ﰡ
الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي. ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ بالصلاة، لأنها بعض ما يتناوله الإيمان مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا من له لطف ومن لا لطف له، فلا هداية تجدى عليه صِراطِ اللَّهِ بدل. وقرئ: لتهدي، أى: يهديك الله. وقرئ: لتدعو.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم عسق كان ممن تصلى عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» «١».
سورة الزخرف
مكية. وقال مقاتل: إلا قوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا وهي تسع وثمانون آية [نزلت بعد الشورى] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جوابا للقسم «٢»
(٢). قال محمود: «أقسم بالكتاب المبين وجعل قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جوابا للقسم... الخ» قال أحمد: تنبيه حسن جدا. ووجه التناسب فيه أنه أقسم بالقرآن، وإنما يقسم بعظيم، ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن بأنه قرآن عربى مرجو به أن يعقل به العالمون، أى: يتعقلوا آيات الله تعالى فكان جواب القسم مصححا للقسم، وكذلك أقسم أبو تمام بالثنايا، وإنما يقسم الشعراء بمثل هذا الاشعار بأنه في غاية الحسن، ثم جعل المقسم عليه كونها في نهاية الحسن، لا أنها هي أغريض، وهو من أحسن تشبيهات الثايا، فجعل المقسم عليه مصححا للقسم والله أعلم.
وثناياك إنّها إغريض «١»
الْمُبِينِ البين للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم وأساليبهم. وقيل: الواضح للمتدبرين.
وقيل الْمُبِينِ الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة جَعَلْناهُ بمعنى صيرناه معدّى إلى مفعولين. أو بمعنى خلقناه معدّى إلى واحد، كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال. ولعلّ: مستعار لمعنى الإرادة «٢»، لتلاحظ «٣» معناها ومعنى الترجي «٤»، أى: خلقناه عربيا غير عجمى: إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته، وقرئ: أمّ الكتاب بالكسر وهو اللوح، كقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ سمى بأم الكتاب، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتستنسخ. على رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا من بينها حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أى: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
وثناياك إنها إغريض... ولآل نوار أرض وميض
وأقاح منور في بطاح... هزه في الصباح روض أريض
لأبى تمام. والاغريض: البرد. والطلع والنوار: كرمان نور الشجر، واحده نوارة. والوميض: شديد البريق واللمعان. والأقاح: نور أبيض طيب الرائحة. والأريض: طيب الأرض، فيكون نضرا بهيجا: أقسم بثناياها أى: مقدم أسنانها، إنها: أى ثناياها إغريض. فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد، وشبههما بالبرد وبنوار الأرض الشبيه باللآلئ، فاضافتها إليه للتشبيه. ووميض: نعت مقطوع للنوار. أو تابع للاغريض، لكن الأول أجزل، وشبهه بالأقاح الذي نور في البطاح، لأنه أنضر وأزهى. وهزه في الصباح من صفة الأقاح «وخص الصباح ليكون على الزهر بقية من الندى، فيكون في غاية النضرة والزهو. وفيه إيماء لتشبيه قوام محبوبته بأغصان الروض في التمايل وظهور الزهور في أعلى كل منهما، ولك أن تجعل «وميض» صفة للآلئ، وإن كانت جمعا، لأن فعيل بمعنى فاعل قد يعامل معاملته فعيل بمعنى مفعول، فيطلق على الواحد والمتعدد مذكرا ومؤنثا. ويروى بدل الشطر الثاني: ولآل توم ورق وميض. والتوم: واحده تومة «وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، ولا إشكال في إعرابه.
(٢). قال محمود: «ولعل مستعار لمعنى الارادة» «فسره بالارادة» قال أحمد: قد بينا فساد ذلك غير ما مرة.
(٣). قوله «لتلاحظ معناها» لعله: ليلاحظ. (ع)
(٤). قوله «ومعنى الترجي» لعله: أو معنى. (ع)
أضرب عنك الهموم طارقها | ضربك بالسّيف قونس الفرس «١» |
أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. وإمّا بمعنى الجانب من قولهم:
نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه، على معنى: أفننحيه عنكم جانبا، فينتصب على الظرف كما تقول: ضعه جانبا، وامش جانبا. وتعضده قراءة من قرأ: صفحا بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر: وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أى: صافحين معرضين أَنْ كُنْتُمْ أى: لأن كنتم. وقرئ: إن كنتم، وإذ كنتم. فإن قلت: كيف استقام معنى إن الشرطية، وقد كانوا مسرفين على البتّ؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل «٢» بصحة الأمر، المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق: فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه استجهالا له.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦ الى ٨]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية مستمرة، أى: كانوا على ذلك. وهذه تسلية لرسول الله ﷺ عن استهزاء قومه. الضمير في أَشَدَّ مِنْهُمْ للقوم المسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله ﷺ يخبره عنهم وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أى سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعيد لهم.
(٢). قوله «عن المدل» أى: المواثق. أفاده الصحاح. (ع)
.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)فإن قلت: قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم «١»، فما تصنع بقوله فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ وإن كان من قول الله، فما وجهه؟ قلت: هو من قول الله لا من قولهم. ومعنى قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الذي من صفته كيت وكيت، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه. بِقَدَرٍ بمقدار يسلم معه البلاد والعباد، ولم يكن طوفانا.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
والْأَزْواجَ الأصناف ما تَرْكَبُونَ أى تركبونه. فإن قلت: يقال: ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك «٢». وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه؟ قلت: غلب المتعدّى بغير
(٢). قال محمود: «يقال ركبت الدابة وركبت في الفلك... الخ» قال أحمد: لم يحرر العبارة في هذا الموضع فان قوله «غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بنفسه» يوهم أن بين الفعلين تباينا وليس كذلك، فان المتعدي إلى الأنعام هو عين الفعل المتعدي إلى السفن غاية ما، ثم إن العرب خصته باعتبار بعض مفاعيله بالواسطة، وباعتبار بعضها بالتعدي بنفسه، والاختلاف بالتعدي والقصور. أو باختلاف آلات التعدي.
وباختلاف أعداد المفاعيل لا يوجب الاختلاف في المعنى، فمن ثم يعدون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة، مثل: سكرت وأخواته، ويعدون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة، مثل دعوت وصليت، فإنك تقول: صلى النبي على آل أبى أوفى، ولو قلت: دعا على آل أبى أوفى: لأفهم عكس المقصود، ولكن دعا لآل أبى أوفى، ويعدون بعضها إلى مفعولين، ومرادفه إلى مفعول واحد، كعلم وعرف، فلا يترتب على الاختلاف بالتعدي.
والقصور: الاختلاف في المعنى، فالذي يحرر من هذا: أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد، وإن خص أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها، فالصواب أحد الأمرين: إما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا، فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه، والأقرب تعليله باعتبار التعدي بنفسه، ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر، وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ على أحد التأويلين فيه: فان التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى، أعنى: أجمع على الأمر وجمع الشركاء، ولكن لما تقاربا: غلب أحدهما على الآخر، ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه، والله أعلم.
(٢). لم أجده من فعله صلى الله عليه وسلم. وفي الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس رفعه «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا في الفلك أن يقولوا: بسم الله، وما قدروا الله حق قدره- الآية بسم الله مجريها ومرساها» ورواه في الدعاء من حديث الحسن بن على رضى الله عنهما.
(٣). أخرجه الطبري والطبراني في الدعاء من طريق مجلس عن حسين بن على فذكره.
وأقرنت ما حمّلتنى ولقلّما | يطاق احتمال الصّد يا دعد والهجر «١» |
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
(٢). قوله «أو شمست أو تقحمت» في الصحاح: شمس الفرس شموسا وشماسا: منع ظهره. وفيه «القحمة» بالضم: المهلكة. وقحم الطريق: مصاعبه اه، فتقحم الدابة براكبها: خوضها به في قحمته. (ع)
(٣). قوله «حتى تميل طلاهم» في الصحاح «الطلى» الأعناق. قال الأصمعي: واحدتها طلية. وقال أبو عمرو والفراء: واحدتها طلاة. (ع)
إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب «١»
زوجتها من بنات الأوس مجزئة «٢»
وقرئ: جزؤا، بضمتين لَكَفُورٌ مُبِينٌ لجحود للنعمة ظاهر جحوده، لأنّ نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله أَمِ اتَّخَذَ بل اتخذ، والهمزة للإنكار، تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين: وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهنّ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهنّ، كأنه قيل: هبوا أنّ إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعائكم «٣» أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب | قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا |
(٢).
زوجتها من بنات الأوس مجزئة | للعوسج اللدن في أبيانها زجل |
ضرب من الشوك. والمراد به: عود المغزل المتخذ منه. واللدن: اللين. والزجل: صوت دوران المغزل.
ونحوه: وزوجتها، مبنى للمجهول. وروى: «نكحتها من بنات الأوس» هو أبو قبيلة سميت باسمه، تلد تلك المرأة البنات. وجعل العوسج لدنا، لأنه أكثر دويا ورنينا في دورانه.
(٣). قال محمود: «كأنه قيل: هبوا أن إضافة الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعاء أنه آثركم على نفسه... الخ» قال أحمد: نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئة الله تعالى، حتى الضلالة والهدى: اتباعا لدليل العقل، وتصديقا لنص النقل في أمثال قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا، ولا تفيده إلا تصويبا وتسديدا، فنقول: إذا قال الكافر: لو شاء الله ما كفرت، فهذه كلمة حق أراد بها باطلا. أما كونها كلمة حق فلما مهدناه. وأما كونه أراد بها باطلا، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل: أن لا يعاقبه على ذلك، لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته كما توهم القدرية إخوان الوثنية ذلك، فأشركوا بربهم، واعتقدوا أن الضلالة وقعت بمشيئة الخلق على خلاف مشيئة الخالق، فالذين أشركوا بالملائكة أرفع منهم درجة، لأن هؤلاء أشركوا أنفسهم الدنية في ملك ربهم المتوحد بالربانية جل وعلا، فإذا وضح ما قلناه فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه، لأنهم توهموا أنها حجة على الله، فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل والاشراك بالله:
اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال بحال أوائلهم، ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلب وخيال مكذب، فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله: أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك، لا لأن المقالة في نفسها كذب فقال فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وهو معنى قولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا من حيث أن لو مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة، فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا، فهذا هو الدين القويم والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم: هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها من الأفعال الكسبية. حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف، لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينهما وبين العوارض القسرية، فهذه الآية أقامت الحجة، ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة الحجة، ولما كانت تفرقة دقيقة. لم تنتظم في ملك الأفهام الكثيفة، فلا جرم أن أفهامهم تبددت، وأفكارهم تبدلت، فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه، وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار، وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطرار. أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا، وأرشدهم إلى الطريق الوسطى، فانتهجوا سبل السلام، وساروا ورائد التوفيق لهم إمام، مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة، لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة، لكنها قدرة تقارن بلا تأثير، وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير، فهذا هو التحقيق، والله ولى التوفيق.
ما لأبى حمزة لا يأتينا | يظل في البيت الّذى يلينا |
غضبان أن لا نلد البنينا | ليس لنا من أمرنا ماشينا |
والظلول بمعنى الصيرورة، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها. وقرئ: مسودّ ومسوادّ، على أن في ظَلَّ ضمير المبشر، ووَجْهُهُ مُسْوَدًّا جملة واقعة موقع الخبر، ثم قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته. وهو أنه يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أى يتربى في الزبنة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم «٢» ومجاراة الرجال: كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتى ببرهان يحتج به من يخاصمه، «٣» وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهنّ عن فطرة الرجال، يقال: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
وفيه. أنه جعل النشء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفة ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضى لله عنه:
اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا «٤». وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى، وقرئ: ينشأ، وينشأ، ويناشأ. ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء: المغالاة بمعنى الإغلاء.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ١٩]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
قد جمعوا في كفرة ثلاث كفرات. وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد، ونسبوا إليه أخس
ما لأبى حمزة لا يأتينا | يظن في البيت الذي يلينا |
غضبان أن لا تلد البنينا | ليس لنا من أمرنا ماشينا |
وإنما نأخذ ما أعطينا | حكمة ربى ذى الجلال فينا |
(٢). قوله «إلى مجاثاة الخصوم» مفاعلة من «جثا يجثو» إذا برك على ركبتيه. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «يحتج به من يخاصمه» لعله: على من يخاصمه. أو لعله: يحج به من يخاصمه، أى: يغلبه في الحجاج (ع)
(٤). أخرجه أبو عبيد في الغريب: حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبى العدس الأسدى عن عمر رضى الله عنه أنه قال. ذكر هذا وزاد: واجعلوا الرأس رأسين- الحديث» موقوفا. ورواه ابن حبان من طريق أبى عثمان.
قال: أتانا كتاب عمر فذكر قصة فيها هذا.
وقرئ: عباد الرحمن، وعبيد الرحمن، وعبد الرحمن، وهو مثل لزلفاهم واختصاصهم. وإناثا، وأنثا: جمع الجمع. ومعنى جعلوا: سموا وقالوا إنهم إناث. وقرئ: أشهدوا وأشهدوا، بهمزتين مفتوحة ومضمومة. وآ أشهدوا بألف بينهما، وهذا تهكم بهم، بمعنى أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك، ولا تطرّقوا إليه باستدلال، ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خلقهم، فأخبروا عن هذه المشاهدة سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم وَيُسْئَلُونَ وهذا وعيد.
وقرئ: سيكتب، وسنكتب: بالياء والنون. وشهادتهم، وشهاداتهم. ويساءلون، على: يفاعلون.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ هما كفرتان أيضا مضمومتان إلى الكفرات الثلاث، وهما: عبادتهم الملائكة من دون الله، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله، كما يقول إخوانهم المجبرة «٢». فإن قلت: ما أنكرت على من يقول: قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، ولو قالوه جادين لكانوا مؤمنين؟ قلت: لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل، على أن الله تعالى قد حكى عنه ذلك على سبيل الذم والشهادة بالكفر: أنهم جعلوا له من عباده جزءا، وأنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين، وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا، وأنهم عبدوهم وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء: لكان النطق بالمحكيات «٣» - قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدّوا في النطق به- مدحا لهم، من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء، فبقى أن يكونوا جادين، وتشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن قالوا: نجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله، فما بهم إلا تعويج
(٢). قوله «المجبرة» يريد أهل السنة، حيث قالوا: إنه تعالى يريد الشر كالخير، لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، لكن هذا لا يستلزم الجبر ولا ينافي اختيار العبد، لما له في أفعاله من الكسب وإن كانت مخلوقة له تعالى في الحقيقة، بل الجبر إنما يكون لو كان العبد لا دخل له في أفعاله أصلا، كالريشة في الهواء، كما قالت المجبرة الحقيقية.
وإنما ذم الله تلك المقالة من الكفار لأنهم قالوها استهزاء وعنادا، لا إقرارا واعتقادا. والدليل على ذلك إجماع سلف الأمة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. (ع)
(٣). قوله: «لكان النطق بالمحكيات... الخ» ممنوع، وكذا ما بعده، والمعتزلة قالوا: لا يريد الشر بناء على أن الارادة هي الأمر، وهو ممنوع، وعفا الله عن صاحب الكتاب في بذأة لسانه على أهل السنة، وجعلهم إخوان الكفار. (ع)
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
الضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن أو الرسول. والمعنى: أنهم ألصقوا عبادة غير الله بمشيئة الله:
قولا قالوه غير مستند إلى علم، ثم قال: أم آتيناهم كتابا قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحى، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به.
بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ على دين. وقرئ: على إمة، بالكسر، وكلتاهما من الأمّ وهو القصد، فالأمة: الطريقة التي تؤم، أى: تقصد، كالرحلة للمرحول إليه. والأمة: الخالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد. وقيل: على نعمة وحالة حسنة عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ خبر إن. أو الظرف صلة لمهتدون.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٢٣]
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
مُتْرَفُوها الذين أترفتهم النعمة، أى أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاق الدين وتكاليفه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
قرئ: قل، وقال، وجئتكم، وجئناكم، يعني، أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
قرئ: براء، بفتح الباء وضمها. وبريء، فبرىء وبراء، نحو كريم وكرام، «١» وبراء: مصدر كظماء، ولذلك استوى فيه الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث. يقال: نحن البراء منك، والخلاء منك الَّذِي فَطَرَنِي فيه غير وجه: أن يكون منصوبا على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين، وأن يكون مجرورا بدلا من المجرور بمن، كأنه قال:
إننى براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. فإن قلت: كيف تجعله بدلا وليس من جنس ما يعبدون من وجهين، أحدهما: أن ذات الله مخالفة لجميع الذوات، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون.
والثاني، أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة؟ قلت: قالوا: كانوا يعبدون الله مع أوثانهم، وأن تكون إِلَّا صفة بمعنى غير، على أن «ما» في ما تعبدون موصوفة، تقديره:
إننى براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فهو نظير قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. فإن قلت: ما معنى قوله سَيَهْدِينِ على التسويف؟ قلت: قال مرة فَهُوَ يَهْدِينِ ومرّة فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ فاجمع بينهما وقدّر، كأنه قال. فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال وَجَعَلَها وجعل إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم. ونحوه وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وقيل: وجعلها الله. وقرئ: كلمة على التخفيف وفي عقبه كذلك، وفي عاقبه، أى: فيمن عقبه، أى: خلفه.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٢٩]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعنى: أهل مكة، وهم من عقب إبراهيم بالمدّ في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة، فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم. وقرئ: بل متعنا. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ مَتَّعْتُ بفتح التاء؟ قلت: كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ثم أردفه «١» قوله وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته، فقال: بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: ولما جاءهم الحق جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها: وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول، ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه بقولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. قرئ على رجل، بسكون الجيم من القريتين: من إحدى القريتين، كقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أى من أحدهما. والقريتان: مكة والطائف. وقيل: من رجلي القريتين، وهما: الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، عن ابن عباس.
وعن مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل. وعن قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود
كلام نفيس لا مزيد عليه، إلا أن قوله: «خيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها» إطلاق ينبغي اجتنابه، والله أعلم وما أحسن مجيء الغاية على هذا النحو مجيء الاضراب في بعض التارات، فكما جاءت الغاية هنا- وليس المراد بها أن الفعل المذكور قبلها منقطع عندها على ما هو المفهوم منها، بل المراد استمراره وزيادته، فكأن تلك الحالة النافعة انتهت بوجود ما هو أكمل منها- كذلك الاضراب في مثل قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ وهذه الاضرابات ليست على معنى أن الثاني منها رد للأول، بل ثانيها آكد من أولها، وجاء الاضراب مع التوافق والزيادة للاشعار بأن الثاني لما زاد على الأول صار باعتبار زيادته ونقصان الأول كأنهما شيئان متنافيان يضرب عن أولهما ويثبت آخرهما، ومثله كثير وبالله التوفيق.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٣٢]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأنّ الله عزّ وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسوّ بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدما، ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا. وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام؟ ثم قال وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يريد: وهذه الرحمة وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب: خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا. فان قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع «١»، ومنهم من يعيش بالحلال، ومنهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال. قلت: الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
لِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله لِمَنْ يَكْفُرُ ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك:
وهبت له ثوبا لقميصه. وقرئ: سقفا، بفتح السين وسكون القاف. وبضمها وسكون القاف وبضمها: جمع سقف، كرهن ورهن ورهن. وعن الفراء: جمع سقيفة وسقفا بفتحتين، كأنه لغة في سقف وسقوفا، ومعارج ومعاريج. والمعارج: جمع معرج، أو اسم جمع لمعراج: وهي المصاعد إلى العلالي عَلَيْها يَظْهَرُونَ أى على المعارج، يظهرون السطوح يعلونها، فما اسطاعوا أن يظهروه. وسررا، بفتح الراء لاستثقال الضمتين مع حرفى التضعيف لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ اللام هي الفارقة بين إن المخففة والنافية. وقرئ بكسر اللام، أى: الذي هو متاع الحياة، كقوله تعالى مَثَلًا ما بَعُوضَةً ولما بالتشديد بمعنى إلا، وإن نافية. وقرئ: إلا. وقرئ: وما كل ذلك إلا. لما قال خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فقلل أمر الدنيا وصغرها: أردفه ما يقرّر قلة الدنيا عنده من قوله وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أى: ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه، لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا «٢» عندنا للكفار سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها
(٢). قال محمود: «معناه لولا كراهية أن يجتمعوا على الكفر لجعلنا للكفرة سقوفا من فضة أى لوسعنا عليهم الدنيا لحقارتها عندنا» قال أحمد: «لولا» هنا أخت «لولا» في قوله وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... الآية تلك أن تصحح الكلام بتقدير كراهة ذلك بأن لا تقدر محذوفا كما قدمته، فيكون وجه الكلام هاهنا أن إجماعهم على الكفر مانع من بسط الدنيا. وهذا هو معنى لولا المطرد أن ما بعدها أبدا مانع من جوابها، ولكن قد يكون المانع موجودا تحقيقا فيمتنع الجواب بلا إشكال، كقوله تعالى فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وهو الأكثر. وقد يكون وجوده تقديرا معه وعلى ذلك الآية، أى: لو وجد بسط الدنيا للكافر مقدرا، لوجد مانعه عندنا وهو الاجتماع على الكفر مقدرا معه، وكل ما أدى وجوده إلى وجود مانعه لا يوجد.
ويجوز أن يكون الأصل: سقفا من فضة وزخرف، يعنى: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب عطفا على محل مِنْ فِضَّةٍ وفي معناه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء» «١» فإن قلت: فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدّى إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ قلت: التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما تؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين «٢»، فكانت الحكمة فيما دبر: حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
قرئ: ومن يعش، بضم الشين وفتحها. والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشى. وإذا نظر نظر العشى ولا آفة به قيل عشا. ونظيره: عرج، لمن به الآفة «٣».
(٢). قال محمود: «فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدى إليها التوسعة من الاطباق على الكفر» فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الايمان؟ وأجاب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما يؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، وذلك من دين المنافقين» قال أحمد: سؤال وجواب مبنيان على قاعدتين فاسدتين. إحداهما:
تعليل أفعال الله تعالى، والأخرى: أن الله تعالى أراد الإسلام من الخلق أجمعين. أما الأولى فقد أخرس الله السائل عنه بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ وأما الثانية فقد كفى الله المؤمنين الجواب عنه فيه بقوله وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً.
(٣). قال محمود: «يقال عشى بصره بكسر الشين إذا أصابته الآفة... » قال أحمد: في هذه الآية نكتتان بديعتان، إحداهما: الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم، وهي مسألة اضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بافادتها العموم، حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال: إن الشرط يعم، والنكرة في سياقه تعم. وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على الأنبارى شارح كتابه ردا عنيفا. وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط، ونحن نعلم أنه إنما أراد عموم الشياطين لا واحدا لوجهين، أحدهما: أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا، فكيف بالعاشى عن ذكر الله، والآخر: يؤخذ من الآية: وهو أنه أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله وَإِنَّهُمْ فانه عائد إلى الشيطان قولا واحدا «ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال، فهذه نكتة تجد عند إسماعها لمخالفي هذا الرأى سكتة. والنكتة الثانية: أن في هذه الآية ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك. واحتج المانع لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة.
وقد نقض الكندي هذا بقوله تعالى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ونقض غيره بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ... الآية وكان جدي رحمه الله قد استخرج من هذه الآية بعض ذلك، لأنه أعاد على اللفظ في قوله: يَعْشُ ولَهُ مرتين، ثم على المعنى في قوله لَيَصُدُّونَهُمْ ثم على اللفظ بقوله حَتَّى إِذا جاءَنا وقد قدمت أن الذي منع ذلك قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستفلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك حتى رددت على الزمخشري في قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فان الجملة واحدة، فانظره في موضعه.
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره «١»
أى: تنظر إليها نظر العشىّ لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء. وهو بين في قوله حاتم:
أعشو إذا ما جارتى برزت... حتّى يوارى جارتى الخدر «٢»
كسوب ومتلاف إذا ما سألته... تهلل واهتز اهتزاز المهند
وذاك امرؤ إن يعطك اليوم نائلا... بكفيه لم يمنعك من نائل الغد
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره... تجد خير نار عندها خير موقد
للحطيئة، يقول: هو كثير الكسب وكثير الإتلاف، وبينهما طباق التضاد: إذا سألته أجابك بسرعة وطلاقة وجه وهو المراد بقوله: تهلل واهتز كاهتزاز السيف المطلق من حديد الهند، إذا أعطاك اليوم عطاء بكفيه معا كناية عن كثرة العطاء، وسألته في غد أعطاك أيضا. وعشى يعشى كرضى يرضى: إذا كان ببصره آفة. وعشى يعشو: إذا تعاشى بغير آفة. والمعنى: منى تأته على هيئة الأعشى- مجاز عن إظهار الفاقة- تجده أكرم الناس، عبر عنه بذلك على طريق الكناية.
(٢).
ناري ونار الجار واحدة... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضرني جار أجاوره... ألا يكون لبابه ستر
أعشو إذا ما جارتى برزت... حتى يوارى جارتى الخدر
لحاتم الطائي: وعشى يعشى كرضى يرضى: صار لا يبصر ليلا، وعشا يعشو كدعا يدعو: إذا نظر كنظر الأعشى.
يقول: إن ناري هي نار جارى، وتنزل قدرى إليه ليأكل منها قبلي أو ناري ونار جارى واحدة في الزمن والقوة ومع ذلك تنزل قدره إليه قبلي ليأكلها سريعا خوف اطلاع أحد عليه. لكن يبعد هذا أن المقام ليس لذم الجار بل للمدح. ثم هذا كناية عن شدة كرمه على غيره، ثم وصف نفسه بالعفة بقوله: ما ضرني جار من جيراني بمسبة ولا غيرها من أن لا يكون لبابه حجاب يستر أهله، فانى أتغافل وأغض بصرى إذا خرجت جارتى، حتى يسترها بينها. وأتى بالظاهر موضع المضمر ليفيد أنه ينبغي مراعاة حق الجوار. والاحتمال الأول أقعد، لأن معناه أنه يبره ويعف عن محارمه. وأما الثاني ففيه ذم جاره، وهو لا يلائم بعده.
(٢). قوله «إذا رأى الممنو بشدة» أى المبتلى. ومنى: أى ابتلى. أفاده الصحاح (ع)
فهؤلاء لا يؤسيهم اشتراكهم ولا يروّحهم، لعظم ما هم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى إِذْ ظَلَمْتُمْ؟ قلت: معناه: إذ صح ظلمكم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين، وذلك يوم القيامة. وإذ: بدل من اليوم. ونظيره:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة «٢»
أى: تبين أنى ولد كريمة.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٤٠]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
كان رسول الله ﷺ يجد ويجتهد ويكدّ روحه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون على دعائه إلا تصميما على الكفر وتماديا في الغىّ، فأنكر عليه بقوله أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده على سبيل الإلجاء والقسر، كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣)
يذكرني طلوع الشمس صخرا | وأذكره بكل غروب شمس |
ولولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي |
وما يبكون مثل أخى ولكن | أعزى النفس عنه بالتأسى |
ويحتمل أن الاسناد للأول من باب الاسناد للزمان، فتكون الباء في الثاني بمعنى «في» أو «مع» وذكر الشمس ثانيا في آخر المصراع الثاني من باب رد العجز على الصدر. وأعزى النفس: أسليها وأصبرها عنه بالتأسى، أى:
الاقتداء بغيري من أهل المصائب وفي اقتدائها بالباكين من الرجال: إشعار بتجلدها وعظم شأنها مثلهم. وروى «على أمواتهم» بدل: «على إخوانهم»، و «أسلى» بدل «أعزى».
(٢). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٤٠ فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
وقرئ: نرينك، بالنون الخفيفة. وقرئ: بالذي أوحى إليك، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل والمعنى: وسواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر. فكن مستمسكا بما أوحينا إليك وبالعمل به فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضال شقى، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك، ولكن كما يفعل الثابت «١» الذي لا ينشطه تعجيل ظفر، ولا يثبطه تأخيره.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
وَإِنَّهُ وإنّ الذي أوحى إليك لَذِكْرٌ لشرف لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَلسوف تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة، وعن قيامكم بحقه، وعن تعظيمكم له، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين، ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظرا وفحصا «٢» : نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا. وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها، والسؤال الواقع مجازا عن النظر، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة: كثير منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال. وقول من قال: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوارا «٣» أجابتك اعتبارا. وقيل له: إن النبي ﷺ جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم. وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل. وقيل: معناه سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وعن
(٢). قال محمود: «سؤال الرسل مجاز عن الفحص في شرائعهم والنظر في مللهم... الخ» قال أحمد: ويشهد لارادة سؤال الأمم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ والله أعلم.
(٣). قوله «تجبك حوارا» أى مخاطبة بالنطق. في الصحاح: استحاره، أى: استنطقه. (ع)
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
ما أجابوه به عند قوله: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ محذوف، دل عليه قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أى يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحرا، وإذا للمفاجأة. فإن قلت: كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأنّ فعل المفاجأة معها مقدّر. وهو عامل النصب «١» في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٤٨]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)
فإن قلت: إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت: أختها التي هي آية مثلها. وهذه صفة كل واحدة منها فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات على سبيل التفصيل والاستقراء واحدة بعد واحدة، كما تقول: هو أفضل رجل رأيته، تريد: تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قروتهم رجلا رجلا «٢»، فإن قلت:
هو كلام متناقض، لأنّ معناه: ما من آية من التسع إلا هي أكبر من كل واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة. قلت: الغرض بهذا الكلام أنهنّ موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل
(٢). قوله «إذا قروتهم رجلا رجلا» أى تتبعتهم. (ع)
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم | مثل النجوم الّتى يسرى بها السّارى «١» |
ثكلتهم «٢» إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرّغة لا يدرى أين طرفاها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان «٣». فإن قلت لو أراد رجوعهم لكان. قلت: إرادته فعل غيره ليس إلا أن يأمره به «٤» ويطلب منه إيجاده، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد،
هينون لينون أيسار ذوو كرم | سواس مكرمة أبناء أيسار |
إن يسئلوا الخير يعطوه وإن جهدوا | فالجهد يخرج منهم طيب أخبار |
وإن توددتهم لانوا وإن شهموا | كشفت أذمار شرّ غير أشرار |
لا ينطقون عن الفحشا وإن نطقوا | ولا يمارون من مارى بإكثار |
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم | مثل النجوم التي يسرى بها الساري |
وأيسار: جمع يسر، كقطب وأقطاب، وهو في الأصل ضد العسر، سمى به الرجل مبالغة، أو جمع يسرة كقصبة، وهي في الأصل: الخط في باطن الكف، أطلقت على الرجل إشعارا بالكرم. وسواس: جمع سائس، بمعنى مالك متصرف بالمصلحة، وبمعنى الولي المصلح، وجهده الطعام: إذا اشتاق إليه واشتهاه. وجهد الرجل فهو مجهود:
أصابه القحوط والمشقة. وقوله «فالجهد يخرج منهم» جواب الشرط. ويحتمل أنه استئناف مفرغ على ما قبله.
وإن جهدوا: جوابه دل عليه ما قبله. والشهامة: الخشونة، وشهمت الفرس حركته ليسرع. وأذمار شر: أى شجعان حرب: جمع ذمر ككبد، من ذمر الرجل: عبس وغضب. وذمر الأسد زأر بصوته، أى: إن حملتهم على الحرب أظهرت منهم شجعان حرب غير أشرار. وضمن النطق معنى الاخبار، فعداه بعن. ويجوز أنها بمعنى الباء.
والمماراة: الجدال. وبإكثار: متعلق بمارى، أو بيمارون. من تلقه منهم تقل فيه: لاقيت أشرفهم لتساويهم في الشرف، فهم مثل النجوم في التساوي في الشرف والاهتداء والاستضاءة بكل، فكما أن النجم يهتدى به المسافر، كذلك هم يهتدى بهم المختبط الطالب للمعروف أو المتحير في أمر معضل. ويروى بدل «وإن جهدوا... الخ» :
... وإن خبروا... في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
أى: إن اختبروا علم كرمهم وحسن سيرتهم.
(٢). قوله «ثكلتهم» الثكل: فقدان المرأة ولدها. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الايمان... الخ» قال أحمد: تقدم في غير موضع أن «لعل» حيثما وردت في سياق كلام الله تعالى فالمراد صرف الرجاء إلى المخلوقين، أى: ليكونوا بحيث يرجى منهم ذلك، هذا هو الحق. وعليه تأول سيبويه ما ورد. وأما الزمخشري فيحمل «لعل» على الارادة، لأنه.
لا يتحاشى مع اعتقاد أن الله يريد شيئا ويريد العبد خلافه، فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الرب- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- فما أشنعها زلة وأبشعها خلة. ولقد أساء الأدب في هذا الموضع، حتى إنه لولا تعين الرد عليه لما جرى القلم ينقل ما هذى به وما اهتدى. وقد جرى على سنن أوائله في جعل حقيقة الأمر هو الارادة وأضاف إلى ذلك اعتقاد أن العبد يوجد فعله ويخلقه، وأن مراد العبد يقع، ومراد الرب لا يقع، فهذه ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض، نعوذ بالله من هذه الغواية: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.
(٤). قوله «ليس إلا أن يأمره به» هذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة: فإرادته غير الأمر، سواء كانت لفعل نفسه أو لفعل غيره، ولا يلزم تأويل الآية بالارادة، لجواز أن يكون معناها: ليكون حالهم عند الأخذ بالعذاب حال من يرجي رجوعهم. (ع)
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وقرئ: يا أيه الساحر، بضم الهاء، وقد سبق وجهه. فإن قلت: كيف سموه بالساحر مع قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ؟ قلت: قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ: وعد منوي إخلافه، وعهد معزوم على نكثه، معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب. ألا ترى إلى قوله تعالى فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وقيل: كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم على السحر: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك: من أن دعوتك مستجابة. أو بعهده عندك وهو النبوّة. أو بما عهد عندك فوفيت به وهو الإيمان والطاعة. أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جعلهم محلا لندائه وموقعا له. والمعنى: أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأما كنهم من نادى فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص، إذا أمر بقطعه. ويجوز أن يكون عنده عظماء القبط، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم، ثم ينشر عنه في جموع القبط، فكأنه نودي به بينهم فقال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ يعنى أنهار النيل ومعظمهما أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس: قيل: كانت تجرى تحت قصره. وقيل: تحت سريره لارتفاعه. وقيل: بين يدي في جناني وبساتينى. ويجوز أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر. وتجرى: نصب على الحال منها، وأن تكون الواو
إلقاء مقاليد الملك إليه، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق من ذهب مُقْتَرِنِينَ إما مقترنين به من قولك: قرنته فاقترن «٤» به، وإما من: اقترنوا، بمعنى تقارنوا، لما وصف نفسه بالملك والعزة ووازن بينه وبين موسى صلوات الله عليه، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد اعترض فقال: هلا إن كان صادقا ملكه ربه وسوّده وسوّره، وجعل الملائكة أعضاده وأنصاره. وقرئ: أساور جمع أسورة، وأساوير جمع أسوار وهو السوار، وأساورة على تعويض التاء من ياء أساوير. وقرئ: ألقى عليه أسورة وأساور، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٥٤]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
(٢). قوله «لما به من الرتة» بالضم: العجمة في الكلام، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وكانت الأنبياء كلهم أبيناء» في الصحاح: بان الشيء بيانا: اتضح، فهو بين، والجمع أبيناه، مثل هين وأهيناء. (ع)
(٤). قوله «قرنته فاقترن به» لعله قرنته به فاقترن (ع)
استفز، من قولهم للخفيف: فز.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
آسَفُونا منقول من أسف أسفا إذا اشتد غضبه. ومنه الحديث في موت الفجأة: رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر «١». ومعناه: أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا، وأن لا نحلم عنهم. وقرئ: سلفا جمع سالف، كخادم وخدم.
وسلفا- بضمتين- جمع سليف، أى: فريق قد سلف. وسلفا: جمع سلفة، أى: ثلة قد سلفت.
ومعناه: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم، لإتيانهم بمثل أفعالهم، وحديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل، يحدثون به ويقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
لما قرأ رسول الله ﷺ على قريش إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ امتعضوا «٢» من ذلك امتعاضا شديدا، فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أنّ عيسى ابن مريم نبىّ وتثني عليه خيرا وعلى أمه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما. وعزير يعبد. والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ونزلت هذه الآية «٣». والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وجادل رسول الله ﷺ بعبادة النصارى إياه إِذا قَوْمُكَ
(٢). قوله «امتعضوا من ذلك» غضبوا منه وشق عليهم، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). تقدم في أواخر الأنبياء.
نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ على هذا القول: تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلا. معناه: وما قالوا هذا القول، يعنى: ء آلهتنا خير أم هو. إلا للجدال، وقرئ:
أآلهتنا خير، بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها، لدلالة أم العديلة عليها. وفي حرف ابن مسعود: خير أم هذا. ويجوز أن يكون جدلا حالا، أى: جدلين. وقيل: لما نزلت إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. ومعنى يَصِدُّونَ يضجون ويضجرون. والضمير في أَمْ هُوَ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم: السخرية به والاستهزاء.
ويجوز أن يقولوا- لما أنكر عليهم قولهم: الملائكة بنات الله وعبدوهم- ما قلنا بدعا من القول،
(٢). قوله «وخبث دخلته» بالضم: باطن أمره. أفاده الصحاح، (ع)
(٣). قوله «على طريقة المحك» أى: اللجاج، كما في الصحاح. (ع)
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٦٠]
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
وَلَوْ نَشاءُ لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال مَلائِكَةً يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٦١]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَإِنَّهُ وإن عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أى شرط من أشراطها تعلم به، فسمى الشرط علما لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس: لعلم، وهو العلامة. وقرئ: للعلم. وقرأ:
أبىّ: لذكر، على تسمية ما يذكر به ذكرا، كما سمى ما يعلم به علما. وفي الحديث: أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة: يقال لها أفيق وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجال، فيأتى بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلى خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن «٢» به.
وعن الحسن: أن الضمير للقرآن، وأن القرآن به تعلم الساعة، لأن فيه الإعلان بها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها من المرية وهي الشك وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي وشرعي. أو رسولي. وقيل: هذا أمر لرسول الله أن يقوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى هذا الذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في وَإِنَّهُ للقرآن.
(٢). أخرجه الثعلبي بغير سند. وهو موجود في أحاديث متفرقة. فقوله «ثنية أفيق» عند الحاكم من حديث عثمان بن أبى العاص. وقوله «وعليه ممصرتان» عند أحمد والحاكم من حديث أبى هريرة. وقوله والناس في صلاة الصبح، عند ابن ماجة من حديث أبى أسامة. وقوله «فيقتل الخنزير ويكسر الصليب» في الصحيح من حديث أبى هريرة.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٦٢]
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)عَدُوٌّ مُبِينٌ قد بانت عداوته لكم «١» : إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
بِالْبَيِّناتِ المعجزات. أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات بِالْحِكْمَةِ يعنى الإنجيل والشرائع. فإن قلت: هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه؟ قلت: كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة بعد عيسى وقيل: اليهود والنصارى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وعيد للأحزاب. فإن قلت: مِنْ بَيْنِهِمْ إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت: إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وهم قومه المبعوث إليهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٦ الى ٧٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
وقرئ: يا عباد تُحْبَرُونَ تسرون سرورا يظهر حباره- أى: أثره- على وجوهكم، كقوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وقال الزجاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه. والحبرة:
المبالغة فيما وصف بجميل. والكوب: الكوز لا عروة له وَفِيها الضمير للجنة. وقرئ تشتهي وتشتهيه. وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون.
وَتِلْكَ إشارة إلى الجنة المذكورة. وهي مبتدأ، والْجَنَّةُ خبر. والَّتِي أُورِثْتُمُوها صفة الجنة. أو الجنة صفة للمبتدإ الذي هو اسم الإشارة. والتي أورثتموها: خبر المبتدإ. أو التي أورثتموها: صفة، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الخبر، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار. وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها. وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وقرئ: ورّثتموها مِنْها تَأْكُلُونَ من للتبعيض، أى: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في شجرها، فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا. وعن النبي ﷺ «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها «١» إلا نبت مكانها مثلاها «٢».»
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٧٨]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
(٢). أخرجه البزار عن ثوبان. وقد تقدم في البقرة.
والحق يا مال غير ما تصف «٢»
وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: ونادوا يا مال، فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم «٣».
وعن بعضهم: حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه. وقرأ أبو السرار الغنوي: يا مال، بالرفع كما يقال: يا حار «٤» لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ من قضى عليه إذا أمانه فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ والمعنى: سل ربك أن يقضى علينا. فإن قلت: كيف قال وَنادَوْا يا مالِكُ بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت: تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج لهم، ويغوّثون «٥» أوقاتا لشدّة ما بهم ماكِثُونَ لابثون. وفيه استهزاء. والمراد: خالدون. عن ابن عباس رضى الله عنهما: إنما يجيبهم بعد ألف سنة «٦». وعن النبي ﷺ «يلقى على أهل
(٢).
يحيى رفات العظام بالية | والحق يا مال غير ما تصف |
(٣). لم أجده بإسناد. وفي البخاري عن يعلى بن أمية «أنه سمع النبي ﷺ يقرؤها كذلك».
(٤). قوله «كما يقال يا حار» في نداء حارث. (ع) [.....]
(٥). قوله «ويغوثون» في الصحاح «غوث الرجل» : قال وا غوثاه. (ع)
(٦). أخرجه الحاكم من رواية سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله وَنادَوْا يا مالِكُ قال: مكث عنهم ألف سنة ثم يقول: إنكم ماكثون، وروى الترمذي من رواية قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن سمرة بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون. فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع- الحديث: وفيه قال الأعمش بين أن ينزل عليهم وإجابة مالك ألف عام» وقال الترمذي: قطبة ثقة.
وبعض أهل الحديث كان يرفع هذا. وهذا أخرجه الطيراني والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من رواية شريك عن الأعمش موقوف ولم يفصل الكلام الأخير. ثم رواه من طريق قطبة مرفوعا، ولم يفعل أيضا.
لقد جئتكم. ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل. لما سألوا مالكا أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم: أجابهم الله بذلك كارِهُونَ لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه، لأنّ مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
أَمْ أبرم مشركو مكة أَمْراً من كيدهم ومكرهم برسول الله ﷺ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا كما أبرموا كيدهم، كقوله تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ؟
وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما المراد بالسر والنجوى؟ قلت: السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم بَلى نسمعهما ونطلع عليهما وَرُسُلُنا يريد الحفظة عندهم يَكْتُبُونَ ذلك.
وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فَأَنَا أَوَّلُ من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له: «٢» كما يعظم الرجل
(٢). قال محمود: «معناه إن صح وثبت برهان قاطع، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له... الخ» قال أحمد: لقد اجترأ عظيما وافتحم مهلكة في تمثيله ذلك بقول من سماه عدليا: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس باله، فلينقم عليه ذلك بقول القائل: قد ثبت قطعا عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الايمان، وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله، وتصديقا بمضمون قوله تعالى هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وقوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا: لزمه فرك أذنه وغل عنقه، إذ يلحد في الله إلحادا لم يسقه إليه أحد من عباده الكفرة، ولا تجرأ عليه مارد من مردة الفجرة. ومن خالف في كفر القدرية فقد وافق على كفر من تجرأ فقال هذه المقالة واقتحم هذه الضلالة بلا محالة، فانه قد صرح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها وأشنع أنحائها: والله المسئول أن يعصمنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
العبدين. وقيل: هي إن النافية، أى: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد، وروى أنّ النضر بن عبد الدار بن قصى قال: إن الملائكة بنات الله فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقنى. فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة: أن لا ولد له. وقرئ: ولد، بضم الواو. ثم نزه ذاته موصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد، ليدل على أنه من صفة الأجسام.
(٢). قوله «قال له: أما والله» في الصحاح: «أما» مخفف تحقيق للكلام الذي يتلوه اه. ولعل حذف الألف لغة، فليحرر. (ع)
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٨٣]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ وهذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، وإعلام لرسول الله ﷺ أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان، كقوله تبارك تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وإيعاد بالشقاء في العاقبة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله فِي السَّماءِ وَفِي الْأَرْضِ «١» كما تقول، هو حاتم في طىّ حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت:
هو جواد في طى جواد في تغلب. وقرئ: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله. ومثله قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك.
والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، وزاده طولا أنّ المعطوف داخل في حيز الصلة. ويحتمل أن يكون فِي السَّماءِ صلة الذي وإله خبر مبتدإ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة. وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهية والربوبية، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفى الآلهة التي كانت تعبد في الأرض تُرْجَعُونَ قرئ بضم التاء وفتحها. ويرجعون، بياء مضمومة. وقرئ: تحشرون، بالتاء.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا، لأنّ في جملة الذين يدعون من دون الله: الملائكة، وقرئ: تدعون بالتاء. وتدّعون، بالتاء وتشديد الدال.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
وَقِيلِهِ قرئ بالحركات الثلاث، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله: وعنه: وقال قيله. وعطفه الزجاج على محل الساعة، كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرا، وحمل الجرّ على لفظ الساعة، والرفع على الابتداء، والخبر ما بعده: وجوّز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف. معناه: عنده علم الساعة وعلم قيله. والذي قالوه ليس بقوى في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه: أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ولعمرك: ويكون قوله إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ جواب القسم، كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب. أو وقيله يا رب قسمي إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم يائسا عن إيمانهم، وودعهم وتاركهم، وَقُلْ لهم سَلامٌ أى تسلم منكم ومتاركة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. والضمير في وَقِيلِهِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه.
عن النبي ﷺ «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. ادخلوا الجنة بغير حساب» «١»