تفسير سورة المجادلة

الدر المصون
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ :«قد» هنا للتوقُّع. قال الزمخشري: «لأنه عليه السلام والمجادِلَةَ كانا يتوقعان أن يَسمعَ الله مجادلتَها وشكواها، ويُنَزِّلَ في ذلك ما يُفَرِّجُ عنها. وإظهارُ الدالِ عند السينِ قراءةُ الجماعة إلاَّ أبا عمروٍ والأخوين. ويُنْقَلُ عن الكسائي أنه قال:» مَنْ بَيَّنَ الدالَ عند السين فلسانُه أعجميٌّ وليس بعربي «وهذا غيرُ مُعَرَّجٍ عليه. و» في زَوْجِها «أي في شأنِه من ظِهارِه إياها.
قوله: ﴿وتشتكي إِلَى الله﴾ يجوزُ فيه وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على»
تُجادِلُك «فهي صلةٌ أيضاً. والثاني: أنَّها في موضع نصبٍ على الحالِ أي: تجادِلُك شاكيةً حالَها إلى اللَّهِ، وكذا الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ﴾ والحاليةُ فيما أَبْعَدُ. /
قوله: ﴿الذين يُظَاهِرُونَ﴾ : قد تقدَّم الخلافُ في «يُظاهِرون» في سورةِ الأحزاب وكذا في «اللائي» فأَغْنَى عن إعادتِه
261
هنا وأُبي هنا «يَتَظاهَرُون» وعنه أيضاً «يَتَظَهَّرُوْن». وفي «الذين» وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، وخبرُه قولُه: ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾. والثاني: أنَّه منصوبٌ ب «بصير» على مذهبِ سيبويهِ في جوازِ إعمالِ فَعيل، قاله مكي، يعني أنَّ سيبويه يُعْمل فعيلاً من أمثلةِ المبالغةِ، وهو مذهبٌ مَطْعونٌ فيه على سيبويِهِ؛ لأنه استدلَّ على إعمالِه بقولِ الشاعر:
٤٢٣٨ - حتى شآها كَليلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ باتَتْ طِراباً وبات الليلَ لم يَنَمِ
ورُدَّ عليه: بأنَّ «مَوْهِناً» ظرفُ زمانٍ، والظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ. وللكلامِ في المسألةِ موضعٌ هو أليقُ به مِنْ هنا ولكنَّ المعنى يَأْبى ما قاله مكيٌّ.
وقرأ العامَّةُ «أمَّهاتِهم» بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى كقولِه: ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ [يوسف: ٣١] وعاصم في روايةٍ بالرفعِ على اللغةِ
262
التميميةِ، وإنْ كانَتْ هي القياسَ لعدمِ اختصاصِ الحرفِ. وقرأ عبدُ الله «بأمَّهاتهم» بزيادة الباءِ، وهي تحتمل اللغتين. وقال الزمخشري: «وزيادةُ الباء في لغة مَنْ ينصِبُ». قلت: هذا هو مذهبُ أبي علي، يرى أنَّ الباءَ لا تُزاد إلاَّ إذا كانَتْ «ما» عاملةً فلا تُزاد في التميمية ولا في الحجازيةِ إذا مَنَعَ مِنْ عملها مانعٌ نحو: «ما إنْ زيدٌ بقائمٍ». وهذا مردودٌ بقولِ الفرزدق وهو تميمي:
٤٢٣٩ - لَعَمْرُك ما مَعْنٌ بتارِكِ حقِّه ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر:
٤٢٤٠ - لَعَمْرُك ما إنْ أبو مالكٍ بواهٍ ولا بضعيفٍ قِواهْ
فزادها مع «ما» الواقع بعدها «إنْ».
قوله: ﴿مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً﴾ نعتان لمصدر محذوف أي: قولاً منكراً، وزوراً أي: كذباً وبُهْتاناً قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ
263
التقدير: ليقولون قولاً منكراً من القول، فيصير قولُه «من القول» لا فائدةً فيه. والأَوْلَى أَنْ يُقال: نعتان لمعفولٍ محذوفٍ لفهم المعنى أي: ليقولونَ شيئاً مُنْكراً من القولِ لتفيدَ الصفة غيرَ ما أفاده الموصوفُ.
264
قوله: ﴿والذين يُظَاهِرُونَ﴾ : مبتدأٌ. وقولُه: «فتحريرُ رقبةٍ» مبتدأٌ، وخبرُه مقدرٌ أي: فعليهم. أو فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: فيلزَمُهم تحريرُ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فالواجبُ عليهم تحريرُ. وعلى التقادير الثلاثةِ فالجملةُ خبرُ المبتدأ، ودخلَتِ الفاءُ لِما تضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط.
قوله: ﴿لِمَا قَالُواْ﴾ في هذه اللامِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها متعلقةٌ ب «يعودون». وفيه معانٍ، أحدُها: والذين مِنْ عادتِهم أنهم كانوا يقولون هذا القولَ في الجاهليةِ، ثم يعودُون لمثلِه في الإِسلام. الثاني: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارِكَ للأمرِ عائدٌ إليه ومنه: «عادَ غيثٌ على ما أفسَد» أي: تداركه بالإِصلاح والمعنى: أنَّ تدارُكَ هذا القولِ وتلافيَه، بأَنْ يكفِّر حتى ترجعَ حالُهما كما كانت قبل الظِّهار. الثالث: أَنْ يُرادَ بما قالوا ما حَرَّموه على أنفسِهم بلفظِ الظِّهار، تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقولِ فيه نحو ما ذُكِر في قولِه تعالى: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ [مريم: ٨٠] والمعنى: ثم يريدون العَوْدَ للتَّماسِّ، قال ذلك الزمخشريُّ. قلت: وهذا الثالثُ هو معنى ما رُوِي عن مالك والحسن والزهري: ثم يعودون للوَطْء أي: يعودون لِما قالوا إنهم لا يعودون إليه، فإذا ظاهَرَ ثم وَطِىء لَزِمَتْه الكفارةُ
264
عند هؤلاء. الرابع: «لما قالوا» أي: يقولونه ثانياً فلو قال: «أنتِ عليَّ كظهر أمِّي» مرةًَ واحدةً كفَّارةٌ؛ لأنه لم يَعُدْ لِما قال. وهذا منقولٌ عن بُكَيْرِ بنِ عبد الله الأشجِّ وأبي حنيفةَ وأبي العالية والفراء في آخرين، وهو مذهبُ الفقهاءِ الظاهريين. الخامس: أن المعنى: أَنْ يَعْزِمَ على إمساكِها فلا يُطَلِّقَها بعد الظِّهار، حتى يمضيَ زمنٌ يمكنُ أَنْ يطلِّقَها فيه، فهذا هو العوْدَ لِما قال، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالك وأبي حنيفةَ أيضاً. وقال: / العَوْدُ هنا ليس تكريرَ القولِ، بل بمعنى العَزْمِ على الوَطْءِ.
وقال مكي: «اللامُ متعلقةٌ ب» يعودون «أي: يعودون لوَطْءِ المقولِ فيه الظهارُ، وهُنَّ الأزواجُ، ف» ما «والفعلُ مصدرٌ أي: لمقولِهم، والمصدرُ في موضعِ المفعولِ به نحو:» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمير «أي: مَضْرُوبُه، فيصير معنى» لقولهم «للمقولِ فيه الظِّهارُ أي:» لوَطْئِه «. قلت: وهذا معنى قولِ الزمخشريِّ في الوجه الثالث الذي تَقَدَّم تقريرُه عن الحسنِ والزهري ومالك، إلاَّ أنَّ مكيَّاً قَيَّد ذلك بكونِ» ما «مصدريةً حتى يقعَ المصدرُ الموؤلُ موضعَ اسمِ مفعول.
وفيه نظرٌ؛ إذ يجوز ذلك، وإنْ كانت»
ما «غيرَ مصدرية، لكونِها بمعنى الذي أو نكرةً موصوفةً، بل جَعْلُها غيرَ مصدريةٍ أَوْلَى؛ لأن المصدرَ المؤولَ فرعُ المصدرِ الصريحِ، إذ الصريحُ أصلٌ للمؤول به
265
ووَضْعُ المصدرِ موضعَ اسم المفعولِ خلافُ الأصلِ، فيلزمُ الخروجُ عن الأصل بشيئين: بالمصدرِ المؤولِ.
ثم وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول، والمحفوظُ من لسانِهم إنما هو وَضْعُ المصدرِ الصريح موضعَ المفعولِ لا المصدرِ المؤولِ فاعرِفْه. لا يُقال: إنَّ جَعْلَها غيرَ مصدريةٍ يُحْوِجُ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ المعنى به أي: يعودون لوَطْءِ التي ظاهَرَ منها، أو امرأةٍ ظاهَرَ منها، أو يعودون لإِمساكِها، والأصلُ عدمُ الحذفِ؛ لأن هذا مشتركُ الإِلزام لنا ولكم، فإنكم تقولون أيضاً: لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ أي: يعودون لوَطْءِ أو لإِمساكِ المقولِ فيه الظِّهارُ. ويدل على جوازِ كَوْنِ «ما» في هذا الوجهِ غيرَ مصدريةٍ ما أشار إليه أبو البقاء، فإنه قال: «يتعلَّقُ ب» يعودون «بمعنى: يعودون للمقول فيه. هذا إنْ جَعَلْتَ» ما «مصدريةً، ويجوز أَنْ تجعلَها بمعنى الذي ونكرةً موصوفةً».
الثاني: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ ب «تحرير». وفي الكلامَ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقدير: والذين يُظاهرون مِنْ نِسائِهم فعليهم تحريرُ رقبةٍ؛ لِما نَطقوا به من الظِّهار ثم يعودُون للوَطْءِ بعد ذلك. وهذا ما نقله مكيٌّ وغيرُه عن أبي الحسن الأخفش. قال الشيخ: «وليس بشيءٍ لأنه يُفْسِدُ نَظْمَ الآية». وفيه نظرٌ. لا نُسَلِّم فسادَ النظمِ مع دلالةِ المعنى على التقديمِ والتأخير، ولكنْ نُسَلِّم أنَّ ادعاءَ التقديمِ والتأخيرِ لا حاجةَ إليه؛ لأنه خلافُ الأصل.
266
الثالث: أن اللامَ بمعنى «إلى». الرابع: أنها بمعنى «في» نَقَلهما أبو البقاء، وهما ضعيفان جداً، ومع ذلك فهي متعلِّقَةٌ ب «يَعُودون». الخامس: أنها متعلِّقةٌ ب «يقولون». قال مكي: «وقال قتادةُ: ثم يعودون لِما قالوا من التحريمِ فيُحِلُّونه، فاللامُ على هذا تتعلَّقُ ب» يقولون «. قلتُ: ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي، وكيف فَهم تعلُّقَها ب» يقولون «على تفسيرِ قتادةَ، بل تفسيرُ قتادةَ نصٌّ في تعلُّقِها ب» يَعودون «، وليس لتعلُّقِها ب» يقولون «وجهٌ.
267
قوله: ﴿فَصِيَامُ﴾ و «فإِطعامُ» كقولِه: ﴿فَتَحْرِيرُ﴾ في ثلاثة الأوجهِ المتقدمةِ. و «مِنْ قبلِ» متعلِّقٌ بالفعل أو الاستقرارِ المتقدِّمِ أي: فيلزَمُه تحريرُ أو صيام، أو فعليه كذا مِنْ قبلِ تَماسِّهما. والضميرُ في «يتماسَّا» للمُظاهِرِ والمُظاهَرِ منها لدلالةِ ما تقدَّم عليهما.
قوله: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «عذابٌ مُهينٌ». الثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ. فقدَّره أبو البقاء «يُهانون أو يُعَذَّبون»، أو استقرَّ لهم ذلك يومَ يَبْعَثهم «وقَدَّره الزمخشري ب اذْكُرْ قال:» تعظيماً لليوم «. الثالث: أنه منصوبٌ
267
ب» لهم «، قاله الزمخشري. أي: بالاستقرار الذي تَضَمَّنه لوقوعِه خبراً. الرابع: أنه منصوبٌ ب» أَحْصاه «قاله أبو البقاء. وفيه قَلَقٌ؛ لأنَّ الضميرَ في» أحْصاه «يعود على ما عَمِلوا.
268
قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى﴾ :«يكونُ» تامةٌ و «من نَجْوى» فاعلُها. و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. ونجوى في الأصل مصدرٌ فيجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على أصلِه، ويكون مضافاً لفاعِله، أي: ما يوجَدُ مِنْ تناجي ثلاثةٍ. ويجوز أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ ذوي نَجْوى. ويجوزُ أَنْ يكونَ أطلق على الأشخاصِ المتناجينِ مبالغةً، فعلى هذَيْن الوجهَيْن ينخفضُ «ثلاثة» على أحدِ وجْهَين: إمَّا البدلِ مِنْ ذوي المحذوفة، وإمَّا الوصفِ لها على التقدير الثاني، وإمَّا البدلِ أو الصفةِ ل «نَجْوَى» على التقدير الثالث.
وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثةً» و «خمسةً» نصباً على الحال. وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه محذوفٌ مع رافعِه، تقديرُه: يتناجَوْن ثلاثةً، وحُذف لدلالةِ «نجوى» عليه. والثاني: أنه الضمير المستكِنُّ/ في «نجوى» إذا جَعَلْناها بمعنى المتناجِين، قاله الزمخشريُّ. قال مكي: «ويجوز في الكلام رَفْعُ» ثلاثة «على البدل مِنْ موضع» نَجْوى «، لأنَّ موضعَها رفعٌ و» مِنْ «زائدةٌ، ولو نصَبْتَ» ثلاثة «على الحال من الضمير
268
المرفوع إذا جَعَلْتَ» نجوى «بمعنى المتناجين جازَ في الكلام». قلت: أمَّا الرفعُ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ، وهو جائزٌ في غير القرآن كما قال. وأمَّا النصبُّ فقد عَرَفْتَ مَنْ قرأ به فكأنَّه لم يَطَّلعْ عليه.
قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ «إلاَّ هو خامسُهم» ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ كلُّ هذه الجملِ بعد «إلاَّ» في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي: ما يوجَدُ شَيْءٌ من هذه الأشياءِ إلاَّ في حالٍ مِنْ هذه الأحوالِ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ من الأحوال العامة.
وقرأ أبو جعفر: «ما تكونُ» بتاءِ التأنيث لتأنيث النجوى. قال أبو الفضل: إلاَّ أنَّ الأكثرَ في هذا البابِ التذكيرُ على ما في العامة؛ لأنه مُسْنَدٌ إلى «مِنْ نجوى»، وهو اسمُ جنسٍ مذكرٌ.
قوله: ﴿وَلاَ أَكْثَرَ﴾ العامَّةُ على الجرِّ عطفاً على لفظ «نجوى». وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوبُ «ولا أكثرُ» بالرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على موضع «نَجْوى» لأنه مرفوعٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. فإن كان مصدراً كان على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم أي: مِنْ ذوي نجوى، وإن كان بمعنى المتناجِين فلا حاجةَ إلى ذلك. والثاني: أن يكونَ «أَدْنى» مبتدأ، و ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ خبرُه، فيكون «ولا أكثرُ» عطفاً على المبتدأ، وحينئذ يكون «ولا أَدْنَى» من باب عطفِ الجملِ لا المفرداتِ.
269
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل «ولا أكبرُ» بالباء الموحدة والرفعِ على ما تقدَّم. وزيد بن علي «يُنْبِهِمْ» مِنْ أَنْبأ؛ إلاَّ أنه حذف الهمزةَ وكسرَ الهاءَ، وقُرِىء كذلك، إلاَّ أنَّه بإثباتِ الهمزةِ وضمِّ الهاءِ. والعامَّةُ بالتشديد مِنْ نَبَّأ.
270
قوله: ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ﴾ : قرأ حمزة «يَنْتَجُوْنَ» من الانتجاء من النجوى. والباقون «يتناجَوْن» من التناجي مِن النجوى أيضاً. قال أبو علي: «والافتعال والتفاعُلُ يجريان مَجْرىً واحداً، ومِنْ ثَمَّ صَحَّحوا: ازدَوَجُوا واعْتَوَرَوا لَمَّا كانا في معنى: تزاوَجُوا وتعاوَنوا. وجاء ﴿حتى إِذَا اداركوا﴾ و ﴿ادركوا﴾ [الأعراف: ٣٨] قلت: ويؤيِّد قراءةَ العامة الإِجماعُ على» تناجَيْتُمْ «و» فلا تَتَناجوا «، و» وتناجَوْا «، فهذه مِن التفاعُل لا غيرُ، إلا ما روي عن عبد الله أنه قرأ» إذا انْتَجَيْتُم فلا تَنْتَجُوا «ونقل الشيخُ عن الكوفيين والأعمش» فلا تَنْتَجُوا «كقراءةِ عبدِ الله. وأصل تَنْتَجُون: تَنْتَجِيُوْن». ويتَناجَوْن يتناجَيُون فاسْتُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فحذفت الياءُ لالتقائِهما. أو نقول: تحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً، فالتقى ساكنان فحذِف أوَّلهما وبقيت الفتحةُ دالةً على الألف.
270
[وقرأ] أبو حيوة «بالعِدْوان» بكسرِ العين.
271
وقد تقدَّم قراءتا «ليحزنَ» بالضم والفتح في آل عمران. وقُرِىء بفتح الياءِ والزاي على أنه مسندٌ إلى الموصولِ بعده فيكونُ فاعلاً.
وقوله: ﴿وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ اسمُ «ليس» ضميراً عائداً على الشيطان، وأَنْ يكونَ عائداً على الحزنِ المفهومِ مِنْ «ليحزنَ» قاله الزمخشري. والأولُ أَوْلَى للتصريحِ بما يعود عليه. [وقرأ] الضحاك «ومعصيات» جمعاً.
قوله: ﴿لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا﴾ [المجادلة: ٨] هذه الجملةُ التحضيضيةُ في موضع نصبٍ بالقول.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو بكرٍ بخلافٍ عنه بضم شين «انشُزوا» في الحرفَيْن، والباقون بكسرِها، وهما لغتان بمعنىً واحد. يُقال: نَشَزَ أي ارتفع يَنْشِز ويَنْشُزُ كعَرَش يَعْرِش ويَعْرُش،
271
وعَكَفَ يَعْكِف ويَعْكُف. وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة.
قوله: ﴿فِي المجالس﴾ قرأ عاصم «المجالس» جمعاً اعتباراً بأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم مجلساً. والباقون بالإِفراد، إذ المرادُ مجلسُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أحسنُ مِنْ كونِه واحداً أريد به الجمعُ. وقُرىء «في المجلَس» بفتح اللام وهو المصدرُ أي: تَفَسَّحوا في جلوسِكم ولا تتضايَقوا. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وعيسى وقتادة «تَفاسَحُوا» والفُسْحَةُ: السَّعَةُ. وفَسَح له أي: وسَّعَ له.
قوله: ﴿والذين أُوتُواْ﴾ يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على «الذين آمنوا» فهو مِنْ عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأن الذين أُوْتوا العلمَ بعضُ المؤمنين منهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ «والذين أُوْتُوا» مِنْ عطفِ الصفاتِ أي: تكونُ الصفاتُ لذاتٍ واحدةٍ، كأنه قيل: يرفعُ الله المؤمنين العلماءَ. و «دَرَجاتٍ» مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على نحوِ ذلك في الأنعام. وقال ابنُ عباس: تمَّ الكلامُ عند قولِه «منكم» وينتصِبُ «الذين أُوْتُوا» بفعلٍ مضمرٍ أي: ويَخُصُّ الذين أوتوا اللمَ بدرجات/، أو ويرْفعُهم درجاتٍ.
272
قوله: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ﴾ في «إذْ» هذه ثلاثة أقوالٍ، أحدها: أنها على بابِها من المُضِيِّ. والمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامةِ الصلاةِ، قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّها بمعنى «إذا»
272
كقولِه: ﴿إِذِ الأغلال﴾ [غافر: ٧١] وقد تقدَّم الكلامُ فيه. الثالث: أنها بمعنى «إنْ» الشرطيةِ وهو قريبٌ مِمَّا قبلَه، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين «إنْ» و «إذا» معروفٌ. ورُوي عن أبي عمرو «خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ» بالياءِ مِنْ تحتُ. والمشهورُ عنه بتاءِ الخطاب كالجماعة.
273
قوله: ﴿مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ﴾ : يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مستأنفةٌ لا موضعَ لها من الإِعراب. أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّصِ. ولا من الكافرين الخلَّصِ، بل كقولِه: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ [النساء: ١٤٣]. فالضميرُ في «ما هم» عائدٌ على الذين تَوَلَّوا، وهم المنافقون. وفي «منهم» عائدٌ على اليهود أي: الكافرين الخُلَّص. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل «تَوَلَّوا» والمعنى: على ما تقدَّم أيضاً. والثالث: أنها صفةٌ ثانيةً ل «قوماً»، فعلى هذا يكون الضميرُ في «ما هم» عائداً على «قوماً»، وهم اليهودُ. والضميرُ في «منهم» عائدٌ على الذين تَوَلَّوا يعني: اليهودُ ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من المنافقين، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون، قاله ابن عطية. إلاَّ أنَّ فيه تنافُرَ الضمائرِ؛ فإن الضميرَ في «ويَحْلِفون» عائدٌ على الذين تَوَلَّوْا، فعلى الوجهين الأوَّلَيْن تتحد الضمائرُ لعَوْدِها على الذين تَوَلَّوا، وعلى الثالث تختلفُ كما عَرَفْتَ تحقيقَه.
قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ أي: يعلمون أنه كذِبٌ فيَمينُهم يمينٌ غموسٌ لا عُذْرَ لهم فيها.
قوله: ﴿أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ : مفعولان ل «اتَّخذوا». وقرأ العامَّةُ «أَيْمانَهم» بفتحِ الهمزةِ جمع يمين. والحسن بكسرِها مصدراً. وقوله: ﴿لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ قد تقدَّمَ في آل عمران.
قوله: ﴿استحوذ﴾ : جاءَ به على الأصلِ، وهو فصيحٌ استعمالاً، وإنْ شَذَّ قياساً. وقد أَخْرجه عمرُ رضيَ اللَّهُ عنه على القياس فقرأ «استحاذ» كاستقام، وتقدَّمَتْ هذه المادةُ في سورةِ النساءِ عند قولِه: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ﴾ [النساء: ١٤١].
قوله: ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ «كَتَبَ» جرى مَجْرَى القَسَم فأُجيبَ بما يُجاب به. وقال أبو البقاء: «وقيل: هي جوابُ» كَتَبَ «لأنَّه بمعنى قال». وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ «قال» لا يَقْتضِي جواباً فصوابُه ما قَدَّمْتُه. ويجوزُ أَنْ يَكون «لأَغْلِبَنَّ» جوابَ قسمٍ مقدرٍ، وليس بظاهر.
قوله: ﴿يُوَآدُّونَ﴾ : هو المفعولُ الثاني ل «تَجِدُ» ويجُوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لواحدٍ بمعنى صادَفَ ولقي، فيكون «يوادُّون». حالاً أو صفةً ل «قوماً». والواوُ في «ولو كانوا» حاليةٌ وتقدم تحريرُه غيرَ
274
مرة. وقدَّم أولاً الآباءَ لأنهم تجبُ طاعتُهم على أبناءِهم، ثم ثّنَّى بالأبناءِ لأنهم أَعْلَقُ بالقلوب وهم حَبَّاتُها:
٤٢٤١ - فإنما أَوْلادُنا بَيْنَا أكبادُنا تَمْشِي على الأرضِ
الأبياتُ المشهورة في الحماسةِ، ثَلَّثَ بالإِخوان لأنهم هم الناصرُون بمنزلة العَضُدِ من الذِّراع. قال:
٤٢٤٢ - أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ
وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟
ثم رَبَّع بالعشيرةِ، لأنَّ بها يسْتغاثُ، وعليها يُعْتمد. قال:
٤٢٤٣ - لا يَسْألون أخاهم حين يَنْدُبُهُم في النائباتِ على ما قال بُرْهانا
وقرأ أبو رجاء «عشيراتِهم» بالجمع، كما قرأها أبو بكر في التوبة كذلك. وقرأ العامَّةُ «كَتَبَ» مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، «
275
الإِيمانَ» نصباً وأبو حيوةَ وعاصمٌ في رواية المفضل «كُتِبَ» مبنياً للمفعول، «الإِيمانُ» رفعٌ به. والضميرُ في «منه» للَّهِ تعالى. وقيل: يعودُ على الإِيمان؛ لأنه رُوحٌ يَحْيا به المؤمنون في الدارَيْنِ.
276
Icon