تفسير سورة الزخرف

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي تسع وثمانون آية وثمانمائة وثلاثة وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.
﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي له مقاليد الأمور كلها فهو يعطي من يشاء وإن طال سؤله ﴿ الرحمان ﴾ الذي نال بره جميع خلقه على حسب منازلهم عنده ﴿ الرحيم ﴾ الذي يقرب إليه من يشاء زلفى وإن وصل في البعد إلى الحد الأقصى.

وقد تقدم الكلام على قوله تعالى :﴿ حم ﴾.
والواو في قوله تعالى :﴿ والكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ المبين ﴾ أي : مظهر طريق الهدى وما يحتاج إليه من الشريعة عاطفة إن جعلت حم قسماً وإلا كانت للقسم.
وقوله تعالى :﴿ إنا جعلناه ﴾ أي : أوجدنا هذا الكتاب ﴿ قرآناً عربيا ﴾ أي : بلغة العرب جواب القسم وهذا عندهم من البلاغة وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحد كقول أبي تمام :
وثناياك إنها إغريض أي : طلع وبرد، وقيل : كل أبيض طري ولآل توم وبرق وميض والتوم جمع تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، والوميض مصدر ومض أي : لمع لمعاً خفيفاً.
تنبيه : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه ؛ الأول : أنها تدل على أن القرآن مجعول والمجعول هو المصنوع المخلوق، الثاني : أنه وصفه بكونه قرآناً وهو إنما سمي قرآناً لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعاً، الثالث : وصفه بكونه عربياً وإنما يكون عربياً لأن العرب اختصت بوضع ألفاظه في اصطلاحهم وذلك يدل على أنه مجعول والتقدير حم ورب الكتاب المبين، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم :«يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم ». وأجاب الرازي عن ذلك : بأن هذا الذي ذكرتموه حق لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة محدثة وذلك معلوم بالضرورة ومن الذي ينازعكم فيه ﴿ لعلكم ﴾ أي : يا أهل مكة ﴿ تعقلون ﴾ أي : لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من أن تفهموا معانيه وأحكامه وبديع وصفه ومعجز وضعه ونظامه فترجعوا عن كل ما أنتم عليه من المغالبة ولا بد أن يقع هذا التعقل فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق.
وقوله تعالى :﴿ وإنه ﴾ أي : القرآن عطف على إنا أي : مثبت ﴿ في أم الكتاب ﴾ أي : أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ، وقال قتادة : أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله، وقال ابن عباس : أول ما خلق الله تعالى القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال تعالى :﴿ بل هو قرآن مجيد ( ٢١ ) في لوح محفوظ ﴾ ( البروج : ٢٢ )، فإن قيل : ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب يستحيل عليه السهو والنسيان ؟.
أجيب : بأنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه، وقيل : المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ﴾ ( آل عمران : ٧ ) والمعنى : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها واتفقوا في الابتداء بالهمزة على الضم وقوله تعالى :﴿ لدينا ﴾ أي : عندنا بدل من الجار قبله ﴿ لعلي ﴾ أي : رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها ﴿ حكيم ﴾ أي : ذو حكمة بالغة أو محكم في أبواب البلاغة والفصاحة.
﴿ أفنضرب ﴾ أي : أنهملكم فنضرب أي : ننحي مجاوزين ﴿ عنكم الذكر ﴾ أي : القرآن وفي نصب قوله تعالى :﴿ صفحاً ﴾ أوجه ؛ أحدها : أنه مصدر من معنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه قال طرفة :
اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس
واضرب بفتح الباء أصله اضربن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت النون وحركت الباء بالفتح، والطارق ما يطرق بالليل والقونس : منبت شعر الناصية وهو عظمٌ نابت بين أذني الفرس، ثانيها : أنه منصوب على الحال أي : صافحين ثالثها أن يكون مفعولاً من أجله وقيل غير ذلك ﴿ أن ﴾ أي : أنفعل ذلك لأن ﴿ كنتم قوماً مسرفين ﴾ أي : مشركين لا نفعل ذلك وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق ومخرج المشكوك استجهالاً لهم وما قبلها دليل الجزاء، وقرأ الباقون بفتحها.
وذكر تعالى تأنيساً للنبي صلى الله عليه وسلم وتأسية وتعزية وتسلية قوله سبحانه وتعالى :﴿ وكم أرسلنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ من نبي في الأولين ﴾ أي : في الأمم الماضية.
ثم حكى حالهم الماضية بقوله تعالى :﴿ وما ﴾ أي : والحال أنه ما ﴿ يأتيهم ﴾ وأغرق في النفي بقوله تعالى :﴿ من نبي ﴾ أي : في أمة بعد أمة أو زمان بعد زمان ﴿ إلا كانوا ﴾ أي : خلقاً وطبعاً ﴿ به يستهزؤون ﴾ كما استهزأ قومك بك فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم لأن المصيبة إذا عمت خفت.
تنبيه : كم خبرية مفعول مقدم ومن نبي تمييز وفي الأولين متعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة لنبي.
﴿ فأهلكنا ﴾ أي : فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنا أهلكنا ﴿ أشد منهم ﴾ أي : من قريش الذين يستهزؤون بك ﴿ بطشاً ﴾ أي : قوة وكان الأصل الإضمار ولكنه أظهر الضمير صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه صلى الله عليه وسلم تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم ﴿ ومضى ﴾ أي : سبق في آيات الله ﴿ مثل ﴾ أي : صفة ﴿ الأولين ﴾ في الإهلاك وفي لك وعد للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم مثل ما جرى على الأولين.
واللام في قوله تعالى :﴿ ولئن ﴾ لام قسم ﴿ سألتهم ﴾ أي : سألت قومك ﴿ من خلق السماوات ﴾ على علوها وسعتها ﴿ والأرض ﴾ على كثرة عجائبها وعظمها وقوله تعالى :﴿ ليقولن ﴾ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين ﴿ خلقهن ﴾ الذي هو موصوف بأنه ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي لا يغالب ﴿ العليم ﴾ بما كان وما يكون.
تنبيه : هذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال فكان الجواب هنا الله كما غيره من الآيات، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية مكرراً للفعل تأكيداً لإغراقهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظم غلطهم.
ولما تم الإخبار عنهم ابتدأ الأدلة على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى :﴿ الذي جعل لكم ﴾ ولو كان ذلك قولهم لقالوا لنا :﴿ الأرض مهاداً ﴾ أي : فراشاً قارة ثابتة كالمهد للصبي ولو شاء لجعلها مزلة لا ينبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها واقفة ساكنة فإنها لو كانت متحركة ما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهد موضع راحة الصبي فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات، وقرأ الكوفيون بفتح الميم وسكون الهاء والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعد الهاء ﴿ وجعل لكم فيها سبلاً ﴾ أي : طرقاً تسلكونها وذلك أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ليحصل الانتفاع ولو شاء لجعلها بحيث لا يسكن في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ثم ذكر الغاية في ذلك فقال تعالى :﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي : لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار وغيرها فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة أو لتهتدوا إلى الحق في الدين.
﴿ والذي نزّل ﴾ أي : بحسب التدريج ولولا قدرته تعالى الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها ﴿ من السماء ﴾ أي : المحل العالي ﴿ ماء ﴾ أي : لزرعكم وثماركم وشرابكم بأنفسكم وأنعامكم ﴿ بقدر ﴾ أي : بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم ﴿ فأنشرنا ﴾ أي : أحيينا ﴿ به ﴾ أي : الماء ﴿ بلدة ﴾ أي : مكاناً يجتمع فيه للإقامة يعتنون بإحيائه يتعاونون على دوام إبقائه ﴿ ميتاً ﴾ أي : كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيا به، قال البقاعي : ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الإخراج العظيم الذي شاهدتموه في النبات ﴿ تخرجون ﴾ من قبوركم أحياء، والمعنى : أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة، ووجه التشبيه : أنه جعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة، وقيل : بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر قال ابن عادل : وهذا ضعيف لأن ظاهر لفظ الإشارة الإعادة فقط دون هذه الزيادة.
ثم شرع تعالى في إكمال ما تقتضيه الحال من الأوصاف فقال عز من قائل :﴿ والذي خلق الأزواج ﴾ أي : الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود ﴿ كلها ﴾ من النبات والحيوان وغير ذلك من سائر الأكوان لم يشاركه في شيء منها أحد وقال ابن عباس رضي الله عنه : الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقال بعض المحققين : كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بالعدم، فأما الحق تعالى : فهو الفرد المنزه عن الضد والند والمقابل والمعاضد، فلهذا قال تعالى :﴿ والذي خلق الأزواج كلها ﴾ فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية، قال الرازي : وأيضاً علماء الحساب يثبتون أن الفرد أفضل من الزوج من وجود الأول : أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وحدتين، فالزوج محتاج إلى الفرد والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج، الثاني : أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد لا يقبل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة فكان الفرد أفضل من الزوج، ثم ذكر وجوهاً أخر تدل على أن الفرد أفضل من الزوج وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكنات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقل بنفسه الغني عما سواه ﴿ وجعل لكم من الفلك ﴾ أي : السفن العظام في البحر ﴿ والأنعام ﴾ كالإبل في البر ﴿ ما تركبون ﴾ وحذف العائد لفهم المعنى تغليباً للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك، والعائد مجرور في الأول أي : فيه منصوب في الثاني.
وذكر الضمير وجمع الظهور في قوله تعالى :﴿ لتستووا على ظهوره ﴾ نظراً للفظ ما ومعناها : ولما أتم النعمة بخلق ما تدعو إليه الحاجة وجعله على وجه دال على ما له من الصفات، ذكر ما ينبغي أن تكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم، فقال دالاً على عظم قدر النعمة وبعد غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي ﴿ ثم تذكروا ﴾ أي : بقلوبكم وصرف القول إلى وجه التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال تعالى :﴿ نعمة ربكم ﴾ أي : الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونه من غيرها ﴿ إذا استويتم عليه ﴾ أي : على ما تركبونه وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي : جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيحمله ذلك على الإنقياد لطاعة الله تعالى وعلى الإشتغال بالشكر لنعم الله تعالى التي لا نهاية لها.
ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال عز من قائل :﴿ وتقولوا ﴾ أي : بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان ﴿ سبحان الذي سخر ﴾ أي : بعلمه الكامل وقدرته التامة ﴿ لنا هذا ﴾ أي : الذي ركبناه سفينة كانت أو دابة ﴿ وما ﴾ أي : والحال أنا ما ﴿ كنا له مقرنين ﴾ أي : مطيقين والمقرن المطيق للشيء الضابط له من أقرنه أي : أطاقه قال الواحدي : كان اشتقاقه من قولك صرت له قرناً ومعنى قرن فلان أي : مثله في الشدة، وقيل : ضابطين وقال أبو عبيدة : قرن لفلان أي : ضابط له والقرن الحبل، ومعنى الآية : ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نطيقهما فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته و حكمته.
روى الزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال :«بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ». وروى أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن علي رضي الله عنه : أنه وضع رجله في الركاب وقال :«فقال بسم الله فلما استوى على الدابة، قال : الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذه الآية، ثم حمد ثلاثاً وكبر ثلاثاً ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل : مم تضحك يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ما فعلت فقلنا : ما يضحكك يا رسول الله قال : إن ربك يعجب من عبده إذا قال العبد لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ».
وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابة فلما استقر عليها كبر ثلاثاً وحمد الله تعالى ثلاثاً وسبح الله ثلاثاً وهلل الله تعالى واحدة وضحك، ثم أقبل عليه فقال : ما من امرئ مسلم ركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك ».
ولما كان راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً لأن الدابة قد يحصل لها ما يوجب هلاك الراكب وكذا السفينة قد تنكسر فوجب على الراكب أن يذكر أمر الموت ويقول :﴿ وإنا إلى ربنا ﴾ المحسن إلينا بالأقدار على هذه التنقلات على هذه المراكب لا إلى غيره ﴿ لمنقلبون ﴾ أي : لصائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي وأكد لأجل إنكارهم البعث.
ولما قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءا كما قال تعالى :﴿ وجعلوا له من عباده ﴾ الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم ﴿ جزءًا ﴾ أي : ولداً هو لحصرهم في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل ولد فهو جزء من والده قال صلى الله عليه وسلم :«فاطمة بضعة مني »، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذلك لقولهم : الملائكة بنات الله فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم، وقرأ شعبة : بضم الزاي والباقون بسكونها وهما لغتان وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي.
ولما كان هذا في غاية الغلط من الكفر قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون كفراً ﴿ إن الإنسان ﴾ أي : هذا النوع الذي هو بعضه ﴿ لكفور مبين ﴾ أي : بين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر.
وقوله تعالى :﴿ أم اتخذ ﴾ أي : أعالج هو نفسه فأخذ هو بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم ﴿ مما يخلق ﴾ أي : يجدد إبداعه في كل وقت ﴿ بنات ﴾ استفهام توبيخ وإنكار أي : فلم يقدر بعد التكلف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزأين إليكم ثم عطف على قوله تعالى اتخذ ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار ﴿ وأصفاكم ﴾ وهو السيد الكامل وأنتم عبيده أي : خصكم ﴿ بالبنين ﴾ اللازم من قولكم السابق.
ثم بين كون البنات أبغض إليهم بقوله تعالى :﴿ وإذا ﴾ أي : جعلوا ذلك والحال أنه إذا ﴿ بشر ﴾ أي : من أي : مبشر كان ﴿ أحدهم ﴾ أي : أحد هؤلاء البعداء البغضاء ﴿ بما ضرب ﴾ أي : جعل ﴿ للرحمن ﴾ الذي لا نعمة على شيء من الخالق ألا وهي منه ﴿ مثلاً ﴾ أي : شبهاً بنسبة البنات إليه لأن الولد يشبه الوالد، والمعنى إذا أخبر أحدهم بالبنت تولد له ﴿ ظل ﴾ أي : صار ﴿ وجهه مسوداً ﴾ أي : شديد السواد لما يعتريه من الكآبة ﴿ وهو كظيم ﴾ أي : ممتلئ غماً فكيف تنسب البنات إليه تعالى، هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به.
وقوله تعالى :﴿ أومن ينشأ ﴾ أي : على ما جرت به عوائدكم ﴿ في الحلية ﴾ يجوز في مَنْ وجهان ؛ أحدهما : أن تكون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر أي : أو تجعلون من ينشأ في الحلية، والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ جزء ولد أو جعلوه له جزء، والمعنى : أن التي تتزين في الحلية تكون ناقصة الذات لأنه لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أي : يربي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين، وإذا وقف همزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً تسهيلها والروم والإشمام، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر بقوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه وقدم في إفادة الاهتمام قوله تعالى :﴿ في الخصام ﴾ أي : المجادلة إذا احتج إليها فيها ﴿ غير مبين ﴾ أي : مظهر حجته لضعفه عنها بالأنوثة، قال قتادة : في هذه الآية قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
ثم بين تعالى جرأتهم على ما لا ينبغي لعاقل أن يتفوه بقوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم ﴾ متصفون بأشرف الأوصاف وهو أنهم ﴿ عباد الرحمان ﴾ أي : العام النعمة الذين ما عصوه طرفة عين ﴿ إناثاً ﴾ وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وخلقاً ذاتاً وصفة فهذا كفر ثالث كالكافرين قبله، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : بكسر العين وبعدها نون ساكنة ونصب الدال، والباقون بعد العين بباء موحدة مفتوحة وبعدها ألف ورفع الدال ثم قال تعالى تهكماً بهؤلاء القائلين ذلك وتوبيخاً لهم وإنكاراً عليهم ﴿ أشهدوا ﴾ أي : أحضروا ﴿ خلقهم ﴾ أي : خلقي إياهم فشاهدوهم إناثاً فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة كالواو وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفاً ولم يدخل ورش والباقون بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين.
﴿ ستكتب ﴾ بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به ﴿ شهادتهم ﴾ أي : قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة فهو قول ركيك سخيف ضعيف كما أشار إليه التأنيث ﴿ ويسألون ﴾ عنها عند الرجوع إلينا، قال الكلبي ومقاتل :«لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :«ما يدريكم أنهم إناث ؟ قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال تعالى ﴿ ستكتب شهادتهم ويسألون ﴾ عنها في الآخرة هذا يدل على أن القول بغير دليل منكر وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم قال المحققون : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه ؛ أولها : إثبات الولد ثانيها : أن ذلك الولد بنت ثالثها : الحكم على الملائكة بالأنوثة.
تنبيه : قال البقاعي : يجوز أن يكون في السين استعطاف التوبة قبل كتابة ما قالوا ولا علم لهم به فإنه قد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح الله أو يستغفر ».
ثم نبه سبحانه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم فقال تعالى معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه :﴿ وقالوا ﴾ أي : بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله تعالى ﴿ لو شاء الرحمان ﴾ أي : الذي له عموم الرحمة ﴿ ما عبدناهم ﴾ أي : الملائكة فعبادتنا إياهم بمشيئته فهو راض بها ولولا أنه راض بها لعجل لنا العقوبة، فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على الرضا بها وذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض، مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره ولذلك جهلهم فقال تعالى :﴿ ما لهم بذلك ﴾ أي : المقول من الرضا بعبادتها ﴿ من علم إن ﴾ أي :﴿ هم إلا يخرصون ﴾ أي : يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضا الله تعالى بكفرهم فيترتب عليهم العقاب.
ولما بين تعالى بطلان قولهم بالعقل أتبعه بطلان قولهم بالنقل فقال تعالى :﴿ أم آتيناهم ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ كتاباً ﴾ أي : جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه ﴿ من قبله ﴾ أي : القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلنا الملائكة إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به ﴿ فهم به ﴾ أي : فتسبب عن هذا الإتيان أنهم به وحده ﴿ مستمسكون ﴾ أي : موجدون الاستمساك به فيأخذون بما فيه، لم يقع ذلك.
ولما بين تعالى أنه لا دليل على صحة قولهم البتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه لا حامل لهم يحملهم عليه إلا التقليد بقوله تعالى :﴿ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا ﴾ أي : وهم أرجح منا عقولاً وأصح منا إفهاماً ﴿ على أمة ﴾ أي : طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم ثم أكدوا قطعاً الرجاء المخالف عن لفتهم عن ذلك فقالوا ﴿ وإنا على آثارهم ﴾ أي : خاصة لا غيرها ﴿ مهتدون ﴾ أي : متبعون فلم نأت بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع واقتفاء الآثار فلا اعتراض علينا بوجه هذا قولهم في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أيَّ مخالفة ما هذا إلا قصور نظر ومحض عناد.
ثم أخبر تعالى أن غيرهم قال هذه المقالة بقوله سبحانه :﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل هذه المقالة المتناهية في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم السلام ثم فسر ذلك بقوله تعالى :﴿ ما أرسلنا ﴾ أي : مع ما لنا من العظمة ﴿ من قبلك ﴾ أي : في الأزمنة السالفة ﴿ في قرية ﴾ وأغرق في النفي بقوله تعالى :﴿ من نذير ﴾ وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء ﴿ إلا قال مترفوها ﴾ أي : أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف يكون خاصاً بالمترف وذلك موجب لقلة الهم وللراحة والبطالة ﴿ إنا وجدنا آباءنا ﴾ أي : وهم أعرف منا بالأمور ﴿ على أمة ﴾ أي : أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم ثم أكدوا كما أكد هؤلاء فقالوا :﴿ وإنا على آثارهم ﴾ أي : لا على غيرها ﴿ مقتدون ﴾ أي : راكبون سنن طريقتهم لازمون لها ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ قل ﴾ أي : يا أفضل الخلق لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿ أوَلو ﴾ أي : أتبغون ذلك ولو ﴿ جئتكم بأهدى ﴾ أي : بأمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة ﴿ مما وجدتم ﴾ أي : أيها المقتدون بالآباء ﴿ عليه آباءكم ﴾ أي : كما تضمن قولكم أنكم تقتفون في اتباعكم بالآثار في أعظم الأشياء وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس وأنتم تخالفونهم في أمر نفس الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى في التصرف فيها من طريقتهم ولو أمراً يسيراً، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل فيا له من نظر ما أقصره ومتجر ما أخسره، وقرأ ابن عامر وحفص : قال بصيغة الماضي أي : قال المنذر أو الرسول وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والباقون : قل بصيغة الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوه بأن ﴿ قالوا ﴾ مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل ﴿ إنا بما أرسلتم به ﴾ أي : أنت ومن قبلك ﴿ كافرون ﴾ أي : ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعكم فيه مخلوق وإن كان أهدى مما كان عليه آباؤنا.
فعند هذا لم يبق لهم عذر فلهذا قال تعالى :﴿ فانتقمنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة التي استحقوا بها ﴿ منهم ﴾ فأهلكناهم بعذاب الاستئصال ثم عظم أمر النقمة بالأمر بالنظر فيها في قوله :﴿ فانظر ﴾ يا أفضل الرسل ﴿ كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ المكذبين ﴾ لرسلنا فإنهم أهلكوا أجمعون ونجا المؤمنون أجمعون فليحذر من رد رسالتك من مثل ذلك، وهذا تهديد عظيم لكفار قريش.
ثم بين تعالى وجهاً آخر يدل على فساد التقليد بقوله تعالى :﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر يا أفضل الخلق إذ ﴿ قال إبراهيم ﴾ أي : الذي هو أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم ﴿ لأبيه ﴾ من غير أن يقلده كما قلدتم أنتم آباءكم ﴿ وقومه ﴾ الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض ﴿ إنني براء ﴾ أي : بريء ﴿ مما تعبدون ﴾ أي : في الحال والاستقبال.
﴿ إلا الذي فطرني ﴾ أي : خلقني ﴿ فإنه سيهدين ﴾ أي : يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
تنبيه : في هذا الاستثناء أوجه ؛ أحدها : أنه استثناء منقطع لأنهم كانوا عبدة أصنام فقط، ثانيها : أنه متصل لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره، ثالثها : أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون ما نكرة موصوفة قاله الزمخشري. قال أبو حيان : وإنما أخرجها في هذا الوجه عن كونها موصولة لأنه يرى أن إلا بمعنى غير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف، وعلى هذا يجوز أن تكون ما موصولة وإلا بمعنى غير صفة لها.
﴿ وجعلها ﴾ أي : إبراهيم ﴿ كلمة ﴾ أي : التوحيد المفهومة من قوله إنني إلى سيهدين ﴿ باقية في عقبه ﴾ أي : ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى لأنه عليه السلام مجاب الدعوة وقال :﴿ ومن ذريتي ﴾ ( إبراهيم : ٤٠ ) ﴿ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم ﴾ ( البقرة : ١٢٩ ) ﴿ لعلهم ﴾ أي : أهل مكة ﴿ يرجعون ﴾ عما هم عليه إلى دين أبيهم فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه.
قال الله تعالى :﴿ بل متّعت هؤلاء ﴾ أي : الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين ﴿ وآياتهم ﴾ أي : مددت لهم في الأعمار مع إسباغ النعم وسلامة الأبدان من البلايا والنقم ولم أعاجلهم بالعقوبة فأبطرتهم نعمتي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل ﴿ حتى جاءهم الحق ﴾ أي : القرآن ﴿ ورسول مبين ﴾ أي : مظهر لهم الأحكام الشرعية وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ولما جاءهم الحق ﴾ أي : الكامل في حقيقته بمطابقة الواقع إياها من غير إلباس ولا اشتباه وهو القرآن العظيم ﴿ قالوا ﴾ مكابرة وعناداً وحسداً من غير وقفة ولا تأمل ﴿ هذا ﴾ مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع فلا شيء أثبت منه وهو القرآن الكريم ﴿ سحر ﴾ أي : خيال لا حقيقة له ﴿ وإنا به كافرون ﴾ أي : عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع.
ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من كفرهم بقوله تعالى :﴿ وقالوا لولا ﴾ أي : هلا ﴿ نزل ﴾ يعني من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا :﴿ هذا القرآن ﴾ أي : الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير ﴿ على رجل من القريتين ﴾ أي : مكة والطائف ﴿ عظيم ﴾ لأنهم قالوا : منصب الرسالة منصب شريف لا يليق إلا برجل شريف وصدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة، وهي : أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثير المال والجاه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فلا تليق رسالة الله تعالى به، وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال يعنون الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود بالطائف، قال قتادة، وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة من مكة وعبد يا ليل الثقفي من الطائف، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ من القريتين ﴾ فيه حذف مضاف قدره بعضهم من رجلي القريتين، وقيل : من إحدى القريتين، وقيل : المراد عروة بن مسعود الثقفي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما.
ثم رد الله تعالى عليهم إعراضهم منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً ولا موقوفاً عليهم بل إلى الله تعالى وحده والله أعلم حيث يجعل رسالاته بقوله تعالى :﴿ أهم ﴾ أي : أهؤلاء الجهلة العجزة ﴿ يقسمون ﴾ أي : على التجدد والاستمرار ﴿ رحمة ربك ﴾ أي : إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه أنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم لإنقاذهم من الضلال وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم، ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً، ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر لا يحب شهواتهم ولا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك كما قال تعالى :﴿ نحن قسمنا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ بينهم ﴾ أي : في الأمر الزائل الذي يعمهم ويجب تخصيص كل منهم لما لديه ﴿ معيشتهم ﴾ أي : التي يعدونها رحمة ويقصرون عليهم النعمة ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ التي هي أدنى الأشياء عندنا وأشار بتأنيثها إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتفانوا على ذلك فلم يبق منهم أحد، فكيف يدخل في الوهم أن نجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود وبها سعادة الدارين ﴿ ورفعنا ﴾ أي : بما لنا من نفوذ الأمر ﴿ بعضهم ﴾ وإن كان ضعيف البدن قليل العقل ﴿ فوق بعض ﴾ وإن كان قوياً غزير العقل ﴿ درجات ﴾ في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظم حال الوجود، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ففاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم، ليقتسموا الصنائع والمعارف ويكون كل ميسراً لما خلق له وجانحاً لما هُيئ لتعاطيه فلم يقدر أحد من دني أو غني أن يعدو قدره ويرتقي فوق منزلته.
ثم علل ذلك بما ثمرته عمارة الأرض بقوله تعالى :﴿ ليتخذ ﴾ أي : بغاية جهده ﴿ بعضهم بعضاً سخرياً ﴾ أي : ليستخدم بعضهم بعضاً فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم ؛ لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء، فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا.
قال ابن الجوزي : فإذا كانت الأرزاق بقدر الله تعالى لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة وهذا هو المراد بقوله تعالى : صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى الوصف بالإحسان إظهار لشرف النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ ورحمة ربك ﴾ أي : المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمي غيرها رحمة ﴿ خير مما يجمعون ﴾ من حطام الدنيا الفاني فإنه وإن تأتَّى فيه خير في استعماله في وجوه البر بشرطه فهو بالنسبة إلى النبوة وما قاربها مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش، وقيل : المراد بالرحمة : الجنة، وجرى عليه البغوي وتبعه الجلال المحلي وابن عادل، وجرى على الأول البيضاوي وتبعه البقاعي وهو الظاهر من الآية الكريمة.
فائدة : اتفق القراء هنا على قراءة سخريا بضم السين.
ثم بين تعالى حقارة الدنيا وخستها التي يفتخرون بها بقوله تعالى :﴿ ولولا أن يكون الناس ﴾ أي : أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم ﴿ أمة واحدة ﴾ أي : في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارهم وهممهم إلا من عصمه الله تعالى ﴿ لجعلنا ﴾ أي : في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضاً لها ﴿ لمن يكفر ﴾ وقوله تعالى :﴿ بالرحمان ﴾ أي : العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها إلا بعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها الله تعالى من الرفق بالمؤمنين وقوله تعالى :﴿ لبيوتهم ﴾ بدل من لمن بدل اشتمال بإعادة العامل واللامان للاختصاص ﴿ سقفاً من فضة ﴾ قال البقاعي : كأنه خصها أي : الفضة لإفادتها النور، وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء الموحدة والباقون بكسرها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسقفاً بفتح السين وسكون القاف على إرادة الجنس، والباقون بضمها جمعاً وقوله تعالى :﴿ ومعارج ﴾ جمع معرج وهو السلم أي : من فضة أيضاً وسميت المصاعد من الدرج معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج ﴿ عليها ﴾ خاصة لتيسر أمرها لهم ﴿ يظهرون ﴾ أي : يعلون ويرتقون على ظهرها إلى المعالي.
﴿ ولبيوتهم أبواباً ﴾ أي : من فضة أيضاً وقوله تعالى ﴿ وسرراً ﴾ أي : من فضة جمع سرير ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله تعالى :﴿ عليها يتكئون ﴾.
ودل على ما هو أعظم من الفضة بقوله تعالى :﴿ وزخرفاً ﴾ أي : ذهباً وزينة كاملة عامة.
تنبيه : زخرفاً يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي : وجعلنا لهم زخرفاً، وجوز الزمخشري : أن ينتصب عطفاً على محل من فضة، كأنه قيل : سقفاً من فضة وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي : بعضها كذا وبعضها كذا، وقيل : الزخرف هو الذهب لقوله تعالى :﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾ ( الإسراء : ٩٣ ) فيكون المعنى ويجعل لهم مع ذلك ذهباً كثيراً، وقيل : الزخرف الزينة لقوله تعالى :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزّينت ﴾ ( يونس : ٢٤ ) فيكون المعنى نعطيهم زينة عظيمة في كل باب ﴿ وإن كل ذلك ﴾ أي : البعيد من الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا ﴿ لما متاع الحياة الدنيا ﴾ أي : التي اسمها دال على دناءتها يتمتع به فيها ثم يزول، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : بتشديد الميم بعد اللام بمعنى إلا حكى سيبويه :( أنشدتك الله لما فعلت ) بمعنى إلا، وتكون أن نافية أي : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وقرأ الباقون : بالتخفيف فتكون إن هي المخففة من الثقيلة أي : وإنه كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.
﴿ والآخرة ﴾ أي : الجنة التي لا دار تعدلها بل لا دار في الحقيقة إلا هي ﴿ عند ربك ﴾ أي : المحسن إليك بأن جعلك أفضل الخلق ﴿ للمتقين ﴾ أي : الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم من الكفار، ولهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صلى الله عليه وسلم :«ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة » وقال صلى الله عليه وسلم :«لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر قطرة ماء ».
وروى المستورد بن شداد قال :«كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترى هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا : من هوانها ألقوها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ». وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا أحب الله عبده حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ».
قال البقاعي : ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة من زخرفة الأبنية وتذهيب السقوف وغيرها من مبادي الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول : الله، أو في زمن الدجال لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنه لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك سبحانه.
فإن قيل : لم بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلِمَ لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير سبباً لاجتماع الناس على الإسلام ؟ أجيب : بأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا وهذا الإيمان إيمان المنافقين فاقتضت الحكمة أن لا يجعل ذلك للمسلمين حتى أن كل من دخل في الإسلام يدخل لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى.
﴿ ومن يعش ﴾ أي : يعرض ﴿ عن ذكر الرحمان ﴾ أي : الذي عمت رحمته فلا رحمة على أحد إلا وهي منه تعالى كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حتى أبطرهم ذلك وهو شيء يسير جداً، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشا بصره وهو من ساء بصره بالليل والنهار ﴿ نقيض ﴾ أي : نسبب ﴿ له ﴾ عقاباً على إعراضه عن ذكر الله تعالى ﴿ شيطاناً ﴾ أي : شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً عليه محيطاً به مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل ﴿ فهو له قرين ﴾ أي : مشدود به لا يفارقه فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله تعالى، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى كما أن من يستبصر بذكر الرحمان يسخر له ملك فهو له ولي يثيره إلى كل خير، فذكر الله تعالى حصن حصين من الشيطان الرجيم متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث ».
﴿ وأنهم ﴾ أي : القرناء ﴿ ليصدونهم ﴾ أي : العاشين ﴿ عن السبيل ﴾ أي : الطريق الذي من حاد عنه هلك لأنه لا طريق له في الحقيقة سواه ﴿ ويحسبون ﴾ أي : العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ ﴿ أنهم مهتدون ﴾ أي : غريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
تنبيه : ذكر الإنسان والشيطان بلفظ الجمع لأن قوله تعالى :﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطاناً ﴾ فهو له قرين يفيد : الجمع وإن كان اللفظ على الواحد، قال أبو حيان : الظاهر أن ضميري النصب في وأنهم ليصدونهم : عائدان على مَنْ من حيث معناها وأما لفظها أولاً فأفراد في له وله ثم راعى معناها فجمع في قوله تعالى :﴿ وإنهم ليصدونهم ﴾ والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به الجنس ولأن كل كافر معه قرينه، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : بفتح السين والباقون بكسرها.
وقرأ :﴿ حتى إذا جاءنا ﴾ نافع وابن عامر وأبو بكر : بمد الهمزة بعد الجيم على التثنية أي : جاء العاشي والشيطان، والباقون بغير مد إفراد أي : جاء العاشي ﴿ قال ﴾ أي : العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل ﴿ يا ليت بيني وبينك ﴾ أي : أيها القرين ﴿ بعد المشرقين ﴾ أي : ما بين المشرق والمغرب على التغليب قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام ﴿ فبئس القرين ﴾ والمخصوص بالذم محذوف أي : أنت لأنك الذي قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض قال أبو سعيد الخدري :«إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار ».
وفي فاعل قوله تعالى :﴿ ولن ينفعكم اليوم ﴾ قولان أحدهما : أنه ملفوظ به وهو أنكم وما في حيزها والتقدير : ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب بالتأسي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصاب بمثله ومنه قول الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي *** على موتاهم لقتلت نفسي
*ما يبكون مثل أخي ولكن *** أعزي النفس عنه بالتأسي
والثاني : أنه مضمر فقدره بعضهم ضمير التمني المدلول عليه بقوله :﴿ يا ليت بيني ﴾ أي : لن ينفعكم تمنيكم البعد وبعضهم اجتماعكم وبعضهم ظلمكم وجحدكم، وعبارة من عبر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ليس هذا منها والمعنى : ولن ينفعكم اليوم في الآخرة ﴿ إذ ظلمتم ﴾ أي : أشركتم في الدنيا ﴿ أنكم في العذاب مشتركون ﴾ أي : لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب كما كنتم تشتركون في الدنيا.
تنبيه : استشكل المعربون هذه الآية ووجهه أن قوله تعالى :﴿ اليوم ﴾ ظرف حالي وإذ ظرف ماضي وينفعكم مستقبل لاقترانه بلن التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظرفين وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع إلا بعد في ظرف حالي وماض هذا مما لا يجوز ؟ أجيب : عن أعماله في الظرف الحالي على سبيل قربه منه لأن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك قال تعالى :﴿ فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً ﴾ ( الجن : ٩ ) وقال الشاعر :
سأسعى الآن إذ بلغت أباها *** وهو إقناعي وإلا فالمستقبل
يستحيل وقوعه في الحال عقلاً وأما قوله تعالى :﴿ إذ ﴾ ففيها للناس أوجه كثيرة قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مراراً كثيرة فآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه، فإذ بدل من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وإلى هذا نحا الزمخشري قال : وإذ بدل من اليوم، وحمل الزمخشري على معنى إذ تبين وصح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تبين أني ولد كريمة.
ولما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم بالصمم والعمى بقوله تعالى :﴿ أفأنت ﴾ أي : وحدك من غير إرادة الله تعالى ﴿ تسمع الصم ﴾ وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء ﴿ أو تهدي العمي ﴾ الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية الخسارة روي أنه صلى الله عليه وسلم :«كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وعناداً في الغي فنزلت ». أي : هم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي وقوله تعالى ﴿ ومن كان ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ في ضلال مبين ﴾ عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى بين في نفسه أنه ضلال وأنه محيط بالضال، يظهر لكل أحد ذلك فهو بحيث لا يخفى على أحد فالمعنى : ليس شيء من ذلك إليك بل هو إلى الله تعالى القادر على كل شيء وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ فلا تتعب نفسك.
﴿ فإما نذهبن بك ﴾ أي : من بين أظهرهم بموت أو غيره وما مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة ﴿ فإنا منهم ﴾ أي : من الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لم تنفعهم مشاعرهم ﴿ منتقمون ﴾ أي : بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم.
﴿ أو نرينك ﴾ وأنت بينهم ﴿ الذي وعدناهم ﴾ أي : من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه ﴿ فإنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة التي أنت أعلم الخلق بها ﴿ عليهم ﴾ أي : على عقابهم ﴿ مقتدرون ﴾ على كلا التقديرين، وأكد بأن لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال.
﴿ فاستمسك ﴾ أي : اطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال من أحوال الإمساك ﴿ بالذي أوحى إليك ﴾ من حين نبوتك إلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره ﴿ إنك على صراط ﴾ أي : طريق واسع واضح جداً ﴿ مستقيم ﴾ أي : موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج.
﴿ وإنه ﴾ أي : الذي أوحى إليك في الدين والدنيا ﴿ لذكر ﴾ أي : لشرف عظيم جداً وموعظة وبيان ﴿ لك ولقومك ﴾ قريش خصوصاً لنزوله بلغتهم والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم :«كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال : لقريش ». وروى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ». وروى معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ». وقال مجاهد : القوم هم العرب فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل : ذكر لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك من المؤمنين بما هداهم الله تعالى به ﴿ وسوف تسألون ﴾ أي : عن القرآن يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقال الكلبي : تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل، وقال مقاتل : يقال لمن كذب به لم كذبت ؟ فيسأل سؤال توبيخ وقيل : يسألون هل عملتم بما دل عليه القرآن من التكاليف.
وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى بعث له آدم وولده من المرسلين عليهم السلام فأذن جبريل عليه السلام ثم أقام وقال : يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل عليه السلام :﴿ واسأل من أرسلنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمان ﴾ أي : غيره ﴿ آلهة يعبدون ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أسأل قد اكتفيت ولست شاكاً فيه. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وأبي زيد : قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم فلم يسأل ولم يشك. وقال أكثر المفسرين : سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم السلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول مجاهد وقتادة والسدي، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم على واحد من القولين لأن المراد من الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول من الله تعالى ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى.
ولما طعن كفار قريش في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبكونه فقيراً معدماً عديم الجاه والمال بين الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد عليه فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : بما ظهر من عظمتنا ﴿ موسى ﴾ أي : الذي كان يرى فرعون أنه أحق الناس بعظمته لأنه رباه وكفله ﴿ بآياتنا ﴾ التي قهر بها عظماء الخلق وجبابرتهم فدل ذلك على صحة دعواه ﴿ إلى فرعون ﴾ الذي ادعى أنه الرب الأعلى ﴿ وملائه ﴾ أي : القبط ﴿ فقال ﴾ أي : بسبب إرسالنا ﴿ إني رسول رب العالمين ﴾ أي : مالكهم ومدبرهم ومربيهم فقالوا له : ائت بآية فأتى بها.
﴿ فلما جاءهم بآياتنا ﴾ أي : بآيتي اليد والعصا اللتين شاهدوا فيهما عظمتنا ودلهم ذلك على قدرتنا على جميع الآيات ﴿ إذا هم ﴾ أي : بأجمعهم ﴿ منها يضحكون ﴾ أي : فاجؤوا المجيء بها من غير توقف ولا تأمل بالضحك سخرية واستهزاء، قيل : إنه لما ألقى عصاه صارت ثعباناً فلما أخذه وصار عصا كما كانت ضحكوا.
ولما أعرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا :﴿ وما ﴾ أي : والحال أنا ما ﴿ نريهم ﴾ على ما لنا من الجلال والعلو وأغرق في النفي بإثبات الجار فقال تعالى :﴿ من آية ﴾ أي : من آيات العذاب كالطوفان وهو ماء دخل بيوتهم ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيام والجراد وغير ذلك ﴿ إلا هي أكبر ﴾ أي : في الرتبة ﴿ من أختها ﴾ أي : التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها ﴿ وأخذناهم ﴾ أي : أخذ قهر وغلبة ﴿ بالعذاب ﴾ أي : أنواع العذاب كالدم والقمل والضفادع والبرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار وموت الإبكار فكانت آيات على صدق موسى عليه السلام بما لها من الإعجاز، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي : ليكون حالهم عندنا إذا نظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه.
﴿ و ﴾ لما عاينوا العذاب ﴿ قالوا ﴾ لموسى أي : قال فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له :﴿ يا أيها الساحر ﴾ فنادوه بذلك في تلك الحالة لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً ﴿ ادع لنا ربك ﴾ أي : المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ عهد عندك ﴾ أي : من كشف العذاب عنا إن آمنا ﴿ إننا لمهتدون ﴾ أي : مؤمنون.
﴿ فلما كشفنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال ﴿ عنهم العذاب ﴾ أي : الذي أنزلناه بهم ﴿ إذا هم ينكثون ﴾ أي : فاجؤوا الكشف بتجدد النكث بإخلاف بعد إخلاف.
﴿ ونادى فرعون ﴾ أي : زيادة على نكثه ﴿ في قومه ﴾ أي : الذين هم في غاية القيام معه وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد والقريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع فيرجعون.
ولما كان كأنه قيل : بم نادى أجاب بقوله :﴿ قال ﴾ أي : خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوه من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ القلوب ﴿ يا قوم ﴾ مستعطفاً بإعلامهم أنهم لحمة واحدة ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذو قوة على ما يحاوله مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله :﴿ أليس لي ﴾ أي : وحدي ﴿ ملك مصر ﴾ أي : كله فلا اعتراض علي من بني إسرائيل ولا غيرهم ﴿ وهذه ﴾ أي : والحال أن هذه ﴿ الأنهار ﴾ أي : أنهار النيل قال البيضاوي : ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، وقال البقاعي : كأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ونحو ذلك من أموره فقال :﴿ تجري من تحتي ﴾ أي : تحت قصري أو أمري أو بين يدي في جناني وزاد في التقرير بقوله :﴿ أفلا تبصرون ﴾ أي : هذا الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه.
﴿ أم أنا خير ﴾ أي : مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء ﴿ من هذا ﴾ وكنى بإشارة القريب عن تحقيره ثم وصفه بما يبين مراده بقوله :﴿ الذي هو مهين ﴾ أي : ضعيف حقير ذليل لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوى يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً ﴿ ولا يكاد يبين ﴾ أي : لا يقرب من أن يعرب عن معنى من المعاني لما في لسانه من الحبسة، فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان ليستجلب القلوب وينعش الألباب فتكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله فقد كان موسى عليه السلام أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله تعالى الذي أرسله له وأمره إياه ولكن اللعين أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لاتباعه لأن موسى عليه السلام ما دعا بإزالة جميع حبسته بل بعقدة منها فإنه قال ﴿ واحلل عقدة من لساني ( ٢٧ ) يفقهوا قولي ﴾ ( طه : ٢٧ ٢٨ ).
تنبيه : في أم من قوله أم أنا خير أقوال ؛ أحدها : أنها منقطعة فتقدر ببل التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي للإنكار، والثاني : أنها بمعنى بل فقط كقوله :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح
أي : بل أنت.
الثالث : أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى قال أبو البقاء : أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ وهي في المعنى متصلة معادلة إذ المعنى : أنا خير منه أم لا وأينا خير، قال ابن عادل : وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما معنيان مختلفان فإن الانقطاع يقتضي إضراباً إما إبطالاً وإما انتقالاً.
ثم إن فرعون اللعين ظن أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الإعراض الدنيوية والتحلي بحلي الملوك ولذا قال :﴿ فلولا ﴾ أي : فهلا ﴿ ألقي عليه ﴾ عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة ﴿ أساورة ﴾ وقرأ حفص بسكون السين ولا ألف بعدها كالأحمرة، والباقون بفتح السين وألف بعدها فأسورة جمع سوار كحمار وأحمرة وهو جمع قلة وأساور جمع أسوار بمعنى سوار يقال : سوار المرأة وإسوارها والأصل : أساوير بالياء فعوض من حرف المد تاء التأنيث كزنديق وزنادقة وبطريق وبطارقة، وقيل : بل هي جمع أسورة فهي جمع الجمع قاله الزجاج، والسوار ما يوضع في المعصم من الحلية ﴿ من ذهب ﴾ ليكون ذلك أمارة له على صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات، إذ كان من عادتهم أنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى عليه السلام مثل عادتهم ﴿ أو جاء معه ﴾ أي : صحبته عندما جاء إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم ﴿ الملائكة ﴾ أي : هذا النوع وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله :﴿ مقترنين ﴾ أي : يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه فأهلكه الله تعالى بها، إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله تعالى أهلكه الله به واستصغر موسى عليه السلام وعابه بالفقر والعي فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه، أفاده القشيري.
﴿ فاستخف ﴾ أي : بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب ﴿ قومه ﴾ الذين لهم قوة عظيمة فحملهم بغروره على ما كانوا مهينين له من خفة الحلم ﴿ فأطاعوه ﴾ أي : بأن أقروا بملكه واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه السلام ﴿ أنهم كانوا ﴾ أي : بما في جبلاتهم من الشر ﴿ قوماً فاسقين ﴾ أي : غريقين في الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
﴿ فلما آسفونا ﴾ أي : أغضبونا في الإفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له : أتغضب يا أبا خالد فقال : قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول :﴿ فلما آسفونا ﴾ أي : أغضبونا ﴿ انتقمنا منهم ﴾ أي : أوقعنا بهم على وجه المكافأة بما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج ﴿ فأغرقناهم أجمعين ﴾ أي : إهلاك نفس واحدة لم يلفت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم.
تنبيه : ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى وذكر لفظ الانتقام كل واحد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى : إرادة العذاب ومعنى الانتقام : إرادة العقاب بجرم سابق وقال بعض المفسرين : معنى آسفونا : أحزنوا أولياءنا.
﴿ فجعلناهم ﴾ أي : بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه ﴿ سلفاً ﴾ أي : متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة أو قدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال تعالى :﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ﴾ ( القصص : ٤١ )
﴿ ومثلاً ﴾ أي : حديثاً عجيب الشأن سائراً سير المثل ﴿ للآخرين ﴾ أي : الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر اقتدى به في الشر، وقرأ حمزة والكسائي : بضم السين واللام والباقون بفتحهما، فأما الأولى : فتحتمل ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه جمع سليف كرغيف ورغف وسمع القاسم بن معن من العرب : سليف من الناس كالفريق منهم، والثاني : أنه جمع سالف كصابر وصبير، والثالث : أنها جمع سلف كأسد وأسد، وأما الثانية : فتحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن يكون جمعاً لسالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فعل، والثاني : أنه مصدر يطلق على الجماعة تقول سلف الرجل يسلف سلفاً أي : تقدم والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف، وقال طفيل : سلفوا سلفاً فصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تغلب.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلاً ﴾ فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين : نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام لما نزل قوله تعالى ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ ( الأنبياء : ٩٨ ) كما تقدم في سورة الأنبياء والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه ﴿ إذا قومك ﴾ أي : من قريش ﴿ منه ﴾ أي : من هذا المثل ﴿ يصدون ﴾ أي : يرفع لهم ضجيج فرحاً بسبب ما رأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم، فإن العادات قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقال قتادة : يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى.
﴿ وقالوا آلهتنا ﴾ أي : التي نعبدها من الأصنام ﴿ خير أم هو ﴾ قال قتادة : يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال السدي وابن زيد : يعنون عيسى عليه السلام قالوا : توهم محمد أن كل ما نعبد من دون الله فهو في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى :﴿ ما ضربوه ﴾ أي : المثل ﴿ لك إلا جدلا ﴾ أي : خصومة بالباطل لعلمهم أن لفظ ما لغير العاقل فلا يتناول من ذكروه ﴿ بل هم قوم ﴾ أي : أصحاب قوة على القيام فيما يحاولونه ﴿ خصمون ﴾ أي : شديدوا الخصام.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ». وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يصدون بكسر الصاد، والباقون بضمها وهما بمعنى واحد يقال صد يصد ويصد كعكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش، وقيل : الضم من الصدود وهو الإعراض، وقرأ الكوفيون : آلهتنا بتحقيق الهمزتين، والباقون بتسهيل الثانية واتفقوا على إبدال الثانية ألفاً.
ثم إنه تعالى بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله تعالى :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو ﴾ أي : عيسى عليه السلام ﴿ إلا عبد ﴾ أي : وليس هو بإله ﴿ أنعمنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ عليه ﴾ أي : بالنبوة والإقدار على الخوارق ﴿ وجعلناه ﴾ أي : بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته ﴿ مثلاً ﴾ أي : أمراً عجيباً كالمثل لغرابته من أنثى فقط بلا واسطة ذكر كما خلقنا آدم من غير ذكر وأنثى وشرفناه بالنبوة ﴿ لبني إسرائيل ﴾ الذين هم أعرف الناس به، بعضهم بالمشاهدة، وبعضهم بالنقل القريب المتواتر فيعرفون به قدرة الله تعالى على ما يشاء حيث خلقه من غير أبٍ.
﴿ ولو نشاء ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ لجعلنا ﴾ ما هو أغرب مما صنعناه من أمر عيسى عليه السلام ﴿ منكم ﴾ أي : جعلا مبتدأ منكم إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه السلام من أنثى من غير ذكر، وجعلنا آدم عليه السلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر، وإما بالبدلية ﴿ ملائكة في الأرض يخلفون ﴾ أي : يخلفونكم في الأرض والمعنى : أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقها إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى.
﴿ وإنه ﴾ أي : عيسى عليه السلام ﴿ لعلم للساعة ﴾ أي : نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي تعم الخلائق كلها بالموت فنزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها قال صلى الله عليه وسلم :«يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمنه الملل كلها إلا الإسلام ».
وروي :«أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها : أنيق وبيده حربة وعليه مخصرتان وشعر رأسه دهين يقتل الدجال ويأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، وروي في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به ». وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ». وقال الحسن وجماعة. وإنه أي : القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ويخبركم أحوالها وأهوالها ﴿ فلا تمترن بها ﴾ حذف منه نون الرفع للجزم وواو الضمير لالتقاء الساكنين من المرية وهي الشك أي : لا تشكن فيها وقال ابن عباس : لا تكذبوا بها ﴿ واتبعوني ﴾ أي : أوجدوا تبعكم لي ﴿ هذا ﴾ أي : كل ما أمرتكم به من هذا أو غيره ﴿ صراط ﴾ أي : طريق واضح ﴿ مستقيم ﴾ أي : لا عوج له، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بغير ياء وصلاً وقفاً.
﴿ ولا يصدنكم الشيطان ﴾ أي : عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي ﴿ إنه لكم ﴾ أي : عامة وأكد الخبر لأن أفعال التابعين له أفعال من ينكر عداوته ﴿ عدو مبين ﴾ أي : واضح العداوة في نفسه مناد بها وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم آدم عليه السلام حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب عداوة ناشئة عن الحسد فهي لا تنفك أبداً.
﴿ ولما جاء عيسى ﴾ أي : إلى بني إسرائيل ﴿ بالبينات ﴾ أي : المعجزات أي : بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات ﴿ قال ﴾ منبهاً لهم ﴿ قد جئتكم ﴾ بما يدلكم قطعاً على أني آية من عند الله وكلمة منه ﴿ بالحكمة ﴾ أي : الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال ﴿ ولأبيّن لكم ﴾ أي : بياناً واضحاً ﴿ بعض الذي تختلفون ﴾ أي : الآن ﴿ فيه ﴾ ولا تزالون تجددون الخلاف بسببه، فإن قيل : لِمَ لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه ؟.
أجيب : بأنه بين لهم كل ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم :«أنتم أعلم بأمر دنياكم ». ويحتمل أن يكون المراد أنه يبين لهم بعض المتشابه وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم : ما ليس فيه التباس، والمتشابه : ما يكون ملتبساً وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب، فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم أو يعجز فيقول : الله أعلم بمراده ﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾ ( آل عمران : ٨ )
ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره كأهل الإلحاد الجوامد المفتونين أو يؤوله بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما بين لهم الأصول والفروع قال :﴿ فاتقوا الله ﴾ أي : خافوا من له الملك الأعظم من الكفر والإعراض عن دينه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجه إلا بإذنه ﴿ وأطيعون ﴾ أي : فيما أبلغه عنه إليكم من التكاليف فطاعتي لأمره بما يرضيه هو ثمرة التقوى وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.
﴿ إن الله ﴾ أي : الذي اختص بالجلال والجمال فكان أهلاً لأن يُتقى ﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ ربي وربكم ﴾ أي : المحسن إلي وإليكم ﴿ فاعبدوه ﴾ أي : بما أمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباعي بما أظهره على يدي فصار هو الآمر لكم لا أنا ﴿ هذا ﴾ أي : الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه ﴿ صراط ﴾ أي : طريق واسع جداً واضح ﴿ مستقيم ﴾ لا عوج فيه.
ولما كان الطريق الواضح القويم موجباً للاجتماع عليه والوفاق عند سلوكه بين تعالى أنهم اختلفوا فيه بقوله تعالى :﴿ فاختلف الأحزاب ﴾ أي : الفرق المتحزبة ﴿ من بينهم ﴾ أي : اختلافاً ناشئاً ابتداء من بني إسرائيل في عيسى أهو الله ؟ أو ابن الله ؟ أو ثالث ثلاثة ؟ وقوله تعالى :﴿ فويل ﴾ كلمة عذاب ﴿ للذين ظلموا ﴾ أي : وضعوا الشيء في غير موضعه بما قالوه في عيسى عليه السلام ﴿ من عذاب يوم أليم ﴾ أي : مؤلم وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بعذابه.
﴿ هل ينظرون ﴾ أي : هل ينظر كفار مكة أو الذين ظلموا ﴿ إلا الساعة ﴾ أي : ساعة الموت العام والبعث والقيامة فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه وقوله تعالى :﴿ أن تأتيهم ﴾ بدل من الساعة، فإن قيل : قوله تعالى :﴿ بغتة ﴾ أي : فجأة يفيد قوله تعالى :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي : بوقت مجيئها قبله ؟ أجيب : بأنه يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
﴿ الأخلاء ﴾ أي : الأحباء في الدنيا على المعصية وقوله تعالى :﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم القيامة، متعلق بقوله تعالى :﴿ بعضهم لبعض عدو ﴾ أي : يتعادون في ذلك اليوم لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتحابون له سبباً للعذاب ﴿ إلا المتقين ﴾ أي : المتحابين في الله على طاعة الله تعالى وهم الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
روى أبو ثور عن مَعْمَر عن قَتَادة عن أبي إسحاق أن علياً قال في الآية : خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال : يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك يأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما فيقول : لِيثنين أحدكم على صاحبه فيقول : نِعم الأخ ونِعم الخليل ونِعم الصاحب، قال : ويموت أحد الكافرينِ فيقول : يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فبئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب.
ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى :﴿ يا عباد ﴾ فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريفٍ لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها : أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ﴾ ( الإسراء : ١ ) والثاني قوله :﴿ لا خوف ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ عليكم اليوم ﴾ أي : في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال، وثالثها : قوله تعالى :﴿ ولا أنتم تحزنون ﴾ أي : لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً.
وقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتاً لعبادي أو بدلاً منه أو عطف بيان له أو مقطوعاً منصوباً بفعلٍ أي : أعني الذين آمنوا أو مرفوعاً وخبره مضمر تقديره يقال لهم : ادخلوا الجنة، قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا ﴿ بآياتنا ﴾ الظاهرة عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثانياً ﴿ وكانوا ﴾ أي : دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق ﴿ مسلمين ﴾ أي : منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه.
ثم يقال لهم :﴿ ادخلوا الجنة ﴾ ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى :﴿ أنتم وأزواجكم ﴾ أي : نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى وكانوا مسلمين ﴿ تحبرون ﴾ أي : تسرون وتنعمون والحبرة : المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه.
وقوله تعالى :﴿ يطاف ﴾ قبله محذوف أي : يدخلون يطاف ﴿ عليهم ﴾ أي : المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكاً ﴿ بصحاف من ذهب ﴾ فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان، قال الجوهري : الصحفة كالقصعة والجمع صحاف، قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف.
ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى :﴿ وأكواب ﴾ جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة عن أذى أو نحو ذلك : وقيل : هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل : إنه لا خرطوم له، وقيل : إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي : ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي :
متكئاً تصفق أبوابه *** يطوف عليه العبد بالكوب
ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال ﴿ وفيها ﴾ أي : الجنة ﴿ ما تشتهي الأنفس ﴾ من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا ﴿ وتلذ الأعين ﴾ أي : من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
روي أن رجلاً قال :«يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال : إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال : يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك » وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى :﴿ الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ ( البقرة : ٢٧٥ ) والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى :﴿ أهذا الذي بعث الله رسولاً ﴾ ( الفرقان : ٤١ ) وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى :﴿ وما عملته أيديهم ﴾ ( يس : ٣٥ ) وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس.
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وأكد ﴿ وأنتم فيها خالدون ﴾ لبقائها وبقاء كل ما فيها فلا كلفة عليهم أصلاً من خوف من زوال ولا خوف من فوات.
ثم أشار إلى فخامتها بأداة البعد فقال تعالى :﴿ وتلك الجنة ﴾ أي : العالية المقام ﴿ التي أورثتموها ﴾ شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الثاء المثلثة في المثناة وأظهرها الباقون ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كنتم تعملون ﴾ أي : مواظبين على ذلك لا تفترون لأن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها فالمنة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم.
ولما ذكر سبحانه الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال :﴿ لكم فيها فاكهة ﴾ أي : ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً ﴿ كثيرة ﴾ ودل على الكثرة وعلى دوام النعمة بقصد التفكه لكل شيء فيها بقوله تعالى :﴿ منها ﴾ أي : لا من غيرها مما يلحظ فيه القوت ﴿ تأكلون ﴾ فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع لا يؤخذ منها شيء إلا خلف مكانه مثله في الحال، ورد في الحديث :«أنه لا ينزع رجل ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها ».
تنبيه : لما بعث الله تعالى نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام إلى العرب وكانت في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ذكر الله تعالى هذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم وتقوية لدواعيهم ومِنْ في قوله تعالى ﴿ منها تأكلون ﴾ تبعيضية أو ابتدائية وقدم الجار لأجل الفاصلة.
ولما ذكر سبحانه الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن فقال تعالى :
﴿ إن المجرمين ﴾ أي : الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل ﴿ في عذاب جهنم ﴾ أي : النار التي من شأنها إلقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى ﴿ خالدون ﴾ لأن اجتراءهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا.
﴿ لا يفتر عنهم ﴾ أي : لا يقصد إضعافه بنوع من الضعف فنفي التفتر نفي للفتور من غير عكس، قال البيضاوي : وهو من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً والتركيب للضعف ﴿ وهم فيه ﴾ أي : العذاب ﴿ مبلسون ﴾ أي : ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يقفل عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
﴿ وما ظلمناهم ﴾ نوعاً من الظلم ﴿ ولكن كانوا ﴾ جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً ﴿ هم الظالمين ﴾ لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك ما بقوا والأعمال بالنيات.
ولما كان مفهوم الإبلاس السكوت بين تعالى أنهم ليسوا ساكتين دائماً بقوله تعالى :
﴿ ونادوا ﴾ ثم بين أن المنادي خازن النار بقوله تعالى : مؤكداً البعد بأداته ﴿ يا مالك ليقض علينا ﴾ أي : سل سؤالاً حتماً أن يقضي القضاء الذي لا قضاء مثله وهو الموت على كل واحد منا وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا :﴿ ربك ﴾ أي : المحسن إليك فلم يروا للَّه تعالى عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ولا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما جعل الجنة درجات فأجاب مالك عليه السلام بأن ﴿ قال ﴾ مؤكداً قطعاً لأطماعهم لأن كلامهم هذا هو بحيث يفهم الرجاء وإعلاماً بأن رحمة الله التي موضع الرجاء خاصة بغيرهم ﴿ إنّكم ماكثون ﴾ أي : دائماً أبداً لا خلاص لكم بموت ولا غيره وليس في القرآن متى أجابهم هل أجابهم في الحال أو بعد مدة لكن روى ابن عباس : أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون : ليقض علينا ربك أي : ليمتنا ربك فنستريح، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة إنكم ماكثون أي : مقيمون في العذاب. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : يجيبهم بعد أربعين، وعن غيره مائة سنة واختلفوا في أن قولهم :﴿ يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ على أي وجه طلبوه فقال بعضهم : على التمني وقال آخرون : على وجه الاستغاثة وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العذاب.
ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالعلة لذلك الجواب بقوله تعالى :﴿ لقد جئناكم ﴾ أي : في هذه السورة خصوصاً وفي جميع القرآن عموماً ﴿ بالحق ﴾ على لسان الرسل وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الجيم، والباقون بالإدغام.
﴿ ولكن أكثركم للحق كارهون ﴾ لما فيه من المنع من الشهوات فلذلك أنتم تقولون إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط لا لأجل أن في حقيّته نوعاً من الخفاء، فإن قيل : كيف قال : ونادوا يا مالك بعد أن وصفهم بالإبلاس ؟ أجيب : بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم، روى أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون : ادعوا مالكاً فيدعون ﴿ يا مالك ليقض علينا ربك ﴾.
ولما ذكر تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال تعالى :﴿ أم أبرموا ﴾ أي : أحكم كفار مكة ﴿ أمراً ﴾ أي : في المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم ﴿ فإنا مبرمون ﴾ أي : محكمون أمراً في مجازاتهم أي : مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى :﴿ أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون ﴾ ( الطور : ٤٢ ) قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم المكر في دار الندوة.
تنبيه : أم منقطعة والإبرام : الإتقان وأصله في الفتل يقال أبرم الحبل، أي : أتقن فتله وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل قال زهير :
لعمري لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
﴿ أم يحسبون أنّا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة المقتضية لجميع صفات الكمال ﴿ لا نسمع سرهم ﴾ أي : كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يغضبنا، والسر ما حدث به الشخص نفسه أو غيره في مكان خال.
ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعلم ما في الضمائر وهي مما يعلم حقق أن المراد به حقيقته بقوله تعالى :﴿ ونجواهم ﴾ أي : تناجيهم في كلامهم المرتفع فيما بينهم حتى كأنه على نجوة أي : مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ﴿ بلى ﴾ نسمع الصنفين كليهما على حد سواء ﴿ ورسلنا ﴾ وهم الحفظة من الملائكة على الجميع السلام على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا ﴿ لديهم ﴾ أي : عندهم، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها ﴿ يكتبون ﴾ أي : يجددون الكتابة كل ما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة يجتنب ما يخاف عاقبته، وعن يحيى بن معاذ الرازي : من ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعائهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله تعالى :﴿ ستكتب شهادتهم ويسألون ﴾ أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿ إن كان للرحمان ﴾ أي : العام الرحمة ﴿ ولد ﴾ أي : على زعمكم والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة وغيرهم ﴿ فأنا ﴾ أي : في الرتبة، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بغير مد ﴿ أول العابدين ﴾ للرحمن العبادة التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة أي : فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ لي الرحمان أن أعبد الولد ولا غيره، أو يكون المعنى : أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات بما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيرهما، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمته فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاءه لي ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له فبطلت شبهتكم بمثلها بل بأقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى.
وقال الزمخشري : إن كان للرحمان ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها، ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه فقيل : إن كان للرحمان ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه، وقيل : إن كان للرحمان ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقال ابن عباس : إن إن نافية أي : ما كان له ولد فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ولو كان له ولد إله لعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده، وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله تعالى فنزلت فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال :﴿ سبحان رب ﴾ أي : مبدع ومالك ﴿ السماوات والأرض ﴾ أي : اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية.
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له، ولم يعد العطف لأن العرش من السماوات ﴿ رب العرش ﴾ أي : المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ﴿ عما يصفون ﴾ أي : يقولون من الكذب من أن له ولداً أو شريكاً وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكل ما كان كذلك فهو لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيمن تكون ذاته قابلة للتجزي والتبعيض، وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد.
ولما ذكر تعالى هذا البرهان القاطع قال تعالى مسبباً عن ذلك :﴿ فذرهم ﴾ أي : اتركهم على أسوأ أحوالهم ﴿ يخوضوا ﴾ أي : يفعلوا في باطلهم فعل الخائض في الماء ﴿ ويلعبوا ﴾ أي : يفعلوا فعل اللاعب في دنياهم ﴿ حتى يلاقوا ﴾ أي : يفعلوا بتصرم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا ﴿ يومهم الذي يوعدون ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه وهو يوم القيامة فيظهر فيه وعيدهم والمقصود منه التهديد لأنه تعالى ذكر الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا فلم يلتفتوا إليها لأجل استغراقهم في طلب المال والجاه والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود به.
ثم زاد في التنزيه فقال تعالى :﴿ وهو الذي في السماء إله ﴾ أي : معبود لا شريك له ﴿ وفي الأرض إله ﴾ تتوجه الرغبات إليه في جميع الأحوال وتخلص إليه في جميع أوقات الاضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في هذا الاستحقاق فعبادة غيره باطلة، وقرأ قالون والبزي بتسهيلها مع المد والقصر، وقرأ أبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها أيضاً ألفاً وقرأ الباقون بتحقيقهما.
تنبيه : كل من الظرفين متعلق بما بعده لأن إله بمعنى معبود أي : معبود في السماء ومعبود في الأرض وحينئذ يقال : الصلة لا تكون إلا جملة أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله ولا شيء منهما هنا ؟ أجيب : بأن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه وذلك المحذوف هو العائد تقديره وهو الذي هو في السماء إله وهو في الأرض إله، وإنما حذف لطول الصلة بالمعمول فإن الجار متعلق بإله ومثله ما أنا بالذي قائل لك سوء ﴿ وهو الحكيم ﴾ أي : البليغ الحكمة في تدبير خلقه ﴿ العليم ﴾ أي : البالغ في علمه بمصالحهم.
﴿ وتبارك ﴾ أي : وثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال له مع اليمن والبركة وكل كمال فلا شبيه له حتى يدعى أنه ولد له أو شريك. ثم وصفه تعالى بما يبين تباركيته واختصاصه بالألوهية فقال عز من قائل :﴿ الذي له ملك السماوات ﴾ أي : كلها ﴿ والأرض ﴾ كذلك ﴿ وما بينهما ﴾ أي : وما بين كل اثنين منهما، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار ﴿ وعنده ﴾ أي : وحده ﴿ علم الساعة ﴾ أي : العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها ﴿ وإليه ﴾ أي : وحده لا إلى غيره ﴿ ترجعون ﴾ بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الالتفات للتهديد.
﴿ ولا يملك ﴾ أي : بوجه من الوجوه في وقت ما ﴿ الذين يدعون ﴾ أي : يعبدون أي : الكفار ﴿ من دونه ﴾ أي : الله تعالى ﴿ الشفاعة ﴾ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وقوله تعالى ﴿ إلا من شهد بالحق ﴾ أي : قال : لا إله إلا الله، فيه قولان ؛ أحدهما : أنه متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله والمعنى : لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد إلا من شهد بالحق ﴿ وهم يعلمون ﴾ أي : بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وهم عيسى ومريم وعزير والملائكة فإنهم يملكون أن يشفعوا للمؤمنين بتمليك الله تعالى إياهم لها، والثاني : هو منقطع إن خص بالأصنام.
﴿ ولئن سألتهم ﴾ أي : الكفار مع ادعائهم الشريك ﴿ من خلقهم ﴾ أي : العابدين والمعبودين معاً ﴿ ليقولن الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال لتعذر المكابرة من فرط ظهوره ﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف وأي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر ﴿ يؤفكون ﴾ أي : يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا في الخلق.
وقرأ :﴿ وقيلِه ﴾ أي : قول محمد صلى الله عليه وسلم عاصم وحمزة بخفض اللام والهاء على معنى وعنده علم الساعة وعلم قيله، والباقون بنصب اللام ورفع الهاء على المصدر بفعله المقدر أي : وقال ﴿ يا رب إن هؤلاء قوم ﴾ أي : أقوياء على الباطل ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول قومي ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما شأنه من حالهم ﴿ لا يؤمنون ﴾ أي : لا يتجدد منهم هذا الفعل أصلاً.
﴿ فاصفح ﴾ أي : اعف عفو من أعرض ﴿ عنهم ﴾ صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ ﴿ وقل ﴾ أي : لهم ﴿ سلام ﴾ أي : شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم، قال ابن عباس : وهذا منسوخ بآية السيف، وقال الرازي : وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل لأن الأمر لا يقيد بالفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ فأي حاجة إلى التزام النسخ، وأيضاً فاللفظ المطلق قد يتقيد بحسب العرف فإذا كان كذلك فلا حاجة إلى التزام النسخ وجرى على النسخ الجلال المحلي فقال : وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم وقوله تعالى :﴿ فسوف يعلمون ﴾ فيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لما تقدم وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون » حديث موضوع.
Icon