تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ أي قد مضى على الإنسان حين من الدهر. و «هل» تجيء بمعنى: قد، وبل، وأم. والمراد من الحين: هو مدة لبثه في بطن أمه أو في صلب أبيه. أو أريد بالإنسان: آدم عليه السلام. وبالحين الزمن السابق على خلقته وإيجاده
﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ مني ﴿أَمْشَاجٍ﴾ أخلاط. أي من نطفة الرجل مخلوطة بنطفة المرأة. ومشج بينهما: أي خلط ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾ نختبره بالتكاليف ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾ استعداداً لهذه التكاليف؛ وتهيئة له لفهمها وقبولها ﴿سَمِيعاً﴾ يسمع فيزدجر ﴿بَصِيراً﴾ يبصر فيعتبر وبعد استماعه واعتباره: ابتليناه بالتكاليف؛ بعد أن أبنا له الطريقين ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ وأوضحنا له السبل
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ بيّنا له طريق الهدى؛ بأدلة العقل، والسمع، والبصر ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ يختار بنفسه طريقه؛ الذي يحدد به مستقبله ومصيره؛ فهو ﴿إِمَّا شَاكِراً﴾ لربه، مؤمناً به؛ فيكون من أهل الجنة ﴿وَإِمَّا كَفُوراً﴾ بنعمةالله، منكراً لوجوده؛ فيكون من أهل النار وقد اختار بعقله؛ وما ارتضاه لنفسه
﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا﴾
-[٧٢٤]- أعددنا وهيأنا
﴿إِنَّ الأَبْرَارَ﴾ جمع بر، أو بار؛ وهم الصادقون في الإيمان ﴿يَشْرَبُونَ﴾ في الجنة ﴿مِن كَأْسٍ﴾ لا تسمى الكأس كأساً؛ إلا وفيها الشراب، وإلا فهي كوب ﴿كَانَ مِزَاجُهَا﴾ ما تمزج به ﴿كَفُوراً﴾ ليس المراد بالكافور: الكافور المعلوم. بل أريد المبالغة في طيب ما يمزج به الخمر؛ ولأن الكافور: كان عند العرب من أطيب الطيب
﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ أي عيناً في الجنة، طيبة الرائحة «يشرب بها عباد الله» الخمر. أو المراد بالعين نفس الخمر. ويكون معنى: ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾ أي منها. وقد جاء في اللغة: يشرب بها، أي يشرب منها. قال جميل:
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
أي من برد ماء الحشرج. والنزيف: الذي عطش حتى جف لسانه، ويبست عروقه ﴿يُفَجِّرُونَهَا﴾ يجرونها حيث شاءوا؛ وذلك النعيم لأنهم كانوا في حياتهم الدنيا
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ طويلاً، فاشياً، ممتداً. كأن سائلاً سأل: بم استوجبوا هذا النعيم؟ فأجيب: جزاء وفائهم بالنذر، وخوفهم يوم الحساب، وإطعامهم الطعام
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي رغم حبهم للطعام، وميلهم إليه، وحاجتهم له. أو «على حبه»: في سبيل حبه تعالى، والتقرب إليه (انظر آية ٣٢ من سورة الزخرف) قائلين لمن يطعمونهم
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ أي ابتغاء مرضاته، وطلب ثوابه لم يقولوا ذلك وإنما علمه الله تعالى من ضمائرهم وسرائرهم؛ فأثنى عليهم به
﴿يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ القمطرير: الشديد العبوس. وصف تعالى اليوم بصفة أهله من الأشقياء
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ﴾ بسبب ما قدموه ﴿شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ﴾ العبوس القمطرير ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً﴾ حسناً، وجمالاً، وبهجة، وإضاءة ﴿وَسُرُوراً﴾ يملأ وجوههم وقلوبهم
﴿عَلَى الأَرَائِكِ﴾ الأسرة ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ أي لا حراً ولا برداً
﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا﴾ أدنيت، وسهل تناولها؛ لأنها ليست كقطوف الدنيا: بعيدة المنال، لا تنال إلا بالاحتيال
﴿قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ﴾ أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وبياض الفضة وحسنها ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾ هو مبالغة في وصف الآنية ونفاستها. أي إنها مقدرة ذات قدر كبير، وقيمة عظيمة
﴿كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً﴾ أي ما تمزج به كالزنجبيل؛ في جليل فوائده، وطيب نكهته. وقد كانت العرب تستلذه، ولا ترى أطيب منه
﴿عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً﴾ أي هذا الزنجبيل عيناً في الجنة «تسمى سلسبيلاً» لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها؛ وهذا عكس زنجبيل الدنيا؛ فإنه حريف لاذع
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ﴾ غلمان للخدمة ﴿مُّخَلَّدُونَ﴾ لا يموتون ﴿حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾ لصفاء ألوانهم، وفرط جمالهم
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾
-[٧٢٥]- «ثم» وثمة: بمعنى هنالك. أي إذا رأيت هناك في الجنة ﴿رَأَيْتَ نَعِيماً﴾ عظيماً؛ لا يحاكيه نعيم ﴿وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ لا يدانيه ملك
﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ﴾ وهو ما رق من الديباج؛ أي يعلو أهل الجنة «ثياب سندس» بمعنى أنهم يلبسونه ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ ما غلظ من الديباج ﴿وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ وفي مكان آخر من القرآن الكريم «من ذهب» فعلم أنه سيجمع بين الاثنين في التحلية. أو أريد أن يجمع بين نفاسة الذهب، وصفاء الفضة وبياضها. ألا ترون إلى الذهب الأبيض؛ وقد علا وغلا عن الذهب الأحمر والأصفر؟ وإلى معدن البلاتين؛ وقد امتاز عن الذهب بالصفاء، والغلاء؛ فقد يبلغ ثلاثة أضعاف الذهب في الثمن والقدر؛ مع امتيازه ببياض الفضة
﴿وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾ مقبولاً، مرضياً، محموداً
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ البكرة: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والأصيل ما بين الظهر والعصر. والمراد بذلك: المداومة على ذكره تعالى وتذكره في كل الأوقات وأريد بالذكر: الصلاة. فالبكرة: صلاة الصبح، والأصيل: الظهر والعصر
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾ المغرب والعشاء ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ أي وسبح في الليل تسبيحاً كثيراً
﴿إِنَّ هَؤُلآءِ﴾ المشركين ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ الدنيا ﴿وَيَذَرُونَ﴾ يتركون ﴿وَرَآءَهُم﴾ خلف ظهورهم العمل للآخرة ﴿يَوْماً ثَقِيلاً﴾ شديداً؛ وهو يوم القيامة
﴿وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ﴾ قويناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. أو الأسرة بمعنى الكل. ومنه قولهم: خذه بأسره؛ أي خذه كله. فيكون معنى «وشددنا أسرهم» قوينا سائر أعضائهم وأجزائهم: كل عضو بما يحتاج إليه؛ من لحم، ودم، وعظم، وعصب، وغضروف
﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ السورة، وما فيها من بدء خلقة الإنسان وتدرجها، وهدايته السبيل؛ بواسطة الحواس التي خلقها الله تعالى، والأعضاء التي ركبها فيه، وما أعد للكافرين من عذاب أليم، وللمؤمنين من نعيم مقيم، وأمره لرسوله وخيرته من خليقته؛ بالصبر على أذى الكافرين، ومواصلة ذكر رب العالمين، والصلاة له بكرة وأصيلاً، وتسبيحه ليلاً طويلاً إن جميع ذلك عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ ﴿فَمَن شَآءَ﴾ الجنة ونعيمها ﴿اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ طريقاً يرضيه عنه ويوصله إليه؛ وليس هناك من طريق يوصل إلى الله تعالى: سوى اتباع أوامره، والتزام طاعاته
﴿وَمَا تَشَآءُونَ﴾ شيئاً ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ أن تفعلوه، ولن يشاء سبحانه وتعالى لكم فعل الخير؛ إلا إذا أخذتم في أسبابه؛ لأنه تعالى لا يشاء لإنسان الإيمان، وقد أصم سمعه عن استماع الهدى، وغطى قلبه عن تفهم الحجج والآيات والمعجزات؛ ولن يشاء جل شأنه لإنسان دخول الجنان،
-[٧٢٦]- وقد أعلن الكفران، وجاهره بالعصيان، وعاث بالفساد، وظلم العباد؛ وأكل أموالهم، وحرم فقيرهم وكيف يشاء الله تعالى لإنسان الخير وقد انصرف عنه؟ أو كيف يريد له الإيمان، وقد صد عنه؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً﴾ بخلقه ﴿حَكِيماً﴾ في صنعه فحذار أيها المؤمن أن تقول ما قاله الجاهلون: من أنه تعالى يسلك الكفر في قلوب الكافرين فحاشاه تعالى أن يكون من الظالمين واذكر قوله جل شأنه: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ واعلم أن ما استوجب الحمد: فمنالله، وما استوجب الاستغفار: فهو منك (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء)
﴿وَالظَّالِمِينَ﴾ الكافرين. سماهم تعالى ظالمين: لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر، وعرضوها للعذاب.
726
سورة المرسلات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
726