تفسير سورة النحل

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٦- سورة النحل
سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى١ :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾ المشير إلى أنه لا يبعد أن يلهم الله عز وجل بعض خواص عباده، أن يستخرجوا الفوائد الحلوة الشافية من هذا الكتاب. بحمل كلماته على مواضع الشرف، وعلى المعاني المثمرة، وعلى التصرفات العالية : مع تحصيل الأخلاق الفاضلة وسلوك سبيل التصفية والتزكية. وهذا أكمل ما يعرف به فضائل القرآن ويدرك به مقاصده. قاله المهايمي.
وقال بعضهم : تسمية السورة بذلك تسمية بالأمر المهم. ليتفطن الغرض الذي يرمي إليه، ك ( الجمعة ) لأهمية الاجتماع الأسبوعي وما ينجم عنه من مصالح الأمور العامة والحديد لمنافعه العظيمة. و ( النحل )، و ( العنكبوت )، و ( النمل )، للتفطن لصغار الحيوانات الحكيمة الصنائع. وهكذا، وسيأتي طرف من حكمة النحل وأسراره عند آيته في هذه السورة.
وهي مكية. واستثنى ابن عباس آخرها. وعن الشعبي إلا قوله تعالى٢ :﴿ وإن عاقبتم ﴾ الآيات وعن الشعبي : إلا قوله تعالى٣ :﴿ والذين هاجروا في الله ﴾ الآيات. وآياتها مائة وثمان وعشرون.
وعن قتادة : تسمى سورة النعم، وذلك لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
١ [١٦ / النحل / ٦٨]..
٢ [١٦ / النحل / ١٢٦]..
٣ [١٦ / النحل / ٤١]..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقرر في غير ما آية، أن المشركين كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو إهلاكهم. كما فعل يوم بدر، استهزاء وتكذيبا بالوعد. فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي ما توعدونه مما ذكر.
والتعبير عنه ب أَمْرُ اللَّهِ للتفخيم والتهويل. وللإيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه، منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب. وإتيانه عبارة عن دنوّه واقترابه، على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع. أو عن إتيان مباديه القريبة، على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات. والآية كقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: ١]، وقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: ١]، وقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: ٥٣]، ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه، من الأوثان والأنداد، الذي أفضى بهم إلى الاستهزاء والعناد، واعتقاد أنها شفعاؤهم إذا جاء الميعاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ردّ لاستبعادهم النبوة، بأن ذلك سنة له تعالى. ولذا ذكر صيغة الاستقبال كقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: ١٥]، وقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: ٧٥]، والروح هو الوحي، الذي من جملته القرآن. لقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
[الشورى: ٥٢]، والتعبير عنه بالروح على نهج الاستعارة. فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل ومِنْ أَمْرِهِ بيان للروح، أو حال منه، أو صفة، أو متعلق ب (ينزل) و (من) للسببية وأَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح. أي أخبروهم بالتوحيد والتقوى. فقوله فَاتَّقُونِ من جملة المنذر به. أو هو خطاب للمستعجلين، على طريقة الالتفات، والفاء فصيحة أي إذا كانت سنته تعالى ذلك، فاتقون، بما ينافيه من الإشراك وفروعه، من الاستعجال.
قال الزمخشري: ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو، بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره. من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه، وجر أثقاله وسائر حاجاته. وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه. ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣ الى ٦]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالحكمة كما تقدم تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أي مهينة ضعيفة فَإِذا هُوَ بعد تكامله بشرا خَصِيمٌ مُبِينٌ أي مخاصم لخالقه مجادل. يجحد وحدانيته ويحارب رسله. وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ أي لمصالحكم وهي الأزواج الثمانية المفصلة في سورة الأنعام.
قال الزمخشري: وأكثر ما تقع على الإبل.
فِيها دِفْءٌ أي ما يدفئ أي يسخن به من صوف أو وبر أو شعر، فيقي البرد وَمَنافِعُ أي من نسلها ودرّها وركوب ظهرها وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي زينة حِينَ تُرِيحُونَ أي تردّونها من مراعيها إلى مراحها (بضم الميم) وهو مقرّها في دور أهلها بالعشيّ وَحِينَ تَسْرَحُونَ أي تخرجونها بالغداة إلى المراعي.
قال الزمخشري: منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها. لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها لأن الرعيان، إذا روحوها بالعشيّ، وسرحوها بالغداة، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، أنست أهلها
وفرحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس، ونحوه: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: ٨]، يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً [الأعراف: ٢٦].
فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
انتهى.
ثم أشار إلى فائدة جامعة للحاجة والزينة فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧ الى ٨]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بكسر الشين المعجمة وفتحها. وقراءتان وهما لغتان في معنى (المشقة) أي لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حيث سخرها لمنافعكم. ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة، فقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على (الأنعام) لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً عطف محل (لتركبوها) فهي مفعول له أو مصدر لمحذوف. أي وتتزينوا بها زينة، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل (تركبوها) أو مفعوله. أي متزينين بها أو متزينا بها. وسر التصريح باللام في المعطوف عليه، دون المعطوف، هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصليّ في الأصناف، هو الركوب:
وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب. فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل. تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين. وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب. والله أعلم. كذا في (الانتصاف)
تنبيه:
استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل. قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام. فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل.
قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزا، لكن ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه وأجاب المجوّزون لأكلها، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها، لا ينافي غيره.
352
ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية. وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها، عام خبير. وقد قدمنا أن هذه السورة مكية.
والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن هذه الآية متمسّكا للقائلين بالتحريم، لكانت السنّة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال. وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل، أحاديث منها ما
في الصحيحين «١» وغيرهما من حديث أسماء قالت: نحرنا على عهد رسول الله ﷺ فرسا، فأكلناه.
وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذيّ «٢» وصححه والنسائي «٣» وغيرهم من جابر قال: أطعمنا رسول الله ﷺ لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود نحوه.
وثبت أيضا في الصحيحين «٤» من حديث جابر قال: نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل.
وأما ما
أخرجه أبو داود «٥» والنسائي «٦» وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال: نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير
، ففي إسناده صالح بن يحيى. فيه مقال. ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ. على أنه يمكن أن يكون متقدما على يوم خيبر، فيكون منسوخا. كذا في (فتح البيان).
وفي (الإكليل) : أخذ المالكية، من الاقتران المذكور، ردّا على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها. أي الخيل. وقوله تعالى:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي من المخلوقات في القفار والبحار. وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار. أو لاستحضار الصورة.
(١) أخرجه البخاريّ في: الذبائح والصيد، ٢٤- باب النحر والذبح، حديث ٢٢٠٢.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: الأطعمة، ٥- باب ما جاء في أكل لحوم الخيل.
(٣) أخرجه النسائي في: الصيد والذبائح، ٢٩- باب الإذن في أكل لحوم الخيل.
(٤) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٣٨- باب غزوة خيبر، حديث ١٩٠٩ وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث رقم ٣٦.
(٥) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٢٥- باب في أكل لحوم الخيل، حديث رقم ٣٧٨٨.
(٦) أخرجه النسائي في: الصيد والذبائح، ٣٠- باب تحريم أكل لحوم الخيل.
353
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
في الآية فوائد:
الأولى: قال ابن كثير: لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبّه على الطرق المعنوية الدينية. وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية. كقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: ١٩٧]، وقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ
[الأعراف: ٢٦].
ولما ذكر تعالى، في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه. فبيّن أن الحق منها موصلة إليه. فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ. كقوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٥٣]. وقال:
هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: ٤١]، انتهى. وقوله سبحانه: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى.
الثانية- قال أبو السعود: (القصد) مصدر بمعنى الفاعل. يقال سبيل قصد وقاصد. أي مستقيم. على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. أي حقّ عليه سبحانه وتعالى، بموجب رحمته ووعده المحتوم، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق، الذي هو التوحيد. بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه. أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل. قاله أبو البقاء. أي عليه، عزّ وجلّ، تقويمها وتعديلها. أي: جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق. لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج (سبحان من صغّر البعوض وكبّر الفيل) وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة. وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لا حب يهتدى بمناره. وعلم يستضاء بناره. وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين. وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق. الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق. الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك
الأدلة المفضية إلى معالم الهدى. المنحّية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى.
الثالثة- الضمير في وَمِنْها جائِرٌ للسبيل. فإنها تؤنث. أي: وبعض السبيل مائل عن الحق، منحرف عنه، لا يوصل سالكه إليه. وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها، المندرج كلها تحت الجائر. كقوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٥٣].
قال أبو السعود، بعد ما تقدم أي: وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد- وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب. لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة. فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى. لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته. بل هو مخلّ بحكمته، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، بحسب الاستعداد. وإليه أشير بقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد، هداية موصلة إليه البتة، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين، لفعل ذلك. ولكن لم يشأه.
لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها. ولا حكمة في تلك المشيئة. لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف، وإليه ينسحب الثواب والعقاب، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال، التي بها نيط الجزاء.
ولما كان أشرف أجسام العالم السفليّ، بعد الحيوان، النبات، تأثر ما مرّ من الإنعام بالأنعام والدواب، التي يستدل بها على وحدته تعالى، بذكر عجائب أحوال النبات، للحكمة نفسها. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ يسكن حرارة العطش وَمِنْهُ شَجَرٌ أي ومنه يحصل شجر. والمراد به ما ينبت من الأرض، سواء كان له ساق أو لا، فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم يُنْبِتُ أي الله عزّ وجلّ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ أي الذي فيه قوت الإنسان وَالزَّيْتُونَ أي الذي فيه إدامه
وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ أي اللذين فيهما، مع ذلك، مزيد التلذذ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي يخرجها بهذا الماء الواحد، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها.
ولهذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإنبات ما فصّل لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي دلالة وحجة على وحدانيته تعالى. كما قال سبحانه أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل: ٦٠].
قال أبو السعود- وأصله للرازيّ في شرح كون ما ذكره حجة-: فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع. ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواصّ والطبائع، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر، لا إلى نهاية. مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية، بالنسبة إلى الكل- علم أن من هذه أفعاله وآثاره، لا يمكن أن يشبهه شيء، في شيء من صفات الكمال. فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية، قطع الآية الكريمة بالتفكر. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات وَالنُّجُومُ ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر. وقوله تعالى: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ حال من الجميع. على معنى جعلها مسخرات. لأن في التسخير معنى (الجعل) فصحت على أنه تجريد.
أو على أن التسخير لهم نفع خاص.
فمعناه نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له، مما هو طريق لنفعكم. ف (سخر) بمعنى (نفع) على الاستعارة أو المجاز المرسل. لأن النفع من لوازم
التسخير. أو على أن (مسخرات) مصدر ميميّ، منصوب على أنه مفعول مطلق.
وسخرها مسخرات، على منوال ضربته ضربات أو يجعل قوله: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجاديّ. لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار.
وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما. ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرئ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بالرفع مبتدأ وخبر، وما قبله بالنصب إِنَّ فِي ذلِكَ أي تسخير ما ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ولما نبه تعالى على معالم السموات، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة، والأشياء المختلفة، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وما فيها من المنافع والخواص، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
وَما ذَرَأَ عطف على قوله تعالى وَالنُّجُومُ رفعا ونصبا، على أنه مفعول (لجعل) أي وما خلق لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي من حيوان ونبات مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
ثم نبه تعالى ممتنا على تسخيره البحر، وتعداد النعم به، إثر امتنانه بنعم البر، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك.
قال الزمخشريّ: ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه، فيسارع إلى أكله، خيفة الفساد عليه.
قال الناصر: فكأنّ ذلك تعليم لأكله، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا
357
طريّا. والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون. والله أعلم.
انتهى.
قال الشهاب: ففيه إدماج لحكم طبّيّ. وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخلّلا، كما توهم. انتهى.
أقول: الأظهر في سر وصفه بالطراوة، هو التنبيه على حسنه ولطفه، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه، سبحانه، في خلقه إياه، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر، مع اشتراكهما في الحيوانية.
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساؤكم، والإسناد إليهم لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية. ولأنهن إنما يتزيّن بها من أجلهم. فكأنها زينتهم ولباسهم. أو معنى (تلبسون) تتمتعون وتلتذون. على طريق الاستعارة والمجاز. ولو جعل من مجاز البعض لصح. أي تلبسها نساؤكم.
قال الناصر: ولله درّ مالك رضي الله عنه، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها. وذلك مقدر بالزائد على الثلث، لحقه فيه بالتجمل. فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له. فعبّر عن حظه في لبسها بلبسه، كما يعبر عن حظها سواء.
قال الشهاب: فإن قلت الظاهر أن يقال تحلونهن أو تقلدونهن كما قال:
تروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النّظيم
وهي للنساء دون الرجال. قلت أما الأول فسهل. لأن المراد لازمه. أي تحلونهن. والثاني، على فرض تسليمه، هم يتمتعون بزينة النساء، فكأنهم لابسون.
وإذا لم يكن تغليبا، فهو مجاز، بمعنى: تجعلونها لباسا لبناتكم ونسائكم. ونكتة العدول، أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم. فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى. انتهى.
وناقش صاحب (فتح البيان) ما قدروه في الآية حيث قال: وظاهر قوله تعالى:
تَلْبَسُونَها أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء. ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله تَلْبَسُونَها بقولهم: تلبسها نساؤهم. لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم. وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ
358
والمرجان، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة. فإن ذلك ممنوع. ورد الشرع بمنعه، من جهة كونه تشبها بهنّ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجانا. انتهى.
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها. واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حليا بلبس اللؤلؤ. لأنه تعالى سماه (حليا) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء. فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر. أنه سئل: هل في حليّ النساء صدقة؟ قال: لا. هي كما قال:
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها. انتهى.
قال في (فتح البيان) : وفي هذا الاستدلال نظر. والذي ينبغي التعويل عليه:
أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم.
وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف. ولم يرد في الجواهر، على اختلاف أصنافها، ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وقوله تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ أي السفن مَواخِرَ فِيهِ أي جواري جمع (ماخرة) بمعنى جارية. وأصل معنى (المخر) الشق لأنها تشق الماء بمقدمها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ عطف على محذوف. أي لتنتفعوا بذلك لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي من سعة رزقه، بركوبها للتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.
قال أبو السعود: ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر، من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة، مع أحمال ثقيلة، في مدة قليلة، من غير مزاولة أسباب السفر. بل من غير حركة أصلا. مع أنها في تضاعيف المهالك. وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر، للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي تضطرب وَأَنْهاراً أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى آخر. رزقا للعباد وَسُبُلًا أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى غيرها، حتى في الجبال. كما قال تعالى: وَجَعَلْنا
فِيها فِجاجاً سُبُلًا
[الأنبياء: ٣١]، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي بها إلى مآربكم وَعَلاماتٍ أي دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح، برّا وبحرا، إذا ضلوا الطريق وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أي في الظلام برّا وبحرا. والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة للالتفات. وتقديم (بالنجم) للفاصلة. وتقديم الضمير للتّقوّي. وهذا أولى من دعوى الزمخشري أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر. وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عامّا فكذا يكون في لاحقها.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٧ الى ١٨]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ أي كل شيء، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة، وهو الله الواحد الأحد كَمَنْ لا يَخْلُقُ أي شيئا ما، وهو ما يعبدون من دونه، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته، ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك، بل على إيجاد شيء ما.
وزعم الزمخشريّ ومتابعوه أن قضية الإلزام أن يقال: (أفمن لا يخلق كمن يخلق) ثم تكلموا في سره. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران: ٣٦]، فجدد به عهدا. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فتعرفوا فساد ذلك. فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.
ثم نبه، سبحانه وتعالى. على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى، إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور، بقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم. ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. قاله الزمخشريّ.
ولحظ ابن جرير أن مغفرته تعالى ورحمته لهم، إذا تابوا وأنابوا. أي فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقيّ. ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته.
لطيفة:
قال أبو السعود: كان الظاهر إيراد هذه الآية، عقيب ما تقدم من النعم المعددة، تكملة لها على طريقة قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٨]، ولعلّ فصل ما بينهما بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ [النحل: ١٧]، للمبادرة إلى إلزام الحجة، وإلقاء الحجر، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل، التي هي أدلة الوحدانية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي من أعمالكم وسيجزيكم عليه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي فإنّى تستحق الألوهية، وقد نفي عنها أخص صفاتها؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد. أو المعنى: أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير. وهم لا يقدرون على نحو ذلك. فهم أعجز من عبدتهم. كما قال الخليل عليه السلام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات:
٩٥- ٩٦]، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل. وقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ تأكيد أو تأسيس. لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة، سابقا أو لاحقا. كأجساد الحيوان، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيوانا. فذا احترز عنه بقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ أي لا يعتريها الحياة أصلا. فهي أموات على الإطلاق، حالا ومآلا وَما يَشْعُرُونَ أي تلك الأصنام المعبودة أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى يكون بعثها. وقد روي، أنها تبعث، ويجعل فيها حياة، فتبرأ من عابديها. ثم يؤمر بها وبهم جميعا إلى النار.
وجوز عود الضمير إلى عابديها. أي: وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكما بحالها. لأن شعور الجماد محال. فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تصريح بالمدعى، وتمحيض للنتيجة، غب إقامة الدليل.
كما أفاده أبو السعود فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي لوحدانيته تعالى، جاحدة لها، كما أخبر عنهم، متعجبين من ذلك بقوله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥]، وقال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:
٤٥]، وقوله تعالى: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي عن عبادته تعالى: لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي عن التوحيد، وهم المشركون. أو عن الحق مطلقا فيتناول هؤلاء. وهذا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي لم ينزل شيئا. إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين، استمدها منها. كما قال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: ٥]، لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم، وبعض أوزار من أضلوهم. كقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت: ١٣]، فاللام في قوله: لِيَحْمِلُوا لام العاقبة. لأن ما ذكر مترتب على فعلهم ولا باعثا إما مجازا. وإما حقيقة، على معنى أنه قدّر صدوره منهم ليحملوا. وقد قيل: إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة. والمعنى: إن ذلك متحتم عليهم. فيتم الكلام عند قوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كذا في (العناية). وقوله تعالى:
بِغَيْرِ عِلْمٍ قال الزمخشري: حال من المفعول: أي: من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه، وإن لم يعلم، لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. فجهله لا يعذره أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي: ألا بئس ما يحملون. ففيه وعيد وتهديد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي بأنبيائهم فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي قلع بنيانهم من قواعده وأسسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و (الإتيان) يتجوز به عن (الإهلاك) كقوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: ٢]، ويقال أتي فلان من مأمنه. أي جاءه الهلاك من جهة أمنه. وأتى عليه الدهر: أهلكه وأفناه. ومنه الأتوّ. وهو الموت والبلاء. يقال أتى على فلان أتوّ أي موت أو بلاء يصيبه. وقد جوز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم.
كالمحكي عن قوم لوط وصالح. عليهما السلام، فيما تقدم. أو مجازه على طريق التمثيل، لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، للإيقاع بالرسل عليهم السلام، وفي إبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله إياها أسبابا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانا وعمّدوه بالأساطين. فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا. ووجه الشبه: أن ما عدوه سبب بقائهم، عاد سبب استئصالهم وفنائهم. كقولهم: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبا. وقوله: مِنْ فَوْقِهِمْ متعلق ب (خر). و (من) لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من (السقف) مؤكدة. وقيل: إنه ليس بتأكيد. لأن العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط: إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه وَأَتاهُمُ الْعَذابُ أي الهلاك والدمار مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي لا يحتسبون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلّهم ويهينهم بعذاب الخزي. لقوله تعالى:
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: ١٩٢]، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وفيه تقريع وتوبيخ بالقول، واستهزاء بهم. إذ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة، بناء على زعمهم، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله يُخْزِيهِمْ أي ما لهم لا
يحضرونكم ليدفعوا عنكم! لأنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا.
فهو كقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: ٢٢]، وقيل: حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم الأنبياء أو العلماء، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ أي الفضيحة والعذاب عَلَى الْكافِرِينَ أي المشركين به تعالى. ما لا يضرهم ولا ينفعهم. وإنما قال الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هذا شماتة بهم. وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول. وتقريرا لما كانوا يعظونهم، وتحقيقا لما أوعدوهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم، بأنهم يلقون السلم، أي ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقّة. والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. وأصل الإلقاء في الأجسام. فاستعمل في إظهار الانقياد. إشعارا بغاية خضوعهم واستكانتهم.
وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب. على الاستعارة. وقوله تعالى:
ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ منصوب بقول مضمر، حال. أي قائلين ذلك. أو هو تفسير (للسلم) الذي ألقوه، لأنه بمعنى القول. بدليل الآية الأخرى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النحل: ٨٦]، كما يقولون يوم المعاد وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣]، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: ١٨]، ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدّرا خلودكم.
قال ابن كثير: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم. وينال أجسادهم، في قبورها. من حرّها وسمومها. فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في
أجسادهم، وخلدت في نار جهنم، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها. كما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: ٤٦]، وقوله: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس المقيل والمقام لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله. فذكرهم بعنوان التكبّر، للإشعار بعليته لثوائهم فيها. ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فجحدوا رحمته وكفروا نعمته- تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٣٠]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وهم المؤمنون ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر سبحانه عما وعد به عباده بقوله:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أي لمن أحسن عمله، مكافأة في الدنيا بإحسانهم. ولهم في الآخرة ما هو خير منها. فقوله: فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق ب حَسَنَةٌ كتعلقه ب أَحْسَنُوا. قال الشهاب: والحسنة التي في الدنيا الظفر وحسن السيرة وغير ذلك. وهذه الآية كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧]، وقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: ١٤٨]، وقال تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران: ١٩٨]، وقال: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: ١٧]، ثم وصف تعالى الدار الآخرة بقوله:
وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كقوله
تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: ٧١]، كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار، في مقابلة أولئك، بقوله سبحانه الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وكل سوء يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لتدخل أرواحكم الجنّة فإنها في نعيم برزخيّ إلى البعث. أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ... [فصلت: ٣٠] الآيات، ثم أشار إلى تقريع المشركين، وتهديدهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
ْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
أي لقبض أرواحهم بالعذاب وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي العذاب المستأصل. أو يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال ذلِكَ
أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والاستهزاءعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أي فتمادوا في ضلالهم حتى ذاقوا بأس الله ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
فيما أحلّ بهم في عذابه الآتي بيانه. وذلك لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا جزاء سيئات أعمالهم من الشرك وإنكار الوحدانية وتكذيب الرسل ونحوها وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي توعدتهم به الرسل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
366
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه واعتذارهم عنه بالاحتجاج بالقدر، تكذيبا للرسول صلوات الله عليه وطعنا في الرسالة وذلك قولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، مما لم ينزل الله به سلطانا ثم أعلم تعالى مشاكلتهم لمن تقدمهم، بقوله:
لِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أي من الشرك والتحريم، متمسكين بمثل هذه الشبهة.
قال ابن كثير: مضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه. قال الله تعالى رادا عليهم شبههم فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم. بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة، أي في كل قرن وطائفة من الناس، رسولا. وكلهم يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهو ما يعبد من دونه سبحانه. فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، من عهد نوح أول رسول إلى أهل الأرض، إلى زمن خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم. ودعوة الكل واحدة كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]، وكما أخبر هنا في هذه الآية. فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية. لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله. وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرا، فلا حجة لهم فيها. أي لأنها من سر القدر الذي حظر الخوض فيه. ثم إنه تعالى أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا، بعد إنذار الرسل، بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ الآية. وقد تقدم لنا في سورة الأنعام نقل ما للأئمة في مثل هذه الآية. ونسوق هنا أيضا ما قرأته للإمام ابن تيمية، عليه الرحمة، في أول الجزء الثاني من (منهاج السنة) مما يتعلق بالآية، وإن يكن سبق لنا نقل عنه أيضا. فإن الآية من معارك الأفهام. فلا علينا أن نجلو عن الشبه فيها صدأ
367
الأوهام. قال عليه الرحمة: هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه. فإن كثيرا من الناس، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال: حتى يقدّر الله ذلك، أو يقدّرني الله على ذلك، أو حتى يقضي الله ذلك. وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرّم الله قال: الله قضاه عليّ بذلك، ونحو هذا الكلام. والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة. باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين. والمحتجّ به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه. بل يطلب منه ما له عليه، ويعاقبه على عدوانه عليه. وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم. فكأنك تعلم فسادها بالضرورة. وإن كانت تعرض كثيرا للكثير من الناس.
حتى قد يشك في وجود نفسه. وغير ذلك من المعارض الضرورية. فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب، وغير ذلك. وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك. ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة. ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله. فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة، وهو المأمور وهو الذي ينبغي فعله، ولم يحتج بالقدر. وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به- لم يحتج بالقدر. بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم، احتج بالقدر. ولهذا لما قال المشركون: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ١٤٨]، قال الله تعالى: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: ١٤٩]، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة. فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا- لم يقبلوا منه هذه الحجة. ولا هو يقبلها من غيره. وإنما يحتج بها المحتج دفعا للّوم بلا وجه. فقال الله تعالى: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله، وأنه مصلحة ينبغي فعله إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فإنه لا علم عندكم بذلك، إن تظنون ذلك إلا ظنا وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ وتفترون. فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم. ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدّره. فإن مجرد المشيئة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل. ولا حجة لأحد على أحد ولا عذرا لأحد. إذا الناس كلهم مشتركون في القدر. فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق
368
والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاجر. ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال ما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم. وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده، والإيمان به لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره، لم يقبله منه. بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل من يريد تركا لحقهم، أو ظلما. فلما جاءهم رسول الله ﷺ يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره، واحتجوا بالقدر. فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حقّ ربهم ومخالفة أمره، بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبيّ ﷺ قال: يا معاذ بن جبل! أتدري ما حقّ الله على عباده؟ حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ حقهم عليه أن لا يعذّبهم «١».
فالاحتجاج بالقدر حال الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم. ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم، يفرّون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس. فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا. بل يعتمدون عليه، لعدم الهدى والعلم. وهذا أصل شريف، من اعتنى به علم منشأ، الضلال والغيّ لكثير من الناس. ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي، كثيرا ما يوصون أتباعهم بالعلم بالشرع. فإن كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها. فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنه دين الله تعالى. وليس معهم إلى الظن والذوق والوجدان الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها. فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص. وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة. فإذا اتبعوا العلم، وهو ما جاء به الشارع ﷺ خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس، واتبعوا ما جاءهم من ربهم وهو الهدى. كما قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى [طه: ١٢٣]، وقد ذكر الله تعالى
(١) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ١- باب ما جاء في دعاء النبيّ ﷺ أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، حديث ١٣٧١، وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٥٠.
369
هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى:
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: ٢٠]، فتبين أنه لا علم لهم بذلك، إن هم إلا يخرصون، وقال في سورة الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: ١٤٩]، إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: ١٦٥]، ثم أثبت القدر بقوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية. وكلاهما حق وقال في النحل: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: ٣٥] فبيّن سبحانه وتعالى- أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاءوهم به. ليس حجة لهم. فلو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم. ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة. بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن. كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة. بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب. كما
ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا أحد أحب إليه العذر في الله. من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. ولا أحد أحب إليه المدح من الله. من أجل ذلك مدح نفسه. ولا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» «١».
فبين أنه سبحانه يحب المدح وأن يعذر ويبغض الفواحش، فيحبّ أن يمدح بالعدل والإحسان. وألّا يوصف بالظلم. ومن المعلوم أنه من قدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا. وبيّن لهم وأزاح علتهم، ثم تعدّوا حدوده وأفسدوا أمورهم، كان له أن يعذبهم وينتقم منهم. فإذا قالوا: أليس الله قدّر علينا هذا؟ لو شاء الله ما فعلنا هذا. قيل لهم: أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به، يبيّن أن ما فعلتموه كان حسنا، أو كنتم معذورين فيه. فهذا الكلام غير مقبول منكم. وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار. ولو أن وليّ أمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد، فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه، وكان وليّ الأمر قد أرسل جندا يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق، فرأوا
(١)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٢٠- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا شخص أغير من الله
، حديث رقم ٢٥١٨، عن المغيرة.
وأخرجه مسلم في: اللعان، حديث رقم ١٧.
370
ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا- لكن يحسن منه أن يعاقب الأولين لتفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم به، ولو قالوا له: أنت لم تعلمنا أنك تبعث بعدنا جندا حتى يحترز المال منهم، قال: هذا لا يجب عليّ، ولو فعلته لكن زيادة إعانة لكم. لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظون الودائع والأمانات.
وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن يدعى فيهم ظالما. وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند. لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين. والله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى، حكم عدل في كل ما جعله. ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته. فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم. ، كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم. وإذا خلق أمورا أخرى، فإذا فرّطوا واعتدوا بسبب خلقه الأمور الأخرى، كان عادلا حكما في خلق هذا وخلق هذا، والأمر بهذا والأمر بهذا. وإن كان لم يمدّ الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان،. لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة، لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح، فإن الضدين لا يجتمعان. والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل، لدعم اتباع الحق الذي بينه العلم. فإن الإنسان حيّ حساس متحرك بالإرادة. ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث وهمّام)
فالحارث الكاسب العامل. والهمّام المتحرك الهمّ.
والهمّ مبدأ الإرادة والقصد. فكل إنسان حارث همام. وهو المتحرك بالإرادة. وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور. فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد. فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه.
كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور. فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب. والحيّ مفطور على حب ما ينفعه ويلائمه، وبغض ما يكرهه ويضره. فإذا تصوّر الشيء الملائم النافع، أراده وأحبه. وإن تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه. لكن ذلك التصوّر قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا. فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع، وهو المصلحة وهو الذي يلائمه، كان على الهدى والحق. وإذا لم يكن معه علم بذلك، كان متبعا للظن وما تهوى نفسه. فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة، أخذ يحتج بالقدر، حجة لدد وتفريج، لا حجة اعتماد على الحق والعلم. فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر، إلا لعدم العلم بما هو عليه الحق. وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرّا بأن ما هو عليه ليس معه به علم. وإنما تكلم بغير علم. ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه. ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة. فإما أن يكون جاهلا،
371
فعليه أن يتبع العلم. وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه، فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه. فتبيّن أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص: ٥٠] انتهى.
وله تتمة سابغة الذيل لا بأس بالوقوف عليها.
وقال القاشاني في هذه الآية: إنّما قالوا ذلك عنادا وتعنّتا عن فرط بالجهل وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم. إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئا، لم يشأ الله ذلك، لم يمكن وقوعه. فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى، فلم يبق مشركا، قال الله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا [الأنعام: ١٠٧]، وقوله تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
[النحل: ٣٥]، أي في تكذيب الرسل بالعناد انتهى.
وقال الإمام مفتي مصر في تفسير سورة العصر، من هذا البحث ما مثاله:
فالعقل والشرع والحس والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله. وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات، إنما هو نسبتها إليه. ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه. مما قام عليه الدليل بل كاد يصل إلى البداهة كذلك. ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى. وأنه إن شاء سلبنا من القدرة والاختيار ما وهبنا. فهو أمر نشاهده كل يوم. ندبّر شيئا، ثم يأتي من الموانع من تحقيقه ما لم يكن في الحسبان. ونتناول عملا ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه.
كل ذلك لا نزاع فيه. شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل. ولا شبهة فيه عند الملّيّين فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه، وأن يقرّر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده. ويعلم بما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه. وليس عليه بعد ذلك أن يرفع بصره إلى ما وراءه. فقد نعى الله على المشركين قولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ١٤٨]، ووردت الأحاديث متواترة المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره. فلو صبر العبد حق الصّبر، لوقف عند ما حد الله له، ولم ينزع بنفسه إلى تعدي حدود الله التي ضربها لعباده. ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا. وإلا خرجت من الصابرين، وخضت في القدر مع الخائضين. ومن ثار به الهوس فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له، فقد خالف كتاب الله وعصى رسول الله. وقد أقول (واعتمادي على الله فيما أقول) إن
372
من يقول ذلك. يخرج عن دين الله، ويعطل شرع الله، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك. انتهى.
وقال في موضع آخر: الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين.
وقد جاء الكتاب الكريم بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه. وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ١٤٨]، فلا يسوغ لأحد منا، وهو يدّعي أنه مؤمن بالقرآن، أن يحتج بما كان يحتج به المشركون. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨)
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي من يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ينصرونهم في الهداية، أو يدفعون العذاب عنهم. ثم بيّن تعالى نوعا آخر من أباطيلهم. وهو إنكارهم البعث بقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جاهدين فيها ف جَهْدَ مصدر في موقع الحال لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أنه يبعثهم، فيبتّون القول بعدمه! وإنه وعدا عليه حقّ، فيكذبونه- وذلك لجهلهم بشئون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال. وبما يجوز عليه وما لا يجوز: وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه. وعلى أن البعث مما يقتضيه الحكمة. أفاده أبو السعود.
ثم ذكر حكمته تعالى في المعاد، وحشر الأجساد يوم التناد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو الحق، وأنهم كانوا على الضلالة قبله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ أي في أباطيلهم. لا سيما في أيمانهم بعدم
البعث. ولذا تقول لهم الزبانية يوم القيامة: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: ١٤]، ثم بين عظيم قدرته. وأنه لا يعجزه شيء مّا بقوله سبحانه إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فيوجد على ما شاء تكوينه كقوله تعالى:
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: ٥٠]، وقوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨].
قال الزمخشري: (قولنا) مبتدأ و (أن نّقول) خبره و (كن فيكون) من (كان) التامة التي بمعنى الحدوث والوجود. أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له:
أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك، لا يتوقف. وهذا مثل. لأن مرادا لا يمتنع عليه.
وأن وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل. ولا قول ثمّ. والمعنى: إن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة. فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو في شق المقدورات.
انتهى.
قال الشهاب: فسقط ما قيل: إنّ (كن) إن كان خطابا مع المعدوم فهو محال.
وإن كان مع الموجود كان إيجادا للموجود. وفي الآية كلام لطيف مضى في سورة البقرة، فارجع إليه.
ثم أخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين الذين فارقوا الدار والأهل والخلّان، رجاء ثوابه وابتغاء مرضاته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٤١]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي مخلصين لوجهه، أو في حقه، وهم إما مهاجرة الحبشة الذين اشتدّ أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبش بأمره صلى الله عليه وسلم، وذلك مخافة الفتنة وفرارا إليه تعالى بدينهم، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلا سوى صغار أبنائهم، وهي أول هجرة في الإسلام. ويؤيده كون السورة مكية.
أو هم مهاجرة المدينة، أخبر به قبل وقوعه أو بعده، إلا أنها ألحقت بالمكية.
وقوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي أوذوا وأريد فتنتهم عن الدين لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني بالغلبة على من ظلمهم، وإيراثهم أرضهم وديارهم وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
يعني مضطهديهم وظالميهم. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه، يقول: خذ بارك الله لك فيه. هذا ما وعدك الله في الدنيا. وما ادخر لك في الآخرة أفضل. ثم وصفهم تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
الَّذِينَ صَبَرُوا أي على ما أوذوا في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي فلا يخشون أحدا غيره. والوصفان المذكوران: الصبر والتوكل، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق، والمدافع عنه، أن يكونا خلقا له. إذ لا ظفر بغاية إلا بهما. ولما عجبوا من إيحاء الله لرسوله، واصطفائه برسالته، قيل في درء شبهتهم وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني أهل الكتاب أو علماء الأخبار. ليعلموكم أنه لم يرسل للدعوة العامة ملك من أهل السماء. فالذكر، إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة، كقوله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ [يس: ٦٩]، أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة. وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم. واستدل بها بعضهم على جواز التقليد في الفروع للعاميّ. وفي ذلك بحث طويل في (إيقاظ الهمم) للفلّاني فارجع إليه إن شئت. وأشار إلى طرف منه في (فتح البيان).
وقوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي بالآيات المبرهنة على صدقهم والكتب المرشدة إلى مصالح الخلق. والجارّ متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي أرسلناهم. أو ب (ما أرسلنا). أو ب (نوحي) أو ب (لا تعلمون)، على أن الشرط للتبكيت والإلزام وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن المذكّر والموقظ من سنة الغفلة لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أي مما أمروا ونهوا ووعدوا وأوعدوا وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين. أو يتأملون ما فيه من العبر فيحترزون عما أصاب الأولين. ولذا تأثره بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٤٥]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي المكرات السيئات التي قصّت عنهم. فهي صفة لمصدر محذوف أو مفعول ل (مكروا) بتضمينه معنى (عملوا) أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من جهة لا يعلمون بها، كما لا يشعر الممكور بقصد الماكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي سعيهم في المعايش واشتغالهم بها فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لا يعجزون ربهم على أي حال كانوا أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي توقع للهلاك ومخافة له، فإنه يكون أبلغ وأشد. أو ننقّص في أبدانهم وأموالهم وثمارهم حتى يهلكوا. يقال: تخوفه: تنقصه وأخذ من أطرافه فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم بالعقوبة. ثم أخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه بانقياد سائر مخلوقاته، جمادات وحيوانات ومكلفين من الجن والإنس والملائكة له سبحانه، بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي جسم قائم له ظلّ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ أي يرجع شيئا فشيئا عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أي عن جانبي كل واحد منها، بكرة وعشيّا سُجَّداً لِلَّهِ أي منقادة له على حسب مشيئته في الامتداد والتقلص وغيرهما، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون. وغلب في جمعها من يعقل، فأتى بالواو. أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء. فهو إما تغليب أو استعارة: وكذا ضمير (هم) أيضا لأنه مخصوص بالعقلاء.
فيجوز أن يعتبر ما ذكر فيه، ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة.
لطيفة:
لابن الصائغ في سر توحيد اليمين وجمع الشمائل توجيه لطيف. وملخصه أنه نظر إلى الغاية فيهما. لأن ظل الغداة يضمحلّ بحيث لا يبقى منه إلا اليسير. فكأنه
في جهة واحدة. وهو في العشيّ على العكس، لاستيلائه على جميع الجهات.
فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة اللفظ فجمع ليطابق (سجدا) المجاور له. كما أفرد الأول لمجاورة ضمير (ظلاله) وقدّم الإفراد لأنه أصل أخف. و (عن اليمين) متعلق ب (يتفيأ) أو حال. كذا في (العناية).
ثم بين سجود سائر المخلوقات سواء كانت لها ظلال أم لا، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٤٩]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ أي الملائكة، مع علوّ شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ أي عن عبادته والسجود له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٥٠]
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي من الطاعات والتدبير.
واستدل بقوله مِنْ فَوْقِهِمْ على ثبوت الفوقية والعلوّ، له تعالى. وقد صنف في ذلك الحافظ الذهبيّ كتاب (العلوّ) وابن القيم كتاب (الجيوش الإسلامية) وغيرهما.
وأطنب فيها الحكيم ابن رشد في (مناهج الدولة) فليرجع إليها. وكلهم متفقون على أنه علوّ بلا تشبيه ولا تمثيل. وانفرد السلف بخطر التأويل والتعطيل. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٥١]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إعلام بنهيه الصريح عن الإشراك. وبأمره بعبادته وحده، وإنما خصص هذا العدد لأنه الأقل، فيعلم انتفاء ما فوقه بالدلالة. فإن قيل: الواحد والمثنى نص في معناهما، لا يحتاج معهما إلى ذكر العدد، كما يذكر مع الجميع. أي في نحو رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص، فلم ذكر العدد فيهما؟ أجيب بأن العدد
يدل على أمرين: الجنسية والعدد المخصوص. فلما أريد الثاني صرّح به للدلالة على أنه المقصود الذي سيق الكلام وتوجه له النهي دون غيره. فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو: نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله:
فإنّ النار بالعودين تذكى وإنّ الحرب أوّلها الكلام
وقيل: ذكر العدد للإيماء بأن الاثنينيّة تنافي الألوهية. فهو في معنى قوله:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢]، فلذا صرح بها، وعقبت بذكر الوحدة التي هي من لوازم الألوهية.
قال الشهاب: ولا حاجة إلى جعل الضمير للمعبود بحق المراد من الجلالة على طريق الاستخدام.
وقوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ معطوف على قوله وَلِلَّهِ يَسْجُدُ أو على قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وقيل: إنه معطوف على ما خَلَقَ اللَّهُ على أسلوب:
علفتها تبنا وماء باردا
أي: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ ولم يسمعوا ما قال الله؟. ولا يخفى تكلفه. وفي قوله فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ التفات عن الغيبة، مبالغة في الترهيب. فإن تخويف الحاضر مواجهة، أبلغ من ترهيب الغائب، لا سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معطوف على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أو على الخبر، أو مستأنف. وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي العبادة لازمة له وحده. ولزومها له ينافي خوف الغير، إذ يقتضي تخصيصه تعالى بالرهبة والخشية، وهذا كقوله:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: ٨٣].
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي وهو مالك النفع والضر. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
أي فمن فضله وإحسانه ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي لا تتضرعون إلا إليه، لعلمكم أنه لا يقدر على كشفه إلا هو سبحانه. والجؤار: رفع الصوت. يقال: جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع، وأصله صياح الوحش.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيتها منه. وكذا بنسبة الضر إلى الغير، وإحالة الذنب في ذلك عليه، والاستعانة في رفعه به. وذلك هو كفران النعمة، والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي من نعمة الكشف عنهم. واللام للعاقبة والصيرورة فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي وبال ذلك الكفر. وفيه إشعار بشدة الوعيد، وأنه إنما يعلم بالمشاهدة، ولا يمكن وصفه، فلذا أبهم.
وللقاشانيّ وجه آخر قال: أو فسوف تعلمون، بظهور التوحيد، أن لا تأثير لغير الله في شيء. ثم بيّن تعالى من مثالب المشركين قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ. أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي: من أنها آلهة يتقرب إليها. ومرّ نظير الآية في سورة الأنعام في قوله سبحانه وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام: ١٣٦] الآية، فانظر تفصيلها ثمّة وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ
هذا بيان لعظيمة من عظائمهم، وهو جعلهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن بنات لله، فنسبوا له تعالى ولدا ولا ولد له. واجترءوا على التفوه بمثل ذلك وعلى نسبة أدنى القسمين له من الأولاد، وهو البنات. وهم لا يرضونها لأنفسهم لأنهم يشتهون الذكور، أي يختارونهم لأنفسهم ويأنفون من البنات. وقد نزه مقامه الأقدس عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ أي عن إفكهم وقولهم. وفيه تعجب من جراءتهم على التفوه بهذا المنكر من القول، ومن مقاسمتهم لجلاله بالاستئثار كما قال سبحانه أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: ٢١- ٢٢]. وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
[الصافات: ١٥١- ١٥٤]. ثم أشار إلى شدة كراهتهم للإناث، بما يمثل عظم تلك النسبة إلى الجناب الأقدس وفظاعتها، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار أو دام النهار كله مُسْوَدًّا أي متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهية التي حصلت له عند هذه البشارة. وسواد الوجه وبياضه يعبر عن المساءة والمسرة، كناية أو مجازا. وَهُوَ كَظِيمٌ أي مشتد الغيظ على امرأته لأنه، بزعمه، حصل له منها ما يوجب أشد الحياء حتى أنه يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستخفي منهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أي من أجله وخوف التعبير به.
ثم يفكر فيما يصنع به، وهو قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه على هوان وذلّ، لا يورّثه ولا يعتني به، ويفضل ذكور ولده عليه أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي يخفيه ويدفنه فيه حيّا أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي حيث يجعلون الولد، الذي هذا شأنه من الحقارة والهون عندهم، لله تعالى وتقدس.
ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٦٠]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي مثل من ذكرت مساوئهم مَثَلُ السَّوْءِ أي صفات الذل من الحاجة إلى الأولاد وكراهة الإناث ووأدهن، خشية الإملاق، المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشحّ البالغ. ووضع الموصول موضع الضمير، للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الوصف العالي الشأن، وهو الغنيّ عن العالمين. والكمال المطلق والتقدس عن سمات المخلوقين:
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثم أخبر تعالى عن حلمه بخلقه، مع ظلمهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض المدلول عليها بالناس، وبقوله تعالى: مِنْ دَابَّةٍ أي لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معين تقتضيه الحكمة. يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له، ويصرّ من يصرّ فيزداد عذابا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي المسمي لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ أي ينسبون إليه ما يَكْرَهُونَ أي من البنات ومن الشركاء. وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم. وهو تكرير لما سبق، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى:
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي يجعلون لله ذلك، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله، إن كان ثم معاد. كما قصه تعالى عنهم بقوله وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: ٥٠]، يعني جمع هؤلاء بين عمل السوء وتمنّي المحال، بأن يجازوا على ذلك حسنا.
وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة، لما جدّدت، مكتوبا (تعملون السّيّئات وتجزون الحسنات. أجل. كما يجتنى من الشوك العنب) وأَنَّ لَهُمُ إلخ بدل من (الكذب) أو بتقدير بأن لهم.
قال الشهاب: قوله تعالى: قوله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ من بليغ الكلام وبديعه كقولهم: (عينها تصف السحر) أي ساحرة. وقدها يصف الهيف، أي هيفاء.
قال أبو العلاء المعرّى:
سرى برق المعرّة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
ثم ردّ كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي معجّلون إليها ومقدّمون. من (الفرط) وهو السابق إلى الورد. يقال: أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. أو متروكون منسيّون في النار. من (أفرطته) بمعنى تركته
ونسيته، على ما حكاه الفراء. كقوله تعالى فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف: ٥١]. وقرأ نافع (مفرطون) بكسر الراء. اسم فاعل من (أفرط) إذا تجاوز أي متجاوز الحدّ في معاصي الله. وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من (فرّط في كذا) إذ قصر. ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [فصلت: ٥٠]. وقال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف: ٣٥- ٣٦].
ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم، ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي من الكفر والتكذيب والعناد فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي قرينهم، يغويهم. أو المراد باليوم يوم القيامة. والوليّ بمعنى الناصر. وجعله ناصرا فيه، مع أنهم لا ينصرون، مبالغة في نفيه، وتهكم، على حدّ (عتابه السيف) وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي فالقرآن هو الفرقان الفاصل بين الحق والباطل، وكل ما يتنازع فيه وَهُدىً أي للقلوب وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ثم أشار إلى عظيم قدرته في آياته الكونية الدالة على وحدانيته، إثر قدرته في إحياء القلوب الميتة بالكفر، بما أنزله من وحيه وهداه ورحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بالنبات والزرع، بعد جدبها ويبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي هذا التذكير، ويعقلون وجه دلالته وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش من الثفل وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ أي سهل المرور في حلقهم.
بيّن تعالى آيته في الأنعام بما ذكر، ليستدل به على وحدانيته وانفراده بالأولوهية. وليستدل به أيضا على الحشر. فإن العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والتراب. فقلب الطين نباتا وعشبا، ثم تبديله دما في جوف الحيوان، ثم تحويله إلى لبن، أعظم عبرة على قدرته تعالى على قلب هذه الأجسام الميتة من صفة إلى صفة. وإنما ذكّر الضمير في بطونه هنا، وأنثه في سورة المؤمنين، لكون الأنعام اسم جمع، فيذكر ويفرد ضميره، باعتبار لفظه. ويؤنث ويجمع باعتبار معناه.
وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بيان لآيته تعالى في الثمرات المذكورة، ومنّته في المشروب منها والمطعوم. و (السّكر) مصدر سمي به الخمر. فهو بمعنى السّكر كالرّشد والرّشد.
قال الفراء: السّكر الخمر نفسها. والرزق الحسن الزبيب والتمر وما أشبههما، ولا يقال: الخمر محرمة، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام؟ لأنّ هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة. وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة. وأجاب الرازي بجواب ثان.
وهو: أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع. وخاطب المشركين بها. والخمر من أشربتهم. فهي منفعة في حقهم.
قال: ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضا على تحريمها. وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السّكر رزقا حسنا. ولا شك أنه
حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال: الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة.
وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة. انتهى.
تنبيه:
قال ابن كثير: دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور.
وفي (فتح البيان) قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر. كما في (الكشاف) قالوا: إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم. وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر. انتهى.
وليس هذا موضع بسط ذلك. قال ابن كثير: وقد ناسب ذكر العقل هاهنا في قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنه أشرف ما في الإنسان. ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها. انتهى.
ولما بين تعالى أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، دلائل قاهرة وبينات باهرة، على أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا مختارا حكما- أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضا بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ المراد من الوحي الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات. وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتا تأوي إليها في ثلاثة أمكنة: الجبال.
والشجر. وبيوت الناس، حيث يعرشون أي يبنون العروش، جمع (عرش) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش. وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة: الجبال والشجر وبيوت الناس. وأكثر بيوتها ما كان في الجبال وهو المتقدم في الآية ثم في الشجر دون ذلك ثم في الثالث أقل.
384
فالنحل إذا نوعان: جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس. وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا. ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أوّلا. فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت.
وأكلت من الثمرات. ثم أوت إلى بيوتها. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل ثمرة تشتهيها، حلوها ومرها. فالعموم عرفيّ، أو لفظ (كل) للتكثير. أو هو عام مخصوص بالعادة. ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز. لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات، الأكل منها. لأن الأمر للتخلية والإباحة.
لطيفة:
إنما أوثر (من) في قوله تعالى: مِنَ الْجِبالِ إلخ، على (في) دلالة على معنى التبعيض. وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها. نبه عليه الزمخشري:
قال الناصر: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض (من) المتعلقة باتخاذ البيوت. بإطلاق الأكل. كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها. فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض. لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت (ثم) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات. كما تقول راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أي شيء شئت. فتوسط (ثم) لتفاوت الحجر والإطلاق.
فسبحان اللطيف الخبير.
وقوله تعالى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أو على حقيقتها. أي إذا أكلت الثمار في المواضع النائية فاسلكي راجعة إلى بيوتك. سبل ربك. لا تتوعّر عليك ولا تضلين فيها. و (ذللا) جمع ذلول، حال من (السبل) أي مذلّلة ذللها الله لك وسهلها.
فهي تسلك من هذا الجوّ العظيم. والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة. ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة. وقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ استئناف، عدل به عن خطاب النحل لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى، تعديدا للنعم، وتنبيها على العبر، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف. وسمي العسل شرابا، لأنه يشرب مع الماء وغيره مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ
385
أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر، لاختلاف ما يؤكل من النّور أو مزاجها فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض. وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين. وقلّ معجون من المعاجين، لم يذكر الأطباء فيه العسل. وقد قام الآن مقامه السكر، لكثرته بالنسبة إليه.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال:
اسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فقال: يا رسول الله! سقيته عسلا ما زاده إلا استطلاقا. قال: اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله! ما زاده إلا استطلاقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك. اذهب فاسقه عسلا. فذهب فسقاه عسلا فبرأ «١».
قال ابن كثير: قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات. فلما سقاه عسلا وسكر حارّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالا، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره، وهو مصلحة لأخيه. ثم سقاه فازداد التحليل والدفع. ثم سقاه فكذلك. فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، استمسك بطنه، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي (العناية) للشهاب هنا، قصة عن طبقات الأطباء، فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه، وانفراده بألوهيته. وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء، من وراء البيداء، فتقع على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا، وتلفظه شرابا.
قال الحجة الغزالي (في الإحياء) : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا. وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل. وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء. ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها
(١) أخرجه البخاريّ في: الطب، ٤- باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ حديث ٢٢٥١.
وأخرجه مسلم في: السلام، حديث رقم ٩١.
386
من النجاسات والأقدار، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصا وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة- لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من هم بطنك وفرجك. وشهوات نفسك في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك. ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك. وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه. فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة.
وشكل النحل مستدير مستطيل. فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة. ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة. فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة. ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير.
ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس. وهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل، على صغر جرمه، ذلك. لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه. ليهنأ عيشه فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه. وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية. وربما هلك الملسوع. وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج. وفي طبعه أيضا النظافة. فلذلك يخرج رجيعه من الخلية لأن منتن الريح. وهو يعلم زماني الربيع والخريف. والذي يعمله في الربيع أجود. والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا. يطلبه حيث كان. ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة. وإذا قلّ العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفا على نفسه من نفاده لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور. وربما قتلت ما كان منها هناك.
قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا. قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفنى العسل، ويعلم النشيط الكسل.
والنحل يسلخ جلده كالحيات. وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة، ويضره السوس. ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح. وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن بأخثاء البقر. وفي طبعه أنه متى طار من الخلية، يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه. كذا في (حياة الحيوان).
387
وذكر الإمام الغزالي أيضا في كتاب (الحكمة في خلق المخلوقات) : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها. فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه، قتل أحدهما الآخر. وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق. لأنهما إذا كانا أميرين، وسلك كل واحد منهما فجّا، افترق النحل خلفهما. ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار. فيستحيل في أجوافها عسلا. فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد، من شراب فيه شفاء للناس.
كما أخبر سبحانه وتعالى. وفيه غذاء وملاذ العباد. وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها. وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس. ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها، لتوعي فيه العسل وتحفظه. فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح. فانظر في هذه الذبابة، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل.
وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه.
قال أبو السعود: ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل. أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك. وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع: الأولى سنّ النشوء والنماء. والثانية سن الوقوف وهي سن الشباب. والثالثة سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة. والرابعة سن الانحطاط الكبير وهي سنّ الشيخوخة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي أنشأكم من العدم ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أضعفه وأردئه وهو الهرم. وقوله تعالى: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام
للصيرورة والعاقبة. أي فيصير، إن كان عالما، جاهلا. فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته.
قال في (العناية) : وكونه غير عالم بعد علمه، كناية عن النسيان. لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه، فلا يعلم بعد ما علم. أو العلم بمعنى الإدراك والتعقل، والمعنى لا يترقى في إدراك عقله وفهمه لأن الشاب في الترقي. والشيخ في التوقف والنقصان.
وفي (الكشاف) : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان. وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا. وقيل لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول. و (شيئا) منصوب على المصدرية أو المفعولية. وجوز فيه التنازع بين (يعلم) و (علم) وكون مفعول (علم) محذوفا لقصد العموم. أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي: جعلكم متفاوتين فيه، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا أي في الرزق، وهم الملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي بمعطيهم إياه فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فيستووا مع عبيدهم في الرزق.
والآية مثل، ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء. أي أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم. ولا تجعلونهم فيه شركاء. ولا ترضون ذلك لأنفسكم. فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم؟ كما قال في الأخرى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الروم: ٢٨]، أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم. أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم. فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي في جنسكم وشكلكم إناثا أزواجا لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً أي بنات وأولاد أولاد وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو منفعة الأصنام وشفاعتها وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أي في إضافة نعمه إلى الأصنام، أو في تحريم ما أحل لهم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي من مطر أو نبات و (شيئا) نصب على المفعولية من (رزق) إن كان مصدرا. وإن جعل اسما للمرزوق ف (شيئا) بدل منه بمعنى قليلا. و (من السموات) متعلق ب (يملك) على كون الرزق مصدرا. أو هو صفة ل (رزقا) وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي أن يتملكوه. أو لا استطاعة لهم أصلا. أو الضمير للمشركين. أي ولا يستطيعون، مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد؟
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي فلا تجعلوا له أندادا وأمثالا. والضرب للمثل فيه معنى الجعل. والأمثال جمع (مثل) بكسر فسكون على هذا، وقيل جمع (مثل) بفتحتين والآية استعارة تمثيلية للإشراك به. حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه، بمنزلة ضارب المثل. فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة، وذاتا بذات.
كما أن ضارب المثل كذلك. فكأنه قيل: ولا تشركوا. وعدل عنه لما ذكر، دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا. وفي لفظة (الأمثال) لمن لا مثال له، نعي عظيم على سوء فعلهم. كذا في (شرح الكشاف).
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه. ولو علمتموه لما جرأتم عليه، فهو تعليل للنهي. أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه. ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك، عقبه بالكشف لذي البصيرة، عن حالهم في تلك الغفلة، وحال من تابعهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٧٥]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن مثل هؤلاء في
إشراكهم، مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك يتصرف في ماله كيف يشاء. ولا مساواة بينهما. مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى. فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات. وإيثار قوله: وَمَنْ رَزَقْناهُ إلخ على (مالكا) للتنبيه على أن ما بيده، هو من فضل الله ورزقه، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر، ليكون عاملا بأمر الله فيه.
وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما هدى أولياءه. وأنعم عليهم من التوحيد. أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام. أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها، مع أنه في غاية ظهورها ونهاية وضوحها.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي مثلا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي أخرس لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أي مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي ثقيل على ما يلي أمره، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس، بحثّهم على العدل الشامل لجميع الفضائل.
وَهُوَ أي في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على سيرة صالحة ودين قويم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله.
قال الأزهري: ضرب تعالى مثلا للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء، فهو كلّ على مولاه. لأنه يحمله إذا ظعن فيحوّله من مكان إلى مكان. فقال الله تعالى: هل يستوي هذا الصنم الكل، ومن يأمر بالعدل؟ استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جلّ جلاله. انتهى.
وإليه أشار الزمخشري بقوله: وهذا مثل ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على
391
عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية. وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. انتهى.
وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع، يمنع من حملها على الوثن. وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله تعالى. انتهى.
وقد يقال في جوابه بأن الأوصاف الأول، وإن كانت ظاهرة في الإنسان (والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن: لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما، لما فيه من صفات النقص. وأما الوصف في قوله عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فكقوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٦]، فصح الحمل.
ثم رأيت للإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال، في بحث أمثال القرآن، في هذين المثلين ما صورته:
فالمثل الأول: يعني قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً الآية، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل شيء. ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا. يمينه ملأى لا يغيضها نفقة. سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء إليّ ويعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا.
والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء. لأنه لا خير عنده. فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد. فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٧٣- ٧٤]، ثم قال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقا حسنا. والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه
392
فذكره ابن عباس منبها على إرادته. لا أن الآية اختصت به. فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن. فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
وأما المثل الثاني، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق. بل وهو أبكم القلب واللسان. قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة. وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير. ولا يقضي لك حاجة، والله سبحانه حيّ قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له، راض به آمر لعباده به، محب لأهله لا يأمر بسواه، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل،. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم أولياءه وأحباؤه.
وهم المجاورون له عند يمينه، على منابر من نور. وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني. وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه. كما في الحديث الصحيح «١» : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدل في قضاؤك. فقضاؤه هو أمره الكوني: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢]، فلا يأمر إلا بحق وعدل. وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل.
وإن كان في المقضيّ المقدّر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضيّ. والقدر غير المقدّر. ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قوله رسوله شعيب:
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هود: ٥٦]، وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها نظير قوله (ناصيتي بيدك) وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ نظير قوله (عدل فيّ قضاؤك) فالأول ملكه. والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل. فهو على الحق في أقواله وأفعاله. فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما به ولا يؤخذ بغير ذنبه. ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا. ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره. ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١/ ٣٩١ والحديث رقم ٣٧١٢. [.....]
393
العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به.
ثم حكي عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقال فرقة: هي مثل قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤]، وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقال فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه. وهؤلاء إن أرادوا أنّ هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر. وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم. وإن أرادوا أنّ حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مردّ العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها. وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه، فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته. وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية. وقد فرق شعيب بين قوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود: ٥٦]، وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٦].
فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقد قال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: ٣٩]، وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في
394
قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله، وبالله التوفيق.
وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء: إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق. انتهى بحروفه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٧٧]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون، أو لاستبطائهم الساعة. أو لبيان كماله في العلم والقدرة، تعريضا بأن معبوداتهم عريّة منهما. فأشار إلى الأول بقوله:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه. أو غيبهما هو يوم القيامة. فإن علمه غائب عن أهلها، لم يطلع عليه أحد منهم، وأشار إلى الثاني بقوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ و (الساعة) الوقت الذي تقوم فيه القيامة. و (اللمح) النظر بسرعة. أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها (أو هو أقرب) من ذلك، أي أسرع زمانا. بأن يقع في بعض زمانه. وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى. وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل له، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى، وأن ما يذكر بعض منها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً عطف على قوله تعالى:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وقوله تعالى:
395
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ أفاده أبو السعود. و (شيئا) منصوب على المصدرية أو مفعول (تعلمون) والنفي منصبّ عليه. أي لا تعلمون شيئا أصلا من حق المنعم وغيره.
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ أي فتدركون به الأصوات وَالْأَبْصارَ فتحسون المرئيات وَالْأَفْئِدَةَ أي العقول لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها والمشي على السنن الكونية. ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ أي مذللات فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ أي ما يمسكهن في الجوّ من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل، إلا هو سبحانه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال الحجة الغزالي في الحكمة في خلق المخلوقات، في حكمة الطير، في هذه الآية، ما مثاله:
اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران. ولم يخلق فيه ما يثقله. وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه فقسم لكل عضو منه ما يناسبه. فإن كان رخوا أو يابسا أو بين ذلك، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به. فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله. وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه. أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه. وجعل جلد ساقيه غليظا متقنا جدا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد. وكان من الحكمة، خلقه على هذه الصفة. لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء. فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه.
فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصا للطيران. وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها. إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره. وكثيرا ما يعان بطول المنقار أيضا مع طول العنق، ليزداد مطلبه عليه سهولة.
ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه. وخلق صدره ودائره ملفوفا على عظم كهيئة نصف دائرة، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران. وجعل لكل جنس من الطير منقارا يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك. فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم. ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقا محكما. ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر. ومنه طويل المنقار جعله صلبا شديدا
396
شبه العظم وفيه ليونة، وما هي في العظم، لكثرة الحاجة إلى استعماله. وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان. وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصبا منسوبا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش. وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد. ومعونة متخللة الهواء للطيران. وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه، لكثرة دعاء الحاجة إليه. وجعل في سائر بدنه ريشا غيره كسوة ووقاية وجمالا له.
وجعل في ريشه من الحكمة، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كأن أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى خفته. وجعل له منفذا واحدا للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه.
فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينا وشمالا. فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها. وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته. ولما كان طعامه يبتلعه بلعا بل مضغ، جعل لبعضه منقارا صلبا يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية. وصار يزدرد ما يأكله صحيحا. وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنا يستغنى به عن المضغ وثقل الأسنان. واعتبر ذلك بحبّ العنب وغيره.
فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحا وينسحق في أجواف الطير. ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد لئلا يثقل عن الطيران. فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوّق عن النهوض للطيران. أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة؟ انتهى ملخصا.
ثم بين تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته، بقوله، عطفا على ما مرّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٨٠]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً أي موضعا تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً أي بيوتا أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها، أو من الوبر والصوف والشعر أيضا. فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو
الجلود مجاز عن المجموع تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم. لا يثقل عليكم ضربها.
أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا. قيل: والأول أولى. لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر. وأما المستوطن فغير مثقل وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أي وجعل لكم من أصواف الضّأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش. والمتاع ما يتخذه للتجارة. وقيل هما بمعنى. ومعنى (إلى حين) أي إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى. أو إلى أن تموتوا.
تنبيه:
استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية. واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقا ولو من غير مذكاة. كذا في (الإكليل).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٨١]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ أي من الشجر والجبال والأبنية وغيرها ظِلالًا أي أفياء تستظلون بها من حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي بيوتا ومعاقل وحصونا تستترون بها وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ جمع سربال وهو كل ما يلبس من القطن. والكتان والصوف ونحوها. وإنما خص الحرّ، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر. أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب، لشدته بأكثر بلادهم وخصوصا قطّان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب. قيل: يبعده ذكر وقاية البرد سابقا في قوله: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [النحل: ٥] وهو وجه الاقتصار على الحرّ هنا، لتقدم ذكر خلافه وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كالدروع من الحديد والزرد ونحوها.
التي يتقى بها سلاح العدوّ في الحرب كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى، وتؤمنو به وحده.
قال أبو السعود: وإفراد النعمة، إما لأن المراد بها المصدر، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل. وقرئ (تسلمون) بفتح اللام أي من العذاب أو الجراح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي التي عددت، وأنها بخلقه ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم هي من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ.
ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو نبيّها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٥- ٣٦]، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم العتبى. أي إزالة عتب ربهم وغضبه. (والعتبى) بالضم الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب.
يقال: استعتبه أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته. والعتب لومك الرجل على إساءة كانت له إليك. والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه، فإذا لم يطلب العتاب منه، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يؤخرون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ يعني أوثانهم التي عبدوها قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ
شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
أي أربابا أو نعبدها فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة، تنزيها لله عن الشرك.
أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم.
قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام. وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم. فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام. وهذه الآية كقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: ٥- ٦]، وقال تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: ٨١- ٨٢]، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٨٧]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
وَأَلْقَوْا أي وألقى الذين ظلموا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
أي من أنّ لله شركاء، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى. فإن قيل: قد جاء إنكارهم كقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: ١٨] والجواب: (كما قال القاشاني) : إن ذلك بحسب المواقف.
فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه. ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، حين زالت الهيئات ورقت، وضعفت شراشر النفس في رذائلها، وقرب من عالم النور، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى، فيعترف وينقاد. هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها. وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم. والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: ٢٦]، وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم. كما قال تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٣٨].
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو نبيّهم وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي اذكر ذلك اليوم، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم ترابا، لهول المطلع.
وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: ٤١- ٤٢]. وقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ مستأنف. أو حال بتقدير (قد).
قال الرازي: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، أنه تعالى لما قال وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ بيّن أنه أزاح علتهم فيما كلفوا. فلا حجة لهم ولا معذرة.
وقال ابن كثير في وجه ذلك: إن المراد، والله أعلم، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: ٦]، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ٩٢- ٩٣]، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ، قالُوا لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: ١٠٩]. وقال تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: ٨٥]. أي إن الذي أوجب عليك تبليغ
القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو متجه حسن. انتهى.
و (التبيان) من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة لتكثير الفعل والمبالغة فيه. أي تبيينا لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم وَهُدىً أي هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله وَرَحْمَةً أي له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد، ونجاته من العذاب، وبشارة له بالسعادة الأبدية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أي فيما نزله تبيانا لكل شيء بِالْعَدْلِ وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم. وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه وَالْإِحْسانِ أي التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأن يعفو عنه وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها كالزنى وَالْمُنْكَرِ أي كل ما أنكره الشرع وَالْبَغْيِ أي العدوان على الناس يَعِظُكُمْ أي بما يأمركم وينهاكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتّعظون بمواعظ الله، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن، لخير وشر، هذه الآية.
وروى الإمام أحمد «١» : أن عثمان بن مظعون مرّ على النبيّ ﷺ وهو جالس بفناء بيته. فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ألا تجلس؟ فقال: بلى. فجلس. ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه: قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا.
وعن عكرمة أن
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١/ ٣١٨، والحديث رقم ٢٩٢٢.
النبيّ ﷺ قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له: يا ابن أخي! أعد عليّ.
فأعادها. فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبّون عليّا، كرم الله وجهه، في خطبهم. فلما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أسقط ذلك منها وأقام هذه الآية مقامه. وهو من أعظم مآثره.
قال الناصر: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات، لا حظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعليّ باغ. حيث
يقول ﷺ «١» لعمار (وكان من حزب عليّ) : تقتلك الفئة الباغية.
فقتل مع علي يوم صفين. انتهى.
ولما فيها أيضا من العدل والإحسان إلى ذوي القربى، وكونها أجمع آية لاندراج ما ذكر فيها. والله أعلم.
ثم بين تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩١]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
روى ابن جرير عن بريدة قال: نزلت في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم. كان من أسلم بايع النبيّ على الإسلام، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقضوها بعد توكيدها بالأيمان.
أي لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، مما يلتزمه المرء باختياره. كالمبايعة على الإسلام. وعهد الجهاد وما التزمه من نذر وما أكده بحلف.
(١) أخرجه البخاريّ في: الصلاة، ٦٣- باب التعاون في بناء المسجد، حديث رقم ٢٩٥.
وأخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم ٧٠.
وعلى هذا، فتخصيص اليمين بالذكر، للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية. و (التوكيد والتأكيد)، لغتان فصيحتان. والأصل الواو، والهمزة بدل منها.
والواو في قوله: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا للحال من فاعل تَنْقُضُوا أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفا. ومعنى كَفِيلًا شهيدا رقيبا. و (الجعل) مجاز.
فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدا. قال الشهاب: ولو أبقى (الكفيل) على ظاهره، وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله، كما يقال (من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه) تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب- لكان معنى بليغا جدّا. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ كالتفسير لما قبله. وفيه ترغيب وترهيب.
تنبيه:
في الآية الحث على البرّ في الأيمان. وجليّ أنها فيما فيه طاعة وبرّ وتقوى.
وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها. وقد دل عليه ما
ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين «١» أنه قال: إني، والله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها
. (و
في رواية: وكفّرت عن يميني
). فالحديث في معنى، والآية في معنى آخر. فلا تعارض، كما وهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٢]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقض. أي لا تكونوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها، بعد أن أحكمته وأبرمته، فجعلته أنكاثا، أي أنقاضا، جنونا منها وحمقا.
ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمّل، داخل في زمرة النساء. بل في أدناهن، وهي الخرقاء.
وقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في (ولا تكونوا) أي لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها، حال كونكم متخذين أيمانكم
(١) أخرجه مسلم في: الأيمان، حديث ٧- ١٠.
مفسدة بينكم أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أي سبب أن تكون جماعة، كقريش، هي أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة كالمؤمنين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترّون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيتميز المحق من المبطل، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب. وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.
تنبيه:
قال أبو علي الزجاجي، من أئمة الشافعية: في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا، من إبطال الدور. لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه. نقله في (الإكليل)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي حنيفة مسلمة وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا، سؤال تبكيت ومجازاة، لا استفسار وتفهم. وهو المنفي في غير هذه الآية. أو في موقف دون موقف كما مر.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٤]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ تصريح بالنهي عنه، بعد أن نهى عنه ضمنا، لأخذه فيما تقدم قيدا للمنهي عنه، تأكيدا عليهم ومبالغة في قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها أي فتزل أقدامكم عن محجة الحق، بعد رسوخها فيه وَتَذُوقُوا السُّوءَ أي ما يسوءكم في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ أي بصدودكم عن الوفاء، أو بصدكم غيركم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي في الآخرة.
لطيفة:
تنكير (قدم) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وأشار في (البحر) إلى نكتة أخرى: قال: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعا. وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله:
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: ٣١]، أي لكل واحدة منهن متكئا. ولما كان المعنى: لا يفعل هذا كل واحد منكم، أفرد قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال وَتَذُوقُوا مراعاة للفظ الجمع.
قال الشهاب: هذا توجيه للإفراد من جهة العربية، فلا ينافي النكتة الأولى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٥]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا من الدنيا يسيرا. وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنّونهم، إن ارتدوا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من ذوي العلم والتمييز. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٦]
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف. أي ما عندكم مما تتمتعون به، يفرغ وينقص. فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه، وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له. فإنه دائم لا يحول ولا يزول وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ أي على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بجزاء أحسن من أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحا. وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله، من ذكر أو أنثى، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة.
قال المهايمي: أي فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه، ولا يبطل تلذذه إعساره. إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته. والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه إذ يزداد حرصا وخوف فوات. ويجزون بالأحسن في الآخرة. فلا يقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا. بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى. انتهى.
وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء. وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له.
والاستكانة إلى معبود واحد. والتنوّر بسر الوجود الذي قام به، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها. هذا في الدنيا. وأما في الآخرة، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.
لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه. ويفسد القلوب بدسائسه. أمر ﷺ بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه، عند تلاوة القرآن، من وسوسته. لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه. وقد بينت آية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: ٥٢]، أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبيّ على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها السعادة البشر، أنه يحول عنها الأنظار ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله.
وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان، ليحق الحق ويبطل الباطل. فلما كانت هذه عادته، ولها من الأثر ما لها، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه.
ثم بين تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم. أي تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته. وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات، فليس له عليهم سلطان. فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه. لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره. و (الرجيم) من أوصاف الشيطان الغالبة. أي الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب. والضمير في (به) لربهم والباء للتعدية. أو للشيطان والباء للسببية أي بسببه وغروره ووسوسته. ورجح باتحاد الضمائر فيه.
وأشار بعضهم إلى أن المعنى أشركوه في عبادة الله تعالى، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته.
تنبيه:
في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها. وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر. وسرها في غيره ﷺ التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة وأن لا يمنع من التدبر والتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، فتبديل الآية رفعها بآية أخرى.
والأكثرون على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظا أو حكما بآية أخرى غيرها، لحكمة باهرة أشير إليها بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به. وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء
المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ، لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه. فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف. فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبيّ أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب.
وكون الكتاب بيّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم.
وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول، أن السورة مكية. وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه. ، وللبحث تفصيل في موضع آخر. وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا إلخ [البقرة: ٢٣]، وقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦]، والمقصود أنه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدّم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء، ردّا للحق، وعنادا للهدى، وتوليا للشيطان، وتعبّدا لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ واعتراض قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله: قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بالآية رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل عليه السلام. أضيف إلى القدس وهو الطهر.
كما يقال (حاتم الجود وزيد الخير وخبر السوء ورجل صدق) والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخيّر والخبر السيء والرجل الصادق. وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به. والمقدس المطهر من الأدناس البشرية وإضافة (الرب) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية. وقوله بِالْحَقِّ أي متلبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره، وقوله تعالى: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أي على الحق ونبذ وساوس الشياطين. وفي قوله تعالى: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٠٣]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن، بشر. يعنون رجلا أعجميا كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة. ربما يتحدث معه النبيّ ﷺ أحيانا. وإنما لم يصرح باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر، كائنا من كان. ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير بيّن. وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين. ذو بيان وفصاحة. ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل، وما حواه من العلوم، فضلا أن ينطق به، فضلا أن يكون معلما له! وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تهديد لهم على كفرهم بالقرآن، بعد ما أماط شبهتهم وردّ طعنهم فيه. وقوله تعالى: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ردّ لقولهم إنما أنت مفتر. وقلب للأمر عليهم، ببيان أنهم هم المفترون لا هو. يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يخاف عقابا يردعه عنه، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ويدخل فيهم قريش دخولا أوليا. أي الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر. أو الكاملون فيه. لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل. ولا يخفى ما في الحصر، بعد القصر، من العناية بمقامه صلوات الله عليه. وقد كان أصدق الناس وأبرّهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا. معروفا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا ب (الأمين محمد). ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم «١» أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله تعالى.
(١) أخرجه البخاريّ في: بدء الوحي، ٦- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، والحديث طويل ينبغي الوقوف عليه.
تنبيه:
في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش.
والدليل عليه أن كلمة إِنَّما للحصر. والمعنى أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله، وإلا من كان كافرا. وهذا تهديد في النهاية.
وروي «١»
أن النبي ﷺ قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. ثم قرأ هذه الآية أفاده الرازي
. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٩]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ.
لما بيّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين، في المحاماة عن الدين، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى، من الوعد الشديد، بهذه الآيات. واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله. فإنه إذا وافق المشركين بلفظ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرا أي طاب به نفسا واعتقده، استحبابا للحياة الدنيا الفانية، أي إيثارا لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب الله عليهم أولا. وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانيا.
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: ٥٦- ما يكره من الكلام، حديث ١٩.
411
وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا. ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم، وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامسا بكونهم هم الغافلين، بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها! قال الرازي: ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال:
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.
تنبيهات:
الأول: (من) في قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ موصول مبتدأ خبره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وقوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثناء مقدم من حكم الغضب. وقوله وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً رجوع إلى صدر الآية وحكمها، بأسلوب مبيّن لمن كفر، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير. وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.
الثاني: استدل بالآية على أن المكره غير مكلف. وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان. واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه. إلّا ما استثنى. أفاده السيوطي في (الإكليل).
الثالث:
روي عن ابن عباس: أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذّبه المشركون حتى يكفر بالنبيّ ﷺ فوافقهم مكرها. ثم جاء معتذرا. قال ابن جرير: أخذ المشركون عمارا فعذّبوه. حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبيّ ﷺ فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد.
وقال ابن إسحاق: إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله ﷺ من
412
أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين. فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش. وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ. يفتنونهم عن دينهم. فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه. ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وكان بلال رضي الله عنه عبدا لبعض بني جمح. يخرجه أمية بن خلف، إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة. ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول (وهو في ذلك البلاء) : أحد. أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، رضي الله عنهم، إذا حميت الظهرة يعذبونهم برمضاء مكة. فيمرّ بهم رسول الله ﷺ فيقول: صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم. والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة. حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم، مما يبلغون من جهده.
وقد ذكر ابن هشام في (السيرة) في بحث (عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة) غرائب في هذا الباب، فانظره.
قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي، إبقاء لمهجته. ويجوز له أن يأبى. كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم، وهم يفعلون به الأفاعيل، وهو يقول: أحد، أحد. ويقول: والله! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة أنه أسرته الروم. فجاءوا به إلى ملكهم. فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد ﷺ طرفه عين، ما فعلت. فقال: إذا أقتلك.
413
فقال: أنت وذاك. فأمر به فصلب. وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر فأحميت. وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى. فأمر به أن يلقى فيها. فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة. تلقى في هذا القدر الساعة. فأحببت أن يكون لي، بعدد كل شعرة في جسدي، نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياما. ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال أما هو فقد حلّ لي. ولكن لم أكن لأشمّتك فيّ. فقال له الملك: فقبّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين قال، فقبّل رأسه. وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة. وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١١٠]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة. مهانين في قومهم، وافقوهم على الفتنة ظاهرا، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاقّ الجهاد. أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة، أي إجابتهم إليها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما فرط منهم.
ويرحمهم بالجزاء الحسن.
والجارّ في قوله: لِلَّذِينَ متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير، والخبر ل (إنّ) الأولى. والثانية مكررة للتأكيد. أو للثانية وخبر الأولى مقدر، وشمل قوله هاجَرُوا من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارا بدينه من الفتنة. ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك. كما شمل قوله: جاهَدُوا في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه. أو قاتلوا في سبيل الله ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين، قيل: الآية مدنية، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١١١]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها منصوب ب (رحيم) أو ب (اذكر) واليوم يوم القيامة. ومعنى تُجادِلُ أي تحاجّ وتسعى في خلاصها. لا يهمها إلا ذاتها وشأنها. ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي من خير وشر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في ذلك. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضا بالجوع والخوف. ومعنى قوله تعالى:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم. فأبطرتهم النعمة. فكفروا وتولوا. فأنزل الله بهم نقمته. فيدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا، أو لقوم معينين، وهم أهل مكة. والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معنية، إذ لا يلزم وجود المشبه به. أو معينة من قرى الأولين. وقد ضمن (ضرب) معنى (جعل) و (مثلا) مفعول ثان و (قرية) مفعول أول.
قال أبو السعود: وتأخير (قرية) مع كونها مفعولا أول، لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها. إذ التأخير عن الكل مخلّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها. ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده، وتشوقا إليه. لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه. فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل. فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن. والمراد بالقرية أهلها مجازا، أو بتقدير مضاف. ومعنى كونها آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً أنه لا يزعجها
415
خوف. و (الرغد) الواسع. و (الأنعم) جمع نعمة.
وفي قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم، باللباس الغاشي للابس. فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة، لمطلق الإيصال، المنبئة عن شدة الإصابة، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة، على نهج التجريد. فإنها لشيوع استعمالها في ذلك، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة.
قال ابن كثير: هذا مثل أريد به أهل مكة. فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف. كما قال تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص: ٥٧]، وهكذا قال هاهنا ويَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أي هنيئا سهلا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد ﷺ إليهم. كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
[إبراهيم: ٢٨- ٢٩]، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها من كل مكان. وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا خلافه. فدعا «١» عليهم بسبع كسبع يوسف. فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم. فأكلوا العلهز:
(هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر) وقوله وَالْخَوْفِ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله ﷺ وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، من سطوته وسراياه وجيوشه.
وجعل كل ما لهم في دمار وسفال. حتى فتحها الله عليهم. وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول ﷺ الذي بعثه الله فيهم منهم. وامتن به عليهم في قوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. [آل عمران: ١٦٤] الآية. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا [الطلاق: ١٠]، وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: ١٥١]، إلى قوله: وَلا تَكْفُرُونِ وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بدّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا، ورزقهم بعد العيلة.
وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. انتهى.
(١) أخرجه البخاريّ، تعليقا، في: الدعوات، ٥٨- باب الدعاء على المشركين، عن ابن مسعود.
416
ثم بين تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها، مفصلا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم. وهو مأذون بأكله، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١١٤]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الحرث والأنعام حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي تريدون عبادته فاستحلوها، فإن عبادته في تحليلها.
واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده.
ثم ذكر ما حرمه عليهم، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١١٥]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على اسم غيره تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ أي أجهد إلى ما حرم الله غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أي متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فلا يؤاخذه بذلك.
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية. فأغنى إعادته.
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم. في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
417
الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم، بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله. ف (الكذب) مفعول (تقولوا) وقوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من (الكذب) واللام صلة للقول. كما يقال: لا تقل للنبيذ إنه حلال، أي في شأنه وحقه. فهي للاختصاص. وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان، لا حكم مصمم عليه. أو هذا حَلالٌ مفعول (تقولوا) و (الكذب) مفعول (تصف) واللام في لِما تَصِفُ تعليلية و (ما) مصدرية. ومعنى تصف تذكر. وقوله: لِتَفْتَرُوا بدل من التعليل الأول. أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، أي لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة. وليس بتكرار مع قوله: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لأن هذا لإثبات الكذب مطلقا، وذلك لإثبات الكذب على الله.
فهو إشارة إلى أنهم، لتمرنهم على الكذب، اجترءوا على الكذب على الله، فنسبوا ما حللوه وحرموه إليه. وعلى هذا الوجه- كون الكذب مفعول (تصف) - ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، لجعله عين الكذب.
ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة، حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها، ف (تصف) بمعنى توضح. فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب. فالتعريف في الكذب للجنس. كأنّ ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته وعليه قول المعرّى:
سرى برق المعرّة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
ونحوه (نهاره صائم) إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص، لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه. و (وجهها يصف الجمال) لأن وجهها لما كان موصوفا بالجمال الفائق، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه، الذي يعرف منه. حتى كأنه يصفه ويعرّفه، كقوله:
أضحت يمينك من جود مصوّرة لا بل يمينك منها صوّر الجود
فهو من الإسناد المجازيّ. أو نقول: إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال.
فهو استعارة مكنية. كأنه يقول: ما بي هو الجمال بعينه. ومثله ورد في كلام العرب والعجم. هذا زبدة ما في (شروح الكشاف).
418
وما في الآية أبلغ من المثال المذكور، لما سمعت. أفاده في (العناية). واللام في لِتَفْتَرُوا لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية. إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا، بل لأغراض أخر يترتب عليها ما ذكر. وجوز كونها تعليلية، وقصدهم لذلك غير بعيد. وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الآية. وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد به لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب. وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان: ٢٤].
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعيّ أو حلل شيئا مما حرم الله. أو حرّم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهّيه.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل. فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
قال في (فتح البيان) : صدق رحمه الله. فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية. أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة.
وأخرج الطبرانيّ عن ابن مسعود قال: عسى رجل يقول: إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا. فيقول الله عزّ وجلّ: كذبت. أو يقول: إنّ الله حرم كذا أو أحلّ كذا:
فيقول الله له: كذبت.
قال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية. وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه. ويقال في المسائل الاجتهادية: إني أكره كذا وكذا، ونحو ذلك.
ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم إلخ، بيّن ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضا شيء مما حرمه المشركون، تحقيقا لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي في سورة الأنعام في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما [الأنعام: ١٤٦] الآية، وَما ظَلَمْناهُمْ أي فيما حرّمنا عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فاستحقوا ذلك. كقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [النساء: ١٦٠]، وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا، فتذكر. قالوا: في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم.
فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلّا ما فيه مضرة لها. وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه، عقوبة لهم بالمنع، كاليهود. ثم بين تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا أي العمل فيما بينهم وبين ربهم إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد، ورفض الوثنية، وتبرئة لمقامه، مما كانوا يفترون عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي إماما يقتدى به، كقوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤]، أو كان وحده أمة من الأمم، لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره قانِتاً لِلَّهِ أي خاشعا مطيعا له، قائما بما أمره حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ أي قائما بشكر نعم الله عليه، مستعملا لها على الوجه الذي ينبغي، كقوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧]، أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به اجْتَباهُ أي اختاره واصطفاه للنبوّة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، على شرع مرضي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
420
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي من الذكر الجميل. كما قال: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: ٥٠]، ومن الصلاة والسلام عليه، كما قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: ١٠٨- ١٠٩]، ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ أي في عالم الأرواح لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المتمكنين في مقام الاستقامة، بإيفاء كل ذي حق حقه، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة.
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين، شرفناه وكرمناه بأمرنا، باتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع. كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها. لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها. فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق.
قاله القاشانيّ.
وفي (الإكليل) استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان، وما كان من شرعه، ولم يرد به ناسخ.
لطيفة:
قال الزمخشري: في ثُمَّ هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم ﷺ من الكرامة، وأجلّ ما أولي من النعمة، اتباع رسول الله ﷺ ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
قال الناصر: وإنما تفيد ذلك ثُمَّ لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان. ثم استعملت في تراخيه عنه في علوّ المرتبة، بحيث يكون المعطوف على رتبته وأشمخ محلّا مما عطف عليه. فكأنه بعد أن عدّد مناقب الخليل عليه السلام، قال تعالى: وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا، وأرفع رتبة، وأبعد رفعة، وهو أن النبيّ ﷺ الأميّ، الذي هو سيد البشر، متبع لملة إبراهيم، مأمور باتباعه بالوحي، متلوّا أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعا.
لكن نصيب النبيّ ﷺ من هذا التعظيم أوفر وأكبر. على ما مهدناه. وقوله تعالى:
421
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني اليهود، فرض عليهم تقديسه وإراحة أنفسهم ودوابّهم فيه من الأعمال. فاعتدوا فيه واحتالوا لحلّه.
قال القاشاني: أي ما فرض عليك، إنما فرض عليهم. فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك، بل اتباع إبراهيم، وقوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بالمجازاة على اختلافهم، يعني إفسادهم وزيغهم عن طريق الحق.
ثم بين تعالى أدب الدعوة إلى دينه الحق، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ أي بالمقالة المحكمة الصحيحة. وهو الدليل الموضح للحق، المزيح للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي العبر اللطيفة والوقائع المخيفة، ليحذروا بأسه تعالى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق واللين وحسن الخطاب، من غير عنف. فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي عليك البلاغ والدعوة بالصفة المبينة فلا تذهب نفسك، على من ضلّ منهم، حسرات، فإنه ليس عليك هداهم. لأنه هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه. فيجازي كلّا منهما بما يستحقه. أو المعنى:
اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة. فإن الله تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعداده المكتسب. وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلّي. فما شرعه لك في الدعوة، هو الذي تقتضيه الحكمة. فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين. أفاده أبو السعود.
تنبيه:
دلّ قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ على الحث على الإنصاف في
المناظرة، واتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل، وأن لا غرض سواه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : آية ١٢٦]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أي الزموا سيرة العدالة، لا تجاوزوها. فإنها أقل درجات كمالكم. فإن كان لكم قدم في الفتوة، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة، فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم، وعارضوه بالعفو مع القدرة، واصبروا على الجناية، فإنه لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال:
(لهو خير لّكم) بل قال: لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر. فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب.
فلم يتكدر بظهور صفة النفس. وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه. فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس. وتنكسر سورة غضبه فيصلح. وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب، بأكثر مما جنى عليكم، فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها. فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني.
أفاده القاشانيّ.
تنبيهات:
الأول: في (الإكليل) : قال ابن العربيّ: في الآية جواز المماثلة في القصاص.
خلافا لمن قال: لا قود إلا بالسيف. ويستدل بها لمسألة الظفر. كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعيّ أنهما استدلا بها عليها. ولفظ النخعيّ: سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم؟ قال: إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه. ثم قرأ هذه الآية. ولفظ ابن سيرين: إن أخذ منكم رجل شيئا، فخذوا مثله.
قال ابن كثير: وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم، واختاره ابن جرير. فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق.
الثاني:
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة. وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد
423
أحد، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثّل به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن أظهرني الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين رجلا منهم. فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط. فأنزل الله الآية هذه، إلى آخر السورة.
قال الحافظ ابن كثير: هذا مرسل وفيه مبهم لم يسمّ.
ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ وقف على حمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه، حين استشهد. فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه. وقد مثّل به. فقال: رحمة الله عليك. إن كنت لما علمت، لوصولا للرحم فعولا للخيرات. والله لولا حزن من بعدك عليك، لسرّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع (أو كلمة نحوها). أما والله! على ذلك لأمثلنّ بسبعين كمثلتك.
فنزلت هذه الآية. فكفّر رسول الله ﷺ يعني عن يمينه، وأمسك عن ذلك.
قال ابن كثير: وهذا إسناد فيه ضعف. لأن صالحا (أحد رواته) هو ابن بشير المريّ، ضعيف عند الأئمة. وقال البخاريّ: هو منكر الحديث.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبي بن كعب، قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى أن رسول الله ﷺ قد أمّن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا- ناسا سمّاهم- فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصبر ولا نعاقب.
أقول: بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول- في مقدمة التفسير- يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة- ولا إلى ما روي من هذه الآثار.
إذ به يتضح عدم التنافي. والتقاء الآثار مع الآية فتذكره.
الثالث: قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن. فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]. ثم قال فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠] الآية. وقال وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: ٤٥] ثم قال فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: ٤٥] انتهى.
ثم أكّد تعالى الأمر بالصبر، ليقوي الثبات والاحتمال، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق، بقوله:
424
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بمعونته وتوفيقه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكافرين، أي على كفرهم وعدم هدايتهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي في ضيق صدر مما يمكرون من فنون المكايد إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. تعليل لما قبله. أي فإنه تعالى كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم.
لأنه تعالى مع المتقين والمحسنين بالمعونة والنصر والتأييد، فيحفظهم ويكلؤهم ويظهرهم على أعدائهم. قال ابن كثير: هذه معية خاصة كقوله تعالى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا
[الأنفال: ١٢]. وقوله لموسى وهارون لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦]. وأما المعية العامة فالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: ٤]. وقوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة: ٧].
قال أبو السعود: تكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه، من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى. وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث. كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة فيهم.
وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية. والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين، وهو ﷺ داخل في زمرتهم دخولا أوليّا.
وإما هو ﷺ ومن شايعه. عبّر عنهم بذلك، مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلتين.
وفيه رمز إلى أن صنيعه ﷺ مستتبع لاقتداء الأمة به، كقول من قال لابن عباس رضي عنهما، عند التعزية بأبيه العباس:
اصبر نكن بك صابرين فإنّما صبر الرّعية عند صبر الرّاس
وبعد هذا البيت:
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعبّاس
قال ابن عباس: ما عزّاني أحد من تعزيته.
وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوص. قال: إنما الوصية من المال، فلا مال لي. وأوصيكم بخواتيم سورة النحل...
425

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإسراء
وتسمى سورة بني إسرائيل وسورة سبحان، ولم يحك خلاف في كونها مكية.
نعم استثنى بعضهم منها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: ٨٥]، وآية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: ٧٣]، إلى قوله تعالى إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، وآية قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الآية [الإسراء: ٨٨]، وقوله وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا.. الآية [الإسراء: ٦٠]، وقوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء: ١٠٧]. لما ذكروه في أسباب نزولها. ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى، وآياتها مائة وإحدى عشرة.
426
Icon