ﰡ
(مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وحرفان كلامها تسعمائة واثنان وستون آياتها ثمان وتسعون)
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
القراآت:
كهيعص بإمالة الهاء فقط: أبو عمرو كهيعص بإمالة الياء فقط: حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى وحماد بإمالتهما. وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. الباقون بتفخيمها كهيعص ذِكْرُ مدغما: أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل مِنْ وَرائِي بفتح الياء مهموزا: ابن كثير غير زمعة والخزاعي عن البزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي من وراي مثل عَصايَ يرثني ويرث بالجزم فيهما: أبو عمرو وعليّ. الباقون برفعهما يبشرك ثلاثيا وكذلك في آخر السورة: حمزة عِتِيًّا
الآخرون خَلَقْتُكَ على التوحيد لِي آيَةً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة.
الوقوف:
كهيعص هـ كوفي زَكَرِيَّا هـ ح لجواز تعلق «إذ» ب ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفا. خَفِيًّا هـ شَقِيًّا هـ وَلِيًّا لا آلِ يَعْقُوبَ ق والوجه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين يَحْيى لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي. سَمِيًّا هـ عِتِيًّا هـ كَذلِكَ هـ بناء على أن التقدير الأمر كذلك شَيْئاً هـ آيَةً ط سَوِيًّا هـ وَعَشِيًّا هـ بِقُوَّةٍ ط صَبِيًّا هـ لا للعطف أي آتيناه الحكم وحنانا منا عليه وَزَكاةً ط تَقِيًّا هـ عَصِيًّا
هـ حَيًّا
هـ.
التفسير:
حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائيا، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه.
فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معا فعلى العادة، ومن قرأ بتفخيمهما جميعا فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين. وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل: لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها. والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله كهيعص ثناء من الله تعالى على نفسه، فالكاف كاف لأمور عباده، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز، والصاد صادق. وعنه أيضا أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى. وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام. وارتفع ذِكْرُ رَحْمَتِ على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة رَبِّكَ وانتصب عَبْدَهُ على أنه مفعول لذكر وزَكَرِيَّا عطف بيان، وقرىء برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول. وعن الكلبي أنه قرأ ذِكْرُ بلفظ الماضي مشددا تارة ورَحْمَتِ وعَبْدَهُ منصوبان على المفعولية، والفاعل ضمير المتلو. ومخففا أخرى وعَبْدَهُ مرفوع على الفاعلية. وقرىء ذِكْرُ على الأمر وهي قراءة ابن معمر. وقيل: يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا ﷺ ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا. وفي خفاء ندائه
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال علماء المعاني: في الآية لطائف وذلك أصل الكلام: يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار: إني وهنت العظام من بدني لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاما واهنة عندك، فإذا قلت: «من بدني» فقد فصلت، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام، ثم لطلب شمول العظام فردا فردا قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فحصل أني وهنت العظام مني. وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى. وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي. وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب رأسي. ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل اشْتَعَلَ بدل «انتشر» فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي «اشتعل رأسي شيبا». وكونها أبلغ من وجهات منها:
إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت: «اشتعل بيتي نارا» مكان «اشتعل النار في بيتي». ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز، ومنها تنكير شَيْباً للتعظيم كما هو حق التمييز. ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي «اشتعل الرأس مني شيبا» لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ثم ترك لفظ «مني» لسبق ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ. وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال «رب» بحذف حرف
ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا كما حكى أن محتاجا قال لكريم: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال: مرحبا بمن توسل إلينا وقضى حاجته. تقول العرب: سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها. ومعنى بِدُعائِكَ أي بدعائي إياك. واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أمورا ثلاثة: الأول كونه ضعيفا، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سببا للمنفعة في الدين وذلك قوله وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ قال ابن عباس والحسن: أي الورثة. وعن مجاهد العصبة. وعن أبي صالح:
الكلالة. وعن الأصم: بني العم وهم الذين يلونه في النسب. وعن أبي مسلم: المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من تقدم في ميراثه كالولد.
والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعينا للحبورة. وقوله: مِنْ وَرائِي أي بعد موتي لا يتعلق ب خِفْتُ لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما. وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم. وإنما قال: خِفْتُ بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال. وقرىء خِفْتُ الْمَوالِيَ بتشديد الفاء. وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه، والظرف متعلق بالموالي، أو معناه قدامي والظرف متعلق ب خِفْتُ أي درجوا ولم يبق من يعتضد به. ثم صرح بالمسألة قائلا: فَهَبْ لِي وأكده بقوله: مِنْ لَدُنْكَ أي وليا صادرا من عندك مضافا إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة. من قرأ يَرِثُنِي وَيَرِثُ بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا: إنه صفة.
وقال صاحب المفتاح: الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل: لم تطلب الولد؟ فقال مجيبا: يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا.
واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم
فقيل: هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول «جاءني فلان فجاءني رجل» لا تريد به إلا الأول، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية، وتجرد الكلام عنه. وأقول: يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية. وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها.
واختلف المفسرون في أنه طلب ولدا يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:
٣٨] ولقوله في سورة الأنبياء رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً [الأنبياء: ٨٩] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك. والجواب ما مر في آل عمران. واختلفوا أيضا في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك: هي وراثة المال. وعنهم أيضا أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس. وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة. فلفظ الإرث مستعمل في المال وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [الأحزاب: ١٧] وفي العلم وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [غافر: ٥٣]
«العلماء ورثة الأنبياء»
وحجة الأولين ما
روي أنه ﷺ قال: «رحم الله زكريا وما عليه من يرثه»
فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال. وكذا
قوله ﷺ «أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»
«١»، وأيضا العلم والنبوة كيف
٩، ١٦. الموطأ في كتاب الكلام حديث ٢٧. أحمد في مسنده (١/ ٤، ٦، ٩، ١٠).
قوله: يا زَكَرِيَّا الأكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله:
رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إلى قوله: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومنهم من قال: هو نداء الملك لقوله في آل عمران فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [الآية: ٤٩] وجوز بعضهم الأمرين.
واختلفوا في عدم السمي فقيل: أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله. وقيل: أراد أنه لا نظير له كقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: ٦٥] وذلك أنه سيدا وحصورا ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا وأيضا سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص. قال بعض العلماء:
القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: ٦٥] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول: السّميّ هناك يراد به المثل والنظير. ويمكن أن يقال: إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضا. قال جار الله:
إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمي. قلت: ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم.
ولم سمي بيحيى؟ تكلفوا له وجوها. فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه. وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢] إِذا
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ قال جار الله: أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية ف «من» للتعليل، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عِتِيًّا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام. يقال: عتا العود عتيا إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس.
سؤال: إنه قال في آل عمران وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران: ٤٠] فلم عكس الترتيب في هذه السورة؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب. قلت: إن ذلك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وهاهنا راعى الفاصلة. قالَ الأمر كَذلِكَ تصديقا له. ثم ابتدأ قائلا قالَ رَبُّكَ فمحل كَذلِكَ رفع، ويحتمل أن يكون نصبا قالَ وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله: هُوَ أي خلق الغلام عَلَيَّ هَيِّنٌ ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة؟ فأجيب بقوله: كَذلِكَ أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما. ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد وَلَمْ تَكُ شَيْئاً لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به كالنطفة، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد، فيه نفي استبعاد زكريا، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قد مر تفسير الآية في أول عمران. قوله: سَوِيًّا قيل: إنه صفة لليالي أي تامة كاملة. والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ قيل: كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه. وقيل: كان موضعا يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ عن مجاهد: أشار بدليل قوله في أول آل عمران إِلَّا رَمْزاً وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض. وأَنْ هي المفسرة وسَبِّحُوا أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله. عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة. وهاهنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة لأنها
العقل. وقيل: النبوة. وكل هذه الأوصاف على الأقوال من الخوارق كما في حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة. والحنان أصله توقان النفس، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد هاهنا. وما قيل إنه يحتمل أن يراد حنانا منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو. وقيل: أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: ١٥٩] وأراد بقوله: وَزَكاةً أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: ٢] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة مِنْ لَدُنَّا وعن عطاء: أن معنى حنانا تعظيما من لدنا. وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج: أن معنى زكاة عملا صالحا زكيا. وقيل: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود. وقيل: بركة كقول عيسى جَعَلَنِي مُبارَكاً وقيل: صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم.
ثم أخبر محمد ﷺ عن جملة أحواله بقوله: وَكانَ تَقِيًّا بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفا بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق. قال سفيان: الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [القصص: ١٩] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله، وقيل: إنما قال:
حَيًّا
مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيها على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: ٣٣] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول. والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حيا فوضع الأخص
التأويل:
إن زكريا الروح نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا من سر السر قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية، وإني خفت صفات النفس أن تغلب وَكانَتِ امْرَأَتِي يعني الجثة التي هي روح الروح عاقِراً لا تلد إلا بموهبة من الله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سأل وَلِيًّا فأعطاه الله نبيا وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: ٥] اسْمُهُ يَحْيى إن الله أحياه بنوره ولَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة، وهو سر حمل الأمانة كما
قال: «ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن»
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب عِتِيًّا يبسا وجفافا من غلبات صفات النفس آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه ثَلاثَ لَيالٍ هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات سَوِيًّا متمكنا في هذا الحال من غير تلون فَخَرَجَ زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد يا يَحْيى القلب خُذِ كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل بِقُوَّةٍ ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفا وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره زَكاةً وتطهرا من الالتفات إلى غيرنا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
الروح والقالب.
أما بالروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلا ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة. وأما بر والدة القالب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
كالنفس الأمارة بالسوء وسلام عليه يوم يولد في أصل خلقه وَيَوْمَ يَمُوتُ
من استعمال المعاصي بالتوبة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٤٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
القراآت:
إِنِّي أَعُوذُ
بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ليهب لك على الغيبة: أبو عمرو ويعقوب وورش والحلواني عن قالون وحمزة في الوقف.
الآخرون لِأَهَبَ
على التكلم نَسْياً بفتح النون: حمزة وحفص. والباقون بكسرها.
مِنْ تَحْتِها بكسر الميم على أنه حرف جر وبجر التاء الثانية: أبو جعفر ونافع وسهل وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحهما على أن «من» موصولة والظرف صلتها تُساقِطْ بحذف تاء التفاعل: علي وحمزة والخزاز عن هبيرة.
تُساقِطْ من المفاعلة: حفص غير الخزاز يساقط بياء الغيبة، على أن الضمير للجذع وبإدغام التاء في السين: سهل ويعقوب ونصير وحماد. الباقون مثله ولكن بتاء التأنيث على أن الضمير للنخلة آتانِيَ الْكِتابَ ممالة مفتوحة الياء: عليّ. وقرأ حمزة مرسلة الياء
ابن عامر وعاصم ويعقوب. وَإِنَّ اللَّهَ بكسر الهمزة: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وروح والمعدل عن زيد
الوقوف:
مَرْيَمَ
لا ليصير «إذ» ظرفا لأذكر شَرْقِيًّا
لا للعطف زَكِيًّا
هـ بَغِيًّا هـ كَذلِكِ ط لما مر هَيِّنٌ ج لجواز كون الواو مقحمة أو معلقة بمحذوف كما يجيء مِنَّا ج لاختلاف الجملتين مَقْضِيًّا هـ قَصِيًّا هـ النَّخْلَةِ ج لترتب الماضي من غير عاطف والأولى أن يكون استئنافا مَنْسِيًّا هـ سَرِيًّا هـ جَنِيًّا هـ ز عَيْناً هـ ج للشرط مع الفاء أَحَداً لا لأن ما بعده جواب الشرط إِنْسِيًّا هـ ج للعطف مع الآية تَحْمِلُهُ ط فَرِيًّا هـ بَغِيًّا هـ ج إِلَيْهِ ج صَبِيًّا هـ عَبْدُ اللَّهِ ط لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة. ويمكن أن يجعل معنى التحقيق في «إن» عاملا فيكون حالا فلا يوقف أَيْنَ ما كُنْتُ ص لطول الكلام حَيًّا ص هـ لذلك والوصل أولى لأن قوله وَبَرًّا معطوف على قوله مُبارَكاً. بِوالِدَتِي ج لتبدل الكلام من الإثبات إلى النفي شَقِيًّا، حَيًّا هـ، عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ج على القراءتين لاحتمال أن يراد أقول قول الحق وأن يجعل حالا، وأما في قراءة الرفع فإما أن يكون بدلا من عيسى أو يكون التقدير هو قول الحق يَمْتَرُونَ هـ، مِنْ وَلَدٍ هـ استعجالا للتنزيه سُبْحانَهُ ط فَيَكُونُ هـ ط لمن قرأ وَإِنَّ بالكسر فَاعْبُدُوهُ ط مُسْتَقِيمٌ، هـ مِنْ بَيْنِهِمْ ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء عَظِيمٍ هـ وَأَبْصِرْ لا لأن ما بعده ظرف للتعجب مُبِينٍ هـ وسمعت عن مشايخي رحمهم الله أن الوقف على قوله قُضِيَ الْأَمْرُ لازم لا أقل من المطلوب لأن ما بعده جملة مستأنفة ولو وصل لأوهم أن يكون حالا من القضاء وليس كذلك لا يُؤْمِنُونَ، هـ يُرْجَعُونَ هـ.
التفسير:
هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ولا ريب أن خلق الولد بين شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب، فلهذا أخرت قصة عيسى عن قصة يحيى ترقيا من باب التفهم من الأدنى إلى الأعلى. وقوله «إذ» بدل الاشتمال من مريم لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، وفي هذا الإبدال تفخيم لشأن الوقت كوقوع قصتها العجيبة فيه. والانتباه «افتعال» من النبذ الطرح كأنها ألقت نفسها إلى جانب معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها. قال ابن عباس: من هاهنا اتخذت النصارى المشرق قبلة فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
لا بد لهذا الاحتجاب من غرض صحيح فمن المفسرين من قال: إنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود، فلما طهرت جاء جبريل عليه السلام، وقيل: طلبت الخلوة لأجل العبادة.
يعني جبرائيل لأن الدين يحيا به وبوحيه، والإضافة للتشريف والتسمية مجاز كما تقول لمن تحبه إنه روحي فَتَمَثَّلَ لَها
حال كونه بَشَراً سَوِيًّا
تام الخلق أو حسن الصورة. وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، وتدرع الروحاني كجبريل مثلا تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالصغير غير مستبعد، والذين اعتقدوا أن جبرائيل جسماني جوزوا أن يكون له أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة، فبتلك الأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التشبه بصورة الإنسان، ولندرة أمثال هذه الأمور لا يلزم منها قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس. فلا يلزم الشك في أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس. قوله:
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وترجع بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وقيل: إنه كان في ذلك العصر إنسان فاجر اسمه تقي وكان يتتبع النساء فظنت أن ذلك المتمثل هو ذلك الشخص فاستعاذت بالله. وقيل: «إن» نافية أي ما كنت تقيا حين استحللت النظر إلي وخلوت بي. وحين علم جبريل خوفها قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أرسلني لِأَهَبَ لَكِ
أو ليهب لك غُلاماً زَكِيًّا
طاهرا من الذنوب ينمو على النزاهة والعفة. وكيف زال خوفها بمجرد القيل؟ احتمل أن يكون قد ظهر لها معجزة من جهة زكريا أو إرهاصا لعيسى أو إلهاما من الله سبحانه. وهل تقدر الملائكة على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والنطق حتى صح قول جبرائيل لِأَهَبَ لَكِ
؟ قال: اجتمعت الأمة على أن لا قدرة للأجسام على إيجاد الجواهر وإعدامها وإلا فلا استبعاد في تأثير بعض الأجسام في بعضها الخاصية خصها الله بها. ووجه صحة هذه القراءة أن جبرائيل صار سببا في الهبة بالنفخ في الدرع.
قالَتْ استغرابا من حيث العادة لا تشكيكا في قدرة الله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولم تقل هاهنا «رب» إما لأنها تخاطب جبرائيل، وإما اكتفاء بما سلف في آل عمران وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا هي الفاجرة التي تبغي الرجال. عن المبرد أن أصله يغوى على «فعول» قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. عن ابن جنى أنه «فعيل» وإلا لقيل بغو كنهو عن المنكر خصصت بعد ما عممت لزيادة الاعتبار بهذا الخزي تبرئة لساحتها عن الفحشاء. ولما جرى في أول القصة من تمثل جبرائيل لها بصورة البشر
قيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشرين وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وكم مدة حملها؟ عن ابن عباس في رواية تسعة أشهر كما في سائر النساء لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب أن يذكرها الله تعالى في أثناء مدائحها. وقيل: ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية إلا عيسى. قال أهل التنجيم: إنما لا يعيش لأنه يعود إلى تربية القمر وهو مغير معفن بسرعة حركته وغلبة التبريد والترطيب عليه. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ستة أشهر. وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس في رواية أخرى: كما حملته نبذته لقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] ولفاآت التعقيب في قوله: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وعلى هذا فالمكان القصي هو أقصى الدار أو وراء الجبل بعيدا من أهلها. ومعنى انتبذت به اعتزلت متلبسة به وهو في بطنها. وقصى مبالغة قاص.
فقالت: قل قولا جميلا. فقال: أخبريني يا مريم هل نبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر! أو تقول: إن الله لا يقدر على الإنبات حتى يستعين بالماء، ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى! فقال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، وزالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لضيق قلبها واستيلاء الضعف عليها من الحمل. فحين دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، فلما بلغت تلك الدار أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة.
قال جار الله: منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. لا يقال: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما يقال بلغته وأبلغنيه، ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل «أتيت المكان وآتانيه فلان». قلت: حاصله تخصيص باء التعدية بعد تعميم والْمَخاضُ بفتح الميم وجع الولادة. قال الجوهري: مخضت الناقة بالكسر مخاضا مثل سمع سماعا. قيل: طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. يروى أنه كان جذعا لنخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة خضرة، وكان الوقت شتاء والتعريف إما كتعريف النجم والصعق لكون ذلك الجذع مشهورا هناك، وإما للجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة أرشدت إليها لتطعم منها الرطب الذي هو خرسة النفساء أي طعامها الموافق لها، ولأن النخلة أقل الأشياء صبرا على البرد ولا تثمر إلا باللقاح فكان ظهور ذلك الرطب من ذلك الجذع في الشتاء من دون لقاح وإبار دليلا على حصول الولد من غير ذكر.
قال في الكشاف: النسي اسم ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها، ونظير الذبح لما من شأنه أن يذبح. وعن يونس: أن العرب إذا ارتحلوا قالوا: انظروا أنساءكم يعنون العصا والقدح والشظاظ ونحوها. تمنت لو كانت شيئا يعبأ به فحقه أن ينسى في العادة.
ومعنى مَنْسِيًّا أنه قد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وإنما تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء والخجل، أو لأنهم بهتوها وهي عارفة ببراءة ساحتها فشق ذلك عليها، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. ومن قرأ نَسْياً بالفتح فقد قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر. ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر كالحمل. وقرىء نسأ بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته ونزارته فَناداها مِنْ تَحْتِها
وعن عكرمة وقتادة أن الضمير في تحتها للنخلة. قوله: سَرِيًّا جمهور المفسرين على
أن السريّ هو الجدول. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه
وسلم سمي بذلك لأن الماء يسري فيه. وقيل: هو من السر ومعناه سخاء في مروءة: ويقال: فلان من سروات قومه أي من أشرافهم. وجمع السري سراة وجمع سراة سروات. عن الحسن: كان والله عبدا سريا حجة هذا القائل أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يمكن أن يقال: المراد أن النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١] لأنه خلاف الظاهر. وأجيب بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق، وكل من كان أبعد منه كان تحت. وأراد أن النهر تحت الأكمة وهي فوقها. وأيضا حمل السري على النهر موافق قوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون: ٥٠] وقوله: فَكُلِي وَاشْرَبِي يروى أن جبريل ضرب برجله فظهر ماء عذب. وقيل: كان هناك ماء جار، والأول أقرب لأن قوله قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ مشعر بالأحداث في ذلك الوقت. قال القفال: الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة. وقال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة هي جذع، والباء في قوله: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ كالزائد لأن العرب تقول هزة وهز به والمعنى حركي جذع النخلة أو افعلي الهز به. ورُطَباً تمييز ومفعول تساقط على حسب القراآت اللازمة والمتعدية. وعن الأخفش المراد جواز انتصابه ب هُزِّي أي هزي إليك رطبا جنيا بجذع النخلة أي على جذعها. والجني المأخوذ طريا. والظاهر أنه ما أثمر إلا الرطب وقد صار نخلا. وقيل: إنه كان على حاله وإنه أثمر مع الرطب غيره. قالوا: إذا عسر ولادة المرأة لم يكن لها خير من الرطب، والتمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك. والمراد أنه جمع لها فائدتان في السري والرطب: إحداهما الأكل والشرب وقدم الأكل مع أن ذكر السري مقدم لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال من الدماء، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزين لزكريا أو إرهاصا لعيسى أو كرامتين لمريم وأشار إلى هذه بقوله: وَقَرِّي عَيْناً لأن قرّة العين تلزم قوة القلب والتسلي من الهموم والأحزان.
أراد الصيام إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم. قال القفال: لعل مثل هذا النذر يجوز في شرعنا لأن الاحتراز عن كلام البشر يجرد الفكر لذكر الله تعالى وهو قربة، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق والتشديد ولا حرج في الإسلام. وفي الكشاف: نهى رسول الله ﷺ عن صوم الصمت. وروي أنه دخل أبو بكر الصديق على امرأة وقد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي أمرها بهذا النذر معنيان: أحدهما أن كلام عيسى أقوى في إزالة التهمة وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى، والثاني أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض ومن أذل الناس سفيه لم يجد مشافها. وكيف أخبرتهم بالنذر؟ قيل: بالإشارة وإلا لزم النقض. وقيل: خص هذا الكلام بالقرينة العقلية. وقوله: إِنْسِيًّا أراد المبالغة في نفي الكلام أو أراد أني أكلم الملائكة دون الإنس وهذا أشبه بقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ. فَأَتَتْ بِهِ أي بعيسى قَوْمَها تَحْمِلُهُ الجملة حال. عن وهب: قال أنساها كربة الميلاد وما سمعت من الناس ما كان من بشارة الملائكة، فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته فأقبلت به إلى قومها.
وعن ابن عباس: أن يوسف النجار انتهى بمريم إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. فلما دخلت به على قومها تباركوا وقالوا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا بديعا من فرى الجلد، وليس في هذا ما يوجب تعييرا أو ذما لأن أمرها كان خارجا عن المعتاد، ويحتمل أن يراد إنه أمر منكر خارج عن طريق العفة والصلاح فيكون توبيخا ويؤكده قولهم:
يا أُخْتَ هارُونَ الآية.
واختلفوا في هارون فقيل: كان أخاها من أبيها من أمثل بني إسرائيل وهذا أظهر لأن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من غيره. وقيل:
يروى عن النبي ﷺ أنهم عنوا هارون النبي أخا موسى عليهما السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة
وعن السدي: كانت من أولاده والمراد أنها واحدة منهم كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدا منهم. وقيل: أرادوا رجلا صالحا في زمانها أي كنت عندنا مثله في الصلاح. ويحكى أنه تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون تبركا به وباسمه. وقيل: كان رجلا طالحا معلنا بالفسق فسموها به وبالتشبيه بسيرته. ويروى أنهم هموا برجمها فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي أن عيسى هو الذي يحكم. وبم عرفت ذلك؟ إما بأن كلمها في الطريق أو بالإلهام أو بالوحي إلى زكريا أو يقول جبريل على أن أمرها بالسكوت بعد ما سبق من البشارة قيل: كان المستنطق لعيسى زكريا. وعن السدي: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناهم ثم قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ قال جار الله: «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح للقريب والبعيد، وهاهنا للزمان القريب عن الحال بدلالة الحال، أو هو حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صَبِيًّا في المهد حتى تكلم هذا، ويحتمل أن يقال: «كان» زائدة نظرا إلى أصل المعنى وإن كان يفيد زيادة ارتباط مع رعاية الفاصلة، أو هي تامة صَبِيًّا حال مؤكدة. يروى أنه كان يرضع فلما سمع مقالتهم ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وتكلم مع جاره وأشار بسبابته قائلا: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فكان فيه أوّلا رد قول النصارى:
آتانِيَ الْكِتابَ هو الإنجيل والتوراة أي فهمها. وقيل: أكمل الله عقله واستنبأه طفلا بل في بطن أمه. وقيل: أراد أنه سبق في قضائه، أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد والأول أظهر وصغر الجسم لا مدح في كمال العقل وخرق العادة فيه أكذا قالوا إن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة. فيكون المعجز متقدما على التحدي وهو غير جائز ولو كان نبيا في ذلك الوقت وجب أن يشتغل ببيان الشرائع والأحكام ولو وقع ذلك لاشتهر ونقل. والجواب أن بعض معجزات النبي لا بد أن يكون مقرونا بالتحدي، أما الكل فممنوع، وبعبارة أخرى لا بد أن يكون مقرونا بفعل خارق عن العادة، ولكن كل فعل خارق للعادة فإنه لا يلزم اقترانه بالتحدي، وكذا الكلام في بيان الشرائع فإن بعض أوقات النبي لا بد أن يقترن به التحدي دون كل أوقاته وحالاته، على أنه أشار إلى بعض التكاليف بقوله: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ كما يجيء. وعن بعضهم أنه كان نبيا لقوله:
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ولكنه ما كان رسولا لأنه ما جاء بالشريعة في ذلك الوقت ومعنى كونه نبيا أنه رفيع القدر عليّ الدرجة، وضعف بأن النبي في عرف الشرع أخص من ذلك.
ومعنى قوله: مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ نفاعا حيثما كنت روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل معلما للخير، وضلال كثير من أهل الكتاب باختلافهم فيه لا يقدح في منصبه كما قيل:
وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله كلهم وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا [الفرقان:
٣١]
يروى أن مريم سلمت عيسى إلى المكتب فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه. فقال له: اكتب. فقال له: أي شيء أكتب؟ فقال: اكتب «أبجد» فقال: لا أكتب شيئا لا أدري. ثم قال: إن لم تعلم ما هو فأنا أعلمك. الألف من آلاء الله، والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله، والدال من أداء الحق إلى الله.
وقيل: البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتا في دين الله مستقرا فيه. وقيل: البركة هي الزيادة والعلو فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء غالبا منجحا إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء. عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت: طوبى لبطن حملتك وثدي أرضعت به. فقال عيسى عليه السلام مجيبا لها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يك جبارا شقيا.
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي بأدائهما إما في وقتهما المعين وهو وقت البلوغ، وإما في الحال بناء على أنه كان مع صغره كامل العقل تام التركيب بحيث يقوى على أداء التكاليف ويؤيده قوله ما دُمْتُ حَيًّا وقيل: الزكاة هاهنا صدقة الفطر. وقيل: تطهير البدن البدن من دنس الآثام. وقيل: أوصاني بأن آمركم بهما. وفي قوله: وَبَرًّا بِوالِدَتِي دلالة وإشارة إلى تبرئة أمه من الزنا وإلا لم يكن الرسول المعصوم مأمورا بالبر بها. قال بعض العلماء: لا تجد العاق إلا جبارا شقيا وتلا قوله: وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالا فخورا. وقرأ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النساء: ٣٦] وإنما نفى عن عيسى الشقاوة ولم ينف عنه المعصية كما نفى عن يحيى لما
جاء في الخبر «ما أحد من بني آدم إلا أذنب أو هم بذنب إلا يحيى بن زكريا»
ومن عقائد أهل السنة أن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر.
قوله: وَالسَّلامُ عَلَيَّ قالت العلماء: إنما عرف السلام هاهنا بعد تنكيره في قصة يحيى لأن النكرة إذا تكررت تعرفت على أن تعريف الجنس قريب من تنكيره. وقيل: إن الأول من الله والقليل عنه كثير.
قليل منك يكفيني... قليلك لا يقال له قليل
وإني لأرضى منك يا هند بالذي... لو أبصره الواشي لفرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
ثم صرح ببطلان معتقدهم فقال: ما كانَ لِلَّهِ ما صح له وما استقام أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ كما لا يستقيم أن يكون له شريك، وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة. والذي نزيده هاهنا أن بعضهم قال: معنى الآية ما كان الله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمته تعالى. وزعم الجبائي بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأن قوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ كقولنا «ما كان لله أن يظلم» فلا يليق شيء منها بحكمته وكمال إلهيته. وأجيب بأن الكذب على الله محال، والظلم تصرف في ملك الغير فلا يتصوّر في حقه. فإن أردتم هذا المعنى فلا نزاع، وإن أردتم شيئا آخر
كُنْ إن كان قديما فهو المطلوب، وإن كان محدثا احتاج في حدوثه إلى قوله آخر وتسلسل. واستدلت المعتزلة بها على حدوث كلامه قالوا: إن قوله: إِذا قَضى للاستقبال وذلك القول متأخر عن القضاء المحدث، والمتأخر عن المحدث محدث.
وأيضا الفاء في فَيَكُونُ للتعقيب والقول متقدم عليه بلا فصل، والمتقدم على المحدث بزمان قليل محدث، وكلا الاستدلالين ضعيف لأنه لا نزاع في حدوث الحروف وإنما النزاع في كلام النفس. وأيضا قوله: كُنْ عبارة عن نفاذ قدرته ومشيئته وإلا فليس ثم قول لأن الخطاب مع المعدوم عبث ومع الموجود تحصيل الحاصل. ومن الناس من زعم أن المراد من قوله: كُنْ هو صفة التكوين فإنها زائدة على صفة القدرة لأنه قادر على عوالم أخر سوى هذا وغير مكون لها، ولعل هذا الزاعم سمى تعلق القدرة بالمقدور تكوينا. ومن قرأ وَإِنَّ اللَّهَ بالفتح فمعناه ولأن الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ وفيه أن الربوبية هي سبب العبادة فمن لم تصح ربوبيته لم يستحق أن يعبد، ولا رب بالحقيقة إلا الله لانتهاء جميع الوسائط والأسباب إليه، فلا يستحق العبادة إلا هو. وهاهنا نكتة هي أن الله تعالى لا يصح أن يقول: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فالتقدير قل: يا محمد بعد إظهار البراهين الباهرة على أن عيسى عبد الله إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه من تتمة كلام عيسى وما بينهما اعتراض. وعن وهب بن منبه: عهد إليهم حين أخبرهم عن حاله وصفته أن كلنا عبيد الله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي من بين أهل الكتاب. قال الكلبي: هم اليهود والنصارى. وقيل: النصارى اختلفوا ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى علماء زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكا فقيل للأول: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو الله هبط إلى الأرض فخلق وأحيا ثم صعد إلى السماء فتبعه على ذلك خلق كثير وهم اليعقوبية. وسئل الثاني فقال: هو ابن الله فتابعه جم غفير وهم النسطورية، وسئل الثالث فقال: كذبوا وإنما كان عبدا مخلوقا نبيا يطعم وينام فصارا خصمه وهو المؤمن المسلم. وقيل: كانوا أربعة والرابع اسمه إسرائيل فقال: هو إله وأمه إله والثلاثة أقانيم والروح واحد. واعلم أن بحث الحلول والاتحاد فيه طول وقد ينجر الكلام فيه إلى مقامات يصعب الترقي إليها، فلذلك ضل فيه من ضل وزل عنه من زل والله سبحانه أعلى من جميع ذلك وأجل فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من شهودهم هذا الجزاء والحساب في ذلك اليوم، أو من زمان شهودهم، أو من مكان شهودهم فيه وهو الموقف. ويحتمل أن يكون المشهد من الشهادة أي من يشهد عليهم
هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم ولادته. ومعنى «من» التعليل أي الويل لهم من أجل المشهد وبسببه قال أهل البرهان: إنما قال هاهنا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وفي جم الزخرف فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الآية: ٦٥] لأن الكفر أبلغ من الظلم، وقصة عيسى في هذه السورة مشروحة وفيها ذكر نسبتهم إياه إلى الله حتى قال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ فذكر بلفظ الكفر، وقصتهم في الزخرف مهملة فوصفهم بلفظ دونه وهو الظلم.
قلت: ويحتمل أن يقال: الظلم إذا أريد به الشرك كان أخص من الكفر فعمم أولا ثم خصص لأن البيان بالمقام الثاني أليق أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صيغتان للتعجب والمراد أن هاتين الحاستين منهم جديران بتعجب منهما في ذلك اليوم بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا، وذلك لكشف الغطاء ولحاق العيان بالخبر. والتعجب استعظام الشيء بسبب عظمه، ثم جوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير سبب.
قال سفيان: قرأت عند شريح بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: ١٢] فقال: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه. والمعنى أنه صدر من الله فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم. وقيل: معنى الآية التهدد بما سيسمعون وسيبصرون مما يسوءهم. وقيل: أراد أسمع بهؤلاء وأبصر أي عرفهم مآل القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم. وقال الجبائي أن يراد أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم ليعتبروا بسوء عاقبتهم والوجه هو الأول يؤيده قوله: لكِنِ الظَّالِمُونَ أي لكنهم فوضع المظهر موضع المضمر. الْيَوْمَ وهو يوم التكليف فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أغفلوا النظر والاستماع وتركوا الجد والاجتهاد في تحصيل الزاد للمعاد وهو يَوْمَ الْحَسْرَةِ لتحسر أهل النار فيه. وقيل: أهل الجنة أيضا إذا رأى الأدنى مقام الأعلى، والأول أصح لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة لأنها دار السرور. وإِذْ بدل من يوم الحسرة أو منصوص بالحسرة. ومعنى قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار.
وعن النبي ﷺ أنه سئل عنه فقال: «يؤتى بالموت فيذبح كما يذبح الكبش والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح وأهل النار غما إلى غم» «١»
قال أرباب المعقول: إن الموت عرض فلا يمكن أن يصير حيوانا فالمراد أنه لا
وَأَنْذِرْهُمْ اعتراض. ويحتمل أن يتعلق ب أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. ويحتمل أن يكون «إذ» ظرفا ل أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم حين قضي الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب. ثم أخبر عنهم أنهم في غفلة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ثم قرر بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ أن أمور الدنيا كلها تزول وأن الخلق كلهم يرجعون إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله وفيه من التخويف والإنذار ما فيه.
التأويل:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
الأزلي مَرْيَمَ
القلب إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها
تفردت من أهل الدنيا متوجها إلى جانب شروق النور الإلهي فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ
حجاب الخلوة والعزلة فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
وهو نور الإلهام الرباني والخاطر الرحماني كقوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢١] فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
كما تمثل روح التوحيد بحروف «لا إله إلا الله» لانتفاع الخلق به. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
ظنا منها أنه يشغلها عن الله. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ
الوارد الرباني لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
طاهرا عن لوث الظلمة الإنسية وهو النفس المطمئنة القدسية. وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ خاطر من عالم البشرية وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أطلب غير ما خلقت لأجله وهو التوجه إلى عالم الروح المجرد فَحَمَلَتْهُ بالقوة القريبة من الفعل فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا لافتقاره إلى العبور على منازل الشريعة والطريقة فَأَجاءَهَا مخاض الطلب والتعب إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهي كلمة «لا إله إلا الله» التي كان أصلها ثابتا في أرض نفسها قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا قال بعض أهل التحقيق: هذه كلمة يذكرها الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. قال علّي عليه السلام يوم الجمل: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال: ليت بلالا لم تلده أمه. وقيل: إن مريم قالت ذلك لعلمها بأن الله تعالى يدخل النار خلقا كثيرا بسبب تهمتها وبسبب الغلو والتقصير في حق ابنها قلت: إن مريم القلب قالت يا ليتني مت عن اللذات الجسمية قبل هذا الوقت الذي فزت باللذات الحقيقية وكنت نسيا منسيا، فإن الخمول راحة والشهرة آفة فَناداها بلسان الحال من تحت تصرفها من آلات القوى أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ أي تحت تصرفك سَرِيًّا هو الغلام الموعود أو جدول الكشوف والعلوم الدينية وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ بالمداومة على الذكر تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا من المشاهدات والمكاشفات حالا فحالا فَكُلِي وَاشْرَبِي من
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ فقوم عبدوا الله لأجله، وقوم عبدوه طمعا في جنته، وقوم عبدوا الهوى وذلك قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَسْمِعْ بِهِمْ أي بأهل الله وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا فإنهم بالله يسمعون وبه يبصرون.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٦٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو مُخْلَصاً بفتح اللام:
حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون بكسرها. إبراهام وما بعده: هشام والأخفش عن ابن ذكوان إذا ابتلي بالياء التحتانية وكذلك في سورة الحج: قتيبة نُورِثُ بالتشديد: رويس.
الوقوف:
إِبْراهِيمَ ط نَبِيًّا هـ شَيْئاً
هـ سَوِيًّا هـ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ط عَصِيًّا هـ وَلِيًّا هـ يا إِبْراهِيمُ ط ج وقد يوصل ويوقف على آلِهَتِي. مَلِيًّا هـ سَلامٌ عَلَيْكَ ج للابتداء بسين الاستقبال مع أن القائل واحد لَكَ رَبِّي ط حَفِيًّا هـ وَأَدْعُوا رَبِّي ز لانقطاع النظم والوصل أولى لأن عسى لطمع الإجابة بالدعاء شَقِيًّا هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا لأن ما بعده جواب لما وَيَعْقُوبَ ط نَبِيًّا هـ نَبِيًّا هـ عَلِيًّا هـ مُوسى ز للابتداء بأن مع أن المراد بالذكر إخلاص موسى نَبِيًّا هـ نَجِيًّا هـ نَبِيًّا هـ إِسْماعِيلَ ز لما مر نَبِيًّا هـ ج للأية مع العطف وَالزَّكاةِ ط مَرْضِيًّا هـ إِدْرِيسَ ز نَبِيًّا هـ عَلِيًّا هـ مَعَ نُوحٍ ز على تقدير ومن ذريته إبراهيم وما بعده قوم إذا تتلى عليهم، وكذا وجه من وقف على ذُرِّيَّةِ آدَمَ أو على إِسْرائِيلَ والأصح أن الكل عطف على ذرية آدم والوقف على قوله: وَاجْتَبَيْنا لئلا يحتاج إلى الحذف وليرجع ثناء السجود والبكاء إلى الكل وَبُكِيًّا هـ غَيًّا هـ شَيْئاً هـ لا بناء على أن جَنَّاتِ بدل من الْجَنَّةَ هـ بِالْغَيْبِ ط مَأْتِيًّا هـ سَلاماً هـ وَعَشِيًّا هـ تَقِيًّا هـ بِأَمْرِ رَبِّكَ ج لاختلاف الجملتين ذلِكَ ج لأن قوله: وَما كانَ معطوف على نَتَنَزَّلُ مع وقوع العارض نَسِيًّا ج هـ، لأن ما بعده بدل أو خبر مبتدأ محذوف لِعِبادَتِهِ ط سَمِيًّا هـ.
التفسير:
إن الذين أثبتوا معبودا سوى الله منهم من أثبت معبودا حيا عاقلا كالنصارى، ومنهم من عبد معبودا جمادا كعبدة الأوثان، وكلا الفريقين ضال إلا أن الفريق الثاني أضل. وحين بين ضلال الفريق الأول شرع في بيان ضلال الفريق الثاني تدرجا من الأسهل إلى الأصعب. وإنما بدأ بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان أبا العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه وكمال دينه فكأنه قال لهم: إن كنتم مقلدين فقلدوه في ترك عبدة الأوثان
بدل من إِبْراهِيمَ وما بينهما اعتراض، ولمكان هذا الاعتراض صار الوقف على إِبْراهِيمَ مطلقا. وجوز في الكشاف أن يتعلق «إذ» ب كانَ أو ب صِدِّيقاً نَبِيًّا أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات. والصديق من أبنية المبالغة فهي إما مبالغة صادق لأن ملاك أمر النبوة الصدق، وإما مبالغة مصدق وذلك لكثرة تصديقه الحق وهذا أيضا بالحقيقة يعود إلى الأول، لأن مصدق الحق لا يعتبر تصديقه. إلا إذا كان صادقا جدا في أقواله مصدقا لجميع من تقدم من الأنبياء والكتب، وكان نبيا في نفسه رفيع القدر عند الله وعند الناس بحيث جعل واسطة بينه وبين عباده.
وقيل: إن «كان» بمعنى «صار» والأصح أنه بمعنى الثبوت والاستمرار أي إنه لم يزل موصوفا بالصدق والنبوة في الأوقات الممكن له ذلك فيها. والتاء في يا أَبَتِ
عوض من ياء الإضافة وقد مر في أول سورة يوسف. أورد على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلب أبيه وامتثالا لأمر ربه على ما
رواه أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «أوحى الله إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري».
فقوله: لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
منسيّ المفعول لا منويه فإن الغرض نفي الفعلين على الإطلاق دون التقييد. و «ما» موصولة أو موصوفة أي الذي لا يسمع أو معبودا لا يسمع وشَيْئاً
مفعول به من قوله:
«أغن عني وجهك» أي ادفعه. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي شيئا من الإغناء، وعلى هذا يجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين أي لا يسمع شيئا من السماع إلى آخره.
وحاصل الدليل أن العبادة غاية الخضوع فلا يستحقها إلا أشرف الموجودات لا أخسها وهو الجماد غاية عذرهم عن تلك هي أنها تماثيل أشياء يتصوّر نفعها أو ضرها كالكواكب وغيرها فيقال لهم: أليس الكواكب وسائر الممكنات تنتهي في الاحتياج إلى واجب الوجود؟ فإذا جعل شيء من هذه الأشياء معبودا فقد شورك الممكن والواجب في نهاية التعظيم وهذا مما ينبو عنه الطبع السليم، ورفع الوسائط من البين أدخل في الإخلاص وأقرب إلى الخلاص. وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي تنبيه ونصيحة وفيه أن هذا العلم تجدد له حصوله فيكون أقرب إلى التصديق. وفي قوله: مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فائدة
والإنصاف أن هذا الطريق أسهل.
ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان. ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حين ترك أمره بالسجود عنادا واستكبارا لا نسيانا وخطأ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان، وأن الرحمن مصدر كل خير، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي، وهذا القدر كاف من التنبيه لمن تأمل وأنصف. ثم بين الباعث على هذه النصيحة فقال: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب. قال الفراء: معنى أخاف أعلم.
والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليه السلام لم يكن جازما بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه. والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال: أنا خائف على ولدي. وذكروا في الولي وجوها منها: أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالبا، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز. وليس هناك ولاية حقيقة لقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: ٦٧] إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:
٢٢] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله: جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال عز من قائل: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية الشيطان أعظم من عذاب النار. ثم إن الشيخ قابل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظة قائلا أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فقدم الخبر على المبتدأ إشعارا بأنه عنده أعنى. وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته. وفي قوله: يا إِبْراهِيمُ دون أن يقول: «يا بني» في مقابلة يا أَبَتِ تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام. ثم هاهنا إضمار أي
فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ يعني سلام توديع ومتاركة كقوله: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقا به بدليل قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البر والإلطاف وقد مر في آخر «الأعراف». احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال: إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] الآية. ولقوله في الممتحنة قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: ٤] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به. والجواب لعل إبراهيم عليه السلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه من باب ترك الأولى، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: ١٤] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حيا. والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية، فلعل الاستغفار مع ذلك الشرط كان من خصائصه كما أن كثيرا من الأمور كانت مباحة للرسول الله ﷺ هي محرمة علينا. ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجران فقال: وَأَعْتَزِلُكُمْ أي أهاجر إلى الشام وَأعتزل ما تَدْعُونَ أي ما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها، يدل على هذا التفسير قوله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ أما قوله: وَأَدْعُوا رَبِّي فيحتمل معنيين:
العبادة والدعاء كما يجيء في سورد الشعراء. وفي قوله: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ عَسى.
قال العلماء: ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فرارا بدينه عوّضه الله أولادا مؤمنين أنبياء وذلك قوله: وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ شيئا مِنْ رَحْمَتِنا عن الحسن: هي النبوة. وعن الكلبي: المال والولد.
والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق الثناء الحسن، عبر
٣٧] فجعل موطىء قدمه مباركا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: ١٢٥] وعادى كل الخلق في الله حين قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٧٧] فلا جرم اتخذه الله خليلا. ثم قفى قصة إبراهيم بقصة موسى عليه السلام لأنه تلوه في الشرف. والمخلص بكسر اللام الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وأخلص وجهه لله، وبالفتح الذي أخلصه الله وكانَ رَسُولًا نَبِيًّا الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى [طه: ٧] الْأَيْمَنِ من اليمين أي من ناحية اليمنى من موسى أو هو من اليمن صفة للطور أو للجانب وَقَرَّبْناهُ حال كونه نَجِيًّا أي مناجيا شبه تكليمه إياه من غير واسطة ملك بتقريب بعض الملوك واحدا من ندمائه للمناجاة والمسارة. وعن أبي العالية أن التقريب حسي، قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة والأول أظهر، ومنه قولهم للعبادة «تقرب» وللملائكة «أنهم مقربون». وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي من أجلها أي بعض رحمتنا فيكون أَخاهُ بدلا وهارُونَ عطف بيان كقولك «رأيت رجلا أخاك زيدا». ونَبِيًّا حال من هارون. قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى فتنصرف الهبة إلى معاضدته وموازرته. وذلك بدعاء موسى في قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه: ٢٩] وخص إسماعيل بن إبراهيم بصدق الوعد وإن كان الأنبياء كلهم صادقين فيما بينهم وبين الله أو الناس، لأنه المشهور المتواصف من خصاله من ذلك: أنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به. وعن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة.
عن رسول الله ﷺ أنه واعد رجلا ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس.
وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاده إلى أي وقت ينتظره؟ فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى. وكان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لغيرهم ولأن الابتداء بالإحسان الديني والدنيوي بمن هو أقرب أولى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦]
«بدأ بمن تعول»
ويحسن
وفي رفعته أقوال منها: أن المكان العليّ شرف النبوة والزلفى عند الله، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود، واسمه أخنوخ من أجداد نوح لأنه نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وأهل التنجيم بعضهم يسمونه هرمس ولهم نوادر في استخراج طوالع المواليد ينسبونه إليه. وقيل: إن الله تعالى رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت. وقال آخرون: رفع إلى السماء وقبض روحه. عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن قوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال: جاء خليل من الملائكة فسأله أن يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه، فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به، فلما كان في السماء الرابعة إذ بملك الموت يقول: بعثت لأقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول: كيف ذلك وهو في الأرض؟ فالتفت إدريس فرأى ملك الموت فقبض روحه هناك.
وعن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة. وعن الحسن: المراد أنه رفع إلى الجنة ولا شيء أعلى منها. أُولئِكَ المذكورون من لدن زكريا إلى إدريس هم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ «من» للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ هي للتبعيض وكذا في قوله: وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ والمراد بمن هو من ذرية آدم إدريس لقربه منه، وبذرية من حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح، وبذرية إبراهيم إسماعيل، وبذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم لأن مريم من ذريته. وَمِمَّنْ هَدَيْنا يحتمل العطف على من الأولى والثانية وفي هذا الترتيب تنبيه على أن هؤلاء الأنبياء اجتمع لهم مع كمال الأحساب شرف الأنساب، وأن جميع ذلك بواسطة هداية الله وبمزية اجتنائه واصطفائه. ثم إن جعلت الَّذِينَ خبرا ل أُولئِكَ كان إذا يتلى كلاما مستأنفا، وإن جعلته صفة له كان خبرا وقد عرفت في الوقوف سائر الوجوه من قرأ يتلى بالتذكير لأن تأنيث الآيات غير
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» «١»
أراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب. وقال غيره: إطلاق الآيات والحديث المذكور يدل على العموم لأن كل آية إذا فكر فيها المفكر صح أن يسجد عندها ويبكي. قلت: لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلا واختلفوا في السجود. فقيل: هو الخشوع والخضوع. وقيل: الصلاة. وقيل: سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به. ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود. قال الزجاج:
الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا فالمراد خروا متهيئين للسجود.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن» «٢».
وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة «سبحان» فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وقالت العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة «سبحان» قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ ما في هذه السورة قال: اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك.
ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيبا لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وهو عقب السوء كما مر في آخر «الأعراف» فإضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجدا، واتباع الشهوات بإزاء البكاء. عن ابن عباس:
هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم النخعي ومجاهد: أضاعوها بالتأخير.
وعن علي رضي الله عنه في قوله: وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور.
وعن قتادة: هو في هذه الأمة فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال جار الله: كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. وقال الزجاج: هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله: يَلْقَ أَثاماً [الفرقان: ٦٨] أي مجازاة أثام. وقيل: غيا من طريق الجنة. وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى
(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب: ١٧٦. [.....]
قال جار الله: عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة. ولما ساغ وصفها ب «التي» ومعنى بِالْغَيْبِ مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين. وقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى «فاعل»، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته. وجوز في الكشاف أن يكون.
من قولك: «أتى إليك إحسانا» أي كان وعده مفعولا منجزا. قوله: إِلَّا سَلاماً استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في «البقرة» وفي «المائدة» أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك كقولهم «عتابك السيف». أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، ويجوز أن يكون متصلا بتأويل آخر وهو أن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. ثم إنه سبحانه من عادته ترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة، وكانت من عادة أشرف
ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة إلى العشي.
وقيل: أراد دوام الرزق كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. وقوله: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ كقوله في «الأعراف» وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الأعراف: ٤٣] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه. قال القاضي: في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقيا غير مرتكب للكبائر. وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة أنه اتقى الكفر.
سئل هاهنا أن قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ كلام الله وقوله بعده: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما؟ وأجيب بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح، فظاهر قوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد وأنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما
روي أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد ﷺ وهل يجدونه في كتابهم. فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه، وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يحيب، فوعدهم الجواب ولم يقل: إن شاء الله. فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما- وقيل خمسة عشر يوما- فشق عليه ذلك مشقة شديدة. وقال المشركون: ودعه ربه وقلاه. فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبطأت عني حتى ساء طني واشتقت إليك. قال: كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست. فأنزل الله الآية وأنزل قوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الكهف:
٢٣] وسورة الضحى.
ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله عز وجل. ثم أكد جبرائيل ما ذكره بقوله: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان والزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته. وقيل: له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وَما بَيْنَ ذلِكَ وهو ما بين النفختين أربعون سنة. وقيل: ما مضى
الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا. والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية. ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره! وقال أبو مسلم: في وجه النظم إن قوله: وَما نَتَنَزَّلُ من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك. أما قوله: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: ٣] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما البتة. وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسيا لأعمال العاملين فيثيب كلا منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة، أو ابتداء كلام من الله تعالى خطابا لرسوله ويتصل به قوله: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بل هو ربهما وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ الفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لم يقل «على عبادته» لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب «اصطبر لقرنك» أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته. ثم أكد وجوب عبادته بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له، وإن عديم النظير لا بد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصا إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف. وقيل: أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين:
أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن إلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه. وعن ابن عباس: أراد لا يسمى بالرحمن غيره. قلت: وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ «الرحمن» في سورة تكريره في هذه السورة. وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل لأن التسمية على الباطل كلا تسمية.
التأويل:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ الأزلي إِبْراهِيمَ القلب إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً للتصديق ثلاث مراتب: صادق صدق في أقواله، وصادق صدق في أخلاقه وأحواله، وصديق صدق في قيامه مع الله في الله بالله وهو الفاني عن نفسه الباقي بربه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
الروح الذي يعبد صنم الدنيا بتبعية النفس قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ اللدني ما لَمْ يَأْتِكَ لما ذكرنا أن القلب محل للفيض الإلهي أقبل من الروح كالمرآة فإنها تقبل النور لصفائها وينعكس النور عنها لكثافتها وصقالتها وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ السر وَيَعْقُوبَ الخفي وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أسمعنا موسى القلب من جانب طور الروح لا من جانب وادي النفس الذي
جاء في الحديث: «وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوّا وعشيا»
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ المقدور في علم الله، وتنادى أهل العزة من سرادقات العزة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا من المتمنيات فإنا ما ننزل من عالم الغيب. إلا بأمر ربك وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ليحتاج إلى تذكير متمن، بل هو رب سموات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار له فَاعْبُدْهُ بأركان الشريعة بجسدك وبآداب الطريقة بنفسك وبالإعراض عن الدنيا والإقبال على المولى بقلبك وبالفناء في الله والبقاء به بروحك وبسرك. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ نظيرا في المحبوبية لك. والله أعلم بالصواب.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٩٨]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
أَإِذا مثل أَإِنَّكُمْ في «الأنعام» يَذْكُرُ من الذكر: ابن عامر ونافع وعاصم وسهل وروح والمعدل عن زيد. والآخرون بتشديد الذال من التذكر مدغما. ثُمَّ نُنَجِّي من الإنجاء: عليّ وروح والمعدل عن زيد. الآخرون بالتشديد خَيْرٌ مَقاماً بضم الميم: ابن كثير. الباقون بفتحها. ريا بالتشديد: أبو جعفر ونافع عن ورش وابن ذكوان والأعشى وحمزة في الوقف، وعن حمزة أيضا بالهمزة في الوقف ليدل على أصل اللغة. الآخرون بهمز بعدها يا وَوَلَداً وما بعده بضم الواو سكون اللام: حمزة وعليّ.
الآخرون بفتحهما يكاد على التذكير: نافع وعليّ ينفطرن من الانفطار: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وخلف وابن عامر والمفضل وأبو بكر وحماد والخزاز عن هبيرة.
الباقون يَتَفَطَّرْنَ من التفطر.
الوقوف:
حَيًّا هـ شَيْئاً هـ جِثِيًّا هـ ج للآية وللعطف عِتِيًّا هـ ج لذلك صِلِيًّا هـ وارِدُها ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى مَقْضِيًّا هـ تقريبا للنجاة من الورود مع أن «ثم» لترتيب الأخبار جِثِيًّا هـ آمَنُوا لا لأن ما بعده مفعول «قال» نَدِيًّا هـ وَرِءْياً هـ مَدًّا هـ لأن «حتى» لانتهاء مدد الضلالة أو لابتداء الرؤية وجواب «إذا» محذوف وهو «آمنوا» السَّاعَةَ ط لابتداء التهديد جُنْداً هـ هُدىً هـ مَرَدًّا هـ وَوَلَداً هـ ط لابتداء الاستفهام للتقريع عَهْداً ط هـ للردع كَلَّا ط مَدًّا هـ لا للعطف فَرْداً هـ عِزًّا هـ كَلَّا ط ضِدًّا هـ أَزًّا هـ لا للتعجيل عَلَيْهِمْ ط عَدًّا هـ ط وَفْداً هـ ط وِرْداً هـ لئلا تشتبه الجملة بالوصف لهم عَهْداً هـ م حذرا من إيهام العطف وَلَداً هـ ط إِدًّا هـ لا لأن ما بعده صفة هَدًّا هـ لا لأن التقدير لأن دعوا وَلَداً هـ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف وَلَداً هـ ط عَبْداً هـ ط فَرْداً هـ وُدًّا هـ مِنْ قَرْنٍ ط رِكْزاً هـ.
لما أمر نبيه ﷺ وأمته بالتبعية أن يعبدوا الله ويصطبروا لعبادته كان لمنكر أن يعترض بأن هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا لأنها مشقة ولا في الآخرة لاستبعاد حشر الأجساد إلى حالها، فلا جرم حكى قول المنكر ليجيب عن ذلك فقال: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ وهو للجنس لأن هذا الاستغراب مركوز في الطباع قبل النظر في الدليل، أو لأن هذا القول إذا صدر عن بعض الأفراد صح إسناده إلى بني نوعه لأنه منهم كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم. وقيل: المراد بالإنسان هاهنا شخص معين هو أبو جهل أو أبي بن خلف. وقيل: بعض الجنس هم الكفرة. وانتصب «إذا» بفعل مضمر يدل عليه أُخْرَجُ المذكور لا نفسه لأن ما بدعه لام الابتداء لا يعمل فيما قبله. لا تقول: اليوم لزيد قائم. وإنما جاز الجمع بين حرف الاستقبال وبين لام الابتداء المفيدة للحال، لأن اللام هاهنا خلصت لأجل التأكيد كما خلصت الهمزة في «يا الله» للتعويض، واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في «إذا» ما للتوكيد أيضا وكأنهم قالوا مستنكرين: أحقا أنا سنخرج أحياء حين تمكن فينا الفناء بالموت؟ والمراد بالخروج إما الخروج من الأرض أو الخروج من حال الفناء أو الندور ومن قولهم: «خرج فلان عالما» إذا كان نادرا في العلم فكأنه قال على سبيل الهزء: سأخرج حيا نادرا. وإنما قدم الظرف وأولى حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ومنه جاء الإنكار كقولك لمن أساء إلى محسنه «أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه» ؟! ولما كان الإنسان لا يصدر عنه هذا الإنكار إلا إذا لم يتذكر أو لم يذكر النشأة الأولى قال سبحانه منبها على ذلك أَوَلا يَذْكُرُ وهاهنا إضمار تقديره أيقول ذلك ولا يذكر. وزعم جار الله أن الواو عطفت لا يذكر على يقول في قوله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف الجر. قال العقلاء: لو اجتمعت الخلائق على إيراد حجة في البعث أوجز من هذه لم يقدروا عليها، لأن خلق الذات مع الصفات أصعب من تغيير الذات في أطوار الصفات، وهذا معلوم لكل صانع يتكرر عنه عمل، لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة خيال. والثاني قد ارتسم واستقر وثبت له مثال واحتذاء. وإذا كان حال من يتفاوت في قدرته الصعب والسهل كذلك، فما الظن بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية به؟ وفي قوله: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً بحث قد مر في أول السورة مثله.
وحين نبه على النكتة الضرورية أكدها بالإقسام قائلا فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ الفاء للاستئناف وهو يفيد الإعراض عن قصة والشروع في أخرى عقيبها والواو للقسم وشرف
روي عن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة».
وعنه أيضا رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للناس ضجيجا من بردها».
وأما قوله: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد عن عذابها. وعن ابن عباس: يردونها كأنها إهالة. ومنهم من لم يفسر الورود هاهنا بالدخول لأن ابن عباس قال: قد يرد الشيء الشيء ولم يدخله كقوله تعالى: لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: ٢٣] ومعلوم أن موسى لم يدخل الماء ولكنه قرب منه. ويقال: وردت القافلة البلد إذا قربت منه، فالمراد بالورود جثوهم حولها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن مجاهد: هو مس الحمى جسده في الدنيا
قال عليه السلام: «الحمى من فيح جهنم» «١»
وفي رواية «الحمى حظ كل مؤمن من النار».
وإن أريد بالناس أو بالإنسان الكفرة فلا إشكال في ورودهم النار ولكنه لا يطابقه قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ووجه بأنه أراد أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار لا أنهم يوردونها يتخلصون.
أسئلة: كيف يندفع عنهم ضرر النار عند من فسر الورود بالدخول؟ زعم بعضهم أن البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها مواضع خالية عن النار أشباه الطرق إلى دركات جهنم، والمؤمنون يردون تلك المواضع. والأصح أنه سبحانه يزيل عنها طبيعة الإحراق بالنسبة إلى المؤمنين وهو على كل شيء قدير، ولهذا لا تضر النار الملائكة الموكلين بالعذاب. ما الفائدة في إيراد المؤمنين النار إذا لم يعذبوا بها؟ فيه وجوه منها:
أن يزدادوا سرورا إذا رأوا الخلاص منها. ومنها افتضاح الكافرين إذا اطلع المؤمنون عليهم. ومنها أن المؤمنين يوبخون الكفار ويسخرون منهم كما سخروا في الدنيا. ومنها
الدارمي في كتاب الرقاق باب: ٥٥. الموطأ في كتاب العين حديث ١٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٩١) (٢/ ٢١، ٨٥).
فالاجتماع يكون في موضع الحساب ثم يدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم، ثم يرفع الله أهل الجنة ويبقى أهل النار فيها. قلت: هذا على رأي الفلاسفة الإسلاميين ظاهر، فالمحاسبة تكون في الأرض ومرور الكل يكون على كرة النار، ثم يرفع أهل الكمال إلى السماء ويبقى الكفرة في النار ويؤيده قوله: كانَ أي الورود عَلى رَبِّكَ حَتْماً أي محتوما مصدر بمعنى المفعول مَقْضِيًّا قضى به وعزم أن لا يكون غيره، وذلك أن العبور من جميع الجوانب على كرة النار. وأجمعت المعتزلة بذلك على أن العقاب واجب على الله عقلا. وقال الأشاعرة: شبه بالواجب من قبل استحالة يطرق الخلف إليه. وقد سبق أن المتقي عند المعتزلة من يجتنب المعاصي كلها، وعند غيرهم هو الذي اجتنب الشرك فقط، وقد يهدم بالآية قاعدة القائل بمنزلة بين المنزلتين. وأجيب أن تنجية المتقين أعم من أن تكون إلى الجنة أو إلى غيرها، وهب أن تنجيتهم إلى الجنة إلا أن الذي طاعته ومعصيته سيان غير داخل في المتقين ولا في الظالمين فيبقى حكمة مسكوتا عنه. ومن المعتزلة من تمسك بالوعيد بقوله: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ ومنع أن الصيغة للعموم، ولو سلم فمخصص بآيات الوعد لما ردّ على منكري البعث وقرر كيفية الحشر. قال: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الآية، والمراد أنهم عارضوا حجة الله بكلام أعوج فقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه. يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون ثم يدّعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله عز وجل منهم. قال جار الله: معنى بينات مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني مبينات المقاصد، إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا، أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على ما معارضتها، أو حججا وبراهين. وعلى التقادير تكون حالا مؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: ٩١] لأن آيات الله لا تكون إلا بهذه الأوصاف.
ومعنى لِلَّذِينَ آمَنُوا أنهم يخاطبونهم بذلك أو يفوهون به لأجلهم وفي شأنهم.
والمقام بالضم موضع الإقامة أي المنزل، وبالفتح موضع القيام، والنديّ المجلس ومجتمع القوم حيث ينتدون. قوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني المؤمنين بالآيات والجاحدين لها من
أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [الآية: ٨٠] قال الجوهري: من همز رِءْياً جعله من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، ومن لم يهمزه فإما أن يكون على تخفيف الهمزة أي قلب الهمزة ياء وأدغم، أو يكون من «رويت ألوانهم وجلودهم ريا» أي امتلأت وحسنت. وقال جار الله: الري هو المنظر والهيئة «فعل» بمعنى «مفعول». وقرىء بهمز قبله ياء على القلب كقولهم «راء» في «رأي». وقرىء بالزاي المنقوطة واشتقاقه من الزي بالفتح وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة. وفي الآية حذف التقدير أحسن من هؤلاء، والحاصل أنه تعالى أهلك من كان أكثر مالا وجمالا منهم وذلك دليل على إفساد إحدى مقدمتيهم وهي أن كل من وجد الدنيا كان حبيب الله، أو على فساد المقدمة الأخرى وهي أن كل من كان حبيبا لله فإنه لا يوصل إليه غما. ثم بين أن مآل الضال إلى الخزي والنكال وإن طالت مدته وكثرت عدته، وقوله: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ خبر مخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب الإمهال وأنه مفعول لا محالة لتنقطع معاذير الضال ويقال له يوم القيامة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: ٣٧] أو ليزدادوا إثما كقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران:
١٧٨] أو هو في معنى الدعاء بأن يمهله الله عز وجل وينفس في مدة حياته. والغاية أحد الأمرين المذكورين أي انقطاع العذر أو ازدياد الإثم. أما قوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا إلى آخر.
فقد قال في الكشاف: إنه يحتمل أن يكون متصلا بقوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ إلى آخره، وما بينهما اعتراض قالوا: أي الفريقين خبر مقاما وأحسن نديا حتى إذا رأوا ما يوعدون. والمعنى لا يزالون يتفوّهون بهذا القول مولعين به إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا وهو غلبة المسلمين بالقتل والأسر وتغير أحوالهم من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر، وأما يوم القيامة، ويحتمل أن تتصل بما يليها والمراد أنهم لا ينفكون عن ضلالتهم وسوء مقالتهم إلى أن يعاينوا عذاب الدنيا، أو الساعة ومقدماتها. وقوله:
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً في مقابلة قولهم: خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا لأن مقامهم هو مكانهم والنديّ المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم، والجند
وحين بيّن حال أهل الضلال أراد أن يبين حال أهل الكمال فقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وذلك أن بعض الاهتداء يجر إلى البعض الآخر كالإيمان يجر إلى الإخلاص فيه كما أن بعض الغواية يجر إلى بعضها. ومنهم من فسر الزيادة بالعبادات المرتبة على الإيمان. والواو في وَيَزِيدُ للاستئناف. وقد تكلف جار الله فقال: إنه للعطف على معنى فَلْيَمْدُدْ أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه. وقد مر في سورة الكهف أن الباقيات الصالحات فسرها الأكثرون بجميع الأعمال الصالحات المؤدية إلى السعادات الباقيات. وفسرها بعضهم بما هي أعظم ثوابا منها كالصلوات الخمس وغيرها. وقوله: خَيْرٌ يقتضي غيرا يكون مشاركا له في أصل الخيرية ويكون هذا خيرا منه، فإن قدرنا ذلك شيئا فيه خيرية كبعض الأعمال الدنيوية المباحة أو كسائر الأعمال الصالحة عند من يفسر الباقيات بمعنى الأخص فظاهر أنها خير ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة أو منفعة من قولهم: «هل لهذا الأمر مرد» إن قدرنا ذلك شيئا لا ثواب فيه ولا خيرية كما زعم جار الله أن المراد هي خير ثوابا من مفاخرات الكفار، فيكون إطلاق الثواب على عقاب الكفار من قبيل التهكم ومن باب قولهم: «تحية بينهم ضرب وجيع». ويكون وجه التفضيل في الخير ما قيل في قولهم: «الصيف أحر من الشتاء» أي هو أبلغ في حره من الشتاء في برده، ثم أردف مقالتهم الحمقاء بأخرى مثلها قائلا على سبيل التعجب أَفَرَأَيْتَ كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك. وإنما استعملوا «أرأيت» بمعنى «أخبر» لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه. عن الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاص بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فاقتضيته، وقيل: صاع له حليا فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا، فأنا أقضيك، ثم فإني أوتي مالا وولدا حينئذ. من قرأ وَلَداً بفتحتين فظاهر، ومن قرأ بالضم فالسكون، فإما جمع ولد كاسد في أسدا، أو بمعنى الولد كالعرب والعرب، فأنكر الله سبحانه عليه بقوله مستفهما أَطَّلَعَ الْغَيْبَ من قولهم «اطلع الجبل» أي ارتقى الى أعلاه، ولاختيار هذه الكلمة شأن كأنه قال: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى عالم الغيب الذي تفرد به علام الغيوب أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً عن الكلبي: هل عهد الله إليه أن
سَنَكْتُبُ بسين التسويف مع أن الحفظة يكتبون ما قاله في الحلل دليل على أن السين جرد هاهنا لمعنى الوعيد، أو أراد سيظهر له نبأ الكتابة بالتعذيب والانتصار يؤيده قوله:
وَنَمُدُّ لَهُ أي نطوّل له مِنَ الْعَذابِ ما يستأهله أمثاله من المستهزئين أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. مده وأمده بمعنى.
ثم أكد المدد بالمصدر وهو مؤذن بفرط الغضب أعاذنا الله منه، ثم عكس استهزاءه بقوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نمنع عنه منتهى ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد لأنه تألى على الله في قوله: لَأُوتَيَنَّ ومن يتأل على الله يكذبه لأن ذلك غاية الجراءة ونهاية الأشعبية. والمراد هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة وَيَأْتِينا غدا فَرْداً بلا مال ولا ولد. وكلام صاحب الكشاف في الوجهين ملخبط فليتأمل فيه. وكذا في قوله: فَرْداً على الأول حال مقدرة نحو فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتي، ثم يتفاوتون بعد ذلك. وذلك أن الخلود لا يتحقق إلا بعد الدخول، أما انفراده فمحقق في حالة الإتيان وتفاوت الحال بعد ذلك، واشتراك الكل في الإتيان منفردا لا مدخل له في المقصود فلا أدري ما حمله على هذا التكلف.
قال: ويحتمل أن هذا القول: إنما يقوله ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا منفردا عنه غير قائل له، أو أراد أن هذا القول لا ننساه ولا نلغيه بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به، ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نعطه سؤله ومتمناه، فيجتمع عليه خطبان تبعة قوله وفقد سؤله. وحين فرغ من الرد على منكري البعث شرع في الرد على عبدة الأصنام فبين أوّلا عرضهم وذلك أن يتعززوا بآلهتهم وينتفعوا بشفاعتهم، ثم أنكر عليهم وردعهم بقوله: كَلَّا ثم أخبر عن مآل حالهم بقوله سَيَكْفُرُونَ فإن كان الضمير للمعبودين فهم إما الملائكة كقوله: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١] وإما الأصنام فلا يبعد أن ينطق الله الجماد بذلك كقوله: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: ٨٦] وإن كان الضمير للعابدين فهو كقوله: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: ٨٦] وإن [الأنعام: ٢٣] أما الضمير في يكونون فللمعبودين، وقوله: عَلَيْهِمْ في مقابلة قوله:
لَهُمْ عِزًّا وضد العز الهوان كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا لهم عزا ويحتمل أن يراد بالضد العون لأنه يضاد العدو، ووحد لاتفاق كلمتهم وفرط تضامهم وتوافقهم
كقوله
ومعنى كون الآلهة أضدادا أي أعوانا عليهم أنهم وقود النار وأن المشركين عذبوا بسبب عبادتها، ويحتمل أن يكون الضمير في يَكُونُونَ للمشركين أي يكون المشركون كفرة بآلهتهم وأعداء لهم بعد أن كانوا يعبدونها.
وحيث بيّن مذاهب الفرق الضالة أراد أن يبين منشأها فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الآية. والأز الهز والتهييج. قالت: الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات لأن قول القائل: «أرسلت فلانا على فلان» يفيد أنه سلطه عليه منه
قوله صلى الله عليه وسلم: «سم الله وأرسل كلبك عليه»
ويؤيده قوله: تَؤُزُّهُمْ أي تغريهم على المعاصي وتحثهم عليها بالوسواس والتسويلات. وقالت المعتزلة: أراد بهذا الإرسال التخلية بينهم وبينهم كما إذا لم يمنع الرجل من دخول بيت جيرانه. وحاصل كلامهم أنه أرسل الأنبياء وأرسل الشياطين، ثم خلى بين المكلفين وبين الأنبياء والشياطين إلا أنه خص أولياءه بمزيد الألطاف حتى قبلوا قول الأنبياء، ومنع أعداءه تلك الألطاف وهو المسمى بالخذلان فقبلوا قول الشياطين. ولما كان هذا الإرسال سببا لهلاك الكفار عداه ب «على» لا ب «إلى» قلت: لا يخفى أن استناد الكل إلى الله تعالى فنزاع الفريقين لفظيّ أو قريب منه. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجل منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فتستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين وهم خمسة رهط. وعنه أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، وآخر العدد فراق أهلك، وآخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقال بعضهم:
إن الحبيب من الأحباب مختلس | لا يمنع الموت بواب ولا جرس |
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها | فتى يعد عليه اللفظ والنفس |
عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ما يحشرون على أرجلهم ولكنهم على نوق رحالها ذهب وعلى
وخص المجرمون بالسوق إلى جهنم وردا أي وهم الذين يردون الماء، وفيه من الإهانة ما فيه كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. وقال جار الله: حقيقة الورد المسير إلى الماء فسمي به الواردون. قال بعض العلماء: في الآية دلالة على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؟ قلت: يحتمل أن يكون الحشر إلى الرحمن غير الحشر إلى الموقف، فيراد بالحشر إلى الرحمن أي إلى دار كرامته وسوقهم إلى الجنة لقوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: ٧٣] وهذا بعد امتياز الفريقين، فالأمن الكلي فيما بعد هذه الحالة لا ينافي الخوف والدهشة فيما قبلها كما ورد في حديث الشفاعة وغيره. وقوله: إِلَى الرَّحْمنِ دون أن يقول إلينا من وضع الظاهر موضع المضمر، وفيه من البشارة ما فيه. ولا يلزم منه التجسم للتأويل الذي ذكرناه، والضمير في لا يَمْلِكُونَ للمكلفين المذكورين بقسمهم وفاعله مَنِ اتَّخَذَ على البدلية لأنه في معنى الجمع. ويجوز أن تكون الواو علامة للجمع كالتي في «أكلوني البراغيث» فيكون مَنِ اتَّخَذَ فاعلا والاستثناء مفرغا. ويجوز أن ينتصب مَنِ اتَّخَذَ على الاستثناء أو على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة. من اتخذه واختلف المفسرون في الشفاعة فقيل: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل: لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم. واتخاذ العهد الاستظهار بالأيمان والعمل، أو بكلمة الشهادة وحدها والأول يناسب أصول المعتزلة، والثاني يناسب أصول الأشاعرة.
وعن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك له وأن محمدا عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» «١»
ويجوز أن يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها كقوله:
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ [النجم:
٢٦].
ويقال: فطره بالتخفيف إذا شقه، ومطاوعه انفطر وبالتشديد للتكثير، ومطاوعه تفطر وهذا البناء للتكثير. وانتصب هَدًّا إما على المصدر لأن الخرور في معناه، وإما لأن التقدير يهد هدا، أو على الحال أي مهدودة، أو على العلة أي لأنها تهد. ومحل أَنْ دَعَوْا إما مجرور بدلا من الهاء في مِنْهُ وإما منصوب بنزع الخافض أي هدّا لأن دعوا، علل الخرور بالهد والهد بالدعاء، وإما مرفوع بأنه فاعل هد أي هدها الدعاء، وخير الوجوه أوسطها كما في الوقوف والدعاء. أما بمعنى التسمية فيكون المفعول الأول متروكا طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعي ولدا له، وإما بمعنى النسبة أي نسبوا إلى الرحمن ولدا.
وَما يَنْبَغِي لا يصح ولا يستقيم وهو في الأصل مطاوع بغى إذا طلب، وإنما لا يصير مطلوبا لأنه محال. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها، وأما التبني فلأن القديم لا جنس له حتى يميل طبعه إليه ميل الوالد إلى الولد لمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن المختص به، فليس أصول النعم وفروعها إلا منه كما قيل: لينكشف عن بصرك غطاؤه فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. وهذا من فوائد تكرير هذا الاسم في هذا المقام.
سؤال: كيف تؤثر هذه الكلمة في الجمادات حتى تنفطر وتنشق وتخر؟ أجيب بأنه سبحانه كأنه يقول: كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند دعائهم الولد لي غضبا مني على من تفوّه بها لولا حلمي، أو هو تصوير لأثر هذه الكلمة في الدنيا، أو المراد أن هذا الاعتقاد يوجب أن تكون هذه الأجرام على ما ترى من النظام كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وقال أبو مسلم: أراد أن هذه الأجرام لو كانت ممن يعقل كادت تفعل ذلك. ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في الأرضين كلهم تحت قهره وتسخيره في الدنيا وفي الآخرة وأنه محيط بجهل أحوالهم وتفاصيلها فقال: إِنْ كُلُّ «إن» نافية أي ليس فرد من أفراد الخلائق إلا أتى الرحمن إلا وهو ملتجىء إلى ربوبيته مقر بعبوديته. ثم أجمل حال المؤمنين بما لا مزيد عليه في باب الكرامة قائلا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي
وعن النبي ﷺ قال لعلي: يا عليّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وعن ابن عباس: يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه.
وعن رسول الله ﷺ يقول الله عز وجل: «يا جبرائيل قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» «١»
وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وعن كعب قال: مكتوب في التوراة: لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض، وتصديق ذلك في القرآن سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا هذا قول جمهور المفسرين. وعن أبي مسلم أن المراد أنه سهب لهم في الجنة ما يحبون، واستعمال المصدر بمعنى المفعول كثير. وإنما صار إلى هذا القول لأن المسلم التقي يبغضه الكفار وقد يبغضه المسلمون أكثرهم، وقد يحصل مثل هذه المحبة للكفار والفساق فيكونون مرزوقين بميل الناس إلى اختلاطهم ومحبتهم فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين. وأيضا إن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا من فعل الله، فحمل الكلام على إعطاء المنافع به أولى. وأجيب بأن المراد محبة الملائكة والأنبياء والصالحين ومثل هذه لا تحصل للكافر والفاسق، وبأنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم. ثم عظم شأن ما في هذه السورة من التوحيد والنبوة وبيان الحشر والرد على الفرق الضالة قائلا: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ كأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك أي بلغتك وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر. واللد جمع الألد الشديد الخصومة بالباطل كقوله في «البقرة» وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [البقرة: ٢٠٤] يريد أهل مكة. ثم ختم السورة بما هو غاية في الإنذار ونهاية في التخويف لأنبائه عن انقضاء القرون الخالية بالفناء أو بالإفناء بحيث لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع فيعلم منه أن مآل الباقين أيضا إلى ذلك فيجتهدوا في تحصيل الزاد للمعاد ولا يصرفوا همتهم إلى ما هو بصدد الزوال والنفاد. والركز الصوت الخفي وركز
أحمد في مسنده (٢/ ٢٦٧، ٣٤١).
التأويل:
وَيَقُولُ النفس الإنسانية لجهلها بالحقائق إذا مات عن الصفات البشرية أُخْرَجُ حَيًّا بالصفات الروحانية. لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ فلكل شخص قرين من الشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ القهر والطبيعة إِنْ مِنْكُمْ من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين إلا هو وارد هاوية الهوى بقدم الطبيعة حَتْماً مَقْضِيًّا لأن حكمته الأزلية اقتضت خلق هذا النوع المركب من العلوي والسفلي ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الهوى يقدم الشريعة على طريق الطريقة للوصول إلى الحقيقة آياتُنا من الحقائق والأسرار قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق لِلَّذِينَ آمَنُوا تحقيقا وإيقانا وَكَمْ أَهْلَكْنا بحب الدنيا والإغراق في بحر الشهوات والإحراق بنار المناصب للعرضيات إِمَّا الْعَذابَ وهو الموت على الإنكار والغفلة وَإِمَّا السَّاعَةَ وهي الإماتة عن الصفات البشرية عند قيام قيامة الشوق والمحبة. فَسَيَعْلَمُونَ حزب الله من حزب الشيطان وَيَزِيدُ اللَّهُ بالترقي من الإيمان إلى الإيقان إلى العيان أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً من فوائد ذكر اسم الرحمن هاهنا أن الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا وإلا فالألوهية مقتضية لإعدامهم في الحال وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً عن مشيئة وإرادة بخلافهم في الدنيا فإنهم يظنون أن لهم إرادة واختيارا. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ فيه أنه لولا تيسير الله درايته على قلب النبي ﷺ وإلا فكيف يسع ظروف الحروف المحدثة المتناهية حقائق كلامه الأزلية غير المتناهية وَكَمْ أَهْلَكْنا في تيه الضلالة أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً بالثناء الحسن عليهم والله أعلم بالصواب.