تفسير سورة الشورى

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حـم * عسق ﴾ ؛ (ح) حِلمهُ و (م) مجدهُ و (ع) عِلمهُ و (س) سناؤه و (ق) قُدرَتهُ، أقسمَ اللهُ بها، ﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ؛ اخباراً بالغيب ويكون قبلَ أن يكون، وَقِيْلَ : الحاءُ من الرَّحمنِ، والميمُ من مَلِكٍ، والعين من عزيزٍ والسين من قدُّوسٍ والقافُ من قاهرٍ، ومعنى ﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ﴾ مثل ما أوحَينا إليك بهذه السُّورة أوحَينا إلى مَن قَبلَكَ من الرُّسلِ. وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه أنه قالَ :(لَيْسَ مِنْ نَبيٍّ إلاَّ وَقَدْ أُوْحِيَ إلَيْهِ بـ حم عسق كَمَا أُوحِيَ إلَى نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ العَظِيمُ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
وقولهُ تعالى :﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ﴾ ؛ أي تكادُ كلُّ سماءٍ تشَقَّقُ فوقَ التي تَلِيها من قولِ المشركين : اتَّخذ اللهُ ولداً، ومِن استعظامِ كُفرِ أهل الأرضِ مع عِظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ أي يُنَزِّهُونَ اللهَ عن القولِ الذي تكادُ السَّموات يتفطَّرن منه، ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ؛ لأوليائهِ وأهلِ طاعته.
وقولهُ تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ ؛ يعني كفارَ مكَّة اتَّخذُوا آلهةً فعبَدُوها من دونِ الله، وقولهُ تعالى :﴿ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي اللهُ حفيظٌ على أعمالِهم ليجازيَهم بها، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ ؛ أي لم يوَكِّلكَ حتى تُؤخَذ بهم وتعاقَبَ بمخالفَتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ ؛ أي كما أنزَلنا على مَن قبلكَ بلسانِ قَومِهم أنزَلنا عليكَ قُرآناً بلُغَةِ العرب لتُخَوِّفَ به أُمَّ القُرى وهي مكَّةُ، سُمِّيت أُمَّ القرى لأنَّ الأرضَ دُحِيَتْ من تحتِها. وقولهُ تعالى :﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ أي لتُنذِرَ أهلَ أُمِّ القُرَى ومَن حولَها مِن البُلدانِ، وَقِيْلَ : يعني قُرَى الأرضِ كلِّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ﴾ ؛ وهو يومُ القيامةِ، يَجْمَعُ اللهُ فيه الأوَّلين والآخِرين، وأهلَ السمواتِ وأهلَ الأرضِ، ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ؛ أي لا شكَّ في الجمعِ فيه أنه كائنٌ، ثم بعدَ الجمعِ يتفرَّقون كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ ؛ أي طائفةٌ من أهل الجمع وهم المؤمنون يُساقون إلى الجنَّة يتنعَّمون ويتمتعون، وطائفة يُساقون إلى النار ذات الوقود وهمُ الكفَّارُ فيها يُعذبون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ ؛ أي لو شاءَ لجمَعَهم على دينِ الإسلامِ بأنْ يُعرِّفَهم طريقَ الحقِّ بالاضطرار، ولكنَّهُ لم يفعلْهُ، أرادَ أن يعرضهم للثواب والإلجاءُ يَمنَعُ من ذلكَ، ومثلُ قولهِ تعالى﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾[الأنعام : ٣٥]. وقولهُ تعالى :﴿ وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ ؛ أي في دينِ الإسلام، ﴿ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾، يَمنَعُهم ؛ أي والكافِرُونَ ما لَهم من ولِيٍّ يدفعُ عنهم العذابَ وَلاَ نَصِيرٍ يَمنَعُهم من " النار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ ؛ بلِ اتَّخذ الكفارُ من دون اللهِ أربَاباً، ﴿ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(وَلِيُّكَ يَا مُحَمَّدُ وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَكَ) ﴿ وَهُوَ يُحْيِـي الْمَوْتَى ﴾ ؛ يَبعثُهم للجزاءِ، ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ؛ من الإحياءِ والإماتَةِ، ﴿ قَدِيرٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ معناهُ : وما اختلفتُم فيه من شيءٍ من الدِّين فرُدُّوا حُكمَهُ إلى كتاب الله، واعتَمدُوا الأدلَّةَ دون التقليدِ والشبه كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[النساء : ٥٩].
وقولهُ تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي ﴾ ؛ الذي ادعُوكم إلى عبادتهِ وهو اللهُ ربي، ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ ؛ في كِفَايَةِ مهمَّاتِي، ﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ ؛ أي أرجعُ في المعادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي هو مُبتَدِعُهما ومدبرُهما، ﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ ؛ أي خَلَقَ لكم من مثلِ خَلقِكم نساءً، وَ خلقَ لكم، ﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً ﴾ ؛ ذُكوراً وإناثاً لتَكمَلَ منافعُكم بها، يعني خلقَ الذكرِ والأنثى من الحيوانِ كلِّه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾ ؛ أي يَخلقُكم في الرَّحِم ويُكثِرُكم بالتزويجِ، ولولاهُ لم يكنِ الناسُ.
وقولهُ تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ ؛ في العلمِ والقدرةِ والتدبيرِ، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾ ؛ بمقالَةِ العبادِ، ﴿ الْبَصِيرُ ﴾ ؛ بأعمالِهم، والكافُ في ﴿ كَمِثْلِهِ ﴾ زائدةٌ مُؤكِّدَةٌ، والمعنى : ليس مثلهُ شيءٌ، إذ لا يجوزُ أن يقالَ : ليس مثلَ مثلهِ شيءٌ ؛ لأن مَن قال ذلكَ فقد أثبتَ المثلَ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كَبيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي له مَفاتِيحُها، قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيدُ مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ). وقال الكلبيُّ :(مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ خَزَائِنُ الْمَطَرِ، وَخَزَائِنُ الأَرْضِ النَّبَاتُ). والمعنى أنه يقدِرُ على فتحِها، يَملِكُ فتحَ السَّماء بالمطرِ، وفتح الأرضِ بالنبات، يدلُّ على هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ ؛ أي يُوسِّعهُ على مَن يشاءُ، ويُضَيِّقهُ على مَن يشاءُ ؛ لأن مفاتيحَ الرزقِ بيدهِ، ﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ من البَسْطِ والضِّيقِ ما لا يفعلُ ذلك جُزَافاً، ولكن يرزقُ كلَّ أحدٍ على ما تُوجِبهُ الحكمةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ ﴾ ؛ أي بَيَّنَ وأوضحَ من الدينِ، ﴿ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ﴾ ؛ يعني التوحيدَ، ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ ؛ من القرآن وشَرائعِ الإسلامِ، ﴿ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ﴾ ؛ وشرعَ لكم ما وصَّى بهع إبراهيمَ وموسى وعيسى.
ثم بيَّن ما وصَّى به هؤلاء فقال :﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ ﴾ ؛ يعني التوحيدَ، ﴿ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ ؛ أي لا تختلِفُوا في التوحيدِ، قال مجاهدُ :(يَعْنِي شَرَعَ لَكُمْ وَلِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الأَنْبيَاءِ دِيْناً وَاحِداً ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبيّاً إلاَّ وَصَّاهُ بإقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالإقْرَار باللهِ تَعَالَى وَالطَّاعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أمَرَهُ اللهُ بهِ، فَذلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : عَظُمَ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ مَا دَعَاهُمُ النَّبيُّ ﷺ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالإخْلاَصِ لَهُ وَحْدَهُ وَخَلْعِ الأنْدَادِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يصطفي من عباده لدينه من يشاء، ﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ ﴾ ؛ إلى دينهِ ؛ ﴿ مَن يُنِيبُ ﴾ ؛ أي مَن يُقبلُ إلى طاعتهِ، وَقِيْلَ : معناهُ : اللهُ يختارُ لرسالتهِ مِن يشاءُ مِمَّن تقتضِي الحكمةُ اختيارَهُ، ويَهدِي إلى جنَّتهِ وثوابهِ مَن يرجعُ إلى طاعتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي ما اختلفَ اليهودُ والنَّصارى إلاَّ من بعدِ ما وَضُحَ لهم أمرُ النبيِّ ﷺ، وذلك أنَّهم كانوا يَعرِفُونَهُ كما يعرفون أبناءَهم، فأنكرَ مَن أنكرَ مِن علمائِهم للبَغيِ والعداوةِ على طلب الدُّنيا، خافُوا أن تذهبَ عنهم رئاسَتهم ومكانتهم، وأن يصِيرُوا تابعِين بعد أن كانوا مَتبُوعِين، فترَكُوا اسمَ الإسلامِ، وقولهُ تعالى ﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ أي بَغياً منهم على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قولهُ تعالى :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي لولاََ حُكمِ اللهِ بإنظارهم وتأخيرِ العذاب عن هذه الأُمة ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ يعني يومَ القيامةِ ﴿ لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ ﴾ أي بين مَن آمنَ ومَن كفرَ بنُزولِ العذاب بالمكذِّبين في الدُّنيا. وقولهُ تعالى :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ ؛ يعني اليهودَ والنصارى أُورثُوا التوراةَ من بعدِ أنبيائهم وأسلافِ أحبارهم، ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾ ؛ من دينِ الإسلام ظاهرِ الشكِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ أي فلذلكَ الذي سبقَ ذِكرهُ، يعني الذي وصَّى به الأنبياءُ من التوحيدِ فادعُ. وَقِيْلَ : معناهُ : فلأجلِ ما وقعَ منهم من الشكِّ فادعُ واستقِمْ على دينِ الإسلامِ كما أُمِرتَ ولا تتَّبع أهواءَ أهلِ الكتاب، وذلك أنَّهم دعَوا إلى دينِهم، ﴿ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ﴾ ؛ أي آمنتُ بكُتب الله كلِّها. وإنما قالَ ذلك لأنَّ الذين تفرَّقوا آمَنُوا ببعضِ الكُتب دون بعض. وقوله تعالى :﴿ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ ؛ أي أُمرت أن لا أحيفَ عليكم بأكثرَ مما افترضَ اللهُ عليكم في الأحكامِ.
وقولهُ تعالى :﴿ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ ؛ أي إلِهُنا وإلَهُكم وإن اختلفَتْ أعمالُنا، وكلٌّ يجازَى بما عَمِلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ ؛ لنا جزاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم، لا يُؤاخَذُ أحدٌ بعملِ غيره، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ﴾ ؛ أي قد ظهرَ الحقُّ وسقطَ الباطلُ، ومع ذلك الحجَّة لنا عليكم لظهُورها، وقولهُ تعالى :﴿ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ﴾ ؛ وبينَكم في الآخرةِ فيُجازي كُلاًّ بعملهِ، ﴿ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ ﴾ ؛ أي والذين يخاصِمُون في دينِ الله من بعد ظُهور دلائلهِ، وهم اليهودُ والنصارى قالوا : كتابُنا قبلَ كتابكم، ونبيُّنا قبلَ نبيِّكم، فنحن خيرٌ منكم! فهذه خصومَتُهم وإنما قصَدُوا بما قالوا دفعَ ما أتَى به مُحَمَّدٌ ﷺ، وقولهُ تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ ﴾ أي من بعدِ ما دخلَ الناسُ في الإسلامِ وأجَابُوا النبيَّ ﷺ إلى ما دعَاهُم إليه، ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ أي خصومتُهم باطلةٌ حين زعَمُوا أن دينََهم أفضلُ من الإسلامِ، وقوله ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي في حُكم ربهم، وإنما قالَ ذلك لأنَّها لم " تكن " باطلةً في زعمِهم، ﴿ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ﴾ ؛ من اللهِ، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ ؛ معناهُ : اللهُ الذي أنزلَ القرآن بالحقِّ ؛ أي بما ضَمَّنَهُ من الأمرِ والنهي والفرائضِ والأحكام، وكلُّه حقٌّ من اللهِ تعالى. وقولهُ تعالى ﴿ وَالْمِيزَانَ ﴾ اختلَفُوا في إنزالِ الميزان، قال الحسنُ ومجاهد والضحَّاك :(أرَادَ الْعَدْلَ) وإنما كنَّى عن العدلِ بالميزان لأنَّ الميزانَ طريقٌ معه العدلُ والمساواة.
وقال بعضُهم : أنزلَ الميزان الذي يوزَنُ به في زمنِ نوحٍ عليه السلام. وقال ابنُ عبَّاس :(أمَرَ اللهُ بالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ الْبَخْسِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ ؛ هذا تخويفٌ للمشرِكين من قُرب الساعة لينْزَجِرُوا، وقد كان قومٌ من المشركين سأَلُوا النبيَّ ﷺ عن الساعةِ تَكذيباً بها، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةََ، وإنَّما قال ﴿ قَرِيبٌ ﴾ ولم يقل قريبةٌ ؛ لأن تأنيثَ الساعةِ غيرُ حقيقيٍّ كما في قولهِ تعالى﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾[الأعراف : ٥٦] ولأن معنى الساعةِ البعثُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ ؛ والذين يستعجِلون بها قصدَ الإتيان بها استِبعاداً لِقيامِها لأنَّهم لا يؤمنون بها، وهذه طريقةُ الْجُهَلاَءِ في كلِّ شيء يجحَدُونه من حقائقِ الأمُور.
وقولهُ تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ ؛ أي خائِفُون منها لاَ يَدرُون على ما يُقدِمون عليه لأنَّهم موقنون أنَّهم مبعُوثون مُحاسَبون، ﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾ ؛ أي الساعةُ لا ريبَ فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ ﴾ ؛ تدخُلهم الْمِرْيَةُ والشكُّ في القيامةِ، ﴿ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ حين لم يفكِّروا فيعلَمُوا أن الذي خلَقَهم أوَّلاً قادرٌ على بعثِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ ؛ أي بارٌّ رحيم بهم، يعني أهلَ طاعة، وقال مقاتلُ :(لَطِيفٌ بالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لاَ يُهْلِكُهُمْ جُوعاً)، يدلُّ على هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ وكلُّ مَن رزقَهُ اللهُ من مؤمنٍ وكافر ذي روحٍ ممن يشاء أن يرزقَهُ، ﴿ وَهُوَ الْقَوِيُّ ﴾ ؛ على ما أرادَ من رزقِ مَن يرزقهُ، ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ يعني الغالبُ الذي لا يلحقهُ عَجْزٌ فيما أرادَ. واللطيفُ هو الْمُوصِلُ للنفعِ إلى غيرهِ من جهةِ يدُقُّ استدراكُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ ؛ أي مَن كان يريدُ بعملهِ نفعَ الآخرةِ ﴿ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ أي نُعِينهُ على العبادةِ، ونسَهِّلُ له، وَقِيْلَ : نزِدْ له في ثوابهِ الْحَسَنَةَ بعشرِ أمثالها. وَقِيْلَ : نزِدْ له في قوتَّهِ ونشاطهِ وخِشيَتهِ في العملِ، كما قالَ تعالى﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾[العنكبوت : ٦٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي ومَن كان يريدُ بعملهِ نفعَ الدُّنيا من رزقٍ أو مَحْمَدَةٍ، ﴿ نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ ؛ ما نشاءُ على ما تقتضيهِ الحكمةُ، ﴿ وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ ؛ مِن ثوابٍ ؛ لأنه عَمِلَ لغيرِ الله، قال السديُّ :(هَذا الْمُنَافِقُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ُيُعْطِيهِ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ﴾ ؛ يعني كفارَ مكَّة ألَهُمْ آلِهةٌ سَنُّوا من الدينِ والشريعةِ ما لَم يعلمِ اللهُ به ؟ قال ابنُ عبَّاس :(شَرَعُوا لَهُمْ دِيْناً غَيْرَ دِينِ الإسْلاَمِ) ﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي لولاَ حكمُ الله بأن يَفصِلَ بينهم يومَ القيامةِ لعاجَلَهم بالعقوبةِ، ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي وجيعٌ في الآخرةِ ﴿ تَرَى الظَّالِمِينَ ﴾، الذين يكذبونك خائفين يوم القيامة، ﴿ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ ﴾ ؛ مِن الكفرِ والتكذيب، ﴿ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ ؛ أي وجزاؤهُ واقعٌ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ﴾ ؛ الرَّوضَةُ : هي البستانُ الجامع لأنواعِ الرَّياحينِ، والجنَّةُ هي البستانُ الجامِعُ لأنواعِ الشَّجرِ، ﴿ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ مِن النعيمِ في حكمةِ ربهم، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ ؛ أي الْمَنُّ العظيمُ من اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ ؛ أي ذلك الذي سبقَ ذِكرهُ من النعيمِ يبشِّرُ اللهُ عبادَهُ المؤمنين المخلِصين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ ؛ أي لا أسألُكم على تبليغِ الرسالة ؛ أي تعليمِ الشريعةِ أجْراً، وهذا دأبُ كلِّ نبيٍّ مع قومهِ، وقولهُ تعالى :﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ أي لاَ أَسأَلُكم عليه أجراً إلاَّ أن تَصِلُوا ما بيني وبينَكم من القرابةِ. قال ابنُ عبَّاس :(لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إلاَّ وَلِرَسُولِ اللهِ ﷺ قَرَابَةٌ فِيْهِمْ).
والمعنى : قُل لا أسأَلُكم على ما أدعُوكم إليه من الحقِّ إلاَّ أنْ تحفَظُوني في قرابَتِي بيني وبينكم. وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لاَ أسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أقُولُ أجْراً، أرْقُبُونِي فِي الدُّعَاءِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلاَ تَعْجَلُوا إلَيَّ وَدَعُونِي وَالنَّاس). وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : إلاَّ أنْ تُؤَدُّوا إلَى اللهِ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ).
وعن ابنِ عبَّاس قالَ :" لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْمُرُنَا اللهُ بمَودَّتِهِمْ ؟ قَالَ :" عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَوَلَدَهُمَا " ".
وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ :(قَالَ فِينَا، فِي آلِ مُحَمَّدٍ، فِي حَمِ آيَةً لاَ يَحْفَظُ مَوَدَّتَنَا إلاَّ كُلُّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ قَرَأ :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ )، وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : لاَ أسْأَلُكُمْ عَلَى الإيْمَانِ جُعْلاً إلاَّ أنْ تُوَادُّوا أقَاربي، حَثَّ اللهُ النَّاسَ عَلَى مَوَدَّةِ ذوي قَرَابَتِهِ).
وعلى الأقوالِ كلِّها قولهُ ﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ ﴾ استثناءٌ ليس من الأوَّلِ، وليس المعنى : أسأَلُكم المودَّةَ في القُربَى ؛ لأن الأنبياءَ لا يسأَلُون أجْراً على تبليغِ الرسالة، والمعنى ولكنِّي أُذكِّرُكم المودةَ في قرابَتِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ﴾ ؛ أي ومَن يكتَسِبْ حسنةً نُجازيه عليها أضْعَافاً، بالواحدةِ عشراً فصاعداً، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لذُنوب الناسِ، ﴿ شَكُورٌ ﴾ ؛ للقليلِ حتى يُضاعفَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ ؛ يعني كفَّارَ مكَّة قالوا : اختلَقَ مُحَمَّدٌ كَذِباً حين زعمَ أن القرآنَ من عندِ اللهِ، فَاغْتَمَمْتَ لذلكَ يا مُحَمَّدُ، ﴿ فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ ؛ أي يَرْبطْ على قلبكَ بالصبرِ على أذاهُم حتى لا يشقَّ عليك قولُهم، ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ﴾، ويُذهِبُ اللهُ ما يقولون من الباطلِ، ﴿ وَيُحِقُّ الْحَقَّ ﴾ ؛ يعني الإسلامَ، ﴿ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ ؛ أي بما أنزَلَ من كتابهِ، وقد فعلَ اللهُ ذلك فأزهقَ باطلَهم وأعلَى كلمةَ الإسلام، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ؛ أي بما " فِي " قُلوب خَلقهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ ؛ مِن خيرٍ وشرٍّ، مَن قرأ بالتاءِ فهو خطابٌ للمشركين وتَهديدٌ لَهم، ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ ؛ أي يُجِيبُهم ما سألوهُ. قال ابنُ عبَّاس :(يُثِيبُهُمْ)، ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ؛ سِوَى ثواب أعمالهم تفَضُّلاً عليهم، وقال أبو صالِح :(يُشَفِّعُهُمْ فِي إخْوَانِهِمْ)، ﴿ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي لو وسَّعَ على عبادهِ لطَغُوا وتطاوَلُوا، وقال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : لَوْ وَسَّعَ اللهُ لِعِبَادِهِ فَرَزَقَهُمْ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ لَعَصَواْ وَبَطَرُواْ النِّعْمَةَ وَطَلَبُواْ مَا لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَطْلُبُوهُ) ؛ لأَنَّ الَّذِي يُوَسَّعُ عَلَيْهِ يَرْتَفِعُ مِنْ مَنْزِلَةٍ إلَى مَنْزِلَةٍ، وَمِنْ مَرْكَبٍ إلَى مَرْكَبٍ، وَمِنْ مَلْبَسٍ إلَى مَلْبَسٍ، وَيَسْتَطِيلُ بذلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَيَسْتَعِينُ برزْقِ اللهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ ؛ معناهُ : ولكن يوسِّعُ على قومٍ، ويُضَيِّقُ على آخَرِين على ما تقتضيهِ الحكمةُ، ﴿ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ أي أعلَمُ بهم من أنفُسِهم، منهم من يصلحُ له الفَقرُ ولو أغناهُ لكان شَرّاً له، ومنهم من يصلحُ له الغِنَى، ولو أفقَرهُ لكان شَرّاً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ﴾ ؛ أي يُنَزِّلُ المطرَ من بعدِ ما يَئِسُوا منه، ﴿ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ ؛ بإخراجِ النبات والثِّمار، وَقِيْلَ : معنى (يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي يبسطُ مَطَرَهُ، ﴿ وَهُوَ الْوَلِيُّ ﴾ ؛ لِمَن أطاعَهُ، وَقِيْلَ : وهو الولِيُّ بإنزال المطرِ عَاماً بعدَ عامٍ، ﴿ الْحَمِيدُ ﴾ ؛ المستحقُّ للحمدِ على خَلقهِ بإنعامهِ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ ؛ معناهُ : ومِن دلائلِ توحيدهِ خلقُ السَّموات والأرضِ بما فيهما من الشَّمسِ والقمر والنُّجوم والجبال والبحار والأشجار ﴿ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا ﴾ أي وما فرَّقَ فيهما من الملائكةِ والناس وغيرِهم، وَقِيْلَ : معناهُ : وما بثَّ في الأرضِ من دابَّة، وهذا كقولهِ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾[الرحمن : ٢٢] وإنما يخرجُ من أحدِهما، ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَصَـابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ ﴾ ؛ يعني وما أصابَكم من المعاصِي في النَّفسِ والمالِ والولدِِ أو نكَبةِ حجَرٍ أو عثرَةِ قدَمٍ، ﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾، يعني المعاصِي، ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ ؛ فلا يعاقِبُ بها لُطفاً بهم.
قال ﷺ :" مَا مِنْ خَدْشَةِ عُودٍ أوْ عَثْرَةِ قَدَمٍ أو اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بذنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ تَعَالَى أكْثَرُ " وقال الحسنُ :(مَعْنَى الآيَةِ : وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ حَدٍّ فِي سَرِقَةٍ أوْ زنَى فَبمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ). وقال الضحَّاكُ :(مَا حَفِظَ رَجُلٌ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إلاَّ بذنْبٍ) وَقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ وَقَالَ : إنَّ أعْظَمَ الذُّنُوب نِسْيَانُ الْقُرْآنِ).
وفي مصاحفِ المدينةِ والشَّام (بمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ). قال الزجَّاجُ :(وَإثْبَاتُ الْفَاءِ أجْوَدُ لأَنَّ الْفَاءَ جَوَابُ الشَّرْطِ). وَمَنْ حَذفَهَا فَعَلَى أنَّ (مَا) بمعنى (الَّذِي) تقديرهُ : والَّذي أصابَكم وقعَ بما كسَبت أيدِيكُم) ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ يا معشرَ المشركين لا تُعجِزونِي في السَّموات حيث كُنتم، ولا تَسبقونَنِي هَرباً في الأرضِ ولا في السَّماء لو كُنتم فيهما، ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ ﴾ ؛ أي ومِن آياته الدَّالة على توحيدهِ وقُدرتهِ الجوَاري في البحرِ، وهي السُّفُنُ جمعُ جَاريَةٍ تجرِي في البحرِ، ﴿ كَالأَعْلاَمِ ﴾ أي كالجِبَالِ الطِّوَالِ، ﴿ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ ﴾ ؛ معناهُ : إن شاءَ اللهُ يُسكِنِ الرِّيحَ التي تَجرِي بها السُّفنُ فيَبقينَ واقفاتٍ على ظهرِ الماء، ويبقَى أهلُها حيَارَى لا يجدُونَ حِيلةً في الخلاصِ ؛ لأن ماءَ البحرِ راكدٌ لا تجري السفينةُ فيه إلاَّ بريحٍ تُجرِيهِ، فذلك معنَى قولهِ تعالى :﴿ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ﴾ ؛ يعني السُّفنَ رَوَاكِدَ ؛ أي ثوابتَ على ظهرِ البحر لا تجرِي ولا تبرحُ، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ ؛ أي لدلاَلاتٍ على توحيد اللهِ تعالى، ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ ؛ على طاعتهِ، ﴿ شَكُورٍ ﴾ ؛ على نِعَمِهِ. وَقِيْلَ : لكلِّ صبَّارٍ في الشدَّة، شَكُورٍ في الرَّخاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ ؛ أي يُهلِكُهُنَّ بالريحِ العاصفِ، ويُغرِقُهُنَّ، يعني : أهلَهُنَّ ﴿ بِمَا كَسَبُوا ﴾ أي بما أشرَكُوا واقترَفُوا من الذنب، ﴿ وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ ؛ من ذنوبهم فيُنَجِّيهم من الغرقِ والهلاكِ. والمعنى :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ ﴾ وإنْ يشَأْ يَعْفُ عن كثيرٍ فتَجرِي السُّفنُ على ما يشاؤونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ ؛ يعني أن الكفارَ الذين يكذِّبون بالقرآنِ إذا صَارُوا إلى اللهِ بعدَ البعثِ عَلِمُوا أنْ لا مهربَ لَهم من عذاب الله تعالى.
فمَن قرأ (وَيَعْلَمُ) بالرفعِ فعلى الابتداءِ من غيرِ أن يكون مَعطُوفاً على (وَيَعْفُ) لأنَّ عِلمَ اللهِ تعالى مقطوعٌ به لا يجوزُ تعليقه بمشيئةٍ، ومَن قرأ بالنصب فهو نصب على إضمار (أنْ) معناهُ : ولَئنِ يَعْلَمَ الذين يُنازعُونَ في آياتِنا بالتكذيب أنه لا مَخْلَصَ لَهم في الآخرةِ مِن عذابهِ، كما لا مَخْلَصَ لأهلِ السَّفينة من البحرِ إلاَّ باللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي ما أُعطِيتُم من شيءٍ مما في أيدِيكم فهو متاعٌ يتمتَّعُ به إلى حين، ﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ؛ من الثواب أفضَلُ وأدوَمُ مما في أيدِيِكم، ثم بيَّن اللهُ لِمَنِ الثوابُ فقالَ :﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ ؛ قد تقدَّمَ الكلامُ في الكبائرِ والفواحشِ في سُورة النِّساء، قال مقاتلُ :(الْفَوَاحِشُ مَا يُقَامُ فِيْهَا الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا). وَقِيْلَ : الفواحشُ الزِّنَى وأنواعهُ، وكبائِرُ الإثمِ الشِّركُ، كذا قالَ ابنُ عبَّاس. وقرأ حمزةُ (كَبيرَ الإثْمِ) على الوِحدان وهو يريدُ الجمعَ.
وقولهُ تعالى ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ أي يَكْظِمُونَ الغَيْظَ ويَعْفُونَ عمَّن ظلَمَهم، ويطلبون بذلك ثوابَ الله وعَفوَهُ. وهذه الآيةُ نزَلت في أبي بكر رضي الله عنه حين أقبلَ رجلٌ من المشرِكينَ يَشتِمهُ ويقعُ فيه ولم يَرُدُّ عليه أبو بكرٍ رضي الله عنه.
قولهُ :﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ أي أجَابوهُ إلى ما دعاهم إليه من التوحيدِ والعبادة، ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أي فعالاً مِن المشورةِ، وهي الأمرُ الذي يُتَشَاوَرُ فيه، يقالُ : صارَ هذا الأمرُ شُورَى بين القومِ إذا تشَاوَرُوا فيه.
والمعنى أنَّهم يتَشاوَرُونَ فيما يبدُو لهم، ولا يَعجَلُونَ في الأمرِ. وقال الحسنُ :(وَاللهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلاَّ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى لأَفْضَلِ مَا بحَضْرَتِهِمْ). والمعنى : أنَّهم إذا حَدَثَ بهم أمرٌ لا نصَّ فيه من كتابٍ ولا سُنة ولا إجماعٍ ؛ شاوَرَ بعضُهم بعضاً لإظهار الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾، معناهُ : الذين إذا أصابَهم البغيُ والظُّلم والعدوان هم ينتَصِرون مِمَّن ظلَمَهم، قال عطاءُ :(يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّّذِينَ أخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ مَكَّةَ وَبَغُواْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ حَتَّى انْتَصَرُواْ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ).
قال ابنُ زيد :(جَعَلَ اللهُ الْمُوْمِنِينَ صِنْفَيْنِ : صِنْفٌ يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، فَبَدَأ بذِكْرِهِمْ فَقَالَ :﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾[الشورى : ٣٧]. وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُواْ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَمَنِ انْتَصَرَ فَأَخَذ حَقَّهُ وَلَمْ يُجَاوزْ فِي ذلِكَ مَا حَدَّ اللهُ فَهُوَ مُطِيعٌ للهِ، وَمَنْ أطَاعَ اللهَ فَهُوَ مَحْمُودٌ).
ثم اعْلَمْ : أن أوَّلَ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ الاقتصارَ بأخذِ الواجب من القصاصِ أو نحوه أفضلُ ؛ لأن اللهَ تعالى عطفَ هذه الآيةَ على الآيةِ التي ذكرَ فيها الاستجابةَ للهِ تعالى وإقامِ الصَّلاة.
وتكلَّمُوا في معنى ذلك، قالَ بعضُهم : أرادَ به الانتصارَ مِمَّن فارَقَهم في دِينهم، فأما مِن المسلمين فالانتصارُ مباحٌ، كما قال﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾[الشورى : ٤١] والعفوُ أفضل، كما قالَ تعالى﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾[البقرة : ٢٣٧]، وقال تعالى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾[الشورى : ٤٠].
وقال بعضُهم : إذا كان العفوُ يؤدِّي إلى الإخلالِ بشيءٍ من حُقوقِ الله مثل العفوِ عن الفاسقِ الذي لا يرتدعُ، والعفوِ عن الباغِي الذي لا يكون مُصِرّاً على قصدهِ، فالانتصارُ أولى من العفوِ، وإذا كان العفوُ لا يؤدِّي إلى إسقاطِ شيءٍ من حُقوقِ الله تعالى فالعفوُ أفضَلُ كما قالَ تعالى في آيةِ القصاص﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾[المائدة : ٤٥]. وفي بعضِ التَّفاسيرِ : إنما جُعِلَ الانتصارُ في أوَّلِ هذه الآياتِ أفضلَ لأنَّهم كانوا يَكرَهُونَ أن يُذلِّلُوا أنفُسَهم فَيَجْتَرِئُ عليهم الفُسَّاق.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ ؛ فيه بيانُ أنه لا تجوزُ الزيادةُ على السَّيئة الأُولى، وإنما سُميت الثانيةُ سيئة لأنَّها في مقابَلة الأُولى، والأُولى سيِّئة لفظاً ومعنىً، والثانيةُ سيئةٌ لفظاً لا معنى، وسُميت بهذا الاسمِ لأن مُجازاةَ السُّوء لا تكون إلاَّ بمثلهِ، قال مقاتلُ :(مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالدِّمَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي مَن عفَى عمَّن ظلمَهُ وأصلحَ بالعفوِ بينه وبين ظالِمه فأجرهُ على اللهِ تعالى، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ يعنِي مَن يبدأُ بالظُّلمَ. وفيه بيانُ أنَّ اللهَ تعالى إنما نَدَبَ المظلومَ إلى العفوِ لا لِمَيلهِ إلى الظالِمِ أو لِحُبهِ إياهُ، ولكن ليُعَرِّضَ المظلومَ لجزيلِ الثَّواب بالعفوِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ﴾ ؛ أي بعدَ ظُلمِ الظالِم إيَّاهُ، فالمصدرُ ها هنا مضافٌ إلى المفعولِ، كقولهِ :﴿ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ ﴾[فصلت : ٤٩] و﴿ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ ﴾[ص : ٢٤]، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ﴾ ؛ يعني الذين يَبدَأُونَ بالظُّلمِ، ﴿ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ؛ أي يعمَلون بالمعاصِي، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ﴾ ؛ يعني من صَبَر ولم ينتَصِرْ وغفرَ، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ ؛ الصبرُ والتَّجاوُز، ﴿ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :(مِنْ الأُمُور الَّتِي أمَرَ اللهُ بهَا)، وَالْمُرَادُ بذلِكَ إذا كَانَ الْجَانِي نَادِماً مُقْلِعاً. وَالْعَزْمُ على الشيءِ هو أن يَعْقِدَ قَلْبَهُ على أنَّهُ سيفعَلهُ، وكلُّها كانت رغبةَ الصابرِ في الثواب أكثرَ كان عزمهُ على التجاوُز أتَمَّ لتَيَقُّنهِ بالخلَفِ والثواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ ﴾ ؛ أي مَن يخذلْهُ الله بعنادهِ وجُحودهِ، ويُضِلَّهُ عن الهدَى، ﴿ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ ﴾ ؛ أي ما لَهُ من أحدٍ يَلِي هِدَايتَهُ بعدَ إضلالِ الله إيَّاهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : مَن يُهلِكْهُ اللهُ ويُضَيِّعْهُ فما لَهُ من ولِيٍّ يَلِي أمرَهُ ويدفعُ عنه العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَى الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي ترَى المشرِكين يا مُحَمَّدُ، ﴿ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾ ؛ في الآخرةِ يسأَلُون الرجعةَ إلى الدُّنيا، ﴿ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ﴾ ؛ أي على النار قبلَ أن يدخلُوها، ﴿ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ﴾ ؛ أي أذِلاَّءَ من الهوَانِ، وَقِيْلَ : سَاكنِين مُتواضِعين، ﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ ؛ أي يَنظُرون إلى النار سَارقَةِ الأَعيُن نظرَ الخائفِ ؛ أي مَن يخافهُ فَزَعاً منه. وَقِيْلَ : معنى ﴿ خَاشِعِينَ ﴾ مُطرِقِينَ من الْخَجَلِ والوَجَلِ، والطَّرْفُ هو العينُ.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قال :(يَنْظُرُونَ بقُلُوبهِمْ نَظَرَ الأَعْمَى، إذا سَمِعَ حِسّاً وَقَفَ مُسْتَمِعاً خَائِفاً مِنْهُ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ﴾[الإسراء : ٩٧]).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي عرَفَ المؤمنون خُسرانَ الكفَّار في ذلك اليومِ فقالوا :﴿ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بأن صَارُوا إلى النار، وأهلِيهم في الجنَّة بأَنْ صَارُوا لغَيرِهم. وقولهُ تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴾ ؛ أي دائمٍ لا ينقطعُ، ﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ﴾.
قولهُ :﴿ اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ ﴾ ؛ أي أجِيبُوا دَاعِيَ ربكم، يعني مُحَمَّداً ﷺ، ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ ؛ لا يقدرُ أحدٌ على دفعهِ وهو يومُ القيامةِ، ﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ ﴾ ؛ تلجَأُون إليه، ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ ؛ يُنكِرُ العذابَ ويدفعهُ عنكم، وَقِيْلَ : لا تَقدِرُونَ أن تُنكِرُوا ما توقَفُون عليه مِن ذنوبكم وما ينْزِلُ بكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ ؛ فإنْ أعرَضُوا عن إجَابَتِكَ يا مُحَمَّدُ فما أرسَلناكَ عليهم حَفيظاً تحفَظُ أعمالَهم وأقوالَهم، ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾ ؛ عن اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ﴾ ؛ أي غِنًى وصحَّةً، ﴿ فَرِحَ بِهَا ﴾ ؛ يعني الكافرُ، ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ ؛ أي قَحْطٌ، ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ ؛ من الكُفرِ، ﴿ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَا تقدَّمَ من نِعَمِ اللهِ عليه ويجحَدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي له التصرُّفُ فيهما بما يريدُ، ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً ﴾ ؛ مثلَ ما وَهَبَ للُوطٍ عليه السلام، ﴿ وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ ﴾ ؛ مثلَ ما وهبَ لإبراهيم عليه السلام لم يكُن له ولدٌ أُنثى، ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ ؛ أي يَجمَعُ لِمَن يشاءُ البنينَ والبناتِ، كما وهبَ لنبيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ فإنه كانَ له ثلاثةُ بَنين وأربعُ بناتٍ، ﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾ ؛ لا يولَدُ له مثلَ يحيَى وعيسَى عليه السلام، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بعواقب الأمُور وَأواخرِها وأوَائلِها، وفواتِحها وخواتِمها، وظواهِرها وبواطنِها، ﴿ قَدِيرٌ ﴾ ؛ على كلِّ شيء، لا يلحقهُ عَجزٌ ولا يعتريهِ منعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ ﴾ ؛ أي ما كان لآدمِيٍّ أن يُكلِّمَهُ اللهُ مواجهةً بغيرِ حجابٍ، إلاَّ أن يوحِي أن يقذفَ في قلبهِ ويُلهِمَ إما في المنامِ أو بالإلهام، كما أخبرَ اللهُ في قصَّة إبراهيم عليه السلام في قوله﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾[الصافات : ١٠٢].
وقولهُ تعالى :﴿ أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ كما كلَّمَ موسَى عليه السلام، كان يسمعُ كلامَهُ من حيث لا يراهُ، أو يُرسِلَ من الملائكةِ جبريلَ أو غيرَهُ فيُوحِي ذلك الرسولُ إلى الْمُرْسَلِ إليه بإذن الله ما يشاءُ الله.
قال الزجَّاجُ :(الْمَعْنَى : أنَّ كَلاَمَ اللهِ لِلْبَشَرِ إمَّا أنْ يَكُونَ بإلْهَامٍ أوْ يُكَلِّمَهُمْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، أوْ برِسَالَةِ مَلَكٍ إلَيْهِمْ). فمَن قرأ (أوْ يُرْسِلَ) بنصب اللام فمعناهُ : أو أنْ يُرسِلَ رسُولاً من الملائكةِ، كما أرسلَ جبريلَ عليه السلام، وتقديرهُ : وما كان لبشرٍ أن يُكلِّمَهُ اللهُ إلاَّ وَحْياً أن يُوحِي إليه أو يُكلِّمه من وراءِ حجابٍ أو يرسِلَ رسُولاً. ومَن قرأ بالرفعِ أرادَ : وهو يُرسِلُ فهو ابتداءٌ واستئناف، والوقفُ كافٍ على ما قبله.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي هو أعلَى مِن أن يدركَهُ الخلقُ بالأبصار الفانية بلا حجابٍ، الحكيمُ فيما يأمرُ وينهَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ ؛ أي كما أوْحَينَا إلى الرُّسُلِ من قبلِكَ أوحَينا إليك جبريلَ بالقُرآنِ الذي " فيه " حياةُ القلوب من الجهلِ. ومِن هذا سُمِّي القرآنُ رُوحاً ؛ لأنه سببُ حياةِ الدِّّين، كما أنَّ الروحَ سببُ حياةِ الجسد. وقال مقاتلُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ رُوحاً ﴾ يَعْنِي الْوَحْيَ) وَهُوَ الْقُرْآنُ ؛ لأَنَّهُ يُهْتَدَى بهِ، فَفِيهِ حَيَاةٌ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ. وقولهُ ﴿ مِّنْ أَمْرِنَا ﴾، وَقِيْلَ : إنَّ الروحَ ها هنا جبريلُ.
وقولهُ :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ﴾ ؛ أي ما كنتَ تدري قبلَ الوحيِ ما الكتابُ ولا ما الإيمانُ ؛ قيل : لأنه كان لا يعرِفُ القرآنَ قبلَ الوحي، ولا كان يعرفُ بشرائعِ الإيمان ومعالِمه، وهي كلُّها إيمانٌ، وهذا اختيارُ الإمامِ محمَّد بن جرير، واحتجَّ بقولهِ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾[البقرة : ١٤٣] يعني الصَّلاةَ سَمَّاها إيْماناً. وَقِيْلَ : معناهُ : ما كُنتَ تدري ما الإيمانُ قبلَ البلوغِ، يعني حين كان طِفْلاً في الْمَهْدِ. وقال الحسينُ بن الفضلِ :(هَذا مِنْ بَاب حَذْفِ الْمُضَافِ ؛ مَعْنَاهُ :" أيْ مَا كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتَابُ " ولا أهْلِ الإيْمَانِ " أيْ " مَنِ الَّذِي يُؤْمِنُ وَمَنِ الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ)، وَفِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَكُنِ النَّبيُّ ﷺ عَلَى الْكُفْرِ قَطُّ، وَإنَّهُ كَانَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ حِينَ وُلِدَ، وَكَذلِكَ جَمِيعُ أنْبيَاءِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ ﷺ يَعْبُدُ اللهَ قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً ﴾ ؛ يعني الوحيَ ودليلاً على الإيمانِ والتوحيد، ﴿ نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ ؛ إلى دينِ الحقِّ، ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي لتَدعُو الخلقَ كلَّهم بوَحينا إليك إلى طريقٍ قائمٍ يرضاهُ اللهُ وهو الإسلامُ. وقولهُ تعالى :﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ خُفِضَ على البدلِ، وقولهُ تعالى :﴿ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ﴾ ؛ أي إليه ترجعُ عواقِبُ الأمُور في الآخرةِ.
Icon