تفسير سورة مريم

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة مريم من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية وآياتها ثمان وتسعون آية. ويأتي جلها في تبيان الأخبار عن خير نساء الدنيا، المرأة الطاهرة الفضلى، العذراء البتول مريم ابنة عمران عليها السلام. هذه المرأة المميزة بشرفها وطهرها وتبتلها وإخلاصها ؛ لهي ذات قصة مثيرة تنتزع العجب وتستنفر اليقين بعظيم قدرة الله وبالغ مشيئته وسلطانه ؛ إذ أوحى إليها روحه مبشرا إياها بغلام تلده دون نكاح أو مسيس. فكان الحدثٌ الهائل الأجلُ في ولادة النبي المكرم المفضال، عيسى المسيح، نفخة من روح الله وكلمته ألقاها إلى أمه مريم.
لقد كانت هذه واحدة من كبرى المعجزات الكونية الهائلة التي أجراها الله في خلقه لتكون على الدوام دليلا على طهر البتول وعلى صدق ولدها المعظم ؛ إذ بعثه الله نبيا هاديا لبني إسرائيل.
قال القرطبي في هذا الصدد : لما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة ؛ فاهدوا إلى النجاشي ؛ وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش فتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر. فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فسمع رسول الله ( ص ) ببعثهما، فبعث رسول الله ( ص ) عمرو ابن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله ( ص )، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم. وقاموا تفيض أعينهم من الدمع. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ). وفي السيرة : قال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء. فقرأ جعفر ( كهيعص ) فبكى النجاشي حتى أحضل١ لحيته وبكت أساقفهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا٢.
١ - أخضل الشيء، أي ندّاه وبلّه. وخضل خضلا: ندي وابتل. انظر المعجم الوسيط جـ١ ص ٢٤٢..
٢ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٧٢، ٧٣- وفتح القدير جـ٣ ص ٣٢٠..

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ كهيعص ( ١ ) ذكر رحمة ربك عبده زكريا ( ٢ ) إذ نادى ربه نداه خفيا ( ٣ ) قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ( ٤ ) وإني خفت المولى من وراءك وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ( ٥ ) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ( ٦ ) يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ( ٧ ) ﴾.
تقدم الكلام عن مثل هذه الحروف من فواتح بعض السور.
قوله :﴿ ذكر رحمة ربك عبده زكريا ﴾ ( ذكر ) مرفوع على أنه مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره : فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل : خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا ذكر رحمة ربك. وقيل : المبتدأ ( كهيعص ) و ( ذكر ) خبره. و ( عبده ) منصوب بالمصدر المضاف ( رحمة ربك عبده ) و ( زكريا ) منصوب على البدل من ( عبده ) ١.
والصواب – كما اختاره الإمام الطبري – أن يكون الذكر مرفوعا بمضمر محذوف وهو هذا. فتأويل الكلام : هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٩..
قوله :﴿ إذ نادى ربه نداء خفيا ﴾ ( إذ ) في موضع نصب على الظرف لتعلقه بقوله :( ذكر ) و ( نادى ) من النداء وهو هنا الدعاء في خشوع وتذلل. والنداء الخفي معناه الدعاء في خفية واستسرار ؛ فقد ناجى زكريا ربه في محرابه مناجاة العبد المطيع المتخشع الراغب في الذرية. وكان دعاؤه في خفية وسر كيلا يلام على طلب الولد في أوان الكبر فيسخر منه الساخرون.
وقيل : أخفاه ؛ لأنه أبعد عن الرياء وأحب للرحمن ؛ فإن الله يحب من عبده أن يناجيه خفية فيدعوه ويرتجيه.
قوله :( قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ) ( وهن )، أي ضعف، من الوهن، بسكون الهاء، وهو الضعف١.
فقد بثّ زكريا عليه السلام شكواه إلى ربه بأن عظمه قد أتى عليه الضعف وخص العظم ؛ لأنه عماد الجسد وعليه يقوم بناؤه فإذا عف العظم خار الجسد كله ( واشتعل الرأس شيبا ) ( شيبا ) منصوب على التمييز. وقيل : على المصدر ؛ أي شاب يشيب شيبا٢. وهذا التعبير باشتعال الرأس شيبا من أحسن الاستعارات في كلام العرب ؛ فقد شبه انتشار الشيب في الرأس بانتشار شواظ النار الملتهبة. فقد فشى الشيب في رأسه حتى عمه كله بسبب الكبر ؛ إذ نيف إذ ذاك على الثمانين عاما ؛ فهو بذلك يذكر ضعفه وشيبه إلى ربه فيستعطفه ويسترحمه عسى أن يستجيب منه الدعاء، ولذلك قال :( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) أي لم أكن بدعائي إياك ( شقيا ) فقد تعودت منك الإجابة قبل اليوم وما كنت تخيب دعائي، فاستجب اللهم وحقق لي رجائي.
١ - مختار الصحاح ص ٧٣٨..
٢ -البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٩..
قوله :( وإني خفت المولى من وراءي وكانت امرأتي عاقرا ) ( المولى ) هم العصبات من الإخوة وبني العم الذين يلونه في النسب ؛ فقد كان أقارب زكريا العصبات من شرار الناس، فخشي منهم أن يفرطوا في دين الله من بعده، فطلب من الله أن يرزقه العقب الصالح من صلبه ليرثوا من بعده العلم والدين فيكونوا في الناس مهداة صلحاء، داعين إلى الله ؛ أي أن زكريا عليه السلام إنما أراد وراثة العلم والنبوة والدين لا وراثة المال كما زعم بعض المفسرين. ومعلوم أن النبيين أزهد الناس في الدنيا وحطامها، فأنى لهم أن يكونوا من ذوي المال. ثم إن النبيين لا يورثون ؛ فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال : " لا نورث، ما تركنا صدقة " وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح : " نحن معشر الأنبياء لا نورث " وبذلك تكون الوراثة في الآية مستعارة والمراد بها ما كان في النبوة والحكمة والعلم، وهو الأليق بنبي الله زكريا. لذلك دعا ربه أن يهبه الذرية الصالحة ليرثوا من بعده الدين ؛ فقد بلغ هو من العمر الكبر، وكانت امرأته عاقرا ؛ أي انقطع حملها فلا تلد١.
قوله :( فهب لي من لدنك وليا ) أي ارزقني من عندك ولدا.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٧١..
يرث مني العلم والحكمة ( ويرث من آل يعقوب ) أي يرث منهم النبوة. وذلك أن يكون ذا صلاح وهداية فيصلح أن يوحى إليه. أما يعقوب فهو إسرائيل. وقد كان زكريا زوجا لأخت مريم بنت عمران وهذه يرجع نسبها إلى يعقوب ؛ لأنها من ولد سليمان ابن داواد وهو من ولد يهوذا بن يعقوب. وزكريا من ولد هارون أخي موسى. وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق.
قوله :( واجعله رب رضيا ) وهو أن يكون صالحا فترضاه دينا وخلقا.
ويستدل من هذه الآية على جواز الدعاء إلى الله برزق الولد الصالح الذي ينشأ على الإيمان والدين والتقوى فيكون من أهل الفضل والصلاح ويكون من الداعين إلى الله فينشر القيم والأخلاق وشرع الله بين العباد، ويكون لأبويه قرّة عين ومبعث استئناس وطمأنينة داعيا لهما بالخير والمغفرة في الحياة وفي الممات.
قوله :( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) استجاب الله لزكريا دعاءه. وهذه كرامة من الله لهذا النبي العظيم ؛ إذ رزق الولد في فترة من العمر يعز على مثله فيها أن يولد له بسبب الكبر ؛ لقد رزقه الله غلاما كريما صالحا سماه يحيى ولم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم، وقد سماه الله بنفسه بهذا الاسم تشريفا له. وقيل :( سميا ) بمعنى نظير ومثيل ؛ أي ليس له في الناس مثيل أو شبيه. وذلك في كونه مولودا من شيخ فان وعجوز عقيم، والاسم يحيى بمعنى عبد أحياه الله للإيمان والعلم والحكمة١.
١ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ٣٥-٣٨ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٢٣ وتفسير القرطبي جـ ١١ ص ٨٠-٨٣..
قوله تعالى :﴿ قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ( ٨ ) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( ٩ ) قال رب اجعل لي آية قال آياتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ( ١٠ ) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ( ١١ ) يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ( ١٢ ) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ( ١٣ ) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ( ١٤ ) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ( ١٥ ) ﴾.
الاستفهام على سبيل التعجب من قدرة الله أن يخرج ولدا من شيخ فان وعجوز عقيم ( وقد بلغت من الكبر عتيا ) أي بلغت من العمر النهاية في الكبر.
قوله :( قال كذلك قال ربك هو علي هين ) الكاف في موضع رفع ؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف. وتقديره : قال الأمر كذلك١ أي قال له الملك مجيبا عما تعجب منه :( كذلك قال ربك هو علي هين ) أي يقول ربك : إن إيجاد الولد منكما بعد ؛ إذ كبرتما سهل علي ويسير وقد خلقتك أنت من قبل يحيى ولم تكن شيئا يذكر، فلست بعاجز عن أن أخلق يحيى منكما وأنتما في هذه السن.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٠..
قوله :( قال رب اجعل لي آية ) طلب زكريا من ربه علامة أو دليلا على وجود ما بشرته به الملائكة وهو حمل زوجته العاقر بيحيى، ليطمئن بذلك قلبه ( قال آياتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) ( سويا ) منصوب على الحال من المضمر في قوله :( تكلم ) ١ والمعنى : أن الله أخبره أن علامة ذلك أن يحتبس لسانه أو يعتقل فيمتنع من الكلام من غير مرض ولا علة ؛ بل هو سوي سليم الجوارح وما به من خرس ولا بكم، وذلك مدة ثلاثة أيام بلياليهن.
١ - نفس المصدر السابق..
قوله :﴿ فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ﴾ لقد أشرف زكريا على قومه من المحراب، وهو موضع صلاته ولم يستطع الكلام ( فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) أشار إليهم إشارة خفيفة وسريعة، وذلك بأصبعه، أو أومأ إليهم إيماء، أو كتب لهم على الأرض أن سبحوا الله أول النهار وآخره، أو صلوا الفجر والعصر.
قوله :( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) المراد بالكتاب : التوراة التي أنزلت على موسى ؛ فقد أمر الله يحيى أن يأخذ التوراة بقوة. والباء في موضع نصب على الحال ؛ أي خذ هذا الكتاب ( التوراة ) بجد واجتهاد وحرص١، واعمل بمقتضاها تماما فالتزم ما أمر الله به، واجتنب ما نهى عنه.
قوله :( وآتيناه الحكم صبيا ) ( الحكم )، مفعول ثان للفعل ( آتيناه ). و ( صبيا ) منصوب على حال من المفعول الأول وهي الهاء في قوله، ( وآتيناه ). أي آتينا يحيى الحكم وهو العلم والفقه والحكمة، حال كونه صغيرا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢١..
قوله :﴿ وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ﴾ آتاه الله من فضله العظيم حنانا أي شفقة ورحمة بأبويه وغيره من الناس. لقد كان قلبه منذ الصغر حافلا بالرأفة والحنان، عطاء من الله. وكذلك آتاه الله زكاة أي طهارة وصلاحا وبركة ( وكان تقيا ) كان خاشع القلب لله، مطيعا لأمره كامل الطاعة، مجتنبا نواهيه تمام المجانبة.
قوله :﴿ وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ﴾ كان يحيى عظيم البر بوالديه شديد الرفق بهما والإحسان إليهما ولم يكن متكبرا ولا عاصيا لربه، بل كان خاشعا متواضعا منيبا إلى ربه.
قوله :﴿ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ﴾ المراد بالسلام هنا، الأمان ؛ فقد جعل الله الأمان لنبيه يحيى في هذه الأحوال الثلاثة. وقيل : السلام هنا تحية من الله لهذا النبي المعصوم ؛ فقد سلم الله عليه وحياه في ثلاثة مواطن يكون فيها الإنسان في غاية الضعف والحاجة إلى العون.
فقد قيل : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. فأكرم الله فيها يحيى فخصه بالسلام عليه١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١١٢، ١١٣ وتفسير الطبري جـ١٦ ص ٤٢-٤٥..
قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ( ١٦ ) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( ١٧ ) قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا ( ١٨ ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ( ١٩ ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( ٢٠ ) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ( ٢١ ) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ( ٢٢ ) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ( ٢٣ ) ﴾.
بعد أن بين قصة زكريا وولده يحيى عطف بيان قصة مريم البتول وولدها الزكي. والمخاطب رسول الله ( ص ) ؛ إذ يأمره ربه أن يبين للناس هذه القصة ليقفوا على كمال قدرة الله الذي لا تستعصي عليه النواميس الكونية أو طبائع الأشياء والخليقة ولا يعز عليه أن يصنع ما يريد مما فيه خرق لقوانين الوجود، فقال : واذكر لهم يا محمد في هذا القرآن قصة مريم حين تنحت واعتزلت أهلها ( مكانا شرقيا ) ( مكانا )، منصوب على أنه ظرف مكان، وقيل : مفعول به لفعل مقدر. وتقديره : وقصدت مكانا قصيا.
و ( شرقيا )، صفة له١ ؛ أي أنها تنحت عن أهلها في مكان شرقي بيت المقدس معتزلة عن الناس حتى تطهر من الحيض. وقيل : لتحبس نفسها للعبادة وهذا أظهر ؛ فقد جُعلت مريم وقفا على سدانة بيت الله وخدمته ؛ فهي تحرص على الانقطاع للتبتل وعبادة الله، معتزلة الناس من أجل هذه الوجيبة الفضلى.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٢..
قوله :( فاتخذت من دونهم حجابا ) أي استترت مريم من أهلها وتوارت عنهم ( فأرسلنا إليه روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) أرسل الله إليك الملك جبريل عليه السلام على صورة إنسان سوي الخلقة وضيء الوجه، صبيح المنظر، لأنها لا تطيق رؤية جبريل في صورته الحقيقية الهائلة.
فقالت له :﴿ إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا ﴾ لما كانت مريم منفردة متنحية عن أهلها وبيتها وبينهم حجاب، وقد ظهر لها الملك في صورة آدمي، خافته وارتابت وخشيت منه على نفسها، ناشدته أن يجتنبها وأن لا يبغي منها السوء فاستعاذت بالرحمن منه إن كان ممن يتقي الله ويخشاه ؛ أي إنني ألجأ إلى ربي واحتمي بجلاله العظيم، فإن كنت تخشاه فابتعد عني ولا تبغني بسوء.
وهذا هو المشروع في مثل هذه الحالة من الاعتداء على أعراض المسلمين أو أموالهم أو أنفسهم ؛ فإنه ينبغي على المعتدى عليه مناشدة المعتدي باللطف واللين وتذكيره بقدرة رب العالمين عسى أن يكف عن عدوانه فيمسك أو ينتهي.
قوله :﴿ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ﴾ أجابها جبريل في رفق ورحمة لتأمن على نفسها ويطمئن قلبها فأخبرها أنه مرسل من ربه ليهب لها بإذن الله غلاما، أو ليكون سببا بالنفخ في هبة هذا الغلام الزكي ؛ أي الطاهر من الذنوب والذي تحف به كل ظواهر الخبر والبركة والحكمة.
قوله :﴿ قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ﴾ أجابته باستفهام متعجب : كيف يكون لي ابن وأنا غير ذات زوج ولست ( بغيا ) والبغي بمعنى الزانية ؛ أي لست من ذوات الفجور والفاحشة، فكيف يتحصل لي هذا الغلام وأنا في هذه الصفة من التبتل واعتزال الرجال ؟
قوله :( قال كذلك قال ربك هو علي هين ) أجابها الملك بأن الأمر كما قلت وكما تصفين بأنه لم يمسسني بشر في نكاح ولا في فاحشة ولكن ربك قال لك : خلق هذا الغلام الذي وهبته لك هين علي ؛ أن يسير لا يتعذر علي فعله.
قوله :( ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ) هذا تعليل رباني كريم يحمل الناس على القناعة والتصديق بأن الله قادر على كل شيء. وأن الله لا يمنعه مانع من فعل ما يشاء أو تقدير ما يريد ( ورحمة منا ) أي ولنجعل عيسى المسيح نبيا ورسولا للناس فيدعوهم إلى النور والهداية، ويخرجهم من وهدة الباطل وظلام الضلالة، والشرك إلى نور العدل والطهر والتوحيد ( وكان أمرا مقضيا ) أي كان ذلك مقدرا في علم الله، مسطورا في لوحه المحفوظ فلا مندوحة عن تحقيقه١.
١ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ٤٧ وتفسير البيضاوي ص ٤٠٤ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٣١..
قوله :﴿ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ﴾ حملت مريم بعيسى المسيح من غير نكاح ولا مسيس فتنحّت بنفسها وبالحمل إلى مكان بعيد لتعتزل الناس فرارا من ظنهم ومساءلتهم وتعييرهم لها بهذا الحمل العجيب، أما مدة الحمل فكانت موضع خلاف. فقد قيل : كانت ساعة واحدة ثم وضعت أي كما حملته نبذته. وقيل : سبعة أشهر. وقيل غير ذلك.
قوله :( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) الهمزة للتعدية ؛ أي اضطرها وألجأها ( المخاض إلى جذع النخلة ) والمخاض معناه الطلق أو وجع الولادة١. و ( جذع النخلة )، أي ساق النخلة اليابسة. وكان ذلك شرقي محرابها الذي تصلي فيه بيت المقدس. وقيل : كان ذلك في قرية بيت لحم، على عدة أميال من بيت المقدس.
قوله :( قالت يا يليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) لقد أصابها جزع شديد من شأنها هذا الذي يضيق به المرء ذرعا والذي يستشعر فيه بالغ الكرب والحراجة. وخصوصا في ذلك امرأة طاهرة عابدة فضلى، خير نساء العالمين ؛ فقد أحست ببالغ الحزن والحرج فتمنت من أجل ذلك لو ماتت قبل هذا الحدث وكانت ( نسيا منسيا ) ( نسيا )، بكسر النون وسكون السين. والنسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها. أو هو ما سقط من منازل المرتحلين من محقرات أمتعتهم٢.
١ - مختار الصحاح ص ٦١٨..
٢ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٩٠-٩٣ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٣٢ ومختار الصحاح ص ٦٥٨..
قوله تعالى :﴿ فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ( ٢٤ ) وهزي إليك بجذع النخلة تقساط عليك رطبا جنيا ( ٢٥ ) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ( ٢٦ ) ﴾ الذي ناداها : جبريل عليه السلام. و ( من تحتها ) من، حرف جر ؛ أي من أسفل منها أو من أسفل الوادي. وأن في قوله ( ألا ) تفسيرية بمعنى أن ؛ أي لا تحزني بولادتك ( قد جعل ربك تحتك سريا ) والسري معناه النهر الصغير أو الجدول، فقد أجراه الله قريبا من مريم لتشرب منه، ولتجد من قدرة الله ما ينشرح به فؤادها ويطمئن.
قوله :﴿ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ﴾ الباء، زائدة، وهي للتأكيد ؛ فقد أمرها بهز الجذع ذي اليبس ليكون ذلك آية لها على عظيم قدرة الله وأن الله يفعل ما يريد فلا تضيق ولا تحزن. ( تساقط عليك رطبا جنيا ) ( تساقط ) ١ بضم التاء وكسر السين المخففة، فيكون ( رطبا ) منصوبا على أنه مفعول ( تساقط ) والرطب، ثمر النخل إذا أدرك ونضج٢، والجني، يعني الطري الطيب.
ويستفاد من الآية وجوب السعي طلبا للرزق سواء كان السعي المبذول كبيرا أم هينا ؛ فهذه مريم عليها السلام بذلت من الجهد البسيط في هز النخلة ما يتساقط به الثمر عليها لتأكل وتقيم نفسها ؛ فإن المقصود بذل الجهد من أجل الكسب والارتزاق، قل الجهد أو كثر. ولا يقدح ذلك في ضرورة التوكل على الله، وهو ما ينبغي اقترانه بالسعي وطلب الرزق.
أما مجرد التوكل من غير سعي ولا عمل ؛ فتلك مخالفة صريحة لمنهج الله وشرعه الحكيم.
١ - البيان لابن الأنبار جـ٢ ص ١٢٢..
٢ - المصباح المنير جـ١ ص ٢٤٦..
قوله :( فكلي واشربي وقرّي عينا ) أي كلي من الثمر الجني المستطاب ففيه غذاء نافع، ثم اشربي من السري وهو الجدول ذو الماء العذب الصافي تستقيه هنيئا مريئا. وفي هذين الصنفين من الطعام والشراب ما يتقوى بهما بدن الإنسان ويستقيم وتلك نعمة عظيمة أنعمها الباري جل جلاله على العذراء البتول في هذا المكان المنفرد المعزول الذي لا ماء فيه ولا غذاء ولا عباد. قوله :( وقري عينا ) ( عينا ) منصوب على التمييز ؛ أي طيبي نفسا بعيسى المسيح واسكني.
قوله :﴿ فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن اكلم اليوم إنسيا ﴾ إما، أصلها إن ما. فضمت إن الشرطية إلى ما وأدغمت فيها. والمعنى : إن رأيت أحدا من الناس يكلمك أو يسائلك عن أمرك وأمر ولادتك فأخبرته أنك نذرت لله صوما، أي صمتا أو إمساكا عن الكلام فلن تكلمي أحدا من الناس. وقد أمرت أن تقول ذلك بالألفاظ ثم بعد ذلك تصمت ؛ أي سوّغ لها هذا القدر بالنطق. وقيل : أمرت أن تقول ذلك بالإشارة لا بالكلام١.
١ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ٥٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٣٣..
قوله تعالى :﴿ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ( ٢٧ ) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ( ٢٨ ) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ( ٢٩ ) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( ٣٠ ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( ٣١ ) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ( ٣٢ ) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ( ٣٣ ) ﴾ استسلمت مريم لقضاء الله وركنت إلى جنابه بعد ما خولها من نعمة الأمان والطعام والشراب والإمساك عن الكلام، ثم أخذت ولدها. وأتت به قومها تحمله من المكان القصي، فقالوا لها متعجبين مستنكرين، وكانوا أهل بيت نبوة وشرف :( يا مريم لقد جئت شيئا فريا ) جئت أمرا مختلفا عظيما عجيبا.
قوله :( يا أخت هارون ) يعني يا من كنا نظنها شبيهة هارون في العبادة. كما يقال للتميمي يا أخا تميم. وللعربي يا أخا العرب ؛ أي أتأتين بهذا الافتراء والفحش وقد كنت في نظرنا من الصلحاء أمثال هارون. وقيل : كان لها أخ من أبيها اسمه هارون. قوله :( ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ) أي ما كان أبوك عمران يأتي الفواحش، وما كانت أمك زانية، فكيف بك تفعلين الفاحشة وأنت من بيت صبغته الصلاح والفضيلة ؟
قوله :﴿ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ﴾ ظلت مريم ملتزمة بالوفاء بصيامها عن الكلام، فأشارت إلى ولدها عيسى أن يكلمهم فغضبوا واستنكروا ذلك منها ظانين أنها تسخر منهم وتزدريهم، فقالوا لها متهكمين مستشاطين ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) ( كان ) بمعنى حدث أو وقع فيكون ( صبيا ) منصوبا على الحال.
وقيل : بمعنى صار فيكون ( صبيا ) منصوبا على أنه خبر صار، ولا يجوز أن تكون ( كان ) هنا الناقصة ؛ لأنه ليس من اختصاص لعيسى في ذلك ؛ فإنه ما من أحد إلا كان صبيا في المهد يوما من الأيام. وإنما العجب ممن يتكلم وهو في المهد صبي١. والمعنى : كيف نكلم من هو في مهده في حال صباه وهو لا يتكلم ؟
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٥..
فأجابهم عيسى وهو في مهده ناطقا بالحكمة والكلام الحافل الكريم :﴿ إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ﴾ أول ما نطق به عيسى في المهد الاعتراف بربوبية الله والإقرار بعبوديته له سبحانه ؛ فقد نزّه الله بذلك عن الشرك والولد، وأخبر أن الله آتاه الكتاب وهو الإنجيل، وأنه أوتي النبوة، فهو بذلك نبي من المهد، ومعجزته كلامه. وقيل : سبق في علم الله بعثه نبيا.
قوله :( وجعلني مباركا أين ما كنت ) أي جعلني نفّاعا للناس وذا بركات فأعلّم الناس الخير، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأنصر مظلومهم، وأغيث المضطر فيهم والملهوف.
قوله :( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ) ( ما )، مصدرية ظرفية زمانية، والتقدير : مدة دوامي حيا. و ( حيا ) منصوب، خبر ( ما دمت ) ١ أي أوصاني بأداء هاتين الفريضتين العظيمتين دوام حياتي.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٥..
قوله :( وبرا بوالدتي ) أمرني ربي أن أبرّ بوالدتي مريم، فأحسن إليها تمام الإحسان وأبذل لها من كريم الطاعة والتواضع والرحمة ما هي خليقة به.
قوله :( ولم يجعلني جبارا شقيا ) لم يجعلني ربي مستكبرا عن عبادته وعن خلق الصالحين. وكذلك لم يجعلني ( شقيا ) أي غليظا عاصيا لله فأشقى.
قوله :﴿ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ﴾ أي علي من الله الأمان في هذه الأحوال الثلاثة وهي يوم الولادة ؛ إذ أبعد الله عني الشيطان. وعند الموت ؛ إذ كتب الله لي الأمان والنجاة من هول ما يستقبله الميت في قبره. ويوم البعث مما في القيامة من شدائد وبلايا. وفي ذلك إخبار صريح ومقطوع من عيسى لقومه أنه ليس له أب، وأنه صائر إلى الموت بعد نزوله إلى الدنيا ليبعث بعد ذلك حيا مع العالمين يوم القيامة١.
١ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ٦١، ٦٢..
قوله تعالى :﴿ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( ٣٤ ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( ٣٥ ) وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( ٣٦ ) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ( ٣٧ ) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ( ٣٨ ) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ( ٣٩ ) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ( ٤٠ ) ﴾.
الإشارة، ( ذلك )، في موضع رفع مبتدأ. ( عيسى ) خبره. ( ابن مريم ) صفته. والمعنى : أن هذا الذي قصصت عليكم من خبره والذي حملته مريم من غير أب وكلم الناس في المهد هو عيسى ابن مريم، فقولوا فيه مثلما أخبرتكم عنه لا ما قالت عنه اليهود ؛ إذ افتروا على مريم البهتان والباطل في ولادتها عيسى من غير أب، ولا ما قالت النصارى ؛ إذ غالوا فيه مغالاة فقالوا : إنه إله أو ابن إله تعالى الله عن هذا الباطل علوا عظيما.
قوله :( قول الحق ) قرئ ( قول ) بالرفع والنصب. فمن قرأ بالرفع كان مرفوعا ؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : ذلك قول الحق. أو هذا قول الحق. ومن قرأه بالنصب، كان منصوبا على المصدر، وتقديره : أقول قول الحق١ فهذا هو القول الحق في عيسى ابن مريم ( الذي فيه يمترون ) أي يختصمون ويختلفون، ويفترون قول الأباطيل ؛ إذ قالت اليهود إنه ساحر كذاب. وزعمت النصارى أنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة. وذلك كله مراء بالكذب والباطل.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٦..
قوله :( ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه ) أي ما ينبغي لله ولا يليق بجلاله العظيم أن يتخذ لنفسه ولدا، وإنما يتخذ الأولاد من صفتهم الضعف والحاجة للعون والنصرة، والله منزه عن ذلك.
قوله :( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) إذا قضى الله أن ينشئ شيئا أو يخلقه من العدم، كخلق آدم من تراب، وخلْق عيسى من غير أب ( فإنما يقول له كن فيكون ) أي يأمر الله بإحداثه فيصير كما يشاء.
قوله :( وإن الله ربي وربكم فاعبدوه ) ذلك من كلام عيسى عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه داعيا إياهم إلى توحيد الله وعبادته ومجانبة الإشراك به : إن الله خلقني وإياكم وهو مالك كل شيء فاعبدوه وحده دون أحد من خلقه ( هذا صراط مستقيم ) أي هذا الذي جئتكم به من عند الله لهو الدين الحق والطريق المستقيم الذي لا زيغ فيه.
قوله :( فاختلف الأحزاب من بينهم ) ( الأحزاب )، الفرق والطوائف من أهل الكتاب ؛ فقد اختلفوا ما بينهم. قالت فرقة من النصارى وهم النسطورية : إنه ابن الله. وقالت فرقة أخرى وهم الملكانية : إنه ثالث ثلاثة. وقالت فرقة ثالثة وهم اليعقوبية : إنه هو الله. أما اليهود فقد قدحوا فيه قدحا ؛ إذ افتروا عليه وعلى أمه بالباطل. وبذلك أفرطت النصارى إفراطا، وفرطت اليهود تفريطا.
قوله :( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) ذلك تهديد رعيب وتوعّد مخوف من الله لهؤلاء الغلاة والمفرطين والجاحدين، فلهم الويل من شهودهم يوم القيامة، أو من حضورهم هذا المشهد المزلزل الذي يشيب منه الولدان وتخور فيه القوى والأجساد لهول ما فيه من شديد القواصم والأرزاء.
قوله :( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ) يعني ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة. والجار والمجرور ( بهم ) في موضع رفع فاعل أسمع. كقوله أكرم بزيد. ومعناه كرم زيد جدا. والمراد أن إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجب منهما ؛ إذ لا أسمع منهم يوم القيامة ولا أبصر.
قوله :( لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) أي لكنهم في الدنيا في زيغ عن الحق. زيغ عميت فيه أبصارهم وصمت آذانهم، فأشركوا بالله أشد الإشراك، وزعموا له الولد، سبحانه، وهو المنزه عن اتخاذ الصاحبة والولد.
قوله :( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ) أي خوفهم يوم القيامة وما يقع فيها من أهوال وشدائد، وحينئذ تغشى الخاسرين غواشي من اليأس والحسرة والندم على تقصيرهم وتفريطهم في دنياهم ؛ فلا تجديهم عندئذ الحسرة ولا ينفعهم الندم ولا ينجيهم ابتغاء التوبة أو الإنابة بعد أن فات الأوان. وهو قوله :( إذ قضي الأمر ) أي فرغ من الحساب فيصار إلى الجزاء والعقاب ثم يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. فيكونون جميعا خالدين فيما هم فيه بلا موت.
قوله :( وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) كلتا الجملتين في موضع نصب على الحال ؛ أي أنهم غافلون ساهون عن هذا المقام العصيب الذي أنذروا به وما يصيبهم فيه من ندامة وإياس ( وهم لا يؤمنون ) أي لا يصدقون بيوم القيامة وما هو نازل بهم يومئذ من الويل وسوء المصير.
قوله :﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ﴾ سوف يأتي على الخلائق الفناء والموت ؛ فكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه ؛ فهو وحده المتفرد بالملك والبقاء ثم يصير الناس إلى ربهم ليلاقوا جزاءهم المنتظر١.
١ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ١٠٨، ١٠٩ وتفسير الطبري جـ١٦ ص ٦٧..
قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ( ٤١ ) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ( ٤٢ ) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ( ٤٣ ) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا ( ٤٤ ) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ( ٤٥ ) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ( ٤٦ ) قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ( ٤٧ ) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ( ٤٨ ) فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ( ٤٩ ) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ( ٥٠ ) ﴾.
الصديق، بالتشديد، صيغة مبالغة. والمراد فرط الصدق ؛ أي اقصص يا محمد ما جاءك في القرآن من خبر خليل الرحمان إبراهيم وخبر أبيه المشرك آزر. وإن إبراهيم ( كان صديقا نبيا ) كان إبراهيم عظيم الصدق في أقواله وأفعاله، مستقيما في كل أحواله، مصدقا بكل أنباء الغيب من كتب الله ورسله وآياته. وكان نبيا مرسلا من ربه إلى قومه ليدعوهم إلى دين الله الحق ومجانبة الشرك والباطل.
قوله :﴿ إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ﴾ الإنكار للتوبيخ، أي اذكر إبراهيم حين قال لأبيه آزر مستنكرا : يا أبت كيف تعبد هذه الأصنام التي لا تسمع ولا ترى ولا تدفع عنك أيما ضر أو شر، ولا تؤدي لك أي نفع فإنما تعبد أجسادا خرسا عميا لا تريم. إنما ينبغي أن تعبد الذي خلق هذه الأصنام وخلق كل شيء ؛ فهو حقيق بالعبادة والطاعة.
قوله :﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتيك فاتبعني أهدك صراطا سويا ﴾ بكسر التاء في، أبت. والتاء عوض عن الياء ؛ أي قال إبراهيم لأبيه : لقد جاءني من المعرفة وأخبار اليقين وما يكون من أخبار القيامة ما لم تعلمه أنت، فاتبعني في ملتي وفيما أدعوك إليه من ديانة مستقيمة، أدلك إلى طريق الله المستقيم وما فيه لك من خير ونجاة وأمان.
قوله :﴿ يا آبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا ﴾ أي لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من الشرك والمعاصي. وطاعة الشيطان تعني عبادته فإنما يُعبد الشيطان بمعصية الله ومخالفة دينه وأمره، والشيطان من جهته شديد العصيان لله.
قوله :﴿ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا ﴾ يحذر إبراهيم أباه الضال ناصحا له ومشفقا عليه : لئن متّ على الكفر فلسوف يمسك من الله عذاب أليم ( فتكون للشيطان وليا ) أي تكون بكفرك وعصيانك لله، مواليا للشيطان وقريبا له في النار.
قوله :( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ. ( راغب ) مرفوع بالابتداء، و ( أنت ) مرفوع براغب، ارتفاع الفاعل بفعله. والفاعل ههنا سد مسد خبر المبتدأ. كأن نقول : أذاهب أخوك. فيكون ذاهب، مرفوعا بالابتداء، وأخوك سد مسدّ الخبر١.
والمعنى : أترغب يا إبراهيم عن عبادة آلهتي الأصنام إلى عبادة غيرها ( لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ) لئن لم تمسك عن شتم الأصنام وذكرها بالسوء لأرجمنك بالشتم والسب، أو القول القبيح، أو بالضرب بالحجارة. ( واهجرني مليا ) ( مليا ) ظرف زمان منصوب ؛ أي اعتزلني زمانا طويلا.
١ - البيان لابن الأنباري جت٢ ص ١٢٧.
قوله :( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ) ( سلام ) مرفوع على أنه مبتدأ. والجار والمجرور في موضع رفع خبر. لقد قابل إبراهيم أباه بالرفق والملاطفة بقوله :( سلام عليك ). وذلك سلام المتاركة والتوديع وليس التحية.
أما السلام على الكفار ففيه خلاف وتفصيل، خلاصته أن في ذلك قولين : أحدهما : عدم بدء الكافر بالسلام. وذلك للخبر :" لا تبدأوا
اليهود والنصارى بالسلام " وهو حديث صحيح.
والقول الثاني : جواز بدئه بالسلام. لما روي في الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي ( ص ) : " مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول. وفي المجلس عبد الله بن رواحة فسلم عليهم النبي ( ص ) ". فالحديث الأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء. والثاني يجوّزه. وما يمكن الخروج به في مثل هذا التعارض أن المشركين إذا استبانت مودتهم وظهر فيهم اللين وحسن الأدب وطيب التعامل، وكان في ملاطفتهم وتكريمهم والرفق بهم ما يرغبهم في المسلمين وفي دينهم، فلا بأس على المار بهم أن يبدأهم بالسلام، أما إن كانوا من العتاة الغلاظ كالمنافقين والماكرين والمتربصين الذين بدت البغضاء من أفواههم، فما يغني التسليم عليهم ولا حاجة للمسلمين في مثل هذا التسليم الخائر المتهافت.
قوله :( سأستغفر لك ربي ) سأعود الله لك بالمغفرة والستر والإحسان عسى أن تفيء إلى الحق والصواب ( إنه كان بي حفيا ) من الحفاوة وهي المبالغة في الإكرام والإلطاف١ ؛ أي أن الله لطيف بي يجيب دعوتي.
١ - مختار الصحاح ص ١٤٥.
قوله :( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي ) أعتزلكم، من الاعتزال وهو التنحي والمجانبة بعيدا ؛ أي أفارقكم وأجتنبكم وما تعبدون من أصنام وصور لا تغني ولا تنفع. وأعبد ربي وحده لا شريك له، عسى ألا أشقى بدعائه سبحانه، بل الله يعطيني ما سألته.
قوله :﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ﴾ ( وكلا )، مفعول أول لجعلنا. و ( نبيا )، مفعول ثان ؛ أي بعد أن تنحى إبراهيم عن المشركين وابتعد عنهم وعن أصنامهم وشركهم جزيناه خير ما يجزاه المؤمن من عطايا الدنيا وهو الولد الصالح. فكيف بالولد إذ كان نبينا ؟ إن هذا لهو خير الجزاء والعطاء ؛ فقد وهب الله لإبراهيم ولده إسحاق ؛ ثم من بعده يعقوب نافلة، لتقرّ بهما عينه ويجد فيهما أنسه وسكينته ( وكلا جعلنا نبيا ) كلاهما نبي مرسل من ربه. لا جرم أن هذا خير إكرام يمتن الله به على رسوله وخليله إبراهيم ؛ إذ وهبه ولدين كريمين، في ذريتهما النبوة الميمونة والرسل الكرام.
قوله :﴿ ووهبنا له من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ﴾ وهبهم الله من رحمته النبوة والصلاح والذرية الكريمة وأورثهم الذكر الطيب والثناء الحسن، فجميع أهل الأديان السماوية يثنون عليهم ويمتدحونهم امتداحا١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٢٤ وتفسير الطبري جـ١٦ ص ٦٨-٧٠..
قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ( ٥١ ) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ( ٥٢ ) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ( ٥٣ ) ﴾ أي قُصَّ عليهم يا محمد من القرآن خبر موسى كليم الله ( إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ) ( مخلصا ) بفتح اللام ؛ أي كان موسى مختارا، اختاره الله واصطفاه ليكون رسولا نبيا ؛ إذ كان من المرسلين العظام أولي العزم الذين اصطفاهم الله على سائر الخلق والنبيين.
قوله :( وناديناه من جانب الطور الأيمن ) ( الطور )، جبل بين مدين ومصر. و ( الأيمن ) يعني اليمين ؛ أي يمين موسى. وكان ذلك لدى إقباله من مدين إلى مصر حين ذهب يبغي جذوة من نار رآها مشتعلة. وحينئذ كلمه ربه تكليما وهذه مناداته له.
قوله :( وقربناه نجيا ) ( نجيا ) ؟ حال منصوب. والنجي معناه المناجي، من المناجاة والاستسرار١ ؛ أي جعلناه قريب المنزلة والمكانة. وهو تقريب تشريف وتكريم.
١ - نختار الصحاح ص ٦٤٨..
قوله :﴿ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ﴾ لقد استجاب الله دعاء كليمه موسى ؛ إذ سأله متضرعا ( واجعل لي وزيرا من أهلي ) فأكرمه الله خير إكرام ومنّ عليه من رحمته وفضله أن وهب له نبوة أخيه هارون، يستأنس به ويكون له عونا وسندا.
قوله :﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ( ٥٤ ) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ( ٥٥ ) واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ( ٥٦ ) ورفعناه مكانا عليا ( ٥٧ ) ﴾ أي قص عليهم يا محمد من القرآن خبر النبي الكريم والرسول العظيم إسماعيل عليه السلام، وهو الذبيح، أبو العرب ابن إبراهيم الخليل ؛ فقد ذكره الله ههنا ثناء عليه وإكراما له لما كان يتجلى فيه من حميد الخصال والأخلاق. ومن أظهرها صدق الوعد ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام بارا صادقا وفيا بوعده. وهذه واحدة من شيم المؤمنين الكرام ؛ إذ يوفون بعهودهم ووعودهم فيصدقون ولا ينثنون عن الوفاء ؛ فإنه لا يخلف الناس ما وعدهم به إلا الفاسقون والكذابون والمنافقون. وخُلف الوعد آفة خلقية ذميمة ومرض شخصي قبيح يتلبس به كل ضعيف خائر، بل إنه علامة من علامات النفاق والمنافقين. علامة مشينة تتجافى عنها طبائع المؤمنين الذين يظلون دوام حياتهم صادقين أوفياء لا يكذبون ولا يخونون ولا يراءون. وكان عليه الصلاة والسلام ( رسولا نبيا ) فقد أرسله الله إلى جرهم مبلغا وهاديا ونذيرا.
قوله :﴿ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ﴾ المراد بأهله ههنا أمته. وقيل : جرهم أو عشيرته، والأول أظهر ؛ فقد كان عليه السلام يدعو الناس إلى دين التوحيد ويأمرهم بالصلاة والزكاة. وقد ذكرهما هنا لأهميتهما البالغة. فهما عماد كل دين. وكان عليه السلام عند ربه رضيا صالحا بما تجلى فيه من الخلال الحسنة وتمام الطاعة لله.
قوله :﴿ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ﴾ أي قص عليهم خبر رسول الله إدريس. وهو أول نبي في ذرية آدم ؛ فقد أثنى الله عليه في الآية لبالغ صدقه.
وقد رفعه الله مكانا عليا، بما أعطاه من شرف النبوة وعالي الدرجة في الجنة١.
١ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ١١٦- ١١٨ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٣٨..
قوله تعالى :( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيئين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا } الإشارة ( أولئك ) تعود إلى النبيين المذكورين في هذه السورة من زكريا إلى إدريس. وقوله :( من ذرية آدم ) المراد به إدريس وحده. وقوله :( وممن حملنا مع نوح ) يراد به إبراهيم وحده. وقوله :( ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ) يراد به موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم ؛ لأن مريم من ذرية يعقوب.
وبذلك كان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح، ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم.
قوله :( وممن هدينا واجتبينا ) أي ومن جملة من هديناه إلى الحق واخترناه للنبوة ( وإذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا ) ( سجدا وبكيا ) منصوبان على الحال. و ( بكيا )، جمع باكٍ١.
هؤلاء المصطفون الأخيار، والصالحون الأبرار كانوا أهل خشوع وورع وإنابة وهم لفرط خشيتهم لله وتعلق قلوبهم بجلاله العظيم، إذ تتلى عليهم آيات من كتاب الله يسقطون ساجدين باكين مستذكرين عظمة الرحمن في نفوسهم، وخاشعين مما يجدونه في آيات الله من ساطع الأدلة وظاهر البراهين.
وإذا ذكر الخشوع بسبب التلاوة لآيات الله ذكرنا آيات القرآن المجيد. هذا الكتاب المتفرد في طابعه وأسلوبه وطريقة نظمه للعبارات والكلمات وما يجلله من روعة الإيقاع وحلاوة النغم، لا جرم أنه في غاية الجمال والجلال ؛ إذ ينفذ إلى القلوب والأذهان ليفيض عليها من شآبيب النداوة والحلاوة ما يثير فيها مزيجا عجيبا من الإحساس بالحبور والورع والبهر والذعر٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٨..
٢ - تفسير البيضاوي ص ٤٠٨ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٣٩ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٢٧..
قوله تعالى :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ( ٥٩ ) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ( ٦٠ ) جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ( ٦١ ) لا يسمعون فيها لغوا ولا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ( ٦٢ ) تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ( ٦٣ ) ﴾ بعد أن ذكر الأبرار من نبيين وصديقين وصالحين، شرع في ذكر صنف آخر من الناس جاءوا عقب أولئك الأولين الأبرار. لكن هؤلاء صنف مغاير من الأشقياء والخاسرين الذين باءوا بالهلاك وسوء المصير في الآخرة. وهم المراد بهم في قوله ( فخلف من بعدهم خلف ) والخلف بسكون اللام وهم القرن بعد القرن. يقال : هؤلاء خلف سوء١ فقد ( أضاعوا الصلاة ) واختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة في الآية. فقد قيل : المراد إضاعة أوقاتها وعدم القيام بحقوقها من تمام الأداء والخشوع. وقيل : المراد بإضاعتها، تركها بالكلية. وهذا أنسب للسياق ؛ فإن الآية تتضمن تعريضا بصنف فاسق مغاير للمؤمنين السابقين فهم جيل التفريط من الأمم الغافلة على مرّ الزمن، والتي أدبرت عن طاعة الله وجمحت في ابتغاء الشهوات جموح الخاسرين الشاردين عن الهدى والرشاد. ولا يضيّع الصلاة ويبتغي الشهوات بكل سبب أو وسيلة محظورة أو مشروعة إلا الخاسرون الهلكى الذين آثروا الدنيا على الآخرة واستعاضوا عن الطاعات بالشهوات على اختلاف صورها وضروبها.
قوله :( فسوف يلقون غيا ) الغي معناه الخيبة والخسران. وقيل : واد في جهنم يصير إليه الغاوون الخاسرون الذين ضيعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وهذا تعزيز للقول بأن المراد بتضييع الصلاة هو تركها كليا.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ١٤٠..
قوله :( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ) استثنى التائبين عن تضييع الصلاة واتباع الشهوات ؛ فإنهم إن آمنوا وصدقوا وتابوا إلى ربهم وعملوا الصالحات ؛ فهؤلاء صائرون إلى الجنة ( ولا يظلمون شيئا ) أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا بل يضاعف لهم الجزاء أضعافا.
قوله :( جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب ) ( جنات )، منصوب على البدل من الجنة في قوله :( يدخلون الجنة ) ١ والعدن، بمعنى الإقامة ؛ فهي دار خلود وديمومة لا تحويل عنها ولا مبارحة، قد وعدها الله عباده المؤمنين التائبين ( بالغيب ) أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم ؛ إذ آمنوا بها ولم يروها، وهذه آية الإخلاص والتصديق المبادر بعيدا عن اللجاجة والجدل والالتواء. فاستحقوا بذلك جنات عدن لتكون لهم خير جزاء ومقام.
قوله :( إنه كان وعده مأتيا ) ذلك تأكيد من الله بأن ما وعد به المؤمنين التائبين آت إليهم لا محالة، أو أنهم هم صائرون إليه فمجازون به.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٢٨..
قوله :( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ) اللغو، ما لا يعتد به من الكلام ولا يحصل منه على فائدة. أو هو الفحش والباطل والكذب وفضول الكلام. قال ابن عباس : اللغو ما لم يكن فيه ذكر الله تعالى فلا يسمع أهل الجنة شيئا من ذلك. إنما يسمعون السلام وهو قوله :( إلا سلاما ) استثناء منقطع. والمراد سلام بعض المؤمنين على بعض أو سلام الملائكة على أهل الجنة. أو يراد به الكلام السالم من العيب والنقص. قوله :( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) ليس في الجنة بكرة وعشي ؛ لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار. وإنما ورد النص ههنا على عادة أهل التنعم في هذه الدنيا. والمراد دوام الرزق والنعمة.
قوله :﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾ اسم الإشارة، ( تلك )، مبتدأ، وخبره ( الجنة ). وفي هذه الآية يعظم الله شأن الجنة التي يجعلها عاقبة لأعمال المتقين من عباد الله١.
١ - روح المعاني جـ١٦ ص ١١٠-١١٣ والدر المصون جـ٧ ص ٦١٣..
قوله تعالى :﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ( ٦٤ ) رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ( ٦٥ ) ﴾.
في سبب نزول الآية روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) لجبريل : " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " فنزلت الآية :( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) و ( نتنزل )، بالتشديد، وهو يقتضي العمل في مهلة. وقيل : لا تقتضيها. قال الزمخشري في ذلك : التنزل على معنيين : النزول على مهل، والنزول على الإطلاق ؛ أي بمعنى أنزل، فلا يقتضي المهل أو التدريج، والراجح الأول وهو النزول على مهل. وهذا خبر من لله عن جبريل عليه السلام، أو حكاية قوله وهو أننا ننزل في الأحايين وقتا غِبّ١ وقت، ولا ننزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها تبعا لحكمته ومشيئته. ووقتا غب وقت ؛ أي ينزل في وقت ويغيب عنه في آخر. قوله :( له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ) وهذا حكاية عن قول جبريل أيضا، وهو أن الله محيط بالزمان كله، فله ما أمامنا من الزمان المستقبل، وما وراءنا من الزمان الماضي، وله ما بين الزمانين جميعا. فلا ننزل في زمان من الأزمنة إلا بأمر الله وتقديره وحكمته.
قوله :( وما كان ربك نسيا ) النسي، في اللغة، الكثير النسيان بكسر النون. أو هو النسيان بفتح النون٢، والمراد به هنا : أن الله سبحانه وتعالى لا يجوز عليه النسيان والغفلة ؛ فلا يدع أنبياءه، أو يتخلى عنهم.
١ - الغب بالكسر معناه عاقبة الشيء. وورد يوم، وظمأ يوم آخر. والمغببة بضم الميم يعني الشاة تحلب يوما وتترك يوما. انظر القاموس المحيط ص ١٥٢..
٢ - القاموس المحيط ص ١٧٢٥..
قوله :( رب السماوات والأرض وما بينهما ) ( رب )، بدل من ( ربك ) وقيل : خبر لمبتدأ. والتقدير : هو رب السماوات والأرض١ ؛ أي أن الله خالق ذلك كله. وهو سبحانه المتصرف في الكون بلا معقب ولا ولي ولا نديد. فما ينبغي لجلاله العظيم وقدرته البالغة أن يغفل أو ينسى أو يترك أولياءه وأنبياءه المقربين.
قوله :( فاعبده واصطبر لعبادته ) الفاء لترتيب ما بعدها من مقتضى العبادة والصبر على ما قبلها من كون الله رب كل شيء في السماوات والأرض وما بينهما، أو من كونه غير تارك ولا ناس أولياءه المقربين، فمن أجل ذلك كله أعبد الله بتمام طاعته والخضوع لجلاله والإذعان لجنابه. واصبر على مشاق عبادته ولا تعبأ مما يقوله الكافرون من إبطاء الوحي عليك ؛ فإن الله لطيف بك وهو يرعاك ويكتب لك الأمان والسلامة والتوفيق.
قوله :( هل تعلم له سميا ) الاستفهام يفيد النفي. والسمي، بمعنى المضاهي والمثيل. وقيل : الشريك في اسم الله العظيم. والمراد : نفي العلم بأن يسمى أحد باسم الله، غير الله سبحانه ؛ فهؤلاء المشركون بالرغم من غلوهم وإسرافهم في تقديس الأصنام وتعظيمها ؛ فإنهم لا يسمون الصنم باسم الله أو فيما يختص بالله تعالى، كالاسم الجليل وهو الله أو الرحمان٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦١٦..
٢ - روح المعاني جـ١٦ ص ١١٥- ١١٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٤١..
قوله تعالى :﴿ ويقول الإنسان أإذا ما متّ لسوف أخرج حيا ( ٦٦ ) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ( ٦٧ ) فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ( ٦٨ ) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا ( ٦٩ ) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ( ٧٠ ) ﴾ ذكر أنها نزلت في أبي بن خلف. وقيل : في الوليد بن المغيرة. وقيل : في أبي جهل. والظاهر أنها في الكافرين المكذبين بالبعث ؛ فإنهم مرتابون في قيام الساعة ؛ فالإنسان ههنا في الآية يراد به جنس الكافرين الجاحدين من الناس كأمثال أبيّ والوليد وأبي جهل وغيرهم من كبراء المشركين يكذبون بقيام الساعة ويعجبون من القول ببعث الإنسان بعد الموت وهو قوله :( أإذا مت لسوف أخرج حيا ) الهمزة، للإنكار، واللام للابتداء والتوكيد وإذا، ظرفية ( أخرج )، حال مؤكدة١، والمراد من الإخراج، ما كان من الأرض أو من حال الفناء. هكذا يقول الكافرون المكذبون، وهم يجحدون في استعباد وسخرية- بعثهم من الموت والفناء إلى الدار الآخرة للحساب والجزاء.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦١٩..
قوله :﴿ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ﴾ الهمزة للإنكار والتوبيخ، مؤخرة عن حرف العطف تقديرا وهو قول أكثر المفسرين وبذلك توسطت الهمزة ههنا بين المعطوف وحرف العطف١. والمعنى : أيقول الإنسان قوله من جحود البعث ولا يتذكر أو يتدبر حال النشأة الأولى ؛ إذ لم يكن موجودا. وبعبارة أخرى : فقد خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئا، أفلا يخلقه الله بعد أن كان شيئا. فلئن خلقه من عدم فخلْقه من رفات وهو شيء، أهون وأسهل.
١ - نفس المصدر السابق..
قوله :﴿ فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ﴾ هذا القسم من الله بإضافة المقسم به وهو الله إلى رسوله تتضمن تعظيما له ( ص ). والواو العاطفة بمعنى مع ؛ أي يقسم الله بجلاله العظيم أن الكافرين المكذبين بيوم القيامة محشورون مع الشياطين الذين أضلوهم وأغووهم ؛ فما من شقي جاحد من البشر إلا ويجاء به يوم القيامة مقرونا مع شيطان بسلسلة ( ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) ( جثيا )، منصوب على الحال. جمع جاث ؛ أي بارك على الرُكب. يقال : جثا يجثو جُثوّا وجثيا ؛ وهم الجالسون على ركبهم١، وعن ابن عباس، بمعنى : جماعات جماعات، جمع جثوة وهو المجوع من التراب والحجارة.
والمقصود أن الكافرين مع الشياطين يساقون يوم القيامة إلى جهنم جاثين ؛ أي باركين حول جهنم، زيادة في التعذيب والتنكيل والإيلام من هول المنظر. فيا لله لهذا الحال البئيس المرعب الذي تتوقد فيه النار، والكافرون والشياطين باركون على ركبهم وهم مقيدون مقرونون في السلاسل من حول جهنم في تأججها الرهيب واستعارها المضطرم ! ٢
هكذا يمكث هؤلاء الأخسرون في هذا التعس من المنظر الفظيع جثيا وقتا من الزمان- الله أعلم كم يستمر- قبل أن يكبكبوا في النار ! نسأل الله العافية والستر والنجاة.
١ - القاموس المحيط ص ١٦٣٨..
٢ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٢٤..
قوله :﴿ ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا ﴾ شيعة بمعنى جماعة تشايعت على الضلال والباطل. أو تبعت الغواة وأهل الباطل وشايعتهم في كفرهم ؛ أي لنخرجن من هؤلاء المذكورين ( أيهم أشد على الرحمان عتيا ) أيهم مبتدأ، وخبره أشد. وقيل في إعراب ذلك وجوه أخرى، و ( عتيا ) منصوب على التمييز. والتقدير : أيهم هو عتوه أشد. والعتو، معناه الاستكبار ومجاوزة الحد١. والمراد : أن يخرج الله من كل طائفة أو جماعة أشدهم نبوًا عن طاعة الله واجتراء على عصيانه ؛ أي أن الله يفرز يوم القيامة من بين الغاوين والضالين من أمم الكفر أعصاهم فأعصاهم حتى إذا اجتمعوا جميعا طرحهم في النار، فيقدم أولاهم بالعذاب فأوْلاهم.
١ - القاموس المحيط ص ١٦٨٨..
قوله :﴿ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ﴾ المراد بالذين هم أولى بالصلي، المنتزعون، باعتبار الترتيب ؛ فالله تعالى أعلم بمن هو أحق من هؤلاء بدخول النار١.
١ - روح المعاني جـ١٦ ص ١١٨، ١١٩ وتفسير البيضاوي ص ٤١٠..
قوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ( ٧١ ) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ( ٧٢ ) ﴾ الواو في قوله :( وإن منكم ) عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها. ( وإن )، نافية بمعنى ما. والمخاطب في الآية عموم الناس ؛ أي وما منكم من أحد إلا هو داخل النار. وبذلك لسوف يدخل النار سائر العباد سواء فيهم المؤمن والكافر. أما المؤمن : فإن النار لا تضره بل الله منجيه. وفي هذا أخرج الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( ص ) : " يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم " ومما يذكر في هذا المعنى : أن الخلق جميعهم يمرون على الصراط على جهنم، وهو مثل حد السيف. وإنهم يمرون بسرعة تتفاوت بتفاوت أعمالهم ؛ فأكثرهم خشية لله أصلحهم أعمالا ؛ إذ يمرون كالبرق الخاطف. ومن دونهم في الإيمان وصالح الأعمال يمرون على نحو أبطأ، والملائكة يقولون : اللهم سلم سلم.
أما الجاحدون والخاسرون والمتمردون على الله والمنافقون ؛ فإنهم يهوون من فوق الصراط إلى وسط جهنم ليبؤوا بالويل والعذاب الشديد.
وله :( كان على ربك حتما مقضيا ) الحتم، أي القضاء والوجوب. حتم بمعنى أوجب. و ( مقضيا )، أي قضى بوقوعه دون تخلف. وقيل : كان قسما واجبا.
قوله :﴿ م ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ﴾ ( ثم )، عاطفة ( ننجي )، بالتشديد من التنجية ؛ أي ينجي الله المؤمنين الذين اتقوا الشرك والعصيان ؛ فينقذهم من النار بجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم الصالحة التي فعلوها في الدنيا. ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود من المشركين والخاسرين. وهذا هو قوله :( ونذر الظالمين فيها جثيا ) ( جثيا ) مفعول ثان للفعل ( نذر ). وقيل : حال، إن كانت " نذر " بمعنى نخليهم. و ( جثيا ) جمع جاث. والمراد بهم أنهم قاعدون في النار على ركبهم، أو باركون عليها بروكا زيادة في التنكيل والإيلام١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٣٤ والدر المصون جـ٧ ص ٦٢٨..
قوله تعالى :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ( ٧٣ ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا ( ٧٤ ) ﴾ إذا تليت على المشركين المكذبين آيات من الله تنعى عليهم إجرامهم وظلمهم وتحذرهم عاقبة تكذبيهم وما ينتظرهم من سوء المصير ؛ إذ الهوان والتنكيل والخزي والإياس ( بينات ) منصوب على الحال. يعني آيات ظاهرات الإعجاز والكمال لهبط دونهن كل نظم أو كلام، وفيهن من قوة البرهان والحجة وسطوع اليقين ما يدحض كل باطل أو ظلم يفتريه هؤلاء المكذبون الخاسرون ( قال الذين كفروا للذين آمنوا ) أي قال الكافرون للمؤمنين في تمرد وعتو واستكبار، مستنكفين عن آيات الله وما فيها من تنديد بشركهم وضلالهم ( أي الفريقين ) يريدون فريق المؤمنين وفريق الكافرين ( خير مقاما ) بفتح الميم ؛ أي مكانا ومنزلا. وهم بذلك يفتخرون بمنازلهم العالية ومساكنهم الجميلة المهيبة ذات الأثاث الفاخر والرياش الوثير. يفاخرون بمثل هذا الحطام الفاني على المؤمنين في بيوتهم الصغيرة والبسيطة لقلة حيلتهم وضعف قدرتهم ( وأحسن نديا ) أي مجلسا يجتمع فيه القوم للمشاورة، وكذلك يفاخرون هنا بسعة مجالسهم التي يجتمع فيها رؤوس القوم للتداول والتشاور. بما يشير إلى كثرة أتباعهم وأعوانهم، وأنهم أكثر أنصارا ومريدين من المؤمنين ؛ إذ كانوا قلة ومستضعفين لا يشايعهم في دينهم وعقيدتهم غير قلة من الصابرين الثابتين على الحق، وسط الظلام وفي وجه الطغاة والمجرمين. بمثل ذلك كان المشركون السفهاء يفاخرون ويتباهون بحسن منازلهم ومساكنهم المزينة بأصناف الأثاث والفُرُش، وبمجالسهم التي يتلاقى فيها الكبراء والقادة من رؤوس الكفر وصناديد الباطل. يفاخرون ويتباهون بمثل هاتيك المظاهر السخيفة التي لا تعدل في ميزان الحقيقة والمنطق مثقال ذرة، ولا تساوي في ميزان الله وقسطاسه المستقيم وزن قطمير. فماذا تغني هذه المظاهر والمفاخر والزينات ما دامت صائرة إلى الزوال المحتوم والفناء القريب ؟ إنما تغني الباقيات الصالحات من عقيدة صحيحة سليمة وخشوع لله وازع، وعمل حسن نافع.
قوله :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا ﴾ ( كم )، الخبرية مفعول مقدم للفعل ( أهلكنا ) ١. والرئي، معناه المنظر. والقرن، أهل كل زمان. و ( أثاثا ) أي أثاث البيت من الفرش ونحوها.
وهذا بيان من الله لمن يتعظ أو يتدبر كيلا تغره الحياة الدنيا ولا تفتنه المباهج والزينة والمتاع الزائل.
الله يبين لعباده أنه ما أكثر الأمم الغابرة، والسابقين من الأجيال والأقوام الذين استغرقوا في الشهوات والزينة وأخذوا من خيرات الدنيا بحظوظ كثيرة ؛ فكانوا خيرا من هؤلاء المشركين في فاخر أثاثهم وحسن بيوتهم ومساكنهم وجمال هيئاتهم ومناظرهم ؛ لقد كانوا أحسن من هؤلاء المشركين فيما استمتعوا به من زينة الحياة الدنيا وما فيها من وجوه النعم الزائلة، ثم صاروا بعد ذلك كله إلى الهلاك والفناء فأصبحت ديارهم خاوية، وباتوا جميعا أثرا بعد عين. فماذا تغني الزينة والأموال والمفاخر المادية والشهوات بعد المصير المحقق المنتظر الذي يؤول إليه كل حي، وهو الموت والفناء٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٢٩..
٢ - روح المعاني جـ١٦ ص ١٢٥، ١٢٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٤٣..
قوله تعالى :( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ( ٧٥ ) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ( ٧٦ ) }.
يقول الله جل وعلا لهؤلاء الضالين السفهاء الذين يفاخرون بزينة الدنيا وحظوظها من الأموال والأثاث وحسن المظهر ( فليمدد له الرحمان مدا ) جواب للشرط ( قل من كان في الضلالة ) والمدّ، والإمداد بمعنى الإمهال والبسط١.
والطلب أو الأمر بالمد هنا، في معنى الخبر ؛ أي من كفر بالله وضل عن سبيله وغفل عن الآخرة وتلهى بمتاع الحياة الدنيا، مد الله له وأمهله بطول العمر واستدرجه بالعطاء من الخيرات والزينة ( حتى إذا رأوا ما يوعدون ) أي لا يزالون غافلين عن الحق، لاهين في التفاخر بالحظوظ الدنيوية إلى أن يعاينوا الموعود رأي العين وهو ( إما العذاب وإما الساعة ) ( إما )، حرف عطف ومن معانيها التفصيل. وكلا ( العذاب ) و ( الساعة ) منصوب على أنه بدل من قوله :( ما يوعدون ) المنصوبة بقوله :( رأوا ) وتفصيل للموعود٢، والمراد بالعذاب، ما كان في الدنيا من قهرهم واستيلاء المؤمنين عليهم. والمراد بالساعة، أن تغشاهم غاشية القيامة بما فيها من نكال وأهوال.
قوله :( فسيعملون من هو شر مكانا ) ( فسيعملون ) جواب للشرط. والمعنى : أن هؤلاء المكذبين الغافلين إذا عاينوا ما يوعدون من عذاب الدنيا والآخرة، عندئذ سيعلمون مَن مِن الفريقين أسوأ حظا وشر مصيرا وعاقبة ( وأضعف جندا ) فقد كان المشركون التائهون اللاهون يتفاخرون بكثرة العشيرة والأنصار والرؤساء والوجهاء، فإذا عاينوا الموت ثم سيقوا بعد ذلك إلى الحشر والحساب أيقنوا أنهم الأخسرون وأنهم لن تنفعهم زينتهم وأموالهم وأعوانهم من الرؤساء والزعماء. وأيقنوا أيضا أن هذه الفئة المؤمنة التي كانت في الدنيا موضع استسخارهم وتحقيرهم، هم الآن الأعلون وهم الفائزون الآمنون.
١ - القاموس المحيط ص ٤٠٦..
٢ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٣٣..
قوله :( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) جملة مستأنفة سيقت للإخبار بذلك، وهو بيان حال المهتدين عقب بيان حال الضالين. وقيل : عطف على ( فليمدد ) وضعّف كثيرون كونه عطفا١. المعنى : أنه يزيد المؤمنين المهتدين يقينا وثباتا على الاهتداء بما يبينه لهم من الآيات والحجج.
قوله :( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ) ( والباقيات الصالحات ) تتناول كل وجوه العمل الصالح مما فيه طاعة لله وخشوع لجلاله العظيم، ما بين صلوات وزكوات وصيام ونُسُك وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وبر بالوالدين، وإحسان لعباد الله ؛ فذلك كله خير مما يتفاخر به الغافلون ( وخير مردا ) أي خير عاقبة ؛ لأن عمل الخير وفعل الطاعات يصير بالعاملين المؤمنين إلى النجاة والفوز بالرضوان والجنة٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٣٤..
٢ - روح المعاني جـ١٦ ص ١٢٨ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٤٤ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٣٥..
قوله تعالى :﴿ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ( ٧٧ ) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا ( ٧٨ ) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ( ٧٩ ) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( ٨٠ ) ﴾.
في سبب نزول هذه الآية روى الإمام أحمد بسنده عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه منه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد ( ص ) حتى تموت ثم تبعث. قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك. فأنزل الله الآية١.
الهمزة في قوله :( أفرأيت ) للتعجب من قول هذا الكافر العاتي، والفاء عطف يفيد التعقيب ؛ أي أنظرت فرأيت كفران هذا الجاحد بآياتنا وما فيها من بينات ودلائل، ثم قال على سبيل التهكم الوقح والاستكبار الفاجر :( لأوتين مالا وولدا ) جواب قسم ؛ أي والله لأوتين إذا بعثت مالا وولدا. سبحانك اللهم هذا اجتراء شنيع يتقوله هذا المغالي في الجحود والكفر ؛ إذ يقسم أنه سيؤتي المال والولد في الآخرة.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٣٥..
قوله :( أطلع الغيب ) الهمزة للاستفهام، والغيب مفعول به١ ؛ أي أنَظَر في علم الله الذي استأثر به، والمكنون في اللوح المحفوظ حتى زعم أنه يؤتيه الله في الآخرة مالا وولدا. وهذا رد لزعم هذا الفاجر الكذاب. قوله :( أم اتخذ عند الرحمان عهدا ) أي أعلم الغيب أم أنه أوتي من الله عهدا وموثقا بأن ذلك كائن.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٣٦..
قوله :( كلا سنكتب ما يقول ) ( كلا )، حرف ردع وزجر لهذا المستكبر العاتي عما زعمه من بالغ الظلم والافتراء. وهو تنبيه على ضلاله وتصوره الخاطئ. وسنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله :( ونمد له من العذاب مدا ) أي نزيد له في العذاب ونضاعفه له مضاعفة، جزاء مقالته الشنيعة ( ونرثه ما يقول ) أي نسلبه بموته ما عنده من المال والولد أخذ الوارث ما يرثه عقب الموت.
قوله :( ويأتينا فردا ) ( فردا ) حال منصوب ؛ أي يأتي يوم القيامة بغير مال ولا ولد ؛ بل يأتي حسيرا ذليلا فردا لا يصحبه إلا ما قدم من شنيع الأعمال والأقوال١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤١١ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٤٥..
قوله تعالى :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ( ٨١ ) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ( ٨٢ ) ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ( ٨٣ ) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ( ٨٤ ) ﴾.
اتخذ الكافرون آلهة مختلفة من دون الله ليتعززوا ويتقووا بهم فيكونوا لهم أنصارا وأعوانا وشفعاء. وهكذا يتصور المشركون الضالون في كل زمان ؛ إذ يعبدون آلهة مختلفة مصطنعة. سواء في ذلك الأصنام أو الطغاة والمتجبرون من طواغيت البشر الذين يعبدهم المغفلون الخائرون من الناس يبتغون عندهم العزة والعون.
قوله :( كلا سيكفرون بعبادتهم ) ( كلا )، ردع وزجر لهم عن هذا التصور السفيه الضال، وإنكار لما طمعوا به أو حسبوا أنه حاصل لهم. فلسوف تحاجهم هذه الآلهة المزعومة يوم القيامة ويكذبونهم تكذيبا ويجحدون أنهم عبدوهم. أو أن المشركين هم الذين ينكرون أن يكونوا قد عبدوا هذه الآلهة المفتراة.
قوله :( ويكونوا عليهم ضدا ) الضد يطلق للواحد والجمع. وقيل للواحد فقط. والضد على الجمع معناه الخصماء الأشداء في الخصام. أو المخالفون، وقيل : قرباء يلعن بعضهم بعضا. والمراد ضد العز، وهو الذل والهوان ؛ أي يكونون عليهم يوم القيامة ذلا لا عزا لهم.
قوله :﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ﴾ أي قيضنا الشياطين للمشركين والعصاة فسلطناهم عليهم ليؤزوهم أزا، والأز، والأزيز والهز والاستفزاز بمعنى التهييج وشدة الإزعاج١ ؛ أي خلينا بين الشياطين والمشركين ليغروهم ويهيجوهم على المعاصي وذلك بأنواع الوساوس وضروب الإغواء والإضلال. والمراد تعجيب رسول الله ( ص ) من أقاويل الكافرين وتماديهم في الفسق والباطل، بعد جلاء الحق وظهور اليقين.
وكذلك يؤز الشياطين على اختلاف أسمائهم سواء فيهم شياطين الجن أو شياطين الإنس من طواغيت البشر ورؤوس الكفر فيهم –إن هؤلاء جميعا يؤزون الناس أو يغرونهم ويهيجونهم بصنع المعاصي بكل صورها وألوانها بدءا بالكفر الفاضح الصراح وما دون ذلك من مختلف الآثام والذنوب.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٤١..
قوله :﴿ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ﴾ يخاطب الله نبيه ( ص ) أن لا يعجل على هؤلاء المشركين بالهلاك لكي تستريحوا من شرورهم، وحتى تتطهر الأرض من فسادهم وأدناسهم ؛ فإنهم لم يبق لهم من حياتهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة وكل ما هو آت قريب١.
١ - تفسر البيضاوي ص ٤١٢ وروح المعاني جـ١٦ ص ١٣٤، ١٣٥..
قوله تعالى :﴿ يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا ( ٨٥ ) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ( ٨٦ ) لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا ( ٨٧ ) ﴾ ( يوم )، منصوب بمضمر وهو اذكر، أو احذر. و ( وفدا ) منصوب على الحال. وكذا ( وردا ). والوفد، معناه الجماعة الوافدون. يقال : وفد يفد وفدا ووفادة. أي قدم على سبيل التكريم له، والورد، اسم للجماعة العطاش الواردين للماء١.
وذلك كائن يوم القيامة ؛ إذ تشتد فيه الخطوب والبلايا فيخرج المؤمنون المتقون من قبورهم ليواجهوا الحساب فيساقون إلى الرحمان وفدا. والوفادة مشعرة بالإكرام والتبجيل حيث شبهوا في سوقهم معززين محترمين، بوفود الملوك، إذ يقدمون عليهم وهم تحفّهم ظواهر التكريم والتقدير.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٤١، ٦٤٢..
قوله :﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ﴾ أي يساق الظالمون والجاحدون والعصاة إلى النار عطاشا زيادة في التنكيل بهم.
قوله :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا ﴾ جملة ( لا يملكون ) في محل نصب على الحال. وقيل مستأنفة سيقت للإخبار بذلك١. وضمير الجمع يعم المتقين والمجرمين ؛ أي سائر العباد. وقيل : للمتقين. وقيل للمجرمين من أهل الإيمان وأهل الكفر. والمعنى : أن العباد لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم إلا من كان منهم مستأهلا أن يشفع، وهذا هو المراد بالعهد. وفسره ابن عباس بشهادة لا إله إلا الله مع الإذعان لله بالخضوع والطاعة والاستسلام لأمره سبحانه. وقيل : المراد بالعهد الأمر والإذن. وعلى هذا لا يشفع إلا من كان مأمورا بالشفاعة مأذونا فيها٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٤٣..
٢ - روح المعاني جـ١٦ ص ١٣٧، ١٣٨ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٤٦.
.

قوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا ( ٨٨ ) لقد جئتم شيئا إذا ( ٨٩ ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا ( ٩٠ ) أن دعوا للرحمان ولدا ( ٩١ ) وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا ( ٩٢ ) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا ( ٩٣ ) لقد أحصاهم وعدهم عدا ( ٩٤ ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( ٩٥ ) ﴾ تحكي هذه الآية مقالة المشركين الذين افتروا على الله الكذب فزعموا أن له ولدا ؛ فهي بذلك تعم سائر المشركين الذين تلبسوا بهذا الذنب الفظيع، كالقائلين إن عزيرا ابن الله، أو عيسى ابن مريم ابن الله، أو الذين قالوا إن الملائكة بنات الله تعالى. فتعالى الله وتنزه عن هذا البهتان الشنيع.
قوله :﴿ لقد جئتم شيئا إدّا ﴾ الإد، بكسر الهمزة في قراءة الأكثرين. وقيل بفتحها. والإد معناه الأمر العظيم النكير الذي يثير التعجب. يقال : أده الأمر، وأدني يؤدني إدا. أي أثقلني١. وذلك تنديد بالغ بهذه المقالة الظالمة النكراء. تنديد مريع ومخوف يدل عليه أحرف هذه الكلمة المصطفاة ذات الإيقاع المؤثر الذي يصخ الآذان والأذهان والأعصاب صخا. وهو إشعار بفظاعة المنكر الذي قارفه فريق من البشر التائه وهم يفترون على الله الكذب ؛ إذ يقولون :( اتخذ الله ولدا ).
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٤٦..
قوله :﴿ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ﴾ ( يتفطرن )، من التفطر وهو التشقق. والفطر، بفتح الفاء وهو الشق وجمعه فطور١. على أن هذه الجملة مستأنفة لتبين فظاعة الإشراك على هذه الصورة حتى لتكاد السماوات تتشقق فرقا من عظمة الله. وكذا الأرض تكاد تنشق ؛ أي تتصدع أو يأتي عليها الخسف غضبا من هول هذه الكلمة وفظاعة نكرها. وكذا الجبال تكاد تخرّ فتسقط وتتهدم لهول هذا الإفراط في الظلم. وهدا، مصدر في موضع الحال. أي مهدودة وقيل : مفعول من أجله أي ؛ لأنها تهد٢.
١ - القاموس المحيط ص ٥٨٧..
٢ - الدر المصون جـ ٧ ص ٦٤٧..
قوله :﴿ أن دعوا للرحمن ولدا ﴾ ( دعوا ) بمعنى سموا. ومصدر ( أن دعوا ) في محل نصب مفعول لأجله. والتقدير : تخرّ أو تهد لدعائهم. وقيل : خبر لمبتدأ محذوف، تقديره : الموجب لذلك دعاؤهم١.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٤٩..
قوله :﴿ وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا ﴾ ( ينبغي )، مضارع انبغى، وبغى بمعنى طلب. ومصدر ( أن يتخذ ) فاعله١ والمعنى : أنه لا يتأتى ولا يليق به سبحانه اتخاذ الولد، ولاستحالة ذلك في نفسه ؛ لأنه يقتضي الجزئية وتدعو إليه الحاجة والله سبحانه منزه عن ذلك.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٦٥٠..
قوله :﴿ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا ﴾ أي ما من أحد من الثقلين أو الملائكة إلا يأتي ربه ( عبدا ) حال منصوب ؛ يعني يأتيه يوم القيامة خاضعا ذليلا منقادا، ومقرا بالعبودية الكاملة لله. وذلك إشعار بسقم القول الظالم باتخاذ الله الولد. فسائر الخلق سواء فيهم عزير، أو عيسى، أو الملائكة، أو غيرهم، لابد آتون يوم القيامة بين يدي الله خائفين وجلين مستسلمين.
قوله :﴿ لقد أحصاهم وعدهم عدا ﴾ لقد حصرهم بعلمه وأحاط بهم فلا يخرج أحد منهم من قبضة علمه وقدرته ( وعدهم عدا ) أي حصرهم بالعدد ؛ فعدّ أنفاسهم وأعمالهم فما يفوت أحد منهم يومئذ.
قوله :﴿ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ﴾ ( فردا ) منصوب على الحال ؛ أي كل واحد من هؤلاء يأتي ربه يوم القيامة منفردا ليس معه مال ولا نصير ولا مجير. وإنما تبعث الخلائق إلى الحشر وعرصات الساعة وهم يحفهم الذل والذعر والاضطراب واليأس. ويغيب ؛ إذ ذاك كل الشفعاء والرؤساء والمزعومين جميعا١.
١ -البحر المحيط جـ٧ ص ٢٠٧، ٢٠٨ وروح المعاني جـ ١٦ ص ١٤١، ١٤٢..
وقوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا ( ٩٦ ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ( ٩٧ ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ( ٩٨ ) ﴾ هذا وعد من الله لعباده المؤمنين المتقين الذين عملوا بطاعة ربهم فعبدوه والتزموا شرعه وأحكام دينه. لقد وعد الله هؤلاء أن يحدث لهم محبة في قلوب الناس في هذه الدنيا.
وهذه حقيقة تدرك بإمعان النظر وهي أن المؤمنين الصادقين العاملين بشريعة الله والذين يتجلى فيهم خلق القرآن وتتحقق فيهم خصال الإسلام، لا جرم أنهم محبوبون في الناس.
والإنسان السوي في فطرته وطبعه إنما يجد نفسه محبا للصالحين بما يتجلى فيهم من حميد الخلال. فلا يكره المؤمنين الصادقين أو يبغضهم إلا الماكرون الأشقياء أو المناكيد التاعسون من أولي الطبائع السقيمة والقلوب الغلف.
قوله :( فإنما يسرناه بلسانك ) أي أنزلنا عليك القرآن سهلا ميسرا ( بلسانك ) أي بلغتك، اللسان العربي المبين ( وتنذر به قوما لدا ) واللد، جمع ألد. وهو الشديد في الخصومة بالباطل. أي تخوّف بالقرآن كل لدود خصيم مكابر يجادل في دين الله بغير حق.
قوله :( وكم أهلكنا قبلهم من قرن ) هذا إنذار من الله يخوف به الجاحدين المعاندين بالإهلاك مثلما أهلك كثيرا من الأمم السابقة الضالة جزاء عصيانهم وتمردهم. ثم قال عقب إنذارهم وتخويفهم بالعذاب :( هل تحس منهم من أحد ) الاستفهام في معنى النفي، أي لا تشعر بأحد منهم ( أو تسمع لهم ركزا ) الركز، الصوت الخفي١ ؛ أي بعد أن أتى عليهم الهلاك لم يبق منهم أحد، ولم يسمع لهم أيما صوت. فذهبوا وذهبت آثارهم وصاروا نسيا منسيا٢.
١ - القاموس المحيط ص ٦٥٨..
٢ - روح المعاني جـ١٦ ص ١٤٤، ١٤٥ والبحر المحيط جـ٦ ص ٢٠٩..
Icon