ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (كهيعص (١)فيها في القراءة ثلاثة أوجه: فتح الهاء والياء، وكسرهما.
وقرأ الحسن بضم الهاء كهُيعص، وهي أقل اللغات.
فأمَّا الفتح فهو الأصل. تقول: هَا. با. تا... في حروف الهجاء، ومن العرب من يقول ها يا. بالكسر.
ومنهم من ينحو نحو الضم فيقول هُا. يُا، يُشِم الضمَّ.
وحكى الخليل وسيبويه أن من العَرب من يقول في الصلاة الصَّلُوة، فينحو نحو الضم، فأمَّا من روى ضمَّ الهاء مع الياء فشَاذ، لأن إجماع الرواة عن الحسن ضم الهاء وحدها.
وفي الرواية ضم الياء قليل عنه.
واختلف في تفسير (كهيعص) فقال أكثر أهل اللغة إنها حروف التَّهَجِّي
تدل على الابتداء بالسورة نحو (الم، والر).
وقيل إن تأويلها أنها حروف يَدُلُّ كُل وَاحِد منها على صفة من صفات اللَّه - عزَّ وجلَّ - فكاف يدل على كريم، و " ها " يدل على هادٍ، و " يا " من حكيم، و " عين " يدل على عالم، و " صَادْ " يَدُلُّ على صادق.
وهذا أحسن ما جاء في هذه الحروف، وقد استقصينا ذلك
في أول سورة البقرة.
وروي أن (كهيعص) اسم من أسماء اللَّه تعالى.
وروى أن عَلِيًّا - (عليه السلام) أقسم بكهيعص، أو قال: " يا كهيعص).
والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد، لأن الداعي إذا عَلِمَ أن
الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات اللَّه - جلَّ وعزَّ - فدعا بها.
فكأنه قال: يا كافي يا هادي يا عَالِم يَا صَادِق، فكأنه دعا بكهيعص لذكرها في القرآن وهو يدل على هذه الصفات، فإذا أقسم فقال: وكهيعص، فكأنه قال والكافي والهادي والعالم والحكيم والصادق.
وأسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ النَيَّةُ فيها الوقْفُ.
* * *
(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)
(ذِكْرُ) مرتفع بالمضَمر، المعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك عبده
بالرحمة، لأن ذكر الرحمن إياه لا يكون إلا باللَّه - عزَّ وجلَّ -.
والمعنى ذكر ربك عبده بالرحمة.
و (زكريا) يقرأ على وجهين، بالقصر والمد، فأَعلم اللَّه
- جلَّ وعزَّ - على لسان نبيه عليه السلام وصيةَ زكريا ويحيى ليَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ أن محمداً - عليه السلام - قد أوحي إليه، وأنزل عليه ذكر من مضى من الأنبياء وأنهم يجدون ذلك في كتُبِهِمْ على ما ذكر - ﷺ - وهو لم يتل كتاباً ولا خطَّه بيمينه، وأنه لم يَعْلَم ذلك إلا من قبل الله تعالى وكان إخْبَارُهُ بهذا وما أشبهه على هذه الصفة دليلاً على نبوته - ﷺ -.
وقال بعض أهل اللغة إنَّ قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) يرتفع
بـ " كهيعص " وهذا محال لأنَّ " كهيعص " ليس هو فيما أنبأنا اللَّه - عزَّ وجل - به عن زكريا، وقد بَيَّن في السورة ما فَعَله به وبشَّرَهُ به.
ولم يجئ في شيء من التفسير أن " كهيعص " هو قصة زكريا ولا يحيى ولا شيء منه، وقد أجمع
(إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣)
دعا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - سِرا، وبين ما الذي سأل الله عزَّ وجلَّ، فقال:
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
ومعنى (وَهَنَ) ضعف.
(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا).
قيل إن كان قد أتت له في ذَلك الوقتِ خَمسٌ وستون سَنَةً، وقيل ستونَ
سنةً وقيل خمس وسبعون سنة.
و" شَيْباً " منصوب على التمييز
المعنى اشتعل الرأس من الشيب، يقال للشيب إذا كثر جِدا: قد اشتعل رأس فلان.
(وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).
أي كنْتُ مستجاب الدعوة.
ويجوز أن يكون أراد (لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي من دعاك مخلصاً فقد وَحَّدك وعبدك، فلم أكن بعبادتك شَقِيًّا.
* * *
وقوله: عزَّ وجلَّ: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥)
- بإسكان الياء من ورائي - معناه من بعدي، والموالي واحدهم مولى.
وهم بنو العم وعصبة الرجل، ومعناه الذين يَلُونَه في النَسَبِ كما أن معنى
القرابة الذين يقربون منه في النسب.
وقوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا).
أي قد بلغت هذه السِّنَ وامْراتِي عاقر، والعاقر من النساء التي بها علة
تمنع الْوَلَدَ، فكذلك العاقِر من الرجال، فليس يكون لي ولد إلا " وَلِيًّا " فهبه
لي، فإنك على كل شيء قدير.
ويقرأ بالجَزم (يَرِثْني ويرِثْ من آل يعقوب) على جواب الأمْرِ
ومن قرأ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) فعلى صفة الولي، وقيل يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقال قوم لا يجوز أن يقول زكريا: إنه يخاف أن يورث المال لأن أمر الأنبياء
والصالحين أنهم لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جعله الله لهم، وجاء عن
النبي - ﷺ - أنه قال:
" إنا معاشر الأنبياء لاَ نُورَث ما تركناه فهو صَدَقَة "
فقالوا معناه يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقوله: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).
وقوله أيضاً " وليًّا " يدل على أنه سأل ولداً دَيناً، لأن غَيْرَ الدَّيِّنِ لا يكون
ولياً للنبي عليه السلام.
* * *
وقوله: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
(٧)
(إِنَّا نُبَشِّرُكَ). ونَبْشرُك
(بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا).
أي لم يسم أحد قبله بيحيى، كذا قال ابن عباس، وقيل سمي بيحيى
لأنه حَيى بالعلم وبالحكمة التي أوتيها، وقيل لم نَجْعَلْ له من قبل سمياً، أي
نظيراً ومِثْلاً.
كل ذلك قد جاء في التفسير.
* * *
وقوله: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ [عُتِيًّا] (٨)
وتقرأ (عِتِيًّا)، وقد رُوِيتْ عُسِيًّا - بالسين - ولكن لا يجوز في القراءة لأنه
بخلاف المصحف، وكل شيء انتهى فقد عتا يعتو عِتِيًّا وعُتُوًّا وعُسُوًّا، وعُسِيًّا.
قوله: ﴿عِتِيّاً﴾: فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ، فعلى هذا ﴿مِنَ الكبر﴾ يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «بَلَغْتُ»، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِتِيَّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك. الثاني: أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل، لأنَّ / بلوغَ الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ»، أي: عاتياً أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: «وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا» يريد بقوله: «أو بَلَغْتُ» أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ.
والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو: «عِصِيّ» إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه: «وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً» وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو: «إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة» وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ.
وقرا الأخَوان «عِتِيَّا» و «صِلِيَّا» و «بِكِيَّا» و «جِثِيَّا» بكسر الفاء للإِتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ «عَتِيَّا» و «صَلِيَّا» جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل.
وقرأ عبد الله ومجاهد «عُسِيَّا» بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يُولَدُ له.
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا
(٩)
معناه - واللَّه أعلم. الأمر كما قيل لك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا).
معناه ولم تك شيئاً موجوداً، أي أوجدتك بعد أن لَمْ تَكُنْ.
أي فخلق الولد لك كخلق آدم عليه السلام، وخلقك من نُطْفة وعَلَقةٍ ومُضْغَةٍ ولَحْمٍ وعَظْمٍ.
* * *
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠)
أي عَلَامَةً أعلم بها وقوع ما بشرتُ به.
(قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا).
أي تمنع الكلام وأنت سَوِي، فتعلَمَ بذلك أن اللَّه - جل وعلا - قد
وهب لك الولَدَ.
و" سَوِيًّا " منصوب على الحال.
* * *
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
(١١)
قيل معنى أوْحى إليهم أوْمَأ إليهم ورَمَزَ، وقيل كتب لهم في الأرض بيده.
و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) - منصوبان على الوقت.
* * *
وقوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)
المعنى: فَوَهَبْنَا لَه يحيى وقلنا له (يا يحيى خُذِ الكِتَابَ بقوَّةٍ)، أي
بجِدٍ وعونٍ من اللَّه - جلَّ وعزَّ -.
(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣)
قال الشاعر:
فقالت حَنَان ما أتى بك ههنا... أذو نسب أم أنت بِالحَيِّ عَارِفُ
أي أمرنا حنان، أو عطف ورحمة:
وقال أيضاً:
أَبا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا... حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بعضِ
المعنى وآتيناه حناناً من لدنا وزكاةً، والزكاة التطهير.
* * *
(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤)
أي وجعلناه براً بوالديه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦)
(انْتَبَذَتْ) تَنَحَّتْ. ويقال نَبَذْتُ الشيء إذَا رَمَيْت به.
(مَكَانَاً شَرْقياً) أي نحو المشرق.
* * *
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
(١٧)
قيل إنها - قصدَتْ نَحو مطلَع الشمس، لأنها أرَادَتِ الغسْلَ مِن الحيضِ.
(فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا).
يعنى به جِبرْيل - ﷺ -.
وقيل الروُحُ عيسى، لأنه روح من اللَّه - عزَّ وجلَّ -
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ).
ويدل على أنَّ جبريل عليه السلام هو الروح قوله: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا).
* * *
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩)
أكثر القراءة (لأهَبَ)، ورُوَيتَ (لِيَهبَ لكَ) وكذلك قرأ أبو عمرو: لِنَهَبَ
لكِ كُلاماً زَكيا.
* * *
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)
تأويله إنى أَعُوذُ باللَّهِ مِنكَ، فإن كنت تقياً فَستتعظُ بتعوذي باللَّهِ منك.
أما من قرأ (ليهبَ) بالياء فالمعنى أرْسَلَني ليهب.
ومن قرأ (لَأهَبَ) فهو على الحكاية وحمل الحكاية على المَعنى، على تأويل قال أُرسلت إليك لأهب لك.
* * *
وقوله: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
أي لم يَمسَسْني بشر على جهة تَزَويج - وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، أي ولا قرِبْت على
غير حد التزويج.
* * *
(قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١)
(قَالَ كَذَلِكَ).
أي الأمر على ما وصفت لكِ.
(قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).
أي وكانَ أمراً سَابقاً في علم اللَّهِ - عز وجل - أنْ يقعَ.
* * *
وقوله: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢)
(انتَبَذَتْ به) تباعدت به.
وقَصِيًّا وقَاصِياً في مَعْنًى وَاحِدٍ، معناه البُعْدُ.
معناه ألجأها، وهو من جئت وأجاءني غيري: وفي معناه أَشَاءَنِي
غيري، وفي أمثال العرب: شَرٌ أجاءَك إلى مُخّةِ عُرْقُوبٍ وبعضهم يقول:.
أشَاءَك.
قال زُهَيْر:
وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليْكُم... أَجاءَتْهُ المخافةُ والرَّجاء
واختلف في حمل عيسى عليه السلام، فقيل إنها حَمَلَت بِه وولدته في
وقتها، وقيل إنه ولد في ثمانية أشهر، وتلك آية له لأنه لا يُعْرفُ أنه يعيش مولود وُلدَ لثمانية أشْهُر غيرُه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) - يدل على مكْثِ
الحْملِ واللَّه أعلم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا).
معناه إني لَوْ خُيرْتُ قبلَ هَذِه الحالِ بين الموتِ أو الدفع إلى هذه الحال
لاخترت الموت، وقد علمتْ - رضوان الله عليها - أنها لم يكن ينفعها أنْ
تتمنى الموت قبل تلك الحال.
وقوله: (وَكُنْتُ [نِسْيًا] مَنْسِيًّا).
ويقرأ (نَسْيًا) - بفتح النون - وقيل معنى " نَسْيًا " حَيْضَةً ملْقَاةٍ وقيل
نِسْيًا - بالكسر في معنى مَنْسِيةً لَا أعْرَف، والنِسْى في كلام العَرَبِ الشيء
المطروح لا يؤبه له.
قال الشنفري:
* * *
وقوله: (فَنَادَاهَا [مَنْ تَحْتَهَا] أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
وتقرأ (مِنْ تَحْتِهَا)، وهى أكثر بالكسر في القراءة، وَمَنْ قَرَأ (مَن تَحْتهَا) عَنَى
عيسى عليه السلام.
ويكون المعنى في مناداة عيسى لها أن يبين الله لها الآية
في عيسى، وأنَّه أعلمها أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - سيجعل لها في النخلة آية. ومن قرأ (مِنْ تَحْتِهَا) عَنَى بهِ المَلَكَ.
(قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).
رُوِيَ عن الحَسنِ أنه قال يعنى عيسى، وقال: كان واللَّه سَرِيًّا من
الرجال، فعرف الحسنُ أن من العرب من يسمي النهر سرياً فرجع إلى هذا
القول.
ولا اختلاف بين أهل اللغة أنَّ السَّريَّ النهر بمنزلة الجدول.
قال لبيد:
فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ وصَدَّعا... مَسْجُورَةً مُتَجاوِراً قُلاَّمُها
وقال ابن عباس: السري النهر وأنْشَدَ.
سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ منه أَزْوَرا... إِذا يَعُبُّ في السَّرِيِّ هَرْهَرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
(٢٥)
يروى أنه كان جِذْعاً من نخلةٍ لا رَأْسَ عَليه، فجعل اللَّه - جلَّ وعزَّ - له
رأساً وأنبت فيه رُطَباً، وكان ذلك في الشتاء.
فأمَّا نصب رُطَباً فقال محمد بن يزيد هو مفعول به، المعنى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ رُطَبًا تَسَّاقط عليكِ.
ويجوز يَسَّاقَطْ باليَاءِ، ويجوز يتساقط عليك. ويجوز تُساقطُ عَلَيْك
ونساقطُ. وَيسَّاقَطُ بالرفع. وُيروَى عن البَراءِ بن عَازِب.
فمنْ قرأ يساقَطُ عَلْيكِ فالمعنى يَتَسَاقطُ فأدغمت التاء في السِينِ ومن قرأ
تسَّاقَطْ، فالمعنى تَتَساقَطُ أيضاً. فأدْغِمت الياء في السّين وأنِّثَ لأن لَفظَ النَخْلَةِ مُؤَنَثٌ. ومن قرأ تَسَاقَط بالتاء والتخفيف فإنه حذف التاء من - تتساقط لاجتماع التاءَيْن، ومن قرأ يُسَاقِطْ:. ، إلى معنى يُسَاقِطُ الجذْعُ عَلَيْك. ومن قرأ نُسَاقِط بالنون فالمعنى إنا نحن نُسَاقِطُ عليك فنجعل لك بِذلك آيةً.
والنحويون يقولون إن رُطباً مَنْصوُبٌ على التمييز، إذا قْلتَ يسًاقَطُ أو
يتساقط فالمعنى يتساقط الجذعُ رُطبأ، ومن قرأ تَسَاقطُ فالمعنى تَتساقطُ النخلة
رُطباً (١).
* * *
وقوله: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
أي فكلي من الرطب، واشربي من السَّرِيِّ، (وَقَرِّي عَيْنًا) بعيسى.
يقال: قرِرْت به عيناً أقَرُّ بفتح القاف في المستقبل.
وقَرَرْتُ في المكان أقِر - بكسر القاف - في المستقبل.
و (عَيْنًا) منصوب على التمييز (٢).
(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا).
بغير ألف في تَريِنَ، ويجوز " تَرأيِنَّ " بألف ولم يقرأ بالألف أَحَدٌ وهي
جَيِّدَة بالغة لكنها لا يجوز في القراءة.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (إنني مَعَكُمَا أسَمَعَ وأرَى)، ويجوز وأرْأي بالألف، ولا تقرأ بها، لفظُها أرْأى، لأن
قوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ﴾: يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في «بِجَذْعِ» زائدةً كهي في قولِه تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] [وقولِه:]
٣٢٢٢ -...................................... لا يَقْرَأْن بالسُّوَر
وأنشد الطبري:
٣٢٢٣ - بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه... وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ
أي: هُزِّي جِذْعَ النخلةِ. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه: وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة. ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع. وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه:
٣٢٢٤ -............................. يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي
قال الشيخ:» وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى: ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ، لا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني، أي: ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هَزَّ إليه، ولذلك جَعَلَ النحويون «عن» و «على» اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس:
٣٢٢٥ - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه... ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ
وقول الآخر:
٣٢٢٦ - هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ... بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها
وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله:
٣٢٢٧ - غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها... تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الآخر:
٣٢٢٨ - فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ... مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك «عَنْ» و «على». ثم أجاب: بأنَّ «إليك» في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه: أَعْني إليك «. قال:» كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه: ﴿لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] في أحد الأوجه «.
قلت: وفي ذلك جوابان آخران، أحدهما: أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو:» دَعْ عنك «» وهَوِّنْ عليك «وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ. والثاني: أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره: هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك.
قوله:» تُساقِطْ «قرأ حمزة» تَسَاقَطْ «بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف. والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص» تَتَساقط «بتاءين، مضارعَ» تساقَطَ «فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو:» تَنَزَّلٌ «و» تَذَكَّرون «، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن.
وقراءةُ حفص مضارع «ساقَطَ».
وقرأ الأعمش والبراء بن عازب «يَسَّاقَطْ» كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع «اسَّاقط» وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك «ادَّارَأ» في تَدَارَأَ.
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: / وافقه مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِط» بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع «رُطَباً جَنِيَّاً» بالفاعلية.
وقُرِئَ «تَتَساقط» بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله:
٣٢٢٩ -............................... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم
وكقراءة «تَلْتَقِطْه بعض السيارة». ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق.
وأمَّا نَصْبُ «رُطَباً» فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً: وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «هُزِّيْ» وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
وقرأ طلحة بن سليمان «جَنِيَّاً» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ «تُخَم» فإنَّع لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا «الرطب» باعتبار الجنس، وأنَّثوا «التُّخَم» باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على «أَرْطاب» شذوذاً كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى.
والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيَّاً، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك «جَنَى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَم جريمةً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾: «عَيْناً» نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ «قَرِّيْ» أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع.
وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣].
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ «القُرّ» وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: «أَسْخَنَ اللهُ عينَه»، وفي الدعاء له: «أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام:
٣٢٣٠ - فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ... وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وكذلك تقول للمرأة اخْشَيِنَّ زيداً (١).
* * *
(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).
معنى (صوماً) صمتاً. يقال نَذَرتُ النًذْرَ أنذِرُهُ وَأنْذُرُه، ونَذِرتُ بالقَوْم أنْذَرُ
إذا علمت بهم فاستعدَدْتَ لهم.
* * *
وقَوله: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
(٢٧)
أي شيئاً عظيماً، يقال فلانٌ يَفْرِي الفَرِيَّ إذا كان يعمل عملًا يبالغ فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
اختلف في تفسير: " أُخْت هَارُونَ " في هذا الموضع.
رَوْينَا في التفسير أنَّ أهْلَ الكتاب قالوا: كيف تقولون أنتم: مَرَيَمُ أخت
هارون وبينهما ستَّمائةِ سنة، فقيل ذلك لرسول اللَّه - ﷺ - فقال: إنهم كانوا يُسَمون بأسْماء الأنبياء والصالحين، أي فكان أخو مَرْيَمَ يسمَى هارون.
وقيل إنهم عَنوْا بأخت هارون في الصلاح والدين، ويروى أن هارون هذا
الدَّيِّنَ كان رجلاً من قومها صالحاً، وأنه حضر جنازَتَه أربعون ألفاً يسمى كل
واحد منهم هارون.
والذي في هذا عن النبي - ﷺ - بَيِّنٌ.
قوله: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ﴾ دخلت» إنْ «الشرطية على» ما «الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و» تَرَيْنَ «تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية» تَرَئِنَّ «بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء، وكذلك رُوي عنه» لَتَرَؤُنَّ «بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري:» هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين». وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: «هو لحنٌ عند أكثر النحويين».
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: «وهي شاذَّةٌ». قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه:
٣٢٣١ - إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به... ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر:
٣٢٣٢ - لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ... يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ «لم»، وأبقى نونَ الرفعِ.
و «من البشر» حالٌ من «أحداً» لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله.
قوله: فَقُولِيْ «بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ / كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله» فقُولي «إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي لما خاطبوها أشارت إليه، بأنْ جَعَلُوا الكلامَ مَعَهُ، ودَل على أنها
أشارت إليه في الكلام قولهم (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).
وفي هذا ثلاثة أوجهٍ:
قال: أبو عبيدة إن معنى " كان " اللغو، المعنى كيف
نكلم من في المهد صبياً، لأن كل رجل قد كان في المهْدِ صَبِيًّا، ولكن
المعنى كيف نكلم من في المهد صَبيًّا لا يَفهمُ مِثْلهُ، ولا ينطق لسانه بالكلم.
وقال قوم إنَّ " كان " في معنى وقع وحَدَثَ.
المعنى على قول هؤلاء: كيف نكلم صَبِيًّا قد خلق في المهْدِ.
وأجود الأقوال أن يكون " مَن " في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى:
من يكن في المهد صَبِيًّا - ويكون (صَبِيًّا) حالاً - فكيف نكلمه.
كما تقول من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه.
وروى أنَّ عيسى عليه السلام لما أومأت إليه اتكأ على يساره وأشار بسبَّابَتِه فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) أي معلمأ للخير.
(وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)
ومعنى الزكاةِ هَهُنا الطهَارَةُ، (مَا دُمْتُ حَيًّا) - دُمْتُ، ودِمْتُ جميعاً.
(وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢)
* * *
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ) فيه أوجه، فالسلام مصدر سلَّمْتُ سلاماً، ومَعناهُ عموم
العافية والسلامة، والسلام جمع سلامة، والسلام اسم من أسماء الله جل
وعزَّ، وسلام مما ابتُدئ به في النكرة، لأنه اسم يكثر استعماله. تقول سلام
عليك والسلام عليك. وأسماء الأجناس يبتدأ بها، لأن فائدة نكرتِها قريب من فائدة معرفتها. تقول: - لَبيْكَ وخَير بين يَدَيْكَ، وإن شئت قلت: والخير بين يديك، وتقول: السلام عليك أيها النبي، وسلام عليك أيها النبي، إلا أنه لمَّا جَرَى ذكر " سلام " قبل هذا الموضع بغير ألف ولام كان الأحسن أن يُرَدَّ ثانية بالألف واللام، تقول: سلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، هذا قسمٌ حسن، وإن شئت قلت سلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
(٣٤)
أي ذلك الذي (قال إني عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلنى نبياً) عيسى ابن
مريم لا ما يقول النصارى من أنه ابن اللَّه وأنه إله - جل الله وعز.
وقوله - عزَّ وجلَّ: (قَوْلُ الْحَقِّ) (١).
بالرفع، ويجوز (قَوْلَ الْحَقِّ) بالنصب، فمن رفع فالمعنى هو قول الحق
ومن نصب فالمعنى أقول قولَ الحق الذي فيه يمترون أي يشكون.
* * *
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
(مِنْ وَلَدٍ) في موضع نصب، والمعنى أن يتخذ وَلداً، و (مِنْ) مؤكدة.
تدل على الواحد والجماعة لأن للقَائِلِ أنْ يَقُولَ: ما اتخَذْتُ فَرساً يريد
قوله تعالى: ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق﴾: يجوز أَنْ يكونَ «عيسى» خبراً ل «ذلك»، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ. و «قولُ الحق» خبره. ويجوز أَنْ يكونَ «قولُ الحق» خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو قولُ: و «ابن مريم» يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر «قولَ الحق» بالنصبِ والباقون بالرفع. فالرفعُ على ما تقدَّم. قال الزمخشري: «وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بدلٌ» قال الشيخ: «وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ».
والنصب: يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك: «هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ، أي: أقولُ قولَ الحق، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه، أي: القول الحق، كقولِه: ﴿وَعْدَ الصدق﴾ [الاحقاف: ١٦]، أي: الوعدَ الصدقَ. ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح، أي: أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى، و» الذي «نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار أعني. وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من» عيسى «. ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ» قالُ «برفع اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً. وقرأ الحسن» قُوْلُ «بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر لقال. يقال: قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال أبو البقاء:» والقال: اسمٌ [للمصدرِ] مثل: القيل، وحُكي «قُولُ الحق» بضمِّ القاف مثل «الرُّوْح» وهي لغةٌ فيه «. قلت: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب.
وقرأ طلحةُ والأعمش» قالَ الحقُّ «جعل» قال «فعلاً ماضياً، و» الحقُّ «فاعلٌ به، والمرادُ به الباري تعالى. أي: قال اللهُ الحقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قولُه ﴿الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما» تَمْتَرون «بتاء الخطاب. والباقون بياءِ الغَيْبة. وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون: إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فرساً واحداً، فإذا قال ما اتخذت من فرس فقد دل على نَفْي الواحد
والجَمِيعَ.
(سُبْحَانَهُ).
معناه تنزيهاً له من السوء.
* * *
وقوله: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
يعنى به يوم القِيَامة.
* * *
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨)
المعنى مَا أسْمَعَهمْ وأبصَرَهمْ يوم القيامة لأنهم شَاهَدوا من البعث وأمْر
اللَّه عزَّ وجلَّ ما يسمع ويبصر بغير إعْمال فِكْرٍ وَتَرْوِيَةٍ.
وما يُدعَوْنَ إليه من طاعة اللَّه - جل جلاله - في الدنيا يحتاجون فيه إلى فكر ونظر فضلُّوا عن ذلك في الدنيا وآثروا اللهو والهوى، فقال الله تعالى: (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩)
(يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم القيامة، روي في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهلُ الجنة في الجنة، وأهْلُ النَّارِ في النار أُتيَ بالموتِ في صُورَة كَبْشٍ أملح فيعرض على أهل النار فيشرئبون إليه.
فيقال: أتعرفون هذا، فيقولون: نعم، فيقال:
(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ).
أي هم في الدنيا في غفلة.
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١)
أي اذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قِصةَ إبْراهِيمَ وخَبَرهُ.
الصِّديقُ اسم للمبالغة في الصِّدْقِ.
ويقال لكل مَنْ صَدَّقَ بتوحيد اللَّه وأنبيائه وعمل بما يصدقُ به صِدِّيق، ومن ذلك سمي أبو بكر الصِّديقَ.
* * *
وقوله: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)
الوقف عليه يا أبَه بالهاء، والعرب تقول في النداء يا أبَةِ، ويَا أمَّةِ ولا
تقول قال أبتي كذَا ولا قالت أمَّتِي كذا، وزعم الخليل وسيبويه أنه بمنزلة
قولهم يا عمة ويا خالَة، وأن أبَة للمذكر والمؤنث، كأنك تقود للمذكر أبة
وللمؤنث. والدليل على أنَّ للأُمِّ حَظًّا في الأبُوةِ أنه يقال أبَوانِ، قال اللَّه
عزَّ وجلَّ: (وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ).
وزعم أنه بمنزلة قولهم رجل رَبْعة، وغلام يَفَعَةِ.
وأن الهاء في أبَةِ، عوض من ياء الِإضافة من يا أبي ومن يَا أُمِّي ولم
يقل يا أبتي ولا يا أُمَّتي، ولذلك لم تقع الهاء في غير النداء، لأن حذف الياء
يقع في النداء كثيراً، تقول: يَا أبِ لا تفعل، ولا تقل قال أبِ كذا وكذا تريد قال أبي.
والمؤنث قد يوصف بالمذكر كقولهم امرأة طالق وطاهر، ويقال ثَلَاثةُ
* * *
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤)
فمن فتح حذف الألف التي أبْدِلَتْ مِنْ يَاءِ الِإضافة أرَادَ يَا أبَتَا فالألف
بدَل من ياء الِإضافة إلاَّ أن الواجب حذفها، إذ كانت بدلاً من ياء تحذف.
وقوله: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا).
يعني الصَنم.
وقوله: (إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ).
يدل أنه كان قَدْ أتَاهُ الوَحْيُ.
ومعنى: (صِرَاطًا سَوِيًّا).
أي طريقاً مستقيماً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤)
معنى عبادة الشيطان - واللَّه أعلم - طاعته فيما يسول من الكفْرِ
والمَعَاصِي.
* * *
وقوله: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
(لَأَرْجُمَنَّكَ).
معناه لأشتمنَكَ، يقال: فلان يَرْمي فلاناً ويرْجُمُ فلاَناً معناه يشتمه.
وكذلكْ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ) معناه يَشْتِمُونَهُنَّ، وجائز أن يكون (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنك رَجْماً، والذي عليه التفسير أن الرجم ههنا الشتم.
* * *
وقوله: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)
معناه لطيفاً، يقال: قد تَحَفَّى فلانٌ بفُلَانٍ، وحَفِي فُلَان بفُلانٍ حَفْوَهُ إذا
بَرهُ وألْطَفَهُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
أي أبقينا لهم ثناء حسناً، وكذلك قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤).
* * *
وقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
(٥١)
(مُخْلِصًا) و (مُخْلَصًا)
يقرآان جميعاً. والمخلَص - بفتح اللام الذي أخلصه اللَّه
جلَّ وعزَّ، أي جعله مختاراً خالصاً من الدنَس.
والمخْلِصُ - بكسر اللام - الذي وَحَّدَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - وجَعَلَ نفسه خالصة في طاعة اللَّه غير دنِسَةٍ.
* * *
وقوله: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢)
(وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا).
معناه مناجياً. وجاء في التفسير أن الله عزَّ وجلَّ قربه حتى سمع صريف
القلم الذي كتبتْ به التوْرَاةُ، ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكونَ، مثل: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً) أي قربه في المنزلة حتى سمع مناجاة اللَّه - عزَّ وجلَّ - وهي كلامُ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
هارون لا ينصرف في المعرفة لأنه اسم أعجمي وهو معرفة.
* * *
وقوله سبحانه: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
أهله جميعُ أمته، مَنْ كانت بينه وبينه قرابة أو من لم تكن، وكذلك
أهل كُل نبي أُمَّتُهُ.
أصله مَرْضُوًّا، وهو جائز في اللغة غير جائز في القرآن لأنه مخالف
للمصحف، والخليل وسيبويه وجميع البصريين يقولون: فلان مَرْضُوُّ ومَرضِيٌّ
وأرض مَسْنُوة ومسنية إذا سقيت بالسواني أو بالمطر، والأصل الواو إلا أنها
قلبت عند الخليل لأنها طرف قبلها واو ساكنة ليس بحاجز حصين، وكأنها
مَفْعُل بضم العين، ومفعُل من أدوات الواو يقلب إلى مَفْعِل، لأن الواو لا
تكون طرفاً وقبلها متحرك في الأسماء، وأما غير سيبويه والبصريين فلهم فيه
قولان:
قال بعضهم: لما كان الفعل منه رضيتُ فانتقل من الواو إلى الياء.
صار مَرْضِيا. وقيل إن بعض العرب يقول في تثنية رضىً رِضيَان ورِضَوَانِ.
فمن قال رضيانِ لم يكن من قوله إلا مرضيٌّ، ومن قال رضوان في التثنية جاز
أن يقول فلان مَرْضوٌّ ومرضِيٌّ.
* * *
وقوله سبحانه: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)
جاء في التفسير أيضاً أنه رفع إلى السماء الرابعة، وجاء في التفسير
أيضاً أنه سأل ملك الموت حتى سأل الله - جلَّ وعزَّ - أنْ رَفَعَهُ فأُدْخِلَ النارَ ثم أُخرج فأُدخل الجنة فقيل له في الخروج فقال: قد قال اللَّه عزْ وجلَّ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) وقال في أهل الجنة: (وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجين) فأقَرَّه
اللَّه عزَّ وجلَّ في الجنة.
وهذا الحِجَاج إنما هو في القرآن - واللَّه أعلم.
مُخَلَّدون في الجِنَان قبل إنْزَاله القرآن، وجاء القرآن موافقاً ما عُلِّمَ إدْرِيسُ.
وجاء في التفسير أنه رُفِعَ كما رُفِعَ عيسى.
وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - قوله: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانَاً عَلِيًّا) أي في
النبوة والعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)
قد بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَه أن الأنْبِيَاءَ كانوا إذَا سَمِعُوا بآيات اللَّه - عزَّ وجلَّ -
سَجَدُوا وبَكَوْا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
و (بُكِيًّا) جمع باكٍ، مثل شاهد وشُهود وقَاعِد وقُعُود.
و (سُجَّدًا) حال مُقَدَّرَة
المعنى: خَرُّوا مُقَدِّرينَ السجُودَ لأن الِإنسان في حال خرْورِهِ لا يكون سَاجِداً و (سُجَّدًا) منصوب على الحال.
ومن قال: (بُكِيًّا) ههنا مصدر فقد أخطأ لأن (سُجَّدًا) جمع سَاجد و (بُكِيًّا) عطف عليه، ويقال بَكَى بُكَاءً وبُكِيًّا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)
يقال في الرداءة خَلْف - بإسكان اللام - تقول خَلْفُ سوءٍ وفي
الصلاحِ خلَفُ صِدْقٍ - بفتح اللام - وقد يقال في الرداءة أيضاً خَلَف - بفتح اللام - وفي الصلاح بإسكان اللام، والأجود القول الأول.
(أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).
جاء في التفسير أنَّهمْ صَلُّوْهَا في غير وقتها، وقيل أضَاعُوهَا وتَرَكُوَهَا ألبتَّة
وهذا هو الأشبه، لأنه يدل على أنه يعْنَى بِهِ الكفَارُ.
ودليل ذلك قوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ).
وقوله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)
وجاء في التفسير أن، (غيًّا) وادٍ في جهنم، وقيل نهر في جهنم.
وهذا جائز أن يكون نهراً أعد للغاوين فسمي (غيًّا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠)
" مَنْ " في موضع نصب أي فسوفَ يلْقَوْنَ العذابَ إلا التائبين.
وجائز أن يكون نصباً استثناء من غير الأول، ويكون المعنى لكن من تاب وآمن.
(فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).
ويقرأ - يُدْخَلُونَ الجنةَ.
* * *
وقوله تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١)
يجوز الرفع والنصب، الرفع على معنى هي جنات عدن، والنصب على
معنى يدخلون في جنات عَدْنٍ.
وعدن في معنى إقامة، يقال: عَدَنَ بِالمَكانِ إذا أقام به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا).
ماتي: مفعول من الِإتيان، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وكل ما
أتاك فقد أتيتَه، يقال: وصلت إلى خير فلان ووصل إليَّ خير فلانٍ وأتيت
خير فلان وأتاني خير فلانٍ فهذا على معنى أتَيت خيرَ فلانٍ.
اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه، و (سلاماً) اسم جامع للخير
مُتَضَمِّنٌ للسلامة، فالمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون إلا ما يُسَلِّمُهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
قيل: ليس ثَمَّ بكرةٌ ولا عَشِيٌّ، ولكنهم خوطِبوا بما يَعقِلونَ في الدنيا.
فالمعنى لهم رزقهم في مقدار ما بين الغداة والعشيِّ.
وقد جاء في التفسير أيضاً أن معناه: ولهم رزقهم فيها كل سَاعة.
وإذا قيل في مقدار الغداة والعَشِيِّ فالذي يقسم في ذلك الوقت يكون مقدار ما يريدون في كل ساعة إلى أن يأتي
الوقت الذي يتلوه.
* * *
وقوله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
يروى أن النبي - ﷺ - أبطَأ عَنْهُ جبريلُ عليه السلام في الوحي، فقال عليه السلام وقد أتاه جبريل: ما زُرْتَنَا حتى اشتقْت إليكَ، فقال: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ).
ما بين أيدينا امرُ الآخرة والثواث والعقاب، وما خَلْفَنَا جَميعُ مَا مَضَى مِنْ
أمْرِ الدُّنْيا، وما بَيْن - ذَلِكَ ما يكون منا من هذا الوقت إلى يوم القيامة وجاء في التفسير وما بين ذلك قيل ما بين النفختين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا).
أي قد علم اللَّه جلَّ وعلا ما كان وما يكون وما هو كائن، حَافِظ لذلك
عز وجلَّ. لا ينسى منه شيئاً.
وجائز أن يكون واللَّه أعلم: مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ وَإن تأخر عنك الوحي.
أي هو مالك لهما وعالم بهما وبما فيهما.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).
جاء في التفسير: هل تعلم له مِثْلاً، وجاء أيضاً لم يسم بالرحمن إلا
اللَّه عزَّ وجلَّ. وتأويله - واللَّه أعلم - (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يستحق أن يقال له خالقٌ وقادر وعالم بما كان وبما يكون، فذلك ليس إلا من صفة الله تعالى.
* * *
وقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦)
يعنى بهذا الكافر الذي لا يؤمن بالغيب خاصة، ومُتُّ ومِتُّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا
(٦٧)
وُيقْرأ أو لا يذكر بالتخفيف والتثْقِيل.
(أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا).
أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن إعادة الخلق مثل ابتداء خَلقِهمْ، وهذا كما قال:
(وَضَرَب لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الآية.
فكان الجواب (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
* * *
وقوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)
أي فوربك لنبعثنهم ولنحشرنهم مع الشياطين الذين أغوَوْهم.
(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا).
و (جُثِيًّا). - بالضم والكسر جميعاً، ومعنى جثيا على ركبهم، لا يستطيعون
القيام مما هم فيه وجُثي جمع جَاثٍ وجُثى، مثل قاعد وقعود وبارك وبروك.
و (جِثِيًّا). منصوب على الحال.
* * *
وقوله تعالى: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا
(٦٩)
وَ (عُتيا) - بألكسر والضَم، ومعناه لننزعن مِنْ كل أمَّةٍ ومِنْ كُلً فرقةٍ الأعتى
فَالْأعْتَى منهم، كأنَّهم يُبْدَأ بتعذيب أشدهم عُتِيا ثم الذي يليه.
فأما رفع (أَيُّهُمْ) فهو القراءة، ويجوز (أَيَّهُمْ) بالنصب حكاها سيبويه، وذكر سيبويه أنَّ هارون الأعوَرَ القارئ قرأ بها.
وفي رفعها ثلاثة أقوال:
قال سيبويه عن يونس إن قوله جلَّ وعزَّ (لَنَنْزِعَنَّ) معقلة لم تعمل شيئاً.
فكأنَّ قولَ يونس: (ثم لننزعن من كل شيعة) ثم استأنف فقال (أيهم أشد على
الرحمن عتياً).
وأما الخليل فَحكى عنه سيبويه أنه على معنى الذين يقال (أيهم أشد على
الرحمن عتياً)، ومثله عنده قول الشاعر:
ولقد أَبِيتُ من الفَتاة بمَنْزِلِ... فأَبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم
المعنى فأبيتُ بمنزلة الذي يقال له لا هو حرجٌ ولا هو محرومٌ.
معها حرف الابتداء، تقول اضرب لأيُّهُم أفْضَل يريد أيهم هو أفضل، فيحسُنُ الاستعمال، كذلك يحذف هو، ولا يَحْسُنُ. " اضْرِبْ من أفضلً " حتى تقول من هو أفضل، ولا يحسن " كُلْ مَا أطْيَبُا حتى تقول: كل ما هو أطيب.
فلما خالفت من وما والذي - لأنك لا تقول أيضاً: " خُذِ الذي أفضَلُ " حتى تقول هو أفضل، قال فلما خالفت هذا الخلاف بنيت على الضم في الإِضافة، والنَّصْبُ حَسَن، وإن كنت قد حذفت " هُوَ " لأن " هو " قد يجوز حذفها، وقد قرئت (تَمَامًا عَلَى الَّذِي [أَحْسَنُ] وَتَفْصِيلًا)
على معنى الذي هو أحسن.
قال أبو إسحاق: والذي أعتقده أن القولَ في هذا قولُ الخليل، وهو
موافق للتفسير، لأن الخليل كان مذهبهُ أوْ تَأويله في قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) الذي مِنْ أجل عُتُوهِ يقال: أي هؤلاءِ أشَدُّ عِتِيًّا.
فيستعمل ذلك في الأشدِّ فالأشد، واللَّه أعلم (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠)
وصُلِيَّا - بالضم والكسر - على ما فسرنا، وصليا منصوب على الحال.
أي: أي ثم لنحن أعلم بالذين هم أشد على الرحمن عِتِيا فهم أولى
بها صِليًّا.
* * *
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١)
هذه آية كثير اختلاف التفسير فيها في التفسير فقال كثير من الناس إنَّ
الخلق جميعاً يَرِدُون النَّارَ فَينْجو المتَقِي وُيتْرَكُ الظالِمُ - وكلهم يَدْخُلُهَا، " فقال بعضهم: قد علمنا الوُرودَ ولم نَعْلَمْ الصُّدُورَ.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾: في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: أن «أيُّهم» موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و «أَشَدُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم»، و «أيُّهم» وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله «لَنَنْزِعَنَّ».
ول «ايّ» أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر:
٣٢٤٨ - إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ... فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم «أيُّهم» وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ «أيُّهم» هنا مبتدأٌ، و «أشدُّ» خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر:
٣٢٤٩ - ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ... فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وقال تقديره: فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ: لا حَرِجٌ ولا محرومُ.
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل «نَنْزِعَنَّ» فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور.
وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على ﴿مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ كقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ [مريم: ٥٠]، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا». فجعل «أيُّهم» موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ «.
قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين».
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ ﴿كُلِّ شِيعَةٍ﴾ و «مِنْ» مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ «مِنْ»، و «أيُّ» استفهامٍ «، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى» لننزِعَنَّ «لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في» أيّ «. قال المهدوي:» ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ «.
وقال المبرد:» أيُّهم «متعلِّقٌ ب» شيعةٍ «فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا».
ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل «نَنْزِعَنَّ» محذوفاً. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: «وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا». قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ «أيُّهم» فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ «شيعة» من معنى الفعلِ، قال: «التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي».
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ «أيُّهم» في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا.
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش «أيُّهم» نصباً. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس: «ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه» قال: «وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول:» ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما «قال» وقد أعرب سيبويه «أيَّاً» وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبنيها مضافةً «؟ وقال الجرميُّ:» خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول: «لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ» بالضمِّ بل يَنْصِبُ «.
و ﴿عَلَى الرحمن﴾ متعلقٌ ب» أشدُّ «، و» عِتِيَّاً «منصوبٌ على / التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه «. قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان ب» أَفْعَل «، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم:» هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا «.
قلت: يعني ب» على «قولَه» على الرحمن «، وبالباء قولَه» بالذين هم «. وقوله» بالمصدر «يعني بهما» عِتيَّا «و» صِلِيَّاً «وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه.
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ» عِتِيَّاً «و» صِلِيَّاً «في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فكأنَّه على نظم ذلك الكلام عام.
ودليل من قال بهذا القول أيضاً قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ)
ولم يقل وندخل الظالمين، وكان (نَذَرُ) و (نترك) للشيء الذي قد
حصل في مكانه.
وقال قوم إن هَذَا إنما يُعْنَى به المشرِكُونَ خاصةً، واحتجوا في هذا بأن
بعضهم قرأ: " وإن منهم إلا وَارِدُهَا "، ويكون على مذهب هؤلاء
(ثم ننجي الذين اتقَوْا) أي نخرج المتقين من جملة من ندخله النار.
وقال قوم: إن الخلق يَردونها فتكون على المْؤمِنِ بَرْداً وَسَلاماً، ثم
يُخْرَجُ مِنها فيدْخُلُ الجنة فيعلمَ فضلَ النعمةِ لما يُشاهِدُ فيه أهلَ العذاب وما
رأى فيه أهل النار.
وقال ابن مسعود والحسَنُ وقَتَادَةُ: إن ورودها ليس دخولها، وحجتهم في
ذلك جيدة جدا من جهات: إحداهن أن العرب تقول: وردت ماء كذا ولَمْ
تدخله، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وتقول إذا بلغت البلد ولم تدخله: قد وردت بلد كذا وكذا.
قال أبو إسحاق: والحجة القاطعة في هذا القول ما قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا).. فهذا - واللَّه أعلم - دليل أن أهل الحسنى لا يدخلون النار (١)
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل: ﴿فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين﴾ [مريم: ٦٨] ثم قال: ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ﴾ [مريم: ٦٨] أردفه بقوله: ﴿وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة، قالوا: إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور: أحدها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها.
والثاني: قوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ [الأنبياء: ١٠٢] ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها.
وثالثها: قوله: ﴿وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ﴾ [النحل: ٨٩] وقال الأكثرون: إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى: ﴿وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ فلم يخص.
وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول، ويدل عليه قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا﴾ أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال: ﴿ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً﴾ إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم: الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾ [يوسف: ١٩] ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ﴾ [القصص: ٢٣] وأراد به القرب.
ويقال: وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول جهنم: ﴿كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾ [مريم: ٧١] أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١] ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه ﷺ قال: " لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة: أليس الله يقول: ﴿وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا " ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً.
القول الثاني: أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وقال: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود﴾ [هود: ٩٨] ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً﴾ وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال: «أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور، فقال عليه السلام:
" يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا " وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي ﷺ ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر: " أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ".
والقائلون بهذا القول يقولون: المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣] ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه " وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار، فقال بعضهم: البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار، والكفار يكونون في وسط النار.
وثانيها: أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يردونها كأنها إهالة» وعن جابر بن عبد الله: " أنه سأل رسول الله ﷺ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة " وثالثها: أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم، كما في حق إبراهيم عليه السلام.
وكما أن الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً.
واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين، فإن قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه.
وثانيها: أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها.
وثالثها: أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه.
ورابعها: أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين.
وخامسها: أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين.
وسادسها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر:
وبضدها تتبين الأشياء.. فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١] فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ [الأنبياء: ١٠٢] فإن قيل: هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة؟ قلنا: ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها.
أما قوله: ﴿كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾ فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم: خلق الله وضرب الأسير، واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال: إن قوله: ﴿كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾ يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً.
والجواب أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب.
أهـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢١ صـ ٢٠٧ - ٢٠٩﴾
وقال السَّمين:
قوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ﴾: في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية «﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:» مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ «قال الشيخ:» وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب «إنْ» والجوابُ هنا على زَعْمه ب «إنْ» النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله: «والواو تَقْتَضِيه» يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: «نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ»، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر:
٣٢٥٠ - واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ... أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «.
و» إنْ «حرفُ نفيٍ، و» منكم «صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قولِه» منكمْ «يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري:» التفاتٌ إلى الإِنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ «وإنْ منهم» أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «.
والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب [وحَتَمَه] حتماً، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى:» هذا خَلْقُ الله «و» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ «. و» على ربِّك «متعلِّقٌ ب» حَتْم «لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه ب» مَقْضِيَّاً «. ا
زهير:
فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المُتَخَيِّم
المعنى بلغن إلى الماء، أي أقمن عليه، فالورود ههنا بالإجماع ليس
بدخول، فهذه الروايات في هذه الآية، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
(وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
معناه مجلساً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤)
(أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (١).
فيها أربعة أوجُهٍ رِئْياً بهمزة قبل الياء، والراء غير معجمة، وَرِيًّا بتشديد
بياء مشددَةٍ، وزِيًّا - بالزاي مُعجَمة، وقد قرئ بهذه الثلاثة الأوجه.
ويجوز وجه رابع لم يقرأ به - بياء وبعدها همزة - وريئا:.
فأمَّا رِئْياً - بهمزة قبل الياء - فالمعنى فيه هم أحسن أثاثاً أي متاعاً، ورئياً
منظراً، من رأيت، ومن قرأ بغَيْرِ هَمْز فله تَفْسِيرَانِ: عَلَى مَعْنى الأول بِطَرْحِ
الهمزة وعلى معنى أن منظَرَهم مُرْتوٍ من النعمةِ، كأن النعيمَ بَيِّنٌ فيهم، ومن
قرأ زِيًّا فمعناه أن زيَّهم حسن يعني هيئتهم.
قال الشاعر:
أَشاقَتْكَ الظَّعائِنُ يومَ بانُوا بذي الرِّئْيِ الجمِيلِ منَ الأَثاثِ
ونصب (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) على نية التفسير.
المعنى وكم أهلكنا قبلهم من
قوله: «ورِئْياً» الجمهورُ على «رِئْياً» الجمهورُ على «رِئْيا» بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإِظهارُ اعتباراً بالأصل، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه.
وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر «ورِيَّا» بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزةُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما.
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى «وَرِيْئاً» بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ «رِئْياً» في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْعٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر:
٣٢٥٢ - وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ... مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ «ورِياء» بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
في هذا المعنى قال الشاعر كثير:
وكل خليلِ رَاءني فهو قائل... من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ
* * *
وقوله عزَّ. وجل: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥)
هذا لفظ أمر في معنى الخبر، وتأويله أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل جزاء
ضلالته أن يتركه فيها، ويمده فيها، كما قال - جلَّ وعزَّ -:
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦).
إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كان لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزاماً، كأنَّه يقول أفعل ذلك وآمر نفسي به، فإذا قال القائل: من رآني فلأكرمه، فهو ألزم من قوله أكرمُه، كأنَّه قال: من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك.
وقوله: (إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ).
العذاب والساعة منصوبان على البدل من (ما يُوعدُون) المعنى حتى إذا
رأوا العداب أو رأوا الساعة، فالعذاب ههنا ما وعدوا به من نصر المؤمنين
عليهم فإنهم يعذبونهم قتلاً وأسْراً.
والساعة يعنى بها يوم القيامة وبما وعدوا به فيها من الخلود في النار.
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا).
أي فسيعلمون بالنصر، والقتل أنهم أضعف جنداً من جند النبي - ﷺ - والمسلمين ويعلمون بمكانهم من جهنم، ومكان المؤمنين من الجنة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا.
قيل بالناسِخ والمنسوخ نحو ما كان من صوم رمضان من أنه كان يجوز
لمن يقدر على الصوم أن يطعم مسكيناً ويفطر، فنسخ ذلك بإلزام الصوم.
وجائز أن يكون -: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) يجعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم هُدى كما أضل اللَّهُ الفاسقَ بفسقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا).
معناه الأعمال الصالحة، وأولها توحيد اللَّه، وهو شهادة أن لَا إلَه إلا اللَّهُ.
* * *
وقوله: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧)
ويقرأ: وُوُلْداً، فمن قرأ وُلْداً بالضَّمِ فهو على وجهين على جمع وَلدٍ.
يُقَالُ وَلَد وَوُلد مثل أسَدٍ وأُسْدٍ، وجائز أن يكون الوُلْدُ في معنى الوَلَدِ، والوَلَدُ يصلح للواحد والجمع، والوُلْدُ والوَلَدُ بمعنىً واحد، مثل العُرْب والعَرَب، والعَجَمُ والعُجْمُ.
وقد جاء في التفسير أنه يعنى به العاص بن وائل. ويروى أن خَبَّاباً
قال: كنت قَيْناً في الجاهلية. والقَيْن، هو الذي يصلح الأسِنَّة، والحَدَّادُ يقال له قَيْن، قال وكان لي على العاصِ بِنِ وائل دين، فدفعني بقضائه وقال لا أدفعه إليك حتى تكفر بمحمد - ﷺ - فقال خبَّاب: لا أكفر بمحمد حتى تموت وتُبْعثَ.
فقال: إذَا مِتُّ ثم بعثتُ أعْطِيتُ مالاً وولداً وقضيتك مما أعطى، يقول ذلك
مستهزئاً فقال اللَّه سبحانه:
أي علم ذلك غيباً أم أعطي عهداً، وهو مثل الذي قال: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦).
* * *
(كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩)
(كَلَّا).
رَدْعٌ وتنبيه، أي هَذَا مما يَرْتَدَعُ منه، ويُنَبه على وَجْه الضلالة فيه.
(سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ).
أي سنحفظ عليه.
* * *
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠)
أي نجعل المال والولد لِغَيْرهِ ونسلبه ذلك ويأتينا فرداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)
أي أعوانا
* * *
وقوله: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)
أي يصيرون عليهم أعوانا.
* * *
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
في قوله (أرْسَلْنَا) وجهان:
أحدهما أنا خلينا الشياطين وإياهم، فلم نعصمهم من القبول منهم -
قال أبو إسحاق: والوجِه الثاني - وهو المختار -
أنهم أرْسِلوا عليهم وقُيِّضُوا لهم بكفرهم كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦).
ومعنى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تُزْعِجُهُمْ حتى يركبوا المعاصي إزعاجاً فهو يَدُل
على صحة الإرْسَالِ والتًقْييض، ومعنى الإرسال ههنا التسليط، يقال قد
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ: (أن من اتبعه هو مسلط عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥)
معنى الوفد الركبان المكرمون.
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦)
مشاة عطاشاً.
* * *
وقوله: (لَلَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧)
" مَنْ " جائز أن تكون في موضع رفع، وفي موضع نصب.
فأمَّا الرفع فعلى البدل من الواو والنون، والمعنى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخد عند الرحمن عهداً.
والعهد ههنا توحيه اللَّهِ جلً ثناؤه والإيمان به.
والنصب على الاستثناء ليس من الأول على: لَا يَمْلكُ الشفاعةَ
المجرمون، ثم قال: (إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً)، على معنى لكن من
اتخذ عند الرحمن عهداً فإنه يملك الشفاعة.
* * *
وقوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩)
وتقرأ (أَدًّا) - بالفتح - ومعناه شيئاً عظيماً من الكفر، وفيها لغة أخرى لا
أعلم أنه قرئ بها، وهي: " شَيْء آدًّا على وزن رَادٍ ومادٍ، ومعناه كله: جئتم شيئاً عظيماً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)
أي محبة في قلوب المؤمنين.
(قَوْمًا لُدًّا).
جمع ألَدّ مثل أصمْ وَصُمّ، والألَدُّ الشدِيدُ الخُصُومَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨)
(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).
يقال: هل أحْسَسْتَ صَاحِبَك أي هل رأيته، وتقول: قد حَسَّسهمْ - بغير ألف - إذا قتلهم.
وقوله: (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا).
الركزُ الصوت الخفي.