تفسير سورة إبراهيم

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سُورَةُ إِبْرَاهِيم
فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ من الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَعْنَى ذَكِّرْهُمْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا يَتَذَكَّرُونَ بِهِ أَيَّامَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي أَيَّامِ اللَّهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : نِعَمُهُ. الثَّانِي : نِقَمُهُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَاؤُهُ الْحَسَنُ، وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِي من الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ من جُمْلَتِهِمْ رَجُلٌ إذَا صَفَا لَهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ جَعَلَ جَوْزًا فِي قِدْرٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ عُمْرِهِ أَخْرَجَ الْقِدْرَ وَفَضَّ الْخَتْمَ، وَعَدَّ الْجَوْزَ، فَيَرَى أَنَّ أَيَّامَهُ بِعَدَدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ، الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ، الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ ؛ فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :( بَيْنَمَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ )، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْخَضِرِ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ الْغَايَةَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ سَنَدًا وَمَتْنًا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ من أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَعْنَاهُ لَنُخْرِجَنَّكُمْ من أَرْضِنَا، إلَّا أَنْ تَعُودُوا فِي مِلَّتِنَا، وَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّ ( أَوْ ) عَلَى بَابِهَا من التَّخْيِيرِ. خَيَّرَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ بَيْنَ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ أَوْ يُخْرِجُوهُمْ من أَرْضِهِمْ ؛ وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ وَعِبَادِهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ. . . ﴾الآيتين. وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَقَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُك قَوْمُك. قَالَ : أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ : نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِيَ وَأُخْرِجَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهِ إكْرَاهُ الرُّسُلِ بِالْخُرُوجِ عَنْ أَرْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شِدَّةُ ذَلِكَ وَوَقْعُهُ من النُّفُوسِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا من دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾ فَهُوَ من أَعْظَمِ وُجُوهِ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحَةِ لِلْمَحْظُورِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛ فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ :﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ. . . ﴾الآية. وَأَخْبَرَ هُنَا عَنْ عُمُومِ الْأَمْرِ، فَقَالَ :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ. . . ﴾.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ نُزُولِهَا عَلَى مَعْنَاهَا :
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :( أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ من رُطَبٍ، فَقَالَ : مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ. . . الْآيَةَ قَالَ : هِيَ النَّخْلَةُ ). وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ من الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، مَثَلُهَا كَمِثْلِ الْمُسْلِمِ، خَبِّرُونِي مَا هِيَ. . . ) الْحَدِيثَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هِيَ النَّخْلَةُ )، فَذَكَرَ خِصَالًا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ : وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ سَاعَةٌ أَقَلُّ الزَّمَانِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ شَهْرَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
السَّادِسُ : أَنَّهُ سَنَةٌ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ.
السَّابِعُ : أَنَّهُ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ.
الثَّامِنُ : أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
التَّاسِعُ : أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ :
اعْلَمُوا أَفَادَكُمْ اللَّهُ الْعِرْفَانَ أَنَّا قَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ؛ وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إلَى مَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَيُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى مَقْصُودِ الْفَتْوَى الْمُفْتَرَضِ، فَنَقُولُ : إنَّ الْحِينَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَهُوَ مُبْهَمٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَلَا تَعْيِينَ فِي الْمُفَسِّرِ لَهُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ لُغَةً، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ من عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ سَاعَةً لَحْظِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ يَوْمَ السَّاعَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ حَالَ الْعَدَمِ كقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ ﴾. وَلِأَجْلِ إبْهَامِهِ عُلِّقَ الْوَعِيدُ بِهِ، لِيَغْلِبَ الْخَوْفُ، لِاسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ الْعَذَابِ نِهَايَةَ الْأَبَدِ فِيهِ، فَيَكُفَّ عَنْ الذَّنْبِ، أَوْ يَرْجُوَ لِاقْتِضَاءِ الْوَعِيدِ أَقَلَّ مُدَّةِ احْتِمَالِهِ ؛ فَيَغْلِبَ الرَّجَاءُ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الْمَغْفِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ من الذَّنْبِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْحِينَ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ :﴿ وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ﴾.
وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِبَقَاءِ الثَّمَرِ فِي النَّخْلِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بِأَنَّهُ مُدَّةُ الثَّمَرِ من حِينِ الِابْتِدَاءِ إلَى حِينِ الْجَنْيِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ حَتَّى حِينٍ ﴾.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِأَخْبَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَرَدَتْ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ.
وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، وَقَوِيٌّ وَضَعِيفٌ ؛ وَأَظْهَرُهَا اللَّحْظَةُ ؛ لِأَنَّهُ اللُّغَةُ وَالْمَجْهُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَالشَّهْرَانِ وَالسِّتَّةُ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةُ لِأَنَّهَا كُلُّهَا تَخْرُجُ من ذِكْرِ الْحِينِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَلْيَصُمْ سَنَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾.
وَرَوَى أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ : الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ من الثَّمَرَةِ إلَى الثَّمَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾.
وَمِنْ الْحِينِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ ﴾.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ قَوْلُهُ :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ فَهَذَا سَنَةٌ، وَالْحِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ :﴿ وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ ﴾، فَهَذَا حِينٌ لَا يُعْرَفُ.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : إنَّ الْحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ من حِينِ تَطْلُعُ الثَّمَرَةُ إلَى أَنْ تُرْطِبَ، وَمِنْ حِينِ تُرْطِبُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ. وَالْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾.
وَمِنْ الْحِينِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾.
قَالَ الْقَاضِي : الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ سَنَةٌ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَتَبَايَنَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ من كُلِّ بَابٍ عَلَى حَالِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِينَ الْمَجْهُولَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَأَكْثَرُ الْمَعْلُومِ سَنَةٌ.
وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَيْمَانِ وَالْأَحْكَامِ أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَأَكْثَرَهَا اسْتِظْهَارًا. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى الْأَقَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ، فَقَالَ : سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً، وَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْثِلَةِ ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي ذَلِكَ الْأَمْثِلَةَ مَا نُبَيِّنُ بِهِ الْمَقْصُودَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ :
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ رَكْعَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ النَّافِلَةِ فَيَتَقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ الْفِعْلِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ؛ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ، لَا بِالْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَحُدُّهُ إلَّا الْوَقْتُ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يَحُدُّ نَفْسَهُ. وَيَحْتَمِلُ الدَّهْرَ، وَيَحْتَمِلُ سَنَةً، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ يَوْمًا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ الدَّهْرَ ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَتَرَكَهُ مَالِكٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا من أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ صَوْمُ الدَّهْرِ لَزِمَهُ وَتَوَسَّطَ، فَقَالَ سَنَةً، فَإِنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَبُيِّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بُيِّنَ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ الدَّارَ حِينًا : وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي تَحْدِيدِ الْحِينِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ الصَّلَاةَ فِي احْتِمَالِ أَقَلَّ من يَوْمٍ، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ. وَالْمُعَوَّلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا بِسَاطُ حَالٍ ؛ فَيُرَكَّبُ الْبِرّ وَالْحِنْثُ عَلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا، وَعَلَى السَّبَبِ ثَانِيًا، وَعَلَى الْبِسَاطِ ثَالِثًا، وَعَلَى اللُّغَةِ رَابِعًا، وَعَلَى الْعُرْفِ خَامِسًا، وَهُوَ أَوْلَى من اللُّغَةِ عِنْدَنَا ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا فِي سُورَةِ " ص " وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ نُزُولِهَا عَلَى مَعْنَاهَا :
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :( أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ من رُطَبٍ، فَقَالَ : مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ... الْآيَةَ قَالَ : هِيَ النَّخْلَةُ ). وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ من الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، مَثَلُهَا كَمِثْلِ الْمُسْلِمِ، خَبِّرُونِي مَا هِيَ... ) الْحَدِيثَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هِيَ النَّخْلَةُ )، فَذَكَرَ خِصَالًا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ : وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ سَاعَةٌ أَقَلُّ الزَّمَانِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ شَهْرَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
السَّادِسُ : أَنَّهُ سَنَةٌ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ.
السَّابِعُ : أَنَّهُ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ.
الثَّامِنُ : أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
التَّاسِعُ : أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ :
اعْلَمُوا أَفَادَكُمْ اللَّهُ الْعِرْفَانَ أَنَّا قَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ؛ وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إلَى مَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَيُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى مَقْصُودِ الْفَتْوَى الْمُفْتَرَضِ، فَنَقُولُ : إنَّ الْحِينَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَهُوَ مُبْهَمٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَلَا تَعْيِينَ فِي الْمُفَسِّرِ لَهُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ لُغَةً، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ من عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ سَاعَةً لَحْظِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ يَوْمَ السَّاعَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ حَالَ الْعَدَمِ كقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ ﴾. وَلِأَجْلِ إبْهَامِهِ عُلِّقَ الْوَعِيدُ بِهِ، لِيَغْلِبَ الْخَوْفُ، لِاسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ الْعَذَابِ نِهَايَةَ الْأَبَدِ فِيهِ، فَيَكُفَّ عَنْ الذَّنْبِ، أَوْ يَرْجُوَ لِاقْتِضَاءِ الْوَعِيدِ أَقَلَّ مُدَّةِ احْتِمَالِهِ ؛ فَيَغْلِبَ الرَّجَاءُ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الْمَغْفِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ من الذَّنْبِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْحِينَ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ :﴿ وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ﴾.
وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِبَقَاءِ الثَّمَرِ فِي النَّخْلِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بِأَنَّهُ مُدَّةُ الثَّمَرِ من حِينِ الِابْتِدَاءِ إلَى حِينِ الْجَنْيِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ حَتَّى حِينٍ ﴾.
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِأَخْبَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَرَدَتْ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ.
وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، وَقَوِيٌّ وَضَعِيفٌ ؛ وَأَظْهَرُهَا اللَّحْظَةُ ؛ لِأَنَّهُ اللُّغَةُ وَالْمَجْهُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَالشَّهْرَانِ وَالسِّتَّةُ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةُ لِأَنَّهَا كُلُّهَا تَخْرُجُ من ذِكْرِ الْحِينِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَلْيَصُمْ سَنَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾.
وَرَوَى أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ : الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ من الثَّمَرَةِ إلَى الثَّمَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾.
وَمِنْ الْحِينِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ من الدَّهْرِ ﴾.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ قَوْلُهُ :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ فَهَذَا سَنَةٌ، وَالْحِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ :﴿ وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ ﴾، فَهَذَا حِينٌ لَا يُعْرَفُ.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : إنَّ الْحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ من حِينِ تَطْلُعُ الثَّمَرَةُ إلَى أَنْ تُرْطِبَ، وَمِنْ حِينِ تُرْطِبُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ. وَالْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾.
وَمِنْ الْحِينِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾.
قَالَ الْقَاضِي : الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ سَنَةٌ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَتَبَايَنَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ من كُلِّ بَابٍ عَلَى حَالِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِينَ الْمَجْهُولَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَأَكْثَرُ الْمَعْلُومِ سَنَةٌ.
وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَيْمَانِ وَالْأَحْكَامِ أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَأَكْثَرَهَا اسْتِظْهَارًا. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى الْأَقَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ، فَقَالَ : سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً، وَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْثِلَةِ ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي ذَلِكَ الْأَمْثِلَةَ مَا نُبَيِّنُ بِهِ الْمَقْصُودَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ :
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ رَكْعَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ النَّافِلَةِ فَيَتَقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ الْفِعْلِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ؛ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ، لَا بِالْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَحُدُّهُ إلَّا الْوَقْتُ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يَحُدُّ نَفْسَهُ. وَيَحْتَمِلُ الدَّهْرَ، وَيَحْتَمِلُ سَنَةً، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ يَوْمًا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ الدَّهْرَ ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَتَرَكَهُ مَالِكٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا من أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ صَوْمُ الدَّهْرِ لَزِمَهُ وَتَوَسَّطَ، فَقَالَ سَنَةً، فَإِنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَبُيِّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بُيِّنَ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ الدَّارَ حِينًا : وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي تَحْدِيدِ الْحِينِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ الصَّلَاةَ فِي احْتِمَالِ أَقَلَّ من يَوْمٍ، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ. وَالْمُعَوَّلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا بِسَاطُ حَالٍ ؛ فَيُرَكَّبُ الْبِرّ وَالْحِنْثُ عَلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا، وَعَلَى السَّبَبِ ثَانِيًا، وَعَلَى الْبِسَاطِ ثَالِثًا، وَعَلَى اللُّغَةِ رَابِعًا، وَعَلَى الْعُرْفِ خَامِسًا، وَهُوَ أَوْلَى من اللُّغَةِ عِنْدَنَا ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا فِي سُورَةِ " ص " وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً من النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ من الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِهَا :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ من طُرُقٍ : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَجَرَّتْ الذَّيْلَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَّتْ هَاجَرُ من سَارَةَ أَرْخَتْ ذَيْلَهَا لِتُعَفِّي أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَلَ إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ : يَا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلَا شَيْءٌ ؟ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ : آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَتْ : إذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ. ثُمَّ رَجَعَتْ.
فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتِ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ :﴿ رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ حَتَّى بَلَغَ :﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ من ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ : يَتَلَبَّطُ ؛ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ من الصَّفَا، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةُ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :( قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ : صَهٍ، تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا. فَقَالَتْ : قَدْ أَسْمَعْتَ، إنْ كَانَ عِنْدَك غُوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا : هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ : لَوْ لَمْ تَغْرِفْ من الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا ).
قَالَ : فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ : لَا تَخَافِي الضَّيْعَةَ ؛ فَإِنْ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ.
وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا من الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ من جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ من طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرَ عَائِفًا، فَقَالُوا : إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا. قَالَ : وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا : نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَأَلِفَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلَيْهِمْ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ، وَتَعْلَمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ أَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً فِيهِمْ ).
وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بَشَرٌ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، وَشَكَتْ إلَيْهِ. فَقَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقَوْلِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ : هَلْ جَاءَكُمْ من أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : جَاءَنَا شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلْنَا عَنْك، فَأَخْبَرْته، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ : فَهَلْ أَوْصَاك بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَك : غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِك. قَالَ : ذَاكَ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَك. الْحَقِي بِأَهْلِك. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ : كَيْفَ أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ : نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ : مَا طَعَامُكُمْ قَالَتْ : اللَّحْمُ. قَالَ : فَمَا شَرَابُكُمْ ؟ قَالَتْ : الْمَاءُ. قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ ). قَالَ : فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ. قَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ : هَلْ أَتَاكُمْ من أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرْته، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟ فَأَخْبَرْته أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ : فَأَوْصَاك بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ، وَيَأْمُرُك أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِك. قَالَ : ذَلِكَ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَك. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا من زَمْزَمَ. فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ وَالْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، ثُمَّ قَالَ : يَا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ : فَاصْنَعْ مَا أَمَرَك رَبُّك. قَالَ : وَتُعِينُنِي. قَالَ : وَأُعِينُك. قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا. قَالَ : فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ من الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ؛ وَهُمَا يَقُولَانِ :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾. قَالَ : فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى تَدَوَّرَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَهُمَا يَقُولَانِ :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْت من ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي طَرْحِ عِيَالِهِ وَوَلَدِهِ بِأَرْضٍ مَضْيَعَةٍ اتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ إبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقُولُ الْغُلَاةُ من الصُّوفِيَّةِ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ ؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ ؛ لِقَوْلِهَا لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَلَمَّا كَانَ بِأَمْرٍ مِنْهُ أَرَادَ تَأْسِيسَ الْحَالِ وَتَمْهِيدَ الْمَقَامِ، وَخَطَّ الْمَوْضِعَ لِلْبَيْتِ الْمُحَرَّمِ وَالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ، أَرْسَلَ الْمَلَكَ فَبَحَثَ بِالْمَاءِ، وَأَقَامَهُ مَقَامَ الْغِذَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ من تِلْكَ الْحَالِ إلَّا هَذَا الْمِقْدَارُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ).
وَقَدْ اجْتَزَأَ بِهِ أَبُو ذَرٍّ لَيَالِيَ أَقَامَ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ لِقَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ قَالَ : حَتَّى سَمِنْت وَتَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَكَانَ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السُّؤَالِ وَل
Icon