تفسير سورة الأحقاف

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام والحكمة في الأقوال والأفعال. ثم قال تعالى :﴿ مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق ﴾ أي لا على وجه العبث والباطل، ﴿ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص، وقوله تعالى :﴿ والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ ﴾ أي لا هون عما يراد بهم، وقد أنزل الله تعالى إليهم كتاباً، وأرسل إليهم رسولاً، وهم معرضون عن ذلك كله، أي وسيعلمون غب ذلك، ثم قال تعالى ﴿ قُلْ ﴾ أي لهؤلاء المشريكن العابدين مع الله غير ﴿ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض ﴾ أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض ﴿ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ﴾ ؟ أي ولا شرك لهم في السماوات ولا في الأرض وما يملكون من قطمير، إن الملك والتصرف كله إلاّ لله تعالى، فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال ﴿ ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ ﴾ أي هاتوا كتاباً من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يأمركم بعبادة هذه الأصنام ﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ أي دليل بيّن على هذا المسلك الذي سلكتموه ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك، قال مجاهد ﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ أو أحد يأثر علماً، وقال ابن عباس : أو بينة من الأمر، وقال أبو بكر بن عياش : أو بقية من علم، وقال ابن عباس ومجاهد ﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ يعني الخط، وقال قتادة ﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ خاصة من علم، وكل هذه الأقوال متقاربة، وهي راجعة إلى ما قلناه، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ ؟ أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناماً، ويطلب منها ما لا تستطعيه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر، لأنها جماد وحجارة صم، قوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ كقوله عزّ وجلّ :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ].
يقول عزّ وجلّ مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم، إنهم إذا تتلى عليهم آيات الله ﴿ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها، يقولون :﴿ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا، ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ يعنون محمداً ﷺ، قال الله عزّ وجلّ :﴿ قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً ﴾ أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني، وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، كقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾ [ الجن : ٢٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ﴾ [ الحاقة : ٤٤-٤٥ ] ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ هذا تهديد لهم ووعيد أكيد، وترهيب شديد، وقوله جل وعلا :﴿ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾ ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة، أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب الله عليكم، وعفا عنكم وغفر ورحم، وهذه الآية كقوله عزّ وجلّ :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ الفرقان : ٦ ]، وقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ﴾ أي لست بأول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدون بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم، قال ابن عباس ومجاهد ﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ﴾ ما أنا بأول رسول بُعث إلى النس.
وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ قال ابن عباس : نزل بعدها ﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [ الفتح : ٢ ] وقال الضحاك :﴿ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا؟ وقال الحسن البصري في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ أما في الآخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة، ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء؟ أم أُقْتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة؟ ولا شك أن هذا هو اللائق به ﷺ، فإنه بانسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن ابتعه؛ وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش، إلى ماذا أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون، فيستأصلون بكفرهم؟ فأما الحديث الذي رواه ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء -
2327
« وكانت بايعت رسول الله ﷺ - قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ( عثمان بن مظعون ) رضي الله عنه، فاشتكى عثمان فمرَّضناه حتى إذا توفى أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله ﷺ فقلت : رحمة الله عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عزَّ وجلَّ، فقال رسول الله ﷺ :» وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ « فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله ﷺ :» أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي «، قالت : فقلت : والله لا أزكي أحداً بعده أبداً، وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بذلك، فقال رسول والله صلى الله عليه سلم :» ذاك عمله « » وفي لفظ :« ما أدري وأنا رسول الله ﷺ ما يفعل به » - وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، بدليل قولها؛ فأحزنني ذلك - ففي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة، إلاّ الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وما أشبههم وقوله :﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ ﴾ أي إنما أتبع ما ينزله الله عليّ من الوحي، ﴿ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي بيّن النذارة أمري ظاهر، لكل ذي لب وعقل، والله أعلم.
2328
يقول تعالى :﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ ﴾ هذا القرآن ﴿ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾ ؟ أي ما ظنكم أن الله صانع بكم، إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله عليّ لأبلغكموه، وقد كفرتم به وكذبتموه؟ ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ ﴾ أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به. وقوله عزّ وجل :﴿ فَآمَنَ ﴾ أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيقته، ﴿ واستكبرتم ﴾ أنتم عن اتباعه، وقال مسروق : فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم، ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ وهذا يعم ( عبد الله بن سلام ) وغيره، كقوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ [ القصص : ٥٣ ] وقال :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ﴾ [ الإسراء : ١٠٧ ] الآية، وروى مالك، عن عامر بن سعد عن أبيه قال :« ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلاّ لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال : وفيه نزلت ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ ﴾ »، وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيراً ما سبقنا إليه يعنون ( بلالاً ) و ( عمّاراً ) و ( صهيباً ) و ( خباباً ) رضي الله عنهم وأشباههم من المستضعفين والعبيد والإماء، غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيّناً كما قال تبارك وتعالى :﴿ وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا :﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾، وأما أهل السنَّة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم : هو بدعة، لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه لإنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلاّ وقد بادروا إليها، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ﴾ أي بالقرآن ﴿ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ أي كذب قديم مأثور عن الناس الأقدمين، فينتقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله ﷺ :« بطر الحق وغمط الناس ». ثم قال تعالى :﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى ﴾ وهو التوراة ﴿ إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ ﴾ يعني القرآن ﴿ مُّصَدِّقٌ ﴾ أي لما قبله من الكتب ﴿ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾ أي فصيحاً بيناً واضحاً ﴿ لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي مشتمل على النذارة للكافرين، والبشارة للمؤمنين، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا ﴾ تقدم تفسيرها في سورة حم السجدة. وقوله تعالى :﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي فيما يستقبلون ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما خلفوا ﴿ أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم، والله أعلم.
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وأخلاص العبادة والاستقامة إليه، عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عزّ وجلّ :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، وقوله جلّ جلاله :﴿ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير ﴾ [ لقمان : ١٤ ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وقال عزّ وجلّ هاهنا :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما، روى أبو داود الطيالسي، عن سعد رضي الله عنه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟ فلا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعتْ من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ الآية، ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ﴾ أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً، من وَحَم وغشيان وثقل وكرب إلى غير ذلك، مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ﴿ وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته، ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ وقد استدل بهذه الأية مع التي في لقمان ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [ الآية : ١٤ ]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، روى محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت : ما يبكيك، فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيَّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فأتاه فقال له : ما تصنع؟ قال : ولدت تماماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه : أما تقرأ القرآن؟ قال : بلى، قال : أما سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ وقال :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] فلم نجده بقي إلاّ ستة أشهر، قال، فقال عثمان رضي الله عنه : والله ما فطنت بهذا، عليَّ بالمرأة، فوجودها قد فرغ منها، قال، فقال معمر : فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة أشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه، قال، وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات، وقال ابن عباس : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد عشرون شهراً، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاث وعشرون شهراً، وإذا وضعته لستة أشره فحولين كاملين، لأن الله تعالى يقول :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ ﴿ حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ أي قوي وشب وارتجل، ﴿ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ أي تناهى عقله، كمل فهمه وحلمه، ويقال إنه لا يتغير غالباً عما يكون عليه ابن الأربعين، وروى الحافظ الموصلي، عن عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :
2330
« العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين سنة ثبَّت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه الله تعالى في أهل بيته، وكتب في السماء أسير الله في أرضه ».
﴿ قَالَ رَبِّ أوزعني ﴾ أي ألهمني ﴿ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾ أي في المستقبل، ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي ﴾ أي نسلي وعقبي، ﴿ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين ﴾ وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدّد التوبة والإنابة إلى الله عزَّ وجلَّ ويعزم عليها، وقد روى أبو داود في « سننه » عن ابن مسعود رضي الله عنه « أن رسول الله ﷺ كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد :» الهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها علينا « قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة ﴾ أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين نتقبل منهم اليسير من العمل ﴿ أَصْحَابِ الجنة ﴾ أي هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله عزَّ وجلَّ من تاب إليه وأناب، ولهذا قال تعالى :﴿ وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾، روى ابن أبي حاتم، عن محمد بن حاطب قال : لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه، وعنده ( عمار ) و ( صعصعة ) و ( الأشتر ) و ( محمد بنأبي بكر ) رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم، فسألوه، فقال علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى :﴿ أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ قال : والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم، قالها ثلاثاً. قال يوسف : فقلت لمحمد بن حاطب : آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه؟ قال : آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه.
2331
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما، وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال :﴿ والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) رضي الله عنهما فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه، وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق فقال لوالديه : أف لكما : روى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما : أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلاّ رحمة وكرامة لولده، فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أُفٍ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه سلم أباك، قال : وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت : يا مروان! أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبت، ما فيه نزلت، ولكن نزل في فلان بن فلان، ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر، حتى أتى باب حجرتها فجعل يكلمها حتى انصرف. وروى النسائي، عن محمد بن زياد قال : قال لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه قال مروان : سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما : سنة هرقل وقيصر، فقال مروان : هذا الذي أنزل الله تعالى فيه :﴿ والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾، فبلغ ذلك عاشئة رضي الله عنها فقالت : كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فَضَفٌ من لعنة الله. وقوله :﴿ أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ ﴾ ؟ أي أبعث، ﴿ وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي ﴾ أي قد مضت الناس فلم يرجع منهم مخبر، ﴿ وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله ﴾ أي يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لوالدها :﴿ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾.
قال الله تعالى :﴿ أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾ أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وقوله :﴿ أولئك ﴾ بعد قوله ﴿ والذي قَالَ ﴾ دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك، وقال الحسن وقتادة : هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ أي لكل عذاب بحسب عمله، ﴿ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها، قال عبد الرحمن بن زيد : درجات النار تذهب سَفَالاً، ودرجات الجنة تذهب علواً، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا ﴾، أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب وتنزه عنها وقال : إني أخاف أن أكون من الذين قال الله لهم :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا ﴾، وقوله عزّ وجلّ :﴿ فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾ جوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، وجازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظِعة، أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله.
يقول تعالى مسلياً لنبيّه ﷺ، في تكذيب من كذبه من قومه ﴿ واذكر أَخَا عَادٍ ﴾ وهو ( هود ) ﷺ. بعثه الله عزَّ وجلَّ إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف، جميع حِقْف، وهو الجبل من الرمل وقال عكرمة : الأحقاف : الجبل والغار، وقال قتادة ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر، وقوله تعالى :﴿ وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾، يعني وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين، كقوله عزّ وجلّ :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله ﴾ [ فصلت : ١٣-١٤ ] ﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ أي قال لهم هود ذلك فأجابه قومه قائلين ﴿ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ ؟ أي لتصدنا عن آلهتنا، ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ استعجلوا عذاب الله وعقوبته، واستبعاداً منهم وقوعه، كقوله جلَّت عظمته :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، ﴿ قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله ﴾ أي الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أن أبلغكم ما أرسلت به ﴿ ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ أي لا تعقلون ولا تفهمون، قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾ أي لما رأوا العذاب مستقبلهم، اعتقدوا أنه عراض ممطر ففرحوا واستبشروا به، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، قال الله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي هو العذاب الذي قلتم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ﴿ تُدَمِّرُ ﴾ أي تخرب ﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ من بلادهم مما من شأنه الخراب، ﴿ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ أي بإذن الله لها في ذلك كقوله سبحانه وتعالى :﴿ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم ﴾ [ الذاريات : ٤٢ ] أي كالشيء البالي، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ أي قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية، ﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين ﴾ أي هذا حكمنا فيمن كذَّب رسنا وخالف أمرنا.
يروى أن عاداً قحطوا فبعثوا وفداً له ( قيل ) فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان، يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجىء إلى مريض فأدوايه، ولا إلى أسير فأفاديه، الله اسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود، فنودي منها اختر، فأومأ إلى سحابة سوداء، فنودي منها خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاداً أحداً، فما أرسل عليهم من الريح إلاّ قدر ما يجري في الخاتم حتى هلكوا، قال أبو وائل : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم، قالوا : لا تكن كوافد عاد، وروى الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
2333
« ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وقالت : كان رسول الله ﷺ إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه. قالت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراد إذا رأيته عرفت وفي وجهك الكراهية؟ فقال رسول الله ﷺ :» يا عائشة ما يؤمنني أن يكون في عذاب، قد عُذِب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا « ». وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« كان رسول الله ﷺ إذا عصفت الريح قال :» اللهم إني ما أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به «، قالت : وإذا تخبَّلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، وإذا أمطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها، فسألته، فقال رسول الله ﷺ :» لعله يا عائشة كما قال قوم عاد :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ «، وقد ذكرنا قصة هلاك قوم عاد في سورة الأعراف وهود بما أغنى عن إعادة هاهنا، ولله الحمد والمنة.
2334
يقول تعالى : ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريباً منه، ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾، أي وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه، أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى ﴾ يعني أهل مكة، وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضاً وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَصَرَّفْنَا الآيات ﴾ أي بيناها وأوضحناها ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ ﴾ أي فهل نصروهم عند احتياجهم إليهم، ﴿ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ﴾ أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم، ﴿ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ﴾ أي كذبهم، ﴿ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها، والله أعلم.
رُوي عن الزبير ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن ﴾ قال : بنخلة، ورسول الله ﷺ يصلي العشاء الآخرة، ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ [ الجن : ١٩ ] ﷺ وكانوا سبعة من جن نصيبين «. وروى الحافظ البيهقي في كتابه » دلائل النبوة « عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :» ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت اليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهمه، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله ﷺ، وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم ﴿ فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾ « [ الجن : ١-٢ ]، أنزل الله على نبيّه ﷺ ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن ﴾ [ الجن : ١ ] وإنما أوحي إليه قول الجن، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : هبطوا على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه، قالوا : أنصتوا، قال : صه، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله عزَّ وجلَّك ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ - إلى - ﴿ ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ فهذا مع رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله ﷺ لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استعموا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً، قوماً بعد قوم، وفوجاً بعد فوج، قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله ﷺ وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ.
روى الإمام مسلم، عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله ﷺ ليلة الجن؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت :
2336
« هل شهد أحد منكم مع رسول الله ﷺ ليلة الجن؟ قال : لا، ولكنا كنا مع رسول الله ﷺ ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل : استطير؟ اغتيل؟ قال، فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حرَاء، قال، فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال :» أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن «، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال :» كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم «، قال رسول الله ﷺ :» فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم « » وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، « سمعت رسول الله ﷺ يقول :» بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون « ( طريق أُخرى ) : قال ابن جرير، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي وكان من أهل الشام قال :» إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ لأصحابه وهو بمكة :« من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل »، فلم يحضر منهم أحد غيري، قال، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط برجله خطاً، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كثيرة جالت بين وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى بقي منهم رهط ففرغ رسول الله ﷺ مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال :« ما فعل الرهط؟ » قلت : هم أولئك يا رسول الله، فأعطاهم عظماً وروثاً زاداً، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم «. وعن قتادة في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن ﴾ قال :» ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ( نينوى ) وأن نبي الله ﷺ قال :« إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟ » فأطرقوا، ثم استتبعهم، فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة، فقال رجل : يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة، فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذل، قال : فدخل ﷺ شعباً يقال له ( شعب الحجون ) وخط عليه، وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك، قال : فجعلت أُهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله ﷺ، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله ﷺ، قلت : يا رسول الله صلى الله ما اللغط الذين سمعت؟ قال ﷺ :« اختصموا في قتيل بينهم بالحق » «.
2337
فهذه الطريق تدل على أنه ﷺ ذهب إلى الجن قصداً، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين، وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي :« كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله ﷺ بإداوة لوضوئه وحاجته، فأدركه يوماً فقال :» من هذا؟ «، قال : أنا أبو هريرة، قال ﷺ :» ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة «، فأتيته بأحجار في ثوبي، فوضعتها إلى جنبه، حتى ذا فرغ وقام اتبعته، فقلت : يا رسول الله ما بال العظم والروثة؟ قال ﷺ :» أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم، ألاّ وجدوه طعاماً «. وقال سفيان الثوري، عن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا تسعة أحدهم زوبعة، أتوه من أصل نخلة، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة، وقيل كانوا ثلثمائة، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه ﷺ. ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في » صحيحه «، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا، إلاّ كان كما يظن، بينماعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال لقد أخطأ ظني، أوأن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليَّ بالرجل، فدعي له، فقال له ذلك، فقال : ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم، قال : فإني أعزم عليك إلاّ ما أخبرتني، قال : كنت كاهنهم في الجاهلية، قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال بينما أنا يوماً في السوق جائتني أعرف فيها الفزع، فقالت : ولحوقها بالقلاص وأحلاسها... قال عمر رضي الله عنه : صدق، » بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل، فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه، يقول : يا جليح، أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلاّ الله، قتال : فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلاّ الله، فقمت فما نشبنا أن قيل : هذا نبي «.
2338
وقوله تبارك وتعالى ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن ﴾ أي طائفة من الجن، ﴿ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ ﴾ أي استمعوا وهذا أدب منهم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال :« قرأ رسول الله ﷺ سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال :» ما لي أراكم سكوتاً؟ للجِنُّ كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٣ ] إلاّ قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمتك ربنا نكذب فلك الحمد « ». وقوله عزّ وجلّ :﴿ فَلَمَّا قُضِيَ ﴾ أي فرغ كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]، ﴿ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله ﷺ كقوله جلّ وعلا :﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ وليس فيهم رسل، فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام :﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الآية : ١٣٠ ] ؟ فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كقوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] أي أحدهما، ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم، فقال مخبراً عنهم :﴿ قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ ولم ذكروا عيسى، لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل، فيه مواعظ وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوارة، فلهذا قالوا ﴿ أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، ﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾ أي في الاعتقاد والإخبار، ﴿ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ في الأعمال فإن القرآن مشتمل على : خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل كما قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ]، وهكذا قالت الجن ﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾ في الاعتقادات، ﴿ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي في العمليات ﴿ ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله ﴾ فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً ﷺ إلى الثقلين، الجن والإنس، وحيث دعاهم إلله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي « سورة الرحمن »، ولهذا قال :﴿ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ قبل إن ﴿ مِّن ﴾ ههنا زائدة، وفيه نظر، وقيل إنها للتبعيض، ﴿ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي ويقيكم من عذابه الأليم، ومؤمنو الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن إجيروا من النار، ولو صح لقلنا به.
2339
وقد حكي فيهم أقوال غريبة، فمن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يروا بني آدم، بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا، ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب، كالملائكة لأنهم من جنسهم، وكل هذه الأقوال فيها نظر، ولا دليل عليها، ثم قال مخبراً عنهم :﴿ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض ﴾ أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة له ﴿ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ ﴾ أي لا يجيرهم منه أحد ﴿ أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ وهذا مقام تهديد وترهيب، فدعوا قومهم بالترغيب الترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله ﷺ وفوداً وفوداً كما تقدم بيانه، والله أعلم.
2340
يقول تعالى : أو لم ير هؤلاء المنكرون للبعث، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد ﴿ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ﴾ أي ولم يكرثه خلقهن بل قال لها : كوني فكانت، بلا ممانعة ولا مخالفة، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ كما قال عزّ وجلّ في الآية الأُخرى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ثم قال جلّ جلاله متهدداً ومتوعداً لمن كفره به :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار أَلَيْسَ هذا بالحق ﴾ ؟ أي يقال لهم : أما هذا حق؟ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ ﴿ قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا ﴾ أي لا يسعهم إلاّ الاعتراف، ﴿ قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾، ثم قال تبارك وتعالى آمراً رسوله ﷺ بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه ﴿ فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل ﴾ أي على تكذيب قومهم لهم، ﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾ أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كقوله تعالى ﴿ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ [ المزمل : ١١ ]، وكقوله تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ] ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ]، وكقوله عزّ وجلّ :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٤٥ ] الآية، وقوله جل وعلا :﴿ بَلاَغٌ ﴾ تقديره هذا القرآن بلاغ، وقوله تعالى :﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون ﴾ ؟ أي لا يهلك إلا هالك، وهذا من عدله عزَّ وجلَّ، أنه لا يعذب إلاّ من يستحق العذاب والله أعلم.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها