تفسير سورة الحج

زاد المسير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الحج

فصل في نزولها


روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلها، غير آيتين نزلتا بالمدينة : قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ والتي تليها [ الحج : ١٣، ١٢ ]. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ. . . ﴾ إلى آخر الأربع [ الحج : ٥٧-٥٣ ]. وقال عطاء بن يسار : نزلت بمكة إلا ثلاثة آيات منها نزلت بالمدينة :﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ ﴾ واللتان بعدها [ الحج : ٢٢-٢٠ ]. وقال أبو سليمان الدمشقي : أولها مدني إلى قوله تعالى :﴿ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الحج : ٣٨ ] وسائرها مكي. وقال الثعلبي : هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى :﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ الْحَمِيدِ ﴾ [ الحج : ٢٥-٢٠ ]. وقال هبة الله بن سلامة : هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكيا، ومدنيا، وحضريا، وسفريا، وحربيا، وسلميا، وليليا، ونهاريا، وناسخا، ومنسوخا.
فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إلى آخرها.
وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إلى رأس ثلاثين.
وأما الليلي، فمن أولها إلى آخر خمس آيات.
وأما النهاري، فمن رأس خمس آيات إلى رأس تسع.
وأما السفري، فمن رأس تسع إلى اثنتي عشرة.
وأما الحضري، فإلى رأس العشرين منها، نسب إلى المدينة، لقرب مدته.

سورة الحجّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)

فصل في نزولها «١» :


روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلُّها، غير آيتين نزلتا بالمدينة: قوله سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، والّتي تليها «٢» وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إِلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى آخر الأربع «٣». وقال عطاء بن السّائب: نزلت بمكة إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: هذانِ خَصْمانِ واللتان بعدها «٤» وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني إِلى قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ «٥» وسائرها مكي. وقال الثعلبي: هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: الْحَمِيدِ «٦». وقال هبة الله بن سلامة: هي من أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكياً، ومدنياً، وحضرياً، وسفرياً، وحربياً، وسلمياً، وليلياً، ونهارياً، وناسخاً، ومنسوخاً. فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إِلى آخرها. وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إِلى رأس ثلاثين. وأما الليليُّ، فمن أولها إِلى آخر خمس آيات. وأما النهاريُّ، فمن رأس خمس آيات. إِلى رأس تسع. وأما السفري، فمن رأس تسع إِلى اثنتي عشرة. وأما الحضريّ، فإلى رأس العشرين، نسب إِلى المدينة، لقرب مدَّته.
قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي: احذروا عقابه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ الزلزلة: الحركة على الحالة الهائلة. وفي وقت هذه الزلزلة قولان «٧» : أحدهما: أنها يوم القيامة بعد النّشور.
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٥: وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح، لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني. [.....]
(٢) سورة الحج: ١٢، ١٣.
(٣) سورة الحج: ٥٣- ٥٧.
(٤) سورة الحج: ٢٠- ٢٢.
(٥) سورة الحج: ٢٤، ٢٥.
(٦) سورة الحج: ٣٨.
(٧) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٠٥: والصواب من القول في ذلك: ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وهو حديث أبي سعيد الخدري-.
220
(١٠٠٢) روى عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قرأ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وقال: «تدرون أي يوم ذلك؟ فإنه يوم ينادي الرّبّ عزّ وجلّ آدم عليه السلام: ابعث بعثاً إِلى النار» فذكر الحديث.
(١٠٠٣) وروى أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم:
قم، فابعث بعث النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلى النار، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها»
، وقرأ الآية. وقال ابن عباس: زَلْزَلَةُ الساعة: قِيَامُها، يعني أنها تُقارِب قيام الساعة، وتكون معها. وقال الحسن، والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
والثاني: أنها تكون في الدنيا قبل القيامة، وهي من أشراط الساعة، قاله علقمة، والشعبي، وابن جريج. وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب، قال: ست آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إِذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إِذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إِذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت، واضطربت، ففزع الجن إِلى الإنس، والإنس إلى الجنّ، فاختلطت الدواب، والطير، والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إِلى البحور، فإذا هي نار تَأجَّج، فبينما هم كذلك إِذ تصدَّعت الأرض إِلى الأرض السابعة، والسماء إلى
حسن، أخرجه الترمذي ٣١٦٨ من حديث عمران بن حصين، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان. وزاد في هذا الحديث «فأنشأ المؤمنون يبكون... » و «فإنها لم تكن نبوة قط... » وأخرجه الطبري ٢٤٩٠٦ عن الحسن بهذا السياق. وقد رواه غير واحد بدون هذه اللفظة. وأخرجه الترمذي ٣١٦٩ والنسائي في «الكبرى» ١٣٤٠ والحاكم ٢/ ٣٨٥ و ٤/ ٥٦٧ والطبري ٢٤٩٠٤ عن الحسن عن عمران بن حصين، ورجاله ثقات كلهم لكن في سماع الحسن من عمران كلام.
وقد أنكره أبو حاتم في «المراسيل» ص ٤٠ ومع ذلك قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم، وقال:
أكثر أئمة البصرة على أن الحسن سمع من عمران، ووافقه الذهبي، ولأكثره شواهد ولذا صححه الألباني في صحيح الترمذي. وورد من حديث أنس أخرجه أبو يعلى ٣١٢٢ وابن حبان ٧٣٥٤ والحاكم ١/ ٢٩ و ٤/ ٥٦٦ من حديث أنس، وصححه الحاكم على شرطهما، لكن أعله بقوله: قال محمد بن يحيى الذهلي: هذا الحديث عندنا غير محفوظ عن أنس، ولكن المحفوظ عندنا عن قتادة عن الحسن عن عمران اه وسكت الذهبي، ولأكثره شواهد ومنها الآتي، فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٦٥٩ و ١٦٦٠ و «تفسير القرطبي» ٤٣٦٧ و ٤٣٦٨ و ٤٣٦٩ بتخريجنا. ولله الحمد والمنة.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٤٨ و ٤٧٤١ و ٦٥٣١ ومسلم ٢٢٢ وأحمد ٣/ ٣٢ و ٣٣ والطبري ٢٤٩٠٧ و ٢٤٩٠٨ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٧١ والبغوي ٤٢٢٠ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد». قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ قال: «أبشروا فإن منكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف». ثم قال: «والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا. فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فكبّرنا. فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة. فكبّرنا فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود». لفظ البخاري.
221
السماء السابعة، فبينما هم كذلك إِذ جاءتهم الريح فماتوا. وقال مقاتل: هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى، وذلك أن منادياً ينادي من السماء: يا أيها الناس أتى أمر الله فيفزعون فزعاً شديداً فيشيب الصغير، وتضع الحوامل.
قوله تعالى: شَيْءٌ عَظِيمٌ أي: لا يوصف لعِظَمه.
قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها
يعني: الزّلزلة تَذْهَلُ
فيه قولان: أحدهما: تسلو عن ولدها، وتتركه، قاله ابن قتيبة. والثاني: تُشْغَل عنه، قاله قطرب، ومنه قول ابن رواحة:
ويذهل الخليل عن خليله
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «تُذهِل» برفع التاء وكسر الهاء «كلَّ» بنصب اللام. قال الأخفش: وإِنما قال: «مرضعة»، لأنه أراد- والله أعلم- الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى، لقال:
«مرضع». قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهو يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا تكون حبلى.
قوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن يعمر، «وتُرى» بضم التاء.
ومعنى «سكارى» : من شدة الخوف وَما هُمْ بِسُكارى
من الشراب، والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم، لشدة ما يمرُّ بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «سَكْرى وما هم بسَكْرى» وهي قراءة ابن مسعود. قال الفراء: وهو وجه جيد، لأنه بمنزلة الهَلْكى والجَرْحى. وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن السميفع: «سَكارى وما هم بسَكارى» بفتح السين والراء وإِثبات الألف، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
فيه دليل على أن سكرهم من خوف عذابه.
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث. وفيما جادل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان كلَّما نزل شيء من القرآن كذَّب به، قاله ابن عباس. والثاني: أنه زعم أن الملائكة بنات الله، قاله مقاتل. والثالث: أنه قال: لا يقدر الله على إِحياء الموتى، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: إِنما يقوله بإغواءِ الشيطان، لا بعلم وَيَتَّبِعُ ما يسوِّل له كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ وقد ذكرنا معنى «المريد» في سورة النساء «١». قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ «كُتب» بمعنى: قُضي. والهاء في «عليه» وفي «تولاه» كناية عن الشيطان. ومعنى الآية:
قضي على الشيطان أَنَّه يُضِلُّ مَن اتَّبعه. وقرأ أبو عمران الجوني: «كَتب» بفتح الكاف «أنه» بفتح الهمزة «فإنه» بكسر الهمزة وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وابن أبي ليلى، والضحاك، وابن يعمر: «إِنه» «فإِنه» بكسر الهمزة فيهما. وقد بيَّنَّا معنى «السّعير» في سورة النّساء «٢».
(١) سورة النساء: ١١٧.
(٢) سورة النساء: ١٠.
222

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٧]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني: أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي: في شك من القيامة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: خَلْقَ آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: خَلْقَ ولده، والمعنى: إِن شككتم في بعثكم فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقاً بين الابتداء والاعادة.
فأما النطفة، فهي المني. والعلقة: دم عبيط جامد. وقيل: سميت علقة لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به، فإذا جفَّت فليست علقةً. والمضغة: لحمة صغيرة. قال ابن قتيبة: وسميت بذلك، لأنها بقدر ما يُمضغ، كما قيل: غرفة لقدر ما يُغرَف.
قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فيه خمسة أقوال «١» : أحدها: أن المخلَّقة: ما خُلق سويّاً، وغير المخلَّقة: ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم قبل أن يكون خَلْقاً، قاله ابن مسعود. والثاني: أن المخلَّقة: ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولَد حيّاً لتمامٍ، وغير المخلَّقة: ما سقط غير حيّ لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه، هذا معنى قول ابن عباس. والثالث: أن المخلَّقة: المصوَّرة، وغير المخلَّقة: غير مصوَّرة، قاله الحسن. والرابع: أن المخلَّقة وغير المخلَّقة: السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صُوِّر بعضه، وتارة قد صُوِّر كلُّه، قاله السدي. والخامس: أن المخلَّقة: التامة، وغير المخلَّقة: السقط، قاله الفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقناكم لنبيِّن لكم ما تأتون وما تذَرون.
والثاني: لنبيِّن لكم في القرآن بُدُوَّ خَلْقِكم، وتنقُّلَ أحوالكم. والثالث: لنبيِّن لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم. والرابع: لنبيِّن لكم أن البعث حق.
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: «ليبيّن لكم» بالياء.
قوله تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: «ويقرّ» بياء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو إِسحاق السَّبيعي: «ويُقِرَّ» بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء.
والذي يُقَرُّ في الأرحام، هو الذي لا يكون سقطاً، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أجل الولادة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا قال أبو عبيدة: هو في موضع أطفال، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع، قال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «٢» أي: ظهراء، وأنشد:
(١) قال الطبري رحمه الله ٩/ ١١١: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: المخلّقة: المصورة خلقا تاما، وغير مخلّقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير.
(٢) سورة التحريم: ٤.
فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصّدور «١»
وأنشد أيضا:
في خلقكم عظمٌ وقد شَجينا
وقال غيره: إِنما قال: «طفلاً» فوحَّد، لأن الميم في قوله تعالى: نُخْرِجُكُمْ قد دلَّت على الجميع، فلم يحتج إِلى أن يقول: أطفالاً. قوله تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا فيه إِضمار، تقديره: ثم نعمِّركم لتبلغوا أشدّكم، وقد سبق معنى «الأشد» «٢»، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى من قبل بلوغ الأشُدِّ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وقد شرحناه في النحل «٣».
ثم إِن الله تعالى دلَّهم على إِحيائه الموتى باحيائه الأرض، فقال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً قال ابن قتيبة: أي: ميتة يابسة، ومثله: همدت النار: إِذا طفئت فذهبت. قوله تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ يعني: المطر اهْتَزَّتْ أي: تحرَّكت للنبات، وذلك أنها ترتفع عن النبات إِذا ظهر، فهو معنى قوله تعالى: وَرَبَتْ أي: ارتفعت وزادت. وقال المبرِّد: أراد: اهتزَّ نباتها وربا، فحذف المضاف. قال الفراء: وقرأ أبو جعفر المدني: «وربأَت» بهمزة مفتوحة بعد الباء. فإن كان ذهب إِلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم، أي: أنه يرتفع، وإِلا، فهو غلط. قوله تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قال ابن قتيبة: من كل جنس حَسَنٍ يبهج، أي: يسرُّ، وهو فعيل في معنى فاعل.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك كما وصف لكم. والأجود أن يكون موضع «ذلك» رفعاً، ويجوز أن يكون نصباً على معنى: فعل الله ذلك بأنه هو الحق.
قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ أي: ولتعلموا أنّ الساعة آتِيَةٌ.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ قد سبق بيانه. وهذا مما نزل في النضر أيضاً. والهدى:
البيان والبرهان. قوله تعالى: ثانِيَ عِطْفِهِ العِطف: الجانب. وعِطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإِنسان ويلويه عند إِعراضه عن المشي. قال الزجاج: «ثانيَ» منصوب على الحال، ومعناه: التنوين، معناه: ثانياً عِطفه. وجاء في التفسير: أن معناه: لاوياً عنقه، وهذا يوصف به المتكبِّر، والمعنى: ومن الناس من يجادل بغير علم متكبِّراً. قوله تعالى: لِيُضِلَّ أي: ليصير أمره إِلى الضلال، فكأنَّه وإِن لم يقدَّر أنه يضل، فإن أمره يصير إِلى ذلك، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو ما أصابه يوم بدر، وذلك أنه قُتل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «٤» إِلى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ وفي سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أن ناساً من العرب كان يأتون
(١) البيت لعباس بن مرداس، كما في «الخزانة» ١/ ٧٣ و «الأغاني» ١/ ٧٣.
(٢) سورة الأنعام: ١٥٣.
(٣) سورة النحل: ٧٠.
(٤) سورة يونس: ٧٠. [.....]
رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيقولون: نحن على دينك، فإن أصابوا معيشةً، ونتجت خيلهم، وولدت نساؤهم الغلمان اطمأنّوا وقال: هذا دينُ حقٍّ، وإِنْ لم يَجْرِ الأمر على ذلك قالوا: هذا دين سوءٍ، فينقلبون عن دينهم، فنزلت هذه الآية، هذا معنى قول ابن عباس، وبه قال الأكثرون «١».
(١٠٠٤) والثاني: أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإِسلام، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أقلني، فقال: «إِن الإِسلام لا يقال». فقال: إِني لم أُصِب في ديني هذا خيراً، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: «يا يهودي: إِن الإِسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب»، فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
قوله تعالى: عَلى حَرْفٍ قال مجاهد، وقتادة: «على شكٍّ»، قال أبو عبيدة: كل شاكٍّ في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم. وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكِّن منه فشبِّه به الشاكُّ، لأنه قّلِقٌ في دينه على غير ثبات، ويوضحه قوله تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي: رخاءٌ وعافية اطْمَأَنَّ بِهِ على عبادة الله وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار بجدب وقلّة مال انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي: رجع عن دينه إِلى الكفر. والمعنى: انصرف إِلى وجهه الذي توجه منه، وهو الكفر، خَسِرَ الدُّنْيا حيث لم يظفر بما أراد منها، وَخسر الْآخِرَةَ بارتداده عن الدين. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو مجلز، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وابن أبي عبلة، وزيد عن يعقوب: «خاسِرَ الدنيا» بألف قبل السين، وينصب الراء «والآخرة» بخفض التاء. يَدْعُوا هذا المرتدّ، أي: يعبد ما لا يَضُرُّهُ إِن لم يعبده ولا يَنْفَعُهُ إِن أطاعه ذلِكَ الذي فعل هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحقّ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ قال بعضهم: اللام صلة، والمعنى: يدعو مَن ضره. وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير، والمعنى: يدعو مَنْ لضرِّه أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، قال: وشرح هذا أنّ اللام لليمين والتّوكيد،
ضعيف ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٨ عن عطية العوفي عن أبي سعيد وعطية هو ابن سعد الكوفي، وهو ضعيف واه. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٤/ ٦٢٤ من طريق عطية عن أبي سعيد به. وله شاهد من حديث جابر، أخرجه العقيلي ٣/ ٣٦٨، وفيه عنبسة بن سعيد، وهو ضعيف متروك. ثم إن السورة مكية في قول الجمهور، وأخبار يهود مدنية. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٦٦٣ بتخريجي.
__________
(١) موقوف، صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٤٢ عن ابن عباس قال: ومن الناس من يعبد الله على حرف قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. ولم يذكر سبب نزول الآية: وذكره بنحوه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٧ وفيه سبب نزول الآية.
فحقُّها أن تكون أول الكلام، فقدِّمت لتجعل في حقِّها. قال السدي: ضره في الآخرة بعبادته إِياه أقربُ من نفعه.
فإن قيل: فهل للنفع من عبادة الصنم وجه؟ فالجواب: أنه لا نفع من قِبَلِه أصلاً، غير أنه جاء على لغة العرب، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون: هذا بعيد.
قوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ قال ابن قتيبة: المولى: الولي. والعشير: الصاحب، والخليل.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٧]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد، وغطفان، قالوا: إِنا نخاف أن لا يُنْصَرَ محمدٌ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، وإِلى نحو هذا ذهب أبو حمزة الثمالي، والسدي «١». وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الإِشارة بهذه الآية إِلى الذين انصرفوا عن رسول الله لأن أرزاقهم ما اتَّسعت، وقد شرحنا القصة في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «٢». وفي هاء «ينصره» قولان «٣» : أحدهما: أنها ترجع على «مَن»، والنصر: بمعنى الرزق، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر، فقال: مَنْ ينصرني نصره الله، أي: من يعطيني أعطاه الله، ويقال: نصر المطر أرض كذا، أي:
جادها، وأحياها، قال الرّاعي:
وانصري أرض عامر «٤»
(١) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا الخبر لا شيء.
وذكره الطبري ٩/ ٢٠ بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد.
(٢) سورة الحج: ١١.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٩/ ١٢٠: وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلّم ودينه، وذكر هذه الآية توبيخا لمن ارتدوا عن دينهم، وشكوا فيه، استبطاء منهم السعة في العيش، أو السبوغ في الرزق، فمن كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سني عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم فليمدد بحبل إلى سماء فوقه:
إما سقف بيت، أو غيره، مما يعلق به السبب من فوقه ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجل قبل حينه. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٦٤ وقال: وهو الأولى والأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم، فإن المعنى: من ظن أن الله ليس بناصر محمدا صلى الله عليه وسلّم وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه، إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. ولهذا قال: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ.
(٤) هو جزء من عجز بيت وتمامه:
والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة. قال ابن قتيبة: وهذه كناية عن غير مذكور، وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين، يريدون اتَّباعه، ويخشَوْن أن لا يتم أمره، فقال هذه الآية للفريقين. ثم في معنى هذا النصر قولان: أحدهما: أنه الغلبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه الرزق، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ في المراد بالسماء قولان: أحدهما: سقف بيته، والمعنى: فليشدد حبلاً في سقف بيته، فليختنق به ثُمَّ لْيَقْطَعْ الحبل ليموت مختنقاً، هذا قول الأكثرين. ومعنى الآية: ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله، لأنه إِذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم.
والثاني: أنها السماء المعروفة، والمعنى: فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِن قدر، قاله ابن زيد. قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْطَعْ قرأ أبو عمرو، وابن عامر: «ثم ليقطع» «ثم ليقضوا» «١» بكسر اللام. زاد ابن عامر «وليوفوا» «٢» «وليطوفوا» «٣» بكسر اللام أيضاً. وكسر ابن كثير لام «ثم لِيقضوا» فحسب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن إِذا كان قبلها واوٌ أو فاءٌ أو ثم، قال الفراء: من سكَّن فقد خفف، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء، فأكثر كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم. قال أبو علي: الأصل الكسر، لأنك إِذا ابتدأت قلت: ليقم زيد. قوله تعالى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ قال ابن قتيبة: المعنى: هل تُذهبن حيلتُه غيظَه، والمعنى: ليجهد جهده.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن.
وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي: يقضي يَوْمَ الْقِيامَةِ بينهم بادخال المؤمنين الجنة والآخرين النار إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم شَهِيدٌ.
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ أي: ألم تعلم. وقد بيَّنَّا في سورة النحل «٤» معنى السجود «٥» في حق من يعقل، ومن
(١) سورة الحج: ٢٩.
(٢) سورة الحج: ٢٩.
(٣) سورة الحج: ٢٩.
(٤) سورة النحل: ٤٩.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٦٥: يخبر الله تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنّه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ فأخبر أن كل ماله ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال أي- بكرة وعشيا- فإنه ساجد بظله لله تعالى وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه.
وروى أحمد في حديث الكسوف: «إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله إذا تجلّى لشيء من خلقه خشع له».
لا يعقل. قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله. وفي قوله تعالى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ قولان: أحدهما: أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلّهم، قاله مقاتل. والثاني: أنهم لا يسجدون والمعنى: وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب، لتركه السجود، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أي: من يُشْقِه الله فما له من مُسْعِدٍ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ في خلقه من الكرامة والإهانة.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)
قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال «١» :
(١٠٠٥) أحدها: أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنَي ربيعة، والوليد بن عتبة، هذا قول أبي ذر.
(١٠٠٦) والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبيُّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيِّكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون نبيَّنا ثم كفرتم به حسداً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثالث: أنها في جميع المؤمنين والكفار، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن وعطاء، ومجاهد.
والرابع: أنها نزلت في اختصام الجنة والنار، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، قاله عكرمة.
فأما قوله تعالى: هذانِ وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة وابن كثير: «هاذانّ» بتشديد النون «خصمان»، فمعناه: جمعان وليسا برجلين، ولهذا قال تعالى: اخْتَصَمُوا ولم يقل:
صحيح. أخرجه البخاري ٨/ ٣٩٦ و ٣٩٦٩ و ٣٩٦٦ ومسلم ٣٠٣٣ والنسائي في «التفسير» ٣٦١ وابن ماجة ٢٨٣٥ والطبري ٢٤٩٧٩ والواحدي في «أسباب النزول» ٦١٩ والبغوي ٢٧٠١ من حديث أبي ذر.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٤٩٨٤ عن ابن عباس برواية العوفي عنه، وهي رواية واهية، العوفي واسمه عطية بن سعد وهو واه، وعنه مجاهيل.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٩/ ١٢٤: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، وأشيهها بتأويل الآية: قول من قال:
عني بالخصمين: جميع الكفار من أي أصناف الكفار كانوا، وجميع المؤمنين ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٦٧ وقال: وهذا اختيار ابن جرير، وهو حسن ويشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل.
اختصما على أنه قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «اختصما».
وفي خصومتهم ثلاثة أقوال: أحدها: في دين ربِّهم، وهذا على القولين تبقى كما هي. والثاني:
في البعث، قاله مجاهد. والثالث: أنه خصام مفاخرة، على قول عكرمة.
قوله تعالى: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي: سُوِّيت وجُعلت لباساً. قال ابن عباس: قُمُص من نار، وقال سعيد بن جبير: المراد بالنار ها هنا: النحاس. فأما «الحميم» فهو الماء الحارُّ يُصْهَرُ بِهِ قال الفراء: يذاب به، يقال: صهرت الشحم بالنار. قال المفسرون: يذاب بالماء الحارِّ ما فِي بُطُونِهِمْ من شحم أو مِعىً حتى يخرج من أدبارهم، وتنضج الجلود فتتساقط من حرِّه، وَلَهُمْ مَقامِعُ قال الضحاك:
هي المطارق. وقال الحسن: إِن النار ترميهم بلهبها، حتى إِذا كانوا في أعلاها، ضُرِبوا بمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفاً، فإذا انتهوا إِلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها، فلا يستقرُّون ساعة. قال مقاتل: إِذا جاشت جهنم، ألقتهم في أعلاها، فيريدون الخروج، فتتلقَّاهم خزنة جهنم بالمقامع، فيضربونهم، فيهوي أحدهم من تلك الضربة إِلى قعرها. وقال غيره: إِذا دفعتهم النار، ظنوا أنها ستقذفهم خارجاً منها، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
قوله تعالى: وَلُؤْلُؤاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «ولؤلؤ» بالخفض. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «ولُؤْلُؤاً» بالنصب. قال أبو عليّ: من خفض، فالمعنى: يحلَّون أساور من ذهب ومن لؤلؤٍ ومن نصب قال: ويحلّون لؤلؤا قال الزّجّاج: واللؤلؤ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر. قوله تعالى: وَهُدُوا أي: أُرْشِدوا في الدنيا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله، والحمد لله» قاله ابن عباس. وزاد ابن زيد «والله أكبر». والثاني: القرآن، قاله السدي. والثالث: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حكاه الماوردي. فأما «صراط الحميد» فقال ابن عباس: هو طريق الإسلام.
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
قوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: يمنعون الناس من الدخول في الإِسلام. قال الزجاج: ولفظ «يصدون» لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي، لأن معنى «الذين كفروا» : الذين هم كافرون، فكأنه قال: إِن الكافرين والصَّادِّين فأما خبر «إِنَّ» فمحذوف، فيكون المعنى: إِن الذين هذه صفتهم هلكوا.
وفي «المسجد الحرام» قولان: أحدهما: جميع الحرم. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون الحرم كلَّه مسجداً. والثاني: نفس المسجد، حكاه الماوردي.
229
قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ هذا وقف التمام. وفي معناه قولان: أحدهما: جعلناه للنَّاس كلِّهم، لم نخصَّ به بعضهم دون بعض، هذا على أنه جميع الحرم. والثاني: جعلناه قبلة لصلاتهم، ومنكسا لحجِّهم، وهذا على أنه نفس المسجد. وقرأ ابراهيم النخعي، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم: «سواءً» بالنصب، فيتوجه الوقف على «سواء»، وقد وقف بعض القراء كذلك. قال أبو علي الفارسي: أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. فأما العاكف: فهو المقيم، والبادي: الذي يأتيه من غير أهله، وهذا من قولهم:
بدا القوم: إِذا خرجوا من الحضر إِلى الصحراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «البادي» بالياء، غير أن ابن كثير، وقف بياء، وأبو عمرو بغير ياء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، والمسيّبي عن نافع بغير ياء في الحالتين.
ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحقَّ بالمنزل من الآخر، غير أنه لا يُخرَج أحدٌ من بيته، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة وإِلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام «١»، هذا على أن المسجد: الحرم كلّه. والثاني: أنها يستويان في تفضيله وحرمته وإِقامة المناسك به، هذا قول الحسن، ومجاهد. ومنهم من أجاز بيع دور مكة، وإِليه يذهب الشافعي. وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرام، ويجوز أن يراد نفس المسجد.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ الإِلحاد في اللغة: العدول عن القصد، والباء زائدة، كقوله
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٦/ ٣٦٤- ٣٦٦: واختلفت الرواية في بيع رباع مكة، وإجارة دورها. فروي أن ذلك غير جائز. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والثوري، وأبي عبيد.
وكرهه إسحاق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مكة حرام بيع رباعها، حرام إجارتها» رواه سعيد بن منصور، كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة، ولم يقسموها والدليل على أن مكة فتحت عنوة، قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» متفق عليه. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، بقتل أربعة، فقتل منهم ابن خطل، ومقيس بن صبابة، وهذا يدل على أنها فتحت عنوة.
والرواية الثانية، أنه يجوز بيع رباعها، وإجارة بيوتها. روي ذلك عن طاوس وعمرو بن دينار وهذا قول الشافعي وابن المنذر. وهو أظهر في الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قيل له: أين ننزل غدا؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟» متفق عليه يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب، لأنه ورثه دون إخوته، لكونه كان على دينه دونهما، فلو كانت غير مملوكة، لما أثر بيع عقيل شيئا، ولأن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت لهم دور بمكة لأبي بكر، والزبير، وحكيم، فمنهم من باع ومنهم من ترك داره، فهي في يد أعقابهم ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره، ولم ينكره منكر، فكان إجماعا. وكونها فتحت عنوة، الصحيح الذي لا يمكن دفعه إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم. وعلى القول الأول: إن سكن بأجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة، جاز له ذلك وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة، وهرب، ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه. وذكر لأحمد فعل سفيان، فتبسم، فظاهر هذا، أنه أعجبه. قال ابن عقيل:
والخلاف في غير مواضع المناسك، أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي فحكمه حكم المساجد، بغير خلاف.
230
تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «١»، وأنشدوا:
إِذا أدبر الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ «٢»
المعنى: وأسفله ينبت المرخ وقال آخر:
هُنَّ الحرائر لا ربَّاتُ أَخْمِرَةٍ سودُ المحاجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ «٣»
وقال آخر:
نحن بَنو جَعْدة أربابُ الفَلَج نَضرِب بالسَّيف ونرجو بالفَرَج «٤»
هذا قول جمهور اللغويين. قال ابن قتيبة: والباء قد تزاد في الكلام، كهذه الآية، وكقوله تعالى:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «٥» وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «٦» بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) «٧» تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ «٨» عَيْناً يَشْرَبُ بِها «٩» أي: يشربها وقد تزاد «من»، كقوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «١٠»، وتزاد «اللام» كقوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ «١١»، والكاف، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «١٢»، و «عن»، كقوله تعالى: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «١٣»، و «إنّ»، كقوله تعالى فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «١٤» و «إِنْ» الخفيفة، كقوله تعالى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «١٥»، و «ما»، كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «١٦»، و «الواو»، كقوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ «١٧».
وفي المراد بهذا الإِلحاد خمسة أقوال «١٨» : أحدها: أنه الظلم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: هو عمل سيئة فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال:
لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة إِلحاد بظلم. والثاني: أنه الشرك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال الحسن، وقتادة. والثالث: الشرك والقتل، قاله عطاء. والرابع: أنه استحلال محظورات الإِحرام، وهذا المعنى محكيٌّ عن عطاء أيضاً. والخامس: استحلال الحرام تعمُّداً، قاله ابن جريج.
(١) سورة المؤمنون: ٢٠.
(٢) البيت: للأحوال اليشكري واسمه يعلى كما في «اللسان» - شث- و «مجاز القرآن» ٢/ ٤٨ والشّث: شجر طيب الريح، مرّ الطعم يدبغ به. والمرخ: شجر كثير الوري سريعه، وفي المثل: في كل شجر نار، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ واستمجد: استفضل، ومنه الزناد الذي يقتدح به. والشبهان: نبت يشبه الثّمام. [.....]
(٣) البيت في «اللسان» - سور- و «مجاز القرآن» ١/ ٤ و «الخزانة» ٣/ ٦٦٨.
(٤) البيت لراجز من بني جعدة كما في «الخزانة» ٤/ ١٥٩.
(٥) سورة العلق: ١.
(٦) سورة مريم: ٢٤.
(٧) سورة القلم: ٦.
(٨) سورة الممتحنة: ١.
(٩) سورة الإنسان: ٦.
(١٠) سورة الذاريات: ٥٧.
(١١) سورة الأعراف: ١٥٤.
(١٢) سورة الشورى: ١١.
(١٣) سورة النور: ٦٣.
(١٤) سورة الجمعة: ٨.
(١٥) سورة الأحقاف: ٢٦.
(١٦) سورة المؤمنون: ٤٠. [.....]
(١٧) سورة الصافات: ١٠٣، ١٠٤.
(١٨) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٣٢: وأولى الأقوال بالصواب قول ابن عباس وابن مسعود: من أنه معني بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص، فهو على عمومه.
231
فإن قيل: هل يؤاخذ الإِنسان إِن أراد الظلم بمكة، ولم يفعله؟ فالجواب من وجهين: أحدهما:
أنه إِذا همَّ بذلك في الحرم خاصَّة، عوقب، هذا مذهب ابن مسعود، فإنه قال: لو أن رجلاً همَّ بخطيئة، لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت، وهو ب «عَدَنِ أَبْيَن»، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم. وقال الضحاك: إِن الرجل ليهمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها. وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات. وسئل الإِمام أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إِلا بمكة لتعظيم البلد. وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها وقد جاور جابر بن عبد الله، وكان ابن عمر يقيم بها «١». والثاني: أن معنى: «ومن يرد» : من يعمل. قال أبو سليمان الدمشقي: هذا قول سائر من حفظنا عنه.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا قال ابن عباس: جعلنا. وقال مقاتل: دللناه عليه، وقال ثعلب: وإِنما أدخل اللام، على أنَّ «بوَّأْنا» في معنى: جعلنا، فيكون بمعنى «ردف لكم» «٢» أي: ردفكم. وقد شرحنا كيفية بناء البيت في سورة البقرة «٣». قوله تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً المعنى: وأوحينا إِليه ذلك وَطَهِّرْ بَيْتِيَ حرَّك هذه الياء، نافع وحفص عن عاصم. وقد شرحنا الآية في البقرة «٤». وفي المراد ب «القائمين» قولان: أحدهما: القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور. والثاني: المقيمون بمكة، حكي عن قتادة.
قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قال المفسرون: لما فرغ إِبراهيم من بناء البيت، أمره الله تعالى أن يؤذِّن في الناس بالحج، فقال إِبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعليَّ البلاغ، فعلا على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس: إِن ربكم قد بنى بيتاً، فحجُّوه، فأسمع مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج، فأجابوه: لبيك اللهم لبيك. والأذان بمعنى النداء والإِعلام، والمأمور بهذا الأذان، إِبراهيم في قول الجمهور، إلّا ما روي عن الحسن أنه قال: المأمور به محمد صلى الله عليه وسلّم والناس ها هنا: اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور، إِلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٥/ ٤٦٤: قال أحمد: كيف لنا بالجوار بمكة! قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها، وجابر بن عبد الله جاور بمكة، وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر. أي لا بأس به. وكان ابن عمر يقيم بها. قال: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه، لأنها مهاجر المسلمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا يصبر أحد على لأوائها وشدّتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة».
(٢) سورة النمل: ٧٢.
(٣) سورة البقرة: ١٢٩.
(٤) سورة البقرة: ١٢٥.
232
قال: عنى بالناس أهل القبلة.
واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إِليه إِبراهيم، فكأنه قد أتى إِبراهيم، لأنه أجاب نداءه. وواحد الرجال ها هنا: راجل، مثل صاحب، وصحاب، والمعنى: يأتوك مشاةً. وقد روي أن إِبراهيم وإِسماعيل حجّا ماشيين، وحج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً من المدينة إِلى مكة، والنجائب تُقَاد معه. وحج الإِمام أحمد ماشياً مرتين أو ثلاثاً «١».
قوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي: ركباناً على ضُمَّر من طول السفر. قال الفرّاء: «ويأتين» فعل للنوق. وقال الزجاج: «يأتين» على معنى الإِبل. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «يأتون» بالواو.
قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي: طريق بعيد. وقد ذكرنا تفسير الفجِّ عند قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً.
قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا أي: ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: التجارة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: منافع الآخرة، قاله سعيد بن المسيب، والزجاج في آخرين. والثالث:
منافع الدارين جميعاً، قاله مجاهد. وهو أصح، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإِنما الأصل قصدُ الحج والتجارة تَبَع.
وفي الأيام المعلومات ستة أقوال «٢» : أحدها: أنها أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عمر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة ومجاهد، وقتادة والشافعي.
والثاني: تسعة أيام من العشر، قاله أبو موسى الأشعري. والثالث: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، رواه نافع عن ابن عمر، ومقسم عن ابن عباس. والرابع: أنها أيام التشريق، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء الخراساني، والنخعي، والضحاك. والخامس: أنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والسادس: ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، قاله مالك بن أنس. وقيل: إِنما قال:
«معلومات»، ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحجّ في آخرها. قال الزّجّاج: والذّكر ها هنا يدل على التسمية على ما يُنحَر، لقوله تعالى: عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قال القاضي أبو يعلى: ويحتمل أن يكون الذّكر المذكور ها هنا: هو الذِّكر على الهدايا الواجبة، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران، ويحتمل أن يكون الذِّكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق، لأن الآية عامّة في ذلك.
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٣٩: لا خلاف في جواز الركوب والمشي. واختلفوا في الأفضل منهما فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب.
(٢) قال أبو جعفر رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٣١٧: وصف الله جلّ ذكره «المعلومات» بأنها أيام يذكر اسم الله على بهائم الأنعام. فكان معلوما، إذ قال صلى الله عليه وسلّم لأيام التشريق إنها أيام أكل وشرب وذكر الله فأخرج قوله: «وذكر الله» مطلقا بغير شرط، ولا إضافة إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام، أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقا بغير شرط، ولا إضافة إلى معنى في «الأيام المعدودات». ويعني جل ذكره:
اذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام محصيات، وهي أيام رمي الجمار. وإنما قلنا إن «الأيام المعدودات» هي أيام منى وأيام رمي الجمار، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.
233
قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها يعني: الأنعام التي تُنحر وهذا أمر إِباحة. وكان أهل الجاهلية لا يستحلّون أكل ذبائحهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن لذلك جائز «١»، غير أن هذا إِنما يكون في الهدي المتطوَّع به، فأما دم التمتع والقران فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه، وقال الشافعي: لا يجوز، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: من كل الهدي يؤكل، إِلا ما كان من فداءٍ أو جزاءٍ أو نذر. فأما «البائس» فهو ذو البؤس، وهو شدة الفقر.
قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإِبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: مناسك الحج، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر.
والثالث: حلق الرأس، قاله مجاهد. والرابع: الشعر، والظفر، قاله عكرمة.
والقول الأول أصح، لأن التفث: الوسخ، والقذارة: من طول الشعر والأظفار والشعث.
وقضاؤه: نقضه، وإِذهابه، والحاج مغبَّر شعث لم يدَّهن، ولم يستحدَّ، فإذا قضى نسكه، وخرج من إِحرامه بالحلق، والقلم، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه. قال الزجاج:
وأهل اللغة لا يعرفون التفث إِلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإِحرام إِلى الإِحلال.
قوله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وروى أبو بكر عن عاصم: «ولْيوفّوا» بتسكين اللام وتشديد الفاء. وقال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البُدن. وقال غيره: ما نذروا من أعمال البرِّ في أيام الحج، فإن الإِنسان ربما نذر أن يتصدّق إن رزقه رؤية الكعبة، وقد يكون عليه نذور مطلقة، فالأفضل أن يؤدِّيَها بمكة.
قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذا هو الطواف الواجب، لأنه أُمر به بعد الذبح، والذبح إِنما يكون في يوم النحر، فدل على أنه الطواف المفروض.
وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أقوال: أحدها: لأنّ الله تعال أعتقه من الجبابرة.
(١٠٠٧) روى عبد الله بن الزّبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله
ضعيف. أخرجه الترمذي ٣١٧٠ والحاكم ٢/ ٣٨٩/ ٣٤٦٥ والطبري ٢٥١١٧ من حديث عبد الله بن الزبير.
صححه الحاكم على شرط البخاري، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد روي عن الزهري مرسلا. ومرسل الزهري أخرجه الطبري ٢٥١١٨ والمرفوع المتصل ضعيف، لأن مداره على عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقع له مناكير بسبب جار له، كان يدس في كتبه. كما قال العلماء، راجع «الميزان»
. وذكر ابن كثير الاختلاف فيه، فروي متصلا ومرسلا وموقوفا على ابن الزبير وموقوفا على مجاهد، فالحديث ضعيف، والأشبه أن يكون موقوفا، ولو صح ما اختلفوا في سبب تسميته والله أعلم. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٤١٨ بتخريجنا.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٣٧٩: والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، ولو أكل أكثر جاز. والأمر للاستحباب في قوله: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قال أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله: يأكل هو الثلث، ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث. قال علقمة: بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا، وأن أرسل إلى أخيه بثلث، وأن أتصدق بثلث. وعن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين، وهذا قول إسحاق، وأحد قولي الشافعي. وقال في آخر: يجعلها نصفين، يأكل نصفا ويتصدّق بنصف. وقال أصحاب الشافعي:
يجوز أكلها كلها. وقال أصحاب الرأي: ما كثر من الصدقة فهو أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة، وأمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فأكل هو وعليّ من لحمها، وحسيا من مرقها. ونحر خمس بدنات أو ست بدنات، وقال: «من شاء فليقتطع». ولم يأكل منهن شيئا. لأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها، فلم يجب الأكل منها. والأمر للاستحباب أو للإباحة.
234
أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبَّار قط» وهذا قول مجاهد، وقتادة.
والثاني: أن معنى العتيق: القديم، قاله الحسن، وابن زيد. والثالث: لأنه لم يملك قط، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة. والرابع: لأنه أُعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب، وقد تكلَّمنا في هذه السورة في «ليقضوا» «وليوفوا» «وليطوفوا».
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك، يعني: ما ذكر من أعمال الحج وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فيجتنب ما حرم الله عليه في الإِحرام تعظيماً لأمر الله. قال الليث: الحرمة: ما لا يحلُّ انتهاكه. وقال الزجاج: الحرمة: ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه. قوله تعالى: فَهُوَ يعني: التعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وقد سبق بيانها «١» إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه، يعني به: ما ذكر في سورة المائدة من المنخنقة وغيرها. وقيل: وأُحلت لكم الأنعام في حال إِحرامكم، إِلا ما يتلى عليكم في الصيد، فإنه حرام. قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أي: دعوه جانباً، قال الزجاج: و «من» ها هنا، لتخليص جنس من الأجناس، المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن. وقد شرحنا معنى الرجس في المائدة «٢». وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال: أحدها: شهادة الزور، قال ابن مسعود. والثاني: الكذب، قاله مجاهد. والثالث: الشرك، قاله أبو مالك. والرابع: أنه قول المشركين في الأنعام: هذا حلال، وهذا حرام، قاله الزجاج، قال: وقوله تعالى: حُنَفاءَ لِلَّهِ منصوب على الحال، وتأويله: مسلمين لا يُنسَبون إِلى دين غير الإِسلام. ثم ضرب الله مثلاً للمشرك، فقال وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ إِلى قوله تعالى: سَحِيقٍ، والسحيق: البعيد.
واختلفوا في قراءة «فتخطَفُه» فقرأ الجمهور: «فتخطَفُه» بسكون الخاء من غير تشديد الطاء. وقرأ نافع: بتشديد الطاء، وقرأ أبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء.
وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء. وقرأ
(١) في سورة المائدة: ١.
(٢) سورة المائدة: ٩٠.
الحسن، والأعمش: بفتح التاء وكسر وتشديد الطاء ورفع الفاء. وكلُّهم فتح الطاء. وفي المراد بهذا المثَل قولان: أحدهما: أنه شبَّه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه، بالذي يَخِرُّ من السماء، قاله قتادة. والثاني: أنه شبَّه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة، بحال الهاوي من السماء، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قد شرحنا معنى الشعائر في البقرة «١». وفي المراد بها ها هنا قولان: أحدهما: أنها البدن. وتعظيمها: استحسانها واستسمانها لَكُمْ فِيها مَنافِعُ قبل أن يُسمِّيَها صاحبها هدياً، أو يشعرها ويوجبها، فإذا فعل ذلك، لم يكن له من منافعها شيء، روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضّحّاك.
وقال عطاء بن أبي رباح: لكم في هذه الهدايا منافع بعد إِيجابها وتسميتها هدايا إِذا احتجتم إِلى شيء من ذلك أو اضطررتم إِلى شرب ألبانها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أن تُنحَر. والثاني: أن الشعائر: المناسك ومشاهد مكة والمعنى: لكم فيها منافع بالتجارة إِلى أجلٍ مسمَّى، وهو الخروج من مكة، رواه أبو رزين عن ابن عباس. وقيل: لكم فيها منافع من الأجر، والثواب في قضاء المناسك إِلى أجل مسمى، وهو انقضاء أيام الحج.
قوله تعالى: فَإِنَّها يعني الأفعال المذكورة، من اجتناب الرجس وقول الزور، وتعظيم الشعائر. وقال الفراء: «فإنها» يعني الفعلة مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، وإِنما أضاف التقوى إِلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب. قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها أي: حيث يَحِلُّ نحرها إِلَى الْبَيْتِ يعني:
عند البيت، والمراد به: الحرم كلُّه «٢»، لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت، ولا في المسجد، هذا على القول الاول، وعلى الثاني، يكون المعنى: ثم مَحِلّ الناس من إِحرامهم إِلى البيت، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قرأ حمزة، والكسائي، وبعض أصحاب أبي عمرو بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها: فمن أراد المصدر، من نَسَكَ يَنْسُكُ، ومن كسر أراد مكان النَّسْك كالمجلِس والمطلِع. ومعنى الآية: لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وإِنما خص بهيمة الأنعام، لأنها المشروعة في القُرَب.
والمراد من الآية: أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة. قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه فَلَهُ أَسْلِمُوا أي:
انقادوا واخضعوا. وقد ذكرنا معنى الإخبات في سورة هود «٣». وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه.
(١) سورة البقرة: ١٥٨.
(٢) تقدم الكلام عن محل الذبح في سورة المائدة.
(٣) سورة هود: ٢٣. [.....]

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]

وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
قوله تعالى: وَالْبُدْنَ وقرأ الحسن، وابن يعمر برفع الدال. قال الفراء: يقال: بُدْن وبُدُن، والتخفيف أجود وأكثر، لأن كل جمع كان واحده على «فَعَلة» ثم ضُمَّ أول جمعه، خُفِّف، مثل: أَكَمَة وأُكْم، وأَجَمَة وأُجْم، وخَشَبَة وخشب. وقال الزجاج: «البُدْنَ» منصوبة بفعل مُضمر يفسره الذي ظهر، والمعنى: وجعلنا البُدْنَ وإِن شئتَ رفعتها على الإِستئناف، والنصب أحسن ويقال: بُدْن وبُدُن وبَدَنة، مثل قولك: ثُمْر وثُمُر وَثَمرة وإِنما سمِّيت بَدَنَة، لأنها تَبْدُن، أي: تسمن.
وللمفسرين في البُدْن قولان: أحدهما: أنها الإِبل والبقر، قاله عطاء. والثاني: الإِبل خاصة، حكاه الزجاج، وقال: الأول قول أكثر فقهاء الأمصار. قال القاضي أبو يعلى: البدنة: اسم يختص الإِبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم.
(١٠٠٨) لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
قوله تعالى: جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: جعلنا لكم فيها عبادة لله، من سَوْقها إِلى البيت، وتقليدها، وإِشعارها «١»، ونحرها، والإِطعام منها، لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي: على نحرها، صَوافَّ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة:
«صَوافن» بالنون. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو العالية، والضحاك، وابن يعمر: «صوافي» بالياء.
وقال الزجاج: «صَوافَّ» منصوبة على الحال، ولكنها لا تنوَّن لأنها لا تنصرف أي: قد صفَّت قوائمها «٢»، والمعنى: اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها «٣» والبعير يُنحَر قائماً، وهذه الآية تدلّ
صحيح. أخرجه مسلم ١٣١٨ ح ٣٥٠ وأبو داود ٢٨٠٩ والترمذي ٩٠٤ وابن ماجة ٣١٣٢ والبغوي ١١٣٠ وابن حبان ٤٠٠٦ والبيهقي ٥/ ١٦٨- ١٦٩ و ٢١٦ و ٢٣٤ و ٩/ ٢٩٤ من حديث جابر أنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحديبية البقرة عن سبعة، والبدنة عن سبعة. لفظ مسلم.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٥/ ٤٥٥ فصل: ويسن إشعار الإبل والبقر، وهو أن يشق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها في قول عامة أهل العلم، وقال أبو حنيفة: هذا مثله غير جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام، فهو كقطع عضو منه. وقال مالك: إن كانت البقرة ذات سنام، فلا بأس بإشعارها، وإلا فلا، ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلّم ثم أشعرها وقلدها.
متفق عليه، ورواه ابن عباس وغيره، وفعله الصحابة، فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به... إذا ثبت هذا فالسنة الإشعار في صفحتها اليمنى، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال مالك وأبو يوسف: بل تشعر في صفحتها اليسرى وعن أحمد مثله.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٥/ ٢٩٨: والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر. وممن استحب ذلك مالك، والشافعي وإسحاق، وابن المنذر. واستحب عطاء نحرها باركة. وجوّز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك. ولنا، ما روى زياد بن جبير، قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته لينحرها، فقال: ابعثها قياما مقيّدة، سنة محمد صلى الله عليه وسلّم. متفق عليه.
وفي قوله تعالى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها دليل على أنها تنحر قائمة. وتجزئه كيفما نحر. قال أحمد: ينحر البدن معقولة على ثلاث توائم، وإن خشي عليها أن تنفر أناخها. وقال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» ٩/ ٦٩: يستحب نحر الإبل وهي قائمة معقولة اليد اليسرى. وأما البقر والغنم فيستحب أن تذبح مضطجعة على جنبها الأيسر، وتترك رجلها اليمنى، وتشد قوائمها الثلاث، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور، وقال أبو حنيفة والثوري: يستوي نحرها قائمة وباركة، وحكى القاضي- عياض- عن طاوس أن نحرها باركة أفضل، وهذا مخالف للسنة، والله أعلم.
(٣) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣/ ٣٨٤: وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة العيد وخطبته، فقد حل الذبح، ولا يعتبر نفس الصلاة، ولا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم. وهذا مذهب الشافعي، وابن المنذر، وظاهر كلام أحمد، وروي نحو هذا عن الحسن وقال أبو حنيفة: أما غير أهل الأمصار فأول وقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني. ولنا لما روى البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة، ثم الذبح، فمن ذبح قبل الصلاة، فتلك شاة لحم قدمها لأهله، ليس من النسك في شيء». ولنا آخر الذبح إلى آخر يومين من أيام التشريق نهارا. لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه. ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه، فلم تجز التضحية فيه، كالذي بعده. وممن قال بهذا القول من الصحابة- عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة. وروي عن علي، آخره آخر أيام التشريق. وهو مذهب الشافعي، وقول عطاء، والحسن، لأنه روي عن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أيام منى كلها منحر». ولأنها أيام تكبير وإفطار، فكانت محلا للنحر كالأولين. ويجوز الذبح ليلا. وهو قول أصحابنا المتأخرين، وقول الشافعي وإسحاق، وأبي حنيفة وأصحابه. لأن الليل زمن يصح فيه الرمي، فأشبه النهار. وفي رواية عن أحمد لا يجوز الذبح في الليل وهو قول مالك، فعلى هذا إن ذبح ليلا لم يجزئه عن الواجب، ولم تكن أضحية، فإن فرقها حصلت القربة بتفريقها، دون ذبحها.
(فائدة) قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» ١١/ ١٣٤ عقب الحديث عن ثوبان قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أضحيته ثم قال: «يا ثوبان أصلح لحم هذا» فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة:
فيه تصريح بجواز ادخار لحم الأضحية فوق ثلاث، وجواز التزود منه، وفيه أن الادخار والتزود في الأسفار لا يقدح في التوكل، ولا يخرج صاحبه عن التوكل، وفيه أن الضحية مشروعة للمسافر كما هي مشروعة للمقيم، وهذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، وقال النخعي وأبو حنيفة: لا ضحية على المسافر وروي هذا عن علي، وقال مالك وجماعة: لا تشرع للمسافر بمنى ومكة.
237
على ذلك. ومن قرأ: «صوافن» فالصافن: التي تقوم على ثلاث، والبعير إِذا أرادوا نحره، تُعقل إِحدى يديه، فهو الصافن، والجميع: صوافن. هذا ومن قرأ: «صوافيَ» بالياء وبالفتح بغير تنوين، فتفسيره:
خوالص، أي: خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحداً. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي: إِذا سقطت إِلى الأرض، يقال: وَجَبَ الحائط وَجْبَة، إِذا سقط. ووَجَبَ القلب وَجِيباً: إِذا تحرك من فزع.
واعلم أن نحرها قياماً سُنَّة، والمراد بوقوعها على جُنوبها: موتها، والأمر بالأكل منها أمر إِباحة، وهذا في الأضاحي.
قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ وقرأ الحسن: «والمُعْتَرِ» بكسر الراء خفيفة. وفيهما ستة أقوال «١» : أحدها: أن القانع: الذي يسأل، والمعترّ السّائل الذي يتعرَّض ولا يسأل، رواه بكر بن عبد الله
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٥٩: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال عني بالقانع: السائل، لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر من الاعترار وهو الذي يتعرض لأكل اللحم، فيأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٨٠.
238
عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء. والثاني: أن القانع، المتعفّف، والمعترّ:
السائل، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والنخعي. وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أن القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته والمعترّ: الذي يتعرَّض لك ويُلِمُّ بك ولا يسأل، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّ: الذي يتعرَّض ولا يسأل، وهذا مذهب القرظي. فعلى هذا يكون معنى القانع: أن يقنع بما أُعطي. ومن قال:
هو المتعفف، قال: هو القانع بما عنده. والرابع: القانع: أهل مكة، والمعترّ: الذي يعترُّ بهم من غير أهل مكة، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس: القانع: الجار وإِن كان غنيّاً، والمعترّ الذي يعترُّ بك، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: القانع: المسكين السائل، والمعترّ: الصَّديق الزائر، قاله زيد بن أسلم. قال ابن قتيبة: يقال: قَنَع يَقْنَع قُنوعاً: إِذا سأل، وقَنِع يَقْنَع قَنَاعة: إِذا رضي، ويقال في المعتر:
اعترَّني واعتراني وعَرَاني. وقال الزجاج: مذهب أهل اللغة أن القانع: السائل، يقال: قَنَع يَقْنَع قُنُوعاً:
إِذا سأل، فهو قانع، قال الشماخ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي مَفاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع «١»
أي: من السؤال ويقال: قَنِعَ قَنَاعة: إِذا رضي، فهو قَنِع، والمعترُّ والمعتري واحد.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما وصفنا من نحرها قائمة سَخَّرْناها لَكُمْ نِعمة مِنّا عليكم لتتمكَّنوا من نحرها على الوجه المسنون لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: لكي تَشْكُروا.
قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب:
«لن تنال اللهَ لحومُها» بالتاء «ولكن تنالُه التقوى» بالتاء أيضاً. سبب نزولها أن المشركين كانوا إِذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس «٢». قال المفسرون: ومعنى الآية: لن تُرفع إِلى الله لحومُها ولا دماؤها، وإِنما يُرفع إِليه التقوى وهو ما أُرِيدَ به وجهُه منكم، فمن قرأ «تناله» بالتاء فإنه أنث للفظ التقوى ومن قرأ «يناله» بالياء، فلأن التقوى والتُّقى واحد. والإِشارة بهذه الآية إِلى أنه لا يقبل اللحوم والدِّماء إِذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإِنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إِذا عريت عن نيَّةٍ صحيحة.
قوله تعالى: كَذلِكَ سَخَّرَها قد سبق تفسيره لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي: على ما بيَّن لكم وأرشدكم إِلى معالم دينه ومناسك حجّه، فذلك أن تقول: الله أكبر على ما هدانا، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: يعني: الموحّدين.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
(١) في «اللسان» مفاقره: أي وجوه فقره، ويقال: سد الله مفاقره أي أغناه وسدّ وجوه فقره.
(٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح الكلبيّ، وهو كذاب.
وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه كما في «الدر» ٤/ ٦٥٤ عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح.
239
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يدفع» «ولولا دفع الله» بغير ألف وهذا على مصدر «دَفَع» وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «إِن الله يدافع» بألف «ولولا دفع» بغير ألف، وهذا على مصدر «دافعَ» والمعنى: يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم. قال الزجاج: والمعنى: إِذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإِشراكهم، فإن الله يدفع عن حزبه، وال «خَوَّان» فَعّال من الخيانة، والمعنى: أنَّ مَنْ ذكر غير اسم الله، وتقرَّب إِلى الأصنام بذبيحته، فهو خوَّان.
قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«أَذِنَ» بفتح الألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: «أُذِنَ» بضمها. قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر التاء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بفتحها.
(١٠٠٩) قال ابن عباس: كان مشركو أهل مكّة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيقول لهم:
«اصبروا، فإني لم أُومر بالقتال» حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله هذه الآية، وهي أول آية أنزلت
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٢١ وفي الوسيط ٣/ ٢٧٣ نقلا عن المفسرين. ولم أره مرفوعا صريحا.
وقال الحافظ في «تخريجه» ٣/ ١٦٠: لم أجده هكذا، وعزاه الواحدي في الوسيط للمفسرين اه. فالمراد بقول ابن حجر: «لم أجده هكذا» أي مسندا. وقد ورد نحوه من مرسل قتادة أخرجه الطبري ٢٥٢٦١. وورد نحوه من مرسل مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم كما قال الحافظ في «تخريجه» ٣/ ١٦٠، فهذه الروايات واهية لا يحتج بشيء منها، والصواب أن الآية مدنية. والحديث الصحيح يؤيد ذلك. وهو ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الآية فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال. أخرجه الترمذي ٣١٧١ والنسائي في «السنن» ٦/ ٥٢ و «التفسير» ٣٦٥ وأحمد ١/ ٢١٦ والحاكم ٢/ ٦٦- ٩٤٦- ٣٩٠ والطبري ٢٥٢٥٤ و ٢٥٢٥٥ والطبراني ١٧/ ١٢٣ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٢٩٤ من طرق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه الطبري ٢٥٢٥٦ من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش به. وأخرجه الحاكم ٣/ ٧ من طريق شعبة عن الأعمش به. فهذه ثلاث طرق عن الأعمش فيها وصل الخبر. وورد مرسلا، أخرجه الترمذي ٣١٧٢ والطبري ٢٥٢٥٣ عن الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير، وهذا مرسل، لكن القول قول من وصله لأنه زيادة جماعة الثقات. والموصول صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي. وله شواهد مراسيل تعضده. فقد أخرجه الطبري ٢٥٢٥٩ و ٢٥٢٦٠ عن مجاهد مرسلا.
وورد من مرسل قتادة، أخرجه برقم ٢٥٢٦٢، فهذه الروايات تشهد لأصل الموصول المتقدم. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ١٦٧٩ و «أحكام القرآن» لابن العربي ١٥١٣.
240
في القتال. وقال مجاهد: هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين، فأدركهم كفار قريش، فأُذن لهم في قتالهم. قال الزجاج: معنى الآية: أُذن للذين يقاتَلون أن يقاتِلوا. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي: بسبب ما ظُلموا. ثم وعدهم النصر بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ولا يجوز أن تقرأ بفتح «إِن» هذه من غير خلاف بين أهل اللغة، لأن «إِنَّ» إِذا كانت معها اللام، لم تُفتح أبداً، وقوله: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ معناه: أُخرِجوا لتوحيدهم.
قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قد فسّرناه في سورة البقرة «١».
قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ قرأ ابن كثير، ونافع: «لَهُدِمَتْ» خفيفة، والباقون بتشديد الدال.
فأما الصوامع، ففيها قولان «٢» : أحدهما: أنها صوامع الرهبان، قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنها صوامع الصابئين، قاله قتادة، وابن قتيبة.
فأما البِيَع، فهي جمع بِيعة، وهي بِيَع النصارى.
وفي المراد بالصلوات قولان: أحدهما: مواضع الصلوات. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كنائس اليهود، قاله قتادة، والضحاك، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: قوله تعالى: وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية «صلوثا». والثاني: أنها مساجد الصابئين، قاله أبو العالية. والقول الثاني: أنها الصلوات حقيقة، والمعنى: لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين لانقطعت الصلوات في المساجد، قاله ابن زيد.
فأما المساجد، فقال ابن عباس: هي مساجد المسلمين. وقال الزجاج: معنى الآية: لولا دفع بعض الناس ببعض لهدّمت في زمان موسى الكنائس، وفي زمان عيسى الصّوامع والبيع، وفي زمان محمّد المساجد.
وفي قوله تعالى: يُذْكَرُ فِيهَا قولان: أحدهما: أن الكناية ترجع إِلى جميع الأماكن المذكورات، قاله الضحاك. والثاني: إِلى المساجد خاصة، لأن جميع المواضع المذكورة، الغالب فيها الشِّرك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي: من ينصر دينه وشرعه.
قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال الزجاج: هذه صفة ناصِرِيه. قال المفسّرون:
التّمكين في الأرض: نصرهم على عدوّهم، والمعروف: لا إِله إِلا الله، والمنكر: الشِّرك. قال الأكثرون: وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال القرظي: هم الولاة.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: إِليه مرجعها، لأن كلَّ ملك يبطل سوى ملكه.
(١) سورة البقرة: ٢٥.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٦٦: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا. لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٨٤ وقال: وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح.
241

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي: بالعذاب فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أثبت الياء في «نكير» يعقوب في الحالَيْن، ووافقه ورش في إِثباتها في الوصل، والمعنى: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإِهلاك؟! والمعنى: إِني أنكرتُ عليهم أبلغ إِنكار، وهذا استفهام معناه التقرير.
قوله تعالى: أَهْلَكْناها قرأ أبو عمرو: «أهلكتُها» بالتاء، والباقون: «أهلكناها» بالنون.
قوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عمر، وحمزة، والكسائي: «وبئر» مهموز، وروى ورش عن نافع بغير همز، والمعنى: وكم بئرٍ معطَّلة، أي: متروكة «١» وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فيه قولان: أحدهما: مجصَّص، قاله ابن عباس وعكرمة. قال الزجاج: أصل الشِّيد الجصُّ والنُّورة، وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مَشِيد. والثاني: طويل، قاله الضحاك ومقاتل. وفي الكلام إِضمار، تقديره: وقصر مشيد معطَّل أيضاً ليس فيه ساكن.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا قال المفسرون: أفلم يَسِر قومك في أرض اليمن والشام فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها إِذا نظروا آثار من هلك أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أخبار الأمم المكذّبة فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ قال الفراء: الهاء في قوله: «فإنها» عماد، والمعنى: أن أبصارهم لم تعم، وإِنما عميت قلوبهم «٢». فأمّا قوله تعالى: الَّتِي فِي الصُّدُورِ فهو توكيد، لأن القلب لا يكون إِلا في الصدر، ومثله:
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «٣» يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «٤»، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «٥». قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٨٦: وقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قيل المنيف المرتفع وقيل الشديد المنيع الحصين وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله به، كما قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، النساء: ٧٨.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٨٦: «وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ، ونوره بالفكر، وموّته بالزهد، وقوّه باليقين وذلّله بالموت وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسر في ديارهم وآثارهم وانظر ما فعلوا، وأين حلوا وعمّ انقلبوا». وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر.
(٣) سورة البقرة: ١٩٦.
(٤) سورة الأنعام: ٣٨.
(٥) سورة آل عمران: ١٦٧.
قال مقاتل: نزلت في النَّضْر بن الحارث القرشي. وقال غيره: هو قولهم له: مَتى هذَا الْوَعْدُ «١» ونحوه من استعجالهم، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ في إِنزال العذاب بهم في الدنيا، فأنزله بهم يوم بدر، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ أي: من أيام الآخرة كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا، قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تَعُدُّون» بالتاء. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «يَعُدُّون» بالياء.
فإن قيل: كيف انصرف الكلام من ذِكْر العذاب إِلى قوله: «وإِن يوماً عند ربِّك» ؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا، فقيل لهم: لن يخلف الله وعده في إِنزال العذاب بكم في الدنيا. وإِن يوماً من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سنيِّ الدنيا، فكيف تستعجلون بالعذاب؟! فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، هذا قول الفراء. والثاني: وإِن يوماً عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة، إِلا أن الله تفضَّل عليهم بالإمهال، هذا قول الزّجّاج.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
قوله تعالى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني به الرزق الحَسَن في الجنة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي: عملوا في إِبطالها مُعاجِزِينَ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «مُعجِزين» بغير ألف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مُعاجِزين» بألف قال الزجاج:
«مُعاجِزين» أي: ظانِّين أنهم يُعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يُبعثون وأنه لا جنة ولا نار. قال: وقيل في التفسير: مُعاجِزين: معانِدين، وليس هو بخارج عن القول الأول و «معجزين» تأويلها: أنهم كانوا يعجزون من اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلّم ويثبّطونهم عنه.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.
(١٠١٠) قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى
موضوع مفترى. بأسانيد واهية. ورد عن محمد بن كعب القرظي، أخرجه الطبري ٢٥٣٢٨ وله علل ثلاث:
الأولى الإرسال، والثانية عنعنة ابن إسحاق، والثالثة فيه يزيد بن زياد المدني، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وكرره الطبري ٢٥٣٢٧ من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس معا. وهذا مرسل-
__________
(١) سورة الملك: ٢٥. [.....]
243
أيضا، وأبو معشر اسمه نجيح ضعفه النسائي والدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه يحيى بن سعيد جدا. وورد من مرسل أبي العالية، أخرجه الطبري ٢٥٣٣٠. وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري ٢٥٣٣١ و ٢٥٣٣٢. وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري ٢٥٣٣٤. وورد من مرسل عروة بن الزبير، أخرجه الطبراني ٥٠٧٨، ومع إرساله فيه ابن لهيعة.
قال الهيثمي في «المجمع» ١١١٨٦: فيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة اه. أي لنكارة المتن الذي ساقه، فإن فيه رجوع بعض من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة بسبب هذا الخبر.
- وورد عن ابن عباس من طرق ثلاث: الأول: أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبى صالح عنه.
وهذا إسناد ساقط مصنوع، فقد روى الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، وقد أقرّا بالوضع والكذب على ابن عباس. الثاني: أخرجه الطبري ٢٥٣٣٣ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس، فهذا إسناد ساقط لا يفرح به. الثالث: أخرجه البزار ٢٢٦٣ «كشف» والضياء في «المختارة» ١- ٢/ ١٢٠ والطبراني ١٢٤٥٠ وفيه أمية بن خالد، وهو وإن وثقه غير واحد، فقد نقل الذهبي في «الميزان» ١٠٢٩ عن أحمد أنه لم يحمده، وذكره العقيلي في «الضعفاء» اه. وقد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن جبير ليس فيه ذكر ابن عباس، وللحديث علة أخرى، وهي ما قاله البزار حيث قال عقبه: لا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد، وأمية بن خالد ثقة مشهور، وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متروك متهم، وأبو صالح ساقط، ولم يدرك ابن عباس، فلم يصح هذا الطريق عن ابن عباس أيضا، وعامة روايات هذا الخبر مراسيل لا يحتج بها، والظاهر أن بعضهم أخذه من بعض لغرابته، فحدثوا به واشتهر، وهو خبر باطل مصنوع، ولو صح لرواه واحد من أصحاب الكتب المعتبرة، والمسانيد المشتهرة، ولكن كل ذلك لم يكن وقد اضطربوا في ألفاظه اضطرابا كبيرا، وزادوا فيه ونقصوا، وكل ذلك دليل على بطلانه.
وقد ذهب الحافظ ابن حجر في تخريج «الكشاف» ٣/ ١٦٤- ١٦٥ إلى تقوية هذا الحديث، وكذا السيوطي في «الدر» ٤/ ٦٦١، وليس كما قالا، وقد خالفهما أئمة ثقات أثبات في ذلك. وإليك بيانه: قال الإمام أبو حيان في «البحر» ٦/ ٣٥٢: سئل ابن إسحاق- جامع السيرة النبوية- عن هذه القصة، فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا.
وقال الإمام البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ورواتها مطعون عليهم، وليس في الصحاح ولا التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه، فوجب اطّراحه، ولذا نزهت كتابي عن ذكره فيه. اه ملخصا.
وقال الحافظ ابن كثير ٣/ ٢٨٨: وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
وقال العلامة الآلوسي في «روح البيان» ١٧/ ١٨٢ ما ملخصه: قال أبو منصور الماتريدي: هذا الخبر من إيحاء الشيطان إلى أوليائه الزنادقة، والرسالة بريئة من هذه الرواية.
وقال القاضي عياض: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواة ثقة يسند سليم متصل.
وقال العلامة الآلوسي: ويكفي في ردها قول الله تعالى في وصف القرآن لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ اه.
وقال الإمام الشوكاني في «فتح القدير» ٣/ ٥٤٦: قال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة.
وقال القاضي عياض في «الشفا» : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا.
وقد جمع الألباني رسالة في ذلك وسماها «نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق».
244
بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «١» فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعتَ؟
تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزناً شديداً، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا. قال العلماء المحققون: وهذا لا يصحّ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات «٢»، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «٣».
قال: وفي معنى «تمنّى» قولان «٤» :
وانظر «فتح القدير» ١٦٨١ و «أحكام القرآن» ١٥١٧ وابن كثير عند هذه الآية.
أخيرا: أورد لك الوجه الصحيح في قصة سورة النجم، والسجود فيها. وقد ورد في ذلك حديثان الأول حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وهذا ثابت عن ابن عباس، أخرجه البخاري ١٠٧١ و ٤٨٦٢ والترمذي ٥٧٥ وابن حبان ٢٧٦٣ والدارقطني ١/ ٤٠٩. وحديث ابن مسعود، أخرجه البخاري ١٠٦٧ و ١٠٧٠ و ٣٨٥٣ و ٣٩٧٢ ومسلم ٥٧٦ وأبو داود ١٤٠٦ والنسائي ٢/ ١٦٠ والدارمي ١/ ٣٤٢ وابن حبان ٢٧٦٤ وحديث ابن مسعود أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ سورة النجم فسجد فما بقي أحد من القوم إلا سجد إلا رجل واحد أخذ كفا من حصى، فوضعه على جبهته، وقال:
يكفيني. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. فالوارد الصحيح عن ابن عباس هو المتقدم عنه لا ما رواه عنه الضعفاء والهلكى من ذكر الغرانيق...
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فالصحيح في هذا المقام هو الوارد عن ابن مسعود فإنه قد أدرك الحادثة وهي مكية، بخلاف ابن عباس، فإنه ما حضرها ولا أدركها، فالصحيح في هذا ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أحد السابقين الأعلام، وأما ما رواه جماعة من التابعين، فإنما تلقّاه بعضهم عن بعض واشتهر بسبب غرابته، وكان الأصلح لهؤلاء رحمهم الله أن يأخذوا ذلك عن ابن مسعود، فتنبه والله الموفق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
__________
(١) سورة النجم: ١٩- ٢٠.
(٢) قلت الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما قال ذلك، ولا زاده الشيطان أيضا بل لا سلطان للشيطان في شيء في شيء من ذلك، حاشا لله أن يكون للشيطان مدخل على القرآن أو في حال تبليغه، وما هي إلا روايات عامتها مراسيل، وكأن بعض الزنادقة حدث بها في عهد التابعين، فأولع بها هؤلاء فرووها وانتشرت، والدليل على أن مصدرها رجال مجاهيل لا يعرفون، هو أنها وردت عن عشرة أو أكثر من التابعين، ولم يذكر عامتهم من حدثه بها، فهذا دليل على أن لا أصل لها، وأنه مفتعلة مصنوعة مزورة، تروج على من لا علم له ولا دراية، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(٣) سورة فصلت: ٢٦.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٧٨: التمني يعني التلاوة والقراءة قاله الضحاك. وهذا القول أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته على ذلك، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيله، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ، أو حدّث وتكلم، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه، أو في حديثه الذي حدث وتكلم فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ يقول الله تعالى: فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله.
245
أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
والثاني: أنه من الأمنية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي.
قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يُبطله ويُذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قال مقاتل: يُحْكِمُها من الباطل. قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللام متعلقة بقوله: أَلْقَى الشَّيْطانُ، والفتنة ها هنا بمعنى البلية والمحنة. والمرضُ: الشك والنفاق. وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: الجافية عن الإِيمان. ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق: غاية العداوة.
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهو التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون. وقال السدي:
التصديق بنسخ الله. قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ إِشارة إِلى نسخ ما يلقي الشيطان فالمعنى: ليعلموا أن نسخ ذلك وإِبطاله حق من الله فَيُؤْمِنُوا بالنسخ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي: تخضع وتَذِلّ. ثم بيَّن بباقي الآية أن هذا الإِيمان والإِخبات إِنما هو بلطف الله وهدايته..
قوله تعالى: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي: في شكّ. وفي هاء «منه» أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها ترجع إِلى قوله: تلك الغرانيق العلى. والثاني: أنها ترجع إِلى سجوده في سورة النجم. والقولان عن سعيد بن جبير، فيكون المعنى: إِنهم يقولون: ما بالُه ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها؟! والثالث: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله ابن جريج. والرابع: أنها ترجع إِلى الدِّين، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وفيها قولان: أحدهما: القيامة تأتي مَنْ تقوم عليه من المشركين، قاله الحسن. والثاني: ساعة موتهم، ذكره الواحدي. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فيه قولان «٢» : أحدهما: أنه يوم بدر، روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه يوم القيامة، قاله عكرمة، والضحاك. وأصل العقم في الولادة، يقال: امرأة عقيم لا تلد، ورجل عقيم لا يولد له وأنشدوا:
عُقْمِ النِّساءُ فلا يَلِدْنَ شَبْيَهه إِن النِّساءَ بمثْلِه عقم
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٨٠: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أقرب منه من ذكر قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ والهاء في قوله أنه من ذكر القرآن، فإلحاق الهاء في قوله فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ بالهاء من قوله أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أولى من إلحاقها بما التي في قوله ما يُلْقِي الشَّيْطانُ مع بعد ما بينهما.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٨١: والقول الأول: أنه يوم بدر أولى بتأويل الآية، لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو تأتيهم الساعة، وذلك أن الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة، فإنما معناه تكرير الساعة مرتين، باختلاف الألفاظ، وذلك لا معنى له فأولى التأولين أصحهما معنى، وهو ما ذكرنا. فتأويل الكلام: أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لهم، فلا ينظر وافيه إلى الليل، ولا يؤخروا فيه إلى المساء لكنهم يقتلون قبل المساء.
246
وسميت الريح العقيم بهذا الاسم، لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر، فقيل لهذا اليوم: عقيم، لأنه لم يأت بخير.
فعلى قول من قال: هو يوم بدر في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير، قاله الضحاك. والثاني: لأنهم لم يُنْظَروا فيه إِلى الليل، بل قُتلوا قبل المساء، قاله ابن جريج. والثالث: لأنه لا مثْل له في عِظَم أمره، لقتال الملائكة فيه، قاله يحيى بن سلام. وعلى قول من قال: هو يوم القيامة، في تسميته بذلك قولان: أحدهما: لأنه لا ليلة له، قاله عكرمة. والثاني: لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج، ذكره بعض المفسّرين.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة لِلَّهِ من غير منازع ولا مدَّع يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي: بين المسلمين والمشركين وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها. ثم ذكر فضل المهاجرين فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: من مكة إِلى المدينة. وفي الرزق الحسن قولان: أحدهما: أنه الحلال، قاله ابن عباس. والثاني: رزق الجنة، قاله السّدّيّ. قوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا وقرأ ابن عامر: «قُتِّلوا» بالتشديد قوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا وقرأ نافع بفتح الميم برضوانه يعني: الجنة. والمدخل يجوز أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: ليدخلنهم إدخالاً يكرمون به فيرضونه ويجوز أن يكون بمعنى المكان. و «مَدخلاً» بفتح الميم على تقدير: فيدخلون مدخلاً.
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بنيّاتهم حَلِيمٌ عنهم.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: المعنى: الأَمْرُ ذلك، أي: الأمر ما قصصنا عليكم وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ والعقوبة: الجزاء والأول ليس بعقوبة، ولكنه سمي عقوبةً، لاستواء الفعلين في جنس المكروه، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «١» لما كانت المجازاة إِساءة بالمفعول به سمِّيت سيّئة، ومثله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «٢» قاله الحسن، ومعنى الآية: من قاتل المشركين كما قاتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي: ظُلم باخراجه عن منزله. وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلةٍ بقيت من المحرَّم، فقاتلوهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام، فأبوا إلّا القتال،
(١) سورة الشورى: ٤٠.
(٢) سورة البقرة: ١٥.
فثبت المسلمون، ونصرهم الله على المشركين، ووقع في نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، وقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عنهم غَفُورٌ لقتالهم في الشهر الحرام «١».
قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ القادر على ما يشاء، فمن قُدرته أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعاء المؤمنين بَصِيرٌ بهم حيث جعل فيهم الإِيمان والتقوى، ذلِكَ الذي فعل من نصر المؤمنين بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: هو الإِله الحق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «يدعون» بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالتاء، والمعنى: وأنَّ ما يعبدون مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات. وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال: معنى الكلام التنبيه، كأنه قال: أتسمع، أنزل الله من السماء ماءً فكان كذا وكذا. وقال ثعلب: معنى الآية عند الفراء خبر، كأنه قال: اعلم أن الله ينزِّل من السماء ماءً فتصبح، ولو كان استفهاماً والفاء شرطاً لنصبه.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي: باستخراج النبات من الأرض رزقاً لعباده خَبِيرٌ بما في قلوبهم عند تأخير المطر. وقد سبق معنى الغني الحميد في سورة البقرة «٢».
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يريد البهائم التي تركب وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ قال الزجاج: كراهة أن تقع. وقال غيره: لئلّا تقع إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فيما سخَّر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم. وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم نطفاً ميتة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث والحساب إِنَّ الْإِنْسانَ يعني: المشرك لَكَفُورٌ لِنعَم الله إِذ لم يوحده.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
(١) واه بمرة. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٤/ ٦٦٥ عن مقاتل مرسلا. ومقاتل واه.
(٢) سورة البقرة: ٢٦٧.
قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قد سبق بيانه في هذه السّورة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي: في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أمر الذبيحة، فقالوا: كيف تأكلون ما قتَلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟! يعنون: الميتة.
فإن قيل: إِذا كانوا هم المنازعين له، فكيف قيل: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؟
فقد أجاب عنه الزجاج، فقال: المراد: النهي له عن منازعتهم، فالمعنى: لا تنازعنَّهم، كما تقول للرجل: لا يخاصمنَّك فلان في هذا أبداً، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إِلا من اثنين، لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إِلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنَّك فلان، فهو بمنزلة: لا تجادلنَّه، ولا يجوز هذا في قولك: لا يضربنَّك فلان وأنت تريد: لا تضربنَّه، ولكن لو قلت: لا يضاربنَّك فلان، لكان كقولك: لا تضاربنَّ، ويدل على هذا الجواب قوله: وَإِنْ جادَلُوكَ.
قوله تعالى: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي: إِلى دينه والإِيمان به. و «جادلوك» بمعنى: خاصموك في أمر الذبائح، فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من التكذيب، فهو يجازيكم به. اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: يقضي بينكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدِّين، أي: تذهبون إِلى خلاف ما ذهب إِليه المؤمنون وهذا أدب حسن علَّمه الله عباده ليردُّوا به مَن جادل على سبيل التعنُّت، ولا يجيبوه، ولا يناظروه.

فصل:


قال أكثر المفسرين: هذا نزل قبل الأمر بالقتال، ثم نُسِخ بآية السيف. وقال بعضهم:
هذا نزل في حق المنافقين، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلَتات تدل على شركهم، ثم يجادِلون على ذلك، فوكل أمرهم إِلى الله تعالى، فالآية على هذا محكمة.
قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ هذا استفهام يراد به التقرير والمعنى قد علمتَ ذلك إِنَّ ذلِكَ يعني ما يجري في السموات والأرض فِي كِتابٍ يعني: اللوح المحفوظ، إِنَّ ذلِكَ أي: عِلْم الله بجميع ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل لا يتعذَّر عليه العلم به.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ يعني: كفار مكة ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: حُجة وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أنه إِله، وَما لِلظَّالِمِينَ، يعني: المشركين مِنْ نَصِيرٍ أي: مانع من العذاب. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا يعني القرآن والمنكر ها هنا بمعنى الإِنكار، فالمعنى: أثر الإِنكار من الكراهة، وتعبيسُ الوجوه، معروف عندهم. يَكادُونَ يَسْطُونَ أي: يبطشون ويُوقِعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدَّة الغيظ، يقال: سطا عليه، وسطا به: إِذا تناوله بالعنف والشدة. قُلْ لهم يا محمد: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي: بأشدَّ عليكم وأكره إِليكم من سماع القرآن، ثم ذكر ذلك فقال: النَّارُ أي: هو النار.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ قال الأخفش: إِن قيل: أين المَثَل؟
فالجواب: أنه ليس ها هنا مثَل، وإِنما المعنى: يا أيها الناس ضُرب مَثَل، أي: شبّهت بي الأوثان فَاسْتَمِعُوا لهذا المثل. وتأويل الآية: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمِعوا حالها ثم بيَّن ذلك بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وابن أبي عبلة: «يدعون» بالياء المفتوحة. وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء وعاصم الجحدري: «يُدْعون» بضم الياء وفتح العين، يعني: الأصنام، لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً والذباب واحد، والجمع القليل: أذِبَّة، والكثير: الذّبّان، مثل: غُراب وأَغْرِبة وغِرْبان وقيل: إنما خصّ الذّباب لمانته واستقذاره وكثرته. وَلَوِ اجْتَمَعُوا يعني: الأصنام لَهُ أي: لخَلْقِه، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ يعني:
الأصنام. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجفّ، فيأتي الذباب فيختلسه. وقال ابن جريج: كانوا إِذا طيَّبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء، كالعسل ونحوه، فيقع عليها الذباب فيسلبها إِياه، فلا تستطيع الآلهة ولا مَنْ عبَدها أن يمنعه ذلك. وقال السدي: كانوا يجعلون للآلهة طعاماً، فيقع الذباب عليه فيأكل منه قال ثعلب: وإِنما قال: لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين، إذا كانوا يعظِّمونها ويذبحون لها وتُخاطَب، كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «١» لمَّا خاطبهم جعلهم كالآدميين، ومثله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «٢»، وقد بيَّنَّا هذا المعنى في (الأعراف) عند قوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ «٣». قوله تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فيه ثلاثة أقوال «٤» : أحدها: أن الطالب: الصنم، والمطلوب: الذباب، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني:
الطالب: الذباب يطلب ما يسلبُه من الطيِّب الذي على الصنم، والمطلوب: الصنم يطلب الذباب منه سَلْبَ ما عليه، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الطالب: عابد الصنم يطلب التقرُّب بعبادته، والمطلوب: الصنم، هذا معنى قول الضحاك، والسدي.
قوله تعالى: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظّموه حق عظمته، إِذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ لا يُقْهَر عَزِيزٌ لا يرام.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كجبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، وَمِنَ النَّاسِ الأنبياءَ المرسلين، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالة العباد بَصِيرٌ بمن يتّخذه رسولا.
(١) سورة النمل: ١٨.
(٢) سورة يوسف: ٤.
(٣) الأعراف: ١٩١.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ١٨٩: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه: وعجز الطالب وهو الآلهة. أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه، وهو الطيب وما أشبهه، والمطلوب: الذباب.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٩٦ وقال: اختاره ابن جرير وهو ظاهر السياق. [.....]
وزعم مقاتل أن هذه الآية نزلت حين قالوا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «١».
قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الإِشارة إِلى الذين اصطفاهم وقد بيَّنَّا معنى ذلك في آية الكرسي «٢».
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا قال المفسرون: المراد: صلُّوا، لأن الصلاة لا تكون إِلا بالركوع والسجود، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أي: وحِّدوه وَافْعَلُوا الْخَيْرَ يريد: أبواب المعروف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة.

فصل:


لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من الحج واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة فروي عن عمر، وابن عمر، وعمَّار، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وابن عباس، أنهم قالوا: في الحج سجدتان، وقالوا: فضّلت هذه السورة على غيرها بسجدتين، وبهذا قال أصحابنا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وبهذا قال الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإِبراهيم، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك ويدل على الأول.
(١٠١١) ما روى عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن
صدره حسن، وعجزه ضعيف. أخرجه أبو داود ١٤٠٢ والترمذي ٥٧٨ والدارقطني ١/ ٤٠٨ والحاكم ١/ ٢٢١ وأحمد ٤/ ١٥١ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ٢٨١ والبيهقي ٢/ ٣١٧ والبغوي في «التفسير» ٣/ ٢٩٩ من طرق عن ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر به. وإسناده ضعيف، وله علتان: ضعف ابن لهيعة، وشيخه مشرح قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. وقال الذهبي في «الميزان» ٤/ ١١٧: صدوق لينه ابن حبان، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: يروي عن عقبة مناكير، لا يتابع عليها، فالصواب ترك ما انفرد به اه. وعجزه ضعيف، وهو قوله «فمن لم يسجدها فلا يقرأها» بل هو منكر، وهو إما من مناكير ابن لهيعة حيث اختلط، أو من شيخه مشرح، حيث إن الراوي عنه عند أبي داود ابن وهب، وهو أحد العبادلة وأيّا كان فعجز الحديث ضعيف منكر، وقد ضعفه الترمذي بقوله: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي.
- وعارضه أحمد شاكر رحمه الله فقال: بل هو حديث صحيح، فإن ابن لهيعة ومشرح ثقتان... ؟!
- وأما الألباني فذكر الحديث في «ضعيف أبي داود» ٣٠٣، وفي ذلك نظر، فإن لصدره شواهد منها:
- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود ١٤٠١ وابن ماجة ١٠٥٧ والحاكم ١/ ٢٢٣ والبيهقي ٢/ ٧٩ وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن منين مجهول، وعنه الحارث بن سعيد العتكي، لا يعرف. وقال الحاكم عقبه: رواته مصريون، واحتج الشيخان بأكثر الرواة! وسكت الذهبي! وقال الزيلعي في «نصب الراية» ٢/ ١٨٠: قال عبد الحق: ابن منين، لا يحتج به. قال ابن القطان: وذلك لجهالته اه. ومع ذلك يصلح شاهدا لما قبله، فليس بشديد الضعف، حيث فيه الجهالة فقط، ومع ذلك فقد أدخله الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» ٣٠١؟! وله شاهد مرسل، أخرجه أبو داود في «المراسيل» ص ١١٣ عن خالد بن معدان، ومن طريق أبي داود، أخرجه البيهقي ٢/ ٣١٧ ونقل عن أبي داود قوله: وقد أسند هذا الحديث، ولا يصح اه ومراده والله أعلم، أن هناك من وصل مرسل ابن معدان، والصواب إرساله. ومع ذلك يصلح شاهدا للموصول المتقدم، وما قبله.
وقد ورد موقوفا عن جماعة من الصحابة، أسند ذلك كله الحاكم في «المستدرك» ٢/ ٣٩٠- ٣٩١ والبيهقي ٢/ ٣١٧- ٣١٨ وكذا الدارقطني ١/ ٤٠٨- ٤٠٩- ٤١٠.
فهذه الموقوفات مع المرسل مع الموصول المتقدم تشهد لصدر حديث عقبة دون عجزه، وترقى به إلى درجة الحسن والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ١٥١٩ بتخريجنا.
__________
(١) سورة ص: ٨٠.
(٢) سورة البقرة: ٢٥٥.
251
لم يسجدهما فلا يقرأهما».

فصل «١» :


واختلف العلماء في عدد سجود القرآن، فروي عن أحمد روايتان، إِحداهما: أنها أربع عشرة سجدة. وبه قال الشافعي، والثانية: أنها خمس عشرة، فزاد سجدة (ص). وقال أبو حنيفة:
هي أربع عشرة، فأخرج التي في آخر (الحج) وأبدل منها سجدة ص.

فصل «٢» :


وسجود التلاوة سُنَّة، وقال أبو حنيفة: واجب. ولا يصح سجود التلاوة إِلا بتكبيرة الإِحرام والسلام، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشّافعيّ. ولا يجزئ الركوع عن سجود التلاوة، وقال أبو حنيفة: يجزئ. ولا يسجد المستمع إِذا لم يسجد التالي، نصّ عليه أحمد رضي الله عنه. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإِخفات، خلافاً للشافعي.
قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ في هذا الجهاد ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنه فِعل جميع الطاعات،
(١) قال الترمذي عقب الحديث ٢/ ٤٧٢: واختلف أهل العلم في هذا، فروي عن عمرو وابنه أن سورة الحج فضلت بسجدتين. وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، ورأى بعضهم فيها سجدة، وهو قول الثوري ومالك وأهل الكوفة اه. والمذهب الأول هو الراجح فإن مستندهم حديثان موصولان يقوي أحدهما الآخر مع مرسل أضف إلى ذلك موقوفات عن جماعة من الصحابة، والله الموفق.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٢/ ٣٥٩: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب ومن ترك فلا شيء عليه وإذا سجد للتلاوة فعليه التكبير للسجود والرفع منه سواء كان في صلاة أو في غيرها وقال الشافعي:
إذا سجد خارج الصلاة كبّر واحدة للافتتاح وأخرى للسجود، ويرفع يديه عند تكبيرة الابتداء إن كان في غير صلاة وهو قول الشافعي. قال القاضي: وقياس المذهب لا يرفع ويقول في سجوده ما يقول في سجود صلاته. ويسلّم إذا رفع ورأى أحمد أنه واجب وفي رواية ثانية، لا تسليم فيه، وبه قال النخعي، والحسن، وسعيد بن جبير ويحيى بن وثاب. وروي ذلك عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي فيه. ويسن السجود للتالي والمستمع، لا نعلم في هذا خلافا. ويشترط لسجود المستمع أن يكون التالي ممن يصلح أن يكون له إماما. وقال أبو حنيفة: إذا امتنع من السجود لمعارض، فإذا زال المعارض يسجد. ولا يقوم الركوع مقام السجود، وقال أبو حنيفة: يقوم مقامه استحبابا. وإذا قرأ السجدة على الراحلة في السفر أومأ بالسجود حيث كان وجهه، وإن كان ماشيا سجد على الأرض. ولا يسجد إلا وهو طاهر ويعتبر للسجود من الشروط ما يشترط لصلاة النافلة. ولا نعلم في ذلك اختلافا. ويكره اختصار السجود، وهو أن ينتزع الآيات التي فيها سجود فيقرأها ويسجد فيها أو يقرأ القرآن إلا آيات السجود.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٩/ ١٩١: والصواب من القول في ذلك: عني به الجهاد في سبيل الله لأن المعروف من الجهاد ذلك، وهو الأغلب على قول القائل: جاهدت في الله، وحق الجهاد: استفراغ الطاقة فيه.
252
هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه جهاد الكفار، قاله الضحاك. والثالث: أنه جهاد النفس والهوى، قاله عبد الله بن المبارك. فأما حق الجهاد، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه الجِدُّ في المجاهدة، واستيفاء الإِمكان فيها. والثاني: أنه إخلاص النّيّة لله عزّ وجلّ. والثالث: أنه فِعل ما فيه وفاء لحق الله عزّ وجلّ.

فصل:


وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها على قولين: أحدهما: قوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «١». والثاني: قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «٢» وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَةٌ، ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد، وهو الأصح، لأن الله تعالى لا يكلِّف نفساً إِلا وسعها.
قوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ أي: اختاركم واصطفاكم لدينه. والحرج: الضِّيق، فما من شيء وقع الإِنسان فيه إِلا وجد له في الشرع مَخرجاً بتوبة أو كفارة أو انتقالٍ إِلى رخصة ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج: ما كان على بني إِسرائيل من الإِصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة. قوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ قال الفراء: المعنى: وسّع عليكم كملَّة أبيكم، فاذا ألقيتَ الكاف نصبتَ، ويجوز النصب على معنى الأمر بها، لأن أول الكلام أمر، وهو قوله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا والزموا ملَّة أبيكم.
فإن قيل: هذا الخطاب للمسلمين، وليس إِبراهيم أباً لكُلِّهم. فالجواب: أنه إِن كان خطاباً عامّاً للمسلمين، فهو كالأب لهم، لأنّ حرمته وحقّه عليكم كحقّ الوالد، وإن كان الخطاب للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، هذا قول المفسرين. والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنّ إبراهيم أبوه، وأمّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم داخلة فيما خوطب به رسول الله.
قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور فعلى هذا في قوله: مِنْ قَبْلُ قولان. أحدهما: من قبل القرآن سمَّاكم بهذا في الكتب التي أنزلها. والثاني: «مِنْ قَبْلُ» أي: في أُمّ الكتاب، وقوله تعالى: وَفِي هذا أي: في القرآن. والثاني: أنه إِبراهيم عليه السلام حين قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «٣» فالمعنى: من قَبْل هذا الوقت، وذلك في زمان إِبراهيم عليه السلام وفي هذا الوقت حين قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً، هذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ المعنى: اجتباكم وسمَّاكم ليكون الرسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة أنه قد بلَّغكم وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة «٤» إِلى قوله: وَآتُوا الزَّكاةَ. قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قال ابن عباس: سَلُوه أن يَعْصِمكم من كل ما يُسخط.
ويُكْرَه. وقال الحسن: تمسَّكوا بدين الله. وما بعد هذا مشروح في الأنفال «٥».
(١) سورة البقرة: ٢٨٦.
(٢) سورة التغابن: ١٦.
(٣) سورة البقرة: ١٢٨.
(٤) سورة البقرة: ١٤٣.
(٥) سورة الأنفال: ٤٠.
253
Icon