تفسير سورة إبراهيم

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
نظرات في سورة إبراهيم١
سورة إبراهيم سورة مكية. موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب وهو العقيدة في أصولها الكبيرة، وتشمل : الرسالة، والتوحيد، والبعث، والحساب، والجزاء.
ولكن السياق في هذه السورة يسلك نهجا خاصا في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصلية. نهجا مفردا يميزها عن غيرها من السور، يميزها بجوها، وطريقة أدائها، والحقائق الكبرى التي تتضمنها، ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ولكنها تعرض من زاوية خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا. فيحسبها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد، وذلك من الإعجاز القرآني في طريقة الأداء.
ويبدو أنه كان لأسلوب السورة من اسمها نصيب.. إبراهيم أبو الأنبياء.. المبارك. الشاكر... الأواب المنيب. وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة وفي الحقائق التي تبرزها، وفي طريقة الأداء. وفي التعبير والإيقاع.
ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسة في العقيدة، ولكن حقيقتين كبيرتين تظهران أكبر من غيرهما في سورة إبراهيم :
الحقيقة الأولى : وحدة الرسالة والرسل ووحدة دعوتهم. ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الفرقة المكذبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان.
والحقيقة الثانية : بيان : نعمة الله على البشر وزيادة النعمة بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران.
تبدأ السورة ببيان : وظيفة الرسول، وبيان : هدف القرآن. وهذه الوظيفة هي : هداية الناس، وإبطال عادات الجاهلية وقيمها. وإرساء معالم التوحيد والعدالة والمساواة. قال تعالى :﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ﴾. ( إبراهيم : ١ ).
وتختم السورة بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة حقيقة التوحيد في قوله تعالى﴿ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ﴾. ( إبراهيم : ٥٢ ).
وفي أثناء السورة نجد أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم ولنفس الهدف وهو : إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ﴾. ( إبراهيم : ٥ ).
وتذكر السورة : أن وظيفة الرسل عامة، هي : بيان الحق وتوضيح طريق الهداية إلى الله، قال تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ﴾. ( إبراهيم : ٤ ).
وتبين السورة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه وأن بشريته هي التي تحدد وظيفته ؛ فهو مبلغ ومنذر وناصح ومبين، ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة أو بمعجزة إلا بإذن الله وحين يشاء هو أو قومه، ولا يملك الرسول أن يهدي قومه أو يضلهم، فالهدي والضلال متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئة الله المطلقة. ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم. والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين :﴿ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ﴾. ( إبراهيم : ١٠ ).
وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين :
﴿ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾. ( إبراهيم : ١١ ).
ويتضمن السياق كذلك : أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم :﴿ بإذن ربهم ﴾.
وكل رسول يبين لقومه ؛ ﴿ فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ﴾. ( إبراهيم : ٤ ).
وبهذا أو ذاك تتحدد حقيقة الرسول ؛ فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة، كذلك تتضمن السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا، ويتحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
ويصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين.
﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين* ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد* واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ﴾. ( إبراهيم : ١٣ ١٥ ).
وحدة الرسالات السماوية في سورة إبراهيم
الظاهرة البارزة في سورة إبراهيم : أنها تتحدث عن الرسل جميعا كأنهم أصحاب فكرة واحدة وهدف واحد، وكأن جواب قومهم كان جوابا موحدا في جميع العصور والأحوال.
وتعرض السورة هذه الفكرة بطريقة فريدة في الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي ثم يجيء رسول ورسول. كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى، وأقرب مثل لهذا النسق : سورة هود، فأما سورة إبراهيم أبي الأنبياء فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع المكذبين كلهم في صف، وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب.
ونبصر فنشهد أمة الرسل، وفرقة المكذبين في صعيد واحد على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون حقيقة الإيمان والكفر فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان.
قال تعالى :
﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب* قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين* قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾. ( إبراهيم : ٩ ١١ ).
فهاهنا تتجمع الأجيال من لدن نوح، وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى : حقيقة الرسالة وهي واحدة، واعتراضات المكذبين، وهي واحدة، وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة، وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة، وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة، وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة.
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا، بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة، وهي تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ولا انفصال بينهما، إنما تكمل إحداهما الأخرى.
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة : إبراز معالم المعركة بين الفريقين، ونتائجها الأخيرة، مثل : الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة وشجرة الإيمان، وشجرة التوحيد والخير، والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة : شجرة الباطل والتكذيب والشر والطغيان... فالتوحيد وكلمته : شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. أصله ثابت موصول بالله وفرعه مرتفع إلى السماء ويؤتى ثماره كل حين ؛ بالصلاة والزكاة وسائر العبادات والأعمال النافعة في الدنيا والآخرة. أما شجرة الكفر فلا أصل لها تعتمد عليه ؛ فهي تمثل الباطل في الدنيا، والخيبة في الآخرة.
قال تعالى :
﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار* يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾. ( إبراهيم : ٢٤ ٢٧ ).
المقطع الثاني من سورة إبراهيم
تنقسم سورة إبراهيم إلى مقطعين متماسكي الحلقات :
المقطع الأول : يتضمن بيان حقيقة الرسل، ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا والآخرة، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، وقد تحدثنا عن هذا المقطع.
والمقطع الثاني من سورة إبراهيم : يتحدث عن نعم الله على البشر، والذين كفروا بهذه النعم وبطروا، والذين آمنوا بها وشكروا، ونموذجهم الأول هو إبراهيم، ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها، وأحفلها بالحركة والحياة.
نعم الله
لقد عدد الله نعمه على البشر كافة : مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، برهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم، وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل ؛ أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمه في هذه الأرض كالمؤمن والبار والطائع ؛ لعلهم يشكرون، ويعرض هذه النعم في أضخم مجالي الكون وأبرزها، وبضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة :﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ﴾. ( إبراهيم : ٣٢ ٣٤ ).
وفي إرسال الرسل نعمة تعدل تلك أو تربوا عليها :﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾. ( إبراهيم : ١ ).
والنور أجلى نعم الله في الوجود، والنور هنا هو النور الأكبر، النور الذي يشرق به كيان الإنسان، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه.. وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه، ووظيفة الرسل كما بينتها السورة.
وفي قول الرسل مجتمعين :﴿ يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ﴾. ( إبراهيم : ١٠ ).
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور، وهي منه قريب : وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل. ﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين* ولنسكننكم الأرض من بعدهم ﴾. ( إبراهيم : ١٤، ١٣ )، وهي نعمة. ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾. ( إبراهيم : ٧ ).
مع بيان : أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾. ( إبراهيم : ٨ ).
ويقرر السياق : أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ﴾. ( إبراهيم : ٣٤ ).
ولكن الذين يتدبرون آيات الله، وتتفتح لها بصائرهم ؛ يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء.
﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾. ( إبراهيم : ٥ ).
ويتمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم حين يقف خاشعا ويدعو ربه عند البيت الحرام دعاء مخلصا كله حمد وشكر، وصبر وإيمان :
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام* رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن ع

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد١ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد٢ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد٣ ﴾.
المفردات :
الر : هذه وأمثالها من فواتح بعض السور، قيل : إنها أسماء لها، وقيل : أسرار محجوبة، وقيل : إنها رمز للتحدي، وقيل : إشارة لابتداء كلام وانتهاء كلام، وقيل : غير ذلك.
الظلمات : الضلالات ؛ فإنها ظلمات معنوية.
إلى النور : إلى الهدى، فإنه نور معنوي يهدي إلى الحق.
بإذن ربهم : بتيسيره وتوفيقه.
إلى صراط : أي : إلى طريق.
الحميد : أي : المحمود، والمراد : أنه تعالى مستحق للحمد لذاته وإن لم يحمده الناس.
التفسير :
١ ﴿ الر... ﴾.
حروف للتنبيه بمثابة الجرس الذي يقرع ؛ ليتنبه الناس إلى ما يلقى إليهم.
وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن الكريم، مع أنه مكون من حروف عربية ينطقون بها، وينظمون منها كلامهم وأحاديثهم ؛ فدل ذلك : على أن القرآن ليس من صنع بشر، ولكنه تنزيل من حكيم حميد.
﴿ كتاب أنزلناه إليك ﴾. أي : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو كتاب جليل الشأن عظيم القدر.
﴿ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾.
لكي تخرج الناس من ظلمات الكفر والضلالة، إلى نور الإيمان والعلم والحياة الرشيدة ؛ لما اشتمل عليه القرآن، من المنهج السديد الذي تسعد به البشرية ؛ كلما سلكته، وتشقى ؛ كلما ابتعدت عنه.
﴿ بإذن ربهم ﴾. أي : بتوفيقه ومشيئته وإرادته وأمره.
﴿ إلى صراط العزيز الحميد ﴾. أي : إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم، وهو العزيز الذي لا يغالب، المحمود في جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾. ( الحديد : ٩ ).
المفردات :
وويل : الويل : الشر والهلاك.
التفسير :
﴿ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ﴾.
أي : الله تعالى وحده هو الذي له ما في السماوات وما في الأرض، ملكا وخلقا لا يشاركه في ذلك مشارك ولا ينازعه منازع، ولفظ الجلالة قرأه الجمهور بالجر ؛ على أنه بدل، أو عطف بيان من ﴿ العزيز الحميد ﴾. وقرأ نافع وابن عامر :﴿ الله الذي له ما في السماوات... ﴾برفع لفظ الجلالة على الاستئناف.
﴿ وويل للكافرين من عذاب شديد ﴾. أي : الهلاك والفضيحة والخسران، ناشئ من عذاب شديد للكافرين بما أنزلناه إليك، أيها الرسول الكريم.
المفردات :
يستحبون : يختارون.
ويصدون عن سبيل الله : يمنعون غيرهم عن دينه الذي يوصل إلى مرضاته وثوابه.
ويبغونها عوجا : أي : ويطلبونها. والضمير عائد على السبيل ؛ فإنها مؤنثة، أي : ويطلبون لسبيل الله العوج.
التفسير :
﴿ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة... ﴾.
وصف سبحانه هؤلاء الكافرين بصفات ثلاث هي :
( أ‌ ) إيثار الدنيا وشهواتها وآثامها وموبقاتها، على الأعمال الصالحة، التي تقربهم من الله زلفى، وينسون يوما تجازى فيه كل نفس بما كسبت، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا.
( ب‌ ) ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾. يصنعون العراقيل في طريق دعوة الحق ؛ حتى يبتعد الناس عنها، ويمنعون من تتجه عزائمهم إلى الإيمان بالله ورسوله، من السير في طريق الإيمان، وذلك بسبب الكفر والطغيان، الذي ران على قلوبهم بما كانوا يكسبون.
( ج )﴿ ويبغونها عوجا ﴾. ويطلبون لطريق الله ودعوته وسبيله : الميل والعوج ؛ لتوافق فجورهم ونزواتهم، وسبيل الله أبعد ما تكون عن العوج والاضطراب ؛ لأن سبيل الله صراط مستقيم قويم، وبعض الناس يدعي : أن أحكام القرآن وآدابه، وتشريعاته وقوانينه، تناسب أمة البدو العربية، ولا تناسب الشعوب المتحضرة المتقدمة، ونقول لهؤلاء : إن أحكام هذا القرآن، وهدى هذه الشريعة، غيرت وجه البسيطة، وصنعت خير أمة أخرجت للناس، آمنت بالله وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، وكانت مضرب الأمثال في العدل وترك الجور، وثلث عروش الأكاسرة والقياصرة وامتلكت بلادهم، إلى أن غير أهلها معالمها، فأركسهم الله بما كسبوا، فبدل عزهم ذلا، وسعادتهم شقاء، وتلك سنة الله ؛ أن الأرض يرثها عباده الصالحون ؛ لاستعمارها.
ثم حكم سبحانه على الكافرين بما يستحقون فقال :﴿ أولئك في ضلال بعيد ﴾.
أي : أولئك الموصوفون بإيثارهم الدنيا وزهرتها، وصدهم عن الدين، وابتغائهم له الزيغ والعوج أولئك في ضلال بعيد عن الحق، لا يرجى لهم والحالة هذه ؛ هداية ولا رشاد.
المفردات :
بلسان قومه : أي : بلغة قومه.
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم٤ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور٥ ﴾.
التفسير :
٤ ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم... ﴾.
أي : وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم، من قبلك ومن قبل قومك، إلا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم ؛ ليفهمهم ما أرسل به إليهم، من أمره ونهيه بسهولة ويسر، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر، وقد جاء هذا الكتاب بلغته، وهو يتلى عليهم فأي عذر لهم في ألا يفقهوه، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه ؛ ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام، وإصلاح لنظم المجتمع ؛ ليسعدوا في حياتهم الدنيوية والأخروية، والنبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرسل إلى الناس جميعا، ولغاتهم متباينة، وألسنتهم مختلفة، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيرهم، فإذا فهم قومه الرسالة، وعرفوا أهدافها، أمكن ترجمة ذلك إلى غيرهم من الأمم. روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لم يبعث الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه )٢.
﴿ فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ﴾. أي : فبعد إرسال كل رسول بلسان قومه ؛ ليبين لهم طريق الهداية، ويرشدهم إلى ترك الضلال والغواية، فيستجيب للرسل من اتبع سبيل الرشاد، وجانب أسلوب العناد، فانشرح صدره للإسلام ؛ بهداية الله وتوفيقه، ومن الناس من يعرض عن الهدى، ويختار الضلال والكفر، ومثل هؤلاء يسلب الله عنهم هداه وتوفيقه، ويتركهم في ضلال مبين.
وللعلماء في مثل الجملة كلام كثير يمكن تلخيصه فيما يأتي :
إن هداية الله غالية، فمن رغب في الهدى ؛ يسر الله له أسبابه، وأعانه باللطف والتوفيق، ومن أعرض عن الهدى، وصد عن رسالات السماء ؛ سلب الله عنه الهدى وتركه في ضلال وحيرة، وفي معنى هذه الآية قال تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴾ ( البقرة : ١٠ ).
وقال عز وجل :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ ( المطففين : ١٤ ).
ويكون معنى الآية :
يضل الله ؛ من ران على قلبه الغواية والضلالة، واختار الكفر على الإيمان، ويهدي الله ؛ من اختار الإيمان، وسلك في طريق الهدى، فيلهمه الله الهدى والرشاد.
﴿ وهو العزيز ﴾ فلا غالب في مشيئته.
﴿ الحكيم ﴾. في تشريعاته وبيانه، وأوامره ونواهيه.
المفردات :
بآياتنا : هي الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، وهي : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنون ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.
من الظلمات : من الكفر والجهالات المشبهات للظلمات.
إلى النور : إلى الإيمان بالله وتوحيده فهو النور الهادي إلى سواء السبيل.
وذكرهم بأيام الله : أي : بوقائعه التي وقعت على الأمم السابقة، يقال : فلان عالم بأيام العرب، أي : بحروبها وملاحمها.
صبار شكور : كثير الصبر، كثير الشكر.
التفسير :
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور... ﴾.
هذا تفريع على إرسال كل رسول بلسان قومه ؛ ليبين لهم.
والمعنى : كما أرسلناك يا محمد بلسان قومك ؛ لتبين لهم، أرسلنا موسى عليه السلام بآياتنا، وهي الآيات التسع : الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، ويده، والسنون، والنقص من الثمرات.
أو المراد بالآيات : آيات التوراة، ويمكن أن يراد بالآيات : ما هو أعم وأشمل فتشمل الآيات التسع، وآيات التوراة.
﴿ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ﴾.
أي : ادع قومك إلى الإيمان وترك الكفر، وبذلك تخرجهم من ظلمات الكفر وضلاله، إلى نور الإيمان وهدايته.
﴿ وذكرهم بأيام الله ﴾. أي : ذكرهم بنعم الله عليهم، حين نجاهم من فرعون، وفلق بهم البحر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنقذهم من فرعون وقومه ؛ فأيام الله يراد بها : المحن التي نجاهم الله منها، والنعم التي أكرمهم الله بها، أو ذكرهم بوقائع الله في القرون الأولى.
﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾.
أي : إن في ذلك التذكير بنعم الله ونقمه ؛ لآيات واضحات، ودلائل بينات على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، لكل صبار في المحنة والابتلاء، شكور في النعمة والمنحة.
جاء في تفسير ابن كثير : قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلي ؛ صبر، وإذا أعطي ؛ شكر.
وكذا جاء في الصحيح : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضى له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء ؛ صبر ؛ فكان خير له، وإن أصابته ؛ سراء ؛ شكر فكان خيرا له )٣.
﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم٦ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد٧ ﴾.
المفردات :
يسومونكم سوء العذاب : أي : يذيقونكم شديد العذاب.
ويستحيون نساءكم : أي : ويبقونهن أحياء فلا يقتلونهن.
بلاء من ربكم : أي : ابتلاء بمعنى : اختبار.
التفسير :
٦ ﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم... ﴾الآية.
أي : واذكر لقومك يا محمد، حين قال موسى لقومه : يا قوم، تذكروا إنعام الله عليكم وفضله بكم ؛ حين أنجاكم من عذاب قوم فرعون، حيث كانوا يذيقونكم مر العذاب، ويكلفونكم من الأعمال مالا يطاق مع القهر والإذلال، ويذبحون أبناءكم الذكور، ويستبقون الإناث، ذليلات مستضعفات، وهذا من أسوأ ألوان البلايا والرزايا، قال الشاعر :
ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾. كان هذا امتحانا واختبارا وابتلاء عظيما من الله ؛ حيث اختبرهم بالبلاء حين أقاموا مع فرعون وقومه، فذاقوا ألوان العذاب وذبحت أطفالهم، واستبقيت إناثهم للخدمة والمذلة.
والابتلاء يكون بالشر والخير، قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾( الأنبياء : ٣٥ ).
ثم اختبرهم الله بالنجاة من فرعون، وشق الطريق اليابس لهم في البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، ورزقهم من الطيبات.
المفردات :
تأذن : أي : آذن بمعنى : أعلم، كتوعده بمعنى : أوعده، غير أنه أبلغ منه.
التفسير :
﴿ وإذ تأذن ربكم... ﴾.
وأي : واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم، وأعلمكم بوعده ووعيده، حين قال :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾.
وشكر النعمة : استخدامها فيما خلقت له، فمن شكر الله على النعمة، وأخرج زكاة المال، وحفظ شبابه وقوته من الفسوق والعصيان، وأطاع الله واجتنب المعاصي ؛ زاده الله نعمة التوفيق في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وفي الحديث الشريف :( من ألهم الشكر ؛ لم يحرم الزيادة )٤.
وسئل بعض الصلحاء عن الشكر فقال : ألاّ تتقوى بنعمه على معاصيه.
فحقيقة الشكر : الاعتراف للمنعم بالفضل، وألا تستخدم النعمة في معصية الله، وأنشد الهادي وهو يأكل :
أنا لك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه
فغص باللقمة وخنقته العبرة.
﴿ ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾.
أي : ولئن كفرتم نعمة الله، وجحدتم فضله عليكم، وقد وهبكم العديد من النعم وسخّر لكم هذا الكون، وأمدّكم بمقومات الحياة، وأرسل لكم الرسل وأنزل الكتب، وأرشدكم إلى الطريق المستقيم، فإذا كفرتم نعم الله، وجحدتم فضله، وخالفتم أمره ؛ عذبكم أشد العذاب.
﴿ إن عذابي لشديد ﴾. فإن الله يزيل النعم عن الكافرين، وينتقم منهم في الدنيا، ويعاقبهم في الآخرة.
قال تعالى :﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ﴾. ( سبأ : ١٧ ).
وفي الحديث :( إن العبد ليحرم الرزق ؛ بالذنب يصيبه )٥.
﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد٨ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب٩ ﴾.
المفردات :
حميد : مستوجب للحمد لذاته، وإن لم يحمده أحد.
التفسير :
٨ ﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾.
أحس موسى بالاستكبار والإعراض عن قومه ؛ فوجه لهم هذا القول المناسب لإعراضهم، ومضمونه ما يأتي :
إن تعرضوا عن طريق الله وتجحدوا نعمه، أنتم ومعكم من في الأرض جميعا من الخلائق، فلن تضروا الله شيئا ؛ لأن الله غني عنكم، وعن عبادتكم، ولن يقع الضرر إلا على المخالفين لله، الخاسرين لفضله ورضوانه.
﴿ فإن الله غني ﴾. عن عباده حميد. مستحق للحمد من جميع المخلوقين طوعا وكرها.
قال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾( فاطر : ١٥ ).
وقال سبحانه :﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ ( الإسراء : ٤٤ ).
وفي صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا.. الخ الحديث )٦.
المفردات :
بالبينات : أي : بالآيات الواضحات.
فردوا أيديهم في أفواههم : أي : ردوها ؛ لكي يعضوها في أفواههم غيظا.
مريب : الريبة هنا بمعنى : اضطراب النفس وعدم اطمئنانها.
التفسير :
﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم... ﴾. يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه، فيكون داخلا تحت التذكير بأيام الله، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه ؛ تذكيرا لأهل مكة، وتحذيرا لهم من مخالفة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى : ألم يأتكم يا أهل مكة خبر قوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، ممن لا يحصى عددهم، ولا يحيط بهم علما إلا الله سبحانه وتعالى.
﴿ جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾. أي : جاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، والدلائل الواضحة في الدعوة إلى الإيمان والهدى.
﴿ فردوا أيديهم في أفواههم ﴾. أي : عضوا بنان الندم ؛ غيظا مما قاله الرسل لهم، كما قال سبحانه :﴿ عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾. ( آل عمران : ١١٩ ).
وقال أبو عبيدة والأخفش : هو مثل، والمراد : أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد ردّ يده في فيه، وقيل : جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ؛ ردّا لقولهم.
﴿ وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ﴾.
أي : نحن لا نصدقكم فيما جئتم به من دعوى الرسالة. ولا نصدق ما جئتم به من المعجزات والبينات.
﴿ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ﴾.
أي : نحن نشك في ما جئتم به من النبوات والشرائع، شكا يوقع في الريبة والتوجس، فنحن كافرون بدعوتكم، ولا نصدق بها، وعلى الأقل نشك في حقيقة ما أتيتمونا به، أي : هو أمر غير يقيني، فكيف تريدوننا أن نؤمن به ؟ ! إنا نشك في صحة نبوتكم.
وجاء في زبدة التفسير من فتح القدير للشوكاني :
ويحتمل أنهم ادعوا على الرسل : أن لهم نيات غير ما يظهرونه، من الحصول على الملك في أقوامهم، واكتساب الأموال والدنيا العريضة، وأنهم قالوا ذلك ؛ لتوهين عزم الرسل وتفتير همتهم في الدعوة.
﴿ * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين١٠ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون١١ وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون١٢ ﴾.
المفردات :
أفي الله شك : الاستفهام للإنكار بمعنى : النفي، وفيه معنى التعجب.
فاطر السماوات والأرض : خالقهما على غير مثال سابق.
بسلطان مبين : ببرهان بيّن له سلطان واضح على النفوس.
التفسير :
١٠ ﴿ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض... ﴾.
أي : اتجهت الرسل إلى قومها، في مناقشة هادئة ؛ لتقول لها : أفي وجود الله شك ؟ ! أو أفي وحدانيته وتفرده بالألوهية شك ؟ !.
﴿ وهو فاطر السماوات والأرض ﴾، أي : خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق.
ونجد هذه الدعوة إلى التفكر والتدبر، والتأمل في الخلق والكون والسماء والأرض، والليل والنهار والبحار والأنهار والهواء والفضاء، قد وردت على لسان الرسل جميعا.
وفي سورة نوح يقول نوح لقومه :﴿ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا* وجعل القمر فيهنّ نورا وجعل الشمس سراجا* والله أنبتكم من الأرض نباتا* ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا* والله جعل لكم الأرض بساطا* لتسلكوا منها سبلا فجاجا ﴾( نوح : ١٥ ٢٠ ).
ثم قالت الرسل لقومهم :
﴿ يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ﴾.
أي : يدعوكم الله إلى الإيمان به، وبوحدانيته وسائر صفاته وكمالاته ؛ ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ؛ ليغفر لكم بعض ذنوبكم، وهي الذنوب التي بين العباد ورب العباد، أو ليسامحكم عن كفركم فيما مضى، ويغفر لكم في الدار الآخرة.
﴿ ويؤخركم إلى أجل مسمى ﴾. أي : أن الإيمان بالله يجعلكم في أمن وأمان ؛ فلا يستأصلكم الله بالعذاب، كما استأصل الكافرين قبلكم، بل يمنعكم بالطيبات واللذات إلى الموت.
قال تعالى :﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾( هود : ٣ ).
﴿ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا ﴾.
أي : قال الظالمون لرسلهم :﴿ إن أنتم إلا بشر مثلنا ﴾. في الهيئة والصورة، والمأكل والمشرب، تريدون أن تمنعونا عن عبادة الآلهة، التي كان يعبدها آباؤنا.
﴿ فأتونا بسلطان مبين ﴾. أي : قدموا لنا برهانا يشتمل على حجة واضحة، ومعجزة خارقة تؤيدكم في دعوى الرسالة، وكأن ما قدمه الرسل من المعجزات ليس كافيا في نظر المكذبين.
﴿ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده... ﴾الآية.
أي : قال الرسل لأممهم : نحن حقا بشر مثلكم، نأكل ونشرب ونسير في الأسواق، لكن هذا لا يمنع من أن يتفضل الله على بعض عباده، بالنبوة والرسالة فهي منحة إلهية، يختار الله لها من هم أهل لذلك، ولا تنال بالكسب ولا بالعبادة.
جاء في منظومة الجوهرة للشيخ/ اللقاني :
ولم تكن نبوة مكتسبة ولو رقى في الخير أعلا عقبه
بل ذاك فضل الله يعطيه من يشاء جلّ الله واهب المنن
وقد أراد الله أن تكون الرسل من جنس البشر ؛ لتكون القدوة العملية متيسرة، أما إذا كان الرسول ملكا من الملائكة، وخالفه المشركون ؛ أمكن القضاء عليهم مباشرة، والله يريد أن يتمتع البشر بفرصة كافية ؛ للتأمل والتفكر وتقليب وجهات النظر، قال تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون* ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾( الأنعام : ٩، ٨ ).
﴿ وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ﴾.
أما المعجزة الباهرة التي طلبتموها ؛ فليس لنا سبيل إلى تحقيقها ؛ لأننا بشر نحمل رسالة إلى الناس، والله سبحانه هو الذي يؤيدنا بالمعجزة بإذنه وأمره، وليس في مقدورنا إتيان المعجزات إلى قومنا ؛ إلا إذا كان ذلك بأمر الله وتقديره.
﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾.
ليس أمامنا إلا التوكل على الله، والاعتماد عليه وحده ؛ فهو الخالق القادر القوي الفعّال لما يريد، ونحن نلجأ إليه متوكلين عليه، أمام كفركم وعنادكم.
﴿ وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا... ﴾.
وما يمنعنا من التوكل على الله والاعتماد عليه، وقد هدانا إلى أقوم السبل، وأرشدنا إلى طريقه القويم وشرعه الحكيم.
﴿ ولنصبرن على ما آذيتمونا ﴾. أي : سنصبر صبرا جميلا، على كفركم وتطاولكم في العناد والتكذيب، والسفه واللجاح.
﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾. أي : وعلى الله وحده فليتوكل المتوكلون على ربهم وخالقهم ؛ فهو مبعث رجائهم ومعقد آمالهم.
وقد ذكر التوكل في السياق ثلاث مرات ؛ لأنه الملجأ الذي يلجأ إليه المرسلون، أمام عناد المكابرين ؛ فالتوكل على الله زاد قوي ؛ وسند متين للمؤمن، بعد أن يؤدي ما عليه من الواجبات، ثم يعتمد بعد ذلك على الله ؛ وأنعم به من سند قوي متين ! قال تعالى :﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ﴾( الطلاق : ٣ ).
﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين١٣ ولنسكننّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد١٤ ﴾.
المفردات :
لتعودن : لتصيرن.
التفسير :
١٣ ﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا... ﴾الآية.
تمهيد :
بعد أن أفحم الرسل الكفار والمشركين بالمنطق والحجة والدليل ؛ لجأ الكفار إلى منطق القوة والقهر.
والمعنى : وقال الذين كفروا بالله ورسله، لرسلهم : ليس أمامكم إلا أحد أمرين لا محالة، إما إخراجكم من بلادنا مطرودين مقهورين، وإما أن تعودوا إلى ملتنا، ملة الآباء والأجداد، وهي عبادة الأصنام والأوثان، وقد يسر لهم هذا الأمر أنهم كانوا كثرة، أصحاب جاه ومال وسلطان، وكان الرسل أصحاب الحق ودعوة الحق، قلة ضعيفة أمام بطش الباطل وجبروته، وقد تكرر هذا المعنى في قصة نبي الله شعيب، وقصة نبي الله لوط وغيرهما.
﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ﴾.
أي : أعلم الله رسله قائلا لهم : لنهلكن الظالمين، وأكد الأمر بوسائل التوكيد، مثل : لام القسم، ونون التوكيد ؛ زيادة في إدخال السرور على المؤمنين، وتثبيت قلوبهم على الحق.
وقريب من هذه الآية ما ورد من قول قوم شعيب له ولمن آمن به :﴿ لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا قال أولو كنا كارهين ﴾( الأعراف : ٨٨ ).
وقال سبحانه عن قوم لوط :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ﴾( النمل : ٥٦ ).
المفردات :
مقامي : أي : الموقف المملوك لله، الذي يقف به العباد بين يديه للحساب، أو قيامه على عبده ومراقبته إياه.
وعيد : وعدي بعذاب الكفار والعصاة يوم القيامة.
التفسير :
﴿ ولنسكننّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ﴾.
أي : أوحى الله إلى رسله : بأن العاقبة ستكون للمؤمنين، في ميراث أرض الكافرين ؛ تلك سنّة الله تعالى في خلقه، أن يعاقب الظالمين المعتدين، وأن يأخذ بيد المؤمنين العاملين.
قال تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾( الأنبياء : ١٠٥ ).
وفي سورة القصص، ذكر الله تعالى جانبا كبيرا من قصة موسى مع فرعون، وصدر قصة موسى في سورة القصص بالعبرة والمغزى، حيث قال سبحانه :﴿ ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾( القصص : ٦، ٥ ).
وقال سبحانه :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾( المجادلة : ٢١ ).
وقال عز شأنه :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون ﴾( الصافات : ١٧١ ١٧٣ ).
وفي ختام الآية نجد قوله تعالى :
﴿ ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ﴾.
أي : ذلك الذي مرّ بيانه من إهلاك الظالمين، وإسكان المؤمنين أرضهم وديارهم، أمر ثابت لكل من خاف قيامي عليه بحفظ أعماله، ومراقبتي إياه، وزادت خشيته من مقام ربه، وجلال عظمته ؛ وخاف وعيدي بالحساب والعذاب للكفرة والعصاة والظالمين.
من تفسير الكشاف للزمخشري
قال الزمخشري : والمراد بالأرض في قوله تعالى :﴿ ولنسكننّكم الأرض من بعدهم ﴾( إبراهيم : ١٤ ) : أرض الظالمين وديارهم، ونحوه :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾( الأعراف : ١٣٧ ).
وقوله تعالى :﴿ وأورثكم أرضهم وديارهم ﴾( الأحزاب : ٢٧ ).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم :( من آذى جاره ؛ ورثه الله داره )٧.
ثم قال الزمخشري : ولقد عاينت هذا في مدة قريبة، كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها، ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم، وملّكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها، ويدخلون في دورها ويخرجون، ويأمرون وينهون ؛ فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثتهم به، وسجدنا شكرا لله.
﴿ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد١٥ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد١٦ يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ١٧ ﴾.
المفردات :
واستفتحوا : وطلبوا الفتح، والمراد به هنا : النصر.
وخاب : وخسر وهلك.
كل جبار : الجبار في اللغة : من يقهر الناس على ما يريده، والمراد به هنا : المتكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، المتعالي على رسله.
عنيد : شديد العناد والمكابرة.
التفسير :
١٥ ﴿ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ﴾.
أي : والتمس الرسل من خالقهم : أن ينصرهم على أعدائه وأعدائهم، وأن يحكم بحكمه العادل بينهم وبين هؤلاء المكذبين.
قال ابن كثير :
﴿ واستفتحوا ﴾. أي : استنصرت الرسل ربها على قومها ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن أسلم : استفتحت الأمم على أنفسها، كما قالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾. ( الأنفال : ٣٢ ).
ويحتمل أن يكون هذا مرادا، وهذا مرادّا ؛ كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر، وقال الله تعالى للمشركين :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم... ﴾. ( الأنفال : ١٩ )، والله أعلم٨.
﴿ وخاب كل جبار عنيد ﴾. وهذه الجملة معطوفة على محذوف والتقدير : واستفتحوا فنصر الله تعالى رسله على أعدائهم.
﴿ وخاب كل جبار عنيد ﴾. وخسر كل متكبر متجبر معاند للحق، : وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد* مناع للخير معتد مريب* الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ﴾. ( ق : ٢٤ ٢٦ ).
المفردات :
من ورائه : من خلفه أو من أمامه، وأصل معنى وراء : ما توارى عنك قدّامك أو خلفك.
ماء صديد : هو ماء يسيل من أجساد أهل النار. وأصل الصديد : الماء الرقيق الذي يخرج من الجرح.
التفسير :
﴿ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ﴾.
أي : من خلفه جهنم تنتظره بحرها ولهيبها، وحميمها وغسلينها.
والصديد : هو ما يسيل من أجساد أهل النار، وهو ماء في غاية الحرارة إذا قدم إليهم لم يستسيغوه، فيكرهون على شربه، فإذا قدم إليهم شوى وجوههم من حرارته، وإذا شربوه قطع أمعاءهم عقوبة لهم، قال تعالى :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾. ( محمد : ١٥ ).
وقال عز شأنه :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ﴾. ( الكهف : ٢٩ ).
المفردات :
يتجرعه : أي : يتكلف بلعه مرة بعد أخرى من الجرع وهو البلع.
ولا يكاد يسيغه : ولا يقارب أن يبتلعه بسهولة.
التفسير :
﴿ يتجرعه ولا يكاد يسيغه... ﴾.
يكلف شربه ولا يستسيغ ذلك ؛ لمرارته ورداءة طعمه، ولونه وريحه، وشدة حرارته، لكنه يكلف أن يتجرعه جرعة بعد جرعة، ويسقاه على الرغم من قهرا وقسرا.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم، وصححه غيرهم : عن أبي أمامة : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية :( يقرّب إليه فيتكرّهه ؛ فإذا أدنى منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى يخرج من دبره ).
يقول الله تعالى :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾. ( محمد : ١٥ ).
﴿ ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ﴾.
أي : تأتيه أسباب الموت من كل مكان في جسمه، فكل عضو يعذب عذابا شديدا، حتى أطراف شعره، وإبهام رجله.
أوالمراد : تأتيه أسباب الموت من الشدائد، وأنواع العذاب في كل موضع، والمراد : أنه يحيط به من جميع الجهات، من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وشماله، في نار جهنم، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، لكنه لا يموت !.
قال تعالى :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ﴾. ( فاطر : ٣٦ ).
وقال سبحانه :﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ﴾. ( الزخرف : ٧٧ ).
فهم مخلدون في جهنم يستقبلون في كل وقت عذابا أشد وأشق.
﴿ ومن ورائه عذاب غليظ ﴾. أي : وله من بعد هذه الحال، عذاب آخر مؤلم أغلظ من الذي قبله.
وعذاب النار وأهوالها متفاوت في شدته ؛ فالنار دركات، كما أن الجنة درجات، فلا يستوي في الجزاء كافر عنيد متمرد يسعى في الأرض فسادا، وكافر مغلوب على أمره.
قال تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾. ( النساء : ١٤٥ ).
روى الشيخان : عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، لرجل وضع في أخمص٩ قدميه جمرة يغلي منها دماغه )١٠.
﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد١٨ ﴾.
المفردات :
مثل الذين كفروا : المثل في اللغة : بمعنى : الشبيه والنظير ؛ كالمثل والمثيل، ويطلق على الحال والصفة التي لها شأن وفيها غرابة، كما في هذه الآية وأمثالها مما تقدم مرارا ويأتي كثيرا.
في يوم عاصف : العصف : اشتداد الريح، وصف به زمان هبوبها ؛ تقوية لشدتها، وتوكيدا، كما وصف النهار بالصيام، والليل بالقيام في قولهم : نهاره صائم وليله قائم ؛ لكثير الصيام والقيام.
التفسير :
١٨ ﴿ مثل١١ الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف... ﴾.
كان بعض الكفار يعمل الأعمال الصالحة كصلة الرحم، أو يتقدم للأصنام بالقرابين ؛ طمعا في المثوبة وحسن الجزاء، ولما كانت هذه الأعمال لم تبن على إيمان سليم، ويقين بالله الواحد الأحد، بين القرآن : أنها أعمال باطلة ضائعة، ذاهبة كذهاب الرياح بالرماد عند شدة هبوبها.
والآية اشتملت على تشبيه بليغ، ووجه الشبه الضياع والتفرق وعدم الانتفاع.
ومعنى الآية :
حال أعمال الذين كفروا، في حبوطها وذهابها، وعدم انتفاع الكافرين بها في الآخرة، كحال رماد مجتمع، أتت عليه عاصفة، في يوم عاصف، فبددت الرياح هذا الرماد بددا، ولم تبق منه شيئا.
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾. ( الفرقان : ٢٣ ).
وقوله سبحانه :﴿ لا يقدرون مما كسبوا على شيء ﴾.
أي : لا يقدر هؤلاء الكفار على الاستفادة بأي شيء، من جزاء ما عملوه من خير في هذه الدنيا ؛ فقد أضاع ثواب جميع أعمالهم، الكفر والشرك بالله.
﴿ ذلك هو الضلال البعيد ﴾. أي : ذلك الكفر، والإشراك بالله، ﴿ هو الضلال البعيد ﴾، أي : البالغ أقصى نهايته، والموصل بصاحبه إلى الهلاك والعذاب.
ملحق بتفسير الآية
نطق القرآن الكريم : بخلود الكافرين في النار خلودا أبديا، قال تعالى :﴿ وما هم بخارجين من النار ﴾. ( البقرة : ١٦٧ ).
لكن النار دركات، وعذابها متنوع، قال تعالى :﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾. ( غافر : ٤٦ ).
وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية وغيرها من الأحاديث الصحيحة : أن عدالة الله الكاملة، وفضله وبره، وكمال رحمته، تأبى أن تضيع أعمال البر للكافرين، ورأوا أن الله يخفف عنهم بعض العذاب في الآخرة، كما أنه يعجل لهم بعض الجزاء في الدنيا، واستشهدوا بقوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٨، ٧ ).
وقال عز شأنه :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾. ( الأنبياء : ٤٧ ).
وقد روى البخاري ومسلم : عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ! قال صلى الله عليه وسلم :( هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا ؛ لكان في الدرك الأسفل من النار )١٢.
والخلاصة : أن بعض العلماء ذهب على أن أعمال الكافرين، التي عملوها في وجوه الخير ؛ كالصدقة وصلة الرحم، ينتفعون بثوابها في الدنيا، فيكافئهم الله عليها بنعم في دار الدنيا، ولا ثواب لهم عليها في الآخرة ؛ لأنها بنيت على أساس ؛ حيث كانوا كافرين أو مشركين بالله. ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾. ( البينة : ٥ ).
ويرى بعض العلماء : أنه يجوز أن يخفف الله تعالى، عذاب بعض الكفار في الآخرة ؛ بما لهم من حسنات عملوها في الدنيا، معتمدين على الأساس العام الذي وضعه القرآن الكريم، وهو : العدالة التامة وحسن الجزاء، فلا يسوى بين كافر فاجر فاسق مفسد، وكافر كف أذاه عن الناس، أو ساهم في أعمال الخير والإصلاح ؛ فالأول يستحق أشد العذاب. وما دام في النار شديد وأشد، وخفيف وأخف ؛ فإن الثاني يستحق تخفيف العذاب بمقدار ما قدم من أعمال١٣، والله تعالى أعلم.
﴿ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد١٩ وما ذلك على الله بعزيز٢٠ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص٢١ ﴾.
المفردات :
ألم تر : أي : ألم تعلم، والاستفهام للتقرير، أي : لقد علمت أيها المخاطب، فاشهد بما تعلم.
بالحق : أي : بالأمر الثابت، وهو الحكمة المنزهة عن العبث.
يذهبكم : يفنكم حتى لا يبقى لكم أثر.
التفسير :
١٩ ﴿ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ﴾.
ألم تعلم أيها العاقل أن الله جلت قدرته، ﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾. أي : بالحكمة البالغة المنزهة عن العبث، وبالوجه الصحيح الذي تقتضيه إرادته ؛ ليستدل بهذا الخلق البديع المنظم على كمال القدرة، وجلال الوحدانية، وليتأمل الإنسان في هذا الكون ونظامه، وما فيه من إبداع وجمال وتناسق وتكامل، ثم يقول :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ﴾. ( آل عمران : ١٩١ )، أي : لم تخلقه عبثا، بل خلقته بالحق.
﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾.
إن يشأ الله سبحانه إهلاككم أيها المكذبون ؛ يهلككم حتى لا يبقى منكم أحد، ﴿ ويأت بخلق جديد ﴾. أطوع لله منكم، فإن من قدر على خلق هاتيك الأجرام العظيمة، البالغة حدا كبيرا في الدقة والنظام والإبداع، قادر على إهلاك الناس، والإتيان بخلق جديد، أطوع لله من السابقين.
قال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز ﴾. ( فاطر ١٥ ١٧ ).
وقال تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ﴾. ( النساء : ١٣٣ ).
إن قدرة الله صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى، فالكون جميعه في قبضته وفي تصرفه، وكل شيء في الوجود متمثل لأمره، قال تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾. ( البقرة : ٢٠ ).
وقال سبحانه :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾. ( يس : ٨٢ ).
المفردات :
وما ذاك على الله بعزيز : أي : وليس ذلك بممتنع، فلا يصعب تحقيقه على الله تعالى.
التفسير :
﴿ وما ذلك على الله بعزيز ﴾.
أي : وما إذهابكم، والإتيان بخلق جديد مكانكم، بممتنع على الله ولا متعسر عليه.
المفردات :
وبرزوا لله جميعا : أي : ظهروا لله جميعا. والمراد : أنهم خرجوا من قبورهم ؛ لحساب الله تعالى وحكمه.
مغنون عنا : أي : دافعون عنا، يقال : أغنى عنه ؛ إذا دفع عنه الضر، وأغناه ؛ إذا وصل له النفع.
سواء علينا أجزعنا أم صبرنا : أي : مستو علينا الجزع والصبر، والجزع : حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده.
محيص : معدل ومهرب، يقال : حاص عنه يحيص ؛ إذا عدل عنه وحاد إلى جهة الفرار.
التفسير :
﴿ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا... ﴾.
أي : برزت الخلائق كلها، برّها وفاجرها، لله الواحد القهار، أي : اجتمعوا له في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء ليستر أحدا، ومعنى بروزهم لله : ظهورهم من قبورهم للحساب والجزاء، أمام الله سبحانه وتعالى، ولما كان هذا البروز أمرا محققا كائنا لا محالة عبر عنه بصيغة الماضي، كأنه وقع فعلا ودخل في دائرة الوجود.
وهذه على طريقة القرآن الكريم في عرض مشاهد القيامة أمام المشاهد، كأن الأمر قد وقع فعلا، فأنت تشاهد الناس جميعا، قدر برزوا ظاهرين أمام الله، حيث كانوا في الدنيا يستترون ويختفون خلف الجدران والأماكن، لكنهم في عرصات القيامة يظهرون بارزين، لا يستطيعون الاستخفاء، ولا إخفاء أي شيء، فقد ورد في الحديث الصحيح :( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا )١٤، فهم حفاة الأقدام، عراة الأجساد، غرلا لم تزل قلفتهم بل حشروا كيوم ولدتهم أمهاتهم بدون ختان.
وطريقة العرض هذه تبعث الرهبة في النفوس، حيث تشاهد المشهد أمامك، حيث ظهرت الخلائق جميعا، في مكان بارز أمام الله تعالى، لا شيء يسترهم، ولا مكان يختبئون فيه.
﴿ فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ﴾.
أي : قال الأتباع الضعفاء في رأيهم وفكرهم، الذين انقادوا لسادتهم وكبرائهم في الدنيا قال الضعفاء للكبراء والقادة ؛ الذين استكبروا عن عبادة الله واتباع الرسل :﴿ إنا كنا لكم تبعا ﴾. أي : كنا تابعين لكم تأمروننا فنأتمر، وتنهوننا فننتهي.
﴿ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ﴾. أي : فهل تدفعون عنا اليوم شيئا من ذلك العذاب، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا في الدنيا ؟ !.
﴿ قالوا لو هدانا الله لهديناكم ﴾ أي : لو أرشدنا الله إلى طريق الهدى، وأضاء أنوار بصائرنا، وأفاض علينا من توفيقه ومعونته ؛ لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى، ولكنه لم يهدنا ؛ فضللنا السبيل وأضللناكم معنا، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، لو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا !.
﴿ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ﴾. أي : ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه، إن صبرنا أو جزعنا وتألمنا.
روى : أن أهل النار قال بعضهم لبعض١٥ : إنما أدرك أهل الجنة منازلهم ؛ بسبب بكائهم وتضرعهم إلى الله ؛ تعالوا نبك ونتضرع إلى الله، فبكوا وتضرعوا بدون فائدة، فقالوا : تعالوا ؛ فإنما أدرك أهل الجنة منازلهم بالصبر، تعالوا نصبر، فصبروا صبرا طويلا فلم ينفعهم، فعند ذلك قالوا :
﴿ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ﴾.
أي : مستو عندنا الجزع والهلع مما نحن فيه، أو الصبر عليه، وليس لنا منجي ولا مهرب من هذا المصير المؤلم.
ونرى في الآية جانبا من هوان الضعفاء، وذلتهم وانكسارهم، فهم يطلبون وسيلة ما ؛ لتخفيف بعض عذاب الله.
ونجد أيضا حسرة المستكبرين وضعفهم وعجزهم، وتصريحهم بذلك حين قالوا :
﴿ لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ﴾. وفي مثل هذه الآية قوله تعالى :
﴿ وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار* قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد ﴾. ( غافر : ٤٨، ٤٧ ).
﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ٢٣ ﴾.
المفردات :
لما قضي الأمر : أي : لما أحكم وفرغ منه.
وعد الحق : وعدا من حقه أن ينجز.
فأخلفتكم : أي : لم أنجز وعدي لكم، يقال : أخلف وعده، أي : لم يبر به.
سلطان : أي : تسلط.
بمصرخكم : أي : بمغيثكم، من أصرخه أي : أغاثه، يقال : استصرخه فأصرخه، أي : استغاث به فأغاثه.
بمصرخي : أي : بمغيثي.
إني كفرت بما أشركتمون من قبل : أي إني كفرت بإشراككم إياي في الدنيا، أو إني كفرت بالذي أشركتمونيه، أي : بالله تعالى. من قبل إشراككم أنتم به، فأنا هالك مثلكم.
التفسير :
٢٢ ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم... ﴾الآية.
حملت سورة إبراهيم مواقف الحوار في الحشر، بين المستكبرين وأتباعهم، وهذه الآية تعرض حوارا آخر، بين الشيطان وأتباعه، ومزية هذا الحوار، أنه يبعث الحياة والحركة في المشهد، ويجعل الغائب حاضرا، ويعرض أمام الإنسان موقفا سيأتي يوم القيامة، بلغة الحديث عن الماضي كأنه مشاهد ملموس.
﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر ﴾.
أي : عندما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنة، وأسكن الكافرين النار، شاهد الكفار أن الرسول قد شفع للمسلمين، فقال الكفار : من يشفع لنا، ما هو إلا إبليس الذي أضلنا، فيأتونه ويسألونه، فعند ذلك١٦ يقول هذا القول.
﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ﴾.
أي : على ألسنة رسله بأن يبعثكم ويحاسبكم، ويجازيكم على أعمالكم بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، ووعد الله حق وخبره صدق، وقد أنجز ما وعد.
﴿ ووعدتكم فأخلفتكم ﴾. أي : وعدتكم : أن لا جنة ولا نار ولا حساب ولا جزاء ؛ ولئن كانا فنعم الشفيع لكم الأوثان والأصنام.
﴿ فأخلفتكم ﴾. ما وعدتكم به، وظهر كذبي فيما قلته لكم ؛ فقد كان وعدا باطلا، زخرفا وأماني خادعة.
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان ﴾. أي : من قوة وتسلط ؛ تجعلني ألجئكم إلى متابعتي على الكفر والمعاصي.
﴿ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾. أي : ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلال، بوسوستي وتزييني ؛ استجبتم لدعوتي، واتبعتم شهوات النفوس، وخضتم في مسالك الردى.
﴿ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾. أي : فلا تلوموني بسبب وعودي الكاذبة، ولكن لوموا أنفسكم، فإنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة، بدون تفكر أو تأمل، وأعرضتم عن الحق الواضح الذي جاءكم من ربكم.
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾. أي : بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من العذاب والنكال ؛ فقد انقطعت بيننا الأواصر والصلات، والشيطان هنا يتبرأ من أتباعه، ويلقي التبعة عليهم ؛ حتى ييأسوا من نصره لهم ؛ لأنه لا يستطيع نصر نفسه، فكيف يستطيع أن ينصرهم.
﴿ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ﴾. أي : إني برأت اليوم من إشراككم إياي مع الله في الدنيا، حيث أطعتموني في الشر، كما يطاع الله في الخير، كأني معبود معه، ونظير هذا قوله تعالى :﴿ ويوم القيامة يكفرون بشرككم ﴾. ( فاطر : ١٤ ).
ونرى أن الشيطان قد قدم للكافرين، سلسلة من المعلومات تقصم ظهورهم، وتضاعف عليهم الحسرات والمصائب :
١ أوضح لهم : أن مواعيده التي وعدهم بها في الدنيا كانت باطلة، معارضة لوعد الحق سبحانه.
٢ أوضح لهم : أنهم قبلوا مالا يتفق مع العقل.
٣ لم يكن قوله إلا مجرد دعوة خالية عن البرهان.
٤ عليهم أن يلوموا أنفسهم، فقد اختاروا الباطل المحض.
٥ لا نصر عنده ولا إغاثة فهو مثلهم في بلاء وحيرة.
٦ أعلن : أنه كفر بمن أشركه في العبادة وأطاعه.
وفي ختام الآية :
﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾.
وهي تقرر حقيقة ثابتة، بأن جزاء الظلم ؛ العذاب الأليم في الآخرة، ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الشيطان يقرر حقيقة واقعة أمام أتباعه، تضاعف عليهم الحسرات واليأس والإحباط، جزاء وفاقا لما عملوه في دنياهم، وإنما حكى الله عنه ذلك ؛ لتكون بمثابة الإنذار المبكر لهؤلاء الظالمين ؛ حتى يثوبوا إلى رشدهم.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة، حكاية لرد الله سبحانه وتعالى على الشيطان وأتباعه جميعا، تابعين كانوا أو متبوعين أي : إن الظالمين لهم منا عذاب أليم، فلا ينفعهم في ذلك اليوم الندم، ولا إلقاء بعضهم التبعة على بعض.
ولما كان هذا جزاء الظالمين، من حسرات متتابعة، قابل القرآن بين موقفهم وموقف المؤمنين، على طريقة القرآن الفذة في الجمع بين الأضداد. فقال سبحانه وتعالى :
﴿ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار... ﴾.
أي : أدخل الله تعالى في ذلك اليوم العظيم المؤمنين الصالحين، جنات وبساتين يانعة تجري الأنهار من تحت أشجارها وقصورها ؛ زيادة في البهجة وحسن المنظر.
﴿ خالدين فيها بإذن ربهم ﴾. أي : ماكثين فيها أبدا، خالدين فيها خلودا أبديا، نعيمهم دائم سرمدي لا ينقطع.
﴿ بإذن ربهم ﴾. بأمر الله وفضله، وهو أمر نافذ لا يرده أحد، وبفضله الذي لا حد له، الذي يتفضل به على المؤمنين فيضاعف لهم الثواب، رحمة منه وفضلا.
روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لن يدخل أحدا عمله الجنة )، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال :( ولا أنا ؛ إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت ؛ إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب )١٧.
ومعنى يستعتب : يتوب ويندم ويستغفر.
﴿ تحيتهم فيها سلام ﴾.
أي : تحيتهم في الجنة : سلام، بمعنى : أمان وتحية، وهي : تحية الله لهم، وتحية الملائكة لهم، وتحية المؤمنين بعضهم لبعض.
قال تعالى :﴿ سلام قولا من رب رحيم ﴾. ( يس : ٥٨ ).
وقال سبحانه :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾. ( الأحزاب : ٤٤ ).
كما أن الملائكة تحيّي المؤمنين بالسلام في الجنة، قال تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾. ( الرعد : ٢٤، ٢٣ ).
وقال تعالى :﴿ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ﴾. ( الزمر : ٧٣ ).
﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء٢٤ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون٢٥ ﴾.
المفردات :
ألم تر : الخطاب هنا لكل ذي عقل يحسن فهم الخطاب، والاستفهام هنا للتقرير بالعلم، والمعنى : ألم تعلم.
ضرب الله مثلا : المثل : الصفة العجيبة، وضرب المثل : تبيينه ووضعه في المكان اللائق به.
كلمة طيبة : المراد بها هنا : كلمة التوحيد.
التفسير :
٢٤ ﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ﴾.
ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق : عقوبة الظالمين، وجزاء المؤمنين، وهنا ضرب لذلك مثلا حسيا ملموسا فيه تشبيه للمعنويات بالملموسات، والخطاب في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه الخطاب.
والمعنى : ألم تر أيها المخاطب، كيف اختار الله تعالى مثلا، ووضعه في موضعه اللائق به والمناسب له، وهذا المثل لكلمتي الإيمان والكفر.
فكلمة الإيمان والتوحيد في الإسلام، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله، أصلها ثابت متين، معتمد على الإيمان بالله، وصدق التوحيد، والإخلاص له، وتثمر أعمالا صالحة من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وسائر آداب الإسلام في العبادات والمعاملات.
شبه الله كلمة التوحيد بشجرة طيبة مثمرة هي : النخلة، أصلها ثابت في الأرض لا تزعزعه الرياح، وفرعها متجه إلى السماء، فهو عال رشيق مثمر.
المفردات :
تؤتي أكلها كل حين : تعطي ثمرها في كل وقت.
التفسير :
﴿ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها... ﴾.
فالنخلة لا تضن بثمارها في أي وقت من الأوقات، ويؤكل البلح ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، ويؤكل منه الجمار والبلح والبسر والرطب والتمر، وكل نتاج النخلة خير وبركة، وهي كقلب المؤمن لا تجف صيفا ولا شتاء.
وكذلك الإيمان في قلب المؤمن ثابت كجذور النخلة، وأعمال المؤمن تصعد إلى السماء :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾. ( فاطر : ١٠ ). ، والإيمان يؤتى ثماره في كل حين وآن، من الأعمال الصالحة، والجهاد، والذكر، والصدقة، وصلة الرحم، ونشر العلم، وأداء العبادات والمعاملات، وكذلك النخلة أو كل شجرة مثمرة نافعة، تؤتي أكلها وثمارها كل وقت وآن، ﴿ بإذن ربها ﴾. أي : بأمره ومشيئته، حيث شاء أن ينتفع الناس بهذه الثمار في كل حين.
﴿ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ﴾.
ختم الله هاتين الآيتين ببيان الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن الكريم، وهي : الحث على التفكر والتأمل والاعتبار، وفيها زيادة إفهام وتذكير للناس ؛ لأن أنس النفوس بها أكثر، فهي تخرج المعنى من خفي إلى جلي، ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالحس والطبع، وفيها تقريب للبعيد، وتقرير للقريب، وإبراز المعاني المقولة بالصور المحسوسة.
في أعقاب تفسير الآيتين :
المراد بالشجرة الطيبة عن جمهور المفسرين : النخلة، وقيل : هي كل شجرة مثمرة طيبة الثمار والمنظر والرائحة، وقيل : غير ذلك، وقد رجح الألوسي والطبري وغيرهم : أن المراد بالشجرة الطيبة : النخلة ؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار٢٦ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء٢٧ ﴾.
المفردات :
اجتثت : قطعت واستؤصلت.
من قرار : من ثبات في الأرض.
التفسير :
٢٦ ﴿ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار ﴾.
أي : وصفة كلمة خبيثة، هي : كلمة الكفر والشرك وكل فساد ؛ كشجرة خبيثة، لا قرار ثابت لها، فهي كالحنظل وكل نبات لا ثمر له، ولا يرجى منه خير.
﴿ اجتثت من فوق الأرض ﴾. أي : اقتلعت جثتها وهيئتها، من فوق الأرض ؛ لقرب عروقها وجذورها من سطح الأرض.
﴿ مالها من قرار ﴾.
أي : ليس لهذه الشجرة أصل ثابت، ولا فرع صاعد، وكذلك الكافر، لا خير فيه، لا يصعد له قول طيب، ولا عمل صالح ؛ لأنه لا إيمان عنده، فهذا وجه تشبيه الكافر بالشجرة الخبيثة.
الشجرة الخبيثة
هي شجرة طعمها مر كالحنظل، وليس لها ثمر، وليس لها أساس ثابت، وقيل : شجرة الشوك، وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر، وقيل : هي شجرة لم تخلق على الأرض.
وقال ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة، جامعة لتلك الأوصاف التي وصفها الله بها.
والخلاصة : أن كلام المؤمنين نافع مفيد، أساسه قوي متين، وأهدافه سامية، وثماره نافعة متعددة، وكلام الأشقياء وأصحاب الشهوات والنفوس الضعيفة، باطل لا أساس له، ولا ثمار، أشبه بالحنظل أو بالأشجار الخبيثة التي لا نفع فيها ولا فائدة.
المفردات :
بالقول الثابت : بكلمة التوحيد.
التفسير :
﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة... ﴾الآية.
هذا من فضل الله ونعمائه على المؤمنين، الذين استقر الإيمان في قلوبهم، فهؤلاء يمدهم الله بعونه وتثبيته ؛ فلا تغريهم الفتنة، ولا المال ولا المنصب ولا الجاه، ولا يؤثرون الدنيا على الآخرة.
انظر إلى بلال وصهيب وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى الدعاة والهداة والأئمة في التاريخ القديم والحديث، هؤلاء جميعا ثبتهم الله على الدين والإيمان، والتوحيد في الحياة الدنيا.
﴿ وفي الآخرة ﴾. عند خروج الروح، وعند سؤال القبر، وعند البعث والحشر والحساب، والميزان والصراط، في هذه المواقف يثبتهم الله على الإيمان، وعلى شهادة : ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الصحيح. ١٨.
ومن هذا التثبيت : أن روحه تخرج على التوحيد، وأنه يسأل في قبره فيقول : الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد رسولي، ثم يفتح له في قبره باب إلى الجنة.
﴿ ويضل الله الظالمين ﴾ ؛ لأنهم اختاروا الضلال على الهدى، ومالوا مع شهوات النفس، وآثروا العاجلة على الآجلة، قال تعالى :﴿ فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى ﴾. ( النازعات : ٣٧ ٣٩ ).
﴿ ويفعل الله ما يشاء ﴾. من تثبيت المؤمنين ؛ جزاء ثباتهم على إيمانهم، ومن إضلال الكافرين ؛ جزاء ضلالهم وكفرهم، فلا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، وله الحكم في الأولى والآخرة، لا معقب لأمره، ولا رادّ لقضائه، ومن مشيئته : تثبيت المؤمنين ومثوبتهم، وخذلان أهل الكفار وعقابهم. ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها ﴾. ( الشمس : ٧١٠ ).
من هدي السنة
روى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المسلم إذا سئل في القبر ؛ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله تعالى :﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ )١٩.
وأخرج الشيخان٢٠ وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا، ويفتح له من قبره إليه، وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كنت أقول كما يقول الناس ! فيقال : لا دريت ولا تليت ! ثم يضرب بمطرقة من حديد، ضربة بين أذنيه ؛ فيصيح صيحة فيسمعها من يليه إلا الثقلين )٢١.
من زبدة التفسير من فتح القدير للشوكاني :
﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ﴾. وهي : الكلمة الطيبة المتقدم ذكرها : كلمة الشهادة " شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله "، وسائر الكلام الحق، فإن الآخذين بها يدومون على القول الثابت.
﴿ في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾. وقت المساءلة في القبر ويوم القيامة، والمراد : أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم، أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم، ولا تردد ولا جهل، كما يقول من لم يوفق : لا أدري ؛ فيقال له : لا دريت ولا تليت.
﴿ ويضل الله الظالمين ﴾. أي : يضلهم عن حجتهم فلا يقدرون على التكلم بها في قبورهم ولا عند الحساب٢٢.
﴿ * ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار٢٨ جهنم يصلونها وبئس القرار٢٩ وجعلوا لله أنداد ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار٣٠ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال٣١ ﴾.
المفردات :
كفرا : كفر النعمة : جحدها.
دار البوار : دار الهلاك، ويطلق البوار أيضا على : الكساد.
التفسير :
٢٨ ﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا... ﴾الآية.
الخطاب هنا موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى كل من يصلح للخطاب، مقصود به : التعجيب من صنع هؤلاء الكفار.
والمعنى : ألم تنظر إلى الذين بدلوا شكر نعمة الله عليهم، فجعلوا مكانه كفرا عظيما.
والمراد بهم : أهل مكة، مكن الله لهم حرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شيء، ويسر لهم رحلة الشتاء والصيف، ودعاهم : إلى عبادة رب البيت الحرام، وأرسل لهم نبيا منهم يعرفون نسبه وصدقه، وأنزل عليه كتابا فيه مجدهم وصلاحهم، وإنقاذهم من براثن الكفر والشرك، إلى نور الإيمان والتوحيد، لكنهم بدلا من أن يشكروا الله على هذه النعمة، فيؤمنوا برسوله ويتبعوا هديه، قابلوا هذه النعمة بالكفر، والإصرار على عبادة الأوثان، ومحاربة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به.
﴿ وأحلوا قومهم دار البوار ﴾. وأنزلوا قومهم ومن أطاعهم من أهل مكة، دار البوار والهلاك، حيث قتلوا في غزوة بدر، وعدد من الغزوات حتى فتحت مكة، وتعرضوا للهوان والهلاك.
والبوار : الفساد والهلاك، الذي أنزلوه بأقوامهم وبأنفسهم، كما قال تعالى في شأن فرعون :﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ﴾. ( هود : ٩٨ ).
ثم بين الله دار البوار فقال :
﴿ جهنم٢٣ يصلونها وبئس القرار ﴾.
المفردات :
وبئس القرار : وبئس المستقر.
التفسير :
أي : إن دار البوار هي : جهنم، يصطلون بحرها ؛ من صليت اللحم ؛ أصليه ؛ إذا شويته.
﴿ وبئس القرار ﴾.
وبئس المستقر والإقامة هي ؛ لمن أراد به النكال والوبال.
المفردات :
أندادا : جمع ند، وهو : المثل والنظير.
مصيركم : مرجعكم.
التفسير :
﴿ وجعلوا لله أنداد ليضلوا عن سبيله... ﴾.
أي : اتخذوا لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان، أشركوهم به في العبادة.
﴿ ليضلوا عن سبيله ﴾. ليوقعوا قومهم في الضلال، ولا خروج عن سبيل الله وهو التوحيد، بما زينوه لهم من شرك وافتراء.
وهذا عمل السادة المتبوعين من سدنة الأوثان وسدنة المذاهب الضالة٢٤.
﴿ قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ﴾. أي : تلذذوا بالمعاصي والشهوات، التي تماديتم فيها ؛ فقد قابلتم النعمة بالكفر بدل الشكر، وأغريتم الأتباع بالضلال وعبادة الأوثان والأصنام !.
﴿ فإن مصيركم إلى النار ﴾. أي : افعلوا ما بدا لكم، فإن عاقبتكم جهنم وبئس القرار ؛ إذا لم تقلعوا عن غيّكم وكفركم.
وهذا الأسلوب يراد به : التحذير، كما يقول الطبيب لمريض يستهين بأوامره : تمتع بالأكل كما تشاء ؛ فإن مصيرك الموت ! وكما يقول الحاكم لمن عصاه : افعل ما شئت ؛ فإن مصيرك حبل المشنقة !.
قال الشوكاني :
﴿ قل تمتعوا ﴾. بما أنتم فيه من الشهوات، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم.
﴿ فإن مصيركم إلى النار ﴾.
أي : مرجعكم إليها ليس إلا، كأنه قيل : فإن دمتم على ذلك ؛ فإن مصيركم إلى النار. اه.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ﴾( الزمر : ٨ ).
وقوله تعالى :﴿ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ﴾ ( لقمان : ٢٤ ).
المفردات :
لا بيع فيه : لا فدية فيه.
ولا خلال : الخلال معناه : المخالة وهي : الموادة، أو جمع خليل، وهو الصديق، أو جمع خلة، بضم الخاء وتشديد اللام مفتوحة، وهي : الصداقة.
التفسير :
﴿ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة... ﴾.
من طبيعة القرآن الكريم المراوحة في الحديث، والتنقل بين الحديث عن الكافرين، وتوجيه الخطاب إلى المؤمنين.
والمعنى : قل يا محمد لعبادي، الذين استجابوا لدعوة ربهم :
﴿ يقيموا الصلاة ﴾. يحافظوا على إقامة الصلاة في أوقاتها، مع خشوعها وخضوعها وحضور القلب فيها، وإتمام أركانها ؛ حتى تؤدي دورها في إصلاح الفرد والمجتمع.
﴿ وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ﴾. ويقدموا للفقراء والمساكين والمحتاجين، جانبا من المال الذي استخلفهم الله فيه، سواء أكان على وجه الصدقة فالإسرار فيه أفضل، أم كان على وجه الزكاة فالإعلان فيه أفضل.
﴿ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ﴾.
أي : يقيموا الصلاة والعبادة، والزكاة والصدقات في هذه الدنيا، من قبل أن يجيء يوم القيامة ففي هذا اليوم لا يستطيع المقصر في العمل أن يفدي نفسه، بالبيع والشراء، ولا يستطيع الخليل أن ينقذ خليله من أهوال هذا اليوم ؛ لأن العملة الوحيدة في ذلك اليوم هي العمل الصالح، الذي قدمه الإنسان في دنياه.
وفي هذا المعنى يقول الله تبارك وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ﴾( البقرة : ٢٥٤ ).
وعلى لسان إبراهيم الخليل يقول سبحانه :﴿ ولا تخزني يوم يبعثون* يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾( الشعراء : ٨٧ ٨٩ ).
﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار٣٢ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار٣٣ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار٣٤ ﴾.
المفردات :
وأنزل من السماء : كل ما علا الإنسان فأظله ؛ فهو سماء. والمراد به هنا : السحاب.
رزقا : مرزوقا مما يطعم أو يشرب أو يلبس أو ينتفع به.
وسخر لكم الفلك : أي : يسر الفلك لإرادتكم، والفلك بسكون اللام : السفينة. يستعمل في الواحد ؛ فيذكر، وفي الجمع ؛ فيؤنث.
التفسير :
٣٢ ﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء... ﴾ الآية.
تعدد هذه الآيات جانبا من نعم الله على خلقه، وكأنها ترد على الكافرين المعاندين ؛ إذ تقدم أدلة ملموسة، يراها الأعمى والبصير، والصغير والكبير، والأمي والمتعلم، فمن هذه النعم ما يأتي :
﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض ﴾.
فهو سبحانه خلقهما على غير مثال سابق، وأوجد في السماء الأجرام العلوية، من نجوم وكواكب، ومجرات ومخلوقات تسبح بدقة عجيبة وترتيب بديع، كما بسط الله الأرض وأنزل إليها الأمطار، ويسر لها الأنهار والبحار، والجبال والهواء والفضاء ؛ حتى يعيش عليها النبات والحيوان والإنسان، وحتى يعمر الكون ويتكامل.
﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾.
وهذا الماء هو أساس الحياة، يشرب منه الإنسان والحيوان والزرع، وبطون الوديان والأفلاج.
﴿ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾. أي : أخرج بماء المطر أنواع النباتات والثمار ؛ حتى يأكل منها الإنسان والحيوان، قال تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾( الأنبياء : ٣٠ ).
﴿ وسخر الفلك لتجري في البحر بأمره... ﴾.
أي : ذلل الله لكم السفن، ويسر لكم استعمالها ؛ فصارت تجري على شاطئ الماء، بإذن الله وتيسيره، الذي قدر قوانين الهواء والفضاء والماء، والطفو على وجه الماء، قال تعالى :﴿ وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ﴾ ( الرحمن : ٢٤ ).
أي : وبفضل الله سخر السفن التي تجري في البحر، كالجبال العالية ناشئة على سطح الماء جارية عليه بفضل الله.
﴿ وسخر لكم الأنهار ﴾.
أي : ذلل لكم الأنهار ؛ تشربون منها وتسقون زروعكم ودوابكم، وتشقون منها أنهارا تسيرونها وفق إرادتكم، كنهر النيل، والفرات وغيرهما.
المفردات :
دائبين : في حركة دائمة لا يفتران. يقال : دأب في عمله دأبا، ويحرك : جدّ فيه.
التفسير :
﴿ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ﴾.
سخر الله لكم الشمس والقمر دائمين في إصلاح ما يصلحان من الأبدان والنبات وغيرهما، وهما دائمين في مكانهما بدون اضطراب أو اختلال، ولا يفتران عن ذلك ما دامت الدنيا.
﴿ وسخر لكم الليل والنهار ﴾.
أي : جعلهما متعاقبين يأتي أحدهما وراء الآخر، فالليل جعله الله سكنا ونوما وهدوءا وراحة، والنهار جعله الله سبيلا للحركة والحياة، والتجارة، والزراعة، والدراسة، والقيام بسائر أنواع الحرف وفنون المعاش، ولا غنى للناس عنهما، ولو استمر الليل ؛ لتعطلت مصالح الناس، ولو استمر النهار ؛ لضاق الناس بالحياة والحركة.
قال تعالى :﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله... ﴾( الروم : ٢٣ ).
وقوله :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾( الأنعام : ١ ).
المفردات :
لا تحصوها : لا تقدرون على حصرها وعدها، والإحصاء في الأصل : العد بالحصى، ثم أطلق على العد مطلقا.
ظلوم : ظالم شديد الظلم، يقال : ظلم، يظلم، ظلما، من باب ضرب فهو ظالم وظلوم. والظلم وضع الشيء في غير محله.
كفار : جاحد النعمة. يقال : كفر النعمة، وكفر بالنعمة : جحدها.
التفسير :
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه... ﴾.
وأعطاكم من كل ما سألتموه، أي : أعطاكم بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم، أو أعطاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، فحذف الثاني ؛ لدلالة الأول عليه، ونظيره :﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾. ( النحل : ٨١ )، أي : والبرد.
وقرئ بتنوين كل : والمعنى على هذه القراءة : أعطاكم الله من كل شيء ابتداء ؛ بدون منكم، على أن ما نافية، أي : أعطاكم من كل شيء، حال كونكم غير سائليه.
﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها.. ﴾.
أنعم الله عليكم نعما جمة لا تعد ولا تحصى ؛ فهلا استعنتم بها على الطاعة، وشكرتم الله عليها، واستخدمتموها في طاعته وعبادته وعدم الإشراك به، وفي صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( اللهم، لك الحمد غير مكفيّ ولا مودّع ولا مستغني عنه ربنا ) ؛ فهو سبحانه لم يكفه غيره، بل هو يكفي غيره.
ولا مودع : غير متروك حمده.
ولا مستغني عنه ربنا : فهو الذي يحتاج إليه الخلق.
قال الشوكاني في فتح القدير :
﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ﴾. لا تطيقوا إحصاءها، بوجه من الوجوه، ولو رام فرد من أفراد العبادة، أن يحصي ما أنعم الله به عليه، في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه، لم يقدر على ذلك قط، فكيف بما عدا ذلك من النعم، في جميع ما خلقه الله في بدنه، والنعم الواصلة إليه في كل وقت، على تنوعها واختلاف أجناسها، اللهم إنا نشكرك على كل نعمة أنعمت بها علينا، مما لا يعلمه إلا أنت٢٥.
﴿ إن الإنسان لظلوم كفار ﴾.
هناك وجهان في تفسير هذه الآية.
الوجه الأول : المراد بالإنسان : الكافر الذي عبد غير الله، أي : أن الإنسان الكافر الذي عبد غير الله، لظلوم لنفسه ؛ بإغفاله لشكر من أنعم عليه.
﴿ كفار ﴾. شديد الكفر لله حيث عبد غيره، وسجد للوثن والصنم، مع أن المستحق بالعبادة هو الله تعالى.
والوجه الثاني : المراد من الإنسان : جنس الإنسان، ومن الكفر : كفر النعمة ؛ بالتقصير في شكرها.
والمعنى : إن الإنسان لا يقدر نعم الله عليه، وهي لا تحصى، فتراه عظيم الظلم لنفسه، شديد الكفران لنعم ربه، فهو دائم الانتفاع بها، والتقصير في أداء شكرها، ووضعها في غير موضعها، ولو أنصف نفسه، وعرف حق ربه، لاستدام شكره، والوفاء بحقه جل وعلا٢٦.
﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام٣٥ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم٣٦ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون٣٧ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء٣٨ ﴾.
المفردات :
البلد : مكة المكرمة.
اجنبني : أبعدني. يقال : جنبت الرجل الشر من باب نصر : أبعدته عنه، وجنبته بالتشديد مبالغة.
التفسير :
٣٥ ﴿ وإذ قال إبراهيم رب٢٧ اجعل هذا البلد آمنا... ﴾الآية.
رأى بعض المفسرين : أن ذكر جانب من قصة إبراهيم هنا، كمثال للكلمة الطيبة، التي تثمر الخير في كل وقت ؛ لقصد الدعاء إلى التوحيد.
والمعنى : واذكر أيها الرسول لقومك : خبر إبراهيم، أو اذكر أيها المخاطب : قصة إبراهيم، حين أسكن ولده إسماعيل وأمه، وادي مكة، ولم يكن بها زرع ولا ماء، وكانت هاجر جارية قبطية، تملكها سارة زوجة إبراهيم، فأهدتها سارة إلى إبراهيم، فتسرى بها، وأنجب منها في شيخوخته ولده البكر : إسماعيل، وملكت الغيرة سارة ؛ فناشدت زوجها أن يخرجها من عندها، فذهب إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى أرض مكة، ووضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفل راجعا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت : يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا ؟ بهذا الوادي الذي لا أنيس فيه ولا شيء ؟ ! قالت له ذلك مرارا، وهو لا يلتفت إليها، فقالت له : ءآلله أمرك بهذا ؟ ! قال : نعم ؛ قالت : إذا لا يضيعنا، ثم رجعت.
وانطلق إبراهيم عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يريانه، استقبل البيت بوجهه، وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية، ثم دعا رافعا يديه فقال :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع.. إلى قوله : لعلهم يشكرون ﴾٢٨.
﴿ وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ﴾. أي : واذكر أيها النبي، وقت قول إبراهيم لربه، بعد أن أسكن إسماعيل وأمه وادي مكة :﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا ﴾. أي : يا رب، اجعل مكة بلدا ذا أمن ؛ حتى يأمن أهله على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد أجاب الله دعاء إبراهيم فجعل مكة حرما آمنا.
﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾. أي : باعدني يا رب، أنا وأبنائي عن عبادة الأصنام، وثبتنا على التوحيد، وقد استجاب الله دعوته، في بعض بنيه دون بعض، ولا ضير في ذلك، وقد ورد هذا المعنى في قوله سبحانه :﴿ قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾( البقرة : ١٢٤ ).
﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس... ﴾.
أي : يا رب، إن الأصنام أضلت كثيرا من الناس، أي : كانت سببا في إضلال كثير من الناس ؛ بسبب الفتنة وإغراء الكبار للصغار، فنسبة الإضلال للأصنام مجازية ؛ لأن الأصنام أحجار لا تعقل، لكن وضعها وإغراء سدنتها بعبادتها ؛ أضلت الناس، كما تقول : فتنته الدنيا وأضلته، وهو إنما فتن وضل بسببها، ثم أدرك إبراهيم بفطرته، أن بنيه سوف ينقسمون بعده، إلى موحدين ومشركين ؛ ولذلك أظهر لربه أنه لا يستحق الانتساب إليه، إلا من اتبعه على ملة التوحيد، فقال :
﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾.
أي : فمن تبعني على ملة التوحيد، وشايعني في ديني وعقيدتي ؛ فإنه يصير بهذا الإتباع من أهل ديني، وهو دين الإسلام، ومن عصاني ولم يقبل الدخول في الدين الحق ؛ فإني أفوض أمره إليك، وأنت أهل للمغفرة والتوبة ؛ لمن عدل عن الشرك قبل موته.
قال مقاتل وابن حيان : المعنى : ومن عصاني فيما دون الشرك ؛ فإنك غفور رحيم.
المفردات :
بواد : الوادي : كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. والمراد به هنا : ما يحيط بالبيت الحرام.
تهوي إليهم : تسرع إليهم شوقا وحبا. يقال : هوى إليه يهوي هويا بضم الهاء ؛ إذا أسرع في السير.
التفسير :
﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم... ﴾.
عندما ترك إبراهيم هاجر، وابنها إسماعيل، وهو رضيع ؛ ليقيما في وادي مكة، وليس بمكة في ذلك الوقت زرع ولا ماء، ثم اتجه إبراهيم إلى ربه وقلبه يتحرق إشفاقا على زوجته وابنه فقال :
﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ﴾.
أي : ربنا إني استجابة لأمرك ؛ أسكنت بعض ذريتي، بواد لا ماء فيه ولا زرع، عند المكان الذي أعدته لبيتك المحرم، رغبة في جوار بيتك، وأملا في رعايتك وفضلك لهم.
﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾. أي أسكنتهم بجوار بيتك المحرم ؛ ليتفرغوا لإقامة الصلاة في جوار بيتك، وليعمروه بذكرك وطاعتك، ودلت هذه الآية : أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة في غيرها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة )٢٩.
﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾.
أي : حرك الرغبة في قلوب بعض الناس، من المؤمنين ؛ لتشتاق لزيارة هذا البيت، وقد استجاب الله أيضا لهذه الدعوة، وإنك لترى عجبا في موسم الحج، وفي شهر رمضان، بل وفي سائر شهور العام ؛ مئات وآلاف من الناس، يقدمون معتمرين وحاجين وزائرين، وطائفين وراكعين وساجدين، ومعتكفين بهذا البيت العتيق، وقد استقر في قلوبهم الإيمان والتبتل، وظهر على وجوههم الصلاح وسيما العبادة.
﴿ وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾.
أي : وارزق من تركتهم وديعة في جوار بيتك، من الثمرات المختلفة ما يغنيهم ويشبعهم ؛ لعلهم بهذا العطاء الجزيل ؛ يزدادون شكرا لك، ومسارعة في طاعتك وعبادتك.
وقد استجاب الله دعاء إبراهيم فجعل البيت الحرام حرما آمنا، تجبى إليه ثمرات كل شيء ؛ رزقا من لدنه.
وترى في البيت الحرام، وحوله في مكة أم القرى أعجوبة الأعاجيب، وهي اجتماع الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية والشتوية في يوم واحد، وبجودة متميزة، وكثرة كافية، في بلد غير ذي زرع، وتجبى إليه الثمار من الشرق والغرب ؛ ليصبح من أغنى البلاد بالثمار والخيرات، وسائر صنوف النعم.
ولقد كان من آثار دعوة إبراهيم عليه السلام، أن هاجر عندما نفذ الماء منها ورأت رضيعها يتلوى من العطش، صعدت على الصفا تبحث عن قادم، ثم انطلقت إلى المروة باحثة عن قادم من البشر، وكررت ذلك سبع مرات، وجعل ذلك من مناسك الحج ؛ تخليدا لذكرى هاجر، ثم أرسل الله ملاكا، فحفر عند زمزم حتى ظهر الماء ؛ فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأن الله لن يضيع أهله، ثم إنه مرت بهم رفقة من قبيلة جرهم ؛ فقالوا لأم إسماعيل : أشركينا في مائك ؛ نشركك في ألباننا ؛ ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه امرأة منهم.
وقد زار إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل، فوجده قد خرج للصيد، ووجد زوجته شاكية متبرمة بالحياة معه، فقال لها : إذا جاء إسماعيل ؛ قولي له : الشيخ يقرئك : السلام، ويطلب منك أن تغير عتبة الدار ؛ فقال إسماعيل هذا أبي وقد أمرني أن أطلقك ؛ فطلقها إسماعيل وتزوج امرأة أخرى، ولما زاره إبراهيم وجد زوجة راضية قانعة مؤمنة، فقال لها : قولي لإسماعيل : ثبت عتبة الدار، فقال لها إسماعيل : ذاك أبي وقد أمرني ألا أطلقك٣٠.
المفردات :
ما نخفي : ما نضمر ونستر. يقال : أخفيت الشيء : سترته. وخفى الشيء : استتر أو ظهر ضد.
وما نعلن : وما نظهر. يقال : علن الأمر من باب : قعد، ظهر، وأعلنته : أظهرته.
التفسير :
﴿ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن... ﴾.
إنك يا الله سميع عليم، تعلم السر والنجوى ؛ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، تعلم كل أحوالنا، لا يخفى عليك شيء منها ؛ فتعلم ما نخفيه ونستره، وتعلم ما نظهره، فكل ذلك عندك في العلم سواء.
وذهب ابن عباس، ومقاتل في تفسير هذه الجملة : تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه، من الوجد بإسماعيل وأمه، حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع.
﴿ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾.
أنت يا إلهي، لا يخفى عليك شيء من الأشياء، سواء أكان هذا الشيء في الأرض، أم في السماء، أم في غيرهما، وإنما ذكر السماء والأرض لمشاهدتهما، وإلا فعلم الله سبحانه، محيط بكل ما في هذا الكون.
﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء٣٩ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء٤٠ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب٤١ ﴾.
المفردات :
وهب لي على الكبر : رزقني مع تقدمي في السن.
إنك سميع الدعاء : أي : إنك مجيب دعاء من دعاك.
التفسير :
٣٩ ﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ﴾.
الشكر لله تعالى والثناء الجميل له عز شأنه ؛ حيث منحني الولد على كبر سني، ويأسي من أن يكون لي ولد، ومع هذا الضعف والكبر استجاب دعائي، ورزقني إسماعيل وإسحاق، إن ربي متفضل باستماع دعائي، وإجابة سؤالي، وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾( البقرة : ١٨٦ ).
ولم يحدد القرآن عمرا لإبراهيم عندما رزق بولديه، لكن أفاد : أنه كان شيخا كبيرا، وعندما بشرت الملائكة زوجته سارة بالولد والحفيد ؛ تعجبت من كبر سنها، وكبر سن زوجها.
قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة٣١.
قال تعالى :﴿ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب* قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ﴾( هود : ٧٢، ٧١ ).
﴿ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي... ﴾.
نلمح هنا عبادة إبراهيم الرحمان، وتقربه من ربه بالدعاء، والحب، والذكر، والتبتيل، ﴿ إن إبراهيم لأوّاه حليم ﴾ ( التوبة : ١١٤ )، فهو دائم الرجوع إلى الله والتضرع إليه مع الحلم والأناة، وفي هذه الآية يدعو ربه قائلا :
﴿ رب اجعلني مقيم الصلاة ﴾. وفقني لأداء الصلاة في أوقاتها، والمحافظة على خشوعها و خضوعها وإقامة أركانها ؛ فهي وسيلة المناداة والمناجاة، وسبيل الإيمان وذكر الرحمان، وهي تغسل النفس من الداخل بالتوبة والذكر والطهارة، ولذلك كانت وسيلة إلى البعد عن الفحشاء والمنكر ؛ لأن من عرف ربه وناجاه في صلاته ؛ سكب الله في قلبه التقوى، ورزقه الاستقامة على المأمورات واجتناب المنهيات.
وقد كان إبراهيم أمة في رجل ؛ فهو أبو الأنبياء، وقد امتدت دعوته إلى الصالحين من ذريته، فقال :
﴿ ومن ذريتي ﴾. أي : واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة، وقد وصف الله عباد الرحمان بقوله :﴿ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ﴾( الفرقان : ٧٤ ).
وقد خص إبراهيم بعض ذريته بالدعاء، فقال :﴿ ومن ذريتي ﴾. أي : وبعض ذريتي ؛ لأنه علم من استقرائه عادة الله في الأمم السابقة، أن يكون في ذريته من لا يقيم الصلاة.
انظر إلى قوله تعالى :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾. ( البقرة : ١٢٨ ).
إن عدالة الله تأبى أن تحابي نبيا أو رسولا، وإنما يكافئ المحسن أيا كان موقعه أو نسبه، ويعاقب المسيء مهما كانت قرابته أو نسبته، ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
﴿ ربنا وتقبل دعاء ﴾. أي : يا رب تقبل دعائي، وأجب دعائي وتبتلي، أو تقبل عبادتي، أو هما معا، تقبل دعائي حين أدعوك، وعبادتي حين أعبدك، وارزقني الإخلاص والقبول والتوفيق.
﴿ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ﴾.
أي : اغفر لي يارب ما فرط مني من الذنوب، أو من عمل خلاف الأولى، أو من الغفلة عن عبادتك، واغفر لأبي وأمي.
قيل : كانت أمه مؤمنة ؛ لأن الله ذكر عذره واستغفاره لأبيه دون أمه حين قال سبحانه :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ﴾. ( التوبة : ١١٤ ).
وامتد دعاء إبراهيم الخليل ليشمل جميع المؤمنين والمؤمنات ؛ فقال :
﴿ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ﴾.
أي : واغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات جميعا، من ذريتي وغيرهم، حينما يقومون للحساب والجزاء يوم القيامة، وتلك دعوة وشفاعة منه لجميع المؤمنين، نرجو أن يتقبلها الله رب العالمين.
﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار٤٢ مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء٤٣ ﴾.
المفردات :
تشخص فيه الأبصار : تكون فيه أبصار أهل الموقف مفتوحة لا تطرف. يقال : شخص البصر إذا ارتفع، ويتعدى بنفسه، فيقال : شخص الرجل بصره ؛ إذا فتح عينيه لا يطرف.
التفسير :
٤٢﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون... ﴾الآية.
الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد : أمته، أو كل من يتأتى من الخطاب، وفي هذه الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتهديد ووعيد لمشركي مكة، ولجميع الظالمين.
قال ميمون بن مهران : هذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
أي : لا تحسبن إمهال الظالم لفترة ما بسبب غفلة الله عنه، بل سنة الله إمهال العصاة في هذه الدنيا، لعلهم يتوبون أو يرجعون، وفي الآية تهديد ووعيد لكل ظالم، أي : لا تغتر بإمهالي لك، ولا تظنن أنك أفلت من عقابي ؛ فإن هذا العقاب سيكون يوم الجزاء.
﴿ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾.
إن الله يؤجل عقوبة الظالمين إلى يوم القيامة، فإذا شاهدوا هول الموقف ؛ شخصت أبصارهم، أي : بقيت مفتوحة، لا تتحرك أجفانها ولا حدقاتها.
قال ابن عباس : تشخص أبصار الخلائق يومئذ ؛ لشدة الحيرة، أي : تبقى مفتوحة لا تطرف.
المفردات :
مهطعين : مسرعين : من أهطع في عدوه ؛ إذا أسرع.
مقنعي رءوسهم : رافعيها من إدامة النظر لا يلتفتون إلى شيء، يقال : أقنع رأسه : رفعه.
لا يرتد إليهم طرفهم : الطرف : العين، ولا يجمع ؛ لأنه في الأصل مصدر، والمراد : لا ترجع إليهم أجفانهم التي تحتها العيون بل تظل مفتوحة.
وأفئدتهم هواء : أي : وقلوبهم خالية لا يشغلها سوى الخوف.
التفسير :
-﴿ مهطعين مقنعي رءوسهم... ﴾.
أي : مسرعين إلى الداع بذلة واستكانة، كما يسرع الأسير والخائف.
﴿ مقنعي رءوسهم ﴾. أي : رافعيها مع دوام النظر، من غير التفات إلى شيء.
﴿ لا يرتد إليهم طرفهم ﴾. أي : لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم ؛ كما كانوا يفعلون في الدنيا في كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف من شدة الفزع والخوف.
﴿ وأفئدتهم هواء ﴾. أي : إنها مضطربة تجيش في صدورهم، تجيء وتذهب، ولا تستقر في مكان حتى تبلغ الحناجر ؛ لشدة ما يرون من هول موقف الحساب.
﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال٤٤ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال٤٥ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال٤٦ ﴾.
المفردات :
وأنذر : وخوف.
يوم يأتيهم العذاب : يوم القيامة.
أخرنا إلى أجل قريب : أعدنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أجل قريب.
مالكم من زوال : أي : مالكم من بعث ونشور.
التفسير :
٤٤﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب... ﴾.
تأتي هذه الآيات على طريقة القرآن الفذة الملفتة للنظر، بعرض مشاهد القيامة ماثلة أمام العيان، ونلحظ فيها مواقف الحساب والجزاء، وهيئة الظالمين يرجون أن يعودوا إلى الدنيا لوقت قصير ؛ حتى يفعلوا ما أهملوه في الدنيا، وهو إجابة دعوة الله وإتباع الرسل، لكن يجيبهم الله بالتبكيت والتذكير بما فعلوه في الدنيا.
﴿ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ﴾.
أي : بلغ الناس جميعا : أهوال الموقف، حين يأتي للظالمين العذاب الذي يستحقونه.
﴿ فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل... ﴾.
أي : عند رؤية عذاب الآخرة ؛ يقول الظالمون : يا ربنا أعدنا، إلى الحياة مرة أخرى، وأخر أعمارنا وحسابنا إلى وقت قريب ؛ حتى نستطيع أن نستجيب إلى دعوة الله، بالدخول في الإسلام وأن نتبع الرسل في كل ما أمرونا به، وأن نتدارك ما فرطنا فيه من أعمال في الدنيا.
﴿ أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال ﴾.
القرآن هنا يخاطب الظالمين، وينتقل المشهد أمام القارئ ؛ فالظالم يعتذر ويطلب الإمهال، والقرآن يعرض مشهد الردّ عليه حالا، بدون أن يقول : فيقال لهم :﴿ أولم تكونوا أقسمتم ﴾. فيعطى للقارئ انطباعا بأن المشهد حاضر، وأن النقاش أمامه حالا، وأن الجواب بالرفض والردع سيكون جزاء الظالمين، وبهذا يتنبه الظالم الآن، قبل فوات الأوان.
لقد أقسم الكفار أكثر من مرة على أنه لا بعث ولا جزاء، ولا حشر ولا حساب، وإنما هي الحياة الدنيا، ثم يدفنون في القبر، دون بعث أو حشر أو حساب أو جزاء، وهنا يلتفت القرآن إليهم فيقول :﴿ أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال ﴾.
إنكم جابهتم الرسل بتكذيبهم، وقلتم :﴿ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ﴾( الجاثية : ٢٤ ).
وتأكيدا لكلامكم ؛ أقسمتم عليه من قبل وقلتم :﴿ مالكم من زوال ﴾.
والزوال : الانتقال من مكان إلى آخر، أو من حال إلى حال، والمراد هنا : انتقالهم من قبورهم إلى الحساب يوم القيامة، فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتبكيت : أولم تكونوا تقسمون بالأيمان المغلظة في الدنيا : بأنهم بعد موتكم، ستبقون في قبوركم إلى أن تبلى أجسامكم، وأنه ليس بعد ذلك من بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب٣٢.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :
﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون* لعلّي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ﴾. ( المؤمنون : ١٠٠، ٩٩ ).
وقوله سبحانه :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون* ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾. ( النحل : ٣٩، ٣٨ ).
﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم... ﴾.
أي : أقمتم في مساكن الذين كفروا من الأمم الخالية، أو حللتم في ديارهم، وقتا يكفي للاتعاظ والاعتبار، وكان كفار قريش يمرون بديار قوم ثمود في رحلتهم إلى الشام، وكانوا يحطون رحالهم هناك، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد في رحلتهم إلى اليمن.
﴿ وتبين لكم كيف فعلنا بهم ﴾.
وظهر لكم عن طريق مشاهدة القرى الهالكة، وعن طريق تواتر الأخبار، ماذا فعلنا بهم من الإهلاك والتدمير، جزاء فسوقهم وعصيانهم لرسلهم.
﴿ وضربنا لكم الأمثال ﴾. ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك : الأشباه والنظائر.
قال في التفسير الوسيط : أي : بينا لكم في التنزيل على ألسنة الأنبياء : أحوالهم جميعا ما فعلوه وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة ؛ لتكون لكم فيها عظة وعبرة بقياس أعمالكم على أعمالهم، ومآلكم على مآلهم... أو بينا لكم : أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، وتكون الأمثال على هذا جمع : مثل بمعنى : الشبيه والنظير٣٣.
﴿ وقد مكروا مكرهم... ﴾.
أي : إن هؤلاء الظالمين لم يعتبروا بما أصاب السابقين من الهلاك ؛ كغرق قوم نوح، وهلاك عاد وثمود، حيث بين الله لهم عاقبة الكفر، وضرب لهم أمثلة تنتهي باندحار الباطل، وانتصار الحق، ولم يعتبروا بهذه الأمثال.
ثم :﴿ مكروا مكرهم ﴾.
دبّروا الكيد لمساندة الباطل، ومقاومة الحق، واستفرغوا في ذلك كل جهدهم.
﴿ وعند الله مكرهم ﴾.
وفي علم الله تعالى جزاء مكرهم الذي فعلوه، وسيكون العقاب من جنس العمل.
﴿ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾.
إن هنا نافية بمعنى : ما، وفي قراءة ابن مسعود :﴿ وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾.
أي : إن مكرهم مهما عظم واشتد ؛ لم يكن أهلا لإزالة الآيات والنبوّات الثابتة ثبات الجبال، فالباطل مهما عظم إلى زوال، والحق مهما قلّ أتباعه باق بقاء الجبال، وهذا هو رأي الجمهور، ومقصوده : الاستخفاف بمكر الظالمين، وبيان : أن ما يضمرونه ليس خافيا على الله، ولن يزلزل المؤمنين في عقيدتهم ؛ لأن إيمانهم كالجبال الرواسي في ثباته ورسوخه.
وذهب الكسائي٣٤ إلى أن المراد من هذه الجملة الكريمة : التعظيم والتهويل من شأن مكرهم، أي : وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال ؛ فإن الله ينصر دينه.
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا إدّا* تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا* أن دعوا للرحمن ولدا* وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ﴾( مريم : ٨٨ ٩٢ ).
﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ٤٧ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ٤٨ وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد ٤٩ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ٥٠ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ٥١ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ٥٢ ﴾.
التفسير :
٤٧- ﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله... ﴾.
الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه الخطاب.
أي : لا تظنن أيها الرسول الكريم أنت وأمتك، أن الله تعالى سيخلف ما وعدكم به، من نصر المؤمنين على أعدائهم ؛ فإن وعد الله حق وصدق، ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾( آل عمران : ٩ )، فقد قال سبحانه :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾( غافر : ٥١ )، وقال عز شأنه :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ ( المجادلة : ٢١ ).
﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾.
إنه سبحانه غالب قاهر، لا يمتنع منه من أن أراد عقوبته، قادر على كل من طلبه، لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام، ممن كفر برسله وكذبهم، وجحد نبوتهم، وهذه الفقرة بمثابة التعليل للفقرة السابقة، أي : مادام هو قادر قاهر، فإخلاف الوعد منتف في حقه تعالى.
المفردات :
برزوا : خرجوا من قبورهم.
﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات... ﴾.
تصف الآيات كما ترى مشهدا من مشاهد القيامة ؛ حيث تبدل الأرض غير الأرض، فيحشر الناس على أرض تغيرت صفاتها، فسيرت جبالها، وفجرت بحارها، ولا يرى فيها عوجا ولا ارتفاعا ولا انخفاضا، بل هي أرض منبسطة ممتدة، مستوية معتدلة ؛ كأنما خلقت خلقا جديدا من أجل المحشر.
قال تعالى :﴿ وإذا الأرض مدّت* وألقت ما فيها وتخلت* وأذنت لربها وحقّت ﴾ ( الانشقاق : ٣٥ ).
( واعلم أن التبديل قد يكون في الذات، وقد يكون في الصفات، والآية ليست نصا في أحد الوجهين، والله أعلم كيف يتم هذا التبديل )٣٥.
والسماوات ستتبدل، وتنشق السماء على غلظها، وتتعلق الملائكة بأرجائها، والشمس تفقد جانبا من توهجها، وتصبح من النجوم القزمة، وكذلك النجوم تنكدر ويذهب ضوؤها، وتتغير السماوات والأفلاك والأبراج والنجوم، بمخلوقات أخرى مناسبة للحياة الآخرة.
وفي آيات كثيرة وردت في القرآن تفيد : أن هذا الكون كانت له بداية، حيث خلقه الله من عدم، وبعد ملايين السنين صار صالحا للحياة، وتكونت الشمس والأقمار والنجوم والمجرات، ووجد هذا الكون البديع المتكامل، الصالح للحياة، بحيث تمطر السماء، وتنبت الأرض، ويسخر السحاب والفضاء، والشمس والقمر، والهواء والرياح والبحار والأنهار، لإعمار الكون والحياة.
قال تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا* الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ﴾( الفرقان : ٢٥ ).
وفي سورة التكوير يقول سبحانه :﴿ إذا الشمس كورت* وإذا النجوم انكدرت* وإذا الجبال سيرت ﴾ ( الآيات : ١ ٣ ).
وفي سورة الانفطار يقول سبحانه :﴿ إذا السماء انفطرت* وإذا الكواكب انتثرت* وإذا البحار فجّرت* وإذا القبور بعثرت* علمت نفس ما قدّمت وأخرّت ﴾ ( الانفطار : ١٥ ).
أي : أن هذا الكون سيتغير ويتبدل بقدرة الله، كما أنه أوجد بقدرة الله، وصار صالحا للحياة بمشيئته وأمره، فانشقت السماء بالمطر، وانشقت الأرض بالنبات، وتكاملت دورة إعمار الكون بالجبال، والبحار، والأنهار، والليل، والنهار، قال تعالى :﴿ أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما٣٦ وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون* وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتنا معرضون* وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ﴾( الأنبياء : ٣٠ ٣٣ ).
﴿ وبرزوا لله الواحد القهار ﴾.
أي : خرجت الناس جميعا من قبورها، وبرزت وظهرت بأعمالها ؛ للوقوف بين يدي الواحد الأحد، الفرد الصمد، مالك يوم الدين، الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، فلا مستغاث لأحد إلى غيره، ولا مستجار سواه.
المفردات :
مقرنين : المقرنون : المجموعون بعضهم مع بعض في قرن، وهو : الحبل الذي يربط به.
الأصفاد : القيود والأغلال وهو جمع صفد أو صفد : قيد يوضع في الرجل. والغل : قيد تضم به اليد إلى العنق، وقد يقصر على العنق.
التفسير :
﴿ وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد ﴾.
كان الحديث في الفقرة السابقة بصيغة الماضي، وهنا تغير الحديث إلى المضارع ؛ ليعرض الموقف شاخصا أمام المشاهد، كأنه حاضر الآن أمام عينيه.
إن القيامة تكون على رءوس الخلائق، وطالما تجبّر الظالمون في هذه الدنيا، وأساءوا معاملة المؤمنين، وهاهم يحشرون يوم القيامة والذل والعار على وجوههم، ويشاهدهم جميع الخلائق، ﴿ مقرنين ﴾. أي : يقرن بعضهم إلى بعض في القيود، ويضم كل إلى مشاركه في كفره وعمله ؛ فيضم عابد الوثن إلى عابد الوثن، ويضم شارب الخمر إلى شارب الخمر.
﴿ في الأصفاد ﴾. في الأغلال والقيود، التي يوضع فيها المجرمون والسجناء في هذه الدنيا.
المفردات :
سرابيلهم : جمع سربال، وهو : القميص.
قطران : القطران : سائل أسود تطلى به الإبل الجربى.
تغشى وجوههم النار : تعلوها وتحيط بها.
التفسير :
﴿ سرابيلهم من قطران... ﴾.
تكمل هذه الآية رسم صورة للظالمين، فثيابهم أو قمصهم من قطران، وهو سائل حار أسود اللون، منتن الرائحة، يساعد على سرعة اشتعال النار، تطلى به الإبل الجربى، فيحرق القطران الجرب، كما تطلى به جلود أهل النار، حتى يكون عليهم كالسرابيل ؛ ليذوقوا أشد العذاب وأقساه، بنار سريعة الاشتعال، تجعل أجسامهم سوداء داكنة فيجتمع عليهم أربعة ألوان من العذاب : لذع القطران وحرقته، وإسراع اشتعال النار في الجلود، واللون الأسود الموحش، ونتن الريح.
﴿ وتغشى وجوههم النار ﴾.
إن وجوههم تعلوها النار، التي تلهب وجوههم وتحيط بها، كما تحيط بأجسامهم المسربلة بالقطران وتخصيص الوجوه بالذكر ؛ لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها.
ونظير الآية قوله تعالى :﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ﴾ ( الزمر : ٢٤ )، وقوله سبحانه :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر ﴾ ( القمر : ٤٨ ).
القطران والجرب
اجتمع الفرزدق وجرير والأخطل فقالوا : ليأت كل واحد منا ببيت من الشعر لا يستطيع الآخر نقضه.
فقال أولهم :
أنا القطران والشعراء جربى وفي القطران للجربى شفاء
فقال الثاني :
فإن تك زق زاملة فإني أنا الطاعون ليس له دواء
فقال الثالث :
أنا الموت الذي يأتي عليكم فليس لهارب مني نجاء
﴿ ليجزي الله كل نفس ما كسبت... ﴾.
تأتي هذه الآية في أعقاب معاقبة الظالمين ؛ فمنهم مقرنون في الأغلال، ثيابهم من قطران، وتلفح النار وجوههم، وتحرق أسماعهم وأبصارهم، ومجمع الحواس منهم.
وهنا يقول الحق سبحانه : لقد فعلت بهم ذلك ؛ جزاء وفاقا بما كسبوا في الدنيا من الآثام، ولتكون الآخرة دار جزاء يكافأ المحسن بإحسانه، ويعاقب المسئ بإساءته.
﴿ إن الله سريع الحساب ﴾. فيحاسب جميع الناس في وقت واحد، كما يرزقهم في وقت واحد ؛ فهو سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحتاج إلى تأمل وتدبر في إصدار حكمه، بل يتمه في أعجل وأسرع زمن.
﴿ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ﴾.
تأتي هذه الآية في ختام سورة إبراهيم، التي تحدثت عن رسالة الرسل وموقفهم من المنكرين، ورسمت صورة مؤلمة للظالمين، وختمت السورة بهذه الآية، وفيها رنين وإيقاع متميز، يوضح أهداف الرسالات السماوية، في سورة إبراهيم، أو في القرآن الكريم، فهذه السورة﴿ بلاغ للناس ﴾، أي : تبليغ ودعوة وإعلام بهذا الكتاب، كما قال سبحانه :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾ ( المائدة : ٦٧ ).
﴿ ولينذروا به ﴾.
أي : ليكون نذيرا للظالمين، وتنبيها للكافرين ؛ ليتأملوا ما أصاب الأمم السابقة في الدنيا، وما يصيب الظالمين يوم القيامة.
وفي هذا المعنى يقول تعالى :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا* قيّما لينذر بأسا شديدا من لدنه... ﴾( الكهف : ٢، ١ ).
﴿ وليعلموا أنما هو إله واحد ﴾.
ليعلم الناس أن خالق هذا الكون البديع المنظم، إنما هو إله واحد لا شريك له، ولا ندّ له، ولا مثيل، ولو كان معه آلهة أخرى ؛ لاختلّ نظام الكون واضطرب.
قال تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ ( الأنبياء : ٢٢ ).
﴿ وليذكر أولوا الألباب ﴾.
أي : ليتعظ ويستفد من هذا الكتاب أصحاب العقول الفاقهة، والقلوب المتفتحة ؛ فإنما يستفيد بالرسالات والكتب السماوية أصحاب العقول، والقلوب التي تفتحت وآمنت، وتزودت بالعلم والتقوى.
قال الإمام الرازي : هذه الآية دالة على : أنه لا فضيلة للإنسان إلا بسبب عقله ؛ فقد بين القرآن : أن الله إنما أنزل هذه الكتب وإنما بعث الرسل ؛ لتذكير أولي الألباب... ٣٧.
Icon