماوات لَا تقبل الانفطار ولا الزوال، بدليل [تأكيد*] تمور بالمصدر فدل على أنه حقيقة لَا مجاز.
فإن قلت: قدم هنا السماء على الجبل، وعكس في أول السورة فقدم الجبل على السماء؛ لأنه قدم الطور على السقف؟ فالجواب: بما أجاب به ابن مالك، في قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)، قال: العادة أن الإنسان إذا [أحسَّ] بأمر مهول مخوف فأول ما ينظر إلى جهة فوق ثم ينظر إلى أسفل، وهذه الآية جرت مجرى التخويف فابتدأ فيها بما [ينظر*] إليه الإنسان أولا، واليوم يحتمل أن يراد به اليوم المعهود والذي هو دورة أو نصف دورة، والمقدار الحالي من الزمان كما أراد زهير في قوله: وأعلم علم اليوم، فيكون المراد مقدار زمن المور والسير، والظاهر الأول ليكون اليوم أوسع من ذلك يسعه ويسع غيره.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ... (١٣)﴾
بدل من اليوم الأول، إما بدل شيء من شيء إن كان الأول بمعنى الدورة أو نصف الدورة، وإما بدل بعض من كل إن كان الأول بمعنى المقدار من الزمان، ويكون الأول أوسع زمنا من الثاني.
قوله تعالى: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا... (١٥)﴾
أي يقال لهم: (أَفَسِحْرٌ)، والمعطوف عليه مضموم، والتقدير أنتم مقيمون على إنكار [أفهذا*] سحر أم أنتم مقرون أنكم كنتم لَا تبصرون.
قوله تعالى: ﴿اصْلَوْهَا... (١٦)﴾
صيغة أفعل هنا للإهانة، قال ابن التلمساني: وفي (فَاصْبِرُوا) التسوية.
الزمخشري: فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه، بقوله تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فاما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا فائدة فيه، انتهى، تقرير السؤال أن المشاهد في الدنيا أن الصابر على البلاء أحسن حالا من الذي لم يصبر، فمساواة الصبر لعدمه سبب في مدح الصابر لَا في التخفيف عليه في العذاب ولا في تشديده عليه، فأجاب: بأنه قد يتوهم أن الصبر سبب في المكافأة عليه بتخفيف العذاب، فقال: إنما تجزون عملكم موجب، ويحتمل أيضا أن يجاب بأن قوله تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للحكم بمساواة الصابر لغير الصابر في العذاب، والسؤال إنما يرد إذا جعلناه تعليلا للمساواة، وتعليل الحكم بالمساواة لأنا نجد بعض النَّاس يصيبه الألم فيعظم قلقه ولا يصبر، وآخر يصبر على الشدائد العظام فيكون ذلك سببا لحقة الألم عنه وهو أحسن حالا من الأول، فأخبر الله تبارك وتعالى أن هؤلاء عوقبوا بأمرين بالعذاب، ويجعل صبرهم مساويا لعدم صبرهم في أنه لَا فائدة تنشأ عنه، ومعنى (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم، وفيه من الترك فعلي، وهي مسألة اختلف فيها في الأصول والفروع.
قال الفخر في المعالم: مذهب المعتزلة أن الترك فعل، ويلزم منهم عليه الكفر، وهو أن البارئ عز وجل [بكون*] الأزل فاعلا فيلزم عليه قدم العالم، [وعدم حدوثه*] [وحرر*] في كتاب القيد من ذلك مسائل كثيرة، وعبر في تعملون بلفظ للتصوير.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧)﴾
الزمخشري: أي في (جَنَّاتٍ)، (و) أي (نَعِيمٍ) بمعنى الكمال في الصفة، أو في جنات ونعيم مخصوص بالمتقين، انتهى، أراد أنه إذا صدق مقيدا صدق مطلقا، كما قال المنطقيون في سفينة من حجراتها يصدق عليها سفينة، وقوله (فِي جَنَّاتٍ)
مجاز لأنهم الآن ليسوا فيها إذ الخطاب للكفار أو للمتقين في الدنيا، وعطف (نَعِيمٍ) من عطف الصفات، كقولك: أعجبني زيد وحسنه.
فإِن قلت: لم قال هنا: (وَنَعِيمٍ)، وفي الذاريات (وَعُيُونٍ)، فالجواب: أنه تقدم هنا ذكر العذاب فناسب تعقيبه بذكر النعيم بخلاف تلك.
قوله تعالى: ﴿وَوَقَاهُمْ... (١٨)﴾
الأرجح كون الواو للحال؛ لأن كونها للحال سلم من تقديم جلب الملائم على دفع المؤلم، وإن كان المعنى إنهم لَا يدخلون النار بوجه فيكون المراد بالمتقين المعنى الأخص [والأعم*] المراد به الأعم، أو المراد بالجحيم طبقات من طبقات جهنم.
قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا... (١٩)﴾
[ظاهره حقيقته*]، وحمله الفخر على التنعيم المعنوي وهو نزعة فلسفية، وفي الآية سؤال وهو أن الأمر الخارجي مقدم على الأمر [التكميلي*]، وجاءت الآية على العكس فقدم فيها التفكه الجاري مجرى الأمر التكميلي على الأكل والشرب الجاري مجرى الضروري، وجوابه أن المعنى كما تقدم أنهم يخالطون بأن يقال: (كُلُوا) زيادة في تفكههم والأكل حاصل لهم قبل التفكه وهو أعم من أكل التفكه والأكل ضروري.
قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
نص في صدق العمل على القول والفعل، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، وجعل ابن عطية الزيادة في الدرجات باعتبار العمل ونفس دخول الجنة فضلا من الله تعالى، وهو [تحكم*]، وهلا كان الأمر بالعكس، فإِن قلت الحديث: "لن يدخل الجنة
بعمله" هنا معناه نفي استقلال العمل بإيجابه دخول الجنة بل به مع كونه فضلا من الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ... (٢٠)﴾
جاء على هذا الترتيب الوجودي في الدين؛ لأن أهم الأمور على الإنسان الأكل والشرب، ونص الأطباء على أن الوطء عقب ذلك في غاية [القوة*]. للبدن فهم يأكلون ثم يستريحون باتكاء ثم ينالون من أزواجهم، وقوله تعالى: (عَلَى سُرُرٍ) إما على التوزيع أو على كل واحد سرر.
قوله تعالى: (بِحُورٍ عِينٍ).
ابن عطية: قرئ بالإضافة، والحور هي البيضاء الشديدة [بياض العين والشديدة سوادها*]، انتهى. فهو من إضافة الأعم إلى الأخص ومن إضافة الموصوف لصفته، وفي سورة الأحزاب (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) [فعداه*] بنفسه، وعدَّ أبو حيان: هذا الفعل من أخوات اختار واستغفر، ذكر ذلك في سورة الأعراف، وفي آخر سورة يونس.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... (٢١)﴾
قال بعضهم: المراد (الَّذِينَ آمَنُوا): المتقون المتقدم ذكرهم المتصفون بأخص الإيمان لَا بأعمه، ولو كان المراد الأعم لزم الترجيح من غير مرجح، والثاني باطل فالمقدم مثله بيان لملازمة أن المعنى المجهول عليه للإلحاق وهو الإيمان، فإذا فرض مساواته للتقوى فليس إلحاق الذرية بالآباء بأولى من العكس.
فإذا قلنا: الإيمان أعم من التقوى لم يلزم الترجيح من غير مرجح لأن الأخص أقوى، وجوابه: لَا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح بل المرجح سبقية إيمان الآباء لأن زمن إسلام الجميع غير متحد وأيضا للآباء شرف التقدم في الوجود وفي جامع التنبيه في سماع أصبغ، وعن ابن القاسم في ولد المسلمين يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل، قال: ما سمعت فيه شيئا إلا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا
80
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ) وأرجو أن يجعله الله منهم، فأما من أسلم وجرى عليه القلم ثم أصيب بعد ذلك، فقال بعض أهل العلم والفضل: يطبع على عمله بمنزلة من قد مات. ابن رشد ما رجاه ابن القاسم من إلحاقهم بآبائهم، يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته وإن لم يبلغها في العمل ليقر بهم عينه"، ثم قرأ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ) الآية.
ابن العربي في أحكام القرآن: فأما اتباع الصغير لأبيه في أحكام الإسلام فلا خلاف فيه، وأما تبعيته لأمه فاختلف فيه العلماء أو [اضطرب فيه قولهم*]، والصحيح أنه في الدين تبيع من أسلم من أبويه، للحديث الصحيح عن ابن عباس، أنه قال: "كنت أنا وأمي من المستضعفين من المؤمنين" [وذلك أن أمَّه أسلمتْ قبل أبيه العباس، فتبِع أمَّه في الدِّين"*]. ["هذا خلافُ ما في كتاب الديات من "المدونة"، قال فيه: "مَن أسلمتْ تحت نصراني ففي جنينِها ما في جنينِ النصرانية، وذلك نصفُ عُشُرِ ديةِ أبيه"*] انتهى. وظاهر الآية إلحاقُ جميع الذرية [وإنْ بَعُدُوا، لقوله (ذُرِّياتِهِمْ) بالجمع،*]، وأفرد في قوله: (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) وهذا في الدار الآخرة، وليس في الآية دليل على أن المرء يلحق الأكرم [والأرفع*] من جهة جدِّه لأمه في الدنيا.
وقال بعضهم: الآية تدل على عدم الولد بالأب في الدين لأنها اقتضت أن الولد لا يلحق بالأب بمجرد الإيمان بل [بإيمان*] عظيم؛ لأن التنكير في الإيمان للتعظيم.
قوله تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
احتراس من مثل مذهب المرجئة؛ لأنه لما ألحقت الذرية بالآباء في الثواب فقد يتوهم المتوهم أنه لَا يضر مع ذلك من المعاصي فأتى بهذا الكلام احتراسا، وكان المناسب أن يقول: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) فعدل عنه لما ذكرنا، ويحتمل كونه من [المرسل التمثيلي*] لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وفي سورة المدثر (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) فإن كان الزمان واحداً فهذا عام مخصوص بتلك، وإن كان مختلفا فيكون زمان هذه متقدما فيكون في الحشر وعند الحساب ومرتهنين بأعمالهم، ثم بعد ذلك يدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار.
81
وقال بعضهم: إن هذه الآية تدل على أن الذرية [الملْحَقين بالآباء*] هم الذين آمنوا وماتوا على الإيمان وهم غير عاصين أو عاصين تائبين، وأما غير التائبين فإنهم لا يلحقون بآبائهم بل (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
فإِن قلت: هل تدل الآية على الكسب الذي ينسبه أهل السنة للعبد؟ قلت: لَا لأن الكسب هنا مما يذكرونه، فإِن قلت: لم عدل عن صريح المطابقة فلم يقل بما عمل رهين، كما قال تعالى (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فالجواب: أن العمل أعم والكسب أخص، [ولَا يطلق إلا على عمل المكلف*]، ولما كان الأول اتصافا [وتقريرا لنعم الله*] وفضله على العبد ذكر العمل الذي هو أعم، إذ هو أبلغ في مقام الامتنان ولما كان الثاني في معرض التهديد علقه بالأخص.
قوله تعالى: ﴿وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢)﴾
جاء هذا مطلقا، وفي سورة الواقعة (وَلَحْمِ طَيْرٍ)، فيحتمل هذا الإطلاق [أن*] يقيد بتلك، وفي ذكر الفاكهة، واللحم أنه جاء بأن طعام الجنة إنما هو للتفكه، لأنه لَا يطلب اللحم والفاكهة، إلا من شبع وأراد التفكه.
فإِن قلت: هلا قيل: ممن يشتهى، فهو أعم وأبلغ، قلت: المراد حصول مرادهم في كل شيء.
قوله تعالى: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا... (٢٣)﴾
إن قلت: ذكر التنازع في شرب الخمر دون الأكل، قلت: لأن عادة [العرب بيسارة*] الأكل دون شرب الخمر، فذكر التنازع في الخمر المقتضي للاستنكار منها دون الطعام والماء جريا على المألوف، والتنازع أن يطلب كل واحد من صاحبه الكأس ليشرب منها، ثم لما كان التنازع قد يؤدي التشاجر بين النداء ما في الدنيا احترز منه، بقوله تعالى: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)، ولذا قيده إلى التنازع، بقوله: فيها دون ما قبله، فلم يقل: وأمددناهم فيها، إشارة إلى مخالفة حال الآخرة، لحال الدنيا، وأن التنازع السالم عن اللغو والقائم إنما هو في الجنة، وتنازعهم إنما هو في الخمر، لَا في الكأس، فهو من باب تسمية المحل باسم الحال فيه.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ... (٢٥)﴾
حمله ابن عطية على الإقبال الحسي، والصواب حمله على الإقبال المعنوي، لأن الأول فيه كلفة عليهم باعتبار القيام والمشي.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا... (٢٦)﴾
(إِنَّا) تفسير لـ يتساءلون، فيكون السؤال [إما*] مجازا لأنه طلب، وهذا خبر، وإما تفسير للازم السؤال وهو الجواب، ويؤخذ من الآية جواز التحدث على الطعام.
قال ابن عبد البر في جامع "الاستذكار": إنه مستحب، قال: [وتركه من فعل [المجوس*]، وكذا قال المحقق النووي: رحمه الله في الأذكار وحجة الإسلام الغزالي رحمه الله: أنه مستحب انتهى، ويتحدث بما يناسب لَا بما [لا يُكَدِّرُ الأكلَ مما يُستَقْذر"*]، وإذا رأى لَا يذكر له حديث "المؤمن يأكل في معيٍّ واحد".
قوله تعالى: (فِي أَهْلِنَا).
إن قلت: ما أفاد؟ قلت: لأن الكون في الأهل مظنة الغفلة والذهول، ولفظة (كان).
ذكر ابن الصفار: أنها تقتضي الدوام لذاتها.
وذكر ابن خروف: أنها لَا يلازمها الدوام.
وكذا قال الباجي: إنها قد ترد للدوام.
قال [الباجي*] في كشف الحقائق: إنها قد ترد لله للدوام وتأكيدهم ذلك، بأن مع أنه لَا منكر حينئذٍ [... ]، إما لأن ترتب ذلك التعبير جزاء عن السبب الذي قدموه في الدنيا مستبعدا؛ لكثرة النعيم بالنسبة إليه، وإما للبون بين حالتي الدنيا والآخرة، وأنهم لكثرة أموال الآخرة يذهلون عن جميع ما [كانوا*] عملوه في الدنيا.
قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ... (٢٩)﴾
قيل: فما فائدة الإتيان بالفاءين مع أن مدلول فعل الأمر بدونهما يرد [مدلولهما*]؟ وأجيب: بأنه لما تيسرت أحوال الفعل بالنسبة إلى المادة، وحال الفاعل كان الفاءان مسببين عن هاتين الحالتين، أما كون المادة ميسرة، فهو أن أسباب الهداية كانت [للنبي*] صلى الله عليه وعلى آله وسلم سهلة، كأنه طبع على ذلك، وأما حال الفاعل فهو كمال العلم، والعقل، ولذا نفى [عنه الكهانة والجنون*]، لَا على الخبر، والنعم قسمان: نعم
رفع المفاسد، ونعم جلب المصالح، ونعم الدفع [أعظم*] وآكد من نعم الجلب، وهي المذكورة في الآية فعدم الجنون [راجع*] إلى الدنيا، وعدم الكهانة راجع إلى الدين.
قوله تعالى: ﴿أَمْ... (٣٠)﴾
أبو حيان: منفصلة، وحكى فيها ابن الصائغ ثلاثة أقوال: المشهور فيها تقدر بـ بل والهمزة، وذهب الكسائي إلى أنها تقدر بـ بل خاصة، وذهب فيه غيره إلى أنها [تقدر*] بالهمزة خاصة.
قوله تعالى: (نَتَرَبَّصُ بِهِ).
خصص التربص هنا بوصف الشعر، وفي آية أخرى بقي على وصف الجنون في قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)، وهذا كلام من [خبر علم المناظرة*].
قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي مَعَكُمْ... (٣١)﴾
لم يقل: فإني بكم؛ كما قالوا به إشارة لعدم المبالاة بهم، أتى (مع) المقتضية للمشاركة لهم في تربصهم به، ويكون من باب القول بالموجب، والمعنى أقول موجبه [**ولكن] تربصكم بانتظاركم ما يسوؤكم.
قوله تعالى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٣٢)﴾
الفخر: (أَمْ) هنا متصلة بعطف المتصلة عليها، إذ لَا يصح تقديرها بـ بل انتهى، راعى المعنى، وغفل عن قواعد النحو، فإن المتصلة لَا يليها إلا المفرد، وهذان بعدهما الجملة فهما منفصلتان، تقدر أن بـ بل والهمزة، وإنما يلزم ما قاله عند من يقدره بـ بل فقط، لأنه يفسد المعنى حين إذ وأما على تقدير بل والهمزة فيهما، فالمعنى صحيح لأنا لم نثبت لهم بل الاستفهام في معنى النفي، ومعنى الأول: أنهم جاهلون جهلا مركبا، أو جهلا بسببها، ثم قال (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، أي كافرون طغيانا وعنادا.
فقول الزمخشري المنقول أشد من الكذب انتهى، بيان قوله أشد أن الكذب [الخلف*] فيه من جهة واحدة، [والخلف*] في المنقول من وجهين يتناوله أن القائل: حدثني زيد بكذا الحديث يرويه زيد، ولكنه لم يحدث به هو كاذب، فإن قاله في حديث لم يروه زيد، بل إنما رواه عمرو فهو منقول على زيد، لأنه كذب في أمرين: هما نسبته إليه ما لم يروه، وفي تقوله عليه أنه حدثه به، ولم يحدثه به.
قوله تعالى: ﴿بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)﴾
عام مخصوص، لأن منهم من آمن، وإن أريد به من حضر في دار الندوة، فهو باق على عمومه.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ... (٣٤)﴾
في فصاحته وإعجازه، قال شيخنا رأيت للمعري تواليفا وأشعارا في غاية الفصاحة، ورأيت له تأليفا في معارضة القرآن في غاية السقوط والغثاثة، ويكاد ألا يكون من قوله، عارض فيه السور التي في المفصل ومن نظر [معارضة*] سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، يستهزئ، وهذه ضحلة، وذكر إمام الحرمين في الإرشاد معارضة القرآن، وعد منها سورا، ونقل في المعارضة كلاما يكاد أن لَا يقوله ناقل.
وقال المازري في كتاب الفضائل من العلم: في حديث أنس، جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعة كلهم من الأنصار، معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، لَا يتوهم من لفظ الحديث شبهة للملاحدة المنكرين لتواتر القرآن، وقد اعتمد عليه بعض المتنصرة، وصنف تصنيفا في كثير من الآيات والأحاديث زعم تناقضها.
وحكي أن المازري: كان يوما بمجلس تدريس وبه طاقة يدخل شعاع الشمس، فإذ شيء في تلك منع منها دخول الشعاع، فرفع المازري رأسه فإذا هو سفر فنظره، فوجده الكتاب المسمى بالواضح، الذي أشار إليه في المعلم، فسأل عنه، فقيل: إنه كان ينصر بعض من كان يقرأ العلم، ووضع هذا الكتاب، فشوش على النَّاس، فأراد المازري أن يضع عليه رداء وتوقف عن ذلك لأن نصرانيا كان يتقرب من أمير بلده، وهو المعري، فخاف على نفسه منه، لأنه لم يرد ذلك ثم بعد ذلك أمره الأمير يحيى بن المعز، أن يضع عليه تأليفا، وقال: أنا أضمن لك ردك الأمير ففعل، وسماه زجر النابح في الرد على الكتاب المترجم بالواضح، وإنَّمَا قال المترجم: تبرأ من الإخبار بوضوحه، كذا نص عليه، وللشيخ أبي إسحاق بن عبد الرفيع رد على كتاب المنتصر المذكور فإنه لما رأى المازري أحال عليه في شرح التلقين في المعلم، وصرح به في شرح الجوزقي تشوفت نفسه إلى الوقوف عليه قال: فما وجدت إليه سبيلا بإفريقية، فأرسل إلى بلاد المشرق، فبعث له بأصل المنتصر دون رد المازري، [فنهض*] الشيخ إلى الجواب بأن يذكر الآيات المشكلة في الظاهر، وتفسيره تفسيرا يدفع الاعتراض، ولا يذكر لفظ المعترض تنزها منه، وهذه طريقة شيخنا ابن
عرفة: في تفسيره للقرآن، وذكر لنا هذه الحكاية في تفسير قتل موسى للقبطي في سورة القصص.
وحكى ابن عطية: عياض في الشفاء القول بالصرفة وعد أنهم قادرون على معارضته، ثم صرفوا من ذلك، ولكنه شاذ وصرفهم عنه ببعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن نظر خطب الفصحاء الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لَا يجد فيها ما يبلغ إلى نظم القرآن وإعجازه وفصاحته بوجه، وظاهر هذه الآية أنهم أمروا أن يأتوا بآية أو بعض آية [لقول مثله*]؛ خلافا للأصوليين القائلين بأنهم لم يؤمروا ببعض آية.
وقول بعضهم: إن أقل ما أمروا به سورة، يرد بأن السورة مطلقة في جميع السور، فيصدق على البقرة، وكذا قولهم أن أقل ما أمروا به آية، لأن الآية مطلقة تصدق على [آية الدَّين*]، وهي كثيرة؛ بل أقل ما أمروا به بفعل آية، وقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ).
قال القاضي عياض: الإنسان كثيرا ما يستطيع العبارة عن ما يريده ولا يقدر على العبارة عما يطلب منه إلا القليل من النَّاس، فعجز الكفار عن الإتيان بمثله مفترى على أي معنى يريدونه لَا على معنى تقدم وسبق، مع أنه أهون، فدل على اتصالهم بغاية العجز انتهى، ولهذا لما قدم الحريري صاحب المقامات على بغداد ذكر له أمرها وقائع وأخبارا وأمورا، وطلب أن يدخلها في ترسلات يكتب فيها إلى البلاد فعسر عليه ذلك، ثم إنه أنشأ ذلك، فلما استكمله وعرضه على الأمير، بمحضر الكتاب وأهل الإنشاء، سقط من أعينهم واحتقروه لقبح ما جاء به عندهم، لأنه لما أنشأ المقامات إنشاء على معان نقلها من عند نفسه، وهذه إنشاءات على معان طلبت منه، فلا يقدر عليها إلا الإمام النحرير.
وقول الفخر في الآية دليل على من يقول أن القرآن مخلوق، لأنهم دعوا إلى الإتيان بمثله، يرد بأن المعجزة من شرطها عندنا الحدوث، والإعجاز لَا يقع إلا بالحادث، فلا دليل في الآية، وتحقيق ذلك أن القراءة مخلوقة، والقرآن قديم، ومنهم من [**أطلق الخلق على القرآن بمحضر القوم سدا للذريعة]، وهو مذهب عبد الله بن محمد الذهلي، شيخ البخاري، ومنهم من لم ير بذلك بأسا، وهو مذهب مسلم والبخاري، ومن أجله [**لما مع الذهلي القضية المشهورة]، ذكرها الخطيب في تاريخ بغداد.
قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ... (٣٥)﴾
ابن عطية: قيل: [أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه*]، أي هم أحياء وبلا أرواح لتصميمهم على الكفر، وعدم إنابتهم واعتبارهم، وقيل: [أم خلقوا لغير علة*] انتهى، هذا اعتزال أغفله ابن عطية، فإِن الله سبحانه وتعالى لَا يفعل شيئا لعلة ولا لغرض.
فإِن قلت: أطلق العلة على البارئ جل وعلا، والمراد (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ) موجد أي من غير خالق، قلت: لَا يصح تسمية البارئ سبحانه علة، والصحيح أن المعنى من غير خالق، لأنهم لما عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن وأداموا على تكذبيهم لم يكن تكذيبهم راجعا إلى الرسالة، بل إلى ما تتوقف عليه، وهو وجود المرسل، فرد عليهم ذلك بأنه يلزمهم أن يكونوا خلقوا من غير خالق لذاته، ولا خالق استقلالا، ولا خالق لَا لغيره، فنفي الخالق لذاته بقوله (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ)، واستقلالا بقوله (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، أي مستقلون بخلقهم أنفسهم، والخالق لغيره بقوله (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، أي ألم يخلقهم أحد؛ بل أخلقوا أنفسهم، قيل: أخلقوا غيرهم، وقد تقرر أن المتقدمين يجعلون صحة الرسالة متوقفة على وجود المرسل ووحدانيته، والمتأخرون يجعلونها متوقفة على وجوده فقط، وهو اختيار الفخر، والمقترح فيثبتون الوحدانية بالسمع.
وقوله تعالى: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ).
وقال الشيخ ابن عبد السلام: إضراب إبطال وأبطل الملزوم بثبوت اللازم، لأن لازم قولهم أنهم هم الخالقون.
وقال الشيخ ابن عبد السلام: المعنى أم خلقوا لغير شيء، ولا تكون من لابتداء الغاية، لأنهم خلقوا من غير شيء، لإيجادهم عن العدم.
قوله تعالى: ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٣٦)﴾
إن قلت: اليقين أخص من العلم، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، [قال*] لا قيل: لَا يفعلون، فالجواب: [إنما*] اليقين المراد به: العلم الضروري، ومعناه من العلم النظري ينبني على [مقدمات ضرورية*] وهو لَا يسلب عنهم العلم الضروري، فأحرى أن ينتفي عنهم العلم النظري بعدم اهتدائهم، لكونهم في مقام من لَا يميز ولا يفعل، ولو نظروا في أنفسهم، وفي خلق السماوات والأرض التي إدراكها وحدوثها وتغيرها ضروري لحصل لهم العلم بأن لها خالقا ومحدثا، وأنه موجود، فلما تركوا ذلك صاروا كالجاحدين لوجود الصانع، فجحدوا ما هو معلوم بالضرورة؛ لأن دعواهم أنهم هم الخالقون لأنفسهم، أشنع من دعوى خلقهم أنفسهم نفي الخالق لهم
بالأصالة، وادعوا أنهم خلقوا السماوات والأرض، أشنع من دعوى خلقهم أنفسهم، لأن خلقهم أنفسهم أمر نظري؛ بدليل مخالفة المعتزلة في بعض ذلك، لقولهم: إن العبد يخلق أفعاله، ودعوى أنهم خلقوا السماوات والأرض يعلم كل عاقل بطلانها للضرورة، إذ لم يخالف في ذلك أحد.
فإن قلت: لم يقل أحد بنفي الخلائق أصلا؟ قلت: ذكر ابن الخليل في مناظرته أن الباقلاني رأى بعض الدهرية وناظرهم.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ... (٣٨)﴾
أسند الاستماع أولا إلى جميع الكفار، [وأخرى*] إلى بعضهم؛ لأن جميعهم يطلب الاستماع، فلا يصل إليه [إلا*] بعضهم، وإنَّمَا الحاصل لهم إنما هو استماع إن حصل لا علم.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ... (٣٩)﴾
أتى بضمير الغيبة [لخسة*] المعادل له، وإلا فالأصل التكلم، وظاهر الآية تشريف مقام الجلالة عليهم.
وقال ابن عطية: الآية تشريف وتعظيم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتفضيل [له*] عليهم.
قوله تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠)﴾
عبر أولا بلفظ المغرم بالنسبة إلى مقامهم واعتقادهم بطلان ما أتاهم به، ويؤخذ عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن فيه إهلاك بالمغرم، لأن بعض النَّاس يتعذر عليه ما يعطي للمعلم.
قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢)﴾
عبر بالاسم الظاهر، ولم يقل [فهم المكيدون*] ليفيد العموم في كل من اتصف بصفاتهم؛ وليخرج بذلك من أسلم منهم، [فلا يكون مكيدا*].
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ... (٤٣)﴾
هم [مقرون*] بوجود الله [المقر بوجود*] نعمته، فلما ادعوا الشريك كان من لوازم ذلك نفي الآلهة، ويؤخذ منه أن لازم المذهب مذهب.
قوله تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
تأكيد نفي الشريك، والظاهر في ترتيبه هذه المعطوفات، أنه على حسب الواقع منهم في التقديم والتأخير، وكرر (أم) هنا في خمسة عشر موضعا، وهي إما أن كلها جمل مستقلة، وإمَّا معطوفة، وقول من قال فيها وفيها بعيد.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا... (٤٤)﴾
هو إشارة إلى قوله في سورة الإسراء (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا)، فأخبر قوله تعالى: أنهم لَا يصدقون، ولو فعل لهم ذلك ولقالوا فيه (سَحَابٌ مَرْكُومٌ).
ونقل السفاقسي هنا عن أبي البقاء: (إن) بمعنى (لو) وتعقبه فإنها لم ترد بمعناها بوجه، ونقل شهاب الدين الحلبي في شرح ألفية ابن مالك: أنها ترد بمعناها، واحتج بحديث البخاري في الإحسان، قال: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
قال: وذلك لأن (إن) هنا ملغاة لم تنصب، نقله عن قول ابن مالك: أن لو حمل على أن في الشرطية، وأن تحمل على لو في الإلغاء، ولم يذكر هذا ابن هشام المصري في كتابه [مغني اللبيب*].
قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا... (٤٥)﴾
ابن عطية: [هذه مشاركة منسوخة بآية السيف*] انتهى، قيل: هذا [في*] سياق الثبوت، وهو مطلق يصدق بأدنى الأزمنة، وأجيب بأن أبا حنيفة، وغيره يقولون: إنه عام، وأيضا فالغاية تدل على عمومه.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ... (٤٦)﴾
قيل: إنما توهموا أن كيدهم يغني عنهم في الدنيا، وأما الآخرة فلم تخطر ببال لأنهم يجحدونها، ولا ينتفي إلا ما يدعيه الخصم، فكيف نفى عنهم الانتفاع بكيدهم في الآخرة؟ أجيب: بأن النفي على قسمين: تارة يتعلق بما هو ثابت باعتبار دعوى الخصم، وتارة يتعلق بما يقتضي الحال ثبوته، والنفي هنا تعلق [بالثاني*] لَا بالأول، لأنهم [لا*] ينتفعون به إلا في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ... (٤٧)﴾
أي قريب الوقوع لَا أخف، كما قال الفخر: إذ لَا يناسب مقام الوعيد والإنذار.
قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
(الأكثر) إما على بابه أو بمعنى الجميع، وعاقبهم على الجهل لتمكنهم من العلم.
قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... (٤٨)﴾
الحكم قسمان:
أحدهما: الإرادة القديمة الأزلية.
والثاني: متعلقها وآثارها.
قوله تعالى: (بِأَعْيُنِنَا).
جمع هنا الأعين، وفي سورة طه (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)،
والجواب: أن الخطاب [هناك*] لموسى صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم، والخطاب هنا لنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والجمع زيادة في حفظه وتعليمه.
وقال الزمخشري: جمع الأعين هنا لإضافتهما إلى ضمير الجمع، وأفردها في طه، لأن الإضافة إلى مفرد.
* * *
Icon