قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ يَقُولُ: "ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا" وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَيَقُولُ: "ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا" وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا"، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًة بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرًا: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ*].
قلت: في الحديث دليل ظاهر على بيان ترتيب الآي والسور.
الزمخشري: وعن أبي وهب: إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر اليهود وفي براءة نبذ اليهود، الطيبي: الأول إشارة إلى قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)، والثاني: ما ذكره في آية السيف.
(١)
الزمخشري: فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين.
الطيبي: كان المناسب ترتيب المعاهدة والبراءة كليهما إما إلى المؤمنين معا، أو إلى ذاته عز وجل معا، قال: ما سبب [الترتيب*]، [ولماذا*] [خص*] البراءة بالله ورسوله مع أن المعاهدة مع المسلمين، وحق البراءة أن تنسب إلى المعاهدة؛ لأن الله تعالى أذن في المعاهدة فكأنه خاص وبريء، وأجاب الزمخشري بأن ذلك إعلام بحسب الوقوع وترتيب الوجوه، أذن الله لرسوله والمؤمنين أولا بالمعاهدة فعاهدوا ثم لما نقض المشركون العهد خبره الله إعلاما آخر، وقال: اعلموا أن الله ووسوله بريء منهم فتبرأوا منهم أنتم أيضا، ويمكن أن يقال: المعاهدة لم تكن إلا بإذن الله وإباحته، فلما نبذ المشركون العهد نسب الله تعالى البراءة إلى نفسه وضم معه ذكر الرسول غضبا عليهم وتهديدا شديدا فيطلق عليه قول الزمخشري أولا أذن الله، وثانيا: أوجب الله النية]، وقال صاحب الانتصاف (١): فيه شيء وذلك أنه لا يستند العهد إلى الله تعالى في مقام توهم فيه شائبة النقص إجلالا وتعظيما لكبريائه، ألا ترى وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمير السرايا، فإذا نزلت [بحصن فطلبوا*] النزول على حكم الله
"وراء ما ذكره سر آخر هو المرعي، والله أعلم. وذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين، لا تحسن شرعا. ألا ترى إلى وصية رسول الله ﷺ لأمراء السرايا حيث يقول لهم: وإذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر، فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه، والله أعلم» " اهـ (الانتصاف. ٢/ ٢٤٢).
الزمخشري: قال علي يوم النحر، قال: أمرت بأربع:
أن لَا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا [كل*] نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده.
الطيبي: قوله: أمرت بأربع؛ أي أن أنادي بأربع، فإن قلت: ما فائدة النداء بقوله: ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، قلت: الإعلام بأن المشرك لَا يقبل منه بعد هذا غير الإيمان، لقوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ) إلى قوله (سَبِيلَهُم) وهو من باب [لا أرينك هاهنا*]؛ يعني أمرت بأن يتصفوا بما [يستحقوا*] به أن يكون أهلا إذ لَا يقبل منهم سواه].
قوله تعالى: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ... (٢)﴾
إما أن يكون في الكلام حذف أي فقيل لهم: سيحوا، وهذا التفات خرج من الغيبة إلى الحضور وجعل الفرد في هذه الأربعة الأشهر المذكورة مناهي الأشهر الحرم المعلومة وليس كذلك.
قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ... (٣)﴾
عبر بالأذان دون الإعلام لما في الآذان من الاستغفار برفع الصوت.
الزمخشري: ارتفاعه كارتفاع براءة ولا وجه لقول من قال: معطوف على براءة، كما يقال: عمرو معطوف على زيد، في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد.
الطيبي: ولقائل أن يقول: لم لَا يجوز أن يعطف على (براءة) على أن يكون من عطف الخبر على الخبر؛ لكن الأحسن كونه من عطف الجمل لئلا [تخلو*] من الحصر [بين*] جمل كثيرة أجنبية، ويفوت التطابق بين المبتدأ والخبر تأنيثا وتذكيرا.
الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية، قلت: تلك إخبار ثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالنَّاس؟ قلت: لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام بجميع النَّاس من عاهد ومن لم يعاهد،
الزمخشري: حذفت الفاء التي هي صلة الأذان تخفيفا؛ يعني أن التقدير: فإِن الله بريء، قال: وقرئ إن بالكسر لأن الأذان في معنى القول، ورسوله عطف على المنوي [في*] (بريء)، أو على محل إن المكسورة.
ابن هشام المصري: العطف على المحل له عند المحققين ثلاثة شروط:
إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح، فلا يجوز: مررت بزيد وعمرو خلافا لابن جني؛ لأنه لَا يجوز مررت زيدا، وأما تمرون الديار فضرورة، وأجاب الفارسي في قوله تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) أن يكون عطفا على محل هذه.
الشرط الثاني: أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز في ضارب زيدا وأخيه لأن الوصف المستوفي لشروط العمل، الأصل إعماله وأجازه البغداديون.
الشرط الثالث: وجوز المجوز أي الطالب بذلك المحل على هذا يمتنع مسائل منها أن زيدا قائم وعمرو إذا قدر معطوفا على المحل لَا مبتدأ؛ لأن الطالب لرفع زيد هو الابتداء الذي هو التجرد، وقد جاء بدخول أن وأجاز هذا بعض البصريين؛ لأنهم لم يشترطوا المجوز، وأجازه الكوفيون ولم يشترطوا المجوز.
قال: ومن الغريب قول أبي حيان إن من شرط العطف على الموضع أن يكون المعطوف عليه لفظ وموضع، فجعل صورة المسألة شرطا، ثم إنه أسقط الشرط الأول الذي ذكرنا، انتهى.
أبو البقاء: لَا يجوز عطف (وَرَسُولُهُ) على موضع أن المفتوحة؛ لأنها بتأويل المفسرة.
ونقل الطيبي، عن ابن الحاجب، أنه قال: النحاة يطلقون هذا، وليس بصحيح، قيل: هي قسمان، فإن كانت في تأويل الجملة صح العطف: كعلمت أن زيدا قائم وعمرو بالرفع؛ لأنه في تقدير أن زيد قائم وعمرو؛ بدليل أنك إذا قلت: علمت أن زيدا لقائم بكسر أن تدل على أنها في تأويل الجملة.
وإما يمتنع العطف في مثل: عجبت من أنك قائم إذ لَا يصح تقديره بالجملة، انتهى. قوله إنها في معنى إن المكسورة إن أراد بها في تأولها لجريان المسند والمسند
قوله تعالى: (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ).
الزمخشري: عن التوبة، أو تبتم عن التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء، قلت: فعلى هذا التفسير الثاني يدل على أن الدوام كالإيتاء.
قوله تعالى: ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... (٥)﴾
فيه دليل على أن العام في الأشخاص غير عام في الأمكنة.
قوله تعالى: (كُلَّ مَرْصَدٍ).
الزمخشري: انتصابه على الظرف.
الطيبي على الانتصاف، ويحتمل أن يكون المرصد مصدر؛ لأن اسم الزمان والمكان والمصدر من فعله واحد، (وَاقْعُدُوا) في معنى ارصدوا، وتقرب الظرفية قوله (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم) ليطابق الظرفية في المكانين.
قوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ).
الفخر: احتج بها الشافعي على قتل تارك الصلاة، قال: لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقا، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة: وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فعندما يحصل هذا المجموع وجبت أن يبقى [إِبَاحَةُ*] الدم على الأصل، فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد [الْإِقْرَارَ بِهِمَا وَاعْتِقَادَ وُجُوبِهِمَا*] ويدل عليه أن [الزَّكَاةِ لَا يُقْتَلُ*]؟ فالجواب أن هذا عدول [عن*] الظاهر، وأما في تارك [الزَّكَاةِ*] فقد دخله التخصيص، فإن قيل: حمل الكلام على التخصيص؛ [أَوْلَى*] من حمله على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟ قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه مهما وقع التعارض بين المجاز [والتَّخْصِيصِ*] فإن [التَّخْصِيصَ أَوْلَى بِالْحَمْلِ*]، انتهى.
"ويمتنع عرفة العطف" بزيادة كلمة "عرفة" وهي إما زائدة أو مصحفة. والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ... (٦)﴾
الزمخشري: (أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمرا يفسره الظاهر؛ تقديره: وإن استجارك أحد.
الفخر: (١) فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَقِيقِيِّ؟، قلنا: الحكمة فيه ما ذكر سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم، ولما كان ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم كل واحد من المشركين، فقدم ذكره ليدل على مزيد العناية لصون دمه عن الإهدار، وفي الآية دليل على أن التقليد [غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ*]، وأنه لَا بد من النظر والاستدلال؛ لأنه لو كان التقليد كافيا لوجب أن لَا [يُمْهَلَ*]؛ بل يقال إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ [نَقْتُلَكَ*]، وليس في الآية ما يدل على مقدار هذه المسألة المهملة، ويرجع في ذلك إلى العرف بحسب حال الشخص، والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع الدلائل، والجواب عن الشبهات؛ والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك [الإجارة*] بكونه غير عالم، والمعنى [فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا*] للعلم مسترشدا للحق، وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت [إجارته*]، وليس في الآية ما يدل، هل المراد سماعه جميع القرآن أو بعضه؟ والظاهر ما يحصل لديه العلم غالبا، والحربي إذا دخل دار الإسلام كان [معصوما*] مع ماله إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي أو لتجارة أو رسولا أو ليأخذ ماله بدار الإسلام، وكما له أمان فأمان ماله أمان له، وانظر كلام مكي في الهداية في هذا الوجه حيث تكلم على إضافة كلام الله فهو مشكل؛ لأنه قال: إضافة [تخصيص*] بمعنى القيام به ليست إضافة ملك لملك ولا خلق لخالق، ولا إضافة تشريف؛ بل بمعنى إرادته غير متعدية عنه؛ فافهمه. قوله بمعنى إرادته؛ أي بمعنى إضافة الإرادة إليه في كونها غير متعدية عنه لا كما تقوله المعتزلة أنه تعالى خلق الكلام في السجود، هذا تقدير كلامه وبيانه على مذهب أهل السنة، وانظر ما ذكر أبو حيان من لزوم تقدير الضمير بعد حتى هو غير لازم بل القدر الفعل، ونص كلامه: حتى متعلقه بـ (أَجِرْهُ) ولا يصح تعلقها بـ (اسْتَجَارَكَ) على أنه من باب الشارع؛ لأنه لو أعمل الأول لَا ضمير في الثاني، وحتى لا يجر المضمر وعند من يجر بها يصح كونه من باب الشارع، انتهى.
"اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلَكَ فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَاهُ وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ بَاحِثًا عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أُمْهِلَ وَتُرِكَ وَمَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ دَافِعًا لِلزَّمَانِ بِالْأَكَاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ." اهـ (مفاتيح الغيب. ١٥/ ٥٣٠ ـ ٥٣١).
قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ... (٧)﴾
يترجح كون ما مصدرية بوجهين؛ أحدهما: الدلالة على اتصال الأمر بالاستقامة لهم في جميع مدة استقامتهم لنا.
الثاني: أن الأصل في القضايا [الحملية*] لَا الشرطية.
قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ (١٢)﴾
يؤخذ منها أن دين الكافر لَا يلزمه خلافا للمغيرة حكاه ابن رشد، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله (فَقَاتِلُوا) وبين قوله (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).
قوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ... (١٣)﴾
ابن عرفة: إن أريد إخراجه من مكة، فيكون في الآية تقديم وتأخير؛ لأن نكثهم إيمانهم بعد ذلك، وإن أريد من المدينة، فالآية على ترتيبها، وإنما لم يقل وهموا بإخراج رسولهم؛ لأنهم خالفوه من حيث كونه رسولا، فخالفوا الرسول [بالنكران وهو أشد*].
قوله تعالى: (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
ولم يقل: وهموا بإخراج الرسول، الفرق الحاصل بين الجملتين؛ لأن الجملتين الأولتين ترجعان إلى تكذيبهم بالرسول، والثانية: راجعة إلى قتالهم للمؤمنين، فهذه الثانية تحريض للمؤمنين على قتالهم، فإن قلت: ما أفاد قوله (أَوَّل مَرَّةٍ)، ولفظ البدء يقتضي الأولية، قال: فالجواب أن البداية تقتضي الكمية المنفصلة، لقولك: إذا كان بين بني تميم وبني قيس غير حروب، فتقول: بنو تميم هم البادئون بالقتال في الحرب الأول.
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ... (١٤)﴾
هذا صريح في مذهب أهل السنة القائلين بأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، ولما تقدم الأمر بالقتل بلفظ العرض والتحضيض عقبه بصيغة الأمر بالقتال ضربا، أو ذكر الأمر بالقتال ليرتب عليه الوعد بالنصرة عليهم في قوله (يُعَذِّبْهُمُ)، فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) بعد قوله (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)؟ قلت: لأنهم إذا عذبوا بأيديهم قد يساومهم فلا يغلبوا أو لَا يغلبوا.
يؤخذ منها أن العرض يبقى زمانين؛ لأن ذهاب الشيء يمكن ألا تعد حصوله فهو إذ استلزم لزمنين زمن الحصول وزمن الإذهاب، فإن قلت: لم أسند الغيظ إلى القلوب والشفاء للصدور، قلت: لما كان الغيظ سبب الحسد أو نحوه وهو مذموم شرعا وطبعا أسنده إلى محله وهو القلب خاصة تتغير عنه، ولما كان الشفاء محبوبا شرعا وطبعا أسنده إلى جميع الصدر وتخفيفا عليه، والشفاء أمر ملائم والغيظ أمر مؤلم، فسلك في الآية مسلك الترقي، قلت: ونظرة قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) أسند الزيغ للقلوب والهداية لجميع الذات، وتقدم الكلام عليه.
قوله تعالى: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
في الآية رد على المعتزلة القائلين بوجوب مراعاة الأصلح للعبد.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ... (١٧)﴾
يؤخذ منها أن الكافر لَا تقبل صدقته على المسجد.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ... (٢٤)﴾
إلى (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) فيه سؤال وهو أنهم توعدوا على تفضيل محبة هؤلاء على محبة الله، فهلا توعدوا على التسوية بينهما فهو أبلغ، ويفيد التوعد على التوهم من باب أحرى، فأجيب بأن محبة الله تعالى ليس بينهما وبين محبة غيره مساواة بخلاف من سواه؛ فإنه قد يستوفي المحبة فيهم، وبيانه أن الإنسان إن رجح الجهاد فقد أحب الله، وإن رجح القعود وترك الصلاة فقد أحب غير الله، فلهذا قيد بصنيعة المحل.
قوله تعالى: ﴿فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ... (٢٥)﴾
قال الزمخشري: إن قلت: لم عطف (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وهو ظرف مجرور على منصوب على المجرور، وأجيب بثلاثة أوجه:
الأول: قال [ابن عرفة*]: لَا يجوز أن يقول: جلست في الدار ويوم الجمعة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ولا [مغايرة بين الجلوس*] في الدار، والجلوس يوم الجمعة لاحتمال الجلوس في الدار كان يوم الجمعة، واستشكله أبو حيان وقال: في العربية يجوز عطف ظرف الزمان على ظرف المكان.
قوله تعالى: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).
قوله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنَا قَلِيلًا).
قلت لابن عرفة: اشتروا من الاشتراء، فقال: المراد هنا المسمَّون.
قوله تعالى: (سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
(ما) يكون متعديا نحو: ساء ما فعله فلان ويكون قاصرا [و (سَاءَ) بمعنى بئس*]، فالمراد [بئس*] العمل ما كانوا يعملون؛ لأنها تجري [مجرى نعم وبئس*]، قال ابن عرفة: إن هذا من التنزيل؛ لأن اشتروا واضحة، قيل: إن القاضي عبد السلام قال في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) إنه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، قال: وذكر الفخر اتفاق النحاة على أنه لَا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته، قال: وفي هذا نظر.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ... (٢٨)﴾
إلى قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) أخذ برد المازري في كتاب التجارة بأن من الحرب أن المسلمين إذا نزلت بهم شدة فإنه لَا يجوز لأحدهم أن يدخل دار الكفر لشراء الطعام، وفرق ابن عرفة: بأن حرمة المسجد أقوى من حرمة المسلم.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ... (٢٩)﴾
من باب الخاص، عطف الخاص على العام، وإن كانوا يدينون أعم من يحرمون؛ لأن نفي الأعم أخص، قال: وفي قوله تعالى: (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ... (٣١)﴾
أي جعلناه ترقيا فيؤخذ منه تقديم الأصلح من باب الأمانة على الأعلم وإن جعلناه تدليا فيؤخذ منه تقديم الأعلم.
قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا).
الوصف بواحد إشارة إلى نفي الكمية المتصلة، والوصف بلا إله إلا الله لنفي الكمية المنفصلة.
فائدة قوله (بِأَفْوَاهِهِمْ) إما التنبيه على أنه لم يقولوه في أنفسهم فقط؛ بل صرحوا به بألسنتهم، وإما التنبيه على [تفاهة*] عقولهم، وأنه قول [لَا دليل عليه*]، وإما أن يراد بالقول المذهب، أي دينهم بأفواههم، وإما أنه [تبكيت لهم وتوبيخ لهم*]؛ لأن الفم أشرف الأعضاء، فاستعاره فيما لَا يليق به [**وصحح جعل الأعرف وهو قولهم لأنه أعم من المبتدأ، ولا يضاف للمبتدأ فيه].
قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ... (٣٢)﴾
فأجاب الزبير بأن الاثنين جواب من قول الكافرين المشتمل هنا على ست كلمات، وهناك على ثلاث كلمات؛ لأن قبل هذه (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) وقيل تلك (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) فناسب التطويل هنا زيادة (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا) وبإظهار أن في قوله (أنْ يُطْفِئُوا) وناسب الاختصار هناك، وقلت: وأيضا فإنه لما عبر هناك بالفعل المقتضي للتجدد وأتى معه بأداة الحصر واستغنى هنا عن ذلك لكونه عبر بلفظ الاسم المقتضي للثبوت واللزوم.
قوله تعالى (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ (٣٥).. انظر هذه الآية مع ما في الحديث من أن النار لا ينال محل السجود، ويجاب بأن لَا تعارض بين العام والخاص.
قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)﴾
فإن قلت: ما أفاد زيادة (وَاعْلَمُوا)؟ وهلا قيل: والله مع المتقين؟ فالجواب: إما بأنه تنبيه للعاقل فيحضر ذمته، وإما بأن المراد اعلموا ذلك بالدليل والبرهان إشارة إلى وضوح الدلائل الدالة عليه، وإمَّا أنه تأكيد في الإخبار.
قوله تعالى: ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ.. (٣٧)﴾.. عادة بعضهم يفرق بين في وعلى؛ بأن في تقتضي تكميل الكمية من جنسها، وعلى تقتضي الزيادة عليها مطلقا فقد يكون من غير الجنسين، ومثاله: إذا وجدت سلعة وقضت على عشرة دنانير فردت فيها إلى أن بلغت عشرين ورقمت العشرين، قلت: زدت في ثمنها لأن الزيادة هنا من الثمن؛ فإن الزيادة هنا ليست من الثمن، فدل هنا على أن النسيء كفر، لقوله: ولم يقل على الكفر.
قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
على معنى يضل به الذين كفروا واتباعهم؛ فالذين كفروا إما فاعل أو مفعول.
قوله تعالى: (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا).
من باب عندي درهم ونصفه، فإن النسيء المحلل غير المحرم، ومنه قول النابغة:
قَالَت:
أَلا لَيْتَما هَذَا الْحمامُ لنا | إِلَى حمامتنا [أَو*] نِصْفُهُ فَقَدِ |
ابن عرفة: وقال: إنما الجواب اعلموه دائما.
قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).
كلمة (إِنَّمَا) لَا يؤتى بها في كلام يستدعي الزيادة على المقصود فيؤتى بها للحصر، ولو قيل: النسيء زيادة في الكفر ليحصل المقصود من الرد عليهم إذ لا يصف له أحد مع كونه زيادة في الكفر شيء آخر، ولا يقول: إنه مع ذلك زيادة في غيره.
قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
قرأ حفص وحمزة والكسائي [(يُضَلُّ) *]، وقرأ الحسن (يُضِلُّ) على معنى يضل الله به الذين كفروا أتباعهم، فالذين كفروا إما فاعل أو مفعول، قال ابن عرفة: فيرد عليه إشكال وهو أن ابن عصفور، وغيره، قالوا: إذا كان حذف شيء من الكلام يصيره احتمال معنيين متناقضين فإنه لَا يجوز الحذف لما فيه من الإخلال بالفائدة المقصودة
قال ابن عرفة: معلوم الفرق بين من وقع به الضلال وبين من وقع منه، كما أنه معلوم الفرق بين الجاني والمجني عليه أيضا؟ نقلته من خط شيخنا التلاوي رحمه الله.
قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ).
قوله تعالى: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ).
قال ابن عطية: إنما قال: (بِأَفْوَاهِهِمْ)؛ لأن القول يكون في النفس، وفي الأفواه؛ [فارغا، وهم قالوه بالأفواه*]، أو يكون تأكيدا (١)، وقال الزمخشري: إشارة إلى سخافة مقالتهم، وأنه قول لا يعضده برهان كما هو الأحفظ لَا معنى له، ووجه بأن المراد بالقول المذهب، كقولهم قول أبي حنيفة؛ أي مذهبه كان قبل ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لَا بقلوبهم، قلت لشيخنا: أو تقول إن الفم من أشرف الأعضاء بمن لا ينبغي أن يستعمل إلا فيما يليق، ولهذا يقال: إن البلاء موكل بالمنطق فذكر الفم على معنى التبكيت عليهم والتوبيخ لهم وذلك مبتدأ وقولهم خبر، قلت: كيف صح جعل الأعرف خبرا؟ فأجاب أن القاعدة بأن الخبر يكون أعم من المبتدأ أو القول أعم من اسم الإشارة، قلت له: ويعضدك أيضا الخبر فإن المبتدأ ينحصر في الخبر، فالمقصود حصر المشار إليه في مقالتهم، قال: فإِن قلت: كيف أفرد اسم الإشارة اثنان؟ فأجاب بأنه أفرده على معنى المذكور، أو على تنزيله منزلة المضمر وتقدم الزمخشري بنحوه، في قوله تعالى: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ).
قوله تعالى: (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ).
قلت: آخر الآية كالمناقض لأولها، فإنه أفرد أول الآية عنهم، أنهم قالوا: المسيح ابن الله، والابن تابع للأب، وذلك يقتضي نفي كونهم سووا بينه وبين الله في العبادة فرضا على أن يكونوا عدوه من دونه، وآخرها يقتضي عبادتهم إياه من دونه، وأجاب بوجهين: الأول: أن ما المراد بقوله: (مِنْ دُونِ) مخصصة بالعبادة لا المساواة وإنَّمَا المراد أنهم مشابهون لمن عبد المسيح من دون الله؛ لأن من حق المعبود أن يشرك معه غيره.
"وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) يتضمن معنيين:
أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة: ٧٩]، وكقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام: ٣٨]، والمعنى الثاني في قوله (بِأَفْواهِهِمْ) أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولا مجردا نفس دعوى". اهـ (المحرر الوجيز. ٣/ ٢٤).
قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).
كان العرب يسمون المحرم صفر ويسمون الربيع بصفر.
قال ابن عطية: لتجيء السنة ثلاثة عشر شهرا.
قال الفخر: يريد الحساب الذي بين الشمس والقمر وليس ذلك في كل سنة بل في بعض السنين.
وقال ابن عرفة: ليس مراده هذا وإنما أراد أنهم إنما سموا صفر بالمحرم وعدوا منه اثني عشر شهرا سموا المحرم الحقيقي بذي الحجة وينسون في العدد، ويجعلون المحرم في الثانية ربيع الأول، وفي الثالثة ربيع الآخر، وفي الرابعة جمادي فيبقى الشهر الذي أنفدوا منه زيادة في كل سنة وثلاثة عشر.
قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
على قراءة (يَضلُّ به الذين كفروا) بفتح الياء وضمها لَا يصح أن يكون الفاعل الذين لأنه معنى يضل، والذين مفعول، وإما على قراءة يضل بضم الياء وكسر الضاد، وله ثلاثة أوجه:
إما يضل الله به الذين كفروا، أو يضل الشيطان به الذين كفروا، أو يضل به الذين كفروا فأنعتهم وهو أقواها؛ لأنه لم يجز ذكر الله ولا ذكر الشيطان.
قوله تعالى: (يُحِلُّونَهُ عَامًا).
في موضع الحال.
قال الخولاني: أصل الحال أن يكون بالمفرد ليكون لفظها موافقا لمعناه في النصب فلم أتى بها هنا جملة، فقال ابن عرفة: لاقتضاء الفعل التجدد بخلاف الاسم.
قوله تعالى: (فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ).
قال ابن عرفة: فيه سؤالان؛ الأول: لم كرر الجملة؟ فهلا قال: فيحلوه؟
السؤال الثاني: لم حذف، قلت: وقد ذكرهما في [... ] فانظرهما.
انظر لم حذف الفاعل؟ قال بعضهم: للتحقير، فرد عليه بأنه لَا يحذف إلا إذا كان المفعول عظيما فيحذف تحقيرا له أن يذكر معه، لقولك: طعن عمرو، والمفعول هنا حقير.
وقال ابن عرفة: حذف العلم به، فرد عليه الخولاني بأن المفسريين اختلفوا في المزين، فقيل: هو الله، وقيل: هو الشيطان [... ] انظر ابن عطية، قلت: إن كان المزين هو الله فالحذف للتعظيم، وإن كان الشيطان فالحذف للتحقير لأنه غير معظم.
قوله تعالى: (سُوءُ أَعْمَالِهِمْ).
قال: هو عندي من باب الصفة إلى الموصوف؛ لأن السوء من صفة الأعمال وهو عندهم ضعيف، والكثير الجائز إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الأولى، ونقله [... ].
قلت: وذكر الشيخ النووي الصالح في شرح مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث جرير بن عبد الله أن مذهب [... ]، وأجاز ذلك الكوفيون، فأجابه ابن عرفة: بأن عنهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، فالشيء يطلق على الأعمال وغيرها؛ كما أن الأعمال منها السيئ والقبيح، قلت: وما قال عندي غير صحيح لجواز مررت برجل حسن الوجه، وهو باب متصور من أبواب [العربية*] فتأمله.
قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
[**إن جعلنا المعنى السيئ بمعنى النسيء]، فظاهر وإلا فقول بفعله، [والنسيء مصدر*].
والزمخشري وأبو حيان يشكلان، فإنهما ذكرا ثلاث قراءات، [الجمهور (النسيء) بالمد، وَوَرْشٌ (النَّسِيُّ)، وبتخفيف النسي كالنَّهيِ*] (١).
قال ابن عرفة: وهي والأول سواء، ولا فرق بينهما.
قوله تعالى: (مَا).
ما ظرف [والعمل في جميعه؛ لأنه محدود].
قوله تعالى: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ).
"والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه نسأ ونساء ونسيئاً، كقولك:
مسه مساً ومساساً ومسيساً. وقرئ بهنّ جميعا. وقرئ النسى، بوزن الندى. والنسى بوزن النهى، وهما تخفيف النسيء والنسيء". اهـ (الكشاف. ٢/ ٢٧٠).
والنص في البحر المحيط هكذا:
"وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النسيء مهموز عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو جَعْفَرَ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَالْحَلْوَانِيُّ: النَّسِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي نَبِيءٍ وَخَطِيئَةٍ فَقَالُوا: نَبِيٌّ وَخَطِّيَّةٌ بِالْإِبْدَالِ وَالْإِدْغَامِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَشْهَبُ وشبل: النسء بإسكان السين. وَالْأَشْهَبُ: النَّسِيُّ بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مِثْلُ النَّدِيُّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: النَّسُوءُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ.". اهـ (البحر المحيط. ٥/ ٤١٦، ٤١٧).
وقال ابن عطية:
"وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّ» بشد الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء»، وقرأ أيضا فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي». فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر". اهـ (المحرر الوجيز. ٣/ ٣٢).
قال الفخر: لَا يحسن أن يقال: من زنا وأكل الحلوى فاجلدوه؛ لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب لَا يوجب ذما، [ولم يختلفوا*] إلا في تحليل المحرم، فلم قال: [يحرمونه عاما*]؟ فالجواب أنهم ذموا على مخالفتهم حكم الله تعالى واستنباطهم حكما لأنفسهم من تحليل المحرم، وأوقع الظاهر موقع المضمر [نعيا*] عليهم ومبالغة في ذمهم.
قوله تعالى: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ).
حذف الفاعل إما تحقيرا له إن كان المزين الشيطان، أو تعظيما؛ أو كان المزين الله.
قال ابن القصار: أو حذف للاهتمام حسبما ذكر البيانيون أنه إذا كان المقصود بالذات المفعولة يختص بالفاعل من اللفظ، ويكتفى بذكر المفعول إشارة إلى أنه هو الله.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... (٣٨)﴾
قال الزمخشري: وكانت غزوة تبوك سنة عشر.
وابن عطية: سنة تسع، والصحيح ما قال ابن عطية، وانظر ما قيد على حاشية ابن بشير في أول الجهاد.
وقال الزمخشري: حذف الفاعل من قيل لكم تحقيرا للمفعول أن يذكروا معه، وقال ابن عطية: للتغليظ عليهم.
وقال الفخر: وهل حذف قصدا لعموم النهي للمؤمنين إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ).
قال ابن عرفة: أصله تثاقلتم، قال ابن عرفة: فأدغمت التاء في الثاء واجتنبت الهمزة وصلة إلى النطق بالساكن.
قال ابن عرفة: تعلق الأول بكون الألف واللام للعهد، وعلى الثاني للحقيقة الماهية.
وقوله تعالى: (مِنَ الآخِرَةِ) قال أبو حيان: من بمعنى بدل؛ فهو في موضع نصب على الحال، ورده ابن عرفة: بأنه إن جعلها بمعنى بدل فلا يقرر لفظ السؤال معا ويكون المجرور متعلقا بالظاهر، قال: ومن هنا سببية وهو على حذف مضاف أي سبب ترك الآخرة، قلت: إلا لابتداء الغاية، فقال: ليس ثم ينتهي إليه وهو على حذف مضاف، والمراد بالذكر.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ).
يؤخذ منها أن وصف الإيمان لَا ينتفي مع الكبائر [... ]، ومنها أن صيغة افعلْ للوجوب، والأصل عدم القرائن، قيل لابن عرفة: وفيها أن الأمر يقتضي الفور، ورد بأن بيان ذلك مستفاد من مادة (انفروا)، وأجيب بأنه إن أريد أن المادة تدل على الفور [**فيما بين أحرى] [... ] فمسلم ولا يدل، وإن أريد فيما بين الفعل وسببه فممنوع.
الزمخشري: غزوة تبوك سنة [عشر*]، ابن عطية: سنة تسع، ابن عرفة: هو الصحيح.
الزمخشري: وحذف الفاعل من قبل تحقير للمفعول أن يذكر معه ابن عطية تعظيما عليهم، الفخر: قصد العموم النهي إلى قيام الساعة (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) مخالف لقوله تعالى في سورة الرعد (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)، وقوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)
قوله تعالى: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ... (٤٠)﴾
تكلم ابن عطية هنا في التوكل والمال، وحكى فيه عن والده وغيره كلاما كثيرا، وقال القاضي عياض في المدارك لما عرف بيحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك: قال قوم ليحيى: يا أبا محمد، لو توكلنا على الله حق توكله لأتانا بالرزق إلى بيوتنا كما يأتي الطير، فقال: والله لما كان يأتي عيسى ابن مريم عليهما السلام البقل البري حيث هو جالس حتى يخرج إلى الصحراء يلتمسه.
وقيل ليحيى: إن من مضى كان يتمنى الفقر، فأنكر ذلك، وقال: لَا ينبغي لمن يعقل أن يتمنى ما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: وكان يحيى يلبس الوشي الرفيع -يريد القطن- من المال العظيم في الأعياد والدخول على الأمراء، وانظر ما قيدت في سورة النساء في قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) قال ابن عرفة: وفي الآية ثلاثة أسئلة، قال:
الأول: [إِذْ أَخْرَجَهُ*] بلفظ الماضي، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) بلفظ المستقبل مع أنه أيضا ماض؟ وجوابه أن الإخراج فعل الكفار فناسب فيه الانقطاع؛ فالقول من النبي ﷺ فناسب لفظ المضارع المقتضي الدوام لأنها حكاية حال ماضية.
الثاني: قال (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ونصوا على أن المصيبة إن كانت ماضية التأسف عليها حزن، وإن كانت مستقبلة فالتفجع منها خوف، والتحسر في الآية إنما هو في أمر مستقبل متوقع لما ورد في الحديث عن أبي بكر، أنه قال: لو نظر أحدهم إلى قدميه، ولم يكن وقع شيء، فهلا قال له: لَا تخف إن الله معنا؟ قال: وجوابه أن هذا الكلام حالة الاستيلاء عليها والإحاطة بها؛ فمتعلق الحزن واقع، ولأنه إذا نهي عن التكليف على أمر واقع محقق فأحرى أن ينهي عن التقبيح من أمر مستقبل ممكن أن لا يقع، وأن لَا يقع فالنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف من باب أحرى، وأجاب بعضهم بأن الحزن متعلق بالغير، والخوف فيما يرجع للنفس، قال تعالى (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وكان أبو بكر إنما حزن على النبي ﷺ لَا على نفسه.
السؤال الثالث: أن الأمثل تقدم العلة على المعلول، وقال هنا: لَا تحزن الله معنا فقدم المعلول عليه، وجوابه أن المخاطب هنا أبو بكر وهو مصدق لنبينا صلى الله عليه
قوله تعالى: ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ... (٤٢)﴾
الزمخشري: إما بدل من سيحلفون أو حال، أبو حيان: يمتنع البدل؛ لأن الهلاك غير الحلف، قلت: قال صاحبنا أبو العباس أحمد بن القصار: وهو بدل اشتمال؛ لأن حلفهم للمؤمنين سبب في إهلاكهم، فالحلف يشتمل على الإهلاك بناء على الأول مشتمل على الثاني، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)﴾
ابن عرفة: عبر في الأول بالفعل وهو صدقوا، وفي الكاذبين بالاسم إشارة التحقق والتنقيل وإن أدنى وصف في الصدق في ذلك كاف؛ فجعل الحق متوقفا على يتبين أعم الصدق، لأن صدقوا أعم من الصادقين، [وجعل المبطل متوقفا*] على أخص الكذب، ولذلك في الأول التبيين، وفي الثاني العلم، والأول أعم للمعنى الذي قررناه، وأيضا فالآية وردت بالذات إنكار على المنافقين وذما لفعلهم، فناسب الإخبار عن صفتهم الذميمة مما يقتضي الثبوت، قلت: وتقدم لنا عند ابن عرفة في الختمة الأخرى في هذه أن ابن مالك قال: من الفصاحة أن يؤتى بجملتين مع جملتين متناسبتين، كقولك (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩). وقد علق التبيين بالصدق والعلم بالكذب فما السر في ذلك؟ قال: وجوابه أن التبيين إنما يكون فيما يظهر للوجود، والعلم يتعلق بالوجود والمعدوم، والصدق أمر وجودي، والكذب أمر عدمي؛ لأنه عبارة عن عدم مطابقة الخبر للمخبر عنه، فكذلك القدر المتعلق بالموجود والمعدوم.
قوله تعالى: ﴿أَنْ يُجَاهِدُوا... (٤٤)﴾
يحتمل أمرين متناقضين: إما أن يراد لَا يستأذنونك في القعود وكراهة أن يجاهدوا، أو لَا يستأذنونك في أن يجاهدوا.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً... (٤٦)﴾
ابن عرفة: فيها دليل لمالك القائل لاعتبار العادات ومراعاتها إذ بها تقرر الملازمة بين إرادة الخروج والإعداد، ففيها دليل على أن اعتبار العادة الفعلية وفيها قولان: لأن العادة جارية لمن يريد الخروج [يهيئ*] أسبابه.
قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ).
وأخذ [المسيلي*] في التذكرة من هذه الآية أن الأمر لَا يستلزم الإرادة.
ابن عرفة: ويجاب بوجهين:
الأول: أن المكروه إنما هو انبعاثهم اللاحق لهم، وهو الانبعاث الذي لَا تصحبه بقلب مخلص، بل يخرجون بأجسادهم دون قلوبهم، والمراد الخروج بنية [الطاعة*].
الثاني: أن الكراهة إن كانت صفة [منع*]، فالأخذ صحيح، وإن كانت صفة فعل فلا يتم له ذلك؛ لأن المراد أن الله تعالى أمرهم بالخروج وأراد ذلك ومنعهم منه، هكذا [يقول*] المعتزلة.
قوله تعالى: (قِيلَ).
هذا (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُم) فقال ابن عرفة: هذا كلام ابن عطية، ثم قال: محصول كلامه هنا ثلاث حقائق مختلفة:
والارتياب: هو إتيان الحكم المتردد فيه.
والشك: هو الوقف من غير حكم.
والتردد هو الحكم أولا والانتقال عنه للآخر ثم الرجوع إلى الأول.
وقال الفخر في المحصول: حكم الذهن بأمر على أمر إما مع الجزم أو بدونه، والجزم إما مطابق أو لَا، والمطابق إما لموجب أو لَا، والموجب إما حسي أو عقلي أو هما، والجزم المطابق الذي [يوجبه هو العلوم الحسية والذي يوجبه*] عقلي إن كفي به جزاء القضية، ولم يحتج إلى وسط هو البديهي وإلا فهو النظر، والجزم المطابق الذي
قال القرافي: جعل الشك به قسما من أقسام الحكم؛ لأنه قسم الحكم إلى جزم وغير جزم، وقسم غير الجزم إلى الشك وغيره مع أن الشك ليس فيه حكما أصلا، وأجيب بوجهين:
الأول: قال الأصفهاني: الوهم حالهم وكذلك الشك [... ].
الظان حاكم فيلزم معه وجود الوهم وحكمه بالطرف الآخر حكما بوجه.
الجواب الثاني: قال الفراء في إنما الثواب إن التقسيم قد يقع في الاسم مطلقا كتقسيم الحيوان إلى الناطق والبهيمي، وتقسيم الناطق إلى المؤمن والكافر فيلزم صدقه على المؤمن، وقد يقع في الأعم من وجه دون وجه؛ كتقسيم الحيوان إلى الأبيض والأسود، وتقسيم الأبيض إلى الحيوان والخبز واللبن؛ فالتقسيم أعم ليس الخبز واللبن بحيوان، وملتزم الأعم لَا يرد عليه ما يرد على الأخص كمن التزم أنه قتل حيوانا فإِنا لَا نلزمه القصاص لاحتمال كونه قتل [... ]، وهنا كذلك لَا يلزم التقسيم أصدق على أقسامه؛ لأنه لما التزم الأعم، فأورد الأصفهاني في هذا سؤالا ثم أجاب بعد كلام طويل بأن التقسيم في الأعم مطلق فلا بد من كونه مشتركا بين جائز الأقسام وإلا لم يصح القسمة.
قوله تعالى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ... (٤٨)﴾
ابن عرفة: لما تقدمها (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) وهو تسلية له ﷺ بأمر لم يكن أن لو كيف كان يكون عقب بأمر واقع شاهد لأن التسلية بالواقع أقوى منها بالمقدرة فهر تقرير لما قرر وقوعه، قيل في قوله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا) هذا شأنهم وقد سبق لهم فعل مثله، قال: وفي فهمهم الآية إشكال، وهو أن القاعدة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها؛ فيوهم ظاهر الآية أنهم لما جاء
الأول: إذا قلنا كانوا أولا يبغون الفتنة ويقاتلون ويضرون المؤمنين بفعل على أكثر الإسلام وضعف الكفر، صاروا يضرونهم بإيقاع الفتنة بينهم فقط لَا بنصرة الكفار عليهم فالغاية بينة، ورده ابن عرفة لَا ينتفي السؤال لأن أول الآية (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا).
الجواب الثاني: أن الآية راجعة إلى الأخير فقط لأن ابتغائهم الفتنة لم يزل واقعا منهم وتقلبهم الأمور وتجمعهم على المؤمنين انقطع يظهرون الحق فلم يقدروا عليه، قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الأولى أن في الآية أسئلة:
الأول: أنه قال قبلها (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) وهذا (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) فعبر أولا بالأصل وهنا بالمطاوع، قال سيبويه: يقال عممته فانعم وغممته فاغتم، فمطاوعة الفعل وافتعل فانتفى مطاوعة نفي فالسر في ذلك؟ فالجواب أن ابتغى أخص من كسرته؛ لأن كسرته محتمل لأن يكون الكسر أولا؛ إذ لَا يدل إلا على محاولتك الانكسار فقط على أنه انكسر؛ فعبر بالإبغاء في الأولى، وبالأخص بالثاني ليكون بيانا عقيب إجمال.
السؤال الثاني: لم أفرد الفتنة وجمع الأمور، والمناسب كان العكس؛ لأن الفتنة مصدر محدود بالتاء الدالة على الواحدة، والأمر جنس فيه وعلى القليل والكثير، والجواب أن الأمر أسباب للفتنة، والفتنة [غيرٌ*] عنها والأصل اتحاد المسبب وتفرد سببه لا العكس، كما يستدل على مسألة بأوله جملة، ولا يرمى طائران بحجر واحد.
السؤال الثالث: لم عبر [بـ حتى*] المقتضية لدخول ما قبلها فيما بعدها، وهلا كانت الغاية بإلى لأنهم بنفس ظهور أمر الله ارتفع تغطيتهم الأمور، فقال: إشارة إلى ذواتهم على ذلك عند ظهوره بآدمي الأمر وأنهم لم يرتجعوا حتى ظهر صنع أمر الله.
قوله تعالى: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا... (٤٩)﴾
ابن عرفة: هو عندي من باب قلب النكتة؛ وهو أن يستدل الخصم بدليل فيأخذ خصمه بذلك الدليل، ويستدل على نقض مدعاه، كقوله تعالى: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
قوله تعالى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ... (٥٠)﴾
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ... (٥٢)﴾
إن قلت: لم أتى في الأول بأداة الحصر دون الثاني، فالجواب: أن الحصر في الأول وإن لم يؤت به في الثاني؛ لأن حالهم غير منحصر في أن يصيبهم العذاب، إذ قد يقولوا: فلا يصيبهم العذاب بوجه، فإن قلت: لم عدل من صريح النفي إلي مجازه المستفاد من الاستفهام؟ قلنا: لأن الاستفهام يقتضي الموافقة، إذ لَا يقول: هل زيد إلا قائم إلا من يعلم أنه يوافقك، فإن قلت: لم وصف حالتي المؤمنين [بالحسنيين، وعين*] حالتي حال المنافقين ولم يصفهما بالسوأتين؟ فالجواب: أن المنافقين كانوا يزعمون أن موت أحد المؤمنين ليس بحسن، وكذلك ظفرهم بالمؤمنين، فعبر عن هذين الوصفين الأخيرين بالحسنيين، ولما كان [نفس*] الوصفين الأخيرين [غير*] قبيحين عند المنافقين لم يحتج إلى وصفها [بالقبيحين*] اكتفاء بنفيهما.
قوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ).
قلت: في الآية ستة أسئلة:
السؤال الأول: لم يعطفه بالواو وهو من تمام قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)؟
وجوابه: أنك إذا قلت: إن جاءك زيد فأعطه درهما، أو أكرمه اقتضى الجمع والإفراد، وهنا لو عطف بالواو لتوهم أنه يخرج من عهدته بأن يقول: هم أشد الشيئين فقط.
وجوابه: أن الاستفهام يقتضي أن المستفهم موافق. ألا ترى أنه لَا يجاب بنعم ولا بلا، فلا تقول: [هل زيد إلا قائم إلا من تعلم*] أنه يوافقك [فإِن لم يوافقك*]، قلت: ما زيد إلا قائم، والمنافقون يوافقون على أنهم ما يتربصون بهم إلا لأحد أمرين.
السؤال الثالث: لم أتى في الأول أداة الحصر ولم يأت بها في الثاني، فقال: ونحن نتربص بكم من غير حصر؟
وجوابه: أن المنافقين لما كانوا يتربصون واحدا من ثلاثة؛ إما الظفر بهم، أو الموت مجاهدين، أو الموت من غير ثواب؛ [احتيج*] للحصر، والمؤمنون يتربصون بالمنافقين المذكورين في الآية، وأمر ثان [هو*] أن يسلموا فيحسن حالهم، لم يؤت بالحصر لأجل هذا.
السؤال الرابع: [لم وصف حالتي المؤمنين بالحسنيين*]، [وعين حالتي حال المنافقين ولم يصفهما بالسوأتين*].
وجوابه: أن المنافقين لما كانوا يزعمون أن الظفر بالمؤمنين أو موت أحدهم ليس بحسن، عبر عنهما بالحسنيين، ولما كانا نفس الوصفين الأخيرين لم يحتج إلى [التعبير*] عنه بوصف القبح اكتفاء بنفيهما.
السؤال الخامس: الحسن تأنيث أحسن وهو يقتضي التفضيل وأنها أحسن العواقب والأخرى لذلك فكيف يتصور الجمع بينهما؟
وجوابه: أن الحسن والحسنى مستويان أو أحدهما أفضل وهو الموت مجاهدا، يفضل الآخر على ما سواه.
قوله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ... (٥٣)﴾
إن قلت: لا يلزم من نفي القبول نفي الإجزاء، فالجواب: أن من لوازم الإجزاء رجاء القبول، فإذا انتفى القبول انتفى رجاؤه، فانتفى الإجزاء لضرورة أنه يلزم من نفي اللازم [نفي الملزوم*]، هذا إن قلنا: إن الإجزاء مغاير للقبول، وإن قلنا: إنهما متساويان فالسؤال [لم عبر بقوله تعالى*]: (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) ولم يقل: [لَوَلَّوْا وَهُمْ يَجْمَحُونَ إليه*] مع أنهم لم يتقدم لهم استقرار فيه؛ لأن الأول أبلغ من حيث إن مضي الإنسان لما تقدم له [فيه*] استقرار أسرع منه لما لم يتقدم له منه استقرار فيها.
وقال تعالى بعدها [(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ) *]؟.
قال ابن الخطيب: اللام هنا بمعنى (أَنْ)، فلا يصح أن تكون لام [كي*] لئلا يلزم عليه مذهب المعتزلة في أن [أفعاله تعالى*] معللة، وأنه إنما يفعل للغرض، قلت: أبطله الأستاذ أبو العباس ابن القصار بأنه لم يذكر أحد من النحاة كون اللام بمعنى إن، قال: والصواب إن كان يقول أنها زائدة، كما زيدت في قوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما... تمثل لي ليلى بكل سبيلِ
قال: لكن يرد عليه أنها ناصبة بإضمار (أن) بعدها؛ [فلما بينت*] عن (أن) ضعف كونها زائدة إلا أن يجاب بأن هذا الموضع ما يصح فيه إظهار (أن) أو إضمارها.
قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ).
ابن عرفة: قال في التي قبلها (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ) فجعل الفسق علة في عدم القبول، وإن جعله هنا مانعا من القبول، وجوابه أن الفاء فيما يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل العدم، وهناك نفي القبول فعلله بعلة واحدة وهي الفسق وهنا أثبته؛ لأن المنع إنما يكون لما ثبت ولأن القبول في اللفظ مثبت، لقوله (أَن تُقْبَلَ) فاستدل عليه بثلاثة أدلة، ولأن المنع من وجود المفسدة أقوى من العلة في عدمها؛ لأن المانع دافع لها بعد أن كانت في مادة الثبوت، ولهذا استدل ثلاثة أمور، وهي: الكفر، والكسل في الصلاة، وكراهة النفقة، قلت له: وفي الآية أسئلة:
الأول: ما فائدة الحصر؟ فقال: احتمال كون المانع من القبول قصدهم، والنفقة الرياء والسمعة مع كفرهم وكسلهم في الصلاة.
الثاني: لم عدل عن المفعول الصريح إلى الجملة وهي (أَنْ تُقْبَلَ).
الثالث: لم أخر النفقات عن المجرور؟
الرابع: أن القبول أخص من الإجزاء، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ولا ينعكس، فهلا قيل: وما منعهم أن يجزيهم.
الخامس: ما يصنع إلا ما هو في طاقته وقبول نفقتهم ليس من كسبهم، فقال: سنته من كسبهم، وهذا السؤال إنما يرد إذا جعلنا فاعل منعهم ضمير عائد على الله،
السادس: لم عبر عن كفرهم بالماضي [... ] كسالى بالمستقبل؟.
السابع: لم أتى بالحال في (وَهُم كُسَالَى)، و (وَهُمْ كَارِهُونَ) جملة وأصلها أن تكون مفردة [... ] لَا يأتون الصلاة إلا كسالى ولا ينفقون إلا كارهون.
الثامن: لم أعاد حرف الجر، فقال (كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) [... ].
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ... (٦٠)﴾
قال ابن عرفة: كان الفقيه أبو قاسم الغبريني يفتي في [... ] أنه يصح أن ينبني به السور.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا... (٦٣)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن [مَن*] يخالف الإجماع كافر، كما قالوا في (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى).
قوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ... (٦٦)﴾
يؤخذ منه أن شاهد الزور إن تاب وحسن حاله لَا تقبل له شهادة؛ لأن هؤلاء [عُيِّرُوا بكفرهم بعد إيمانهم*] ولم تقبل لهم معذرة، وهذا بناء على تفسير المعذرة [بالتوبة*].
قوله تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ).
قال ابن عرفة: تقدمنا فيها إشكال من ناحية أن [القضية*] الشرطية المتصلة يلزمها منفصلة مانعة الجمع من غير مقدمها ونقيض تاليها ومانعة [الخلو*] من نقيض مقدمها، وعين تاليها متعاكسين علمها هكذا ذكر الخونجي في [الجمل*] نحو: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً فيلزمها؛ وهي إما أن تكون الشمس
قوله تعالى: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ).
يؤخذ منه تعليل الحكم الواحد بعلتين منتقلتين؛ لأن سياق الآية أنهم عللوا بوصف النفاق؛ لأن ذكر الوصف المناسب عقيب الحكم يشعر بكونه علة له، ثم عللوا بالإحرام.
قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ... (٦٧)﴾
قال ابن عرفة: كان بعض الطلبة يرد بها على من قال: أن اقتلوا المشركين مخصوص بالنساء والصبيان، قال: لأن هذه دالة على عدم دخول النساء في جمع المذكر السالم، العطف المنافقات على المنافقين والعطف يقتضي المغايرة.
قوله تعالى: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ).
يحتمل أن يرى بعض الرجال من الرجال، وبعض النساء من بعض النساء، أو بعض المجموع من المجموع، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ).
فيه أن النهي عن المعروف منكر.
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ... (٦٨)﴾
لما تقدمها (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم) يقتضي عدم الرحمة فقط، وعدم الرحمة لا يستلزم العذاب عنها ببيان أنهم مع ذلك معذبون، فإن قلت هلا قيل: والكافرون والكافرات، كما قال (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ)؟ فالجواب: أنه لما كان المقصود بالذم المنافقين بولغ في وصفهم ما لم يبالغ في الكافرين.
قوله تعالى: (هِيَ حَسْبُهُمْ).
قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... (٦٩)﴾
إلى قوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) الزمخشري: إن قلنا: هلا قال: خضتم فخاضوا، كما قال (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ)؟ وأجاب بوجهين قرره ابن عرفة بكلام الشيخ عز الدين؛ وهو أن الشارع إنما رتب الزواجر على ما تميل إليه النفس من المعاصي، وأما ما تنفر النفس عنه فلا يحتاج فيه إلى زاجر فإنه رتب الحد على شرب الخمر ولم يرتبه على شرب البول مع أن كلاهما نجس محرم، ولا شك أن التمتع بالملابس والمطاعم والمشارب أغلب وأكثر من الخوض في الكلام، فلذلك أطنب فيه [قصدًا*] للتيقن منه ما لم يطنب في الآخر.
ابن عرفة: وأجاب بعضهم بأنه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه.
قال: وتقدمنا جواب ثالث، وهو أن التمتع له أثر فيما وقع به الذم لأن التمتع بالإنفاق مع كثرة المال وكثرة الولد أشد وأقوى منه قلتهما؛ فكذلك فيه [فوجه*] الذم هنا أنهم جعلوا حالهم في كثرة الإنفاق مع قلة المال وقلة الولد كحال أولئك في إنفاقهم مع كثرة ولدهم؛ بخلاف الخوض فإنه لَا أثر له في الوصف المذكور في الآية يستوي فيه قليل المال والولد مع كثير المال والولد.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ... (٧٠)﴾
ابن عرفة: أخذوا عنه أحد ثلاثة أمور:
إما أن خبر التواتر [يفيد*] العلم أو الظن، أو أن خبر الواحد يجب العمل به لأن هذا الخبر إن كان مستفادا بالتواتر أفاد العلم؛ [ذم*] هؤلاء على عدم العمل به، فلولا أنه يفيد العلم أو الظن [لما ذموا*] على عدم العمل به، وإن قلتم: إنه خبر واحد فينتج وجوب العمل به أي فعلتم به كفعل هؤلاء بك وقد [... ]. العذاب فلا تأمنوا من نزول العذاب بكم، قال: وفي الآية تمسك لصحة العمل بالقياس كما أخبره الخبر، من قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ).
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ... (٧٢)﴾
قال: وأجيب بأن الألف واللام في المؤمنين للعهد فالمراد المؤمنون المتقدم ذكرهم، في قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) إلى آخر الآية فهم المتصفون بهذه الصفات.
قوله تعالى: ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ... (٧٣)﴾
الصواب: جعل مبتدأ الأخير لأن المأوى أعم، وجهنم أخص فيفيد الحصر أي [لا مأوى لهم إلا جهنم*]، وإن كان العكس لم يفد الحصر.
قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ... (٧٤)﴾
حكى ابن عطية هنا مقالين، قيل: إنها نزلت في [الجلاس بن سويد. ابن عرفة] [... ]. ، وقيل: في عبد الله بن أبي ابن سلول، فالحالف إما إنما هو رجل واحد فكيف [... ] الضمير في الآية، وأجاب ابن عرفة بوجهين: أنه [... ] واتباعهم من المنافقين [راجعون [... ] وراضون بيمينه].
الثاني: سمعه اعتبارا بخلاف اليمين فيكون حلف إيمانا، كما قال الفخر في (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَت قُلُوبُكُمَا) أنه جميعه لاختلاف حالات القلب، وأسند عليه [الآبذي*] في شرح الجزولية، فقلت: [... ] الفراقد كلها يمينا، ويهوي النجم من غير شمالك، ابن عرفة وكلمة الكفر عندي من باب الأعمال لاحتمال كونها بما قالوا، أو لقوله (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وجعل الشك في الكفر كفر؛ لأن الجلاس إنما قال: إن كان قول محمد حقا لنحن شر من حميرنا هذه.
قوله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا).
ابن عرفة: وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقوله:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ
ويحتمل أن من تأكيد الذم بما يشبه المدح، كقوله:
هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ
لكن هذا يحتاج إلى إضمار وعامة.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ... (٧٨)﴾
ابن عرفة: السر والنجوى فيهما عموم وخصوص من وجه، فالسر مختص بحديث النفس، والنجوى مختص بحديث الجهر ويشتركان فيما يحدث به الإنسان بينه وبين آخر بحيث لَا يسمعهما غيرهما.
قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ... (٨٠)﴾
وقرره المفسرون بمساواة الاستغفار وعدمه، وعادتهم يقررونه بأنه جعل الاستغفار حالة كونه مأمورا مساويا للاستغفار لهم حالة كونه منهيا عنه؛ أي الأمر به مساو [للنهي*] في عدم الفائدة وهو أقوى، ومساواة الاستغفار [للعدم*]؛ لأن الأمر والنهي ضدان، والأمر بالاستغفار لمن لَا يقع فيه الاستغفار مساو للنهي عن الاستغفار.
قوله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ... (٨١)﴾
ابن عرفة: عادتهم يفرقون بين الفرح والسرور بأن غالب عرف القرآن، الفرح يطلق على الأمر الملائم الذي ما له [إلا*] السوء، قال تعالى (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذنَاهُم بَغْتَةً)، (ذَلِكُم بمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَبمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)، فَرد عليه بقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِ) قال: وما قال المخلفون باسم المفعول مع أن التخلف ما وقع منهم فهم الفاعلون له إشارة إلى أن صيغة الأفعال أبلغ من صيغة الفاعلية، وأيضا ففيه
قوله تعالى: (وَكَرِهُوا).
إن جاء هذا ليس بتكرار لأن الفرح بالشيء لَا يستلزم كراهة ضده؛ بل قد يكرهه وقد لَا يكرهه، هذا إن قلنا: إن نقيض المستحيل ليس بمكروه.
قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
إشارة إلى أنهم كفروا بالله ورسوله، فالكفر بالرسول في قوله (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ)، والكفر بالله في قوله (رَسُولِ اللَّهِ) ولم يقل: مع رسوله فهم كرهوا الجهاد للإيمان بالرسول وبالإيمان بالله.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ... (٨٣)﴾
ابن عرفة: رجوعه من غزوة تبوك تحقيق الوقوع، فهلا عبر عنه بـ إذا، وأجيب بوجهين: أحدهما: أن الشرط مركب من جملتين؛ أحدهما: قوله (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) استئذانهم له غير محقق.
الثاني: أن المحقق إنما هو الرجوع إلى بلده، وأما رجوعه إلى طائفة منهم فمعنى
محقق؛ لأن المرجوع إليهم هم المنافقون الذين [يخلفون*] لغير عذر إشارة إلى أن
الرجوع إليهم يوهم أن الحاجة إليهم داعية، وأنه مضطر إلى الاستعانة بهم؛ فعبر بإن
إشارة إلى أن لم يرجع إليهم وإنه إنما رجع إلى بلده فالرجوع إليهم غير واقع.
قوله تعالى: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ).
ولم يقل: فاستأذنوك في الخروج؛ لأن الكلام يحتمل [... ] بها أن يكون مرغوبا فيه، أو مرغوبا عنه، فيحتمل أن يكون مرغوبا فيه أو مرغوبا عنه، فيحتمل أن يكون قصدهم الإقامة.
ابن عرفة: وعادتهم يقولون لأي شيء أتى بالفعلين الأولين بصيغة الخبر وهما لم يخرجوا ولم يقاتلوا، وأتى في الثالث بصيغة الأمر، فهلا قيل: لن يخرجوا [ولن*] يقاتلوا معي عدوا فقعدوا مع الخالفين، أو يقال: لَا تخرجوا معي أبدا، ولا تقاتلوا معي عدوا فقعدوا مع الخالفين.
وأتى في الثالث بلفظ الأمر المقتضي للذم والسخرية والاستهزاء، كقولك لمن يقصد السخرية به: اقعد مع النساء؟ فهذا أبلغ في الذم من قولك: أنت تقعد مع النساء.
قوله تعالى: (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ).
ولم يقل: إنكم قعدتم ليتناول من خرج منهم راضيا بقعود من قعد منهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا... (٨٤)﴾
أخذوا منها وجوب الصلاة على المؤمنين من ناحية مفهوم الصفة، في قوله (مِنْهُم)؛ ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والعكس، قيل لابن عرفة: والآية حجة للقول الذي حكى ابن الحاجب في مختصره: الأصل من أنه ﷺ يجوز عليه الخطأ في اجتهاده، ولكن لَا يقر عليه، فقال ابن عرفة: ليس كذلك؛ لأنه إن لم يكن صلى عليهم فلا كلام، وإن كان صلى عليهم فنقول: هذا تجديد حكم في المنافقين وللمنافق أحكام كانت تجدد شيئا بعد شيء.
قوله تعالى: (وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).
أخذوا منه جواز زيارة القبور كما أخذوا من الأول وجوب الصلاة على المؤمنين، وأجيب بأن المقام على القبر يصدق بالحضور وقت الدفن.
قال أبو جعفر ابن الزبير: وإنما قال هنا: (وَلَا تُعجِبكَ)، وقال في التي قبلها: (فَلا تُعْجِبكَ)؛ لأن الآية المتقدمة عليها (وَمَا مَنَعَهُم أَن تُقْبَلَ مِنْهُم نَفَقَاتُهُم) وهي كلها جملة خبرية منفية، فكان هذا النهي سببا عنها فناسب عطفها بالفاء؛ [لأن*] فيه معنى الشرط والجزاء؛ أي إذا كانت هذه حالهم فلا [تغتر*] بما لديهم من المال والولد، وهذه الآية تقدمها جمل طلبية لَا قبلها (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) فناسب عطف النهي على النهي بالواو المقتضية للجمع من غير ترتيب، ولذلك زيدت بها في الآية المتقدمة لما كان فيها معنى الشرط والجزاء المقتضي للتأكيد والإطناب، ولذلك قال فيها (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذبَهُم) باللام التي هي أصرح في تعجيل، وإذا أظهرت فيها معنى [التراخي*] حسبما نص على ذلك سيبويه في الجواب بالفاء من كتابه، ولذلك قال هناك (فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا) فأكد بزيادة لفظ الحياة لتجري الآية على وتيرة واحدة.
قوله تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ... (٨٧)﴾
قوله تعالى: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ... (٩١)﴾
إن الحرج أخص من السبيل؛ فلذلك استعمله في الثبوت، واستعمل السبيل في [النفي*]؛ لأن الحرج هو نيلهم الألم الحسي، والسبيل يعم الألم الحسي والمعنوي، [**ومر عليهم ونائلتهم بالكلام فقط].
قوله تعالى: ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا... (٩٢)﴾
ابن عرفة: العين لها جمعان: قلة، وكثرة، وذكر المفسرون أن هؤلاء [البكاءون*] ستة كعيونهم اثنا عشر فهو يجمع جمع كثرة لَا قلة، قال تعالى (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) فلم جمعهم جمع قلة، وأجاب بأن المراد ذواتهم لَا تقر عيونهم؛ لأن الحزن إنما ألحق ذواتهم.
قوله تعالى: (أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ).
ابن عرفة: هلا قيل: ألا يجدوا عندك ما تحملهم عليه ليكون آخر الآية مطابقا، وأجاب بأن ما [يدفعدهم*] إلا التفقه، فكانوا أولا طائعين فيها من [... ].
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ... (٩٣)﴾
ابن عطية: (إِنَّمَا) هنا ليست للحصر، وقال السفاقسي: بل هي للحصر ولم يبين ذلك، ابن عرفة: وجهه معرف بالألف واللام العهدية فهو السبيل المخصوص المتقدم الذكر وهو [ما لك عليهم سبيل آخر*].
قوله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ... (٩٤)﴾
[عبر هنا بـ[(إِذَا)] وقبلها، [فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ*]، فعبر بـ (إِنْ)، والجواب أن الفاعل في الأول هو الأول، والرجوع مستند إلى الطائفة، فقد يقال: إن الله تعالى رده إلى الطائفة اضطرارا لتستمد بهم وتستعين على أغراضه، وهذا مشكوك في وقوعه بل هو غير واقع ألبتَّة، فلذلك عبر بإن والرجوع هنا فاعله ضمير المؤمنين، ولا شك أن رجوعهم في الظاهر هو إليهم، أي إلى وطنهم ومحلهم، وهذا أمر واقع.
قوله تعالى: (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ).
أتى بالاعتذار منهيا منه بالإيمان مخبرا عنه لَا منهيا؛ إشارة إلى تحقق وقوع عدم الإيمان بهم.
الرؤية إما بمعنى العلم أو [أنها على*] بابها فإن كانت بمعنى العلم فإما أن تكون السين للتحقيق لَا الاستقبال، وإما أن يقال: مراد التعلق [التنجيزي لَا الصلاحي؛ لأنه قديم والتنجيزي*] حادث؛ فتكون الرؤية بمعنى الظهور، أي سيظهر لكم ما علمه الله من أعمالكم، وإن كانت الرؤية على بابها بصرية فتكون الآية حجة لأهل السنة، فإِن الوجود مصحح للرؤية؛ لأن العمل معنى من المعاني فيه تعلقت الرؤية بالمعنى.
قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ... (٩٥)﴾
ثم قال (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) ابن عرفة: يحتمل أن يريد تكرير الحلف منهم؛ فيحلفون أولا طلبا للإعراض، وثانيا طلبا للرضى، ويحتمل أن يكون الحلف الأول لَا من اتباعهم؛ لأنهم في منزلة من يخاف العقوية فيحلفون قصدا للإعراض وطلبا للمسالمة فقط، والثاني من رؤسائهم؛ لأنهم في منزلة من لَا يخاف العقوبة فيحلف قصدا لرضاء المؤمنين عنه.
قوله (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ... (٩٦)... بفتح الضاد مع أنه مضارع، وقال (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) بضم الضاد مع أنه ماض، فهلا كان العكس؛ فالجواب أن رضوا من رضي فأصله رضيوا؛ [فاستثقلت الضمة على الياء، ونقلت إلى الضاد وحذفت الياء لالتقاء الساكنين*].
وأما قوله: (فَإِنْ تَرْضَوْا) فأصله فإن ترضوا عنهم؛ لأنه من رضي يرضى فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وهي ما قبلها مفتوح دليلا عليها.
قوله تعالى: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا... (٩٨)﴾
يحتمل أن يريد من يتخذ [مأخذه منكم فينفقه مغرما؛ لأن المؤمنين كانوا يعطونهم المال طلبا لاستيلائهم، ويحتمل أن يريد [(مَنْ يَتَّخِذُ) *] ما يعطيه [للجهاد*] والغزو مغرما، وهو الظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... (٩٩)﴾
ابن عرفة: إيمانه باليوم الآخر دليل على إيمانه بالرسول من باب أحرى؛ لأن الدار الآخرة إنما علمت من الرسول.
قوله تعالى: (قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ).
قوله تعالى: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ).
إن أريد بالرحمة الجنة فالسين على بابها، وإن أريد نفس الرحمة فالسين للتحقيق، وهو إشارة إلى أنه لَا يجب على الله شيء، وأن التعميم والثواب اللاحق لهم بالصدقة، إنما هو محض لفضل من الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ... (١٠٠)﴾
ابن عطية: قرأها عمر برفع الأنصار، فرد عليه زيد وقال: إنما هي بالخفض، فأرسل عمر إلى أُبي فوافق زيدا، فقال عمر: ما كنا نظن إلا أنا رفعنا رفعة لم يبلغها أحد؛ [إشارة إلى السبق*] لم يختص في الخفض بهم بل شاركهم فيها الأنصار، كان المراد الأولون من الجميع.
ابن عرفة: وكان تقدم لنا الرد عليه بأنه ليس المراد الأولين من هؤلاء؛ بل المراد الأولون من مجموع المهاجرين والأنصار، وإذا قيل: من هم الأولون من المجموع؟ قيل: المهاجرون فقط، كقولك: أكرم الصلحاء من بني فلان وبني فلان.
قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... (١٠٣)﴾
ابن عرفة: لفظ الأموال مخصوص؛ لأنه يخرج منه ما لَا زكاة فيه [كالثياب والرباع ونحوه*]؛ قاله ابن عطية.
ابن عرفة: بل هو محتمل فلا يحتاج إلى تخصيصه لدخول (مِن) عليه التي هو للتبعيض، فالأخذ من بعض الأموال لَا من كلها، قيل لابن عرفة: بل هو عام؛ لأنه جمع مضاف إلى مضمر، والمضمر كله لَا كل؛ أي خذ من أموال كل واحد منهم، فيأخذ بعض مال كل واحد منهم حسبما نص عليه الأصوليون في هذه الآية، وقالوا: يحتمل أنها تكون عامة أو مجملة، فقال ابن عرفة: الظاهر فيها الإجمال، وأن الأموال جمعت على التوزيع؛ فالمأخوذ بعض مال هذا وبعض مال هذا؛ لأن المأخوذ بعض أموال كل واحد.
قوله تعالى: (تُطَهِّرُهُمْ) أي من الذنوب.
قوله تعالى: (وَتُزَكِّيهِمْ).
أي تحصل لهم الأوصاف الجميلة.
فيه جواز الصلاة على غير الأنبياء، وقد يقال: لَا يلزم من إباحة ذلك للنبي ﷺ إباحته لغيره.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
أي سميع لأقوالكم عالم بسرائركم، فيعلم المنافق والمؤمن.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)﴾
وصف الرحمة إشارة إلى أنه لَا ينتفع بالصدقة بوجه، وإن أخذه لها ليس حقيقة؛ بل هو على سبيل الرحمة بعباده في رجوع منفعتها إليهم.
قوله تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا... (١٠٨)﴾
ابن عرفة: التأكيد بقوله (أَبَدًا) يؤخذ منه أن النهي لَا يقتضي التكرار.
ابن عرفة: وكان بعضهم هذا جار على ما قرره أهل العلم المعقول من أن الموجبة الجزئية تناقضها السالبة الكلية؛ لأنهم على ما قال المفسرون طلبوا منه ﷺ أن يأتي لمسجدهم فيصلي لهم صلاة واحدة، فنهاه الله تعالى أن يصلي فيه دائما، وعليها في سورة الأنعام (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) فقد أتوا بالسالبة الكلية، وأجيبوا برفعها بالموجبة الجزئية.
قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).
جزء من اليوم فهي زمان، لذلك أضمروا مضافا لذلك، تقديره: من تأسيس أول يوم.
قوله تعالى: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ).
ابن عرفة: أخذوا منها أن صلاة النافلة في مسجد النبي ﷺ أولى منها في البيوت، خلافا لمالك فإنه كرهها إلا للغرباء؛ فإنه استحقها للغرباء وهذا خشية الوقوع في الرياء، والمراد بالمؤسَّس على التقوى مسجده ﷺ على أحد التفسيرين، ووجه الدليل من الآية أن [المفاضلة*] بين مسجد النبي ﷺ ومسجد الضرار لَا يصح؛ إذ ليس فيه حق بوجه بل هو باطل؛ فلم يبق أن يراد إلا أن الصلاة في مسجده أحق من الصلاة عنده، فتتناول النفل في البيوت.
قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).
قوله تعالى: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ).
قال ابن عرفة: رؤية الله لعملهم مجاز، ورؤية الرسول والمؤمنون له حقيقة، قال: وقرره بوجهين:
أحدهما: أن رؤية الله تعالى ليس المراد نفسها؛ وإنما المراد الجزاء على العمل بالثواب الجزيل والعقاب الشديد؛ بخلاف رؤية الرسول فإنه لَا يجازيهم بل يرى أعمالهم فقط، ومنهم من قرره بأن رؤية الله تعالى سابقة متقدمة إذًا فالاستقبال فيها غير حقيقي. بل السين للتحقيق لَا للاستقبال؛ بخلاف رؤية الرسول فإِنها حادثة فالاستقبال فيها حقيقة؛ واحتج بها الفخر على أن الوجود مصحح للرؤية لأن العمل معنوي.
قوله تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).
ابن عرفة: هذه القضية ليست مانعة لخلو المنع الإصلاحي وإنما هي مانعة الجمع، وأما الخلو من الأمرين فلا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ... (١١١)﴾
قدم هنا الأنفس على الأموال، وقال فيها: يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فقدم الأموال، قال: وأجيب بوجهين:
الأول: أن الجهاد بالمال أخف على النفوس من الجهاد بالنفس، فسلك في الآية المتقدمة مسلك الترقي فيها، وأما هنا فلما ذكر اسم الجلالة قوبل بأشرف الأمور وأعزها وهي النفوس.
الثاني: أن كل أحد عنده نفس يجاهد فيها، وليس كل أحد عنده المال بل الأغلب كان في حقهم عدم الوجدان فبدأ بما هو الأغلب.
قوله تعالى: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا).
قال الزمخشري: وعد ثابت قد أثبته في التوراة والإنجيل*، كما أثبته في القرآن.
ابن عرفة: إن إرادته وعد صدق لَا يصح الخلاف فيه فما قاله حق؛ فإن أراد به أصل التفضيل، فهو بقوله: إنه واجب على قاعدته عقلا، ونحن نقول: إنه واجب
قوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ).
هذا مثل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) فيقتضي نفي الأفضل ونفي المساوي.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ... (١١٤)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه فائدتان أصوليتان. أحدهما: العمل بالقياس؛ لأنها اقتضت نفي ما يتوهم من القياس.
الثاني: إذ هداهم بطلان القياس لقيام الفارق.
قوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ... (١١٥)... أي ما كان الله ليحكم بإضلال قوم ضلوا بعد الهداية حتى يبين لهم ما يتقون؛ فإن ضلوا قبل البيان فإنه لا يحكم بإضلالهم شرعا، والزمخشري يقول: عقلا، فإن قلت: ما أفاد قوله (بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) وهل مفهومه مفهوم مخالفة أو موافقة، لكن قد يقال: إن الهداية هي بعثة الرسل. قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فإِن فهمت الهداية على ظاهر لم يكن مفهوم مخالفة؛ لأن من ضل بعد الهداية قد بينت له الطرق والدلائل.
قوله تعالى: [(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) *].
احتراس خشية أن يتوهم أن تأخر البيان لكون العلم لم يكن حاصلا فأخر حتى حصل العلم به.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ... (١١٧)﴾
المراد: إما خلق الله في قلبه التوبة، أو قبل منه التوبة، وجعل ابن عطية قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم) تأكيدا، والصواب أنه تأسيس، والأول راجع لخلق التوبة في قلوبهم، والثاني راجع لقبولها منهم.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ... (١١٨)﴾
ابن عرفة: عادتهم [يقولون*] الغاية من شرطها مخالفة ما بعدها لما قبلها، وقد فسروا التخلف بوجهين: إما التخلف عن العذر، أو إما عن قبول عذرهم، وإن حملنا
قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
ابن عرفة: وقع هنا في كلام ابن عطية [لفطتان*] متقدمتان؛ إحداهما: أنه قال: هذا اللفظ يقتضي التأنيث، ومنع الاستغفار للمشركين مع ألا ييأس من إيمانهم ابن عرفة، وهذا فيه أدب على الأنبياء.
والثانية: أنه نقل عن الجمهور نزولها في أبي طالب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، ثم قال: والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ابن عرفة: وهذا عند الأصوليين ليس بنسخ؛ لأن الحكم الشرعي إذا كان منفيا بغاية ومعلقا على أمر فغُيِّر فإنه لَا يسمى نسخا.
ابن عرفة: وكان [... ].
تقدمنا في معناها غير هذا، وهو أن هذا كله بناء على أن الاستغفار فيما مضى فيكون لوما للنبي ﷺ وعتبا لمن سواه من المؤمنين على ما فعلوه من الاستغفار لآبائهم، ويحتمل أن يراد به الدوام على ذلك في المستقبل، وأقروا على الماضي كما كانت الأحكام تتجدد شيئا بعد شيء، وفرق بين العلم بكونهم أصحاب الجحيم وبين غير العلم بذلك؛ لأنهم أولا علموا ذلك بأنفسهم، والآن تبين العلم بذلك؛ لأنهم أولا علموا ذلك بأنفسهم، والآن تبين لهم ذلك فحققوه وتيقنوه، واتضح عندهم صحة ما عملوه من موافاتهم على الكفر.
ابن عرفة: يؤخذ منها صحة العمل بالقياس أنه حكم شرعي، ويؤخذ منه إبطال القياس بوجود الفارق.
أما الأول: فلأن الآية الثانية ذكرت جوابا عن سؤال مقدر؛ وهو أن المؤمنين يقولون: نستغفر لآبائنا قياسا على استغفار إبراهيم لأبيه؛ فرد عليهم ذلك بذكر الفارق، فلولا أن القياس معمول به ما صح ذكره، وإبداء الفارق، قال: وعداه بعن دون اللام المقتضية للعلة؛ لأن العلة في الاستغفار ليست هي الموعدة؛ بل هي دخول الموعدة والجنة، والموعدة سبب لَا علة، فكذلك عداه بعن المقتضية للتجاوز عن الموعدة والتخلص منه.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ... (١٢٠)﴾
ابن عرفة: المجرور متعلق بمحذوف؛ أي ما صح لأهل المدينة، والتخلف إن لم يصدق إلا على القادر فليست مخصوصة، وإن صدق على القادر وغيره فهي مخصوصة بقوله تعالى: (لَيسَ عَلَى الأَعمَى حَرَجٌ) الآية.
قوله تعالى: (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ).
تأسيس لأن الأولى اقتضت حضورهم أعم من أن يقاتلوا أولا، وهذه اقتضت المقاتلة.
قوله تعالى: (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ).
هذه عكس ما يقول الأصوليون من أن الكلام على ترك الفعل يستلزم وجوبه، والمدح عليه لَا يقتضي وجوبه، فلو قيل هاهنا: ولا ينالون من عدو نيلا، إلا كتب لهم النجاة من النار، والتخلص من العذاب لاقتضى وجوب هذه الأمور، وأجيب بالفرق بين كون الثناء والمدح يقتضي الوجوب، وبين كونه لَا ينافي الوجوب.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
دليل على أن فاعل هذا أبلغ درجة المحسنين.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)﴾
وقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا)
قال ابن عرفة: عادتهم يستشكلونها لاقتضائها أن الجزاء على الأحسن لَا على
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ... (١٢٧)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: يحتمل أن يكون هذا تقسيما أو تعميما؛ فإن كان تقسيما فيكون إما باعتبار أحوالهم وأنهم في حالة أخرى عند نزول سورة أخرى، ينظر بعضهم إلى بعض، وإن كان تعميما فهو إشارة إلى أنهم في كل سورة لينذر منهم هذا فبعضهم يقول: أيكم زادته هذه إيمانا، وبعضهم ينظر إلى بعض، إما من الخجل فيطلب الانسلاخ خوف الفضيحة بالذنب الذي عمل، وأنه يسخر فينظر لصاحبه على سبيل السخرية والاستهزاء كما يفعل مردة الطلبة عند تكلم بعضهم بالخطأ في العلم فيسخر به أو يتغامز عليه.
قوله تعالى: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).
ابن عطية: أسند الطبري هنا حديثا عن ابن عباس، أنه قال: "لَا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة".
ابن عرفة: يؤخذ من هذا أن للأسماء اللغوية أثرا في التسمية في المعنى يجب اعتباره، ولذلك نقلوا في كتاب السلم عن عمر أنه كره تسمية، سلما قال: ويسمى تلفا؛ لأن السلم مشتق من الإسلام.
قوله تعالى: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ).
ابن عرفة: تقدم فيها سؤال، وهو أن السبب مخالف لمسببه، و (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) معناه عن الاهتداء بعدم الفقه، فكأنه يقول: صرفوا عن الاهتداء لعدم أهليتهم، وأجيب بوجهين: إما أن المراد بالفقه التدبر. أي صرفوا عن العلم بعدم تدبرهم وتفقههم [وبسوء*] نظرهم، وإما أن المراد أنهم غير قابلين للعلم، أي صرفوا عن الاهتداء لعدم قبولهم له، فإن قلت: سوءاتهما إنما هو عن رؤية المسلمين لجميعهم، فهلا قالوا: هل يرانا من أحد؟ فالجواب أنهم قالوا لأصحابهم إن ظهر لك منا الضحك والاستهزاء، فكذلك يكون ظهر للمؤمنين؛ لأنهم يرونا لرؤيتكم؛ بخلاف ما لو قال: هل يرانا من أحد.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ... (١٢٨)﴾
قوله تعالى: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
لأنه مأمور بجهاد الكفار وقتالهم فهو رءوف بالمؤمنين رحيم، والرحمة أخص؛ لأن الرأفة هي مجرد رقة القلب أعم من أن يكون معها رحمة، وإلا فقد يرأف على الشخص ولا يرحمه إنسي؛ بخلاف إيصال الرحمة إليه فإنها تستلزم الرأفة؛ فلذلك بدأ بالرأفة قبل الرحمة.