تفسير سورة الصف

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الصف من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام على قوله تعالى :﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ غير مرة بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ إنكار على من يعد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف، إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان »، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، وقوله تعالى :﴿ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ [ محمد : ٢٠ ] الآية، وهكذا هذه الآية كما قال ابن عباس : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عزّ وجلّ دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيّه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا بالإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ ؟ وقال مقاتل بن حيان : قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً ﴾ فبين لهم، فابتلوا يوم أُحُد بذلك فولوا عن النبي ﷺ مدبرين، فأنزل الله في ذلك :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾، وقال قتادة والضحّاك : نزلت توبيخاً قوم كانوا يقولون : قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا؛ ولم يكونوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد : نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك، وقال مجاهد : نزلت في نفر من الأنصار فيهم ( عبد الله بن رواحة )، قالوا في مجلس : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت؟ فأنزل الله تعالى هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة : لا أبرح حبيساً في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيداً.
ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عبادة المؤمنين، إذا صفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، و دينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
2544
« ثلاثة يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل، و القوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال » وقال مطرف :« كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت : يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك، فقال : لله أبوك، فقد لقيت فهات، فقلت : كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله ﷺ حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة، قال : أجل فلا أخالني أكذب على خليلي ﷺ، قلت : فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عزّ وجلّ؟ قال : رجل غزا في سبيل الله خرج محتسباً مجاهداً، فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل، ثم قرأ :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ » وذكر الحديث. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً ﴾ قال : كان رسول الله ﷺ لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين، وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ أي ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال، وقال مقاتل بن حيان : ملتصق بعضه إلى بعض، وقال ابن عباس :﴿ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض، وقال ابن جرير، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض لقول الله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ قال، وكان أبو بحرية يقول : إذا رأيتموني التفت في الصف فجأوا في لحيي.
2545
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه ( موسى بن عمران ) عليه السلام أنه قال لقومه :﴿ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ﴾، لم توصلون الأذى إليَّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسلية لرسول الله ﷺ فيما أصابه من الكفَّار، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ﴾ أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى :﴿ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ [ النساء : ١١٥ ]، ولهذا قال تعالى في هذه الآية :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ﴾ يعني التوراة، وقد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي ( أحمد ) فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري، عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب » قال ابن عباس : ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد، لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أُمّته لئن بعت محمد وهم أحياء ليتبعه وينصرنه.
وقال محمد بن إسحاق، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال :« » دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصى من أرض الشام «، وقال رسول الله ﷺ :» إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة إبي إبراهيم وبشارة عيسى بي، ورؤيا أُمّي التي رأت وكذلك أُمَّهات النبيين يرين « » وروى أحمد عن أبي أمامة قال، قلت :« يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال :» دعوة إبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام « وقال عبد الله بن مسعود : بعثنا رسول الله ﷺ إلى النجاشي ونحن نحوِّ من ثمانين رجلاً، منهم ( عبد الله بن مسعود )، و ( جعفر ) و ( عبد الله بن رواحة ) و ( عثمان بن مظعون ) و ( أبو موسى ) قأتوا النجاشي، وبعثت قريش ( عمرو بن العاص ) و ( عمار بن الوليد ) بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له : إن نفراً من بني عمّنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا، وعن ملتنا، قال : فأين هم؟ قالا : هم في أرضك فابعث إليهمن فبعث إليهمن فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلّم ولم يسجد، فقالوا له : مالك لا تسجد للملك؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عزّ وجلّ، قال : وما ذاك؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا أن لا نسجد إلا لأحد إلا لله عزّ وجلّ، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأُمّه؟ قال : نقول كما قال الله عزّ وجلّ : هو كلمة الله، وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يعترضها ولد، قال، فرفع عوداً من الأرض، ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجده في الإنجيل، وأنه الذي بَشَر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمد نعليه، وأوضئه، وأمر بهدية الآخرين فرُدَّت إليهما.
2546
والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أُممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث، وكان أول ما اشتهر الأمر في أهل الأرض، على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكّة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم وكذا على السان عيسى ابن مريم، ولهذا قال :« دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أُمي التي رأيت » أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك، والإرهاص، فذكره صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى :﴿ لَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ قال ابن جريج، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم ﴾ أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون ﴿ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾.
2547
يقول تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام ﴾، أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، ويجعل له أنداداً وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص، ولهذا قال تعالى :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾، ثم قال تعالى :﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفىء شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذلك مستحيل، ولهذا قال تعالى :﴿ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون * هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾، وقد تقدّم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
فسَّر الله تعالى هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى :﴿ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها، ثم قال تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وأخرى تُحِبُّونَهَا ﴾ أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي ﴿ نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم، قال الله تعالى :﴿ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ الحج : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ أي عاجل، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾.
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين، أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى، حين قال :﴿ مَنْ أنصاري إِلَى الله ﴾ أي من معيني في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ﴿ قَالَ الحواريون ﴾ وهم أتباع عيسى عليه السلام ﴿ نَحْنُ أَنصَارُ الله ﴾ أي نحن أنصارك على ما أرسلت به، وموازروك على ذلك، وهكذا كان رسول الله ﷺ يقول في أيام الحج :« من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي » حتى قيض الله عزّ وجلّ له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه، وفوا له بما عاهدوا الله عليه، ولهذا سماهم الله ورسوله ( الأنصار ) وصار ذلك علماً عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم. وقوله تعالى :﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ ﴾ أي لما بلغ عيسى ابن مريم ﷺ رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به وضلت طائفة، فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقاً وشيعاً، فمن قائل منهم : إنه ابن الله، وقائل : إنه ثالث ثلاثة ( الأب والابن والروح القدس ) ومن قائل : إنه الله، وكل هذه الأقوال مفصلة في صورة النساء، وقوله تعالى :﴿ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ ﴾ أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى ﴿ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾ أي علهيم وذلك ببعثة محمد ﷺ. قال ابن عباس :﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ ﴾ يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى ﴿ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾ بإظهار محمد ﷺ دينهم على دين الكفار، فأُمّة محمد ﷺ لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح ابن مريم عليه السلام كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
Icon