تفسير سورة الأحزاب

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الأحزاب مدنية وهى ثلاث وسبعون آية

﴿يا أيها النبى اتق الله﴾ في ندائه ﷺ بعنوانِ النُّبوةِ تنويهٌ بشأنِه وتنبيهٌ على سموِّ مكانِه والمرادُ بالتَّقوى المأمورِ به الثباتُ عليهِ والازديادُ منه فإنَّ له باباً واسعاً وعرضاً عريضاً لا يُنال مداهُ ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين﴾ أي المجاهرينَ بالكُفر ﴿والمنافقين﴾ المُضمرين له أي فيما يعودُ بوهنٍ في الدِّينِ وإعطاء دنيَّةٍ فيما بين المسلمينَ رُوي أنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ وعكرمةَ بنَ أبي جهلٍ وأبا الأعورِ السُّلَمي قدِمُوا عليهِ ﷺ في الموادعةِ التي كانتْ بينه ﷺ وبينهم وقامَ معهم عبدُ اللَّهِ بن أبيَ ومعتب بن قُشير والجدُّ بنُ قيسٍ فقالُوا لرسولِ الله ﷺ أرفضْ ذكرَ آلهتِنا وقل إنَّها تشفعُ وتنفعُ وندعك وربَّك فشقَّ ذلك على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والمؤمنين وهموا بقلتهم فنزلتْ أي اتقِ الله في نقضِ العهدِ ونبذِ الموادعةِ ولا تساعدِ الكافرينَ من أهلِ مكةَ والمنافقينَ من أهلِ المدينةِ فيما طلبُوا إليكَ ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ حَكِيماً مبالِغاً في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ جميعَ الأشياءِ من المصالحِ والمفاسدِ فلا يأمرُك إلا بما فيه مصلحةٌ ولا ينهاك إلا عمَّا فيه مفسدةٌ ولا يَحكُم إلا بما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ والنَّهي مؤكدٌ لوجوبِ الامتثالِ بهما
﴿واتبع﴾ أي في كلِّ ما تأتِي وتذر من أمورِ الدِّينِ ﴿مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ﴾ منَ الآياتِ التي منْ جملتها هذه الآيةُ الآمرةُ بتقوى الله الناهيةُ عن مساعدةِ الكَفَرةِ والمنافقينَ والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ ﴿إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ قيل الخطاب للرسول ﷺ والجمعُ للتَّعظيمِ وقيل له ﷺ وللمؤمنينَ وقيلَ للغائبينَ بطريقِ الالتفاتِ ولا يخفى بعدُه نعم يجوز أن يكون للكلِّ على ضربٍ من التَّغليبِ وأيا ما كانَ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ وتأكيدٌ لموجبه أمَّا على الوجهينِ الأولين فبطريق الترغيب والترهيب كأنه قبل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تعملونَه من الامتثالِ وتركه فيرتب على كلَ منهما جزاءَه ثواباً وعقاباً وأمَّا على الوجهِ الأخيرِ فبطريقِ الترغيب فقط كأنَّه قيل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يعملُه كلا الفريقينِ فيرشدك إلى ما فيه صلاحٌ حالِك وانتظامُ أمرِك ويُطلعك على ما يعملونَه من المكايدِ والمفاسدِ ويأمُرك بما ينبغِي لك أنْ تعملَه في دفعِها وردِّها فلا بُدَّ من اتباعِ الوحيِ والعمل بمقتضاه حتما
89
الاحزاب ٣ ٥
90
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ أي فوض جميع أمورك إليه ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ حافظاً موكُولاً إليه كلُّ الأمورِ
﴿مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ﴾ شروعٌ في إلقاءِ الوحيِ الذي أمر ﷺ باتباعه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى ﴿وما جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ﴾ وتنبيهاً على أنَّ كون المُظاهَرِ منها اما وكون الدعى ابناً أي بمنزلة الأمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودة فيما بينهم في الاستحالةِ بمنزلة اجتماعِ قلبينِ في جوفٍ واحدٍ وقيل هو ردٌّ لما كانتِ العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبانِ ولذلك لأبي معمرٍ أو لجميلِ بن سيد الفهريِّ ذُو القلبينِ أي ما جمعَ الله تعالى قلبينِ في رجلٍ وذِكرُ الجوفِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه تعالى ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفيِ الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفى بين حقيقة الدعوة والنبوة كما في القلبِ ولا بمعنى نفيِ الجمعِ بين أحكامِ الزوجيةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين أحكامِ الدعوة وأحكام النبوة على الإطلاقِ بل بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزوجية وأحكام الأمومة ونفي الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ واحكام النبوة لإبطالِ ما كانُوا عليهِ من إجراءِ أحكامِ الأُمومةِ على المظاهرِ منها وإجراءِ احكام النبوة على الدَّعيِّ ومعنى الظِّهارِ أنْ يقولَ لزوجتِه أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبارِ اللَّفظ كالتَّلبيةِ من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنِه معنى التجنبِ لأنَّه كان طلاقاً في الجاهليةِ وهو في الإسلامِ يقتضِي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداءِ الكفَّارةِ كما عُدِّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ وذُكر الظِّهارُ للكنايةِ عن البطنِ الذي هو عمودُه فإنَّ ذِكرَه قريبٌ من ذكرِ الفرجِ أو التغليظ في التَّحريمِ فإنَّهم كانُوا يُحرِّمون إتيانَ الزَّوجةِ وظهرُها الى السماء وقرئ اللاء وقرئ تظاهرونَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغامِ التَّاءِ الثَّانيةِ في الظَّاءِ وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد وتَظْهُرون من ظَهر ظُهوراً وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولداً على الشُّذوذِ لاختصاصِ أَفعِلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبِّه به في اللَّفظِ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء ﴿ذلكم﴾ إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذكر من الظهار والدعاء أو إلى الأخيرِ الذي هو المقصودُ من مساقِ الكلامِ أي دعاءُكم بقولِكم هذا ابني ﴿قَوْلُكُم بأفواهكم﴾ فقط من غيرِ أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيانِ فإذن هُو بمعزلٍ من استتباعِ أحكامِ البنوَّةِ كما زعمتُم ﴿والله يَقُولُ الحق﴾ المطابقَ للواقعِ ﴿وَهُوَ يَهْدِى السبيل﴾ أي سبيلِ الحقِّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ
﴿ادعوهم لآبَائِهِمْ﴾ أي أنسبُوهم
90
الأحزاب ٧٦ إليهم وخُصُّوهم بهم وقولُه تعالى ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله﴾ تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدرِ ادعُوا كما في قولِه تعالى اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى وأقسطُ أفعلُ قُصد به الزيادةَ مطلقاً من القسطِ بمعنى العدلِ أي الدُّعاء لآبائِهم بالغٌ في العدلِ والصِّدقِ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم﴾ فتنسبُوهم إليهم ﴿فَإِخوَانُكُمْ﴾ فهم إخوانُكم ﴿فِى الدين ومواليكم﴾ وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالاخوة الدينية والمولوبة ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي إثمٌ ﴿فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهوِ أو النِّسيانِ أو سبقِ اللِّسانِ ﴿ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ لعفوهِ عن المخطئ وحكمُ التبنِّي بقولِه هو ابني إذا كان عبداً للفائل العتقِ على كلِّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلاَّ إذا كان مجهولَ النَّسبِ وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثلِ المتبنِّي ولم يُقرَّ قبله بنسبِه من غيرهِ
91
﴿النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاق فيجب عليه ان يكون ﷺ أحبَّ إليهم من أنفسِهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمِها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقِها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتِهم عليها روى انه ﷺ أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخروج فقال ناس نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتِنا فنزلتْ وقرئ وهو أبٌ لهم أي في الدِّينِ فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَتهِ من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً ﴿وأزواجه أمهاتهم﴾ أي منزلات منزلَة الأمَّهاتِ في التَّحريمِ واستحقاقِ التَّعظيمِ وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبياتِ ولذلك قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنها لسنا أُمَّهاتِ النِّساءِ ﴿وَأُوْلُو الأرحام﴾ أي ذو القراباتِ ﴿بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدرِ الإسلام من التوارث بالهجرةِ والمُوالاة في الدِّينِ ﴿فِى كتاب الله﴾ في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريثِ أو فيما فرضَ الله تعالى ﴿مِنَ المؤمنين والمهاجرين﴾ بيانٌ لأولي الأرحامِ أو صلةٌ لأُولي أي أولُو الأرحامِ بحقِّ القرابةِ أَولى بالميراثِ من المؤمنينَ بحقِّ الدِّينِ ومن المهاجرينَ بحقِّ الهجرةِ ﴿إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً﴾ استثناء من أعمِّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيهِ من النَّفعِ والمرادُ بفعلِ المعروفِ التَّوصيةُ أو منقطع ﴿كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا﴾ أي كانَ مَا ذُكر من الآيتينِ ثابتاً في اللَّوحِ أو القُرآنِ وقيل في التوارة
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ﴾ أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودِهم بتبليغِ الرِّسالةِ والدُّعاءِ إلى الدِّينِ الحقِّ ﴿وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيمُ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ وتخصيصُهم بالذكر مع
91
الاحزاب ٨ ٩ اندارجهم في النبيين اندارجا بيناً للإيذانِ بمزيدِ مزيَّتِهم وفضلِهم وكونِهم من مشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ وأساطينِ أولي العزم من الرسال وتقديم نبينا عليهم عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ خطرهِ الجليلِ ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً﴾ أي عهداً عظيمَ الشَّأنِ أو مُؤكَّداً باليمينِ وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينِه وأخذُه هو أخذُه والعطفُ مبنيٌّ على تنزيلِ التغايُرِ العنوانيِّ منزلَة التغايرِ الذَّاتيِّ تفخيماً لشأنِه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ اثر قولِه تعالى فلمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وقولُه تعالى
92
﴿لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ﴾ متعلق بمضمر مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من أخذِ الميثاقِ وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفسِ الميثاقِ ثمَّ بيانُ الغرضِ منه بياناً قصديَّاً كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات إلى الغَيبةِ أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه أي ليسألَ الانبياء الذين صدقوا عهدهم عمَّا قالُوه لقومِهم أو عن تصديقِهم إيَّاهم تبكيتاً لهم كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل من أن المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسِهم عن صدقِهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكيرِ ميثاقِ النبيينَ وقولُه تعالى ﴿وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً﴾ عطف ما ذُكر من المضمرِ لا على أخذَنا كما قيلَ والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسلِ وأخذَ الميثاقِ منهم لإثابةِ المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياءِ الدَّعوةَ إلى دينِه لأجلِ إثابةِ المؤمنين تعسف ظاهر أنَّه مفضٍ إلى كونِ بيانِ إعدادِ العذابِ الأليمِ للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ نعم يجوزُ عطفُه على ما دل عليه قوله تعالى ليسألَ الصَّادقينَ كأنَّه قيل فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرين الآية
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ إنْ جُعل النِّعمةَ مصدرَاً فالجارُّ متعلِّقٌ بها وإلا فهوُ متعلِّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم ﴿إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ﴾ ظرفٌ لنفسِ النِّعمةِ أو لثبوتِها لهم وقيل منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله والمرادُ بالجنودِ الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفاً فلمَّا سمعَ رسول الله ﷺ بإقبالِهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ بإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ ثمَّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القومِ وأمرَ بالذَّرارىِ والنِّساءِ فَرفعوا في الآطامِ واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النِّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتِّبُ بنُ قُشيرٍ كان محمدٌ يَعِدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائطِ ومضَى على الفريقينِ قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرارُ بنُ الخطَّابِ ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبوا
92
الأحزاب ١٠ خيولَهم وتيَّممُوا من الخندقِ مكاناً مضيقاً فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندقِ وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلتِ الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلماً ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضيَ الله عنه يا عمر واني أدعُوك إلى الله ورسولِه والإسلامِ قال لا حاجةَ لي اليه فإنيِّ أدعُوك إلى النِّزالِ قال يا ابنَ أخي والله لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنِّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُوراً مشهُوراً بالشَّجاعةِ واقتحمَ عن فرسِه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولاَ وتجاولاَ فضربه علي رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندقِ هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلين منبه بن عثمان ابن عبدِ الدَّار ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ المُغيرةِ المخزومِّي قتلَه أيضاً عليٌّ رضي الله عنه وقيل لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبلِ والحجارةِ حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً﴾ عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيانِ النِّعمةِ إجمالاً وسيأتي بقيَّتُها في آخرِ القصَّة ﴿وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ وهم الملائكةُ عليهم السَّلامُ وكانُوا ألفاً بعثَ الله عليهم صَباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفتِ التُّرابَ في وجوهِهم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعتِ الأطنابَ وأطفأتِ النِّيرانَ وأكفأتِ القُدورَ وماجتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب وكبَّرتِ الملائكةُ في جوانبِ عسكرِهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلدِ الأسديُّ أما محمدٌ فقد بدأكم بالسِّحرِ فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غيرِ قتالٍ ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من حفرِ الخندقِ وترتيب مبادي الحربِ وقيل من التجائِكم إليه ورجائِكم من فضلِه وقُرىء بالياءِ أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرزِ والمحاربةِ أو من الكفرِ والمعاصِي ﴿بَصِيراً﴾ ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصرِكم عليهم والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله
93
﴿إذ جاؤوكم﴾ بدلٌ من إذْ جاءتْكُم ﴿مّن فَوْقِكُمْ﴾ من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعهم من اهل نجد قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنضِير ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الابصار﴾ عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ ﴿وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قولِه تعالَى ﴿وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا﴾ لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم هذا مَا وَعَدَنَا
93
الأحزاب ١١ ١٣ الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرار وقرىء الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي
94
﴿هُنَالِكَ﴾ ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ ﴿ابتلى المؤمنون﴾ أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزلِ ﴿وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ من الهَولِ والفزعِ وقُرىء بفتحِ الزَّاي
﴿وَإِذْ يَقُولُ المنافقون﴾ عطفٌ على إذْ زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِلالة على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه ﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي ضعفُ اعتقادٍ ﴿مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ﴾ من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ ﴿إِلاَّ غُرُوراً﴾ أي وعدَ غرورٍ وقيل قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ
﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ﴾ هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بن أبي واشياعه ﴿يا أهل يَثْرِبَ﴾ هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال هي طَيبةُ أو طَابةُ كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له ﷺ ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها ﴿لاَ مُقَامَ لَكُمْ﴾ لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم ههنا يُريدون المعسكرَ وقُرىء بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ اولا موضعَ قيامٍ لكم ﴿فارجعوا﴾ أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل المعنى لاقيام لكم في دين محمد ﷺ فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعوا عما يعتموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه اولا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى﴾ معطوفٌ على قالتْ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمة استأذنوه ﷺ في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم وقولُه تعالى ﴿يَقُولُونَ﴾ بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عورة من عورة الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قرئ بها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ ﴿وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ﴾ والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ
94
الاحزاب ١٤ ١٧
﴿إِن يُرِيدُونَ﴾ ما يُريدون بالاستئذانِ ﴿إِلاَّ فِرَاراً﴾ من القتالِ
95
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أُسند لدخول إلى بيوتِهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ وهم فيها الا فرضُ دخولِها مطلقاً كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخولِ عليهم مطلقاً كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ ﴿مّنْ أَقْطَارِهَا﴾ أي من جميعِ جوانبِها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلِّيةِ ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهلِ الدَّعارةِ والفسادِ ﴿ثُمَّ سُئِلُواْ﴾ من جهةِ طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلةِ والرَّجفةِ الهائلةِ ﴿الفتنة﴾ أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفرِ مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمانِ والطَّاعةِ ﴿لأَتَوْهَا﴾ لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهيةِ الدَّهياءِ والغارةِ الشَّعواءِ وقُرىء لأتَوَها بالقصرِ أي لفعلوها وجاءوها ﴿وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا﴾ بالفتنةِ أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها ﴿إِلاَّ يَسِيراً﴾ ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمانِ فضلاً عن التعلل باختلال البيوتِ مع سلامتِها كما فعلُوا الآنَ وقيل ما لبثُوا بالمدينةِ بعد الارتدادِ إلا يسيراً والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ هذا وأما تخصيصُ فرضِ الدُّخولِ بتلك العساكرِ المتحزبةِ فمع منافاتِه للعمومِ المستفادِ من تجريدِ الدُّخولِ عن الفاعلِ ففيه ضربٌ من فسادِ الوضعِ لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقِّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارعُوا إليه آثِرَ ذي أثيرٍ من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ففرضُ الدُّخولِ عليهم من جهةِ العساكرِ المذكورةِ وإسنادِ سؤالِ الفتنةِ والدَّعوةِ إلى الكفرِ إلى طائفةٍ اخرى مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدِّينِ المُباشرون لقتالِ المؤمنين المُصرُّون على الإعراضِ عن الحقِّ المُجدُّون في الدُّعاءِ إلى الكُفر والضَّلالِ بمعزلٍ من التَّقريبَ
﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الادبار﴾ فإنَّ بني حارثةَ عاهدوا رسول الله ﷺ يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثلِه وقيل هم قُومٌ غابُوا عن وقعةِ بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامةِ والفضيلةِ فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالاً لنقاتلنَّ ﴿وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً﴾ مطلوباً مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل مسئولا عن الوفاءِ به ومجازي عليهِ
﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل﴾ فإنَّه لا بدَّ لكلِّ شخصٍ من حتف انف او قتل سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلم ﴿وإذا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلاً فمُتعتم بالتَّأخيرِ لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلاَّ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً
﴿قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾
95
أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأولِ لما في العصمةِ من مَعنى المنعِ ﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً﴾ ينفعُهم ﴿وَلاَ نَصِيراً﴾ يدفعُ عنهم الضَّررَ
96
﴿قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ﴾ أي المُثبطين للنَّاسِ عن رسول الله ﷺ وهُم المنافقونَ ﴿والقائلين لإخوانهم﴾ من منافِقي المدينةِ ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ وهو صوتٌ سُمي به فعل متعد نحوا احضرْ أو قرِّب ويستوي فيه الواحدُ والجماعةُ على لغةِ أهلِ الحجازِ وأمَّا بنُو تميمٍ فيقولون هُلمَّ يا رجلُ وهلمُّوا يا رجالُ أي قرِّبوا أنفسَكم إلينا وهذا يدلُّ على أنَّهم عند هذا القولِ خارجون من المعسكرِ متوجِّهون نحوَ المدينةِ ﴿وَلاَ يَأْتُونَ البأس﴾ أي الحرابَ والقتالَ ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً فإنَّهم يعتذرون ويُثبطون ما أمكنَ لهم ويخرجون مع المؤمنين يوهمونهم انهم معهم ولا تراهُم يبارزون ويُقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه كقولِه تعالى مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً وقيل إنَّه من تتمةِ كلامِهم معناه ولا يأتي أصحابُ محمدٍ حربَ الأحزابِ ولا يُقاومونهم إلا قليلاً
﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ أي بخلاءُ عليكم بالمعاونةِ أو النَّفقةِ في سبيلِ الله أو الظَّفرِ والغنيمةِ جمع شحيحٍ ونصبُه على الحالية من فاعل يأنون او من المعوقينَ أو على الذمِّ ﴿فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ في أحداقِهم ﴿كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ صفةٌ لمصدرِ ينظرون أو حالٌ من فاعلِه أو لمصدرِ تدورُ أو حالٌ من أعينُهم أي ينظرون نظراً كائناً كنظرِ المغشيِّ عليه من معالجةِ سكراتِ الموت حذرا وخورا ولو اذا بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدورُ أعينُهم دوراناً كائناً كدورانِ عينِه أو تدورُ أعينُهم كائنةً كعينهِ ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الخوف﴾ وحِيزت الغنائمُ ﴿سَلَقُوكُم﴾ ضربُوكم ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ وقالُوا وفروا قسمَتنا فإنَّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكُم وبمكاننا غلبتُم عدوَّكم وبنا نُصرتم عليه والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ وقُرىء صَلَقوُكم ﴿أَشِحَّةً عَلَى الخير﴾ نُصب على الحاليَّةِ أو الذمِّ ويُؤيده القراءةُ بالرَّفعِ ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من صفاتِ السُّوء ﴿لَمْ يُؤْمِنُواْ﴾ بالإخلاصِ ﴿فَأَحْبَطَ الله أعمالهم﴾ أي أظهرَ بطلانَها إذ لم يثبُت لهم أعمالٌ فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقَهم فلم يبقَ مستتبعا لمنفعة دنيويةٍ أصلاً ﴿وَكَانَ ذلك﴾ الإحباطُ ﴿عَلَى الله يَسِيراً﴾ هيناً وتخصيصُ يُسره بالذكرِ مع أنَّ كلَّ شيءٍ عليه تعالى يسيرٌ لبيانِ أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بأنْ يظهر حبُوطها لكمالِ تعاضدِ الدَّواعِي وعدمِ الصَّوارفِ بالكُلِّيةِ
﴿يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ﴾ أي هؤلاء
96
الأحزاب ٢١ ٢٢ لجبنِهم يظنُّون أنَّ الأحزابَ لم ينهزمُوا ففرُّوا إلى داخلِ المدينةِ ﴿وَإِن يَأْتِ الاحزاب﴾ كرَّةً ثانيةً ﴿يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب﴾ تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ حاصلون بين الاعراب وقرئ بُدَّى جمع بادٍ كغازٍ وغزى ﴿يسألون﴾ كلَّ قادمٍ من جانبِ المدينة وقرئ يُساءلون أي يتساءلُون ومعناه يقولُ بعضُهم لبعضٍ ماذا سمعتَ ماذا بلغكَ أو يتساءلُون الأعرابَ كما يقال رأيتُ الهلالَ وتراءيناهُ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد تُجرَّدُ عن معنى كونِ ما أُسندت إليه فاعلاً من وجهٍ ومفعولاً من وجهٍ ويكتفي بتعدُّدِ الفاعلِ كما في المثال المذكورة ونظائرِه ﴿عَنْ أَنبَائِكُمْ﴾ عمَّا جَرَى عليكم ﴿وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ﴾ هذه الكرَّة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال ﴿مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ رياءً وخوفاً من التَّعييرِ
97
﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ خصلة حسنة حقها يُؤتسى بها كالثَّباتِ في الحربِ ومقاساةِ الشَّدائدِ أو هو في نفسه قدوة يحق النأسي به كقولك في البيضة عشرون منّاً حديداً أي هي في نفسِها هذا القدر من الحديد وقرئ بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيها ﴿لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر﴾ أي ثوابَ الله أو لقاءَهُ أو أيَّامَ الله واليَّومَ الآخرَ خُصوصاً وقيل هو مثلُ قولِك أرجُو زيداً وفضَله فإنَّ اليومَ الآخرَ من أيامِ الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدلٌ من لكُم والأكثرونَ على أنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبدلُّ منه ﴿وَذَكَرَ الله﴾ أي وقَرن بالرَّجاءِ ذكَر الله ﴿كَثِيراً﴾ أي ذِكراً كَثيراً أو زماناً كَثيراً فإنَّ المُثابرةَ على ذكرِه تعالى تُؤدِّي إلى مُلازمةِ الطَّاعةِ وبها يتحقَّقُ الائتساء برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم
﴿وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب﴾ بيانٌ لما صدَر عن خُلَّصِ المؤمنينَ عند اشتباهِ الشئون واختلافِ الظُّنونِ بعد حكايةِ ما صدرَ عن غيرِهم أي لمَّا شاهدُوهم حسبما وصفُوا لهم ﴿قَالُواْ هذا﴾ مُشيرين إلى ما شاهدُوه من حيثُ هو من غيرِ أنْ يخطرَ ببالِهم لفظٌ يدلُّ عليهِ فضلاً عنْ تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما من أحكامِ اللَّفظِ كما مر في قوله تعالَى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى وجعله إشارةً إلى الخطبِ أو البلاءِ من نتائجِ النَّظرِ الجليلِ فتدبَّر نَعم يجوزُ التذكير باعتبار الخبر بالذي هُو ﴿مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ﴾ فإنَّ ذلكَ العُنوان أولُ ما يخطُر ببالِهم عند المُشاهدةِ ومرادُهم بذلك ما وعدُوه بقولِه تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء إلى قوله تعالى إلا أن نَصْرَ الله قَرِيبٌ وقولِه وقوله ﷺ سيشتدُّ الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم والعاقبةُ لكم عليهم وقوله ﷺ إنَّ الأحزابَ سائرونَ إليكُم بعدَ تسعِ ليالٍ أو عشر وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وفتح الهمزةِ ﴿وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ﴾ أي ظهَر صدقُ خبرِ الله تعالى ورسولِه أو صَدَقا في النُّصرة والثَّوابِ كما صَدَقا في البلاءِ وإظهارِ الاسمِ للتَّعظيم ﴿وَمَا زَادَهُمْ﴾ أي ما رَأَوه ﴿إِلاَّ إِيمَانًا﴾ بالله تعالى وبمواعيدهِ
97
الاحزاب ٢٣
﴿وَتَسْلِيماً﴾ لأوامرِه ومقاديرِه
98
﴿مِنَ المؤمنين﴾ أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة ﴿رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ﴾ من الثَّباتِ مع الرَّسولِ ﷺ والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجال منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله ﷺ ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعب ابن عمير وأنس بن النضر وغيرُهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كَما في قولِهم صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما يجعل المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي وقالوا له سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً ﴿فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ﴾ تفصيلٌ لحال الصادقين وتقسيم الى قسمين والحب النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى ﴿وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله﴾ الآيةَ أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعب بن عمير وأنس بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ ابن مالكٍ وغيرِهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي ﴿وَمِنْهُمُ﴾ أي وبعضهم أو وبعضٌ منهم ﴿مَّن يَنتَظِرُ﴾ أي قضاء نحبه لكونه موقتا كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله ﷺ والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إما بتنزيل أسبابِه التي هي أفعالٌ اختيارية للناذر منزلة الالتزام نفسه وإما بتتزيل نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقام المدح وأياما كان في وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ ﴿وَمَا بَدَّلُواْ﴾ عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه ﴿تَبْدِيلاً﴾ أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكون أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحكم
98
الاحزاب ٢٤ ٢٥ ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أن طلحة رضى الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله ﷺ يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يده فقال ﷺ أوجبَ طلحةُ الجنَّة وفي رواية أوجبَ طلحةُ وعنه ﷺ في رواية جابرٌ رضيَ الله عْنهُ من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وفي رواية عائشةَ رضيَ الله عنها من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً
99
﴿لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ﴾ متعلق بمضمر مستأنف مسوق بطريقِ الفذلكةِ لبيانِ ما هُو داعٍ إلى وقوعِ ما حُكي من الأحوالِ والأقوالِ على التَّفصيلِ وغاية له كما مرَّ في قوله تعالى ليسأل الصادقين عَن صِدْقِهِمْ كأنَّه قيلَ وقعَ جميعُ ما وقعَ ليجزيَ الله الصَّادقين بما صدرَ عنهُم منَ الصِّدقِ والوفاءِ قولاً وفعلاً ﴿وَيُعَذّبَ المنافقين﴾ بما صدرَ عنهُم منَ الأعمالِ والأقوالِ المحكيَّةِ ﴿إِن شَاء﴾ تعذيبَهم ﴿أَوْ يتوبَ عَلَيْهِمْ﴾ إنْ تابُوا وقيل متعلقٌ بما قبلَه من نفيِ التَّبديلِ المنطوقِ وإثباته المعرضَ به كأنَّ المُنافقين قصدُوا بالتَّبديلِ عاقبةَ السُّوءِ كما قصدَ المُخلصون بالثباتِ والوفاءِ العاقبةَ الحُسنى وقيلَ تعليلٌ لصدقُوا وقيل لما يُفهم من قولِه تعالَى وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً وقيل لما يُستفاد من قولِه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب كأنَّه قيل ابتلاهُم الله تعالى برؤية ذلك الخطيب ليجزيَ الآيةَ فتأمَّل وبالله التَّوفيق ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي لمن تابَ وهُو اعتراضٌ فيه بعثٌ إلى التَّوبةِ وقولُه تعالى
﴿وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ﴾ رجوعٌ إلى حكايةِ بقيةِ القصَّةِ وتفصيلُ تتمةِ النِّعمةِ المشارِ إليها إجمالاً بقولِه تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا معطوفٌ إمَّا على المضمرِ المقدرُ قبل قولِه تعالى لّيَجْزِىَ الله كأنَّه قيل إثرَ حكايةِ الأمورِ المذكورةِ وقعَ ما وقعَ من الحوادثِ وردَّ الله الخ وإمَّا على أرسلنَا وقد وسِّط بينهما بيانُ كونِ ما نزَل بهم واقعةً طامَّة تحيَّرتْ بها العقولُ والأفهامُ وداهيةً تامَّةً تحاكت منها الرُّكبُ وزلَّتِ الأقدامُ وتفصيلُ ما صدَر عن فريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكفرِ والنفاقِ من الأحوالِ والأقوالِ لإظهار عظم النعمة إبانه خطرِها الجليلِ ببيانِ وصولِها إليهم عند غايةِ احتياجِهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفرُوا والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وقولُه تعالى ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ حالٌ من الموصولِ أي مُلتبسين بهِ وكذا قولُه تعالى ﴿لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ بتداخلٍ أو تعاقبٍ أي غيرَ ظافرينَ بخير أو الثَّانية بيانٌ للأُولى أو استئنافٌ ﴿وَكَفَى الله المؤمنين القتال﴾ بما ذُكر من إرسالِ الرِّيحِ والجُنودِ ﴿وَكَانَ الله قَوِيّاً﴾ على إحداثِ كلِّ ما يريد ﴿عزيزا﴾
99
الاحزاب ٢٦ ٢٨ غالبا على كل شئ
100
﴿وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم﴾ أي عاونُوا الأحزابَ المردودةَ ﴿مّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ وهُم بنُو قريظةَ ﴿مِن صَيَاصِيهِمْ﴾ من حصونهم جميع صِيصِيَة وهي ما يُتحصَّن به ولذلكَ يقالُ لقرنِ الثَّورِ والظَّبيِ وشوكةِ الدِّيكِ ﴿وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ الخوفَ الشَّديدَ بحيثُ أسلمُوا أنفسَهم للقتلِ وأهليهم وأولادَهم للأسرِ حسبَما ينطِق به قولُه تعالى ﴿فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً﴾ من غيرِ أن يكون من جهتِهم حَراكٌ فضلاً عن المُخالفةِ والاستعصاءِ رُوي أنَّ جبريلَ عليهِ السلام أتى رسول ﷺ صبيحةَ اللَّيلةِ التي انهزمَ فيها الأحزابُ ورجعَ المُسلمون إلى المدينةِ ووضعُوا السِّلاحَ فقال أتنزعْ لأمَتك والملائكةُ ما وضعُوا السِّلاحَ إنَّ الله يأمرُك أن تسيرَ إلى بني قُريظةَ وأنا عامدٌ إليهم فأذَّن في النَّاسِ أنْ لا يصلُّوا العصرَ إلا ببني قُريظةَ فحاصرُوهم إحدى وعشرينَ أو خَمساً وعشرين ليلةً حتَّى جهدَهم الحصارُ فقال لهم تنزلُون على حُكمي فأبَوا فقالَ عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ فرضُوا به فحكم سعد بقتل وسبيِ ذرارِيهم ونسائِهم فكبَّر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقالَ لقد حكمتَ بحُكم الله من فوقِ سبعةِ أرقعةٍ فقُتلَ منهم ستمائةُ مقاتلٍ وقيل من ثمانمائةُ إلى تسعمائةُ وأُسر سبعمائةٌ وقُرىء تأسُرونَ بضمِّ السِّينِ كما قُرىء الرُّعبُ بضمِّ العينِ ولعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لتفصيلِه وتقسيمِه كما في قولِه تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وقوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاةِ الفواصلِ
﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم﴾ أي حصونهم ﴿وأموالهم﴾ ونقودهم وأثاثَهم ومواشيهم رُوي أنَّ رسولَ الله ﷺ جعلَ عقارَهم للمهاجرينَ دونَ الأنصارِ فقالتِ الأنصارُ في ذلك فقال ﷺ إنَّكم في منازلِكم فقال عمرُ رضي الله عنه أَمَا تُخمس كما خمَّستَ يوم بدر فقال ﷺ لا إنَّما جُعلتْ هذه لي طعمةً دونَ النَّاسِ قالُوا رضينَا بما صنعَ الله ورسولُه ﴿وَأَرْضاً لَّمْ تطؤوها﴾ أي أورثَكم في علمِه وتقديرِه أرضاً لم تقبضُوها بعدَ كفارسَ والرُّومِ وقيل كلُّ أرضٍ تُفتح إلى يومِ القيامةِ وقيلَ خيبرُ ﴿وَكَانَ الله على كُلّ شَىْءٍ قَدِيراً﴾ فقد شاهدتُم بعض مقدوراته من إيراثِ الأراضِي التي تسلَّمتموها فقيسُوا عليها ما عَدَاها
﴿يا أيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا﴾ أي السَّعةَ والتَّنعمَ فيها ﴿وزينتها﴾ وزخافها ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾ أي أقبلنَ بإرادتِكن واختيارِكن لإحدى الخصلتينِ كما يُقال أقبل يُخاصمني وذهبَ يُكلِّمني وقامَ يُهددني ﴿أُمَتّعْكُنَّ﴾ بالجزمِ جواباً للأمرِ وكذا ﴿وأسرحكن﴾ أي أعطكن المتعة وأطلقكن ﴿سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ طلاقاً من غير ضرار وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ رُوي أنهن سألنه ﷺ ثيابَ الزِّينةِ وزيادةَ النَّفقةِ فنزلت فبدأ بعائشة
100
الاحزاب ٢٩ ٣٠ فخيَّرها فاختارتْ الله ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ ثمَّ اختارتِ الباقياتُ اختيارَها فشكرَ لهنَّ الله ذلكَ فنزلَ لاَّ يحل لك النساء من بَعْدُ واختُلف في أنَّ هذا التخييرَ هل كان تفويض الطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى يقعَ الطَّلاقُ بنفسِ الاختيارِ أولا فذهبَ الحسنُ وقَتَادةُ وأكثرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّه لم يكُن تفويضَ الطَّلاقِ وإنَّما كانَ تخييراً لهنَّ بينَ الإرادتينِ على أنهنَّ إنْ أردنَ الدُّنيا فارقهنَّ ﷺ كما ينبئ عنه قولُه تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ وذهبَ آخرون إلى أنَّه كانَ تفويضاً للطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى لو أنهنَّ اخترنَ أنفسهنَّ كان ذلك طلاقاً وكذا اختُلف في حكمِ التَّخييرِ فقال ابنُ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم إذَا خيَّر رجلٌ امرأتَه فاختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً ولو اختارتْ نفسَها وقعتْ طلقةً بائنةً عندنا ورجعيَّةً عند الشَّافعيِّ وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وابنِ أبي لَيْلَى وسفيانَ ورُوي عن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّها إنِ اختارتْ زوجَها يقعُ طلقةً واحدةً وإنِ اختارتْ نفسَها يقعُ ثلاثَ طَلَقاتٍ وهو قولُ الحسنِ وروايةٌ عن مالكٍ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارتْ نفسَها فواحدةٌ بائنةٌ ورُوي عنه أيضاً أنها إنِ اختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً وعليه إجماعُ فقهاءِ الأمصارِ وقد رُوي عَنْ عائشةَ رضيَ الله عنها خيرنا رسول الله ﷺ فاخترنَاهُ ولم يعدَّه طلاقاً وتقديمُ التَّمتيعِ على التَّسريحِ من بابِ الكرمِ وفيه قطعٌ لمعاذيرهنَّ من أولِ الأمرِ والمتعةُ في المطلقةِ التي لم يُدخل بها ولم يُفرض لها صَداقٌ عند العقدِ واجبةٌ عندَنا وفيما عداهنَّ مستحبَّةٌ وهي دِرعٌ وخمارٌ وملحفةٌ بحسبِ السَّعةِ والإقتارِ إلا أنْ يكونَ نصفُ مهرِها أقلَّ من ذلكَ فحينئذٍ يجبُ لها الأقلُّ منهُما ولا يُنقص عن خمسةِ دراهمٍ
101
﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي تردنَ رسولَه وذكر الله عز وجل للإيذان بجلالة محله ﷺ عندَه تعالى ﴿والدار الاخرة﴾ أي نعيمَها الذي لا قدرَ عندَه للدُّنيا وما فيها جميعاً ﴿فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ﴾ بمقابلةِ إحسانِهن ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ لا يقادر قدره ولا يبلغ غايتُه ومِن للتَّبيينِ لأنَّ كلَّهن محسناتٌ وتجريدُ الشَّرطيةِ الأُولى عن الوعيدِ للمبالغةِ في تحقيقِ معنى التَّخييرِ والاحترازِ عن شائبةِ الإكراهِ وهو السرُّ فيما ذُكر من تقديمِ التَّمتيعِ على التَّسريحِ وفي وصفِ السَّراح بالجميل
﴿يا نساء النبى﴾ تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إليهنَّ لإظهارِ الاعتناءِ بنُصحهنَّ ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالاضافة اليه ﷺ لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة﴾ بكبيرةٍ ﴿مُّبَيّنَةٍ﴾ ظاهرةِ القُبحِ من بيَّن بمعنى تَبيَّن وقرئ بفتحِ الياءِ والمرادُ بها كلُّ ما اقترفنَ من الكبائرِ وقيل هي عصيانُهنَّ لرسول الله ﷺ ونشوزهنَّ وطلبهنَّ منه ما يشقُّ عليه أو ما يضيق به ذرعُه ويغتمُّ لأجله وقرئ تأتِ بالفوقانيَّةِ ﴿يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ﴾ أي يعذبنَّ ضعفي عذابِ غيرهنَّ أي مثليهِ لأنَّ الذنبَ منهنَّ أقبحُ فإنَّ زيادةَ قُبحه تابعةٌ لزيادةِ فضلِ المذنبِ والنعمة عليه
101
الاحزاب ٣١ ٣٣ ولذلك جُعل حدُّ الحرِّ ضعفَ حدِّ الرَّقيقِ وعُوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا يُعاتب به الامم وقرئ يُضعَّف على البناءِ للمفعولِ ويُضاعف ونُضعِّف بنونِ العظمةِ على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ العذابِ ﴿وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً﴾ لا يمنعُه عن التَّضعيفِ كونُهنَّ نساءَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بل يدعُوه إليهِ لمراعاةِ حقِّهِ
102
﴿ومن يقنت منكن﴾ وقرئ بالتَّاءِ أي ومن يدُم على الطَّاعةِ ﴿للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ مرةً على الطَّاعةِ والتَّقوى وأُخرى على طلبهن رضا رسول الله ﷺ بالقناعة وحسن المعاشرة وقرئ يَعملْ بالياءِ حملاً على لفظِ مَنْ ويُؤتها على أنَّ فيهِ ضميرَ اسمِ الله تعالى ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا﴾ في الجنَّةِ زيادةً على أجرِها المضاعفِ ﴿رِزْقاً كَرِيماً﴾ مرضيا
﴿يا نساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء﴾ أصلُ أحدٍ وَحَد بمعنى الواحدِ ثم وُضع في النَّفيِ مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والكثيرُ والمعنى لستنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعاتِ النِّساءِ في الفضلِ والشَّرفِ ﴿إِنِ اتقيتن﴾ مخالفةَ حكمِ الله تعالى ورضا رسولِه أو إنِ اتصفتنَّ بالتَّقوى كما هُو اللائقُ بحالِكنَّ ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول﴾ عند مخاطبةِ النَّاسِ أي لا تُجبْن بقولِكن خاضعاً ليِّناً على سَننِ قولِ المريبات والمُومساتِ ﴿فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ أي فجور وريبة وقرئ بالجزمِ عطفاً على محلِّ فعل النَّهي على أنَّه نهيٌ لمريضِ القلبِ عن الطمعِ عقيب نهيهنَّ عن الإطماعِ بالقولِ الخاضعِ كأنَّه قيل فلا تخضعْنَ بالقولِ فلا يطمعَ مريضُ القلبِ ﴿وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ بعيداً عن الريبة والاطماع بحد وخشُونةٍ من غيرِ تخنيثٍ أو قولاً حسناً مع كونِه خَشِناً
﴿وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ﴾ أمرٌ من قريقر من بابِ علَم وأصله اقرَرْنَ فحُذفتْ الرَّاءُ الأولى وألقيتْ فتحتُها عَلى ما قبلَها كَما في قولِك ظلْن أو من قارَّ يقار إذا اجتمع وقرئ بكسرِ القافِ من وَقِر يَقِر وَقَاراً إذا ثبتَ واستقرَّ وأصلُه أوقرنَ ففعل به ما فُعل بعِدن من وَعد أو من قريقر حذفت إحدى راءي اقررن ونُقلت كسرتُها إلى القافِ كما تقول ظلن ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ﴾ أي لا تتبخترْن في مشيكنَّ ﴿تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى﴾ أي تبرجاً مثلَ تبرجِ النساءِ في الجاهليةِ القديمةِ وهي ما بينَ أدمَ ونوحٍ وقيلَ ما بين إدريس ونوحٍ عليهما السَّلامُ وقيل الزَّمانُ الذي وُلد فيه إبراهيمُ عليه السَّلامُ كانت المرأة تلبس درعها من اللُّؤلؤِ فتمشِي وسطَ الطَّريقِ تعرض نفسَها على الرِّجالِ وقيل زمنُ داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ والجاهليَّةُ الأُخرَى ما بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل الجاهلية الاولى جاهلية
102
الاحزاب ٣٤ ٣٥ الكفرُ والجاهليَّةُ الأُخرى الفسوقُ في الاسلام ويؤيد قوله ﷺ لأبي الدَّرداءِ إنَّ فيكَ جاهلية قال جاهليةَ كفرٍ أو جاهليةَ إسلامٍ قال بل جاهليةُ كفرٍ ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾ أُمرن بهما لإنافتِهما على غيرهما وكونهما اصلى الطَّاعاتِ البدنيةِ والماليةِ ﴿وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي في كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه ﴿إنما يريد الله ليذهب عَنكُمُ الرجس﴾ أي الذَّنبَ المدنس لعرضِكم وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئنافِ ولذلك عمم الحكم بتعمميم الخطابِ لغيرهنَّ وصرَّحَ بالمقصودِ حيثُ قيل بطريقِ النِّداءِ أو المدحِ ﴿أَهْلَ البيت﴾ مُراداً بهم من حَواهم بيتُ النُّبوة ﴿وَيُطَهّرَكُمْ﴾ من أوضارِ الأوزارِ والمَعاصي ﴿تَطْهِيراً﴾ بليغاً واستعارةُ الرِّجسِ للمعصيةِ والتَّرشيحُ بالتَّطهيرِ لمزيدِ التَّنفيرِ عنها وهذهِ كما ترى آيةٌ بينةٌ وحجَّةٌ نيرةٌ على كونِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من أهلِ بيتِه قاضيةً ببُطلان رأيِ الشِّيعةِ في تخصيصهم أهل البيتِ بفاطمةَ وعليَ وابنيهما رضوانُ الله عليهم وأمَّا ما تمسكوا به من أن رسول الله ﷺ خرجَ ذاتَ غُدوةٍ وعليه مرط مرجل من شَعَرٍ أسودَ وجلسَ فأتتْ فاطمةُ فأدخلَها فيهِ ثم جاءَ عليٌّ فأدخلَه فيه ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلَهما فيهِ ثمَّ قال إنَّما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ فإنَّما يدلُّ على كونِهم من أهلِ البيتِ لاعلى أنَّ من عداهم ليسُوا كذلك ولو فُرضت دلالتُه على ذلك لما اعتدَّ بها لكونِها في مُقابلةِ النَّصِّ
103
﴿واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ﴾ أي اذكُرن للنَّاس بطريقِ العظةِ والتَّذكيرِ ما يُتلى في بيوتكنَّ ﴿مِنْ آيات الله والحكمة﴾ من الكتابِ الجامعِ بين كونِه آياتِ الله البينةِ الدَّالَّةِ على صدقِ النُّبوةِ بنظمِه المُعجزِ وكونِه حكمةً منطويةً على فُنونِ العلومِ والشَّرائعِ وهو تذكيرٌ بما أنعم عليهنَّ حيثُ جعلهنَّ أهلَ بيتِ النُّبوةِ ومهبِطِ الوحيِ وما شاهدْن من بُرَحاءِ الوحيِ ممَّا يُوجب قوةَ الإيمانِ والحرصَ على الطَّاعةِ حثًّا على الانتهاءِ والائتمارِ فيما كُلّفنه والتعرضُ للتِّلاوةِ في البيوت دون النزول فيها مع أنَّه الأنسبُ لكونِها مهبطَ الوحيِ لعمومِها لجميعِ الآياتِ ووقوعِها في كلِّ البيوتِ وتكرُّرِها الموجبِ لتمكنهنَّ من الذِّكرِ والتَّذكيرِ بخلافِ النزولِ وعدمُ تعيينِ التَّالي لتعمَّ تلاوةَ جبريلَ وتلاوةَ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وتلاوتهنَّ وتلاوةَ غيرهنَّ تعليماً وتعلُّماً ﴿إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾ يعلمُ ويدبِّرُ ما يصلحُ في الدِّينِ ولذلك فعلَ ما فعلَ من الأمرِ والنَّهيِ أو يعلمُ مَن يصلُح للنُّبوةِ ومن يستأهلُ أنْ يكونَ من أهلِ بيتِه
﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ أي الدَّاخلينَ في السِّلمِ المُنقادينَ لحكمِ الله تعالى من الذُّكورِ والإناثِ ﴿والمؤمنين والمؤمنات﴾ المصدِّقينَ بما يجبُ أنْ يصدق
103
الاحزاب ٣٦ ٣٧ بهِ من الفريقينِ ﴿والقانتين والقانتات﴾ المداومين على الطاعة القائمينَ بها ﴿والصادقين والصادقات﴾ في القولِ والعملِ ﴿والصابرين والصابرات﴾ على الطَّاعاتِ وعَنِ المَعَاصي ﴿والخاشعين والخاشعات﴾ المتواضعينَ لله بقلوبِهم وجوارحِهم ﴿والمتصدقين والمتصدقات﴾ بما وجبَ في مالِهم ﴿والصائمين والصائمات﴾ الصَّومَ المفروضَ ﴿والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات﴾ عن الحرام ﴿والذاكرين الله كثيرا والذاكرات﴾ بقلوبِهم وألسنتِهم ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ﴾ بسببِ ما عمِلوا من الحسناتِ المذكورةِ ﴿مغفرة﴾ اقترفُوا من الصَّغائرِ لأنهنَّ مكفراتٌ بما عملُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ ﴿وَأَجْراً عَظِيماً﴾ على ما صدرَ عنهُم من الطاعات والايات وعدلهن ولأمثالِهنَّ على الطَّاعةِ والتَّدرعِ بهذهِ الخصالِ الحميدةِ رُوي أن أزواج النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهنَّ قلنَ يا رسولَ الله ذَكَر الله الرِّجالَ في القرآنِ بخيرٍ فما فينا خيرٌ نذكرُ به إنَّا نخافُ أنْ لا تقبل منَّا طاعةٌ فنزلتْ وقيلَ السَّائلةُ أمُّ سلمةَ ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ في نساء النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما نزلَ قالَ نساءُ المؤمنينَ فما نزلَ فينا شئ فنزلتْ وعطفُ الإناثِ على الذُّكورِ لاختلافِ الجنسينِ وهو ضروريٌّ وأمَّا عطفُ الزَّوجينِ على الزَّوجينِ فلتغايرِ الوصفينِ فلا يكونُ ضرورياً ولذلكَ تُرك في قولِه تعالى مسلمات مؤمنات وفائدتُه الدِّلالةُ على أنَّ مدارَ إعدادِ ما أُعدَّ لهُم جمعُهم بين هذهِ النُّعوتِ الجميلةِ
104
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي ما صحَّ وما استقامَ لرجلٍ ولا امرأةٍ من المؤمنينَ والمؤمناتِ ﴿إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً﴾ أيْ إذا قضَى رسولُ الله وذكرُ الله تعالى لتعظيم امره ﷺ أو للإشعارِ بأنَّ قضاءَهُ ﷺ قضاءُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّه نزلَ في زينبَ بنتِ جحشٍ بنتِ عمَّتِه أميمةَ بنتِ عبدِ المُطَّلبِ خطبها رسول الله ﷺ لزيدِ بنِ حارثةَ فأبتْ هيَ وأخُوها عبدُ اللَّه وقيلَ في أمِّ كُلثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي معيطٍ وهبتْ نفسَها للنبيِّ ﷺ فزوَّجها من زيدٍ فسخطتْ هي وأخُوها وقالا إنَّما أردنا الله ورسول الله فزوَّجنا عبدَه ﴿أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ أنْ يختارُوا من أمرِهم ما شاءوا بل يجبُ عليهم أنْ يجعلُوا رايهم تبعا لرأيه ﷺ واختيارهم تلو الاختيار وجمعُ الضَّميرينِ لعمومِ مؤمنٍ ومؤمنةٍ لوقوعِهما في سياقِ النَّفيِ وقيل الضَّميرُ الثَّانِي الرسول ﷺ والجمع للتعظيم وقرئ تكونَ بالتَّاءِ ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ﴾ في أمرٍ من الأمورِ ويعملْ فيهِ برأيِه ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ طريقَ الحق ﴿ضلال مُّبِينٍ﴾ أي بيِّن الانحرافِ عن سَنَنِ الصَّوابِ
﴿وَإِذْ تَقُولُ﴾ أي واذكُر وقتَ قولِك ﴿لِلَّذِى أَنعَمَ الله عليه﴾ بتوفيقه
104
الاحزاب ٣٨ للإسلامِ وتوفيقِك لحسنِ تربيتِه ومراعاتِه ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بالعملِ بما وفَّقك الله له من فنونِ الإحسانِ التي من جُملتها تحريرُه وهو زيد بنُ حارثةَ وإيرادُه بالعنوانِ المذكورِ لبيانِ منافاةِ حالِه لما صدرَ عنه ﷺ من إظهارِ خلافِ ما في ضميرِه إذ هُو إنَّما يقعُ عند الاستحياءِ أو الاحتشامِ وكلاهما ممَّا لا يُتصور في حقِّ زيدٍ ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ أي زينبَ وذلك أنَّه ﷺ أبصرَها بعد ما أنكحَها إيَّاه فوقعتْ في نفسِه حالةٌ جبلِّيةٌ لا يكادُ يسلمُ منها البشرُ فقالَ سبحانَ الله مقلبِ القلوبِ وسمعتْ زينبُ بالتَّسبيحةِ فذكرتْها لزيدٍ ففطِن لذلكَ ووقعَ في نفسِه كراهةُ صُحبتِها فاتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقال أريدُ أنْ أفارقَ صاحبتي فقال مالك أرابك منها شئ قال لا والله ما رأيتُ منها إلا خيراً ولكنَّها لشرفِها تتعظمُ عليَّ فقال له أمسكْ عليكَ زوجَك ﴿واتق الله﴾ في أمرِها فلا تُطلقها إضراراً وتعللاً بتكبّرها ﴿وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ وهو نكاحُها إنْ طلَّقها أو إرادةُ طلاقِها ﴿وَتَخْشَى الناس﴾ تعييرَهم إيَّاك به ﴿والله أَحَقُّ أَن تخشاه﴾ إنْ كانَ فيه ما يُخشى والواوُ للحالِ وليستْ المعاتبةُ على الإخفاءِ وحدَه بل على الإخفاءِ مخافةَ قالةِ النَّاسِ وإظهارِ ما ينافى إضمار فإنَّ الأَولى في أمثالِ ذلك أنْ يصمتَ أو يُفوِّضَ الأمرَ إلى ربِّه ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً﴾ بحيثُ لم يبقَ له فيها حاجةٌ وطلَّقها وانقضتِ عدَّتُها وقيل قضاءُ الوَطَرِ كنايةٌ عن الطَّلاقِ مثلُ لا حاجةَ لي فيك ﴿زوجناكها﴾ وقرئ زوَّجتكها والمرادُ الأمرُ بتزويجِها منه ﷺ وقيل جعَلَها زوجتَه بلا واسطةِ عقدٍ ويُؤيده أنَّها كانتْ تقولُ لسائرِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إنَّ الله تعالى تولَّى نكاحي وأنتنَّ زوجكنَّ أولياؤكنَّ وقيل كان زيدٌ السَّفيرَ في خطبتِها وذلك ابتلاءٌ عظيمٌ وشاهدُ عدلٍ بقوَّةِ إيمانه ﴿لكي لا يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ﴾ ضيقٌ ومشقَّةٌ ﴿فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ أي في حقِّ تزوجهن ﴿إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً﴾ فإنَّ لهم فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حسنة وفيه دلالة على أن حكمه ﷺ وحكمَ الأمَّة سواءٌ إلا ما خصَّه الدَّليلُ ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله﴾ أي ما يرتد تكوينَه من الأمورِ أو مأموره الخاص بكُنْ ﴿مَفْعُولاً﴾ مكوناً لا محالةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَه
105
﴿مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ﴾ أي ما صحَّ وما استقامَ في الحكمةِ أن يكونَ له ضيقٌ ﴿فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ﴾ أي قسمَ له وقدَّر من قولِهم فرَضَ له في الدِّيوانِ كذا ومنه فروضُ العساكرِ لأعطياتِهم ﴿سُنَّةَ الله﴾ اسمٌ موضوعٌ موضع المصدر كقولهم ترابا وجنَدْلاَ مؤكدٌ لما قبلَه من نفيِ الحرجِ أي سنَّ الله ذلك سُنَّةً ﴿فِى الذين خَلَوْاْ﴾ مضَوا ﴿مِن قَبْلُ﴾ من الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث وسَّع عليهم في بابِ النِّكاحِ وغيره ولقد كانتْ لداودَ عليه السَّلامُ مائة امرأة وثلثمائة سرّية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة وقولُه تعالَى ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً﴾ أي قضاءً مقضيَّا وحُكما مبتوتاً اعتراضٌ وُسِّط بين الموصولينِ الجاريينِ مجرى الواحدِ للمسارعةِ إلى تقريرِ نفيِ الحَرجِ وتحقيقه
105
الاحزاب ٣٩ ٤٢
106
﴿الذين يُبَلّغُونَ رسالاتِ الله﴾ صفةٌ للذين خَلَوا أو مدحٌ لهم بالنَّصبِ أو بالرفع وقرئ رسالةَ الله ﴿وَيَخْشَوْنَهُ﴾ في كلِّ ما يأتُون ويذرُون لا سيِّما في أمرِ تبليغِ الرِّسالةِ حيثُ لا يخرمُون منها حرَفاً ولا تأخذُهم في ذلكَ لومةُ لائمٍ ﴿وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله﴾ في وصفِهم بقصرِهم الخشيةَ على الله تعالى تعريض بما صدَرَ عنه ﷺ من الاحترازِ عن لائمةِ الخلقِ بعد التَّصريحِ في قولِه تعالى وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه ﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ كافياً للمخاوفِ فينبغي أنْ لا يُخشى غيرُه أو محاسباً على الصَّغيرةِ والكبيرةِ فيجبُ أنْ يكونَ حقُّ الخشيةِ منْهُ تعالى
﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ﴾ أي على الحقيقة حتى يثبتُ بينَهُ وبينَهُ ما يثبت بين الولد وولدِه من حُرمةِ المُصاهرة وغيرِها ولا ينتقضُ عمومُه بكونه ﷺ ابا الطاهر والقاسمِ وإبراهيمَ لأنهم لم يبلغوا الحُلُمَ ولو بلغُوا لكانوا رجالا له ﷺ لا لَهمُ ﴿ولكن رَّسُولَ الله﴾ أي كانَ رسولاً لله وكلُّ رسولٍ أبُو أمَّتهِ لكنْ لا حقيقةً بل بمعنى أنَّه شفيقٌ ناصحٌ لهم وسببٌ لحياتِهم الابدية وما زيدٌ إلا واحدٌ من رجالِكم الذين لا ولادة بينهم وبينه ﷺ فحكمه حكمُهم وليس للتبنِّي والادِّعاءِ حكمٌ سوى التَّقريبِ والاختصاصِ ﴿وَخَاتَمَ النبيين﴾ أي كان آخرهم الذي خُتموا به وقُرىء بكسر التَّاءِ أي كان خاتمِهم ويؤيده قراءةُ ابنِ مسعود ولكنْ نبياً ختَم النبيِّينَ وأيّاً ما كانَ فلو كانَ له ابنٌ بالغٌ لكان نبيّاً ولم يكنُ هو ﷺ خاتمَ النبيِّينَ كما يُروى أنَّه قالَ في إبراهيمَ حينَ تُوفِّي لو عاشَ لكانَ نبيّاً ولا يقدحُ فيه نزولُ عيسىَ بعدَهُ عليهما السَّلامُ لانَّ معنى كونِه خاتمَ النبيِّينَ أنَّه لا ينبأ احد بعده وعيسى ممَّن نُبِّىء قبلَه وحينَ ينزلُ إنَّما ينزلُ عملا على شريعةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم مُصلِّياً إلى قبلتِه كأنَّه بعضُ أمَّتهِ ﴿وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً﴾ ومن جُملتهِ هذهِ الأحكامُ والحِكمُ التي بيَّنها لكُم وكنتمُ منها في شكَ مريبٍ
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا الله﴾ بما هُو أهلُه من التَّهليلِ والتحميد والتَّمجيدِ والتقديس ﴿ذِكْراً كَثِيراً﴾ يعمُّ الأوقاتِ والأحوالَ
﴿وَسَبّحُوهُ﴾ ونزِّهوه عمَّا لا يليقُ به ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي أوَّلَ النَّهارِ وآخرَه على أنَّ تخصيصَهُما بالذِّكرِ ليسَ لقصرِ التَّسبيحِ عليهما دُونَ سائرِ الأوقاتِ بل لإبانةِ فضلِهما على سائرِ الأوقاتِ لكونِهما مشهُودينِ كأفرادِ التَّسبيحِ من بينِ الأذكارِ مع اندراجهِ فيها لكونِه العُمدةَ فيها وقيل كِلا الفعلينِ متوجهٌ إليهما كقولِك صُمْ وصَلِّ يومَ الجمعةِ وقيلَ المرادُ بالتَّسبيحِ الصَّلاةُ
106
الاحزاب ٤٣ ٤٥
107
﴿هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ﴾ الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من الأمرينِ فإنَّ صلاتَهُ تعالى عليهم مع عدمِ استحقاقِهم لها وغناهُ عن العالمينَ ممَّا يُوجبُ عليهم المُداومةَ علَى ما يستوجبُه تعالى عليهم من ذكرِه تعالى وتسبيحِه وقوله تعالى ﴿وملائكته﴾ عطفٌ على المستكنِّ في يصلِّي لمكانِ الفصلِ المغنيِّ عن التَّأكيدِ بالمنفصلِ لكنْ لا على أنْ يُرادَ بالصَّلاةِ الرَّحمةُ أوَّلاً والاستغفارُ ثانياً فإنَّ استعمالَ اللَّفظِ الواحدِ في معنيينِ مُتغايرينِ ممَّا لا مساغَ له بل عَلى أنْ يُرادَ بهما معنى مجازيٌّ عامٌّ يكون كلا المعنيينِ فرداً حقيقياً له وهو الاعتناءُ بما فيهِ خيرُهم وصلاحُ أمرِهم فإنَّ كُلاًّ منَ الرَّحمةِ والاستغفارِ فردٌ حقيقيٌّ له أو التَّرحُّمُ والانعطافُ المعنويُّ المأخوذُ من الصَّلاةِ المُشتملةِ على الانعطافِ الصُّوري الذي هو الرُّكوعُ والسُّجودُ ولا ريبَ في أنَّ استغفارَ الملائكةِ ودعاءَهم للمؤمنينَ تَرحُّمٌ عليهم وأمَّا أنَّ ذلك سببٌ للرَّحمةِ لكونِهم مُجابي الدَّعوةِ كما قيلَ فاعتبارُه ينزعُ إلى الجمعِ بينَ المعنيينِ المُتغايرينِ فتدبَّرْ ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ متعلق بيصلِّي أي يعتني بأمورِكم هو وملائكتُه ليخرجَكم بذلك من ظلماتِ المعصيةِ إلى نُور الطَّاعةِ وقولُه تعالى ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً﴾ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي كانَ بكافَّة المُؤمنينَ الذين انتم من زمرتم رحيماً ولذلك يَفعل بكم ما يفعلُ من الاعتناءِ بإصلاحِكم بالذَّاتِ وبالواسطةِ ويهديكم إلى الإيمانِ والطَّاعةِ أو كانَ بكُم رحيماً على أنَّ المُؤمنين مُظهرٌ وُضعَ موضع المضمر مدحا لهم وإشعاراً بعلَّة الرَّحمةِ وقولُه تعالى
﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام﴾ بيانٌ للأحكامِ الآجلةِ لرحمةِ الله تعالى بهم بعدَ بيانِ آثارها العاجلةِ التي هي الاعتناءُ بأمرِهم وهدايتُهم إلى الطَّاعةِ أي ما يُحيَّون به على أنَّه مصدرٌ أُضيفَ إلى مفعولِه يومَ لقائِه عند الموتِ أو عندَ البعثِ منَ القُبورِ أو عندَ دخولٍ الجنَّةِ تسليم عليهم منَ الله عزَّ وجَلَّ تعظيماٍ لهُم أو منَ الملائكةِ بشارةً لهم بالجنَّةِ أو تكرمة لهُم كما في قولِه تعالى والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ أو إخبارٌ بالسَّلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ وقولُه تعالى ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً﴾ بيانٌ لأثارِ رحمتِه الفائضةِ عليهم بعدَ دُخولِ الجنَّةِ عقيبَ بيانِ آثارِ رحمتِه الواصلةِ إليهم قبلَ ذلكَ ولعلَّ إيثارَ الجملةِ الفعليةِ على الإسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلاً وأجرهم أجر كريم أو ولهم أجر كريم للمبالغة في التَّرغيبِ والتَّشويقِ إلى الموعُودِ ببيانِ أنَّ الأجرَ الذي هُو المقصِدُ الأقصى مِنْ بينِ سائرِ آثارِ الرَّحمةِ موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل
﴿يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً﴾ على مَن بُعثتَ إليهم تُراقبُ أحوالهم وتُشاهدُ أعمالَهم وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدرَ عنهُم منَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليهِ من الهدى والضَّلالِ وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبولا
107
الاحزاب ٤٦ ٤٩ فيما لهُم وما عليهم وهو حالٌ مقَّدرةٌ ﴿وَمُبَشّراً وَنَذِيراً﴾ تُبشر المؤُمنينَ بالجنَّةِ وتُنذرُ الكافرينَ بالنَّارِ
108
﴿وَدَاعِياً إِلَى الله﴾ أي إلى الإقرارِ به وبوحدانيَّتِه وبسائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ من صفاتِه وأفعالِه ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بتيسيرِه أُطلق عليه مجازاً لمَا أنَّه من أسبابِه وقُيِّدَ به الدَّعوةُ إيذاناً بأنَّها أمرٌ صعبُ المنالِ وخَطبٌ في غايةِ الإعضالِ لا يتأتَّى إلا بإمدادٍ من جنابِ قُدسِه كيفَ لا وهُو صرفٌ للوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودةٍ ﴿وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ يُستضاءُ به في ظلمات الجهل والغواية ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ
﴿وَبَشّرِ المؤمنين﴾ عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل فراقبْ أحوالَ النَّاسِ وبشِّرِ المؤمنين منهُم ﴿بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً﴾ أي على مُؤمني سائرِ الأممِ في الرُّتبةِ والشَّرفِ أو زيادةً على أجورِ أعمالِهم بطريقِ التَّفضلِ والإحسانِ
﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ نهيٌ عن مداراتِهم في أمرِ الدَّعوةِ واستعمالِ لينِ الجانبِ في التبليغِ والمسامحةِ في الإنذارِ كُني عن ذلكَ بالنَّهيِ عن طاعتِهم مبالغة في الزجر والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه بنظمه في سلكِها وتصويرِه بصورتِها ومن حمل النهي على التَّهييجِ والإلهابِ فقَدْ أبعدَ عنِ التَّحقيقِ بمراحلَ ﴿وَدَعْ أذاهم﴾ أي لاتبال بأذيَّتِهم لك بسببِ تصلبكَ في الدَّعوةِ والإنذارِ ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ في كلِّ ما تأتِي وما تذرُ من الشئون التي من جملتها هذا الشَّأنُ فإنَّه تعالى يكفيكهُم ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ موكُولاً إليهِ الأمورُ في كلِّ الأحوالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييل ولما وصف ﷺ بنعوتٍ خمسةٍ قُوبل كلٌّ منها بخطابٍ يُناسبه خلاَ أنَّه لم يُذكر مقابلَ الشَّاهدِ صَريحاً وهُو الأمرُ بالمراقبةِ ثقةً بظهورِ دلالةِ مقابلِ المبشَّر عليهِ وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ حسبما ذُكر آنِفاً وقُوبلَ النَّذيرُ بالنَّهيِ عن مُداراةِ الكُفَّارِ والمُنافقين والمُسامحةِ في إنذارِهم كما تحققَتُه وقُوبل الدَّاعِي إلى الله بإذنه بالامر بالتوكل عليهِ منْ حيثُ إنَّه عبارةٌ عن الاستمدادِ منه تعالى والاستعانةِ به وقُوبل السِّراجُ المنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى فإنَّ من أيَّده الله تعالىَ بالقُوَّة القُدسيةِ ورشَّحه للنُّبوةِ وجعلَه بُرهاناً نيِّراً يهدي الخلقَ من ظلماتِ الغَيِّ إلى نورِ الرِّشادِ حقيقٌ بأنْ يَكتفي بهِ عن كلِّ ما سواهُ
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي تجامعوهنَّ وقُرىء تُماسُّوهن بضمِّ التَّاءِ ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ بأيامٍ يتربصنَّ فيها بأنفسهنَّ ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾ تستوفونَ عددَها من عددتُ الدَّراهمَ فاعتدَّها وحقيقتُه عدُّها لنفسِه وكذلك كِلتُه فاكتَالَهُ والإسنادُ إلى الرَّجالِ للدَّلالةِ على أنَّ العِدَّةَ حق
108
الاحزاب ٥٠ الأزواجِ كما أشعرَ به قولُه تعالى فما لَكُم وقُرىء تَعْتَدُونها على إبدالِ إحدى الدَّالينِ بالتَّاءِ أو على أنَّه من الاعتداءِ بمعنى تعتدُون فيها والخلوةُ الصَّحيحةُ في حكمِ المسِّ وتخصيصُ المؤمناتِ مع عمومِ الحكم للكتابيات للتنبيه على أنَّ المؤمنَ من شأنِه أنْ يتخَّيرَ لنطفتةِ ولا ينكحُ إلاَّ مؤمنةً وفائدةُ ثمَّ إزاحةُ ما عسى يُتوهَّم أنَّ تراخِيَ الطَّلاقِ ريثما تمكنُ الإصابةُ يؤثر في العِدَّةِ كما يُؤثر في النَّسبِ ﴿فَمَتّعُوهُنَّ﴾ أي إنْ لم يكُن مفروضاً لها في العقدِ فإن الواجبَ للمفروضِ لها نصفُ المفروض دُونَ المُتعةِ فإنها مستحبَّةٌ عندنَا في روايةٍ وفي أُخرى غيرُ مستحبَّةٍ ﴿وَسَرّحُوهُنَّ﴾ أخرجُوهنَّ من منازلِكم إذْ ليسَ لكُم عليهنَّ عَّدةٌ ﴿سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ من غيرِ ضرارٍ ولا منعِ حقَ ولا مساغَ لتفسيرِه بالطَّلاقِ السُّنيِّ لأنَّه إنَّما يتسنَّى في المدخُولِ بهنَّ
109
﴿يا أيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتي آتيت أُجُورَهُنّ﴾ أي مهورهِنَّ فإنَّها أجورُ الأبضاعِ وإيتاؤها إمَّا إعطاؤُها معجَّلةً أو تسميتُها في العقدِ وأيّاً ما كانَ فتقييدُ الإحلالِ له ﷺ به ليسَ لتوقفِ الحلِّ عليه ضرورةَ أنَّه يصحُّ العقدُ بلا تسميةٍ ويجبُ مهرُ المثلِ أو المتعةُ على تقديرَيْ الدُّخولِ وعدمِه بل لإيثارِ الأفضلِ والأولى له ﷺ كتقييدِ إحلالِ المملوكةِ بكونِها مسْبيةً في قولِه تعالى ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ﴾ فإنَّ المُشتراةَ لا يتحققُ بدءُ أمرِها وما جَرى عليها وكتقييد القرائبِ بكونهنَّ مهاجراتٍ معه في قولِه تعالى ﴿وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ﴾ ويحتملُ تقييدَ الحلِّ بذلكَ في حقه ﷺ خاصَّة ويعضدُه قولُ أمِّ هانئ بنتِ أبي طالبٍ خطبني رسول الله ﷺ فاعتذرتُ إليه فعذرَني ثم أنزلَ الله هذه الآيةَ فلم أحِلَّ له لأنِّي لم أُهاجر معه كنتُ من الطُّلقاءِ ﴿وامرأة مُّؤْمِنَةً﴾ بالنَّصبِ عطفاً على مفعولِ أحللنَا إذْ ليسَ معناهُ إنشاءَ الإحلالِ النَّاجزِ بل إعلامَ مطلقِ الاحلالِ المنتظمِ لما سبق ولحق وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي أحللناهَا لكَ أيضاً ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ﴾ أي مَّلكتْه بُضعَها بأيِّ عبارةٍ كانتْ بلا مهٍر إنْ اتفقَ ذلك كما ينبئ عنه تنكيرُها لكنْ لا مطلقاً بل عندَ إرادتِه ﷺ استنكاحَها كما نطقَ به قوله عز وجل ﴿أن أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا﴾ أي أنْ يتملَّكَ بُضعَها كذلكَ أي بلا مهرٍ فإنَّ ذلكَ جارٍ منه ﷺ مَجرى القبولِ وحيثُ لم يكنُ هذا نصَّاً في كونِ تمليِكها بلفظِ الهبةِ لَم يصلُحْ أنّ يكونَ مَنَاطاً للخلافِ في انعقادِ النكاح بلفظ الهبة إيجابا أو سلباً واختُلف في اتفاقِ هذا العقدِ فعنِ ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن عنده ﷺ أحدٌ منهنَّ بالهبةِ وقيل الموهوبات أربعٌ ميمونةُ بنتُ الحرث وزينب بنتُ خُزيمةَ الأنصاريَّة وأمُّ شريكِ بنتُ جابر وخولة بنت حكيم وإيراده ﷺ في الموضعين
109
الاحزاب ٥١ بعُنوان النُّبوةِ بطريقِ الالتفاتِ للتكرمةِ والإيذانِ بأنَّها المناطُ لثبوتِ الحُكمِ فيختصُّ به ﷺ حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى ﴿خَالِصَةً لَّكَ﴾ أي خلصَ لك إحلالُها خالصةً أي خُلوصاً فإنَّ الفاعلةَ في المصادرِ غيرُ عزيزٍ كالعافيةِ والكاذبةِ أو خلصَ لك إحلالُ ما أحللنَا لكَ من المذكُوراتِ على القُيودِ المذكورةِ خالصةً ومَعنى قولِه تعالى ﴿مِن دُونِ المؤمنين﴾ على الأولِ أنَّ الإحلالَ المذكورَ في المادَّةِ المعهُودةِ غير متحقق في حقهم وإنَّما المتحقِّقُ هناك الإحلالُ بمهر المثل وعلى الثاني أنَّ إحلالَ الجميعِ على القُيودِ المذكورةِ غير متحقِّقٍ في حقِّهم بل المتحقِّقُ فيه إحلالُ البعضِ المعدودِ على الوجه المعهود وقرئ خالصةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ خلوصٌ لك وخصوصٌ أو هيَ أيْ تلك المرأةُ أو الهبةُ خالصةٌ لك لا تتجاوزُ المؤمنينَ حيث لا تحل لهم بغيرِ مهرٍ ولا تصحُّ الهبةُ بل يجبُ مهر المثلِ وقولُه تعالى ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي على المؤمنين ﴿فِى أزواجهم﴾ أي في حقِّهنَّ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَه من خلوصِ الإحلالِ المذكور لرسول الله ﷺ وعدم تجاوزِه للمؤمنينَ ببيانِ أنَّه قد فُرض عليهم منْ شرائطِ العقدِ وحقوقِه ما لم يُفرضْ عليه ﷺ تكرمةً له وتوسعةً عليهِ أي قد علمنَا ما ينبغِي أنْ يُفرض عليهم في حقِّ أزواجِهم ﴿وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم﴾ وعلى أيِّ حدَ وأيِّ صفةٍ يحقُّ أن يُفرضَ عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعضِ الخصائصِ ﴿لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ أي ضيقٌ واللامُ متعلقةٌ بخالصةٍ باعتبار ما فيها من معَنى ثبوتِ الإحلالِ وحصوله له ﷺ لا باعتبارِ اختصاصه به ﷺ لأنَّ مدارَ انتفاءِ الحرجِ هو الأوَّلُ لا الثَّانِي الذي هو عبارة عن عدمُ ثبوتِه لغيرِه ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ لما يعسرُ التَّحرزُ عنه ﴿رَّحِيماً﴾ ولذلكَ وسَّع الأمرَ في مواقعِ الحَرَجِ
110
﴿تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ﴾ أيْ تُؤخِّرها وتتركُ مضاجعتَها ﴿وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء﴾ وتضمُّ إليكَ مَن تشاءُ منهنَّ وتُضاجعها أو تطلِّق مَن تشاءُ منهنّ وتُمسك من تشاء وقرئ ترجئ بالهمزةِ والمعنى واحدٌ ﴿وَمَنِ ابتغيت﴾ أي طلبتَ ﴿مِمَّنْ عزلت﴾ طلقت بالرجعية ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ في شئ مَّما ذُكر وهذه قسمةٌ جامعةٌ لما هو الغرضُ لأنَّه إمَّا أنْ يطلِّقَ أو يمسكَ فإذا أمسكَ ضاجعَ أو تركَ وقسمَ أو لم يقسم وإذا طلِّق فإمَّا أنْ يخلِّيَ المعزولةَ أو يبتغيَها ورُوي أنَّه أَرْجى منهنَّ سَوْدةَ وجُويريةَ وصفيَّةَ وميمُونةَ وأمَّ حبيبةٍ فكانَ يقسمُ لهنَّ ما شاءَ كما شاءَ وكانتْ ممَّا آوى إليهِ عائشةُ وحفصةُ وأمُّ سلمةٍ وزينبُ وأرجَى خمْساً وآوى أربعاً ورُوي أنَّه كان يُسوِّي بينهنَّ مع ما أُطلق له وخُيِّر إلا سودَة فإنَّها وهبتْ ليلتَها لعائشة رضى الله عنهن وقالتْ لا تُطلِّقْني حَتَّى أُحشرَ في زُمرةِ نسائكِ ﴿ذلك﴾ أي ما ذكر من تفويضِ الأمرِ إلى مشيئتِك ﴿أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بما آتيتهن كُلُّهُنَّ﴾ أي أقربُ إلى قُرَّةِ عُيونهنَّ ورضاهنَّ جميعاً لأنَّه حكمٌ كلُّهنَّ فيهِ سواءٌ ثمَّ إنْ سَوَّيتَ بينهنَّ وجدنَ ذلكَ تفضُّلاً منكَ وإنْ رجَّحت بعضهنَّ علمن
110
الاحزاب ٥٢ أنَّه بحكمِ الله فتطمئنَّ به نفوسهن وقرئ تُقِرَّ بضمِّ التَّاءِ ونصب أعينهنَّ وتُقَرُّ على البناءِ للمفعول وكلهنَّ تأكيدٌ لنونِ يرضينَ وقرى بالنَّصبِ على أنَّه تأكيدٌ لهنَّ ﴿والله يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ﴾ من الضَّمائرِ والخواطرِ فاجتهدُوا في إحسانِها ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ مُبالغاً في العلمِ فيعلمُ كلَّ ما تُبدونَهُ وتُخفونَهُ ﴿حَلِيماً﴾ لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا تغترُّوا بتأخيرِها فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ
111
﴿لا يحل لك النساء﴾ بالياءِ لأنَّ تأنيثَ الجمعِ غيرُ حقيقيَ ولوجودِ الفصلِ وقرئ بالتاء ﴿مِن بَعْدُ﴾ أي من بعدِ التِّسعِ وهو في حقِّه كالأربعِ في حقِّنا وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ من بعدِ هؤلاء التَّسعِ اللاتِي خيرتهنَّ فاخترنَك وقيلَ من بعد اختيارِهنَّ الله ورسولَه ورضاهنَّ بما تؤتيهنَّ من الوصلِ والهُجرانِ ﴿وَلاَ أَن تَبَدَّلَ﴾ أي تتبدلَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ ﴿بِهِنَّ﴾ أي بهؤلاءِ التِّسعِ ﴿مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ بأنْ تُطلقَ واحدةً منهنَّ وتنكحَ مكانَها أُخرى ومنْ مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ أرادَ الله تعالى لهنَّ كرامةً وجزاءً على ما اخترنَ ورضينَ فقصرَ رسولَه عليهنَّ وهنَّ التِّسعُ اللاتي توفى ﷺ عنهنَّ وهُنَّ عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحفصةُ بنتُ عمرَ وأمُّ حبيبةٍ بنتُ ابي سفيان وسَوْدةُ بنتُ زَمْعَه وأمُّ سلمةَ بنتُ أبي أُميَّة وصفية بنت حيي الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الاسدية وجويرية بنت الحرث المصطلِقيةُ وقالَ عكرمةُ المعنى لا يحل لك النساء من بعدِ الاجناسِ الأربعةِ اللاتِي أحللناهنَّ لكَ بالصِّفةِ التي تقدَّم ذكرُها من الأعرابياتِ والغرائبِ أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ بالنِّكاحِ ويأباهُ قولُه تعالى وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ فإنَّ معنَى إحلالِ الأجناسِ المذكورةِ إحلالُ نكاحهنَّ فلا بدَّ أنْ يكونَ معنى التبدلِ بهنَّ إحلالَ نكاحِ غيرِهنَّ بدلَ إحلالِ نكاحهنَّ وذلكَ إنَّما يُتصوَّرُ بالنَّسخِ الذي ليسَ من الوظائفِ البشريَّةِ ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ أي حسنُ الأزواجِ المستبدلةِ وهو حالٌ من فاعلِ تبدلَ لا من مفعولِه وهو من أزواج لنوغله في التنكيرِ قيل تقديرُه مفروضاً إعجابُك بهنَّ وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خيرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل هي أسماءُ بنتُ عُميسٍ الخَثعميَّةُ امرأةُ جعفرَ بنِ أبي طالبٍ أي هي ممن أعجبه ﷺ حسنُهنَّ واختُلف في أنَّ الآيةَ محكمةٌ أو منسوخةٌ قيل بقولِه تعالى تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء وقيل بقولِه تعالى إنَّا أحللنَا لكَ وترتيبُ النُّزولِ ليس على ترتيبِ المُصحفِ وقيل بالسنة وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها مامات رسول الله ﷺ حتَّى أحلَّ له النِّساءُ وقال أنسٌ رضيَ الله عنه مات ﷺ على التَّحريم ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ استثناءٌ من النِّساءِ لأنَّه يتناولُ الأزواجَ والإماء وقيل منقطعٌ ﴿وَكَانَ الله على كُلّ شىء رَّقِيباً﴾ حافظاً مُهيمناً فاحذرُوا مجاوزةَ حدودِه وتخطِّي حلالِه الى حرامه
111
الاحزاب ٥٣
112
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى﴾ شروعٌ في بيان ما يجبُ مراعاتُه على النَّاسِ من حُقوقِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إثرَ بيانِ ما يجبُ مراعاته عليه ﷺ منَ الحقوقِ المُتعلقةِ بهنَّ وقوله الى ﴿إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تدخلُوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونكم مأوذنا لكم وقيل منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ لا تدخلُوها في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يُؤذنَ لكُم وردَّ عليهِ بأنَّ النحاة نصوا على أنَّ الوقوعَ موقعَ الظَّرفِ مختصٌّ بالمصدرِ الصَّريحِ دُونَ المؤولِ لا يُقال آتيكَ أنْ يصيحَ الدِّيكُ وإنَّما يقالُ آتيكَ صياحَ الدِّيكِ وقولُه تعالى ﴿إلى طَعَامٍ﴾ متعلَّقٌ بيؤذنُ بتضمينِ معنى الدُّعاءِ للإشعارِ بأنَّه لا ينبغِي أنْ يدخلُوا على الطَّعامِ بغيرِ دعوةٍ وإنْ تحققَ الإذنُ كما يُشعر به قوله تعالى ﴿غَيْرَ ناظرين إناه﴾ أي غيرَ منتظرينَ وقتَهُ أو إدراكَه وهو حالٌ من فاعلِ لا تدخلوُا على أنَّ الاستثناءَ واقعٌ على الوقتِ والحالِ معاً عندَ مَنْ يُجوزه أو من المجرور في لكم وقرئ بالجرِّ صفةً لطعامٍ فيكون جارياً على غيرِ مَن هُو له بلا إبرازِ الضِّميرِ ولا مساغٍ له عند البصريين وقرئ بالإمالةِ لأنَّه مصدرٌ أنَى الطعامَ أي أدركَ ﴿وَلَكِنْ إذا دعيتم فادخلوا﴾ استداراك من النَّهيِ عن الدُّخولِ بغيرِ إذنٍ وفيهِ دلالةٌ بيِّنةٌ على أنَّ المرادَ بالإذنِ إلى الطَّعامِ هو الدَّعوةُ إليهِ ﴿فَإِذَا طَعِمْتُم فانتشروا﴾ فتفرقُوا ولا تلبثُوا لانه خطاب لقوم كان يتحينون طعام النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيدخُلون ويقعدُون منتظرين لإدراكِه مخصوصةً بهم وبأمثالِهم وإلاَّ لما جازلا حد ان يدخل بيوته ﷺ بإذنٍ لغيرِ الطَّعامِ ولا اللبث بعد الطعام لأمرمهم ﴿وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ أي لحديثِ بعضِكم بَعضاً أو لحديثِ أهلِ البيتِ بالتَّسمعِ له عطفٌ على ناظرينَ أو مقدَّرٌ بفعلٍ أي ولا تدخلوا أو لا تمكثُوا مستأنسين الخ ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ أي الاستئناسُ الذي كنتُم تفعلونَهُ من قبل ﴿كَانَ يُؤْذِى النبى﴾ لتضييقِ المنزَّلِ عليهِ وعلى أهلِه وإيجابِه للاشتغالِ بما لا يعينه وصدِّه عن الاشتغالِ بما يعنيه ﴿فيستحيي مّنكُمْ﴾ أي من إخراجِكم لقولِه تعالى ﴿والله لاَ يستحيي مِنَ الحق﴾ فإنَّه يستدعِي أنْ يكونَ المستحى منه أمراً حقَّاً متعلِّقاً بهم لا انفسهم وما ذاك إلا إخراجهم فينبغي أنْ لا يُترك حياءً ولذلك لم يتركْه تعالى وأمرَكم بالخروجِ والتَّعبيرُ عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة كله وقرئ لا يستحِي بحذفِ الياءِ الأُولى وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ﴾ الضمير لسناء النبيِّ المدلولِ عليهنَّ بذكرِ بيوته ﷺ ﴿متاعا﴾ أي شيئاً يُتمتّع بهِ من الماعونِ وغيرِه ﴿فاسألوهن﴾ أي المتاعَ ﴿مِن وَرَاء حجاب﴾ أي ستر ورُوي أن عمر رضي اله عنه قالَ يا رسولَ الله يدخلُ عليكَ البرُّ والفاجرُ فلو أمرتَ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ فنزلتْ وقيلَ إنَّه ﷺ كان يَطعمُ ومعه بعضُ أصحابِه فأصابتْ يدُ رجلٍ منهم يد
112
الاحزاب ٥٤ ٥٦ عائشةَ رضيَ الله عنها فكرِه النبيُّ ذلكَ فنزلتْ ﴿ذلكم﴾ أي ما ذُكر من عدمِ الدُّخولِ بغير إذن وعدم الاستئاس للحديثِ عند الدُّخولِ وسؤالِ المتاع من وراء حجاب ﴿أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ أي أكثرُ تطهيراً من الخواطرِ الشَّيطانيَّةِ ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ﴾ أي وما صحَّ وما استقامَ لكُم ﴿أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله﴾ أي أنْ تفعلُوا في حياتِه فعلاً يكرهه ويتأذَّى به ﴿وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بعده أبدا﴾ أي من بعدَ وفاتِه أو فراقِه ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ إشارةٌ إلى ما ذُكر منْ إيذائِه ﷺ ونكاحِ أزواجهِ من بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرِّ والفسادِ ﴿كَانَ عِندَ الله عَظِيماً﴾ أي أمراً عظيماً وخطباً هائلاً لا يُقادر قدرُه وفيهِ من تعظيمِه تعالى لشأنِ رسوله ﷺ وإيجابِ حُرمتِه حيَّاً وميِّتاً مالا يخفى ولذلكَ بالغَ تعالى في الوعيدِ حيثُ قال
113
﴿إِن تُبْدُواْ شَيْئاً﴾ ممَّا لا خيرَ فيه كنكاحهنَّ على ألسنتِكم ﴿أَوْ تُخْفُوهْ﴾ في صدورِكم ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً﴾ فيجازيكم بما صدرَ عنكُم من المعاصِي الباديةِ والخافيةِ لا محالَة وفي هذا التعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مزيدُ تهويلٍ وتشديدٍ ومبالغةٍ في الوعيدِ
﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى آبائهن وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن﴾ استئنافٌ لبيانِ مَن لا يجبُ الاحتجابُ عنهم رُوي أنَّه لمَّا نزات آيةُ الحجابِ قالَ الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ يا رسولَ الله أوَ نكلمهن أيضاً من وراءِ الحجابِ فنزلتْ وإنَّما لم يُذكر العمُّ والخالُ لأنَّهما بمنزلةِ الوالدينِ ولذلك سُمِّي العمُّ أباً في قولِه تعالى وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل واسحق أو لأنَّه اكتُفي عن ذكرِهما بذكرِ أبناءِ الإخوةِ وأبناءِ الأخواتِ فإنَّ مناطَ عدمِ لزومِ الاحتجابِ بينهنَّ وبينَ الفريقينِ عينُ ما بينهنَّ وبينَ العمِّ والخالِ من العمومةِ والخؤولةِ لما أنهنَّ عمَّاتٌ لأبناءِ الإخوةِ وخالاتٌ لأبناءِ الأخوات وقيل لأنَّه كره تركَ الاحتجابِ منُهما مخافةَ أنْ يصِفاهنَّ لا بنائهما ﴿وَلاَ نِسَائِهِنَّ﴾ أي نساءِ المُؤمناتِ ﴿وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ من العبيدِ والإماءِ وقيلَ من الإماءِ خاصَّة وقد مرَّ في سورةِ النُّورِ ﴿واتقين الله﴾ في كل ما تأتن وما تذرن لاسيما فيما أمرتن به ونهيتن عنْهُ ﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً﴾ لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ولا تتفاوتُ في علمهِ الأحوالُ
﴿إِنَّ الله وملائكته﴾ وقُرىء وملائكتُه بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِ ان اسمها عند الكوفيينَ وحملاً على حذفِ الخبرِ ثقةً بدلالةِ ما بعدَه عليهِ على رَأي البصريينَ ﴿يُصَلُّونَ عَلَى النبى﴾ قيل الصَّلاةُ من الله الرَّحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أرادَ أنَّ الله يرحمُه والملائكةَ يدعُون له وعنْهُ أيضاً يصلُّون يبرِّكُون وقالَ أبوُ العاليةِ صلاةُ الله
113
الاحزاب ٥٧ ٥٨ تعالى عليهِ ثناؤُه عليهِ عندَ الملائكةِ وصلاتُهم دعاؤُهم له فينبغي أنْ يُرادَ بها في يصلُّون معنى يجازي عامٌّ يكونُ كلُّ واحدٍ من المَعَاني المذكورةِ فَرْداً حقيقا له أي يعتنون بما فيهِ خيرُه وصلاحُ أمرهِ ويهتمُّون بإظهارِ شرفِه وتعظيمِ شأنِه وذلكَ منَ الله سبحانَهُ بالرَّحمةِ ومن الملائكةِ بالدُّعاءِ والاستغفارِ ﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ﴾ اعتنُوا أنتُم أيضاً بذلكَ فإنَّكُم أولى بهِ ﴿وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً﴾ قائلينَ اللهمُّ صلِّ على محمدٍ وسلِّم أو نحوَ ذلكَ وقيلَ المرادُ بالتسليمِ انقيادُ أمرهِ والآيةُ دليلٌ على وجوبِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لوجوبِ التَّكرارِ وعدمِه وقيل يجبُ ذلكَ كلَّما جَرى ذكرُه لقولِه ﷺ رغمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصل علي وقوله ﷺ مَن ذُكرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ فدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ الله ويُروى أنَّه ﷺ قالَ وكَّل الله تعالى بي ملكينِ فلا أُذكر عندَ مسلمٍ فيصلِّي عليَّ إلاَّ قالَ ذانِك الملكانِ غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ولا أُذكر عندَ مسلمٍ فلا يصلِّي عليَّ إلاَّ قال دانك ملكان لا غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ومنهم من قال بجب في كلِّ مجلسٍ مرَّةً وان تكرر ذكره ﷺ كما قِيل في آيةٍ السَّجدةِ وتشميتِ العاطسِ وكذلك في كلِّ دعاءٍ في أوَّلهِ وآخرِه ومنهُم مَن قال بالوجوبِ في العُمر مرَّةً وكذا قالَ في إظهارِ الشَّهادتينِ والذي يقتضيهِ الاحتياط ويستدعيه معرفة علو شأنه ﷺ أنْ يُصلَّى عليهِ كلَّما جَرَى ذكُره الرَّفيعُ وأمَّا الصَّلاةُ عليهِ في الصَّلاةُ بأن يُقالَ اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ فليستْ بشرطٍ في جوازِ الصَّلاةِ عندَنا وعن إبراهيمَ النَّخعيَّ رحمَهُ الله أنَّ الصَّحابةَ كانُوا يكتفُون عن ذلكَ بما في التَّشهدِ وهو السَّلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ وأمَّا الشَّافعيُّ رحَمهُ الله فقد جعلَها شرطاً وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فتجوزُ تبعاً وتُكره استقلالاً لأنَّه في العُرفِ شعارُ ذكرِ الرُّسلِ ولذلكَ كُره أنْ يُقالَ محمدٌ عزَّ وجلَّ مع كونِه عزيزاً جليلاً
114
﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أُريد بالإيذاء إمَّا فعلُ ما يكرهانِه من الكُفرِ والمعَاصي مجازاً لاستحالةِ حقيقةِ التَّأذِي في حقِّه تعالى وقيلَ في إيذائِه تعالى هو قول اليَّهودِ والنَّصارَى والمُشركين يدُ الله مغلولةٌ وثالثُ ثَلاثَة والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله والأصنامُ شُركاؤه تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقيلَ قولُ الذينَ يُلحدون في آياتِه وفي ايذاء الرسول ﷺ هو قولُهم شاعرٌ ساحرٌ كاهنٌ مجنونٌ وقيل هو كسرُ رَباعيتَه وشجُّ وجهَه الكريمَ يومَ أُحد وقيلَ طعنُهم في نكاحِ صفيَّةَ والحقُّ هو العمومُ فيهما واما ايذاؤه ﷺ خاصَّة بطريقِ الحقيقةِ وذكرُ الله عزَّ وجلَّ لتعظيمِه والإيذانِ بجلالةِ مقدارهِ عندَه تعالى وايذاؤه ﷺ إيذاءٌ له سبحانَه ﴿لَّعَنَهُمُ الله﴾ طردَهم وأبعدَهُم من رحمتِه ﴿فِى الدنيا والاخرة﴾ بحيثُ لا يكادُون ينالُون فيهما شَيئاً منها ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾ معَ ذلكَ ﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ يصيبهم في الآخرةِ خاصَّة
﴿والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات﴾ يفعلونَ بهم ما يتأذون به من قولٍ أو فعل وتقييده
114
الاحزاب ٥٩ ٦١ بقول تعالى ﴿بِغَيْرِ مَا اكتسبوا﴾ أي بغيرِ جنايةٍ يستحقُّون بها الأذيةَ بعد إطلاقِه فيما قبلَه للإيذانِ بأنَّ أذى الله ورسولِه لا يكونُ إلا غيرَ حقَ وأما أَذَى هؤلاءِ فَمنُه ومنه ﴿فَقَدِ احتملوا بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أي ظَاهراً بيّناً قيل إنَّها نزلتْ في مُنافقينَ كانُوا يؤُذون عليا رضي الله عنه ويسمعونه مالا خيرَ فيه وقيلَ في أهلِ الإفكِ وقال الضحَّاكُ والكلبيُّ في زُناةٍ يتَّبعونَ النِّساءَ إذَا برزنَ بالليَّلِ لقضاء حوائجهن كانوا لا يتعرَّضُون إلاَّ للإماءِ ولكنْ رُبَّما كانَ يقعُ منهما التَّعرُّضُ للحرائرِ أيضاً جَهْلاً أو تجاهُلاً لاتحادِ الكلِّ في الزيِّ واللِّباسِ والظاهرُ عمومُه لكلِّ ما ذُكر ولمَا سيأتِي من أراجيفِ المرجفين
115
﴿يا أيها النبي﴾ بعدما بيَّن سوءَ حالِ المُؤذين زَجْراً لهم عن الإيذاءِ امر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يأمر بعض المتأذنين منهُم بما يدفعُ إيذاءَهم في الجُملةِ من السترِ والتميزِ عن مواقعِ الإيذاءِ فقيلَ ﴿قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن﴾ الجلباب ثوبٌ أوسعُ من الخمارِ ودُونَ الرداء تلوبه المراة على راسها وتقي منه ما لرسله على صدرِها وقيل هي الملْحفةُ وكل ما يُتسترُ به أي يغطينَّ بها وجوههنَّ وأبدانهنَّ إذَا برزن لداعيةٍ من الدَّواعِي ومِنْ للتبغيض لما مرَّ منْ أنَّ المعهودَ التَّلفعُ ببعضِها وإرخاءُ بعضِها وعن السُّدِّيِّ تُغطيِّ إحدَى عينيها وجبهتَها والشقَّ الآخرَ إلا العينَ ﴿ذلك﴾ أي ما ذكر من التَّغطِّي ﴿أدنى﴾ أقربُ ﴿أَن يُعْرَفْنَ﴾ ويُميزنَّ عن الإماءِ والقيناتِ اللاتِي هنَّ مواقعُ تعرُّضِهم وإيذائِهم ﴿فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ من جهة اهل الريبة بالتعرضِ لهنَّ ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ لما سلفَ منهنَّ منَ التَّفريطِ ﴿رَّحِيماً﴾ بعبادِه حيثُ يُراعي من مصالحهم أمثالَ هاتيكَ الجُزئياتِ
﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون﴾ عمَّا هُم عليهِ من النِّفاقِ وأحكامِه الموجبةِ للإيذاءِ ﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ عمَّا هُم عليهِ من النزلزل وما يستتبعُه ممَّا لا خيرَ فيهِ ﴿والمرجفون فِى المدينة﴾ من الفريقينِ عمَّا هُم عليهِ من نشرِ أخبارِ السُّوءِ عن سَرَايا المُسلمينَ وغيرِ ذلكَ من الا راجيف الملَّفقةِ المُستتبعةِ للأذَّيةِ وأصلُ الإرجافِ التَّحريكُ من الرَّجفةِ التي هي الزَّلزلةُ وُصفت به الأخبارُ الكاذبةُ لكونِها متزلزلةً غيرَ ثابتةٍ ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ لنأمرنَّك بقتالِهم وإجلائِهم أو بما يضطرهم إلى الجلاءِ ولنحرضنَّك على ذلكَ ﴿ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ﴾ عطفٌ على جوابِ القسمِ وثمَّ الدلالة على ان الجلاء ومفارقة جوار الرسول ﷺ أعظمُ ما يُصيبهم ﴿فِيهَا﴾ أي في المدينةِ ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ زَمَاناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبينُ حالُهم من الانتهاءِ وعدمِه
﴿مَّلْعُونِينَ﴾ نُصب على الشَّتمِ أو الحالِ على أنَّ الاستثناءَ واردٌ عليهِ أيضاً على رَأْي مَن يجوِّزه كما مر في قوله تعالى غير ناظرين إناه ولا سبيلَ إلى انتصابِه عن قولِه تعالى ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً﴾
115
الاحزاب ٦٢ ٦٧ لأنَّ ما بعد كلمةِ الشرط لا يعمل فيها قبلَها
116
﴿سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ﴾ أي سنَّ الله ذلكَ في الأممِ الماضيةِ سُنَّةً وهي ان يقتل الذين نافقُوا الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وسعَوا في توهينِ أمرِهم بالإرجافِ ونحوهِ أَينما ثُقفوا ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبديلا﴾ اصلا لا بتنائها على أساسِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ فلكُ التَّشريع
﴿يسألك الناس عَنِ الساعة﴾ أي عن وقتِ قيامِها كانَ المشركون يسألونه ﷺ عن ذلكَ استعجالاً بطريقِ الاستهزاءِ واليهودُ امتحاناً لما أنَّ الله تعالى عَمَّى وقتَها في التَّوراةِ وسائرِ الكتبِ ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ لا يُطلعُ عليهِ ملكاً مقرَّباً ولا نبَّياً مُرسلاً وقولُه تعالى ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ خطابٌ مستقلٌّ له ﷺ غيرُ داخلٍ تحت الأمر مسوقٌ لبيانِ أنَّها معَ كونِها غيرَ معلومةٍ للخلقِ مرجوَّة المجيءِ عن قريبٍ أيْ أيُّ شيءٍ يُعلمك بوقتِ قيامِها أي لا يُعلمك به شيءٌ أَصْلاً ﴿لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً﴾ أي شَيْئاً قَريباً أو تكونُ السَّاعةُ في وقتٍ قريبٍ وانتصابُه على الظَّرفيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ باعتبارِ أنَّ السَّاعةَ في مَعنْى اليَّوم أو الوقتِ وفيهِ تهديدٌ للمُستعجلينَ وتبكيتٌ للمتعنتينَ والإظهارُ في حيِّزِ الاضمار للتهويل وزيادةِ التَّقريرِ وتأكيدِ استقلالِ الجُملة كما أُشير إليهِ
﴿إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين﴾ على الإطلاقِ أي طردَهُم وأبعدَهُم من رحمتِه العاجلةِ والآجلةِ ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾ مع ذلكَ ﴿سَعِيراً﴾ ناراً شديدةَ الاتقادِ يقاسُونها في الآخرةِ
﴿خالدين فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً﴾ يحفظُهم ﴿وَلاَ نصيرا﴾ بخلصهم منها
﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار﴾ ظرفٌ لعدمِ الوجدانِ وقيل لخالدينَ وقيل لنصيراً وقيل مفعول لا ذكر أي يومَ تُصرَّفُ وجوهُهم فيها من جهةٍ إلى جهةٍ كلحمٍ يُشوى في النَّارِ أو يُطبخُ في القِدرِ فيدورُ به الغليانُ من جهةٍ إلى جهةٍ أو من حالٍ إلى حالٍ أو يُطرحُون فيها مقلوبينَ منكوسين وقُرىء تقلَّب بحذف إحدى التاءين من تنقلب ونُقلِّب بإسنادِ الفعلِ إلى نونِ العظمةِ ونصْبِ وجوهِهم وتقلب بإساده إلى السَّعيرِ وتخصيصُ الوجوهِ بالذكرِ لِما أنَّها أكرمُ الأعضاءِ ففيهِ مزيدُ تفظيعٍ للأمرِ وتهويلٌ للخطبِ ويجوزُ أنْ تكونَ عبارةً عن كلِّ الجسدِ فقولُه تعالى ﴿يَقُولُونَ﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية حالِهم الفظيعةِ كأنَّه قيل فماذا يصنعُون عندَ ذلكَ فقيلَ يقولُون مُتحسِّرين على ما فاتهم ﴿يا ليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا﴾ فلا نُبتلى بهذا العذابِ أو حالٌ من ضميرِ وجوهُهم أو من نفسها أو هو العاملُ في يوم
﴿وقالوا﴾
116
الاحزاب ٦٨ ٧١ عطفٌ على يقولُون والعدولُ إلى صيغةِ المَاضي للإشعارِ بأنَّ قولَهم هذا ليس مستمرَّاً كقولِهم السَّابقِ بل هو ضربُ اعتذارِ أرادُوا به ضرباً من التَّشفي بمضاعفةِ عذابِ الذين ألقَوهم في تلك الورطةِ وإنَّ علمُوا عدَم قبولِه في حقِّ خلاصِهم منها ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا﴾ يعنُون قادتَهم الذين لقَّنوهم الكفرَ وقُرىء ساداتِنا للدِّلالةِ على الكثرة والتَّعبيرُ عنهم بعُنوانِ السِّيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلاَّ فهم في مقام التحقير والإهانة ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ بما زيَّنوا لنا من الاباطيل والألفُ للإطلاق كما في واطعنا الرسولا
117
﴿ربنا آتهم ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب﴾ أي مِثْلَي العذاب الذي آتيتناهُ لأنَّهم ضلُّوا وأضلُّوا ﴿والعنهم لَعْناً كَبِيراً﴾ أي شديداً عظيماً وقُرىء كثيراً وتصديرُ الدُّعاءِ بالنِّداءِ مكرَّراً للمبالغةِ في الجؤارِ واستدعاءِ الإجابةِ
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تكونوا كالذين آذوا موسى﴾ قيل نزلتْ في شأنِ زيدٍ وزينبَ وما سُمع فيه من قالة النَّاسِ ﴿فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قالوا﴾ أي فأظهر براته ﷺ ممَّا قالُوا في حقِّه أي من مضمونِه ومؤدَاه الذي هُو الأمرُ المعيبُ وذلكَ أنَّ قارونَ أغرَى مومسةً على قذفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنفسِها بأنْ دفعَ إليها مالاً عظيماً فأظهرَ الله تعالى نزاهتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ بأنْ أقرتِ المومسةُ بالمُصانعةِ الجاريةِ بينها وبينَ قارونَ وفُعلَ بقارونَ ما فُعلَ كما فُصِّل في سُورةِ القصصِ وقيل أتَّهمه ناس بقتل هرون عند خروجِه معه إلى الطُّورِ فماتَ هُناك فحملتْهُ الملائكةُ ومرُّوا به حتَّى رأَوه غيرَ مقتولٍ وقيل أحياهُ الله تعالى فأخبرَهم ببراءتِه وقيل قذفُوه بعيبٍ في بدنِه من برصٍ أو أُدْرةٍ لفرطِ تسترِه حياءِّ فأطلعهم الله تعالى على براءتِه بأنْ فرَّ الحجرُ بثوبِه حينَ وضعَه عليه عند اغتسالِه والقصَّةُ مشهورةٌ ﴿وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً﴾ ذَا قُربةٍ ووجاهةٍ وقُرىء وكانَ عبدُ اللَّهِ وجيها
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله﴾ أي في كل ما تأتون وما تذرُون لا سيَّما في ارتكابِ ما يكرُهه فضلاً عما يؤذي رسوله ﷺ ﴿وَقُولُواْ﴾ في كلِّ شأنٍ من الشئون ﴿قَوْلاً سَدِيداً﴾ قاصِداً إلى الحقِّ من سَدَّ يَسِدُّ سَداداً يقال سَدَّدَ السَّهمَ نحوَ الرَّميةِ إذا لم يعدلْ به عن سمتِها والمرادُ نهيُهم عمَّا خاضُوا فيه من حديثِ زينبَ الجائرِ عن العدلِ والقصدِ
﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم﴾ يُوفقكم للأعمالِ الصَّالحةِ أو يُصلحها بالقَبُولِ والإثابةِ عليها ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ويجعلُها مكفرةً باستقامتِكم في القولِ والعملِ ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ﴾ في الاوامر والنهي التي من جُمْلتِها هذهِ التكليفاتُ ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ في الدَّارينِ ﴿فَوْزاً عَظِيماً﴾ لا يُقادرُ قدره ولا يبلغ غايته
117
الاحزاب ٧٢ ٧٣
118
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السماوات والارض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ لمَّا بيَّن عِظَم شأنِ طاعةِ الله ورسولِه ببيانِ مآلِ الخارجين عنْها من العذابِ الأليمِ ومنال المُراعين لها من الفوزِ العظيمِ عقَّب ذلكَ ببيانِ عظمِ شأنِ ما يُوجبها من التَّكاليفِ الشَّرعيةِ وصعوبة أمرِها بطريقِ التَّمثيلِ مع الإيذانِ بأنَّ ما صدرَ عنهُم من الطَّاعةِ وتركِها صدرَ عنُهم بعد القَبُولِ والالتزامِ وعبر عنها بالأمانةِ تنبيهاً على أنَّها حقوقٌ مرعيةٌ أودعَها الله تعالى المكلَّفين وائتمنَهم عليها وأوجبَ عليهم تلقِّيَها بحسنِ الطَّاعةِ والانقيادِ وأمرَهُم بمراعاتِها والمحافظةِ عليها وأدائِها من غير إخلالٍ بشيء من حقوقِها وعبرَّ عن اعتبارِها بالنسبةِ إلى استعدادِ ما ذُكر من السَّمواتِ وغيرها بالعرض عليها لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها والرَّغبةِ في قبولهنَّ لها وعن عدمِ استعدادهنَّ لقبولِها بالإباءِ والإشفاقِ منها لتهويلِ أمرِها وتربيةِ فخامتِها وعن قبولِها بالحملِ لتحقيقِ معنى الصُّعوبة المُعتبرةِ فيها بجعلِها من قبيلٍ الأجسامِ الثَّقيلةِ التي يستعمل فيها القُوى الجسمانَّيةٌ التي أشدُّها وأعظمُها ما فيهنَّ من القُوَّةِ والشدَّةِ والمَعنى أنَّ تلك الأمانةَ في عظمِ الشَّأنِ بحيثُ لو كُلِّفت هاتيكَ الأجرامُ العظامُ التي هي مَثَلٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ مراعاتَها وكانتْ ذاتَ شُعورٍ وادراك لا بين قبولَها وأشفقنَ منها ولكنْ صرفُ الكلامِ عن سَنَنِه بتصويرِ المفروضِ بصورةِ المحققِ رَوْماً لزيادةِ تحقيقِ المعنى المقصودِ بالتَّمثيلِ وتوضيحِه ﴿وَحَمَلَهَا الإنسان﴾ أي عند عرضِها عليه إمَّا باعتبارِها بالإضافةِ إلى استعدادِه أو بتكليفةِ إيَّاها يومَ الميثاقِ أي تكلّفها والتزمَها مع ما فيهِ من ضعفِ البنيةِ ورخاوةِ القُوَّةِ وهُو إمَّا عبارةٌ عن قبولِه لها بموجبِ استعدادِه الفطريِّ أو عن اعترافِه بقولِه بَلَى وقولُه تعالَى ﴿إِنَّهُ كان ظَلُوماً جَهُولاً﴾ اعتراضٌ وسط بين الحملِ وغايتِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعدمِ وفائِه بما عهدَهُ وتحملّه أي إنَّه كانَ مفرِطاً في الظُّلمِ مبالِغاً في الجهلِ أي بحسبِ غالبِ أفرادِه الذينَ لم يعملُوا بموجبِ فطرتِهم السَّليمةِ أو اعترافهم السَّابقِ دُونَ مَنْ عداهُم منْ الذينَ لم يبدلُوا فطرةَ الله تبديلاً وإلى الفريقِ الأولِ أُشير بقوله تعالى
﴿لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ أي حملَها الإنسانُ ليعذبَ الله بعضَ أفرادِه الذينَ لم يُراعوها ولم يقابلُوها بالطَّاعةِ على أنَّ اللاَم للعاقبةِ فإنَّ التَّعذيبَ وإنْ لم يكُن غرضَاً له من الحملِ لكن لما ترتَّبَ عليهِ بالنسبةِ إلى بعضِ أفرادِه ترتُّبَ الأغراضِ على الأفعالِ المُعلَّلةِ بها أبرز في معرضِ الغرضِ أي كان عاقبةُ حملِ الإنسانِ لها أنْ يعذبَ الله تعالى هؤلاءِ من أفرادِه لخيانتِهم الأمانةَ وخروجِهم عن الطَّاعةِ بالكُلِّية وإلى الفريقِ الثَّاني أُشير بقولِه تعالى ﴿وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات﴾ أي كان عاقبةُ حملِه أنْ يتوبَ الله تعالى على هؤلاءِ من أفراده أي يقبلُ توبتَهم لعدمِ خلعِهم رِبقةَ الطَّاعةِ عن رقابِهم بالمرَّةِ وتلافيهم لما
118
فَرَطَ منهم من فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها الإنسانُ بحكمِ جبلّتهِ وتداركهم لها بالتَّوبةِ والإنابةِ والالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ أوَّلاً لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ ثانياً لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِ المُؤمنينَ توفيةً لكُلَ مِنْ مَقَامَي الوعيدِ والوعدِ حقَّه والله تعالى أعلمُ وجعلُ الامانة التي شأنِها أنْ تكونَ من جهتِه تعالى عبارةً عن الطَّاعةِ التي هي من أفعالِ المكلَّفين التابعةِ للتَّكليفِ بمعزلٍ من التَّقريبِ وحملُ الكلامِ على تقريرِ الوعدِ الكريمِ الذي يُنبىء عنْهُ قولُه تعالى وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً يجعلُ تعظيمَ شأنِ الطَّاعةِ ذريعةً إلى ذلكَ بأنَّ مَن قامَ بحقوقِ مثلِ هذا الأمرِ العظيمِ الشَّأنِ وراعَاها فهو جديرٌ بأنْ يفوزَ بخيرِ الدَّارينِ يأباه وصفه بالظَّلمِ والجهلِ أولاً وتعليلُ الحملِ بتعذيبِ فريقٍ والتَّوبةِ على فريقٍ ثانياً وقيل المرادُ بالأمانةِ مطلقُ الانقيادِ الشَّاملِ للطبيعي والاختياريِّ وبعرضِها استدعاؤُها الذي يعمُّ طلبَ الفعلِ من المختارِ وإرادةَ صدورِه من غيرِه وبحملِها الخيانةُ فيها والامتناعُ عن ادائِها فيكونُ الإباءُ امتناعاً عن الخيانةِ وإتياناً بالمرادِ فالمَعنى أنَّ هذهِ الأجرامَ مع عِظَمِها وقُوَّتِها أبينَ الخيانةَ لأمانتِها واتين بما امرهن به كقولِه تعالى أتينا طائعين وخانَها الإنسانُ حيثُ لم يأتِ بما أمرنَاهُ به إنَّه كان ظلُوماً جهُولاً وقيل إنَّه تعالى لمَّا خلقَ هذه الأجرامَ خلقَ فيها فهماً وقال لها إني فرضتُ فريضةً وخلقتُ جنَّةً لمن أطاعنِي فيها وناراً لمنْ عَصَاني فقلنَ نحنُ مسخرَّاتٌ لِما خلقتنا لا نحتملُ فريضةً ولا نبغي ثواباً ولا عقاباً ولمَّا خلقُ آدمُ عليهِ السَّلامُ عُرض عليه مثلُ ذلك فحملَه وكانَ ظلُوماً لنفسِه بتحمُّلهِ ما يشقُّ عليها جَهُولاً بوخامةِ عافيته وقيلَ المرادُ بالأمانةِ العقلُ أو التَّكليفُ وبعرضِها عليهنَّ اعتبارُها بالإضافةِ إلى استعدادهنَّ وبإبائهنَّ الإباءُ الطبيعيُّ الذي هو عدمُ اللياقةِ والاستعدادِ لها وبحمل الإنسانِ قابليَّتُه واستعدادُه لها وكونِه ظلوماً جَهولاً لما غلبَ عليه من القُوَّةِ الغضبيا والشهويَّةِ هذا قريبٌ من التَّحقيقِ فتأمَّل والله الموفقُ وقُرىء ويتوبُ الله على الاستئنافِ ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ حيثُ تابَ عليهم وغفرَ لهمُ فرَطاتِهم وأثابَ بالفوزِ على طاعاتِهم قالَ ﷺ مَن قرأَ سورةَ الأحزابِ وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينُه أُعطَي الأمانَ من عذابِ القبرِ والله أعلمُ
119
سورة سبإ ١ ٢
سورة سبأ مكية وقيل إلا ويرى الذينَ أُوتُوا الْعِلْم الآية وهى أربع وخمسون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
120
Icon