ﰡ
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
اللغة:
(وَهَنَ) : في المصباح: «وهن يهن من باب وعد ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن، ووهنته أضعفته يتعدى ولا يتعدّى في لغة فهو موهون البدن والعظم والأجود أن يتعدى بالهمزة فيقال:
أوهنته والوهن بفتحتين لغة في المصدر ووهن يهن بكسرتين لغة قال أبو زيد: سمعت من الأعراب من يقرأ فما وهنوا» وفي القاموس وغيره: وهنه يهنه وهنا وأوهنه أضعفه ووهن وأوهن الرجل دخل في الوهن من الليل ووهن ووهن يهن ووهن يوهن وهنا ووهنا ووهن يوهن وهنا ضعف في الأمر أو العمل أو البدن وتوهّن البعير
(الْمَوالِيَ) : الذين يلونني في النسب كبني العم والموالي جمع مولى وهو العاصب.
(عاقِراً) : لا تلد، قال في القاموس: عقرت تعقر عقرا وعقرا وعقارا وعقرت تعقر عقرا وعقارة وعقارة وعقرت المرأة أو الناقة صارت عاقرا أي حبس رحمها فلم تلد وعقر عقرا الأمر لم ينتج عاقبة وعقر عقرا الرجل دهش».
(وَلِيًّا) : ابنا وهو أحد معانيه الكثيرة.
الإعراب:
(كهيعص،) (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) كهيعص تقدم القول في فواتح السور واعرابها ومعانيها فارجع اليه وذكر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا المتلو عليك من القرآن أو مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليك ذكر، ورحمة ربك مضافة لذكر من اضافة المصدر لمفعوله والفاعل مستتر أي ذكر الله رحمة عبده زكريا وعبده مفعول به لرحمة وزكريا بدل من عبده أو عطف بيان له. (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق برحمة ربك أي رحمة الله إياه وقت أن ناداه وقيل العامل فيه ذكر وقيل هو بدل اشتمال من زكريا، وجملة نادى مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره هو ونداء
وقد استشكل بعضهم جملة يرثني صفة بناء على أن نبي الله يحيى مات قبل والده بأن دعاء النبي قد يتخلف وذلك لأنه بموته قبله لم يرثه ومعلوم ما يورث من الأنبياء ورأى هذا المستشكل أن الجملة مستأنفة لا صفة وأجيب بأن دعاء الأنبياء قد يتخلف وقد وقع لنبينا محمد ﷺ أنه سأل في ثلاثة أمور فاستجيب له في اثنين وتأخرت الاجابة في الثالث وقد اعترض القول بالاستئناف بأن مفاد الجملة حينئذ الإخبار واخبار الأنبياء لا يتخلف قطعا وأجيب بأن هذا الاخبار باعتبار غلبة الظن لأن نبي الله زكريا لما كان مسنا غلب على
«ما تركناه صدقة» ونصب معاشر على الاختصاص بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص وما تركناه ما موصولة في محل رفع بالابتداء وتركنا صلته والعائد محذوف أي تركناه وصدقة خبر ما، والحكمة في أن الأنبياء لا يورثون انه وقد وقع في قلب الإنسان شهوة موت مورثه ليأخذ ماله فنزّه الله أنبياءه وأهاليهم عن ذلك ولئلا يظن بهم مبطل انهم يجمعون المال لورثتهم ولأنهم كالآباء لأمتهم فيكون مالهم لجميع الأمة وهو معنى الصدقة العامة وأما قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقوله «وورث سليمان» فالمراد الوراثة في العلم والنبوة وبهذا يندفع أن عدم الإرث مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن قيل إن الله أخبر عن بعضهم بقوله:
«واني خفت الموالي» إذ لا تخاف الموالي على النبوة أجيب بأنه خاف من الموالي الاختلاف من بعده الرجوع عن الحق فتمنى ولدا نبيا يقوم فيهم. بقي هنا شيء لا بد من التنويه به وهو أن الأنبياء هل يرثون؟
قال صاحب التتمة: إن النبوة مانعة من الإرث وذكر البزاز الواعظ أنه روي: نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث ويعارضه ما ذكر الماوردي في الاحكام السلطانية أنه ﷺ ورث من أبيه أم أيمن الحبشية واسمها بركة وخمسة جمال وقطعة من غنم ومولاه شقران واسمه صالح وقد شهد بدرا وورث من أمه دارها ومن خديجة دارها.
في هذه الآيات فنون عديدة نوجز القول فيها:
١- الاختراس في قوله «نِداءً خَفِيًّا»
وقد تقدم القول فيه وانه عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله وقد تقدمت أمثلة عديدة منه كما ستأتي له نظائر مشبهة وهو هنا في كلمة خفيا فقد أتى بها مراعاة لسنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الأولى به أن يحترس مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر ويجهلون حقيقة الدخائل أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة ودفعا للفضول الذي يطلق الألسنة بمختلف أنواع الملام وقيل احترس من مواليه الذين خافهم وقيل ليس في الأمر احتراس وانما الكلام جار على حقيقته لأن خفوت صوته ناتج عن ضعفه وهرمه حيث يخفت الصوت ويكل اللسان وتعشى العينان وتثقل الآذان على حدّ قول عوف بن محلم الخزاعي:
إن الثمانين وبلغتها | قد أحوجت سمعي الى ترجمان |
٢- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» شبّه الشيب بشواظ النار في بياضه وإثارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ ثم أخرجه مخرج الاستعارة المكنية وأسند الاشتعال الى
آ- السرعة: وذلك أن النار حين تشتعل وتندلع أسنتها فإنها تسرع في التهام ما تمتد اليه وهكذا الشيب لا يكاد يخط الرأس حتى بمتد بسرعة عجيبة.
ب- تعذر التلافي: وذلك أن النار إذا شبت وتدافع شؤبوبها وتطاير لهيبها اجتاحت كل ما تصادفه وذل لها الصخر والخشب على حد قول أبي تمام:
لقد تركت أمير المؤمنين بها | للنار يوما ذليل الصخر والخشب |
ج- الألم: وكما أن النار لذاعة كواءة تؤلم من تلامسه فكذلك الشيب يؤلم الأشيب وقد صدت عنه الغواني واقتحمته العيون على حد قول ابن الرومي:
وكنت جلاء للعيون من القذى | فقد أصبحت تقذي بشيبي وترمد |
هي الأعين النجل التي كنت تشتكي | مواقعها في القلب والرأس أسود |
يا نسيب الثغام ذنبك أبقى | حسناتي عند الحسان ذنوبا |
لو رأى الله أن في الشيب خيرا | جاورته الأبرار في الخلد شيبا |
رأين الغواني الشيب لاح بعوارضي | فأعرضن عني بالخدود النواضر |
شيعت أحلامي بقلب باك | ولمت من طرق الملاح شباكي |
ورجعت أدراج الشباب وورده | أمشي مكانهما على الأشواك |
وبجانبي واه كأن خفوقه | لمّا تلفت جهشة المتباكي |
هذا وقد أوجزنا القول في عدم إضافة الرأس بالاكتفاء بعلم المخاطب ولا بد من إيضاحه الآن فنقول أن للاستعارة مطلوبات ثلاثة:
المبالغة في التشبيه والظهور والإيجاز وكل استعارة تتناول واحدا من هذه المطلوبات أما هذه الاستعارة فقد تناولت المطلوبات الثلاثة بكاملها فإن الكلام أن يقال: شيب الرأس ولو جاء الكلام كذلك لأفاد الظهور فقط دون المبالغة واللفظ الأول يعطى عموم الشيب جميع نواحي الرأس كما انك إذا قلت: اشتعلت نار البيت صدق ذلك على اشتعال النار في بعض نواحيه دون بقيته بخلاف ما إذا قلت اشتعل البيت نارا فإن مفهوم ذلك اشتمال النار على كل البيت بجميع أجزائه فتنبه لهذا الفصل وإن طال بعض الطول فإنه كالحسن غير مملول.
هذا وقد اقتبس ابن دريد اشتعال الرأس شيبا فقال في مقصورته:
واشتعل المبيض في مسودّه | مثل اشتعال النار في جزل الغضا |
كفى الشيب عيبا ان صاحبه إذا | أردت به وصفا له قلت أشيب |
وكان قياس الأصل لو قلت شائبا | ولكنه في جملة العيب يحسب |
هذا وفي قوله واشتعل الرأس شيبا فن الإطناب فقد انتقل أولا من شخت الدال على ضعف البدن وشيب الرأس إجمالا الى هذا التفصيل لمزيد التقرير، وثانيا من هذه المرتبة إلى ثالثة أبلغ منها وهي الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وثالثا من هذه المرتبة الى رابعة أبلغ في التقرير وهي بناء الكناية على المبتدأ أي قولك: أنا وهنت عظام بدني، ورابعا من هذه المرتبة الى خامسة أبلغ وهي إدخال إن على المبتدأ أعني قولك إني وهنت عظام بدني، وخامسا الى مرتبة سادسة وهي سلوك طريق الإجمال ثم التفصيل أعني إني وهنت العظام من بدني، وسادسا الى مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن لا دعاء اختصاصها بالبدن بحيث لا يحتاج الى التصريح بالبدن، وسابعا الى مرتبة ثامنة وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لشمول الوهن العظام فردا فردا.
٣- التجريد:
وذلك في قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
وقد قدمنا القول فيه مختصرا وسنورده الآن مستوفى:
فنقول ان التجريد هو أن ينتزع المتكلم من أمر ذي صفة أمرا آخر بمثاله له فيها مبالغة لكمالها فيه كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة الى حيث يصح أن ينتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة وهو أقسام:
أ- أن يكون بمن التجريدية كقولهم لي من فلان صديق حميم ومنه الآية الكريمة ومثله للقاضي الفاضل في وصف السيوف:
تمدا إلى الأعداء منها معاصسا | فترجع من ماء الكلي بأساور |
وضربتم هام الكماة ورعتم | بيض الخدور بكل ليث مخدر |
هتك الظلام أبو الوليد بغرة | فتحت لنا باب الرجاء المقفل |
بأتم من قمر السماء وإن بدا | بدرا وأحسن في العيون وأجمل |
وأجل من قس إذا استنطقته | رأيا وألطف في الأمور وأجزل |
ح- أن يكون بدخول في على المنتزع منه أو مدخول ضميره كقوله تعالى «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» أي في جهنم وهي دار الخلد ولكنه انتزع منها دارا أخرى للمبالغة وقال المتنبي:
تمضي المواكب والأبصار شاخصة | منها الى الملك الميمون طائر |
قد حرن في بشر في تاجه قمر | في درعه أسد تدمى أظافره |
د- أن يكون بدخول بين كقول ابن النبيه:
يهتز بين وشاحيها قضيب نقا | حمائم الحلي في أفنانه صدحت |
فلئن بقيت لأرحلن بعزة | تحوي الغنائم أو يموت كريم |
ومراده بالبقر العين الذين أخبر عنهم أولا بقوله ولو تراهم فكأنه انتزع منهم موصوفين بهذه الصفة مبالغة فيها.
ز- ومنها أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق الكلام لها ثم يخاطبه كقول أبي الطيب:
لا خيل عندك تهديها ولا مال... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
فكأنه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال ومنه قول الأعشى:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وقال أبو نواس وأبدع متغزلا:
يا كثير النوح في الدمن... لا عليها بل على السكن
سنة العشّاق واحدة... فإذا أحببت فاستنن
ظن بي من قد كلفت به... فهو يجفوني على الظنن
بات لا يعنيه ما لقيت... عين ممنوع من الوسن
رشأ لولا ملاحته... خلت الدنيا من الفتن
هذا والتجريد كثير في الشعر وستأتي أمثلة منه في مواضع أخرى من هذا الكتاب.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧ الى ١٥]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
(سَمِيًّا) : السمي: المسمّى وهو فعيل بمعنى مفعول وأصله سميو اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء أي مسمى بيحيى قال الزمخشري: «وهذا شاهد على أن الاسامي السنع جديرة بالاثرة وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم:
ولو تراهم وإيانا وموقفنا | في موقف البين لاستهلالنا زجل |
من حرقة أطلقتها فرقة أسرت | قلبا ومن غزل في نحره عذل |
سنع الأسامي مسبلي أزر | حمر تمس الأرض بالهدب |
(عِتِيًّا) : في المختار: «عتا من باب سما وعتيا أيضا بضم العين وكسرها وهو عات فالعاتي المجاوز للحد في الاستكبار وعتا الشيخ
(الْمِحْرابِ) : في القاموس: «المحراب: الغرفة، وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الامام من المسجد والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس» وأما المحراب المعروف الآن وهو طاق مجوف في حائط المسجد يصلي فيه الامام فهو محدث لا تعرفه العرب فتسميته محرابا اصطلاح للفقهاء، هذا ما قاله الشهاب في حاشيته على البيضاوي ولكن المغني اللغوي الذي ذكره الفيروز بادي ينطبق عليه وهو «مقام الإمام في المسجد».
(الْحُكْمَ) : الحكمة ومنه قول النابغة:قالت:
ليت الحمام ليه... إلى حمامتيه
ونصفه قديه... تم الحمام ميه
فوقع في شبكة صياد فحسبوه فوجدوه ستا وستين حمامة ونصفه ثلاث وثلاثون فإذا ضم الجميع إلى حمامتها صار مائة وشراع بكسر الشين ما يرفع وبه سمي الشراع وهو مثل الملاءة الواسعة يشرع وينصب على السفينة فتهب فيه الرياح فتمضي بالسفينة، ويروى سراع جمع سريع وصفه به لأنه جمع في المعنى كما وصفه بوارد وهو مفرد لأنه مفرد في اللفظ وروى الحمام أو نصفه بالرفع على إهمال ليتما وبالنصب على أعمالها لأن ما الزائدة تكف ان وأخواتها ما عدا ليت فيجوز أعمالها وإلغاؤها وأو بمعنى الواو وقد بمعنى حسب فهي اسم أضيفت الى ياء المتكلم بغير نون الوقاية كما يقال حسبي والفاء زائدة لتحسين اللفظ كفاء فقط وكلاهما بمعنى انته، وحسبوه بتشديد السين ليسلم البيت من الخبن وهو نوع من الزحاف معيب وقيل الحكم العقل وقيل النبوة لأن الله أحكم عقله في صباه وأوحى اليه.
(وَحَناناً) : أي رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة وأنشد:
وقالت حنان ما أتى بك هاهنا... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
وهذا البيت لمنذر الكلبي وقبله ليتسق معناه:
وأحدث عهد من أمينة نظرة... على جانب العلياء إذ أنا واقف
استفهام تعجبي أذو نسب أي أأنت ذو نسب أم أنت عارف بهذا الحي ويجوز أن يكون أذو نسب بدلا من ما الاستفهامية أي ما الذي حملك على المجيء هنا أو الذي دلّك عليه صاحب قرابة من الحي أي معرفتك به ويجوز أن الاستفهام حقيقي حكته على لسان غيرها لتلقنه الجواب بقولها: أذو نسب مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها فربما سأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين وقيل حنانا من الله عليه، وحنّ بمعنى ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرأفة والعطف وقيل لله حنان كما قيل رحيم على سبيل الاستعارة.
(عَصِيًّا)
: صيغة مبالغة وأصل عصيا عصييا بوزن فعيل أدغمت الياء فيه وأتى بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل لأن المنفي أصل العصيان لا المبالغة فيه.
الإعراب:
(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) يا حرف نداء وزكريا منادى مفرد علم مبني على الضم وقرىء زكرياء بالهمز على الأصل وإنا ان واسمها وجملة نبشرك خبرها والكاف مفعول به وبغلام جار ومجرور متعلقان بنبشرك واسمه مبتدأ ويحيى خبره والجملة الاسمية صفة لغلام. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) الجملة صفة ثانية لغلام وله مفعول
(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) وحنانا عطف على الحكم أي وآتيناه حنانا أي رحمة ورقة في قلبه وعطفا على الآخرين وقيل مفعول مطلق لفعل محذوف وهو بعيد ومن لدنا متعلقان بمحذوف صفة لحنان وزكاة عطف على حنانا وكان تقيا عطف على آتيناه وكان واسمها المستتر وتقيا خبرها. (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا)
وبرا عطف على تقيا وبوالديه متعلقان ببرا ولم يكن عطف على وكان تقيا واسم يكن مستتر تقديره هو وجبارا خبرها وعصيا نعت. (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
الواو استئنافية وسلام مبتدأ وساغ الابتداء به مع أنه نكرة لتضمنه معنى الدعاء وعليه خبر ويوم ظرف متعلق بسلام وجملة ولد مضافة للظرف وما بعده عطف عليه وحيا حال.
الإيجاز في قوله تعالى «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ» فظاهر الكلام يوهم أنه استبعد ما وعده الله عز وجل بوقوعه ولا يجوز لأحد بله النبي النطق بما لا يسوغ أو بما في ظاهره الإيهام فجاء الكلام موجزا وتقديره هل تعاد لنا قوتنا وشبابنا فنرزق بغلام؟ أو هل يكون الولد لغير الزوجة العاقر؟ وإذن فالمستبعد هو مجيء الولد منهما بحالهما ولكن الجواب أزال الاشكال إذ قيل له سيكون لكما الولد وأنتما بحالكما.
الفوائد:
اختلف أهل السنة والمعتزلة في الشيء فالمعتزلة يعتقدون أن الشيء يتناول الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده فلا يتناول المستحيل إذن أما أهل السنة فلا يتناول الشيء عندهم إلا الموجود، والآية تشهد لأهل السنة لأن قوله «وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» صريحة في ذلك، وقد رمق المتنبي من طرف خفي بعيد هذا الخلاف، فاستعمله في وصف الجبان وذلك في قصيدة مستجادة له في مديح سعيد بن عبد الله بن سعيد الكلابي المنبجي وهي مما قاله في صباه قال:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت | الى حمام شراع وارد الثمد |
ألا ليتما هذا الحمام لنا | إلى حمامتنا أو نصفه فقد |
فحسّبوه فألفوه كما ذكرت | ستا وستين لم تنقص ولم تزد |
وضاقت الأرض حتى كادها ربهم | إذا رأى غير شيء ظنه رجلا |
«قد أوخذ في هذا البيت فقيل: كيف يرى غير شيء، وغير شيء
ما زال يحسب كل شيء بعدهم | خيلا تكر عليهم ورجالا |
إن الله خلق الأشياء من لا شيء فقيل هذا خطأ لأن لا شيء لا يخلق منه شيء ومن قال إن الله يخلق من لا شيء جعل لا شيء يخلق منه والصحيح أن يقال يخلق لا من شيء لأنه إذا قال لا من شيء نفى أن يكون قبل خلقه شيء يخلق منه الأشياء» والصحيح ما قاله: أي إذا رأى غير شيء يخاف منه، ومن هذا الوادي «حتى إذا جاءه أم يجده شيئا» معناه يريده أو يطلبه أو يغنيه عن الماء أي شيئا نافعا مغنيا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
(انْتَبَذَتْ)
: الانتباذ الاعتزال والانفراد فقد تخلت مريم للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس الناس وقيل غير ذلك والتفاصيل في المطولات وفي المصباح: «وانتبذت مكانا اتخذته بمعزل يكون بعيدا عن القوم».
(بَغِيًّا) : البغي: الفاجرة التي تبغي الرجال وهي فعول عند المبرد أي بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب التمام «هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغوّ كما قيل فلان نهوّ عن المنكر» وبغت فلانة بغاء بكسر الباء ومنه قيل للإماء البغايا لأنهن كنّ يباغين في الجاهلية بقال: قامت البغايا على رؤوسهم قال الأعشى:
والبغايا يركضن أكسية الاضر | يج والشرعبيّ ذا الأذيال |
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا)
واذكر الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر ومريم مفعول به وإذ: قال أبو البقاء ما نصه: في إذ أربعة أوجه أحدها أنها ظرف والعامل فيه محذوف تقديره واذكر خبر مريم إذ انتبذت والثاني أن تكون حالا من المضاف المحذوف والثالث أن يكون منصوبا بفعل محذوف أي وبيّن إذ انتبذت فهو على كلام آخر كما قال سيبويه في قوله تعالى «انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» وهو في الظرف أقوى وان كان مفعولا به والرابع أن يكون بدلا من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على الجثث ذكره الزمخشري وهو بعيد لأن الزمان إذا لم يكن حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا وصفا لها لم يكن بدلا منها وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كقولك لا أكرمك إذ لم تكرمني أي لأنك لم تكرمني فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي واذكر مريم انتباذها.
واضطرب قول ابن هشام فيها فبينما يقول في صدد بحثه عن إذ «الوجه الثالث أن تكون بدلا من المفعول نحو «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ»
فإذ بدل اشتمال من مريم على حد البدل في:
«يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» يعود فيقول: «وزعم الجمهور أن إذ لا تقع إلا ظرفا أو مضافا إليها وأنها في نحو «واذكروا إذ كنتم قليلا» ظرف لمفعول محذوف أي واذكروا نعمة الله إذ كنتم قليلا، وفي نحو إذ انتبذت ظرف لمضاف الى مفعول محذوف أي واذكر قصة مريم.
الفاء عاطفة واتخذت فعل ماض وفاعل مستتر ومن دونهم مفعول به ثان وحجابا مفعول به أول فأرسلنا عطف على فاتخذت وإليها متعلقان بأرسلنا وروحنا مفعول به، فتمثل عطف أيضا ولها متعلقان بتمثل وبشرا حال وسويا نعت وسوغ وقوع الحال جامدة وصفها وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد. (قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)
ان واسمها وجملة أعوذ خبرها والجملة مقول القول وبالرحمن متعلقان بأعوذ ومنك متعلقان بأعوذ أيضا وإن حرف شرط جازم وكنت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وتقيا خبرها وجواب الشرط محذوف والمعنى إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)
إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ورسول ربك خبر واللام للتعليل وأهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ولك متعلقان بأهب وغلاما مفعول به وزكيا صفة. (قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ
أنى اسم استفهام بمعنى كيف وقد تقدم إعرابه في قصة زكريا ولم يمسسني الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويمسسني مضارع مجزوم بلم والياء مفعول به وبشر فاعل، ولم أك بغيا: لم حرف نفي وقلب وجزم وأك مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف واسم أك مستتر وبغيا خبرها. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم إعراب نظيرها. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) لنجعله تعليل معلله محذوف أي فعلنا ذلك أو هو معطوف على مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية وآية مفعول به ثان لنجعله وللناس صفة لآية ورحمة منا عطف على آية وكان أمرا مقضيا كان واسمها المستتر وخبرها ومقضيا صفة.
الفوائد:
معنى بشرا سويا:
تقدم بحث الحال الموطئة وانها ان تكون جامدة موصوفة وهذا أحد شروطها التي تبرر كونها جامدة وهو في الآية بشرا فهو حال من فاعل تمثل وهو الملك والاعتماد فيها على الصفة وهي سويا وهو اسم مشتق لأنه صفة مشبهة، وعبارة ابن هشام: «الثاني انقسامها بحسب قصدها لذاتها وللتوطئة بها الى قسمين مقصودة وهو الغالب وموطئة وهي الجامدة الموصوفة نحو فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
» واعترض بعضهم على هذا الإعراب فقال: ان دعوى الحال تقتضي أن المعنى متمثل لها في حال كونها بشرا ولا يخفى انه وقت التمثيل ملك لا بشر فالأقرب انه منصوب بنزع الخافض أي فتمثل لها ببشر أي تشبه به وتصور بصورته.
ولا يصح الاعتذار للقاضي البيضاوي بأنه نظر الى العادة الإلهية الجارية بخلق المسببات عقب الأسباب لأن السبب لا بد أن يكون تاما ونطفة المرأة وحدها ليست بسبب تام لحصول الولد وإنما تمثل لها بصورة حسنة لتأنس به ولا تنفر منه وتصغي اليه وترهف السمع لسماع البشرى وكان بصورة أمرد لإلف النساء الى الأطفال ومن قرب منهن وعدم الاحتشام منهن. أما رواية الزمخشري فهي: «وقيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت الى بيت خالتها فإذا طهرت عادت الى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب وضيء الوجه، جعد الشعر، سوي الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر منه ولو بدا لها في
ونختم هذا الفصل الذي خالفنا فيه شرط كتابنا لأهميته بتذييل للشيخ عبد الرزاق الكاشي وهذا هو نصه: «إنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به فتتحرك على مقتضى الجبلة أو يسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام، وانما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية: أن مني الذكر في تولد الجنين بمنزلة الإنفحة من الجبن، ومني الأنثى بمنزلة اللبن: أي العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى، لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى ينفرد بالقوة المنعقدة بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى، وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى وكان مزاج كبدها حارا كان المني الذي ينفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من المني الذي ينفصل عن كليتها اليسرى فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام مني الرجل في شدة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد فيخلق الولد.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٢ الى ٣٣]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
(قَصِيًّا) : بعيدا من أهلها.
(فَأَجاءَهَا) : يقال: جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد والأصل في جاء أن يتعدى لواحد بنفسه فإذا دخلت عليه الهمزة كان القياس يقتضي تعديته لاثنين إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل فصار بمعنى ألجأه الى كذا ألا تراك لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغته وأبلغنيه ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم تقل أتيت المكان وآتانيه فلان.
(الْمَخاضُ) : وجع الولادة، وفي القاموس: مخض يمخض بتثليث الخاء في المضارع مخضا اللبن استخرج زبده فهو لبن مخيض وممخوض ومخض الشيء حركه شديدا ومخض الرأي قلبه وتدبر عواقبه حتى ظهر له الصواب ومخضت بكسر الخاء تمخض بفتحها الحامل مخاضا بكسر الميم ومخاضا بفتحها ومخضت بالبناء للمجهول، ومخضت بتشديد الخاء وتمخضت الحامل دنا ولادها وأخذ الطلق فهي ماخض والجمع مخض بضم الميم وتشديد الخاء ومواخض. وللميم والخاء مجتمعتين معنى يكاد يكون متقاربا فهي تشير الى الانزلاق ومنه مخر البحر والماء أي شقه مع صوت ومخط وامتخط معروفة.
(مِتُّ) : بكسر الميم وضمها يقال مات يمات ومات يموت.
(نَسْياً) : النسي بفتح النون وكسرها بمعنى المنسي كالذبح بمعنى المذبوح وكل ما من حقه أن يطرح ويرمى وينسى.
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة | يوما سراة كرام الناس فادعينا |
فمضى وقدّمها وكانت عادة | منه إذا هي عردت أقدامها |
فتوسّطا عرض السري فصدعا | مسجورة متجاورا أقلامها |
(رُطَباً جَنِيًّا) : الرطب بضم ففتح ما نضج من البسر قبل أن يصير تمرا والجني فعيل بمعنى فاعل أي صار طريا صالحا للاجتناء.
(وَقَرِّي عَيْناً) : أي طيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي ما أحزنك يقال قرت عينه تقر بفتح العين وكسرها في المضارع وفي وصف العين بذلك تأويلان أولهما أنه مأخوذ من القر وهو البرد وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها باردا وإذا حزن كان دمعها حارا ولذلك قالوا في الدعاء عليه أسخن الله عينك والثاني انه من الاستقرار والمعنى أعطاه
(صَوْماً) : صمتا وخيل صائمة وصيام قال:
خيل صيام وخيل غير صامتة | تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما |
وصامت الريح ركدت وصام النهار وصامت الشمس كبّدت وجئته والشمس في مصامها وشاخ فصامت عنه النساء.
(فَرِيًّا) : الفري البديع من فرى الجلد، والفري العظيم من الأمر يقال في الخير والشر وقيل الفري العجيب وقيل المفتعل ومن الأول الحديث في وصف عمر بن الخطاب: فلم أرى عبقريا يفرى فريه، والفري قطع الجلد للخرز والإصلاح، وفي المختار: «فرى الشيء قطعه لاصلاحه وبابه رمى وفرى كذبا خلقه وافتراه واختلقه والاسم الفرية وقوله تعالى: «شَيْئاً فَرِيًّا» أي مصنوعا مختلقا وقيل عظيما وأفرى الأوداج قطعها وأفرى الشيء شقه فانفرى وتفرى أي انشق، وقال الكسائي: أفرى الأديم قطعه على جهة الإفساد وفراه قطعه على جهة الإصلاح».
الإعراب:
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فنفخ جبريل في جيب درعها فحملته وسيأتي سر هذا التعقيب
كأن خيولنا كانت قديما | تسقّى في قحوفهم الحليبا |
فمرّت غير نافرة عليهم | تدوس بنا الجماجم والتريبا |
زاده الله فهما!!.
ومكانا مفعول فيه أو مفعول به وقد تقدم وقصيا صفة.
(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) الفاء عاطفة للتعقيب وأجاءها فعل ماض ومفعول به مقدم والمخاض فاعل مؤخر والى جذع النخلة متعلقان بمحذوف حال وسيأتي السر في تعريف النخلة في باب البلاغة.
(قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) يا حرف نداء والمنادى محذوف أو يا لمجرد التنبيه وليت واسمها وجملة مت خبرها وهي فعل وفاعل والظرف منصوب لأنه أضيف وهو متعلق بمت وهذا مضاف اليه وكنت الواو عاطفة وكان واسمها ونسيا خبرها ومنسيا تأكيد لنسيا لأنه بمعناه ولك أن تعربه نعتا. (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) الفاء عاطفة وناداها فعل ومفعول
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) : الواو عاطفة وهزي فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والياء هي الفاعل وإليك متعلقان بهزي وبجذع النخلة أورده بن هشام في مغني اللبيب شاهدا على زيادة الباء في المفعول به وأكثر المعربين على ذلك ولكن الزمخشري قال بعد ذكر وجه الزيادة ما معناه: يحتمل انه نزل هزي منزلة اللازم وإن كان متعديا ثم عداه بالباء كما يعدى اللازم والمعنى افعلي به الهز وتساقط مجزوم لأنه جواب الطلب وعليك متعلقان بتساقط ورطبا مفعول به وجنيا صفة، وتساقط يتعدى بنفسه ومن أمثلته لا من شواهده لأن البحتري غير محتج بكلامه.
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها | ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه |
(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) يا حرف نداء وأخت هارون منادى مضاف أي يا شبيهته، وهارون رجل صالح شبهوها به في عفتها وصلاحها وليس المراد منه أخوة النسب وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله والعرب تقول للتميمي
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) السلام مبتدأ وعلي خبره واختلف في معنى إلى الداخلة على السلام فقيل هي للعهد لأنه تقدم ذكر السلام الموجه الى يحيى فهو موجه إليه أيضا، وقال الزمخشري: «والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللغة على متهمي مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود وتحقيقه أن اللام للجنس وإذا قال وجنس السلام عليّ خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى يعني أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنته لنحو هذا من التعريض» ويوم متعلق بمعنى الاستقرار المتعلق به عليّ ولا يجوز نصبه للسلام للفصل بين المصدر ومعموله وجملة ولدت مضافا إليها الظرف ويوم أبعث عطف على يوم ولدت وكذلك يوم أبعث وحيا حال وهذه هي الصفة الثامنة والأخيرة.
البلاغة:
التعريف:
وذلك في تعريف النخلة التي جاءها المخاض عندها وهذا التعريف لا يخلو إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس فإذا قيل
الفوائد:
١- خلاصة قصة ميلاد عيسى في القرآن الكريم:
هذا ولم يعن كتاب من الكتب الدينية بميلاد المسيح والدفاع عن طهارة والدته العذراء والإشادة بفضلها وتفضيلها على سائر النساء كما عني القرآن الكريم فقد وردت فيه عن ميلاد المسيح عليه السلام، وحياته وجهاده في سبيل الدعوة الى الله وإصلاح البشر عدة آيات في عدد من السور وقد أتى في براءة العذراء وقنوتها بما لم تأت به كتب أخرى بل كانت السورة الثانية الكبرى من القرآن الكريم وهي سورة آل عمران، وعمران هو والد العذراء وكان عالما من علماء الدين ولم تأت سورة من السور باسم سيدة من سيدات التاريخ غير اسم مريم وهي تحتوي على عدة آيات في ميلاد المسيح كما وردت آيات أخرى في هذا الحادث الجليل.
ولقد اصطفى الله آل عمران كما اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين، وكان عمران أبو مريم رجلا تقيا ورعا، كما كانت زوجته صالحة تقية فلما حملت نذرت الى الله أن يكون حملها خادما للهيكل فلما وضعت وتبين لها أنها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، سمتها أمها مريم ولكن الله تقبلها في الهيكل بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا.
وكانت مريم تتعبد في الهيكل بعيدا عن أهلها وعن الناس، قد انتبذت مكانا شرقيا في الناصرة من مدينة الجليل، وكانت مخطوبة لرجل من أبناء عمومتها اسمه يوسف النجار ولكن لم يتم زواجهما لأنها وهبت نفسها الى الله ولكن الله تعالى شاء أن يهب الى البشر من هذه الفتاة الطاهرة الكريمة التقية نبيا كريما، ورسولا عظيما، ويجعل منها ومن ابنها آية للناس كما قال تعالى «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» لم يتم زواج يوسف بمريم وبعث الله جبريل فبشرها بحملها بالسيد المسيح وهي في عزلتها تعبد الله وتخلص له العبادة والتقوى فعجبت لذلك وأجفلت وقالت: كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، فكان الجواب عليها كما جاء في القرآن، كما صور القرآن فزع مريم في سورة «مريم» حين جاءها الملك بهذه البشارة متمثلا لها في صورة إنسان ظهر لها في عزلتها، على حين غرة من أمرها فاستعاذت بالله منه فهدأ من روعها وأنبأها أنه مرسل من السماء ليهب لها غلاما زكيا فجاء في هذه السورة «واذكر في الكتاب مريم إلخ الآيات» وقد اتفق إنجيل لوقا وإنجيل برنابا والقرآن الكريم في حادث ولادة المسيح على أنه آية للناس ولم يكن نتيجة اتصال مريم بخطيبها يوسف النجار، كما جاء في بعض الأناجيل الاخرى كإنجيل متى الذي نصّ على أن «يسوع بن يوسف النجار
فالقرآن الكريم نزل بأن مريم عذراء وانه بعد بشارة الملك لها بهذا الغلام الزكي حملت به وانتبذت مكانا بعيدا عن الناس، وعانت وحدها آلام وضعه حتى تمنت الموت قبل هذا كما جاء في القرآن الكريم «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ» إلخ الآيات. خاطبها هذا الوليد الكريم في مهده وهدأ من روعها، وطلب إليها أن تستعين على ضعفها بالرطب الجني، والماء الهني أو خاطبها الملك.
وكان أن وقع ما خشيته مريم من اتهامها بالسوء، فلما جاءت به الى قومها أنكروا عليها، واتهموها بما هي براء منه، فصامت عن الكلام وتولى الطفل الصغير في مهده الدفاع عن أمه الطاهرة النقية كما جاء في القرآن الكريم.
٢- أسرار الفاءات:
وعدناك أن نتحدث عن أسرار الفاءات في قوله تعالى «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ» في هذه الفاءات دليل على أن حملها به ووضعها إياه لأنه عطف الحمل والانتباذ الى المكان الذي مضت اليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاء وهي للفور ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: «قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره» فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه مدة متراخية عطف ذلك بثم وهذا بخلاف قصة مريم عليها
انه كحمل غيرها من النساء وقيل: لا بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل:
أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل أخذا بما دلت عليه الآية. هذا ما ورد في المثل السائر لابن الأثير، وقد رد ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على ذلك بما أوردناه في سورة النحل من أن التعقيب على حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة الى أن يقول: وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان كما توهمه هذا الرجل ألا ترى الى قوله تعالى: «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ»
فإن العذاب متراخ عن الافتراء فلا يدل قوله تعالى في قصة مريم على أن الحمل والمخاض كانا في يوم واحد.
قلت:
قلت: بحث ابن أبي الحديد متجه والذي قاله ابن الأثير لا يخلو من ضعف وقد اختلف المفسرون في مدة حملها فقال ابن عباس تسعة أشهر كما في سائر النساء وقال عطاء وأبو العالية والضحاك سبعة أشهر وقال ابن عباس أيضا في ساعة واحدة وقال آخر لثمانية أشهر وقال آخرون ستة أشهر وقال آخرون ثلاث ساعات ورجح الامام الرازي انه في ساعة وقال: «ويمكن الاستدلال له بوجهين» وذكر في الوجه الاول ما قاله ابن الأثير وذكر في الوجه الثاني: «ان الله تعالى قال في وصفه: ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فثبت أن عيسى عليه السلام لما قال الله له كن فكان وهذا مما
ومذهب الشافعية أن أكثر مدة الحمل أربع سنين وأقله ستة أشهر وقد ولد الضحاك بن مزاحم لستة عشر شهرا وشعبة ولد لسنتين وهرم بن سنان ولد لأربع سنين ولذلك سمي هرما ومالك بن أنس حمل به أكثر من ثلاث سنين، والحجاج بن يوسف ولد لثلاثين شهرا، ويقال انه كان يقول: اذكروا ليلة ميلادي، ويقال: إن عبد الملك بن مروان حمل به ستة أشهر والشافعي حمل به أربع سنين أو أقل، والحنفية يقولون للشافعية: ما جسر إمامكم أن يظهر الى الوجود حتى توفي إمامنا، ويجيبهم الشافعية بقولهم: بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا.
القول الفصل في الفاء العاطفة:
والفاء في أصل وضعها للترتيب المتصل، والترتيب على ضربين:
١- الترتيب في المعنى: هو أن يكون المعطوف بها لاحقا متصلا بلا مهلة كقوله تعالى «خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» والأكثر كون المعطوف بها متسببا عما قبله كقولك: أملته فمال وأقمته فقام.
٢- الترتيب في الذكر: وهو نوعان: أحدهما عطف مفصل على مجمل هو هو في المعنى كقولك توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه ومنه قوله تعالى: «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي... » الآية.
وتكون عطفا لمجرد المشاركة في الحكم بحيث يحسن بالواو كقول امرئ القيس: «بين الدخول فحومل».
الفاء الفصيحة:
وقد تحذف الفاء مع المعطوف بها إذا أمن اللبس وكذلك الواو فمن حذف الفاء قوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ» التقدير فامتثلتم فتاب عليكم وقوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» معناه فأفطر فعليه عدة وهذه العاطفة على الجواب المحذوف يسميها أرباب المعاني «الفاء الفصيحة» قال صاحب الكشاف في قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ» تقديره فعملا به وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا الحمد لله.
وقال صاحب المفتاح: «هو إخبار عما صنع بهما وعما قالاه كأنه قيل: نحن فعلنا الإيتاء وهما فعلا الحمد وهذا الباب كثير في القرآن وهو من جملة فصاحته ولهذا أسماها أرباب المعاني الفاء الفصيحة.
وقال الجرمي: لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل «بين الدخول فحومل» مطرنا مكان كذا فمكان كذا إذا كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد واعترض على معنى التعقيب بقوله تعالى:
«الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» فإن إخراج المرعى لا يعقبه جعله غثاء أحوى أي يابسا أسود والجواب من وجهين:
آ- ان جملة فجعله غثاء أحوى معطوفة على جملة محذوفة وان التقدير فمضت مدة فجعله غثاء.
ب- ان الفاء نابت عن ثم والمعنى جعله غثاء وسيأتي تفصيل ذلك في حينه.
٣-لماذا انقشع الحزن عنها بسبب وجود الطعام والشراب؟
ولا بد هنا من الاجابة على سؤال قد يرد فإن ظاهر الكلام يدل على أن حزنها سينقشع بسبب وجود الطعام والشراب وذلك في قوله تعالى: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً» ومعلوم بأن حزنها لم يكن بسبب ذلك، ولا هو ناجم عن فقدان الطعام والشراب ولكن السر في
لماذا منعت من الكلام؟
وهناك سؤال آخر قد يثب الى الذهن بعد هذا كله وهو: ان الله أمرها بأن تمتنع من الكلام لأمرين:
آ- أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها وأرهص للمعجزة وبالتالي لإزالة عوامل الريبة المؤدية الى اتهامها بما يشين.
ب- تشريع الكراهية لأية مجادلة مع السفهاء وقد رمق الشاعر سماء هذا المعنى فقال:
يخاطبني السفيه بكل قبح | وأكره أن أكون له مجيبا |
آ- في الفاعل وزيادتها تكون واجبة في فعل التعجب الوارد على صيغة الأمر نحو أحسن بزيد وعلة الزيادة إصلاح اللفظ وإعرابه أحسن فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض لأجل الصيغة وبزيد الباء حرف جر زائد وزيد فاعل
قليل منك يكفيني ولكن | قليلك لا يقال له قليل |
قال ابن هشام: «ووقع في شعر المتنبي زيادة الباء في فاعل كفى المتعدية لواحد قال:
كفى ثعلا فخرا بأنك منهم | ودهر لأن أمسيت من أهله أهل |
ب- في المفعول به نحو قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» وقول أبي الطيب:
د- في الخبر وهو ينقاس في غير الموجب نحو ليس زيد بقائم وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون وفي غير الموجب متوقف على الساع.
هـ- في الحال المنفي عاملها كقوله:
كفى بجسمي نحولا انني رجل | لولا مخاطبتي إياك لم ترني |
فما رجعت بخائبة ركاب | حكيم بن المسيّب منتهاها |
٥- مبحث هام حول كان:
قوله تعالى «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» جرينا في اعرابها على أنها ناقصة واسمها مستتر تقديره هو وصبيا خبرها وممن أعربها كذلك الزمخشري ووعدنا أن ننقل الخلاف الذي ثار حولها لطرافته ولما فيه من رياضة ذهنية:
أما أبو البقاء فقد أعربها زائدة أي من هو في المهد وصبيا حال من الضمير في الجار والضمير المنفصل المقدر كان متصلا بكان وقيل كان الزائدة لا يستتر فيها ضمير فعلى هذا لا تحتاج الى تقدير هو بل يكون الظرف صلة من وقيل ليست زائدة بل هي كقوله «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» وقيل هي بمعنى صار وقيل هي التامة ومن بمعنى الذي وقيل شرطية وجوابها كيف.
آ- انها زائدة وهو قول أبي عبيد أي كيف نكلم من في المهد، وصبيا على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والواقع صلة.
ب- انها تامة بمعنى حدث ووجد والتقدير كيف نكلم من وجد صبيا وصبيا حال من الضمير في كان.
ح- انها بمعنى صار أي كيف نكلم من صار في المهد صبيا، وصبيا على هذا خبرها.
د- انها الناقصة على بابها من دلالتها على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي من غير تعرض للانقطاع كقوله تعالى «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ولذلك يعبر عنها بأنها ترادف لم يزل.
وقال ابن الأنباري في «أسرار العربية» كان هنا تامة وصبيا منصوب على الحال ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا اختصاص لعيسى عليه السلام في ذلك لأن كلا كان في المهد صبيا ولا عجب في تكليم من كان فيما مضى في حال الصبا.
وبعد كتابة ما تقدم وقعت على ما قاله أبو طاهر حمزة في رسالة له سماها «المنيرة المعربة عن شرف الاعراب» وأنقل لك خلاصته ففيه وجاهة وطرافة وهي تؤيد ما ذهبنا اليه من بقاء كان على وجهها قال:
«لكن الوجه ان كان من قصد الخبر الآن عن حالهم لأنهم أكبروا ذلك
يظل بها الشيخ الذي كان فانيا | يدب على عوج له نخرات |
قلت:
قلت: وهذا كله دندنة في غير طائل والأجود ما اخترناه واختاره الزمخشري ويأتي في المرتبة بعده أن تكون زائدة أما تقديرها تامة فبعيد جدا لأن عيسى لم يخلق ابتداء في المهد.
٦- بغيا:
أصله بغويا اجتمعت فيه الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغم الياء في الياء وإلا لو كان فعيلا بمعنى فاعل لحقته التاء وقال البيضاوي: «وهو فعول من البغي قلبت واوه وأدغمت ثم كسرت العين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء أو فعيل بمعنى فاعل لم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق» وقال بعضهم: البغي خاص بالمؤنث فلا يقال رجل بغي انما يقال امرأة بغي لكن نقل بعضهم عن المصباح انه يقال رجل بغي كما يقال امرأة بغي.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
الإعراب:
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) ذلك اسم اشارة مبتدأ وعيسى خبره وابن مريم بدل وقول الحق مفعول مطلق لفعل محذوف أي قلت، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا واختار الزمخشري أن يكون منصوبا على المدح بفعل محذوف تقديره امدح، هذا وقد فرق أبو حيان بين الاعرابين فقال:
«وانتصاب قول على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن عيسى بن مريم ثابت صدق ليس منسوبا لغيرها أي انها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل أي أقول الحق وأقول قول الحق فيكون الحق هو الصدق وهو من إضافة
(وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إن وقرئ بفتحها بحذف حرف الجر وان واسمها وربي خبرها وربكم عطف على ربي فاعبدوه الفاء الفصيحة وقد تقدم بحثها واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة لصراط والجملة حالية وسمي القول صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الآيل للنجاة. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء استئنافية واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب والمعنى حال كون الأحزاب بعضهم وتفصيل اختلافهم وأنواع فرقهم يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني وفي الفصل بين الملل والنحل لابن حزم الاندلسي وفي المطولات. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لتضمنها معنى الدعاء وللذين خبر ويل وجملة كفروا صلة ومن مشهد متعلقان بويل ومشهد مصدر ميمي أي من شهودهم بمعنى حضورهم ويجوز أن يكون اسم زمان أو مكان. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أسمع فعل ماض أتى على صيغة الأمر أو مبني على
البلاغة:
المجاز المرسل في قوله «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» والعلاقة الحالية والمراد جهنم فأطلق الحال وأريد المحل لأن الضلال لا يحل فيه
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
(الصِّدِّيقُ) : من أبنية المبالغة ونظيره الضحيّك والنّطّيق والمراد أنه بليغ الصدق في أقواله وأفعاله وفي تصديق غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله.
(مَلِيًّا) : دهرا طويلا.
(حَفِيًّا) :
في المختار: «وحفي به بالكسر حفاوة بفتح الحاء فهو حفي أي بالغ في إكرامه وإلطافه والعناية بأمره، والحفي أيضا المستقصي في السؤال ومن الأول قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» ومن الثاني قوله تعالى: «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها».
الإعراب:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي الكتاب متعلقان باذكر وابراهيم مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وصديقا خبر كان الأول ونبيا خبرها الثاني. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)
إذ اختلف المعربون فيها فعلقها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لخصائص النبيين والصديقين حين خاطب أباه تلك المخاطبات وهذا مبني على عمل كان الناقصة وأخواتها في الظرف غير خبرها واسمها وفيه خلاف وأعربها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما أيضا بدلا من ابراهيم بناء على حذف مضاف أي نبأ ابراهيم فتكون جملة إنه كان صديقا نبيا معترضة وفيه أيضا انه مبني على تصرف إذ
الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء والمراد بالدعاء هنا التوديع والازماع على الفراق وعليك خبر وسأستغفر السين للاستقبال وأستغفر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وإنما جاز له الاستغفار للكافر الرجاء بأن يوفق الى الايمان الموجب لغفران الذنوب ولك متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وجملة إنه تعليلية لا محل لها وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وحفيا خبرها وبي متعلقان بحفيا. (وَأَعْتَزِلُكُمْ
الواو عاطفة وأعتزلكم أي أترككم مرتحلا من بلادكم والفاعل مستتر والكاف مفعول به وما الواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية. وعلى كل حال موضعها نصب عطف على الكاف أو مفعول معه وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال. (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) وأدعو عطف على أعتزلكم وفاعله مستتر تقديره أنا وربي مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء واسمها مستتر وأن وما في حيزها هي الخبر واسم أكون مستتر تقديره أنا وبدعاء متعلقان بشقيا وربي مضاف لدعاء وشقيا خبر أكون. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واعتزلهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما يعبدون من دون الله تقدم اعرابها أي تركهم فعلا من بابل الى الأرض المقدسة وجملة وهبنا لا محل لها لأنها جواب لما وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول وهبنا ويعقوب عطف على اسحق وكلا مفعول به أول لجعلنا ونبيا هو المفعول الثاني. (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ووهبنا عطف على وهبنا الأولى ولهم متعلقان بوهبنا أي لابراهيم وولديه ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا وجعلنا عطف على وهبنا ولهم في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولسان صدق هو المفعول الاول وعليا صفة للسان وهو الثناء الحسن كما سيأتي في باب البلاغة.
البلاغة:
١- فن الاستدراج:
بلغت هذه الآيات ذروة البلاغة، وانطوت على معاجز تذهل العقول فأول ما يطالعنا منها فن يعرف بالاستدراج وهو يقوم على
«انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا... وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق لاستخفّ عقل من أهلّه للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغي المبين والظلم العظيم وان كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة... فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور فلا يسمع يا عابده ذكرك له، وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له فضلا أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه أو تسنح لك حاجة فيكفيكها، ثم ثنّى بدعوته الى الحق مترفقا به متلطفا فلم يسم إياه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال:
وفي قوله تعالى «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» مجاز مرسل من إطلاق اسم الآلة وهي اللسان لأنها آلة الكلام وإرادة ما ينشأ عنها فعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطاء فهو مجاز علاقته السببية.
الفوائد:
١- المبتدأ الصفة:
قد يرفع الوصف بالابتداء إن لم يطابق موصوفه تثنية أو جمعا فلا يحتاج الى خبر بل يكتفي بالفاعل أو نائبه فيكون مرفوعا به سادا مسدّ الخبر بشرط أن يتقدم الوصف نفي أو استفهام وتكون الصفة حينئذ بمنزلة الفعل فلا تثنى ولا تجمع ولا توصف ولا تصغر ولا تعرف ويتناول الوصف اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والمنسوب ولا فرق بين أن يكون الوصف مشتقا نحو:
ما ناجح الكسولان وهل محبوب المجتهدون أو اسما جامدا فيه معنى الصفة نحو هل صخر هذان المعاندان فصخر مبتدأ وهو اسم جامد بمعنى الوصف لأنه بمعنى صلب قاس وهذان فاعل لصخر أغنى عن الخبر، وما وحشي أخلاقك فوحشي مبتدأ وهو اسم جامد فيه معنى الصفة لأنه اسم منسوب فهو بمعنى اسم المفعول وأخلاقك نائب فاعل له أغنى عن الخبر ولا فرق بين أن يكون النفي والاستفهام بالحرف أو بغيره نحو: ليس كسول ولداك وغير كسول أبناؤك وكيف سائر أخواك غير انه مع ليس يكون الوصف اسما لها والمرفوع بعده مرفوعا
غير مأسوف على زمن... ينقضي بالهم والحزن
فغير مبتدأ لا خبر له بل لما أضيف اليه مرفوع يغني عن الخبر وذلك لأنه في معنى النفي والوصف بعده مجرور لفظا وهو في قوة المرفوع بالابتداء أي فحركة الرفع التي على غير هي التي يستحقها هذا الاسم بالاصالة لكنه لما كان مشغولا بحركة الجر لأجل الاضافة جعلت حركته التي كانت له بطريق الأصالة من حيث هو مبتدأ على بطريق العارية وعلى زمن في محل رفع نائب فاعل لمأسوف سد مسد الخبر وجملة ينقضي بالهم والحزن صفة لزمن وقد أورد بن هشام هذا البيت في مغني اللبيب وأورد وجهين آخرين تراهما بعيدين كل البعد وخاصة الثالث الذي اعترف ابن هشام بتصفه فليرجع إليهما.
فإن لم يقع الوصف بعد نفي أو استفهام فلا يجوز هذا الاستعمال فلا يقال مجتهد غلاماك بل تجب المطابقة نحو مجتهدان غلاماك وحينئذ يكون خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا وأجازه الكوفيون لأنهم لم يشترطوا اعتماد الصفة على النفي والاستفهام واستشهدوا بقوله:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا... مقالة لهبي إذا الطير مرت
فأعربوا قوله بنو لهب فاعلا لخبير دون أن يعتمد على نفي أو استفهام واعتذر البصريون عن البيت بأن خبيرا على وزن فعيل وفعيل على وزن المصدر كصهيل وزئير والمصدر يخبر به عن المفرد أو المثنى
دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها | فمفترق جاران دارهما العمر |
انه إذا رفع الوصف ما بعده فله ثلاثة أحوال:
١- وجوب الابتداء إذا لم يطابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائم أخواك.
٢- وجوب الخبرية إذا طابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائمان أخواك.
٣- جواز الوجهين إذا طابق ما بعده في التذكير والتأنيث نحو:
أقائم أخوك وأ قائمة أختك.
ومحل جواز الوجهين ما لم يوجد مانع وجعل بعض العلماء من الموانع في قوله تعالى «أراغب أنت عن آلهتي» فتتعين الابتدائية للزوم الفصل إذا جعلته خبرا بينه وبين معموله وهو الجار والمجرور وردّ ذلك آخرون مدافعين عن الزمخشري بأن قوله عن آلهتي متعلق آخر أما الزمخشري وابن الحاجب فقد اشترطا في الأصل أن يكون المرفوع اسما ظاهرا ولكن الزمخشري نفسه أجاز إعراب أنت فاعلا لراغب.
تحدثنا عن اللغات في المنادى المضاف الى ياء المتكلم فأما التاء في يا أبت ويا أمت فتاء التأنيث بمنزلة التاء في قائمة وامرأة، قال سيبويه:
سألت الخليل عن التاء في يا أبت لا تفعل ويا أمت فقال هذه التاء بمنزلة الهاء في خالة وعمة يعني أنها للتأنيث والذي يدل على أنها للتأنيث أنك تقول في الوقف يا أبه ويا أمه فتبدلها هاء في الوقف كقاعد وقاعده على حد خال وخاله وعم وعمه ودخلت هذه التاء كالعوض من ياء الاضافة والأصل يا أبي ويا أمي فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة قبلها ثم دخلت التاء عوضا عنها ولذلك لا تجتمعان فلا تقول يا أبتي ولا يا أمتي لئلا يجمع بين المعوض والمعوض عنه ولا تدخل هذه التاء فيما له مؤنث من لفظه فلو قلت في يا خالي ويا عمي يا خالت ويا عمت لم يجز لأنه كان يلتبس بالمؤنث فأما دخول التاء على الأم فلا إشكال فيها لأنها مؤنثة.
وأما دخولها على الأب فلمعنى المبالغة كما في راوية وعلامة.
٣- من هو سيبويه:
وقد تردد اسم سيبويه كثيرا ولا بد لنا من إلقاء نظرة عاجلة على قصة حياته لأن فيها فائدة ولأنه ترك لنا في نحو البصريين الكتاب الذي خلد الى يومنا هذا، وكان كتاب النحو الجامع حتى قيل فيه قرآن النحو.
فهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي وهي نسبة الى الحارث بن كعب قبيلة يمنية وهذه النسبة بالولاء فقد كان سيبويه فارسيا فأما لقبه فسيبويه وقد غلب عليه وهو فارسي مركب مزجي من سيب أي التفاح وبوى أي الرائحة فمعناه رائحة التفاح على قاعدة
حكم سيبويه:
والجاري على الألسنة سيبويه بفتح الباء والواو والهاء مكسورة وهذا حكم شائع في الاعلام المختومة بويه جاء في الكتاب قول سيبويه:
«وعمرويه عندهم بمنزلة حضر موت في انه ضم الآخر الى الأول وعمرويه في المعرفة مكسور في حال الجر والرفع والنصب غير منون وفي النكرة تقول هذا عمرويه آخر ورأيت عمرويه آخر» وتراه في الكتاب اقتصر على المشهور عند الناس وقد ينطق سيبويه بضم الباء وفتح الياء وسكون الهاء ويعزى هذا الى العجم تجنبوا الصورة الأولى لأن ويه صوت ندبة.
مولده ونشأته:
ولد سيبويه في البيضاء من كورة إصطخر بفارس من أبوين فارسيين ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ ولادته وقد انتقل الى البصرة فتلقى العلم فيها وكانت هي والكوفة المصرين المبرزين في علوم العربية والدين ولا يعرف شيئا عن أسرته إلا ما ذكر أنه مات بين يدي أخيه ولا ندري هل انتقلت معه الى البصرة أسرته ونحن لا نرى لأبيه ذكرا ونرى بشارا يهجوه حين اشتهر أمره فيقول:
كيف طلب النحو؟
اختلف سيبويه الى حماد بن سلمة شيخ الحديث والرواية في البصرة في عصره فألقى عليه حماد الحديث: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد من أصحابي إلا أخذت عليه ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه، وكان قد شدا شيئا من النحو: ليس أبو الدرداء فقال حماد لحنت يا سيبويه، فقال سيبويه: لا جرم لأطلبن علما لا تلتحنني فيه أبدا، واتجه لدرس النحو فلزم الخليل وقد ظن سيبويه أن الواجب رفع ما بعد ليس ليكون اسما لها ولم يكن عرف أسلوب ليس في الاستثناء وقد عرض سيبويه لذلك في الكتاب وأشبعه بيانا وتعليلا.
بوادر نبوغه وحرية فكره:
وكان أكثر تلقيه عن الخليل حتى انه إذا قال: قال أو سألته فإنه يعني الخليل، وكان الخليل قد عرف له قدره وثقابة ذهنه وقوة فطنته فأبثه علمه ونصح له في التعليم، وأخذ عن غير الخليل: أخذ عن عيسى ابن عمر ويونس بن حبيب والأخفش الكبير أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد ويذكر أبو زيد الأنصاري انه إذا قال سيبويه: أخبرني الثقة فإنما يعنيه وأول ما ظهر من بوادر نبوغه ما حدث به الأخفش قال: كنت عند يونس
مررت به المسكين؟ فقال جائز أن أجره على البدل من الهاء فقال له:
فمررت به المسكين بالرفع على معنى المسكين مررت به فقال هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر فقال له: إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيه أبياتا فقال: هو خطأ، قال فمررت به المسكين بالنصب؟ فقال جائز، فقال على أي شيء؟ فقال على الحال، فقال أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام، فقال: صدقت ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل، فقال سيبويه: قال انه ينصب على الترحم، فقال: ما أحسن هذا، ورأيته مغموما بقوله نصبته على الحال. وكان سيبويه مع إجلاله للخليل يزيف قوله ففي الكتاب: «وزعم الخليل انه يجوز أن يقول الرجل: هذا رجل أخو زيد إذا أردت أن تشبهه بأخي زيد وهذا قبيح لا يجوز إلا في موضع الاضطرار ولو جاز هذا لقلت هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل فلم يجز هذا كما قبح أن تكون المعرفة حالا كالنكرة إلا في الشعر».
بين سيبويه والكسائي:
وأتى الحظ والسعادة الكسائي وأصحابه فحلوا في بغداد محلا رفيعا وكان منهم مؤدبو أولاد الخلفاء وكانوا عند البصريين في النحو والأدب أقل منهم معرفة وأضعف أسبابا وقد رأى سيبويه- وهو إمام البصريين- أن يزاحمهم في مركزهم فقصد بغداد وعرض على البرامكة أن يجمعوا بينه وبين الكسائي ويناظره وكان واثقا انه سيكون له الفلح والظفر وبلغ الكسائي مقدم سيبويه وخشي مغبة المناظرة أن يزول سلطانه في بغداد فأتى جعفر بن يحيى بن برمك والفضل أخاه وقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل إنما قدم ليذهب محلي قالا
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) اذكر فعل أمر وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر وموسى مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها ومخلصا خبر كان وكان رسولا نبيا عطف على كان الأولى. (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وناديناه عطف على ما سبق وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن جانب متعلقان بناديناه والطور مضاف اليه والأيمن صفة لجانب قالوا لأنه كان يلي يمين موسى حين أقبل من مدين وقربناه عطف على ناديناه ونجيا حال من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه وهو فعيل بمعنى فاعل أي مناجيا. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ووهبنا عطف أيضا وله متعلقان بوهبنا ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا ومعنى من هنا التبعيض أي بعض رحمتنا أو للتعليل أي من أجل رحمتنا وأخاه مفعول به لوهبنا وهارون بدل ونبيا حال. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) اعرابها ظاهر وقد تقدم وجملة انه كان تعليلية. (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) جملة يأمر خبر كان وأهله مفعول به وبالصلاة متعلقان بيأمر وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وعند ربه متعلقان بمرضيا ومرضيا خبر كان اجتمعت الياء والواو فقلبت الواو ياء وأدغمت في الأخرى. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) تقدم اعراب مثيلاتها ولا بأس بذكر ما قاله الزمخشري بصدد إدريس وهذا نصه:
«قيل سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه
(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أولئك مبتدأ أي الأنبياء العشرة المذكورون في السورة والذين خبر أو بدل من اسم الاشارة وجملة أنعم الله عليهم صلة ومن النبيين حال ومن ذرية آدم بدل بإعادة الجار. (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) عطف على ما تقدم. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) جملة إذا تتلى عليهم وجوابها استئنافية لا محل لها إذا أعربنا الذين خبرا وإذا أعربنا الذين بدلا فتكون هي الخبر وجملة خرّوا لا محل لها لأنها جواب إذا والواو في خروا فاعل وسجدا حال من الفاعل وبكيا عطف على سجدا جمع ساجد وباك والثاني شاذ لأن قياس فاعل من المنقوص أن يجمع على فعله كقاض وجمعه قضاة وباك وجمعه بكاة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
(خلف) : أي عقب وبعض اللغويين يستعملون الخلف بسكون اللام كما هنا في الشر فيقال خلف سوء وبفتحها في الخير فيقال خلف صالح، قال في الكشاف: «خلفه إذا عقبه ثم قيل في عقب الخير خلف بالفتح وفي عقب السوء خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر» وقال اللحياني: الخلف بفتحتين الولد الصالح والخلف بفتح فسكون الرديء.
(غَيًّا) : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد، قال المرقش الأصغر:
ظللت تغني سادرا في مساءتي | وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ |
أمن حلم أصبحت تنكت واجما | وقد تعتري الأحلام من كان نائما |
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما |
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) الفاء عاطفة وخلف فعل ماض ومن بعدهم حال وخلف فاعل وجملة أضاعوا الصلاة صفة لخلف واتبعوا الشهوات عطف على أضاعوا الصلاة والفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعلم عاقبتهم، وسوف حرف استقبال ويلقون فعل مضارع وفاعل وغيا مفعول به.
(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) إلا أداة استثناء و «من» إن جعلنا الاستثناء منقطعا كانت إلا بمعنى لكن ومن مستثنى واجب النصب ووجه الانقطاع أن المستثنى منه كفار والمستثنى مؤمنون وهذا اختيار الزجاج واختار أبو حيان الاتصال وربما كان أظهر لأنه خطاب صالح لكل أمة وفيها من آمن ومن كفر وعلى كل حال هو واجب النصب لأن الكلام تام موجب، وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وعمل عطف أيضا وصالحا يجوز أن يكون مفعولا به وأن يكون مفعولا مطلقا أي عملا صالحا، فأولئك الفاء الفصيحة وأولئك مبتدأ وجملة يدخلون خبر والجنة مفعول به على السعة ولا يظلمون عطف على يدخلون وشيئا مفعول مطلق ولك أن تجعله مفعولا ثانيا بتضمين يظلمون معنى ينقصون. (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) جنات بدل من الجنة وعدن مضاف إليه من عدن بالمكان أي أقام وقد جرى مجرى العلم ولذلك ساغ وصفها بالتي والتي صفة لجنات عدن وجملة وعد صلة والرحمن فاعل وعد وعباده مفعول وبالغيب حال من عباده أي من المفعول والمعنى غائبة عنهم لا يشاهدونها ويحتمل أن يكون حالا من ضمير الجنة وهو الضمير العائد على الموصول أي وعدها وهم غائبون عنها لا يرونها.
البلاغة:
١- توكيد المديح بما يشبه الذم وعكسه:
في قوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً» فن رفيع من
آ- أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية ومنه قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
ب- ان تثبت لشيء صفة مدح وتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء نحو: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وقال النابغة أيضا:
فتى كملت أوصافه غير أنه | جواد فما يبقي على المال باقيا |
إذا عرفت هذا فاعلم أن في الآية الكريمة: «لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما» ثلاثة أوجه:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
ج- ان معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وهي دار السلامة وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ففي الوجه الاول والثالث يتعين الاتصال في الاستثناء أما الأول فلجعل ذلك لغوا على سبيل التجوز والفرض وأما الثاني فواضح لأنه فيه اطلاق اللغو على السلام وأما الثالث فلحمل الكلام على ظاهره من دون تجوز أو فرض.
٢- التشبيه التمثيلي البليغ:
وذلك في قوله تعالى «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» فقد شبه عطاء الجنة لهم بالعطاء الذي لا يرد وهو الميراث الذي يرثه الوارث فلا يرجع فيه المورث أي نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه والوارثة أقوى لفظ يستعمل في التمليك والاستحقاق من حيث أنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل برد ولا إسقاط والإرث في اللغة البقاء، قال عليه الصلاة والسلام: «إنكم على إرث من إرث أبيكم ابراهيم» أي على بقية من
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
الإعراب:
(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية قول جبريل حيث استبطأه الرسول عليه السلام لما سئل عن قصة أهل الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب، كما تقدم، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما وقيل أربعين حتى قال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فالواو استئنافية وما نافية وتتنزل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا بأمر ربك استثناء من أعم الأحوال فإلا أداة حصر وبأمر متعلقان بمحذوف حال فالتنزل نزول فيه إبطاء أو بمعنى النزول على الإطلاق، قال الشاعر:
فلست لإنسيّ ولكن لملأك | تنزل من جو السماء يصوب |
تعاليت ان تعزى الى الانس جلة | وللإنس من يعزوك فهو كذوب |
(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) له خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر والجملة حال من ربك والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيدينا مضافة للظرف وما خلفنا عطف على ما بين أيدينا وما بين ذلك عطف أيضا. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) الواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها وخبرها. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) رب السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض ويجوز أن يعرب بدلا من ربك. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الفاء هي الفصيحة ولا حاجة لتأويل الكلام بجعلها عاطفة من باب عطف الإنشاء على الخبر أي إذا عرفت ربوبيته الكاملة فاعبده واصطبر عطف على اعبده ولعبادته متعلقان باصطبر وقد أحسن الزمخشري في الفهم حيث جعل العبادة بمنزلة القرن تقول للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته وصولاته والمراد لا تضق ذرعا ولا تهن قوة إذا تأخر عنك الوحي ولا تبتئس لشماتة الكافرين فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وظلمة ثم تنحسر وهل حرف
الفوائد:
عطف الإنشاء على الخبر وبالعكس:
منعه البيانيون وبعض النحاة وأجازه بعض النحاة قال أبو حيان:
وأجاز سيبويه ذلك واستدل بقول امرئ القيس:
وإن شفائي عبرة مهراقة | وهل عند رسم دارس من معول |
تناغي غزالا عند باب ابن عامر | وكحّل مآقيك الحسان بإثمد |
وقائلة خولان فانكح فتاتهم | وأكرومة الحيين خلوكما هيا |
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
اللغة:
(جِثِيًّا) : بضم الجيم وكسرها وبهما قرئ جمع جاث من جثا يجثو أجثى ويجثي لغتان: أي جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه فهو جاث.
(صِلِيًّا) : بكسر الصاد وضمها وبهما قرئ مصدر صلي بكسر اللام وفتحها النار أي دخلها.
(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) الواو استئنافية ويقول الإنسان فعل مضارع وفاعل وأل فيه للجنس والهمزة للاستفهام بمعنى النفي وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بفعل محذوف دل عليه قوله لسوف أخرج لأن اللام تمنع من تعليقه بأخرج المذكورة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها وما زائدة وجملة مت صلة واللام لام الابتداء وسوف حرف استقبال واخرج فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره أنا وحيا حال وساغ اجتماع اللام وهي نمحض الفعل للحال وسوف وهي تمحضه للاستقبال ان اللام هنا لمجرد التوكيد وإنما جردت اللام من معناها لتلائم سوف دون أن تجرد سوف من معناها لتلائم اللام لأنه لو عكس هذا للغت سوف إذ لا معنى لها سوى الاستقبال وأما اللام فانها إذا جردت من الحال بقي لها التوكيد فلم تلغ. (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أولا: الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة ولا نافية ويذكر فعل مضارع معطوف على يقول ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف والإنسان فاعل وأنّا: ان واسمها وجملة خلقناه خبر أنا وان وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يذكر ومن قبل الجار والمجرور متعلقان بيذكر ولم الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها ضمير مستتر تقديره هو، وشيئا خبر يك والمضاف الى قبل محذوف تقديره قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه وقدره بعضهم قبل بعثه. (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) الفاء عاطفة والواو للقسم وربك مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وفائدة هذا القسم سترد في باب البلاغة
البلاغة:
١- فن القسم:
في قوله تعالى «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ» فن القسم وهو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له وتعظيم لشأنه أو تنويه لقدره أو ما يكون ذما لغيره أو جاريا مجرى الغزل والترقق أو خارجا مخرج الموعظة والزهد فقد أفاد القسم هنا أمران أحدهما أن العادة جرت بتأكيد الخبر باليمين والثاني أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافا الى رسوله ﷺ رفعا منه لقدره وتنويها بشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ» وسيأتي تحقيق ذلك في مواضعه.
وقد توسّع الشعراء في القسم لأن فيه حلاوة ورفعا لشأن المتغزل به، وما ألطف قول عبد المحسن الصوري وهو من أبرع ما سمغنا:
يا غزالا قد رمى باللحظ... قلبي فأصابا
بالذي ألهم تعذيبي... ثناياك العذابا
والذي ألبس خديك... من الورد نقابا
والذي أودع في فيك من الشهد شرابا
والذي صيّر حظي... منك هجرا واجتنابا
ولابن خفاجة الاندلسي:
لا وسحر بين أجفانكم... فتن الحب به من فتنا
وحديث من مواعيدكم... تحسد العين عليه الأذنا
ما رحلت العيس عن أرضكم... فرأت عيناي شيئا حسنا
وبلغ العباس بن الأحنف الغاية بقوله:
واني ليرضيني قليل نوالكم... وإن كان لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم... من الود إلا عدتم بجميل
وأبدع أبو الطيب بقوله:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا... والبين جار على ضعفي وما عدلا
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
بما بجفنيك من سحر صلي دنفا... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا
وذلك في قوله تعالى «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» والافتنان هو أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين والآية التي نحن بصددها جمعت بين المتضادين:
جمعت بين الوعد والوعيد، بين التبشير والتحذير وما يلزم من هذين الفنين من المدح للمختصين بالبشارة والذم لأهل النذارة وستأتي منه أمثلة عديدة في القرآن الكريم.
ومن الجمع بين المتضادين في الشعر قول عبد الله بن طاهر بن الحسين ونسبهما في الكامل لأبي دلف:
أحبك يا ظلوم وأنت مني | مكان الروح من جسد الجبان |
ولو أني أقول مكان روحي | خشيت عليك بادرة الطعان |
إن تغد في دوني القناع فانني | طب بأخذ الفارس المستلئم |
وجمع الحطيئة بين المدح والهجاء في بيت واحد من قصيدة يمدح بها بغيضا ويهجو الزبرقان وقد شكاه الزبرقان بسببها الى عمر بن الخطاب:
قد ناضلونا وسلوا من كنانتهم | مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس |
إن عداك لما فاخروك سلوا من كنانتهم تلك التي أعطيتها لهم حتى مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجدا تليدا لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بأنكاس يعني الصائبات التي لا تنكب إذا ناضلت بها عن الغرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذ أخبر بأنهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت له الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة.
ومن الجمع بين الهجاء والمدح أو الفخر قول أبي العلاء المعري:
بأي لسان ذامني متجاهل | عليّ وخفق الريح فيّ ثناء |
تكلم بالقول المضلّل حاسد | وكل كلام الحاسدين هراء |
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا | ونحن على قوالها أمراء |
ولا سار في عرض السماوة بارق | وليس له من قومنا خفراء |
غدوت مريض العقل والدين فالقني | لتخبر أبناء العقول الصحائح |
أما الجمع بين التهنئة والتعزية فهو غريب حقا وهو يحتاج الى الكثير من شفوف الطبع ورهافة الحس للاجادة فيه ومن أجمل ما سمعنا منه مثل قول المعزّي ليزيد بن معاوية عند ما جلس في دست الخلافة وأتت الوفود مهنئة معزية بأبيه فلما اجتمعوا لم يفتح على أحد بما فتح به لهم باب القول حتى تقدم هذا المتقدم ذكره فاستأذن في الكلام فلما أذن له قال: آجرك الله يا أمير المؤمنين على الرزية وبارك الله لك في العطية فلقد رزئت عظيما وأعطيت جسيما، رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، فاصبر على ما رزئت، واشكر على ما أعطيت وأنشد:
ففتح للناس باب القول: فقالوا وكان له فضل السبق.
وقال أبو نواس للعباس بن الفضل يعزيه بالرشيد ويهنئه بخلافة الأمين:
تعزّ أبا العباس عن خير هالك... بأكرم حي كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها... لهنّ مساو مرة ومحاسن
وفي الحيّ بالميت الذي غيّب الثرى... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
٣- فن الالتفات:
في قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها... الخ» التفات على أحد القولين وهو مفرع على إرادة العموم من الأول فيكون المخاطبون أولا هم المخاطبين ثانيا إلا أن الخطاب الاول بلفظ الغيبة والثاني بلفظ الحضور واما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين جميعا فالثاني ليس التفاتا وإنما هو عدول عن خطاب خاص لقوم معينين الى خطاب العامة والقول في الورود على جهنم طويل يرجع فيه الى المطولات.
نقاش طويل حول أيهم:
وعدناك بمزيد من البحث حول أيهم في قوله تعالى «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» قال أبو حيان في شرح التسهيل: «وسأل الكسائي في حلقة يونس لم لا يجوز أعجبني أيهم قام فقال: أي كذا خلقت» أي كذا وضعت وقال ابن السراج موجها قول الكسائي بالمنع ما معناه إن أيا وضعت على العموم والإبهام فإذا قلت يعجبني أيهم يقوم فكأنك قلت يعجبني الشخص الذي يقع منه القيام كائنا من كان ولو قلت أعجبني أيهم قام لم يقع إلا على الشخص الذي قام فأخرجها ذلك عما وضعت له من العموم ولذلك يشترط في عاملها أن يكون مستقبلا متقدما عليها نحو «لننزعن من كل شيعة أيهم أشد» وذلك لأجل الفرق بين الشرطية والاستفهامية وبين الموصولة لأن الشرطية والاستفهامية لا يعمل فيهما إلا متأخر والمشهور عند الجمهور افرادها وتذكيرها وقد تؤنث وتثنى وتجمع عند بعضهم فتقول أية وأيان وأيتان وأيون وأيات وهي معربة فقيل مطلقا وهو قول الخليل ويونس والأخفش والزجاج والكوفيين وقال سيبويه تبنى على الضم إذا أضيفت لفظا وكان صدر صلتها ضميرا محذوفا وقال الزجاج مستنكرا: ما تبين لي أن سيبويه غلط إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يسلم انها تعرب إذا أفردت فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت.
وزعم المانعون أن أيا في الآية استفهامية وانها مبتدأ وأشد خبره ثم اختلفوا في مفعول ننزع فقال الخليل محذوف والتقدير لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وقال يونس المفعول الجملة وعلقت ننزع عن العمل فيها وقال الكسائي والأخفش المفعول كل شيعة ومن زائدة وقد رد
ونورد هنا ما قاله أبو البقاء لوجازته وشموله قال «قوله أيهم أشد يقرأ بالنصب شاذا والعامل فيه لننزعن وهي بمعنى الذي ويقرأ بالضم وفيه قولان: أحدهما انها ضمة بناء وهو مذهب سيبويه وهي بمعنى الذي وانما بنيت هاهنا لأن أصلها البناء لأنها بمعنى الذي ومن الموصولات إلا أنها أعربت حملا على كل أو بعض فإذا وصلت بجملة تامة بقيت على الاعراب وإذا حذف العائد عليها بنيت لمخالفتها بقية الموصولات فرجعت الى حقها من البناء بخروجها عن نظائرها وموضعها نصب بنزع الخافض، والقول الثاني هي ضمة الاعراب وفيه خمسة أقوال أحدها انها مبتدأ وأشد خبره وهو على الحكاية والتقدير لننزعن من كل شيعة الفريق الذي يقال أيهم فهو على هذا استفهام وهو قول الخليل والثاني كذلك في كونه مبتدأ وخبرا واستفهاما إلا أن موضع الجملة نصب بننزعن وهو فعل معلق عن العمل ومعناه التمييز وهو قريب من معنى العلم الذي يجوز تعليقه كقولك علمت أيهم في الدار وهو قول يونس والثالث أن الجملة مستأنفة وأي استفهام ومن زائدة أي لننزعن كل شيعة وهو قول الأخفش والكسائي وهما يجيزان زيادة من في الواجب، والرابع أن أيهم مرفوع بشيعة لأن معناه تشيع والتقدير: لننزعن من كل فريق يشيع أيهم وهو على هذا بمعنى الذي وهو قول المبرد والخامس أن ننزع علقت عن العمل لأن معنى الكلام معنى الشرط والشرط لا يعمل فيما قبله والتقدير لننزعنهم تشيعوا أم لم يتشيعوا أو ان تشيعوا ومثله لأضربن أيهم غضب أي ان غضبوا أو لم يغضبوا وهو قول يحيى عن الفراء وهو أبعدها عن الصواب».
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)اللغة:
(مَقاماً) : بفتح الميم اسم مكان من قام أو مصدر ميمي وقرئ مقاما بالضم فيكون أيضا اسم مكان أو مصدرا ميميا من أقام الرباعي المزيد والمراد هنا موضع القوم.
(نَدِيًّا) : الندي المجلس ومجتمع القوم وحيث ينتدون ويقال النادي.
(أَثاثاً) : الأثاث: متاع البيت والمال ويقال أثّ يئث ويأث ويؤث أثاثا وأثوثا وأثاثة النبات أو الشعر: التفّ وكثر فهو أث وأثيث.
الإعراب:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو استئنافية وإذا شرط مستقبل وجملة تتلى مضافة للظرف وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا أي واضحات مبينات المقاصد والمعاني وجملة قال الذين كفروا لا محل لها لأنها جواب. (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) للذين آمنوا متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة وأي استفهامية مبتدأ وخير خبر ومقاما تمييز وأحسن عطف على خير ونديا تمييز. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) كم خبرية في محل نصب مفعول أهلكنا وأهلكنا فعل وفاعل ومن قرن تمييز غير صريح لكم لأن تمييز كم الخبرية كثير ما يكون مجرورا بمن وسيأتي تفصيل لذلك وهم مبتدأ وأحسن خبر والجملة في محل نصب صفة لكم الخبرية ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية هذا ما ذكره الزمخشري وتابعه أبو البقاء على أن هم أحسن صفة لكم ونص أصحابنا على أن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها، وأثاثا تمييز ورئيا عطف عليه ويجوز أن يكون صفة لقرن. (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) من اسم شرط جازم مبتدأ وكان فعل الشرط وهو فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من وفي الضلالة خبر كان والفاء رابطة للجواب واللام لام الأمر ويمدد
(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) والباقيات مبتدأ والصالحات صفة وخير خبر الباقيات وعند ربك الظرف متعلق بخير وثوابا تمييز وخير مردا عطف على خير ثوابا أي مرجعا وعاقبة ومغبة.
١- من الداخلة على التمييز:
اختلف في معنى من التي يصرح بها مع التمييز فقيل للتبعيض ولذلك لم تدخل في نحو طاب نفسا لأن نفسا ليست أعم من المبهم الذي انطوت عليه الجملة وقال الشلوبين: زائدة عند سيبويه لمعنى التبعيض ويدل على صحته انه عطف على موضعها نصبا قال الحطيئة:
اصبر يزيد فقد فارفت ذا ثقة | واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا |
لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه | كما رزئت ولا عقبى كعقباكا |
أصبحت راعي أمور الناس كلهم | فأنت ترعاهم والله يرعاكا |
طافت أمامة بالركبان آونة | يا حسنه من قوام ما ومنتقبا |
٢- معنى التفضيل:
قيل: ما معنى التفضيل في قوله «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» وهل ثمة من شك وهل للمفاخر شرك في الثواب والمرد وأجيب بجوابين أو لهما انه من وجيز كلامهم يقولون الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وثانيهما أن اسم التفضيل ذكر على سبيل المشاكلة لكلامهم السابق وقال الشهاب في حاشيته على البيضاوي: «وهذا جواب عما تخيل كيف فضلوا عليهم في خيرية الثواب والعاقبة والتفضيل يقتضي المشاركة وهم لا ثواب لهم وعاقبتهم لا خير فيها».
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٤]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
اللغة:
(أَطَّلَعَ) أصله أاطلع حذفت همزة الوصل وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة واطلع يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال اطلع الأمر وعليه: علمه ويقال أيضا: اطّلع طلمع العدو بكسر الطاء وسكون اللام عرف باطن أمرهم وقد توهم بعضهم انه لا يتعدى إلا بعلى فأعرب الغيب بنزع الخافض وإنما هو من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى الى أعلاه وطلع الثنية قال جرير:
إني إذا مضر عليّ تحدثت | لاقيت مطلع الجبال وعورا |
(وَنَمُدُّ) : مضارع مد الشيء يمده من باب نصر أطاله وبسطه وجذبه ومدّ الحبل فامتدّ وهذا ممدّ الحبل قال ابن مقبل:
وللشمس أسباب كأن شعاعها | ممدّ حبال في خباء مطنّب |
أتسلى عن الهموم وآسى | لمحلّ من آل ساسان درس |
(وَنَرِثُهُ) : أي نسلبه منه ونأخذه بأن نخرجه من الدنيا خاليا من ذلك والمراد نزوي عنه ما يقوله من أنه سيناله في الآخرة.
(تَؤُزُّهُمْ) : الأز: الاستفزاز والتهيج وشدة الإزعاج وهذه من أغراب مواد اللغة العربية كلها تدل على هذا المعنى والأز أيضا شدة الصوت ومنه أز المرجل أزا وأزيزا أي غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت وفي الحديث «فكان له أزيز» وفي القاموس: وأزّت القدر تؤز بالضم وتئز بالكسر أزا وأزيزا وأزازا بالفتح اشتد غليانها وأز النار أوقدها وأز الشيء حركه شديدا» وفي اللسان والأساس وغيرهما:
هالني أزيز الرعد وصدّعني أزيز الرحى وهزيزها وأزه على كذا:
أغراه به وحمله عليه بإزعاج وهو يأتز من كذا: يمتعض منه وينزعج وتأزر المجلس هاج بمن فيه جميع ذلك يدل على الحركة والانزعاج، وأزب الماء يأزب بالضم والكسر جرى مسرعا والميزاب مجرى الماء والجمع مآزيب، وأزج البيت بناه طولا وعرضا، وأزحت قدمه زلت، وأزر يأزر بالكسر بالشيء أحاط به والنبات التف وآزره مؤازرة عاونه وبادر الى إغاثته والأزر القوة والظهر يقال شد به أزره أي ظهره والمئزر معروف ويقال شد للأمر مئزره إذا تشمر له وسارع اليه. وأزف
(وَوَلَداً) : الولد اسم مفرد قائم مقام الجمع والولد بضم الواو وسكون وقد قرئ بها بمعنى الولد فهما لغتان وقيل بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وعرب وعرب.
الإعراب:
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) الهمزة للاستفهام التعجبي والفاء على حالها من التعقيب كأنه قال أخبرك أيضا بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك ورأيت هنا بمعنى أخبرني وقد تقدم بحثها مفصلا والذي هو مفعولها الأول وجملة كفر بآياتنا صلة وقال عطف على كفر، لأوتين اللام جواب لقسم مقدر ونائب الفاعل مضمر تقديره أنا وما لا مفعول به ثان لأوتين وولدا عطف على ما لا. (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الهمزة للاستفهام واطلع فعل ماض وفاعله هو يعود على الكافر قيل هو العاصي بن وائل وستأتي قصته في باب الفوائد وأم حرف عطف معادل للهمزة واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر يعود عليه وعند الرحمن مفعول به ثان لاتخذ وعهدا مفعول به أول.
(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) ونرثه عطف على نمد والفاعل نحن والهاء منصوب بنزع الخافض وما مفعول به والتقدير ونرث منه ما يقوله ويجوز أن تكون الهاء هي المفعول به وما بدل اشتمال من الهاء والمعنى نرث ما عنده من المال والأهل والولد وجملة يقول صلة ويأتينا عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره هو ونا ضمير فصل فاعل وفردا حال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) واتخذوا فعل وفاعل وحذف المفعول الأول وهي الأوثان المفهومة من سياق الحديث ومن دون الله حال وآلهة هي المفعول الثاني، ليكونوا اللام لام التعليل ويكونوا فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو اسمها ولهم حال وعزا خبر يكونوا. (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) كلا تقدم أنها حرف ردع وزجر لتعززهم بها سيكفرون فعل مضارع مرفوع وبعبادتهم متعلقان بيكفرون أي سيجحدون عبادتها وينكرونها، فالمصدر أضيف الى مفعوله ويكونون عطف على يكفرون والواو اسمها وعليهم حال وضدا خبر يكونون ووحّده وهم جمع لمحا لأصله لأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع أو لأنه مفرد في معنى الجمع وللزمخشري في توحيد الضد كلام حسن سننقله في باب البلاغة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى
ألم الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة أرسلنا خبرها والشياطين مفعول به وجملة تؤزهم حالية وأزا مفعول مطلق. (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا كله فلا تعجل وعليهم متعلقان بتعجل وإنما كافة ومكفوفة وجملة نعد لهم حالية وعدا مفعول مطلق.
البلاغة:
١- الاستعارة المكنية:
١- الاستعارة المكنية في قوله «اطلع الغيب» فقد شبه الغيب المجهول الملثم بالاسرار بجبل شامخ الذرا لا يرقى الطير الى مداه فهو مجهول تتحطم عليه آمال الذين يريدون استشفاف آفاقه وادراك تهاويله ثم حذف الجبل أي المشبه به وأخذ شيئا من خصائصه ولوازمه وهو الاطلاع والارتقاء واستشراف مغيباته والغرض من هذه الاستعارة السخرية البالغة كأنه يقول أو بلغ هذا مع حقارته وتفاهة أمره وصغار شأنه أن ارتقى الى الغيب المحجب بالاسرار المطلسم بالخفاء؟
٢- توحيد الضد:
قال الزمخشري: «فإن قلت: لم وحّد؟ قلت وحّد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام «وهم يد على من سواهم» لاتفاق كلمتهم وانهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم» والواو في يكفرون يجوز أن تعود على الآلهة أي يجحدون عبادتهم لها أو للمشركين أي ينكرونها لسوء المغبة والمصير.
أوجه كلّا:
للنحاة في هذه اللفظة مذاهب ستة:
١- مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن الكريم وقد زجر بها العشاق لائميهم فقال أحدهم وهو عروة بن أذينة على الأرجح:
يقلن لقد بكيت فقلت: كلّا... وهل يبكي من الطرب الجليد؟
ولكن أصاب سواد عيني... عويد قذى له طرف حديد
فقلن فما لدمعهما سواء... أكلتا مقلتيك أصاب عود؟
٢- مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم فتكون جوابا ولا بد حينئذ من شيء يتقدمها لفظا أو تقديرا.
٣- مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل انها بمعنى حقا.
٤- مذهب أبي عبد الله الباهلي أنها رد لما قبلها وهذا قريب من الأول.
٥- انها صلة في الكلام بمعنى إي كذا قيل وفيه نظر فإن إي حرف جواب مختص بالقسم.
٦- انها حرف استفتاح وهو قول أبي حاتم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٥ الى ٩٨]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
اللغة:
(وَفْداً) : الوفد مصدر وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة.
(وِرْداً) : القوم الواردون الى الماء عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش.
(إِدًّا) : بالكسر والفتح العجب وقيل العظيم المنكر ولادة الشدة وآدني الأمر أثقلني وعظم علي إدا وفي القاموس «الإد والإدة بكسرهما العجب والأمر الفظيع والداهية والمنكر كالأد بالفتح وأدته الداهية تؤده بالضم وتئده بالكسر وتأده بالفتح دهته».
(وُدًّا) : مودة ومحبة وفي المصباح «وودته أوده من باب تعب ودّا بفتح الواو وضمها أجببته والاسم المودة وودت لو كان كذا أيضا ودا وودادة تمنيته» وفي المختار: «الود بضم الواو وفتحها وكسرها المحبة فهي مثلثة الواو والأرجح الضم وبها قرأ السبعة وقرئ في غير السبعة بفتحها وكسرها ويحتمل أن يكون المفتوح مصدرا والمضموم والمكسور اسمين».
(لُدًّا) : جمع ألد أي شديد الخصومة وجميل قول الزمخشري:
«اللد الشداد والخصومة بالباطل الآخذون في كل لديد أي في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم» وفي الأساس: «رجل ألد وألندد ويلندد وفيه لدد وقوم لدّ ولادّه ملادة ولدادا وهو شديد اللداد وتركت فلانا يتردد ويتلدد يتلفت وضربه على لديدي عنقه وهما صفحتاها وضربه على متلدّده على عنقه قال:
و (تُحِسُّ) : بضم التاء مضارع أحسّ وفي المصباح: «الحس والحسيس الصوت الخفي وحسه حسا فهو حسيس مثله قتله قتلا فهو قتيل وأحس الرجل الشيء إحساسا علم به يتعدى بنفسه مع الألف قال تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ»، وربما زيدت فيه الباء فقيل أحس به على معنى شعر به وحسست به من باب قتل لغة فيه والمصدر الحس بالكسر يتعدى بالباء على معنى شعرت أيضا».
الإعراب:
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) الظرف منتصب بفعل محذوف قدره بعضهم باذكر وقدره الزمخشري بقوله «نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف» وقال غيره العامل فيه قوله فيما بعد «لا يملكون» وجملة نحشر مضافة الى الظرف وفاعل نحشر ضمير مستتر تقديره نحن والمتقين مفعول به والى الرحمن متعلقان بنحشر ووفدا حال وقد تكرر ذكر الرحمن في هذه السورة ست عشرة مرة. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) عطف على الجملة السابقة ووردا حال أيضا أي واردين كما يرد العطاش إليهم مشاة عطاشا يكاد يقتلهم الظمأ. (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم ولا علاقة لها بالفريقين المتقدمين فلا نافية ويملكون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل تعود على الناس كلهم والشفاعة مفعول به وإلا أداة حصر ومن اسم موصول محله الرفع على البدل من
ولو شئت نجتني من القوم جسرة | بعيدة بين العجب والمتلدّد |
على حالة لو أن في القوم حاتما | على جوده لضنّ بالماء حاتم |
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن | أخاها ولم أرضع لها بلبان |
ألا رب من يدعى نصيحا وإن يغب تجده بغيب منك غير نصيح وقال الزمخشري: «اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولدا، أو من دعا بمعنى الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام: من ادعى إلى غير مواليه وقول الشاعر:
إنا بني نهشل لا ندعي لأب | عنه ولا هو لا بالأبناء يشرينا |
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) إن نافية وكل مبتدأ ومن مضاف اليه وفي السموات والأرض متعلقان بمحذوف صلة من ويجوز أن تكون من نكرة موصوفة بالجار والمجرور لأنها وقعت بعد كل نكرة ولعله أولى وإلا أداة حصر وآتي الرحمن خبر وعبدا حال
البلاغة:
انطوت خواتيم سورة مريم على فنون عديدة:
أولها: التكرار فقد تكرر ذكر الرحمن كما قلنا ست عشرة مرة في السورة معظمها في خواتيمها والفائدة فيه انه هو الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره وخلق لهم جميع متطلباتهم التي بها قوام معايشهم فهل اعتبر الإنسان؟ أم لا يزال الغطاء مسدولا على عينيه والوقر يغشى أذنيه؟ فمن أضاف اليه ولدا جعله كالاناسي المخلوقة وأخرجه بذلك عن استحقاق هذا الاسم الجدير به وحده.
وثانيها: الالتفات في قوله «لقد جئتم» التفت من الغيبة الى الخطاب لمشافهتهم بالأمر المنكر الذي اجترحوه، والبدع العجيب الذي ارتكبوه.
الفوائد:
١- قلنا ان أقوال المعربين اضطربت في قوله تعالى لا يملكون الشفاعة الى آخر الآية وقد اخترنا ما رأيناه- في نظرنا- أمثل الأوجه وننقل فيما يلي لمعا من أقوالهم مع التعليق عليها بما يناسب المقام فقد تورط الزمخشري، وجلّ المعصوم، بقوله «ويجوز أن تكون- أي الواو في يملكون- علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث» من جهتين الأولى إنه نسب الى القرآن وهو أبلغ الكلام أردأ اللغات
وقال البيضاوي: «إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الايمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى أو إلا من اتخذ من الله إذنا فيها كقوله تعالى:
«لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» من قولهم عهد الأمير الى فلان بكذا إذا أمره به ومحل الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ» وهو شبيه بالرأي الذي جنحنا اليه إلا أنه جنح الى القول بأن الاستثناء منقطع. وعبارة أبي حيان: «والضمير في لا يملكون عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه والاستثناء متصل ومن بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء ولا يملكون استئناف اخبار» ثم أورد أقوالا عديدة نضرب عنها صفحا.
وقال أبو البقاء «لا يملكون حال إلا من اتخذ في موضع نصب على الاستثناء المنقطع وقيل هو متصل على أن يكون الضمير في يملكون للمتقين والمجرمين وقيل هو في موضع رفع بدلا من الضمير في يملكون».
وفي الكرخي شارح الجلالين «قوله أي الناس قدره تمهيدا لجعل الاستثناء في قوله إلا من اتخذ منصلا لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين إذ هما قسماه وقيل ضمير يملكون عائد على المجرمين المراد بهم الكفار، قال بعضهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون» وحسبنا ما تقدم فقد طال مجال القول.
ونعود الى بيت الفرزدق وهو من أبيات له يعتذر عما وقع منه في السفر مع دليله عاصم العنبري حين ضل عن الطريق والأبيات هي:
فلما تصافنا الأداوة أجهشت | الى غضون العنبري الجراضم |
فجاء بجلمود له مثل رأسه | ليشرب ماء القوم بين الصرائم |
على حالة لو أن في القوم حاتما | على جوده لضنّ بالماء حاتم |