تفسير سورة الحج

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿زَلْزَلَةَ﴾ الزلزلة: شدة الحركة وأصل الكلمة من زلَّ عن الموضع أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أي حركها، وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء ﴿تَذْهَلُ﴾ ذهل عن الشيء اشتغل عنه بشاغل من هم أو وجع أو غيره ﴿مُّضْغَةٍ﴾ المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يُمضغ {
256
مُّخَلَّقَةٍ} تامة الخِلْقة ﴿بَهِيجٍ﴾ حسن سار للناظر ﴿عِطْفِهِ﴾ العطف: الجانب ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه أي في جوانبه ويسمى الرداء العِطاف والمعطف لأنه يوضع على الجانبين ﴿العشير﴾ الصاحب والخليل.
التفسِير: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ﴾ خطاب لجميع البشر أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وجماع القول في التقوى هو: طاعةُ الله واجتناب محارمه ولهذا قال بعض العلماء: التقوى أن لا يراك حيث نه اك، وأن لا يفقدك حيث أمرك ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ تعليلٌ للأمر بالتقوى أي إن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر أمر عظيم وخطب جسيم لا يكاد يتصور لهوله ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدون فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ أي تغفل وتذهل - مع الدهشة وشدة الفزع - كل أنثى مرضعة عن رضيعها، إذ تنزع ثديها من فم طفلها وتنشغل - لهول ما ترى - عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾ أي تراهم كأنهم سكارى يترنحون ترنح السكران من هول ما يدركهم من الخوف والفزع ﴿وَمَا هُم بسكارى﴾ أي وما هم على الحقيقة بسكارى من الخمر ﴿ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ﴾ استدراك لما دهاهم أي ليسوا بسكارى ولكن أهوال الساعة وشدائدها أطارت عقولهم وسلبت أفكارهم فهم من خوف عذاب الله مشفقون ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي وبعضٌ من الناس من يخاصم وينازع في قدرة الله وصفاته بغير دليل ولا برهان ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يثول الملائكة بناتُ الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت قال أبو السعود: والآية عامة له ولأضرابه من العُتاة المتمردين ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾ أي يطيع ويقتدي بكل عاتٍ متمرجد كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ﴾ أي حكم الله وقضى أنه من تولى الشيطان واتخذه ولياً ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾ أي فأن الشيطان يفويه ويسوقه إلى عذاب جهنم المستعرة، وعبر بلفظ ﴿وَيَهْدِيهِ﴾ على سبيل التهكم، ولما ذرك تعالى المجادلين في قدرة الله، المنكرين للبعث والنشور ذكر دليلين واضحين على إمكان البعث أحدهما في الإِنسان، والثاني في النبات فقال ﴿ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ أي إن شككتم في قدرتنا على إحيائكم بعد موتكم فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم فقد خلقنا أصلكم «أدم» من التراب، ومن قدر على خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، والذي قدر على إخراج النبات من الأرض، بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي ثم جعلنا نسلة من المني الذي ينطف من صلب الرجل قال القرطبي: والنطف: القطر سمي نطفة لقلته ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه ﴿ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾ أي من قطعة من لحم مقدار ما يمضغ ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي مستبينة الخلق مصورة وغير مصوة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي
257
خلقناكم على هاذ النموذج البديع لنبين لكم أسرار قدرتنا وحكمتنا قال الزمخشري: أي لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على ان يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً، قادر على إعادة ما بدأه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ﴾ أي ونثبت من الحمل في أرحام الأمهات من أردنا أن نُقرَّه فيها حتى يتكامل خلقه ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي إلأى زمن معين هو وقت الوضع ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ أي ثم نخرج هاذ الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، ثم نعطيه القوة شيئاً فشيئاً ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾ أي كمال قوتكم وعقلكم ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾ أي ومنكم من يموت في ريعان شبابه ﴿وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾ أي ومنكم من يعمر حتى يصل إلأى الشيخوخة والهرم وضعف القوة والخرف ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه كما قال تعالى
﴿وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق﴾ [يس: ٦٨] ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾ هذه هي الحجة الثانية على إمكان البعث أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ﴾ أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ أي واخرجت من كل صنفٍ عجيب ما يسر الناظر ببهائه ورونقه ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ أي ذلك المذكور من خلق الإِنسان والنبات لتعلموا أن الله هو الخالق المدبر وأن ما في الكون من آار قدرته وشاهد بأن الله هو الحق ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى﴾ أي وبأنه القادر على إحياء الموتى كما أحيا الأرض الميتة بالنبات ﴿وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي وبأنه قادر على ما أراد ﴿وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا﴾ أي وليعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية ﴿وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور﴾ أي يحيي الأموات ويعيدهم بعدما صاروا رمماً، ويبعثهم أحياء إلى موقف الحساب ﴿ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلمٍ صحيح يهدي إلى المعرفة ولا كتابٍ نير بيّن الحجة بل بمجرد الرأي والهوى قال ابن عطية: كرر هذه على وجه التوبيخ فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل في الله بغير دليل ولا برهان ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ أي معرضاً عن الحق لاوياً عنقه كفراً قال ابن عباس: مستكبراً عن الحق إذا دُعي إليه قال الزمخشري: وثنيُ العطف عبارة عن الكِبر والخيلاء فهو كتصعير الخد ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي ليصُدَّ الناس عن دين الله وشرعه ﴿لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ أي له هوان وذل في الحياة الدنيا ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق﴾ أي ونذيقه في الآخرة النار المحرقة ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ أي ذلك الخزي والعذاب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ أي وأن الله عادل لا يظلم أحداً من خلقه ﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾ أي ومن الناس من يعبد الله على جانب وطرفٍ من الدين، وهذا تمثيلُ للمذبذبين الذين لا
258
يعبدون الله عن ثقة ويقين بل عن قلق واضطراب كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحسَّ بظفر أو غنيمة استقر وإلا فرَ قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عباس: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خليه قال: هذا دين سوء ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ﴾ أي فإن ناله خير في حياته من صحةٍ ورخاء أقام على دينه ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ﴾ أي وإن ناله شيء يفتتن به من مكروه وبلاء ارتد فرجع إلى ما كان عليه من الكفر ﴿خَسِرَ الدنيا والأخرة﴾ أي أضاع دنياه وآخرته فشقي الشقاوة الأبدية ﴿ذلك هُوَ الخسران المبين﴾ أي ذلك هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله ﴿يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾ أي يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر ﴿ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾ أي ذلك هو نهاية الضلال الذي لا ضلال بعده، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ أي يعبد وثناً أو صنماً ضره في الدنيا بالخزي والذل أسرع من نفعه الذي يتوقعه بعبادته وهو الشفاعة له يوم القيامة، وقيل: الآية على الفرض والتقدير: أي لو سلمنا نفعه أو ضره لكان ضره أكثر من نفعه، والآية سيقت تسفيهاً وتجهيلاً لمن يعتقد أنه ينتفع بعبادة غير الله حين يستشفع بها ﴿لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير﴾ أي بئس الناصر وبئس القريب والصاحب ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين المذبذبين ذكر حال المؤمنين في الآخرة والمعنى إن الله يدخل المؤمنين الصادقين جنات تجري من تحت قصورها وغرفها أنهار اللبن والخمر والعسل وهم في روضات الجنات يحبرون ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء لا معقب لحكمه، فللمؤنين الجنة بفضله، وللكافرين النار بعدله ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة﴾ أي من كان يظن أن لن ينصر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الدنيا والآخرة ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ أي فليمدد بحبل إلى السقف ثم ليقطع عنقه وليختنق به ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ أي فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟ قال ابن كثير: وهذا القول قول ابن عباس وهو أظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى: من كان يظنُّ أنَّ الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي ومثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلنا القرآن الكريم كله آيات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة ﴿وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ أي وأن الله هو الهادي لا هادي سواه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ أي صدقوا الله ورسوله وهم أبتاع محمد عليه السلام ﴿والذين هَادُواْ﴾ أي اليهود وهم المنتسبون إلى موسى عليه السلام ﴿والصابئين﴾ هم قوم يعبدون النجوم ﴿والنصارى﴾ هم
259
المنتسبون إلى ملة عيسى عليه السلام ﴿والمجوس﴾ هم عبدة النيران ﴿والذين أشركوا﴾ هم العرب عبدة الأوثان ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمسة الصالة فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي شاهد على أعمال خلقه عالم بكل ما يعملون ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ أي يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، الملائكة في أقطار السماوات، والإِنس والجن وسائر المخلوقات في العالم الأرضي ﴿والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب﴾ أي وهذه الأجرام العظمى مع سائر الجبال والأشجار والحيوانات تسجد لعظمته سجود انقياد وخضوع، قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فبيّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة.
والغرض من الآية: بيان عظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته بانقياد هذه العوالم العظمى له وجريها على وفق أمره وتدبيره ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ أي وكثير من الناس وجب له العذاب بكفره واستعصائه ﴿وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ أي من اهانه الله بالشقاء والكفر فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ أي يعذب ويرحم، ويعز ويذل، ويُغني ويُفقِر، ولا اعتراض لأحد عليه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التشبيه البليغ المؤكد ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾ أي كالسكارى من شدة الهول، حذفت أداة التشبيه والشبه.
٢ - الاستعارة ﴿شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾ استعار لفظ الشيطان لكل طاغية متمرد على أمر الله
٣ - الطباق بين ﴿يُضِلُّهُ.. وَيَهْدِيهِ﴾.
٤ - أسلوب التهكم ﴿وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾.
٥ - طباق السلب ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾.
٦ - الاستعارة اللطيفة ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ﴾ شبه الأرض بنائم لا حركة له ثم يتحرك وينتعش وتدب فيه الحياة بنزول المطر عليه ففيها استعارة تبعية.
٧ - الكناية ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ كناية عن التكبر والخيلاء.
٨ - المجاز المرسل ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ علاقته السببية لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر.
٩ - الاستعارة التمثيلية ﴿مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾ مثل للمنافقين وما هم فيه من قلق واضطراب في دينهم بمن يقف على شفا الهاوية يريد العبادة والصلاة، ويا له من تمثيل رائع!
١٠ - المقابلة البديعة بين ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ.. وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ﴾.
١١ - الطباق بين ﴿يَضُرُّهُ.. ويَنفَعُهُ﴾ وبين ﴿يُهِنِ.. فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾.
١٢ - السجع اللطيف بين كثير من الآيات.
فَائِدَة: المُرضع التي شأنها أن ترضع، ولامرضعة هي التي في حال الإِرضاع ملقمة ثديها
260
لطفلها ولهذا قال ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ ولم يقل: مرضع ليكون ذلك أعظم في الذهول إذ تنزع ثديها من فم الصبي - أحب الناس إليها - وذلك غاية في شدة الهول والفزع.
تنبيه: روى ابن أبي حاتم أنه قيل لعلي: «إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة فاستدعاه فقال له، يا عبد الله: خلقك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال بل كما شاء، قال فيمرضك إذا أو إذا شئت، قل: بل إذا شائ، قال: فيشفيك إذا شاء أو إِذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال والله لو قلت غير ذكل لضربت الذي بين عينيك بالسيف».
261
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر هنا ما دار بينهم من الخصومة في دينه وعبادته، ثم ذكر عظم حرمة البيت العتيق وبناء الخليل له، وعظم كفر هؤلاء المشركين الذي يصدون الناس عن سبيل الله والمسجد الحرام.
اللغَة: ﴿يُصْهَرُ﴾ الصهر: الإِذابة صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب ﴿مَّقَامِعُ﴾ المقامع: السياط جمع مقمعة سميت بذلك لأنها تقمع الفاجر ﴿العاكف﴾ المقيم الملازم ﴿والباد﴾ القادم من البادية ﴿بَوَّأْنَا﴾ أنزلنا وهيأنا وأرشدنا ﴿رِجَالاً﴾ جمع راجل وهو الماشي على قدميه ﴿ضَامِرٍ﴾ الضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر ﴿تَفَثَهُمْ﴾ التفث في اللغة: الوسخ والقذر قال الشاعر:
حفوا رءوسهم لم يحلقوا تفثاً ولم يسلُّلوا لهم قملاً وصئباناً
قال الثعلبي: أصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك ﴿المخبتين﴾ المخبت: المتواضع الخاشع لله.
التفسِير: ﴿هذان خَصْمَانِ﴾ أي هذان فريقان مختصمان فريق المؤمنين المتقين، وفريق الكفرة المجرمين ﴿اختصموا فِي رَبِّهِمْ﴾ أي اختلفوا وتنازعوا من أجل الله ودينه قال مجاهد: هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الله ﴿فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾ أي فصلت لهم ثيابٌ من نار على قدر أجسادهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار قال القرطبي: شبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب ومعنى ﴿قُطِّعَتْ﴾ خيطت وسويت، وذرك بلفظ الماضي لأن الموعود منه كالواقع المحقق ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم﴾ أي يصب على رءوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود﴾ أي يذاب به ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء مع الجلود قال ابن عباس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها وفي الحديث «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعا كما كان» قال الإِمام الفخر: والغرض أن الحميم إذا صب على رءوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله ﴿وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] ﴿وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ أي ولهم مطارق وسياط من الحديد يضربون بها ويدفعون وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا
262
مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} أي كلما أراد اهل النار الخروج من النار من شدة عمها ردوا إلى أماكنهم فيها قال الحسن: إن النار تضربهم بلهيها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ أي ويقال لهم: ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم فيه تكذبون، ولما ذكر تعالى ما أعد للكفار من العذاب والدمار، ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب والنعيم فقال ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي يدخل المؤمنين الصالحين في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار العظيمة المتنوعة ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ أي تلبسهم الملائكة في الجنة الأساور الذهبية كحلية وزينة يتزينون بها ﴿وَلُؤْلُؤاً﴾ أي ويحلون باللؤلؤ كذلك إكراماً من الله لهم ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ أي ولباسهم في الجنة الحرير، ولكنه أعلى وأرفع مما في الدنيا بكثير ﴿وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول﴾ أي أرشدوا إلى الكلام الطيب والقول النافع إذ ليس في الجنة لغوٌ ولا كذب ﴿وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد﴾ أي إلى صراط الله وهو الجنة دار المتقين، ثم عدد تعالى بعض جرائم المشركين فقال ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام﴾ أي جحدوا بما جاء به محمد عليه السلام ويمنعون المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام لأداء المناسك فيه قال القرطبي: وذلك حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المسجد الحرام عام الحديبية، وإنما قال ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار فكأن المعنى: إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله
﴿الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله﴾ [الرعد: ٢٨] ﴿الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد﴾ أي الذي جعلناه منسكاً ومتعبداً للناس جميعاً سواء فيه المقيم والحاضر، والذي يأتيه من خارج البلاد ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ أي ومن يرد فيه سوءاً أو ميلاً عن القصد أو يهم فيه بمعصية ﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي نذقه أشد أنواع العذاب الموجع قال ابن مسعود: لو أن رجلاً بِعدَنَ همَّ بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد: تُضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ أي واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه مكان البيت ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾ أي أمرناه ببناء البيت العتيق خالصاً لله قال ابن كثير: أي ابنه على اسمي وحدي ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود﴾ أي طهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يعبد الله فيه بالطواف والصلاة قال القرطبي: والقئمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود ﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج﴾ أي ونادِ في الناس داعياً لهم لحج بيت الله العتيق قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال يا رب: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإِبلاغ فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، يوجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ أي يأتوك مشاة على أقدامهم أو ركباناً
263
على جمل هزيل قد أعبه وأنهكه بعد المسافة ﴿يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾ أي تأتي الإِبل الضامرة من كل طريق بعيد قال القرطبي: ورد الضمير إلى الإِبل ﴿يَأْتِينَ﴾ تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال
﴿والعاديات ضَبْحاً﴾ [العاديات: ١] في خلي الجهاد تكرمةً لها حين سعت في سبيل الله ﴿لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ أي يلحضروا منافع لهم كثيرة دينية ودنيوية قال الفخر الرازي: وانما نكَّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات ﴿وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ أي ويذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله في أيام النحر شكراً لله على نعمائه وعلى ما رزقهم وملكهم من الأنعام وهي: الإِبل والبقر والغنم والمعز قال الرازي: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ أي كلوا من لحوم الأضاحي ﴿وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير﴾ أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإِعسار قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجهه وجه غني ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾ أي ثم بعد الذبح ليزيلوا وسخهم الذي أصابهم بالإِحرام وذلك بالحلق والتقصير وإزالة الشعث وقص الشارب والأظافر ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ أي ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر طاعةً لله ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق﴾ أي ليطوفوا حول البيت العتيق طواف الإِفاضة وهو طاوف الزيارة الذي به تمام التحلل، والعتيق: القديم سمي به لأنه أول بيت وضع للناس ﴿ذلك﴾ أي الأمر والشأن ذلك قال الزخمشري: كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا ﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله﴾ أي من يعظم ما شرعه الله من أحكام الدين ويجتنب المعاصي والمحارم ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ أي ذلك التعظيم خير له ثواباً في الآخرة ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي أحللنا لكم جميع الأنعام إلا ما استثني في الكتاب المجيد كالميتة والمنخنقة وما ذبح لغير الله وغير ذلك ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن عبادتها وتعظيمها ﴿واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾ أي واجتنبوا شهادة الزور ﴿حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ أي مائلين إلى الحق مسلمين لله غير مشركين به أحداً ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير﴾ تمثيل للمشرك في ضلاله وهلاكه أي ومن أشرك بالله فكأنما سقط من السماء فتخطفه الطير وتمزقه كل ممزق ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ أي أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة ﴿ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾ أي ذلك ما وضحه الله لكم من الأحكام والأمثال ومن يعظم أمور الدين ومنها أعمالُ الحج والأضاحي والهدايا ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ أي فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله قال القرطبي: أضاف التقوى إلى القلوب لأن التقوى في القلب وفي الحديث
«التقوى هاهنا» وأشار إلى صدره {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ
264
مُّسَمًّى} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة من الدر والنسل والركوب إلى وقت نحرها ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ أي ثم مكان ذبحها في الحرم بمكة أو منى، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم كقوله تعالى ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥] ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ أي شرعنا لكل أُمة من الأمم السابقة من عهد إبراهيم مكاناً للذبح تقرباً لله قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعتاً في جميع الملل ﴿لِّيَذْكُرُواْ اسم الله﴾ أي أمرناهم عند الذبح أو يذكروا اسم الله وأن يذبحوا لوجهه تعالى ﴿على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ أي شكراً لله على ما أنعم به عليهم من بهيمة الأنعام من الإِبل والبقر والغنم، بين تعالى انه يجب أن يكون الذبح لوجهه تعالى وعلى اسمه لأنه هو الخالق الرازق لا كما كان المشركون يذبحون للأوثان ﴿فإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ أي فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد لا شريك له ﴿فَلَهُ أَسْلِمُواْ﴾ أي فأخلصوا له العبدة واستسلموا لحكه وطاعته ﴿وَبَشِّرِ المخبتين﴾ أي بشر المطيعين المتواضعين الخاشعين بجنات النعيم، ثم وصف تعالى المخبتين بأربع صفات فقال ﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي إذا ذكر الله خافت وارتعشت لذكره قلوبهم لإِشراق أشعة جلاله عليها فكأنهم بين يديه واقفون، ولجلاله وعظمته مشاهدون ﴿والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ﴾ أي يصبرون في السراء والضراء على الأمراض ولمصائب والمحن وسائر المكاره ﴿والمقيمي الصلاة﴾ أي الذين يؤدونها في أوقاتها مستقيمةً كاملة مع الخشوع والخضوع ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي ومن بعض الذي رزقناهم من فضلنا تينفقون في وجوه الخيرات ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ أي والإِبل السمينة - سميت بدناً لبدانتها وضخامة أج سامها - جعلناها من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده قال ابن كثير: وكونها من شعائر الدين انها تُهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ قال ابن عباس: نفعٌ في الدنيا وأجرٌ في الآخرة ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ﴾ أي اذكروا عند ذبحها اسم الله الجليل عليها حال كونها صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهم ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ أي فإذا سقطت على الأرض بعد نحرها، وهو كنايةٌ عن الموت ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر﴾ أي كلوا من هذه الهدايا وأطعموا القانع أي المتعفف والمعتر أي السائل قاله ابن عباس، وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، ولمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال ﴿كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي مثل ذلك التسخير البديع جعلناها منقادة لكم مع ضخامة اجسامها لكي تشكروا الله على إنعامه ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا﴾ أي لن يصل إليه تعالى شيء من لحومها ولا دمائها ﴿ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ أي ولكن يصل إلأيه التقوى منكم بامتثالكم أوامره وطلبكم رضوانه ﴿كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ أي كرره للتأكيد أي كذلك ذللها لكم وجعلها منقادة لرغبتكم لتكبروا الله على ما أرشدكم إليه من أحكام دينه ﴿وَبَشِّرِ المحسنين﴾ أي بشر المحسنين في أعمالهم بالسعادة والفوز بدار النعيم.
265
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِيجاز ﴿اختصموا فِي رَبِّهِمْ﴾ أي في دين ربهم فهو على حذف مضاف.
٢ - الاستعارة ﴿قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾ استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه.
٣ - الطباق بين ﴿العاكف.. والباد﴾ لأن العاكف المقيم في المدينة والباد القدم من البادية.
٤ - التأكيد بإعادة الفصل ﴿١٦٤٩; جْتَنِبُواْ الرجس مِنَ الأوثان﴾ للعناية بشأن كل استقلالاً، ويسمى في علم البديع الإِطناب.
٥ - التشبيه التمثيلي ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير﴾ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
٦ - الجناس الناقص ﴿وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾.
٧ - الطباق بين ﴿القانع والمعتر﴾ لأنه القانع المتعفف والمعتر السائل.
٨ - السجع اللطيف مثل ﴿عَميِقٍ، سَحِيقٍ، العتيق﴾ ومثل ﴿المحسنين، المخبتين﴾.
تنبيه: لم يؤاخذ الله تعالى أحداً من خلقه على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأنه المكان المقدس الذي يجب أن يكون فيه الإِنسان نقي القلب، طاهر النفس، صافي السريرة، خالصاً بكليته لله، فمن ينتهك حرمة الملك في حماه جدير بالجحيم والعذاب الأليم.
266
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، بيَّن هنا أنه يدافع عن المؤمنين وذكر الحكمة من مشروعية القتال ومنها الدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.
اللغَة: ﴿صَوَامِعُ﴾ جمع صومعة وهي البناء المرتفع وهي مختصة بالرهبان ﴿بِيَعٌ﴾ جمع بيعة وهي كنيسة النصارى ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ كنائس اليهود وقال الزجاج: وهي بالعبرانية صَلُوتا ﴿نَكِيرِ﴾ مصدر بمعنى الإِنكار قال الجوهري: النكيرُ والإِنكارُ تغيير المنكر ﴿مُّعَطَّلَةٍ﴾ متروكة وتعطيل الشيء إبطال منافعه ﴿مَّشِيدٍ﴾ مرفوع البنيان.
التفسِير: ﴿إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾ أي ينصر المؤمنين ويدفع عنهم بأس المشركين، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكفِّ كيدهم عنهم ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ أي إنه تعالى يبغض كل خائنٍ للأمانة جاحدٍ نعمة الله ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ فيه محذوف تقديره: أُذن لهم في القتال بسبب أنهم ظُلموا قال ابن عباس: هذه أو لآيةٍ نزلت في الجهاد قال المفسرون: هم أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين مضروب ومسجوح ويتظلمون إلأيه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أزمر بقتالهم حتى هاجروا فأُنزلت هذه الآية وهي أول آيةٍ أُذن فيها بالقتال بعدما نهي عنه في أكثر من سبعين آية ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ أي هو تعالى قادر على نصر عباده من غير قتال ولكنه يريد منهم أن يبذلوا جهدهم في طاعته لينالوا أجر الشهداء ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي أُخرجوا من أوطانهم ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للإِخراج قال ابن عباس: يعني محمداً وأصحابه أُخرجوا
267
من مكة إلى المدينة بغير حق ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله﴾ أي ما كان لهم إساءة ولا ذنب إلا أنهم وحدوا الله ولم يشركوا به أحداً ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي لولا ما شرعه الله من الجهاد وقتال الأعداء لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر ولكنه تعالى دفع شرهم بأن أمر بقتالهم ﴿لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ﴾ أي لتهدمت معابد الرهبان وكنائس النصارى ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ أي كنائس اليهود ﴿وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ أي ومساجد المسلمين التي يعبد فيها الله بكرة وأصيلاً، ومعنى الآية أنه لولا كفُّه تعالى المشركين بالمسلمين، وإِذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم فهدموا موضع عباداتهم، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود كنائس، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون أهل الأديان، وإنما خص المساجد بهذا الوصف ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ تعظيماً لها وتشريفاً لأنها أماكن العبادة الحقة ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ﴾ قسمٌ أي والله سينصر الله من ينصر دينه ورسوله ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي إنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، عزيزٌ لا يُقهر ولا يغلب قال ابن كثير: وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ قال ابن عباس: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، والمعنى: هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض وتملكاً واستعلاء عبدوا الله وحافظوا على الصلاة وأداء الزكاة ﴿وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر﴾ أي دعوا إلى الخير ونهوا عن الشر ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور﴾ أي مرجع الأمور إلى حكمة تعالى وتقديره ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ﴾ تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيد للمشركين أي إن كذبك أهل مكة فاعلم إنك لست أول رسول يكذبه قومه فقد كان قبلك أنبياء كُذبوا فصبروا إلى أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر ﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ﴾ أي وكذب قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب ﴿وَكُذِّبَ موسى﴾ أي وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته، وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ ﴿فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ أي أمهلتهم ثم أخذتهم بالعقوبة ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ استفهام تقريري أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ألم يكن أليما ً؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالعمارة خراباً؟ فكذلك أفعل بالمكذبين من أهل مكة ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي كم من قرية أهلكنا أهلها بالعذاب الشامل ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي وهي مشركة كافرة ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾ أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف فهي مخربة مهدمة ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾ أي وكم من بئر عطلت فتركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ﴿وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ أي وكم من قصر مفرفوع البنيان أصبح خالياً بلا ساكن، أليس في ذلك عبرة للمعتبر؟ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ﴾ أي أفلم يسافر أهل مكة ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا بما حل بهم من النكال والدمار! ﴿وهلاّ عقلوا ما يجب أن يُعقل من الإِيمان والتوحيد﴾ ﴿أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أي أو تكون لهم آذانٌ يسمعون بها المواعظ والزواجر {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار
268
ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} أي ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة فمن كان أعمى القلب لا يعتبر ولا يتدبر، وذِكرُ الصدور للتأكيد ونفي توهم المجاز ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ﴾ أي ويستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب استهزاءً، وإن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه لأنه تعالى لا يخلف الميعاد ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ أي هو تعالى حليم لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه فلِم إذاً يستبعدونه ويستعجلون العذاب؟ ولهذا قال بعد ذلك ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي وكثير من أهل قرية أخرت إهلاكهم وأمهلتهم مع استمرارهم على الظلم فاغتروا بذلك التأخير ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير﴾ أي ثم أخذتهم بالعذاب ذكر الآية تنبيهاً على أن السابقين أُمهلوا ثم أُهلكوا وأن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإن لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم ﴿قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المستعجلين للعذاب إنما أنا منذر لكم أخوفكم عذاب الله وأنذركم إنذاراً بيناً من غير أن يكون لي دخلٌ في تعجيل العذاب أو تأخيره ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي فالمؤمنون الصادقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح لهم عند ربهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في جنان النعيم قال الرازي: بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم وقال القرطبي: إذا سمعت الله تعالى يقول ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ فاعلم أنه الجنة ﴿والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي كذبوا بآياتنا وسعوا في إبطالها مغالبين مشاقين يريدون إطفاء نور الله ﴿أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ أي فأولئك هم أصحاب النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، شبههم من حيث الدوام بالصاحب قال الرازي: فإن قيل: إنه عليه السلام بشر المؤمنين أولاً، وأنذر الكافرين ثانياً في هذه الآية فكان القياس أن يقال ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ والجواب أن الكلام مسوق إلى المشركين وهم الذين استعجلوا العذاب و ﴿ياأيها الناس﴾ نداءٌ لهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة لغيظهم وإيذائهم ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ﴾ أي وما أرسلنا قبلك يا محمداً رسولاً ولا نبياً ﴿إِلاَّ إِذَا تمنى﴾ أي إلا إذا أحبَّ شيئاً وهويته نفسه ﴿أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ أي ألقى الشيطان فيما يشتهيه ويتمناه بعض الوساوس التي توجب استغاله بالدنيا كما قال عليه السلام
«إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» قال الفراء: تمنى إذا حدَّث نفسه وفي البخاري: قال ابن عباس: «إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: كمينخ: قراءته ق لانحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأجله، ومعنى الآية: وما أرسلنا رسولاً ولا نبياً فحدث نفسه بشيء وتمنى لأمته الهداية والإِيمان إلا ألقى الشيطان الوساوس والعقبات في طريقه
269
بتزيين الكفر لقومه وإلقائه في نفوسهم مخالفةً لأمر الرسول وكأنَّ الآية تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقول له: لا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة المرسلين ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان﴾ أي يزيل ويبطل الله ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ﴾ أي يثبت في نفس الرسول آياته الدالة على الوحدانية والرسالة ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي مبالغٌ في العلم حكيم يضع الأشياء في مواضعها قال أبو السعود: وفي الآية دلالة على جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام، وتطرق الورسوسة إليهم ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان﴾ أي ليجعل تلك الشبه والوساوس التي يلقيها الشيطان ﴿فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي فتنة للمنافقين الذين في قلوبهم شك وارتياب ﴿والقاسية قُلُوبُهُمْ﴾ أي وفتنةً لكلافرين الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله، وهم خواص من الكفار عتاةٌ كأبي جهل، والنضر، وعتبه ﴿وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي وإن هؤلاء المذكورين من المنافقين والمشركين لفي عداوة شديدة لله ولرسوله، ووصف الشقاق بلفظ ﴿بَعِيدٍ﴾ لأنه في غاية الضلال والبعدِ عن الخير ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ أي وليعلم أهل العلم أن القرآن هو الحق النازل من عند الله تعالى ﴿فَيُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ أي يؤمنوا بهذا القرآن ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ أي تخشع وتسكن له قلوبهم بخلاف من في قلبه مرض ﴿وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي مرشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم ومنقذهم من الضلالة والغواية ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾ أي ولا يزال هؤلاء المشركون في شك وريب من هذا القرآن ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾ أي حتى تأتيهم الساعة فجأة دون أن يشعروا قال قتادة: ما أخذ الله قوماً قطُّ إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ أي أو يأتيهم عذاب يوم القيمة وسمي عقيماً لأنه لا يوم بعده قال أبو السعود: كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيماً، والمراد به الساعة أيضاً كأ نه قيل: أو يأتيهم عذابها، ووضع ذلك موضع الضمير لمزيد التهويل ﴿الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ﴾ أي الملك يوم القيامة لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أي يفصل بين عباده بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار
270
ولهذا قال ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ أي فالذين صدقوا الله ورسوله وفعلوا صالح الأعمال لهم النعيم المقيم في جنات الخلد ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله لهم العذاب المخزي مع الإِهانة والتحقير في دار الجحيم ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي تركوا الأوطان والديار ابتغاء مرضاة الله وجاهدوا لإِعلاء كلمة الله ﴿ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ﴾ أي قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً﴾ أي ليعطينهم نعيماً خالداً لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي هو تعالى خير من أعطى فإنه يرزق بغير حساب ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾ أي ليدخلنهم مكاناً يرضونه وهو الجنة التي فيها ملا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي عليم بدرجات العاملين حليم عن عقابهم ﴿ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ أي جازى الظالم بمثل ما ظلمه ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله﴾ أي ثم اعتدى الظالم عليه ثانياً لينصرن الله ذلك المظلوم ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أي مبالغ في العفو والغفران، وفيه تعريض بالحث على العفو والصفح، فإنه تعالى مع كمال قدرته على الانتقام يعفو ويغفر فغيره أولى بذلك ﴿ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن آيات قدرته إيلاج الليل في النهار أي أنه يدخل كلاً منهما في الآخر.
بأن ينقص من الليل فيزيد في النهار وبالعكس وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء ﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي سميع لأقوال عباده بصير بأحوالهم لا تخفى عليه خافية ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ أي ذلك بأن الله هو الإِله الحق ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل﴾ أي وأن الذي يدعوه المشركون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي لا يقدر على شيء ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير﴾ أي هو العالي على كل شيء ذو العظمة والكبرياء فلا أعلى منه ولا أكبر.
الَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - صيغة المبالغة ﴿خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ لأن فعال وفعول من صيغ المبالغة.
٢ - الحذف لدلالة السياق عليه ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ أي أُذن بالقتال للذين يقاتلون.
٣ - تأكيد المدح بما يشبه الذم ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله﴾ أي لا ذنب لهم إلا هذا.
٤ - المقابلة اللطيفة بين ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وبين ﴿والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾.
٥ - جناس الاشتقاق ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ﴾.
٦ - الطباق بين ﴿يَنسَخُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ﴾.
٧ - الاستعارة البديعة ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ وهذا من أحسن الاستعارات لأن العقيم المرأة التي لا تلد، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار لأن الزمان قد مضى، والتكليف قد انقضى، فجعلت الأيام بمنزلة الولدان لليالي، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيماً على طريق الاستعارة.
271
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى ما دلَّ على قدرته وحكمته، وجعلها كالمقدمة لإِثبات البعث والمعاد، وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى عبادة الله الواحد الأحد.
اللغَة: ﴿سُلْطَاناً﴾ حجة وبرهاناً ﴿يَسْطُونَ﴾ يبطشون، والسطوة: القهر وشدة البطش يقال: سطا يسطو إذا بطش به ﴿يَسْلُبْهُمُ﴾ سلب الشيء: اختطفه بسرعة ﴿قَدَرُواْ﴾ عظموا ﴿يَصْطَفِي﴾ يجتبي ويختار ﴿حَرَجٍ﴾ ضيق ﴿مِّلَّةَ﴾ الملة: الدين.
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ استفهام تقريري أي ألم تعلم ايها السامع أن الله بقدرته أنزل من السحاب المطر؟ ﴿فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾ أي فأصبحت الأرض منتعشة خضراء بعد يبسها ومحولها، وجاء بصيغة المضارع ﴿فَتُصْبِحُ﴾ لاستحضار الصورة وإفادة بقائها كذلك مدة من الزمن ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ قال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم
272
من القنوط، والغرض من الآية إقامة الدليل على كمال قدرته وعلى البعث والنشور فمن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ولها قال ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي جميع ما في الكون ملكه جل وعلا، خلقاً وملكاً وتصرفاً، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد﴾ أي هو تعالى غني عن الأشياء كلها لا يحتاج لأحد، وهو المحمود في كل حال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾ تذكير بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن الله سخر لعباده جميع ما يحتاجون إليه من الحيوانات والأشجار والأنهار والمعادن ﴿والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ﴾ أي وسخر السفن العظيمة المثقلة بالأحمال والرجال تسير في البحر لمصالحكم بقدرته ومشيئته ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض﴾ أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع على الأرض فيهلك من فيها ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي إلا إذا شاء وذلك عند قيام الساعة ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي وذلك من لطفه بكم ورحمته لكم حيث هيأ لكم أسباب المعاش فاشكروا آلاءه ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ﴾ أي أحياكم بعد أن كنتم عدماً ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ أي يميتكم عند انتهاء آجالكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ أي بعد موتكم للحساب والثواب والعقاب ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي مبالغ في الجحود لنعم الله قال ابن عباس: المراد بالإِنسان الكافر والغرض من الآيات توبيخ المشركين كأنه يقول: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف! ﴿ {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ أي لكل نبي من الأنبياء وأمةٍ من الأمم السابقين وضعنا لهم شريعة ومتعباداً ومهاجاً كقوله ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ أي هم عاملون به أي بذلك الشرع ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر﴾ أي لا ينازعك أحدٌ من المشركين فيما شرعتُ لك ولأمتك فقد كانت الشرائع في كل عصر وزمان، وهو نهيٌ يراد به النفي أي لا ينبغي منازعةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه ﴿وادع إلى رَبِّكَ﴾ أي أدعُ الناس إلى عبادة ربك وإلى شريعته السمحة المطهرة ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي فإِنك على طريق واضحٍ مستقيم، موصل إلى جنات النعيم ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي وإِن خاصموك بعد ظ هور الحق وقيام الحجة عليهم فقل لهم: الله أعلم بأعمالكم القبيحة وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإِنذار ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي الله يفصل في الآخرة بين المؤمنين والكافرين فيما كانوا فيه يختلفون من أمر الدين، فيعرفون حينئذٍ الحق من الباطل ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض﴾ الاستفهام تقريري أي لقد علمت يا محمد أنَّ الله أحاط علمه بما في السماء والأرض فلا تخفى عليه أعمالهم ﴿إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ﴾ أي إن ذلك كله مسطر في اللوح المحفوظ ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي إن حصر المخلوقات تحت علمه وإِحاطته سهلٌ عليه يسيرٌ لديه ثم بيَّن سبحانه ما يقدم عليه الكفار مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله فقال ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي ويعبد كفار قريش غير الله تعالى أصناماً لا تنفع ولا تسمع ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ أي ولا برهان من جهة الوحي والشرع ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي وما
273
ليس عندهم به علم من جهة العقل وإنما هو مجرد التقليد الأعمى للأباء ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أي ليس لهم ناصر يدفع عنهم عذاب الله ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي وإذا تليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن الواضحة الساطعة وما فيها من الحجج القاطعة على وحدانية الله ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾ أي ترى في وجوه الكفار الإِنكار بالعبوس والكراهة ﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا﴾ أي يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار﴾ أي قل لهم: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع من تخويفكم للمؤمنين وبطشكم بهم؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها ﴿وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ أي وعدها الله للكافرين المكذبين بآياته ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس الموضع الذي يصيرون إليه ﴿ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ﴾ أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلاً لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر واعقلوا ما يقال لكم ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ﴾ أي إنَّ هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها وإن اجتمعت على ذلك، فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله} قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلة معبودين، وأرباباً مطاعين؟ وهذا من أقوى الحجة وأوضح البرهان ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ أي لو اختطف الذباب وسلب شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته ﴿ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف ﴿مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الأصنام - على حقارتها - شركاء للقوي العزيز ولهذا قال ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي هو تعالى قادر لا يعجزه شيء، غالب لا يغلب، فكيف يسوون بين القوي العزيز والعاجز الحقير؟! ﴿الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس﴾ أي الله يختار رسلاً من الملائكة ليكونوا وسطاء لتبليغ الوحي إلى أنبيائه، ويختار رسلاً من البشر لتبليغ شرائع الدين لعباده، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي يعلم ما قدموا وما أخَّروا من الأفعال والأقوال والأعمال ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي إلأيه وحده جل وعلا ترد أمور العباد فيجازيهم عليها ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا﴾ أي صلوا لربكم خاشعين، وإِنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركان الصلاة ﴿وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ﴾ أي أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا غيره ﴿وافعلوا الخير﴾ أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كثلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ
274
جِهَادِهِ} أي جاهدوا بأموالكم وأنفسكم لإِعلاء كلمة الله حقَّ الجهاد باستفراغ الوسع والطاقة ﴿هُوَ اجتباكم﴾ أي هو اختاركم من بين الأمم لنصرة دينه، وخصكم بأكمل شرع وأكرم رسول ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ أي وما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم مالا تطيقون بل هي الحنيفية السمحة ولهذا قال ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي دينكم الذي لا حرج فيه هو دين ابراهيم فالزموه لأنه الدين القيم كقوله
﴿دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [الأنعام: ١٦١] ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا﴾ أي الله سماكم المسلمين في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، ورضي لكم الإِسلام ديناً قال الإِمام الفخر: المعنى انه سبحانه في سائر المتقدمة على القرآن، بيَّن فضلكم على الأمم وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه ﴿لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ أي ليشهد عليكم الرسول بتبليغه الرسالة لكم وتشهدوا أنتم على الخلائق أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي وإذْ قد اختاركم الله لهذه المرتبة الجليلة فاشكروا الله على نعمته بأداء الصلاة ودفع الزكاة ﴿واعتصموا بالله﴾ أي استمسكوا بحبله المتين وثقوا واستعينوا بالله في جميع أموركم ﴿هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ أي نعم هو تعالى الناصر والمعين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الامتنان بتعداد النعم ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي..﴾ الخ وكذلك الاستفهام الذي يفيد التقرير.
٢ - الطباق ﴿يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾.
٣ - صيغة المبالغة ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي مبالغ في الجحود.
٤ - النهي الذي يراد منه الشيء ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ﴾ أي لا ينبغي لهم منازعتك فقد ظهر الحق وبان.
٥ - الاستعارة اللطيفة ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾ أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح مثل قولهم: عرفت في وجه فلان الشر.
٦ - التمثيل الرائع ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً﴾ أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة قال الزمخشري: سميت القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال.
٧ - المجاز المرسل ﴿اركعوا واسجدوا﴾ من إطلاق الجزء على الكل أي صلوا لأن الركوع والسجود من اركان الصلاة.
٨ - ذكر العام بعد الخاص لإِفادة العموم مع العناية بشأن الخاص ﴿اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير﴾ بدأ بخاص، ثم بعام، ثم بأعم.
275
Icon