تفسير سورة إبراهيم

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله ﴾ [ إبراهيم، ٢٨ ] الآيتين، وهي اثنتان وخمسون آية وعدد كلماتها وإحدى وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعة وثلاثون حرفاً.

قوله تعالى :﴿ الر ﴾ تقدّم الكلام عليها أول يونس وهود. وقوله تعالى :﴿ كتاب ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي : هذا القرآن كتاب، أو الر، إن قلنا : إنها مبتدأ والجملة بعده صفة، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة ؛ لأنها موصوفة تقديراً، تقديره كتاب، أي : كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية ﴿ أنزلناه إليك ﴾ يا أشرف الخلق عند الله تعالى ﴿ لتخرج الناس ﴾، أي : عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم ﴿ من الظلمات ﴾، أي : الكفر وأنواع الضلالة ﴿ إلى النور ﴾، أي : الإيمان والهدى. قال الرازي : والآية دالة على أنّ طرق الكفر والبدع كثيرة وأنّ طريق الحق ليس إلا واحداً ؛ لأنه تعالى قال :﴿ لتخرج الناس من الظلمات ﴾ وهي صيغة جمع، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور، وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أنّ طرق الجهل والكفر كثيرة وأنّ طريق العلم والإيمان ليس إلا واحداً.
تنبيه : القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول، احتجوا بهذه الآية، وذلك يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم. وأجيب : بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كالمنبه وأمّا المعرفة فهي إنما تحصل من الدليل وقوله تعالى :﴿ بإذن ربهم ﴾ متعلق بالإخراج، أي : بتوفيقه وتسهيله، ويبدل من إلى النور ﴿ إلى صراط ﴾، أي : طريق ﴿ العزيز ﴾، أي : الغالب ﴿ الحميد ﴾، أي : المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد.
وفي قوله :﴿ الله ﴾ قراءتان، فقرأ نافع وابن عامر برفع الهاء وصلاً وابتداء على أنه مبتدأ خبره ﴿ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾، أي : ملكاً وخلقاً، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه بدل أو عطف بيان وما بعده صفة.
تنبيه : ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي : والحق عندنا هو الأوّل ؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا : لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى :﴿ هل تعلم له سمياً ﴾ [ مريم، ٦٥ ]، أي : هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على قولنا : الله اسم لذاته المخصوصة، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى :﴿ هو الله الخالق البارئ المصور ﴾ [ الحشر، ٢٤ ] وأمّا الخالق الله فلا يحسن.
وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلاً، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله تعالى :﴿ صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ والآية تفيد حصر ما في السماوات وما في الأرض له لا لغيره، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأنها حاصلة في السماوات والأرض، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره، وذلك محال، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى :﴿ وويل للكافرين ﴾، أي : الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئاً البتة، بل هو مملوك لله تعالى ؛ لأنه من جملة ما في السماوات وما في الأرض، وويل مبتدأ، وجاز الابتداء به ؛ لأنه دعاء كسلام عليكم وللكافرين خبره، وقوله تعالى :﴿ من عذاب شديد ﴾، أي : يعذبهم في الآخرة متعلق بويل ولا يضر الفصل بالخبر.
ثم وصفهم بقوله تعالى :﴿ الذين يستحبون ﴾، أي : يختارون ﴿ الحياة الدنيا على الآخرة ﴾، أي : يؤثرونها عليها ﴿ ويصدّون عن سبيل الله ﴾، أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله ﴿ ويبغونها ﴾، أي : السبيل ﴿ عوجاً ﴾، أي : معوجة والأصل ويبغون لها زيغاً وميلاً، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى الضمير ﴿ أولئك ﴾، أي : الموصوفون بهذه الصفات ﴿ في ضلال بعيد ﴾، أي : عن الحق وإسناد البعد إلى الضلال إسناد مجازي ؛ لأنّ البعيد هم الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني.
ثم ذكر ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين بقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول ﴾، أي : في زمن من الأزمان ﴿ إلا بلسان ﴾، أي : لغة ﴿ قومه ﴾ أمّا بالنسبة إلى الرسول ؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة البشر، وكان هذا الإنعام في حقك أكمل وأفضل، وأمّا بالنسبة إلى عامّة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلا بلسان أولئك القوم
﴿ ليبين لهم ﴾ ما أمروا به فيفهموه عنه بيسر وسرعة ؛ لأنّ ذلك أسهل لفهم أسرار تلك الشريعة، والوقوف على حقائقها وأبعد عن الغلط والخطأ.
تنبيه : تمسك طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية بهذه الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل لغير العرب من وجهين :
الأوّل : أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا عليهم.
الثاني : أنّ قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ﴾ [ إبراهيم، ٤ ] المراد بذلك اللسان لسان العرب، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.
وردّ عليهم بأنّ المراد بالقوم أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ﴾ [ الأعراف، ١٥٨ ] بل إلى الثقلين ؛ لأنّ التحدي كما وقع مع الإنس وقع مع الجنّ بدليل قوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ﴾ [ الإسراء، ٨٨ ].
ثم بيّن سبحانه وتعالى أنّ الإضلال والهداية بمشيئته بقوله تعالى :﴿ فيضل الله من يشاء ﴾ إضلاله ﴿ ويهدي من يشاء ﴾ هدايته، فإنه تعالى هو المضل الهادي، وليس على الرسل إلا التبليغ والبيان والله تعالى هو الهادي المضل يفعل ما يشاء ﴿ وهو العزيز ﴾ في ملكه، فلا رادّ له عن مشيئته ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة.
ولما بين تعالى أنه إنما أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم، وكيفية معاملة أقوامهم لهم ليكون ذلك تصبيراً له صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم، فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام فقال :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ﴾، أي : العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل والمنّ والسلوى وسائر معجزاته ﴿ أن أخرج قومك ﴾، أي : بني إسرائيل ﴿ من الظلمات ﴾، أي : الكفر والضلال ﴿ إلى النور ﴾، أي : الإيمان والهدى.
تنبيه : يجوز أن تكون أن مصدرية، أي : بأن أخرج، والباء في بآياتنا للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى، أي : ويكون المعنى، أي : أخرج قومك من الظلمات، أي : قلنا له أخرج قومك كقوله تعالى :﴿ وانطلق الملأ منهم أن امشوا ﴾ [ ص، ٦ ]. ﴿ وذكرهم بأيام الله ﴾ قال ابن عباس : بنعم الله. وقال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال : فلان عالم بأيام العرب، أي : بوقائعهم، وفي المثل من سرّ يوماً يره. قال الرازي : معناه من رأى في يوم سروره بمصرع غيره رآه غيره في يوم آخر بمصرع نفسه، وقال تعالى :﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ [ آل عمران، ١٤٠ ] والمعنى : عظهم بالترغيب، والترهيب، والوعد والوعيد، والترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمنوا بالرسل فيما سلف من الأيام، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأمر الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد، فيصدّقوا ويحذروا من الوعيد، فيتركوا التكذيب، وقيل : بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب، فخلصهم الله من ذلك وجعلهم ملوكاً بعد أن كانوا مملوكين ﴿ إنّ في ذلك ﴾، أي : التذكير العظيم ﴿ لآيات ﴾ على وحدانية الله تعالى وعظمته ﴿ لكل صبار ﴾، أي : كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية ﴿ شكور ﴾، أي : كثير الشكر للنعم، وإنما خص الصبور والشكور بالاعتبار بالآيات، وإن كان فيها عبرة للكل ؛ لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ [ البقرة، ٣ ] فإنّ الانتفاع لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابراً شاكراً أما من لا يكون كذلك فلا ينتفع بها البتة.
ولما أمر الله تعالى موسى أن يذكرهم بأيام الله حكى عنه أنه ذكرهم بها بقوله تعالى :﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ﴾ وقوله :
﴿ إذ أنجاكم من آل فرعون ﴾ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي : اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت ﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ بالاستعباد
﴿ ويذبحون ﴾، أي : تذبيحاً كثيراً ﴿ أبناءكم ﴾، أي : المولودين ﴿ ويستحيون ﴾، أي : يستبقون ﴿ نساءكم ﴾ أحياء وذلك كقول بعض الكهنة إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملك فرعون.
فإن قيل : لم ذكر تعالى في سورة البقرة ﴿ يذبحون ﴾ بغير واو وذكره هنا مع الواو ؟ أجيب : بأنها إنما حذفت في سورة البقرة ؛ لأنها تفسير لقوله تعالى :﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وهنا أدخل الواو فيه ؛ لأنه نوع آخر لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح فليس تفسيراً للعذاب ﴿ وفي ذلكم بلاء ﴾، أي : إنعام وابتلاء ﴿ من ربكم عظيم ﴾ لأنّ الابتلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً، ومنه قوله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء، ٣٥ ]. فإن قيل : تذبيح الأبناء فيه بلاء، وأمّا استحياء النساء فكيف فيه ابتلاء ؟ أجيب : بأنهم كانوا يستحيونهن ويتركونهنّ تحت أيديهم كالإماء، فكان ذلك ابتلاء.
وقوله تعالى :﴿ وإذ ﴾، أي : واذكروا إذ ﴿ تأذن ربكم ﴾ فهو أيضاً من كلام موسى عليه السلام، وتأذن بمعنى أذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة ﴿ لئن شكرتم ﴾.
يا بني إسرائيل نعمتي بالتوحيد والطاعة ﴿ لأزيدنكم ﴾ نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود، والشكر عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة، ثم قد يرتقي العبد عن تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة، ولاشك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته، وأما الزيادة في النعمة فهي على قسمين : روحانية وجسمانية، فالأولى هي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعمة الله تعالى، وأنواع فضله وكرمه، وأما الثانية : فلأن الاستقراء دل على أنّ كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر نسأل الله تعالى القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه، ويفعل ذلك بأهلينا وأحبابنا. ثم إنه تعالى لما ذكر ما يستحقه الشاكر ذكر ما يستحقه مقابله بقوله تعالى :﴿ ولئن كفرتم ﴾، أي : جحدتم النعمة بالكفر والمعصية لأعذبنكم دل عليه ﴿ إن عذابي لشديد ﴾، أي : لمن كفر نعمتي ولا يشكرها، ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد.
ولما بيّن موسى أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر، وصاحب الكفران، وأما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى :﴿ وقال موسى إن تكفروا أنتم ﴾ يا بني إسرائيل ﴿ ومن في الأرض ﴾ وأكده بقوله تعالى :﴿ جميعاً ﴾، أي : من الثقلين فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم وحرمتموها الخير كله ﴿ فإن الله لغني ﴾ عن جميع خلقه فلا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينقص بكفر الكافرين ﴿ حميد ﴾، أي : محمود في جميع أفعاله ؛ لأنه فيها متفضل عادل.
وقوله تعالى :﴿ ألم يأتكم ﴾ يا بني إسرائيل ﴿ نبأ ﴾، أي : خبر ﴿ الذين من قبلكم قوم نوح ﴾ وكانوا ملء الأرض ﴿ و ﴾ نبأ ﴿ عاد ﴾ قوم هود وكانوا أشد الناس أبداناً ﴿ و ﴾ نبأ ﴿ ثمود ﴾ قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وهو استفهام تقرير وقوله تعالى :﴿ والذين من بعدهم ﴾، أي : بعد هؤلاء الأمم الثلاثة ﴿ لا يعلمهم إلا الله ﴾ فيه قولان ؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى ؛ لأن المذكور في القرآن جملة، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل، والقول الثاني : إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليه السلام، وقد نفى الله علمها عن العباد. وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ وقروناً بين ذلك كثيراً ٣٨ وكلاً ضربنا له الأمثال وكلاً تبرنا تتبيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٨، ٣٩ ] وقوله تعالى :﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾ [ غافر، ٧٨ ]. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في انتسابه لا يجاوز معدّ بن عدنان بن أدر وقال :«تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق ». قال الرازي : والقول الثاني أقرب. ولما ﴿ جاءتهم ﴾، أي : هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم ﴿ رسلهم بالبينات ﴾، أي : الدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات أتوا بأمور أوّلها ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ فردّوا ﴾، أي : الأمم ﴿ أيديهم في أفواههم ﴾ وفي ذلك احتمالات : الأول : أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى :﴿ عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾ [ آل عمران، ١١٩ ].
والثاني : أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية، فعند ذلك ردّوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك، فيضع يده على فيه.
والثالث : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام، واسكتوا عن ذكر هذا الحديث.
والرابع : أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم الكفر كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى :﴿ وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به ﴾ أي : على زعمكم أي : أن هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق هذا هو الأمر الثاني الذي أتوا به، وقيل : الضمير في ردوا راجع للرسل عليهم السلام، وفيه وجهان :
أحدهما أنّ الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوا وليقطعوا الكلام.
والثاني : أنّ الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم، على أفواه أنفسهم فإنّ من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه، وغرضه أن يعرّفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة، والأمر الثالث : قولهم :﴿ وإنا لفي شك مما ﴾، أي : شيء ﴿ تدعوننا ﴾ أيها الرسل ﴿ إليه ﴾، أي : من الدين ﴿ مريب ﴾، أي : موجب الريبة، أي : موقع في الريبة والشبهة والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه. فإن قيل : إنهم قالوا أولاً : إنّا كفرنا بما أرسلتم به، فكيف يقولون ثانياً ﴿ وإنا لفي شك ﴾ والشك دون الكفر ؟ أجيب : بأنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل كلهم حصل لهم شبه توجب الشك لهم فقالوا : إن لم ندع الجزم واليقين في كفرنا فلا أقلّ من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
ولما قال هؤلاء الكفار للرسل ذلك. ﴿ قالت ﴾ لهم ﴿ رسلهم ﴾ مجيبين ﴿ أفي الله شك ﴾، أي : هل تشكون في الله ؟ وهو استفهام إنكار، أي : لا شك في توحيده للدلائل الظاهرة عليه منها قوله تعالى :﴿ فاطر ﴾، أي : خالق ﴿ السماوات والأرض ﴾، أي : وما فيهما من الأنفس والأرواح والأرزاق، وقرأ أبو عمرو رسلهم هنا وفيما مر في ﴿ جاءتهم رسلهم ﴾ بإسكان السين، والباقون بالرفع. ولما أقاموا الدليل على وجود الله تعالى وصفوه بكمال الرحمة بقولهم :﴿ يدعوكم ﴾، أي : إلى الإيمان ببعثنا وقولهم :﴿ ليغفر لكم ﴾ اللام متعلقة بيدعو، أي : لأجل غفران ذنوبكم كقوله :
دعوت لما نالني مسورا *** فلبى فلبى يدي مسور
ويجوز أن تكون معدية كقوله : دعوتك لزيد، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم وقوله :﴿ من ذنوبكم ﴾ قال السيوطي : من زائدة فإنّ الإسلام يغفر به ما قبله، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد اه. أي : والمغفور لهم ما بينهم وبين الله تعالى. قال الرازي : والعاقل لا يجوز له المصير إلى كلمة من كلام الله تعالى بأنها زائدة من غير ضرورة اه.
وقال في «الكشاف » : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله :﴿ واتقوه وأطيعون ٣ يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ [ نوح : ٣، ٤ ] ﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ [ الأحقاف، ٣١ ]. وقال في خطاب المؤمنين :﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ١١ يغفر لكم ذنوبكم ﴾ [ الصف : ١١، ١٢ ] وغير ذلك مما يوقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، وأن لا يسوّى بين الفريقين في المعاد اه. قال الرازي : وأما قول «الكشاف » فهو من باب الظلمات ؛ لأنّ هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. ﴿ ويؤخركم ﴾، أي : ولا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة في الإهلاك لمن خالفهم بل يؤخركم. ﴿ إلى أجل مسمى ﴾، أي : إلى وقت قد سماه وبين مقداره يبلغكموه إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إن أنتم ما آمنتم. فإن قيل : أليس قال تعالى :﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ [ الأعراف، ٣٤ ] فكيف قال هنا :﴿ ويؤخركم إلى أجل مسمى ﴾ [ إبراهيم، ١٠ ] ؟ أجيب : بأنّ الأجل على قسمين : معلق ومبرم. ﴿ قالوا ﴾، أي : الأمم مجيبين للرسل. ﴿ إن ﴾، أي : ما ﴿ أنتم ﴾ أيها الرسل ﴿ إلا بشر مثلنا ﴾، أي : لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوّة دوننا ولو أرسل الله تعالى إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس، أي : من البشر في زعم القائلين أفضل، وقول «الكشاف » : وهم الملائكة جار على مذهبه. ﴿ تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا ﴾، أي : ما تريدون بقولكم هذا إلا صدّنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ﴿ فأتونا بسلطان مبين ﴾، أي : بحجة ظاهرة على صدقكم.
ولما حكى الله تعالى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوّة حكى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جوابهم عنها بقوله تعالى :﴿ قالت لهم رسلهم ﴾ مجيبين لهم ﴿ إن ﴾، أي : ما ﴿ نحن إلا بشر مثلكم ﴾ كما قلتم، فسلموا أنّ الأمر كذلك لكنهم بينوا أنّ التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض بمنصب النبوّة بقولهم ﴿ ولكنّ الله يمنّ ﴾ أي : يتفضل ﴿ على من يشاء من عباده ﴾ بالنبوّة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف، كما قال تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [ الأنعام، ١٢٤ ]. ﴿ وما كان ﴾، أي : ما صح واستقام ﴿ لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ﴾، أي : إلا بأمره ؛ لأنا عبيد مربوبون فليس إلينا الإتيان بالآيات، ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله تعالى فله أن يخص كل نبيّ بنوع من الآيات. ﴿ وعلى الله فليتوكل ﴾ بأمر حتم ﴿ المؤمنون ﴾، أي : يثقوا به فلا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم.
فإن توكلنا على الله، واعتمادنا على فضل الله، فإن الروح متى كانت مشرفة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء علم الغيب قلما تبالي بالأحوال الجسمانية، وقلما تقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء فلهذا توكلوا على الله، وعوّلوا على فضله، وقطعوا أطماعهم عمن سواه، وعمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أوّلياً ألا ترى إلى قولهم :﴿ وما لنا أن لا نتوكل على الله ﴾، أي : أيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه ﴿ وقد هدانا سبلنا ﴾، أي : وقد عرّفنا طريق النجاة وبيّن لنا الرشد، فإنّ من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مقام الإخلاص والمكاشفة يقبح عليه أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى يعصم أولياءه، والمخلصين في عبوديته عن كيد أعدائهم ومكرهم. وقرأ أبو عمرو بسكون الباء والباقون بالرفع، وكذلك لرسلهم سكن أبو عمرو السين ورفعها الباقون، ثم قالوا :﴿ ولنصبرنّ على ما آذيتمونا ﴾ فإنّ الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بدّ وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بدّ وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم قالوا :﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾. فإن قيل : ، أي : فرق بين التوكلين ؟ أجيب : بأنّ الأوّل لاستحداث التوكل والثاني طلب دوامه، ، أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم.
ولما حكى الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة بقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم ﴾ مستهينين لمن قصروا التجاءهم عليه. ﴿ لنخرجنكم من أرضنا ﴾، أي : التي لنا الآن الغلبة عليها. ﴿ أو لتعودنّ في ملتنا ﴾، أي : حلفوا ليكونن أحد الأمرين إمّا إخراجكم أيها الرسل، وإمّا عودكم إلى ملتنا، أي : ديننا. فإن قيل : قد يفهم هذا بظاهره أنهم كانوا على ملتهم قبل ذلك ؟ أجيب : بأنّ العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية، لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ولكن عاد يقولون ما عدت أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل من أوّل الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه فغلبوا الجماعات على الواحد، وقيل :﴿ أو لتعودنّ في ملتنا ﴾ أي إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عند ذكر معايبه وعدم التعرّض له بالطعن والقدح. ولما ذكر الكفار هذا الكلام قال تعالى :﴿ فأوحى إليهم ﴾، أي : الرسل ﴿ ربهم ﴾ وقوله تعالى :﴿ لنهلكنّ الظالمين ﴾، أي : الكافرين حكاية تقتضي إضمار القول أو أجرى الإيحاء مجرى القول ؛ لأنه ضرب منه.
﴿ ولنسكننكم الأرض ﴾، أي : أرضهم ﴿ من بعدهم ﴾، أي : بعد هلاكهم ونظيره قوله تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ [ الأعراف، ١٣٧ ] وقوله تعالى :﴿ وأورثكم أرضهم وديارهم ﴾ [ الأحزاب، ٢٧ ]. قال الزمخشري : وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من آذى جاره ورثه الله داره ». قال : ولقد عاينت هذا في مدّة قريبة كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم، وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون، منها ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثتهم به وسجدنا شكراً لله تعالى.
﴿ ذلك ﴾، أي : النصر وإيراث الأرض ﴿ لمن خاف مقامي ﴾، أي : موقفي وهو موقف الحساب ؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره ﴿ وأمّا من خاف مقام ربه ﴾ [ النازعات، ٤٠ ] وقوله تعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ [ الرحمن، ٤٦ ] وقيل :﴿ ذلك لمن خاف مقامي ﴾، أي : خافني، فالمقام مقحم مثل ما يقال : سلام على المجلس العالي والمراد السلام على فلان ﴿ وخاف وعيد ﴾ قال ابن عباس : ما أوعدت من العذاب، وهذا يدل على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده ؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة.
وفي تفسير قوله تعالى :﴿ واستفتحوا ﴾ قولان : أحدهما : طلب الفتح، أي : واستنصروا الله تعالى على أعدائهم وهو كقوله تعالى :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ [ الأنفال، ١٩ ].
والثاني : الفتح الحكم والقضاء، أي : واستحكموا الله وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة، وهي الحكومة كقوله تعالى :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ [ الأعراف، ٨٩ ]. فعلى القول الأول المستفتح هم الرسل ؛ لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم. قال نوح :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ﴾ [ نوح، ٢٦ ] وقال موسى :﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾ [ يونس، ٨٨ ] وقال لوط :﴿ انصرني على القوم المفسدين ﴾ [ العنكبوت، ٣٠ ]. وعلى القول الثاني : قال الرازي : فالأولى أن يكون المستفتح هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين، فعذبنا، ومنه قول كفار قريش :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ [ الأنفال، ٣٢ ]. وكقول آخرين :﴿ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾ [ العنكبوت، ٢٩ ]. ﴿ وخاب ﴾، أي : خسر وهلك ﴿ كل جبار ﴾، أي : متكبر عن طاعة الله، وقيل : هو الذي لا يرى فوقه أحداً، وقيل : هو المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه، واختلفوا في قوله تعالى :﴿ عنيد ﴾ فقال مجاهد : معاند للحق ومجانبه. وقال ابن عباس : هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل : هو المتكبر. وقال قتادة : هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله، وقيل : هو المعجب بما عنده.
ولما حكم تعالى على الكافر بالخيبة، ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور : الأوّل : قوله تعالى :﴿ من ورائه ﴾، أي : أمامه ﴿ جهنم ﴾، أي : هو صائر إليها. قال أبو عبيدة : هو من الأضداد وقال الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً : الموت وراء كل أحد. وقال تعالى :﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً ﴾ [ الكهف، ٧٩ ]، أي : أمامهم. وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أم قدامك، فيصح إطلاق لفظ الوراء على خلف وقدّام. وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد. قال الشاعر : وليس وراء الله للخلق مهرب.
ومعنى الآية على هذا : أن الكافر بعد الخيبة يدخل جهنم.
الأمر الثاني : ما ذكره تعالى بقوله :﴿ ويسقى ﴾، أي : في جهنم ﴿ من ماء صديد ﴾ وهو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطاً بالقيح والدم جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب : هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. فإن قيل : علام عطف ﴿ ويسقى ﴾ ؟ أجيب : بأنه عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد.
﴿ يتجرّعه ﴾، أي : يتكلف أن يبتلعه مرّة بعد مرّة لمرارته وحرارته ونتنه ﴿ ولا يكاد يسيغه ﴾، أي : ولا يقدر على ابتلاعه. قال الزمخشري : دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة ؟ كقوله تعالى :﴿ لم يكد يراها ﴾ [ النور، ٤٠ ]، أي : لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟ فإن قيل : كيف الجمع على هذا الوجه بين ﴿ يتجرّعه ﴾ و﴿ لا يكاد يسيغه ﴾ ؟ أجيب بجوابين : أحدهما : أنّ المعنى ولا يسيغ جميعه كأنه يتجرّع البعض وما أساغ الجميع. والثاني : إنّ الدليل الذي ذكر إنما دل على وصول ذلك الشراب إلى جوف ذلك الكافر ؛ لأنّ ذلك ليس بإساغة ؛ لأنّ الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة، وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة.
الأمر الثالث : ما ذكره تعالى بقوله تعالى :﴿ ويأتيه الموت ﴾، أي : أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب ﴿ من كل مكان ﴾، أي : من سائر الجهات، وقيل : من كل مكان من جسده حتى أصول شعره وإبهام رجله. ﴿ وما هو بميت ﴾ فيستريح. وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكان من جوفه فتنفعه الحياة.
الأمر الرابع : ما ذكره تعالى بقوله تعالى :﴿ ومن ورائه ﴾، أي : ومن بين يديه بعد ذلك العذاب ﴿ عذاب غليظ ﴾، أي : شديد كل وقت يستقبله أشدّ مما قبله، وقيل : هو الخلود في النار، وقيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد.
ولما ذكر تعالى أنواع عذابهم بين بعده أنّ سائر أعمالهم تصير باطلة ضائعة، وذلك هو الخسران الشديد بقوله تعالى :﴿ مثل ﴾، أي : صفة ﴿ الذين كفروا بربهم أعمالهم ﴾، أي : الصالحة كصدقة وصلة رحم وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد في عدم الانتفاع بها ﴿ كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف ﴾، أي : شديد هبوب الريح، فجعلته هباء منثوراً لا يقدر عليه كما قال تعالى :﴿ لا يقدرون ﴾، أي : الكفار يوم الجزاء ﴿ مما كسبوا ﴾، أي : عملوا في الدنيا ﴿ على شيء ﴾، أي : لا يجدون لهم ثواباً لفقد شرطه وهو الإيمان. وقرأ نافع ( الرياح ) بالجمع، والباقون بالإفراد. ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ﴿ هو الضلال البعيد ﴾، أي : الخسران الكبير لأنّ أعمالهم ضلت وهلكت فلا يرجى عودها.
تنبيه : في ارتفاع قوله تعالى :﴿ مثل ﴾ أوجه : أحدها : وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله تعالى :﴿ أعمالهم كرماد ﴾ مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم ؟ فقيل أعمالهم كرماد.
والثاني : وهو مذهب الفراء التقدير : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه، وهو قوله تعالى :﴿ أعمالهم ﴾ ومثله قوله تعالى :﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة ﴾ [ الزمر، ٦٠ ] المعنى : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة.
الثالث : أن يكون التقدير : صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقوله : صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول.
الرابع : أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله :﴿ مثل الذين كفروا ﴾، والتقدير مثل أعمالهم وقوله تعالى :﴿ كرماد ﴾ هو الخبر. وقيل : غير ذلك.
وقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾، أي : تنظر خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أمّته، وقيل : لكل واحد من الكفرة على الالتفات. ﴿ أنّ الله خلق السماوات ﴾ على عظمها وارتفاعها ﴿ والأرض ﴾ على تباعد أقطارها واتساعها، وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾، أي : بالحكمة، والوجه الذي يحق أن تخلق عليه متعلق بخلق. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام، ورفع القاف، وخفض الأرض. والباقون بغير ألف بعد الخاء، وفتح اللام والقاف، ونصب الأرض. ﴿ إن يشأ يذهبكم ﴾ أيها الناس ﴿ ويأت ﴾ بدلكم ﴿ بخلق جديد ﴾ أطوع منكم، رتب ذلك على كونه خالق السماوات والأرض استدلالاً به عليه، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم قدر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع عليه كما قال تعالى :﴿ وما ذلك على الله بعزيز ﴾.
﴿ وما ذلك على الله بعزيز ﴾، أي : بممتنع، فإنه تعالى قادر بذاته، ولا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقاً أن يؤمن به، ويعبد رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه يوم الجزاء.
ولما ذكر تعالى أصناف عذاب هؤلاء الكفار، وذكر عقبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر كيفية مجادلتهم عند تمسك أتباعهم بهم وكيفية افتضاحهم عندهم بقوله تعالى :﴿ وبرزوا ﴾، أي : الخلائق من قبورهم ﴿ لله جميعاً ﴾ والتعبير فيه وفيما يأتي بالماضي، وإن كان معناه الاستقبال لتحقق وقوعه ؛ لأنّ كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو حق وصدق وكائن لا محالة، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، ونظيره :﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ﴾ [ الأعراف، ٤٤ ].
تنبيه : البروز في اللغة الظهور بعد الاستتار، وهو في حق الله تعالى محال، فلا بدّ من تأويله وهو من وجهين :
الأوّل : أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عن أنفسهم، وعلموا أنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية.
الثاني : أنهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى وحكمه. ثم حكى الله تعالى ؟ عنهم أنّ الضعفاء يقولون للرؤوساء هل تقدرون على دفع عذاب الله تعالى عنا بقوله تعالى :﴿ فقال الضعفاء ﴾، أي : الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعفاء الرأي ﴿ للذين استكبروا ﴾، أي : المتبوعين الذين طلبوا الكبر، وادّعوه فاستغووهم به حتى تكبروا على الرسل، وقوله تعالى :﴿ إنا كنا لكم تبعاً ﴾ يصح أن يكون مصدراً نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف وأن يكون جمع تابع، أي : تابعين لكم في تكذيب الرسل، فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم ﴿ فهل أنتم ﴾، أي : في هذا اليوم ﴿ مغنون ﴾، أي : دافعون ﴿ عنا من عذاب الله ﴾، أي : من انتقامه ﴿ من شيء ﴾ فإن قيل : فما الفرق بين من في عذاب الله وبين من في شيء ؟ أجيب : بأنّ الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو من بعض عذاب الله ؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا :﴿ لو هدانا الله ﴾، أي : الذي له صفات الكمال ﴿ لهديناكم ﴾، أي : لو أرشدنا الله تعالى لأرشدناكم، ودعوناكم إلى الهدى، ولكنه لم يهدنا، فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم، ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع قالوا :﴿ سواء علينا ﴾، أي : نحن وأنتم ﴿ أجزعنا أم صبرنا ﴾، أي : مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن ؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه ﴿ ما لنا من محيص ﴾، أي : منجى ومهرب مما نحن فيه من العقاب.
تنبيه : يحتمل أن يكون هذا من كلام المتبوعين، وأن يكون كلام الفريقين، ويؤيد الثاني ما روي أنهم يقولون في النار : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع، فيقولون : تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر، فعند ذلك يقولون ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أنّ أهل النار استغاثوا بالخزنة كما قال الله تعالى :﴿ وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب ﴾ [ غافر، ٤٩ ] فردّت الخزنة عليهم :﴿ أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى ﴾ [ غافر، ٥٠ ] فردّت الخزنة عليهم :﴿ فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾ [ غافر، ٥٠ ] فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا :﴿ يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ [ الزخرف، ٧٧ ] سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم ﴿ كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الحج، ٤٧ ] ثم يجيبهم بقوله :﴿ إنكم ماكثون ﴾. فلما أيسوا مما عنده، قال بعضهم لبعض ذلك.
ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى :﴿ وقال الشيطان ﴾ الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين ﴿ لما قضي الأمر ﴾، أي : أحكم وفرغ منه، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه، فيقوم فيهم خطيباً. قال مقاتل : يوضع له منبر من نار، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله :﴿ إنّ الله وعدكم وعد الحق ﴾، أي : بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم ﴿ ووعدتكم ﴾ أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب ﴿ فأخلفتكم ﴾، أي : الوعد، فلم أقل شيئاً إلا كان زيفاً، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم، وتركتم ربكم وهو وليكم.
تنبيه : في الآية إضمار من وجهين : الأوّل : أنّ التقدير : إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره، ووعدتكم فأخلفتكم، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها، وليس وراء العيان بيان ؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.
الثاني : أنّ قوله :﴿ ووعدتكم فأخلفتكم ﴾ الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف هذا للعلم به، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان ﴾، أي : سلطان، فمن مزيدة، أي : قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي، وألجئكم على متابعتي وقوله :﴿ إلا أن دعوتكم ﴾ استثناء منقطع، قال النحويون : لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان، فمعناه : لكن دعوتكم ﴿ فاستجبتم لي ﴾ محكمين الشهوات ؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال :﴿ والآخرة خير وأبقى ﴾.
قال الرازي : وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة إلا هاهنا استثناء حقيقي، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط اه. ثم قال لهم :﴿ فلا تلوموني ﴾، أي : لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة ﴿ ولوموا أنفسكم ﴾ ؛ لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ، ولا تسمعوا قولي، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل.
فإن قيل : لم قال الشيطان :﴿ فلا تلوموني ﴾ وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة ؟ أجيب : بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال :﴿ ما أنا بمصرخكم ﴾، أي : بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فأزيل صراخكم منه. ﴿ وما أنتم بمصرخي ﴾، أي : بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في التقاء الساكنين ؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة، وياء المتكلم أصلها السكون، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين. قال البيضاوي : وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع حركة ياء الإضافة اه. فقوله : أصل مرفوض، أي : متروك عند النحاة، وإلا فهو قراءة متواترة عند القراء، فيجب المصير إليها ؛ لأنها وردت من رب العالمين على لسان سيد المرسلين.
وقول الفراء : ولعلها من وهم القراء، فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ممنوع، فقد قال أبو حيان : هي قراءة متواترة نقلها السلف، واقتفى آثارهم فيها الخلف، فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة لكن قلّ استعمالها، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع، ونص على أنها صواب أبو عمرو بن العلاء، لما سئل عنها، والقاسم بن معن من رؤساء الكوفيين. قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال :﴿ إني كفرت بما أشركتموني من قبل ﴾، أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي : في الدنيا كقوله تعالى :﴿ ويوم القيامة يكفرون بشرككم ﴾ [ فاطر، ١٤ ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى :﴿ إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ﴾ [ الممتحنة، ٤ ]. وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة «يقول : عيسى ذلك النبيّ الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل فيّ نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون : ما هو غير الشيطان هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد، ثم يعظم لهبهم ويقول عند ذلك :﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ﴾ الآية ".
قال في «الكشاف » : وقوله ﴿ إن الظالمين ﴾، أي : الكافرين ﴿ لهم عذاب أليم ﴾، أي : مؤلم من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت ؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم.
ولما بالغ سبحانه وتعالى في شرح حال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء، وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل، وذلك أنّ الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى :﴿ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ وكونها دائمة أشير إليها بقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ وهو حال مقدرة، والتعظيم حصل لهم من وجهين : أحدهما : قوله تعالى :﴿ بإذن ربهم ﴾ ؛ لأنّ تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله تعالى وإنعاماً. والثاني : قوله تعالى :﴿ تحيتهم فيها سلام ﴾ ؛ لأنّ بعضهم يحيى بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ٢٣ سلام عليكم ﴾ [ الرعد : ٢٣، ٢٤ ] والرب يحييهم أيضاً بهذه التحية كما قال تعالى :﴿ سلام قولاً من رب رحيم ﴾ [ يس، ٥٨ ] ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع آفات الدنيا وحسراتها وفنون آلامها وأسقامها وأنواع همومها وغمومها ؛ لأنّ السلام مشتق من السلامة.
ولما شرح سبحانه تعالى أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين بقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾، أي : تنظر، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره، وأن يكون لكل فرد من الناس، أي : ألم تر أيها الإنسان ﴿ كيف ضرب الله ﴾، أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿ مثلاً ﴾ سيره بحيث يعم نفعه، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل، ثم بينه بقوله تعالى :﴿ كلمة طيبة ﴾ قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي لا إله إلا الله. ﴿ كشجرة طيبة ﴾ قال ابن مسعود وأنس : هي النخلة. وعن ابن عباس : هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي ؟ قال عبد الله : فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا صغير القوم ». وروي : فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنها النخلة ». قيل : الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها، وأنها تشبه الإنسان بحيث أنها لا تحمل إلا باللقاح ؛ لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «أكرموا عمتكم قيل : ومن عمتنا ؟ قال : النخلة ». ﴿ أصلها ثابت ﴾، أي : في الأرض ﴿ وفرعها ﴾، أي : غصنها ﴿ في السماء ﴾، أي : في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه.
﴿ تؤتي ﴾، أي : تعطي. ﴿ أكلها ﴾، أي : ثمرها ﴿ كل حين بإذن ربها ﴾، أي : بإرادته، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقدار هذا، فقال مجاهد : الحين هنا سنة كاملة ؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة : ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع : كل حين يعني كل غدوة وعشية ؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت.
قال العلماء : ووجه الحكمة في تمثيل كلمة الإخلاص بالشجرة ؛ لأنّ الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض، وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾ [ فاطر، ١٠ ] فكذلك فرع هذه عال في السماء، وتنال بركته وثوابه كل وقت، والمؤمن كلما قال : لا إله إلا الله، صعدت إلى السماء، وجاءه بركتها وخيرها وثوابها ومنفعتها ؛ ولأنّ الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الأبدان، ثم نبه تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال :﴿ ويضرب الله ﴾، أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿ الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ﴾، أي : يتعظون، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب.
ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال :﴿ ومثل كلمة خبيثة ﴾ هي كلمة الكفر ﴿ كشجرة خبيثة ﴾ هي الحنظل وقيل : الثوم، وقيل : الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري : نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر :
هي الكشوث لا أصل ولا ورق ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر
وقيل شجرة الشوك ﴿ اجتثت ﴾، أي : استؤصلت ﴿ من فوق الأرض ﴾، أي : عروقها قريبة منه ﴿ ما لها من قرار ﴾، أي : أصل ولا عرق، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في ﴿ كلمة خبيثة ﴾ ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة.
ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى :﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ﴾ أنه تعالى يثبتهم بها ﴿ في الحياة الدنيا ﴾، أي : في القبر، وقيل : قبل الموت ﴿ وفي الآخرة ﴾، أي : يوم القيامة عند البعث والحساب، وقيل : في القبر على القول الثاني. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى :﴿ ويضلّ الله الظالمين ﴾، أي : الكفار أنه تعالى لا يهديهم للجواب الصواب ﴿ ويفعل الله ما يشاء ﴾، أي : إن شاء هدى، وإن شاء أضلّ لا اعتراض عليه. وروي عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى :﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ﴾ ». وروي عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ العبد إذا وضع في القبر وتولى عنه أصحابه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأمّا المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعاً » قال قتادة : ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس. قال :«وأمّا المنافق أو الكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال : ما دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : شهدنا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من دفنها وانصرف الناس قال :«إنه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن نبيه ؟ فإن كان ممن يعبد الله تعالى قال : كنت أعبد الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فذلك قوله تعالى :﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ فيقال له : على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته، وإن كان من أهل الشك قال : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيقال له : على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئاً، فتنهشه وتؤمر الأرض فتنضم عليه حتى تختلف أضلاعه ». فنسأل الله الثبات لنا ولوالدينا ولأحبابنا في الدنيا والآخرة إنه كريم جواد.
ثم إنه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال :﴿ ألم تر ﴾، أي : تنظر، وفي المخاطب ما تقدّم ﴿ إلى الذين بدّلوا ﴾ والتبديل جعل الشيء مكان غيره ﴿ نعمة الله ﴾، أي : التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد ومن جميع النعم الدنيوية وتيسير الرزق وغير ذلك بأن جعلوا مكان شكرها ﴿ كفراً ﴾ وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء وأبعدهم عن الجفاء ﴿ وأحلوا ﴾، أي : أنزلوا ﴿ قومهم ﴾، أي : الذين تابعوهم في الكفر بإضلالهم إياهم ﴿ دار البوار ﴾، أي : الهلاك مع إدعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل. روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة.
وقوله تعالى :﴿ جهنم ﴾ عطف بيان ﴿ يصلونها ﴾، أي : يدخلونها ﴿ وبئس القرار ﴾، أي : المقر هي.
﴿ وجعلوا لله ﴾، أي : الذين يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا رزقهم ؛ لأنّ له الكمال كله ﴿ أنداداً ﴾، أي : شركاء، وقوله تعالى :﴿ ليضلوا عن سبيله ﴾، أي : دين الإسلام، فيه قراءتان : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من ضلّ، يضلّ والباقون بضم الياء من أضل يضل، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾، أي : تهديداً لهم، فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا ﴿ تمتعوا ﴾ بدنياكم قليلاً ﴿ فإن مصيركم ﴾، أي : مرجعكم ﴿ إلى النار ﴾ في الآخرة.
ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى :﴿ قل لعبادي ﴾ فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا ﴾، أي : أوجدوا هذا الوصف ﴿ يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم ﴾ فيه وجهان : أحدهما : يصح أن يكون جواباً بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا : أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. والثاني : يصح أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه اللام، أي : ليقيموا ليصح تعلق القول بهما، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله :
محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا
أي تبالى به، أي : تكثرت به لدلالة قل عليه :﴿ سراً وعلانية ﴾، أي : ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية، وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة.
تنبيه : في انتصاب سرّاً وعلانية وجوه : أحدها : أن يكون على الحال، أي : ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني : على الظرف، أي : وقت سر وعلانية. وثالثها : على المصدر، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عز وجل :﴿ من قبل أن يأتي يوم ﴾، أي : عظيم جدّاً ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها ﴿ لا بيع فيه ﴾، أي : فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه ﴿ ولا خلال ﴾، أي : مخالة، أي : صداقة تنفع في ذلك اليوم.
قال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول : أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ [ البقرة، ٢٥٤ ]. فإن قيل : كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ﴾ [ الزخرف، ٦٧ ] ؟ أجيب : بأن الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى.
ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى :﴿ الله ﴾، أي : الملك الأعلى المحيط بكل شيء، ثم اتبعه بالدلائل الدالة على وجوده وكمال علمه وقدرته، وذكر هنا عشرة أنواع من الدلائل : أوّلها : قوله تعالى :﴿ الذي خلق السماوات ﴾ وثانيها : قوله تعالى :﴿ والأرض ﴾ وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً. وثالثها قوله تعالى :﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم ﴾ تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس.
تنبيه : الله مبتدأ، وخبره الذي خلق، ورزقاً مفعول لأخرج، ومن الثمرات بيان له حال منه، ويصح أن يكون المراد بالسماء هنا السحاب اشتقاقاً من السمو والارتفاع، وأن يكون الجرم المعهود فينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وقد ذكرت ذلك في سورة البقرة، وفي غيرها، ورابعها قوله تعالى :﴿ وسخر لكم الفلك ﴾، أي : السفن ﴿ لتجري في البحر ﴾، أي : بالركوب والحمل ﴿ بأمره ﴾، أي : بمشيئته وإرادته، وخامسها : قوله تعالى :﴿ وسخر لكم الأنهار ﴾، أي : ذللها لكم تجرونها حيث شئتم ؛ لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب فكان ذلك نعمة من الله تعالى.
وسادسها وسابعها : قوله تعالى :﴿ وسخر لكم الشمس والقمر ﴾ حال كونهما ﴿ دائبين ﴾، أي : جاريين في فلكهما لا يفتران في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إنارة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها، والشمس سلطانها النهار، وبها تعرف فصول السنة، وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها، والقمر سلطانه الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور، وكل ذلك بتسخير الله تعالى وإنعامه، وثامنها وتاسعها : قوله تعالى :﴿ وسخر لكم الليل والنهار ﴾ يتعاقبان فيكم بالضياء والظلمة، والزيادة والنقصان، وذلك من نعم الله تعالى على عباده حيث جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليبتغوا فيه من فضله.
وعاشرها : قوله تعالى :﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه ﴾، أي : مما أنتم محتاجون إليه على حسب مصالحكم، فأنتم سألتموه بالقوّة. ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما أنعم به على عباده بين أنّ العبد عاجز عن حصرها وعدّها بقوله تعالى :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾، أي : لا تحيطوا بها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدّوها على الإجمال، وأمّا على التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله تعالى. ﴿ إنّ الإنسان ﴾، أي : الكافر، وقال ابن عباس : يريد أبا جهل. ﴿ لظلوم ﴾، أي : كثير الظلم لنفسه ﴿ كفار ﴾، أي : كفور لنعم ربه، وقيل : ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع. فإن قيل : لم قال تعالى هنا ﴿ إنّ الإنسان لظلوم كفار ﴾ وفي النحل :﴿ إنّ الله لغفور رحيم ﴾ [ النحل، ١٨ ] ؟ أجيب : بأنه تعالى يقول للعبد : إذا حصلت لك النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان، وهما كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وتقصيرك فلا أقابل تقصيرك، إلا بالتوقير ولا أجازي جزاءك إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن والعاقبة والرحمة.
ولما بين الله تعالى بالدلائل المتقدّمة لأن لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا تجوز عبادة غير الله البتة، حكي عن إبراهيم عليه السلام مبالغة في إنكاره عبادة الأوثان بقوله تعالى :﴿ وإذ ﴾، أي : واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ ﴿ قال إبراهيم رب ﴾، أي : المحسن إليّ بإجابة دعائي ﴿ اجعل هذا البلد ﴾، أي : مكة ﴿ آمناً ﴾، أي : ذا أمن، وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل : ، أي : فرق بين قوله :﴿ اجعل هذا بلداً آمناً ﴾ [ البقرة، ١٢٦ ] وبين قوله :﴿ اجعل هذا البلد آمناً ﴾ ؟ بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة، وهي الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً.
فإن قيل : كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها ؟ أجيب : بجوابين : أحدهما : أنّ إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل : يرد على هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » ؟ أجيب : بأنّ قوله تعالى :﴿ اجعل هذا البلد ﴾ يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين، والجواب الثاني : أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ]، أي : أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله :﴿ ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت، ٦٧ ] وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست ؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها ﴿ واجنبني ﴾، أي : بعدني ﴿ وبنيّ أن ﴾، أي : عن أن ﴿ نعبد الأصنام ﴾، أي : اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله :﴿ واجنبني ﴾ عن عبادة الأصنام ؟ أجيب : بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل : كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه ؟ أجيب : بأنّ المراد من كان موجوداً حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية :﴿ فمن تبعني فإنه مني ﴾ وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى :﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ﴾ [ هود، ٤٦ ]، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام ؟ فقال : ما عبد أحد من بني إسماعيل صنماً، واحتج بقوله تعالى :﴿ واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ﴾ وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا : البيت حجر فحينما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي : يطوفون به أسابيع تشبيهاً بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري : دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت، ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي : وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال :﴿ رب إنهن ﴾، أي : الأصنام ﴿ أضللن كثيراً من الناس ﴾ بعبادتهم لها.
تنبيه : اتفق كل الفرق على أن قوله : أضللن مجاز ؛ لأنها جمادات، والجماد لا يفعل شيئاً البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي : افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال :﴿ فمن تبعني ﴾، أي : على التوحيد ﴿ فإنه مني ﴾، أي : فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني ﴿ ومن عصاني ﴾، أي : في غير الدين ﴿ فإنك غفور رحيم ﴾ وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى :﴿ واتبع ملة إبراهيم ﴾ [ النساء، ١٢٥ ] وقيل : إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لا يغفر الشرك، وقيل : إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل : المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي : واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولاً.
تنبيه : حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور : الأوّل : طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو ﴿ رب اجعل هذا البلد آمناً ﴾ المطلوب الثاني : أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله :﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾.
المطلوب الثالث قوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي ﴾، أي : بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي، فحذف المفعول على هذا القول، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ﴿ بواد ﴾ هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول ﴿ غير ذي زرع ﴾، أي : لا يكون فيه من الزرع قط، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى :﴿ قرآناً عربياً غير ذي عوج ﴾ [ الزمر، ٢٨ ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ﴿ عند بيتك المحرم ﴾، أي : الذي حرمت التعرض له، والتهاون به، وجعلت ما حوله حرماً لمكانه ؛ أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب ؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه ؛ أو لأنه حرّم على الطوفان، أي : منع منه كما سمي عتيقاً ؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السماوات والأرض، وحفه بسبعة أملاك، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل، فقالت سارة : كنت أريد أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وغارت عليهما، وقالت لإبراهيم : بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل وقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء ؟ فقالت له ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قالت : إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي ﴾ حتى بلغ ﴿ يشكرون ﴾ وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما » فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه، تريد نفسها ثم تسمعت، فسمعت أيضاً فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال : بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً » قال : فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأنّ الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة، فنظروا طائراً : فقالوا إن هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت : نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا : نعم قال ابن عباس : قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم، وألفهم وأعجبهم حتى شب، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة.
ثم قال :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾ اللام لام كي متعلقة بأسكنت، أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها ﴿ فاجعل أفئدة ﴾، أي : قلوباً محترقة بالأشواق ﴿ من الناس ﴾ ومن للتبعيض، والمعنى : واجعل أفئدة بعض الناس ﴿ تهوي ﴾، أي : تميل ﴿ إليهم ﴾ ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال : أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال :﴿ أفئدة من الناس ﴾ فهم المسلمون. وقال ابن عباس : لو قال : أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم. ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال :﴿ وارزقهم من الثمرات ﴾ ولم يقل : وارزقهم الثمرات، وذلك يدل على أنّ المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى :﴿ يجبى إليه ثمرات كل شيء ﴾ [ القصص، ٥٧ ] حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجب، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم. ﴿ لعلهم يشكرون ﴾ يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات.
ولما طلب عليه السلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال :﴿ ربنا إنك تعلم ما نخفي ﴾، أي : نسر ﴿ وما نعلن ﴾ وهذا هو المطلوب الرابع : والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل : ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل : ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قال، ت له عند الوداع : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله أكلكم قالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. قالت : إذاً لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى :﴿ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ فقيل : من تتمة قول إبراهيم عليه السلام يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في، أي : مكان، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال، كقوله تعالى :﴿ وكذلك يفعلون ﴾ [ النمل، ٣٤ ] ولفظة من تفيد الاستغراق، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما.
ولما تم إبراهيم عليه السلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى :﴿ الحمد لله ﴾، أي : المستجمع لصفات الكمال ﴿ الذي وهب لي ﴾، أي : أعطاني ﴿ على الكبر ﴾، أي : وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهاراً لما فيه من المعجزة ﴿ إسماعيل وإسحاق ﴾ ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات، فقال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة.
فإن قيل : إنّ إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق، فكيف يمكنه أن يقول ذلك ؟ أجيب : بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي : ويمكن أيضاً أن يقال : إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه : قوله ﴿ على الكبر ﴾ بمعنى مع كقوله :
إني على ما ترين من كبري أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح والتصريح قال :﴿ إنّ ربي ﴾، أي : المحسن إليّ ﴿ لسميع الدعاء ﴾، أي : لمجيبه. فإن قيل : الله تعالى يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه ؟ أجيب : بأن هذا من قولك : سمع الملك كلامي إذا اعتدّ به وقبله، ومنه سمع الله لمن حمده.
المطلوب الخامس : قوله :﴿ رب اجعلني مقيم الصلاة ﴾، أي : معدّلاً لها مواظباً عليها.
تنبيه : في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ﴿ واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ﴾ يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى.
وقوله :﴿ رب اجعلني مقيم الصلاة ﴾ يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أنّ الكل من الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ ومن ذرّيتي ﴾ عطف على المنصوب في اجعلني، أي : واجعل بعض ذريتي كذلك ؛ لأن كلمة من في قوله ( ومن ذرّيتي ) للتبعيض، وأما ذكر هذا التبعيض، فلأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذرّيته جمع من الكفار وذلك قوله تعالى :﴿ ولا ينال عهدي الظالمين ﴾ [ البقرة، ١٢٤ ].
المطلوب السادس : أنه عليه السلام لما دعا الله تعالى في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال :﴿ ربنا وتقبل دعاء ﴾. قال ابن عباس : يريد عبادتي بدليل قوله تعالى :﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ﴾ [ مريم، ٤٨ ]. وقيل : دعائي المذكور.
المطلوب السابع قوله :﴿ ربنا ﴾، أي : أيها المالك لأمورنا المدبر لنا ﴿ اغفر لي ﴾ فإن قيل : إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب : بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال :﴿ ولوالديّ ﴾ فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا كافرين ؟ أجيب بوجوه : الأول : أنّ المنع منه لا يعلم إلا بتوقيف، فلعله لم يجد منه منعاً و ظنّ كونه جائزاً، الثاني : أراد بوالديه آدم وحواء، الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام، وقال بعضهم : كانت أمّه مؤمنة ولذلك خص أباه بالذكر في قوله :﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ [ التوبة، ١١٤ ]. ثم دعا لمن تبعه في الدين من ذريته وغيرهم بقوله ﴿ وللمؤمنين ﴾، أي : العريقين في هذا الوصف ﴿ يوم يقوم ﴾، أي : يبدو ويظهر ﴿ الحساب ﴾ وقيل : أراد يوم يقوم الناس فيه للحساب، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع، وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة، والله تعالى لا يردّ دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، وفيه بشارة عظيمة للمؤمنين بالمغفرة، فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولمن نظر في هذا التفسير، ودعا لمن كان سبباً فيه بالمغفرة.
ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله تعالى أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة عقبه بقوله تعالى مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم :
﴿ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ﴾ ؛ لأنّ الغفلة معنى يمنع الإنسان عن الوقوف على حقائق الأمور، وقيل : حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله تعالى محال، والمقصود من ذلك التنبيه على أنه ينتقم للمظلوم من الظالم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً عنه، وعن سفيان بن عيينة فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له : من قال هذا ؟ فغضب، وقال : إنما قاله من علمه.
فإن قيل : كيف يليق به صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة وهو أعلم الناس به ؟ أجيب : بوجوه : الأوّل : أنّ المراد به التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله :﴿ لا تدع مع الله إلهاً آخر ﴾ [ القصص، ٨٨ ]. والثاني : أنّ المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم. والثالث : أنّ المراد ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. والرابع : أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمّة. ثم بيّن تعالى أنه ﴿ إنما يؤخرهم ﴾، أي : عذابهم ﴿ ليوم ﴾ موصوف بخمس صفات الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿ تشخص فيه الأبصار ﴾، أي : أبصارهم لا تقرّ مكانها من هول ما ترى في ذلك اليوم.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ مهطعين ﴾، أي : مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطرقون هيبة وخوفاً. وقيل : المهطع الخاضع الذليل الساكن.
الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ مقنعي رؤوسهم ﴾، أي : رافعيها إذ الإقناع : رفع الرأس إلى فوق، فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء، وهذا بخلاف المعتاد ؛ لأنّ من يتوقع البلاء يطرق بصره إلى الأرض. وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ لا يرتدّ إليهم طرفهم ﴾، أي : بل تثبت عيونهم شاخصة لا يطرفون بعيونهم، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان قد شغلهم ما بين أيديهم.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ وأفئدتهم ﴾، أي : قلوبهم ﴿ هواء ﴾، أي : خالية من العقل لفرط الحيرة والدهشة. وقال قتادة : خرجت قلوبهم عن صدورهم، فصارت في حناجرهم، فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها.
تنبيه : اختلفوا في وقت حصول هذه الصفات، فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك بأنه يقوم الحساب، وقيل : إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق، فالسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار. وقيل : يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور. قال الرازي : والأوّل أولى.
﴿ وأنذر الناس ﴾ يا محمد، أي : خوّفهم يوم القيامة وهو قوله تعالى :﴿ يوم يأتيهم العذاب ﴾، أي : الذي تقدّم ذكره، وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم. ﴿ فيقول الذين ظلموا ﴾، أي : كفروا ﴿ ربنا أخرنا ﴾، أي : بأن تردّنا إلى الدنيا ﴿ إلى أجل قريب ﴾ إلى أمد واحد من الزمان قريب ﴿ نجب دعوتك ﴾، أي : بالتوحيد ونتدارك ما فرّطنا فيه ﴿ ونتبع الرسل ﴾ فيما يدعوننا إليه، فيقال لهم توبيخاً :﴿ أو لم تكونوا أقسمتم ﴾، أي : حلفتم ﴿ من قبل ﴾ في الدنيا ﴿ ما لكم ﴾ وأكد النفي بقوله :﴿ من زوال ﴾، أي : ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور كما قال في آية أخرى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ﴾ [ النحل، ٣٨ ] وكانوا يقولون : لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت، أو عن شباب إلى هرم، أو عن غنى إلى فقر.
ثم إنه تعالى زادهم توبيخاً آخر بقوله تعالى :﴿ وسكنتم ﴾ في الدنيا ﴿ في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ﴾ بالكفر من الأمم السابقة ﴿ وتبين لكم كيف فعلنا بهم ﴾، أي : وظهر لكم بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم، وما تواتر عندكم من أخبارهم ﴿ وضربنا ﴾، أي : وبينا ﴿ لكم الأمثال ﴾ في القرآن أنّ عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال، مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله تعالى كثير.
ولما ذكر تعالى صفة عقابهم أتبعه بذكر كيفية مكرهم بقوله تعالى :
﴿ وقد مكروا مكرهم ﴾، أي : الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، واختلف في عود الضمير في مكروا على وجوه : الأوّل : أن يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور. والثاني : إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى :﴿ وأنذر ﴾، أي : يا محمد الناس وقد مكر قومك مكرهم، وذلك المكر هو الذي ذكر الله تعالى في قوله :﴿ إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ [ الأنفال، ٣٠ ]. ﴿ وعند الله مكرهم ﴾، أي : ومكتوب عند الله فعلهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه.
وقيل : إنّ مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال. وقد حكي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قول آخر وهو أنها نزلت في نمروذ الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه فقال نمروذ : إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء، فأعلم ما فيها، ثم أمر نمروذ صاحبه فاتخذ لنفسه تابوتاً، وجعل له باباً من أعلاه وباباً من أسفله، وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوّعها، ورفع فوق الجوانب الأربع من التابوت عصياً أربعة وعلق على كل واحدة منها قطعة لحم، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت، فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جوّ الهواء، فطارت يوماً حتى أبعدت في الهواء، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض كيف تراها ؟ ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال : فطارت النسور، يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأعلى، ففتح فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل، فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي أيها الطاغي أين تريد ؟ قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخاً بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء، وقيل : طائر أصابه السهم فقال : كفيت إله السماء، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم، فتسفلت النسور، وهبطت إلى الأرض، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى :﴿ وإن كان مكرهم ﴾، أي : من القوّة والضخامة ﴿ لتزول منه الجبال ﴾ قال الرازي : ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى. والمراد بالجبال هنا قيل : حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية، والتقدير على القراءة الأولى : وإن كان بحيث أنه تزول منه الجبال، وقيل : أن نافية واللام لتأكيد النفي.
﴿ فلا تحسبنّ الله ﴾ الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمّته ﴿ مخلف وعده رسله ﴾ من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين كما قال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا ﴾ [ غافر، ٥١ ]. وقال تعالى :﴿ كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي ﴾ [ المجادلة، ٢١ ]. فإن قيل : هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدّم المفعول الثاني على الأوّل ؟ أجيب : بأنه تعالى قدّم ذلك ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يخلف الميعاد ﴾ [ آل عمران، ٩ ]
ثم قال : رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته ؟ ﴿ إنّ الله ﴾، أي : ذو الجلال والإكرام ﴿ عزيز ﴾، أي : غالب يقدر ولا يقدر عليه ﴿ ذو انتقام ﴾، أي : ممن عصاه.
وقوله تعالى :﴿ يوم تبدّل الأرض غير الأرض ﴾ بدل من يوم يأتيهم، أو ظرف للانتقام، والمعنى : يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وقوله تعالى :﴿ والسماوات ﴾ عطف على الأرض وتقديره والسماوات غير السماوات، والتبديل التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه ﴿ بدلناهم جلوداً غيرها ﴾ [ النساء، ٥٦ ] ﴿ وبدلناهم بجنتيهم جنتين ﴾ [ سبأ، ١٦ ]. وفي الأوصاف كقولك : بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، ومنه قوله تعالى :﴿ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾ [ الفرقان، ٧٠ ] والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض، وإنما تغير أوصافها، وأنشد :
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ** ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
فتتبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتستوي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتبدل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها وكونها أبواباً، ويدلّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقاء ليس فيها علم لأحد » أخرجاه في الصحيحين، العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى حمرة، ولهذا شبهها بقرصة النقاء، وهو الجير الأبيض الجيد الفائق المائل إلى الحمرة. كأن النار ميلت بياض وجهه إلى الحمرة، وقوله : ليس فيها علم لأحد يعني : ليس فيها علامة لأحد لتبديل هيئتها وصفتها وزوال جبالها وجميع بنائها، فلا يبقى فيها أثر يستدلّ به. وعن ابن مسعود أنه قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة. وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. وعن الضحاك أيضاً : من فضة كالصحائف. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله ؟ فقال :«على الصراط ». أخرجه مسلم. وروى ثوبان أنّ حبراً من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين تكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض ؟ قال :«هم في الظلمة دون الجسر ». قال الرازي : واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسماوات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم والسماوات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ كلا إنّ كتاب الأبرار لفي عليين ﴾ [ المطففين، ١٨ ]. وقوله تعالى :﴿ كلا إنّ كتاب الفجار لفي سجين ﴾ [ المطففين، ٧ ]. ﴿ وبرزوا ﴾، أي : خرجوا من قبورهم ﴿ لله ﴾، أي : لحكمه والوقوف بين يديه تعالى للحساب ﴿ الواحد ﴾، أي : الذي لا شريك له ﴿ القهار ﴾، أي : الذي لا يدافعه شيء عن مراده كما قال تعالى :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ [ غافر، ١٦ ].
ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم بقوله تعالى :﴿ وترى ﴾ يا محمد، أي : تبصر ﴿ المجرمين ﴾، أي : الكافرين ﴿ يومئذٍ ﴾، أي : يوم القيامة، ثم ذكر تعالى من صفات عجزهم وذلتهم أموراً : الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿ مقرّنين ﴾، أي : مشدودين ﴿ في الأصفاد ﴾ جمع صفد وهو القيد. قال الكلبي : كل كافر مع شيطان في غل. وقال عطاء : وهو معنى قوله تعالى :﴿ وإذا النفوس زوجت ﴾ [ التكوير، ٧ ]، أي : قرنت فتقرن نفوس المؤمنين الحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وقيل : هو قرن بعض، الكفار ببعض فتضم تلك النفوس الشقية والأرواح الكدرة الظلمانية بعضها إلى بعض لكونها متشاكلة متجانسة، وتنادى ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى. وقال ابن زيد : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ سرابيلهم ﴾، أي : قمصهم جمع سربال وهو القميص ﴿ من قطران ﴾ وهو شيء يتحالب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ وتطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرارته وحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أنه يتسارع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلاء كالسرابيل، فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران، وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح، وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.
الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿ وتغشى ﴾، أي : تعلو ﴿ وجوههم النار ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ﴾ [ الزمر، ٢٤ ]. وقوله تعالى :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ﴾ [ القمر، ٤٨ ]. ولما كان موضع العلم والجهل هو القلب، وموضع الكفر والوهم هو الرأس، وأثر هذه الأحوال يظهر في الوجه فلهذا خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيها فقال في القلب :﴿ نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ﴾ [ الهمزة : ٦، ٧ ]. وقال في الوجه :﴿ وتغشى وجوههم النار ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ليجزي الله ﴾ متعلق ببرزوا ﴿ كل نفس ما كسبت ﴾، أي : من خير أو شرّ وهذا أولى من قول الواحدي : المراد منه أنفس الكفار ؛ لأنّ ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان. ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم قال :﴿ إنّ الله سريع الحساب ﴾، أي : لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى.
ولا شأن عن شأن قوله تعالى :﴿ هذا ﴾ إشارة إلى القرآن الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، نزل منزلة الحاضر وقيل : إلى السورة ﴿ بلاغ ﴾، أي : كان غاية الكفاية في الإيصال ﴿ للناس ﴾ والموعظة لهم، وقوله تعالى :﴿ ولينذروا ﴾، أي : وليخوّفوا ﴿ به ﴾ عطف على محذوف ذلك المحذوف متعلق ببلاغ تقديره، أي : لينصحوا ولينذروا، وقيل : الواو مزيدة، ولينذروا متعلق ببلاغ ﴿ وليعلموا ﴾، أي : بما فيه من الحجج على وحدانية الله تعالى. ﴿ أَنما هو ﴾، أي : الله ﴿ إله واحد ﴾ فيستدلوا بذلك على أنّ الله واحد لا شريك له ﴿ وليذكر ﴾ بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي : يتعظّ ﴿ أولو الألباب ﴾، أي : أصحاب العقول الصافية من الأكدار، والأفهام الصحيحة، فإنه موعظة لمن اتعظ.
تنبيه : ذكر سبحانه وتعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد مستفادة من قوله تعالى :﴿ ولينذروا به ﴾ وتالييه والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوّة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوّة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بها بمحمد وآله، وفعل ذلك بوالدينا وأحبابنا.
Icon