ﰡ
- ١ - قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
- ٢ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
- ٣ - وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
- ٤ - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ
- ٥ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
- ٦ - إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
- ٧ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
- ٨ - وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
- ٩ - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
- ١٠ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ
- ١١ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كدوي النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وارض علينا وأرضِنا، ثم قال: لقد أنزل عليَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ" ثُمَّ قَرَأَ ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ حَتَّى خَتَمَ العشر (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي). وقال النسائي في تفسيره عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، قَالَ، قُلْنَا لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حَتَّى انتَهَتْ إِلَى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خلق اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ لَبِنَةً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَحَشِيشُهَا الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انطِقِي، قَالَتْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾، فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ"؛ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (أخرجه ابن أبي الدنيا ورواه الحافظ البزار والطبراني بنحوه)، وقوله تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَحَصَلُوا عَلَى الْفَلَاحِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ قال ابن عباس: ﴿خَاشِعُونَ﴾
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ﴾ أَيْ عَنِ الْبَاطِلِ وَهُوَ يَشْمَلُ الشِّرْكَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْمَعَاصِي كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كراما﴾، قَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ وَاللَّهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ما وقفهم عَنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ من الهجرة، والظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حصاده﴾؛ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا، وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ جملة زكاة النفوس، المؤمن الكامل هو الذي يفعل هَذَا وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ أَيْ وَالَّذِينَ قَدْ حَفِظُوا فُرُوجَهُمْ مِنَ الْحَرَامِ فَلَا يَقَعُونَ فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط، لا يَقْرَبُونَ سِوَى أَزْوَاجَهُمُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ، وَمَنْ تَعَاطَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ﴾ أَيْ غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ ﴿فأولئك هُمُ العادون﴾ أي المعتدون. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ قَالَ: فَهَذَا الصَّنِيعُ خَارِجٌ عَنْ هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ أَيْ إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤتمن خَانَ"، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أَيْ يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا كَمَا قَالَ ابن مسعود: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)، وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا»، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ
- ١٣ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
- ١٤ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
- ١٥ - ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ
- ١٦ - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِن سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ صَلْصَالٍ من حمإ مسنون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ قَالَ: من صَفْوَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ سُلَالَةٍ أَيْ من مني بني آدم، وقال ابن جرير: إنما سمي طِينًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنَ الطِّينِ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خلق مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ، وهو الصلصال الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ). ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ هَذَا الضَّمِيرُ عائد
مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون﴾ أي مدة معلومة وأجل معين، حتى استحكم ونقل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولهذا قال ههنا ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أَيْ ثُمَّ صَيَّرْنَا النُّطْفَةَ وَهِيَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة، فَصَارَتْ عَلَقَةً حَمْرَاءَ عَلَى شَكْلِ الْعَلَقَةِ مُسْتَطِيلَةً، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَهِيَ دَمٌ ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ وَهِيَ قِطْعَةٌ كَالْبَضْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً﴾ يَعْنِي شَكَّلْنَاهَا ذَاتَ رَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ بِعِظَامِهَا وَعَصَبِهَا وعروقها. وفي الصحيح: «كُلُّ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْب (ما استدق في مؤخره) الذَّنَب، منه خلق وفيه يركب». ﴿فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً﴾ أي جعلنا عَلَى ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ أَيْ ثُمَّ نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ فَتَحَرَّكَ وَصَارَ خَلْقًا آخَرَ ذَا سَمْعٍ وبصر وإدراك وحركة واصظراب ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾. عن ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليهاً ملكاً فنفخ فيها الروح فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ يَعْنِي نفخنا فيه الروح، وقال ابن عباس: يعني فنفخنا فيه الروح (وكذا روي عن أبي سعيد الخدري، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والضحاك، والحسن البصري)؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾: يَعْنِي نَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ خَرَجَ طِفْلًا، ثُمَّ نَشَأَ صَغِيرًا، ثُمَّ احْتَلَمَ، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هرماً، وفي الصحيح: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَهَلْ هُوَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ له بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ورواه الإمام أحمد).
وقال عبد الله بن مَسْعُودٍ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة (رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)، وفي الصحيح: «يدخل الملك على النطفة بعدما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ يَا رب ماذا؟ شقي أَمْ سَعِيدٌ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَمُصِيبَتُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا ولا ينقص» (الحديث رواه مسلم والإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعاً). وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خلقها قَالَ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٍ أَوْ أَنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ قَالَ: فَذَلِكَ يكتب في
بطن أمه" (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الحافظ البزار واللفظ له). وقوله: {فَتَبَارَكَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَ الْإِنْسَانِ عَطَفَ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ من خلق الناس﴾، وقوله: ﴿سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وهذه كقوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ له السموات السبع والأرض وَمَن فيهن﴾، ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طباقا﴾، ﴿الله الذي خَلَقَ سبع سموات وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شيء علما﴾، وهكذا قال ههنا ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ﴾ أي أنه سبحانه لا يحجب عنه سماء ولا أرض، وَلَا جَبَلٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي وَعْرِهِ، وَلَا بَحْرٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي قَعْرِهِ، يَعْلَمُ عَدَدَ مَا فِي الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالرِّمَالِ وَالْبِحَارِ وَالْقِفَارِ وَالْأَشْجَارِ، ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين﴾.
- ١٩ - فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- ٢٠ - وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ
- ٢١ - وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- ٢٢ - وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى فِي إِنْزَالِهِ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ بِقَدَرٍ، أَيْ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ الْأَرْضَ وَالْعُمْرَانَ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يَكْفِي الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، بَلْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ السَّقْيِ وَالشُّرْبِ وَالِانتِفَاعِ بِهِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرَاضِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ مَاءً كَثِيرًا لِزَرْعِهَا وَلَا تَحْتَمِلُ دِمْنَتُهَا إِنْزَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهَا يَسُوقُ إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى، كَمَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْأَرْضُ الْجُرُزُ يَسُوقُ اللَّهُ إِلَيْهَا مَاءَ النِّيلِ مَعَهُ طِينٌ أَحْمَرُ يَجْتَرِفُهُ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ فِي زَمَانِ أَمْطَارِهَا، فَيَأْتِي الْمَاءُ يَحْمِلُ طِينًا أَحْمَرَ، فَيَسْقِي أَرْضَ مِصْرَ، وَيَقَرُّ الطِّينُ عَلَى أَرْضِهِمْ لِيَزْرَعُوا فِيهِ، لِأَنَّ أَرْضَهُمْ سِبَاخٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الرِّمَالُ، فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الرَّحِيمِ الْغَفُورِ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ جَعَلَنَا الْمَاءَ إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ يَخْلُدُ فِي الْأَرْضِ، وجعلنا في الأرض قابلية إليه، تَشْرَبُهُ وَيَتَغَذَّى بِهِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري وَالْقِفَارِ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ شِئْنَا لَجَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشُرْبٍ وَلَا لِسَقْيٍ لَفَعَلْنَا،
وقوله تعالى: ﴿فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ أَيْ ذَاتَ مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أَيْ فِيهَا نَخِيلٌ وَأَعْنَابٌ، وَهَذَا مَا كَانَ يَأْلَفُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ إِقْلِيمٍ عِنْدَهُمْ مِنَ الثِّمَارِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا يَعْجِزُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ أَيْ مِنْ جَمِيعِ الثِّمَارِ، كَمَا قَالَ: ﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ ومن كل الثمرات﴾، وقوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: تَنْظُرُونَ إِلَى حُسْنِهِ وَنُضْجِهِ وَمِنْهُ تَأْكُلُونَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ﴾ يَعْنِي الزَّيْتُونَةَ، وَالطُّورُ هُوَ الْجَبَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كان فيه شجر، فإذا عَرِيَ عَنْهَا سُمِّيَ جَبَلًا لَا طُورًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ﴿وَطُورُ سَيْنَآءَ﴾ هُوَ طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَآ حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ، وَقَوْلُهُ: ﴿تَنبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ أي تَنْبُتُ الدُّهْنَ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلْقَى فلان بيده أي يده، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَصِبْغٍ﴾ أَيْ أُدْمٍ قَالَهُ قَتَادَةُ ﴿لِّلآكِلِيِنَ﴾ أَيْ فِيهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الدهن والاصطباغ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مباركة» (أخرجه الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدي مرفوعاً). وروى عبد بن حميد في مسنده عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ، فإنه يخرج من شجرة مباركة». وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ ألْبَانِهَا الْخَارِجَةِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَيَأْكُلُونَ مِنْ حُمْلَانِهَا، وَيَلْبَسُونَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ، وَيَرْكَبُونَ ظُهُورَهَا، وُيُحَمِّلُونَهَا الْأَحْمَالَ الثِّقَالَ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رحيم﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يشكرون﴾.
- ٢٤ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ
- ٢٥ - إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ، لِيُنْذِرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَبَأْسَهُ الشَّدِيدَ، وَانتِقَامَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب رُسُلَهُ ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أَيْ أَلَا تَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي إِشْرَاكِكُمْ بِهِ؟ فَقَالَ الْمَلَأُ - وَهُمُ السَّادَةُ وَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ - ﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾
- ٢٧ - فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- ٢٨ - فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- ٢٩ - وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
- ٣٠ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
يخبر تعالى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ليستنصره عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر﴾، وقال ههنا: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصَنْعَةِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِن يَحْمِلَ فِيهَا أهله ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عليه القول مِنْهُمْ﴾ أي مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول بِالْهَلَاكِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ أَيْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ الْعَظِيمِ لَا تَأْخُذَنَّكَ رَأْفَةٌ بِقَوْمِكَ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وَطَمَعٌ فِي تَأْخِيرِهِمْ لعلَّهم يُؤْمِنُونَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنَّهُمْ مُغْرَقُونَ على ما هم فيه مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ هُودٍ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ ذلك ههنا، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لتسووا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى ربنا لمنقلبون﴾، وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مجريها ومرساها﴾، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهِ وَعِنْدَ انتهائه. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ - وَهُوَ إِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكُ الْكَافِرِينَ - لِآيَاتٍ أَيْ لَحُجَجًا وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ عَلَى صِدْقِ الأنبياء بما جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ تَعَالَى فاعل لما يشاء قادر عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ أَيْ لَمُخْتَبِرِينَ لِلْعِبَادِ بِإِرْسَالِ المرسلين.
- ٣٢ - فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
- ٣٣ - وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
- ٣٤ - وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
- ٣٦ - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
- ٣٧ - إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
- ٣٨ - إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
- ٣٩ - قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
- ٤٠ - قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ
- ٤١ - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْشَأَ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ قَرْنًا آخَرِينَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ عَادٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُمْ، وقيل: المراد بهؤلاء ثمود، لقوله: ﴿فأخذتهم الصحية بِالْحَقِّ﴾، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشراً مثلهم، وكذبوا بلقاء الله، وَقَالُوا: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ أي بعد ذَلِكَ، ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أَيْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الرسالة وَالْإِخْبَارِ بِالْمَعَادِ، وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أَيِ اسْتَفْتَحَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَجَابَ دُعَاءَهُ، ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ أَيْ بِمُخَالَفَتِكَ وَعِنَادِكَ فيما جئتهم به، ﴿فأخذتهم الصحيه بِالْحَقِّ﴾ أَيْ وَكَانُوا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ بكفرهم وطيغانهم، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ مَعَ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاصِفِ الْقَوِيِّ الْبَارِدَةِ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمر بها، ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إلاّ مساكنهم﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً﴾ أَيْ صَرْعَى هَلْكَى كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ التَّافِهُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، ﴿فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلْيَحْذَرِ السَّامِعُونَ أَنْ يُكَذِّبُوا رَسُولَهُمْ.
- ٤٣ - مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
- ٤٤ - ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا كلما جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ﴾ أَيْ أَمَّمَا وَخَلَائِقَ ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ يعني بل يؤخذون على حَسْبَ مَا قَدَّرَ لَهُمْ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ وَعَلِمَهُ، قَبْلَ كَوْنِهِمْ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وجيلاً بعد جيل، ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾؟؟؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني يتبع بعضهم بعضاً، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾، وقوله: ﴿كلما جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ يَعْنِي جُمْهُورَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يِا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يأيتهم من رسول إلا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مَنْ بَعْدِ نُوحٍ﴾، وقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أَيْ أَخْبَارًا وَأَحَادِيثَ لِلنَّاسِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ ممزق﴾.
- ٤٦ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ -[٥٦٦]-
- ٤٧ - فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
- ٤٨ - فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ
- ٤٩ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخَاهُ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الدَّامِغَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمَا وَالِانقِيَادِ لِأَمْرِهِمَا، لِكَوْنِهِمَا بَشَرَيْنِ كَمَا أَنْكَرَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فأهللك اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَأَغْرَقَهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَجْمَعِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى الْكِتَابَ - وَهُوَ التَّوْرَاةُ - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد أن قَصَمَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطَ، وَأَخْذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَبَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لعلهم يتذكرون﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً لِلنَّاسِ، أَيْ حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، فَإِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ النَّاسِ مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: ﴿وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى ربوة ذات قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وهو أحسن ما يكون فيه النيات، ﴿ذَاتِ قَرَارٍ﴾ يَقُولُ ذَاتُ خِصْبٍ ﴿وَمَعِينٍ﴾ يَعْنِي ماء ظاهراً (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقتادة)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَبْوَةٌ مُسْتَوِيَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾
اسْتَوَى الْمَاءُ فِيهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: ﴿وَمَعِينٍ﴾ الْمَاءُ الْجَارِي، ثُمَّ اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة؟ فقال سعيد بن المسيب: هي دمشق، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ قَالَ: أَنْهَارُ دمشق، وقال مجاهد ﴿وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ﴾ قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ حِينَ أَوَيَا إِلَى غَوْطَةِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرزاق عن أبي هريرة قال: هي الرملة من فلسطين، وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعِينُ الْمَاءُ الْجَارِي وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سريا﴾، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ: إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ، هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا أَوْلَى مَا يُفَسَّرُ بِهِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثم الآثار.
- ٥٢ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
- ٥٣ - فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
- ٥٤ - فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ
- ٥٥ - أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ
- ٥٦ - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْقِيَامِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ،
وقوله تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾
يَعْنِي أَيُظَنُّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ أَنَّ مَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا وَمَعَزَّتِهِمْ عِنْدَنَا، كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي قَوْلِهِمْ ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ لقد أخطأوا فِي ذَلِكَ وَخَابَ رَجَاؤُهُمْ، بَلْ إِنَّمَا نَفْعَلُ بهم ذلك استدرجاً وَإِنْظَارًا وَإِمْلَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا لزلفى إلا من آمن وعمل صالحا﴾ الآية، والآيات في هذا كثيرة. قال قتادة: مُكِرَ وَاللَّهِ بِالْقَوْمِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَا ابْنَ آدَمَ فَلَا تَعْتَبِرِ النَّاسَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» قالوا: وما بوائقه يا رسول اللَّهِ؟ قَالَ: «غِشُّهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مالاً حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحو الخبيث» (أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود مرفوعاً).
- ٥٨ - وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
- ٥٩ - وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ
- ٦٠ - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
- ٦١ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾ أَيْ هُمْ مَعَ إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا، ﴿وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكتبه﴾ أي أيقنت أن ما كان إنما هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنْ كَانَ أَمْرًا فَمِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قال الله: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ لَا يعبدون معه غيره بل يوحدنه ويعلمون أنه لا إله إلا الله،
وأنه لا نظير له ولا كفء. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ أَيْ يُعْطُونَ الْعَطَاءَ وهم خائفون وجلون إِنَّ لا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعَطَاءِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: "لا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ (ورواه الترمذي وابن أبي حاتم بنحوه وقال: لا يا ابنة الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يخافون ألا يتقبل منهم). ﴿أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ "، وَقَدْ قَرَأَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾: أَيْ يَفْعَلُونَ مَا يفعلون وهو خَائِفُونَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأها كذلك، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ فَجَعَلَهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى لأوشك أن لا يَكُونُوا مِنَ السَّابِقِينَ بَلْ مِنَ الْمُقْتَصِدِينَ أَوِ المقصرين، والله أعلم.
- ٦٣ - بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
- ٦٤ - حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هم يجأرون
- ٦٥ - لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنْصَرُونَ
- ٦٦ - قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
- ٦٧ - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي شَرْعِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا، أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا: أَيْ إِلَّا مَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ، الَّتِي كَتَبَهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شيء، ولهذا
مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ﴾ أَيْ سَيِّئَةٌ مِن دُونِ ذَلِكَ يَعْنِي الشِّرْكَ
﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾، قال: لا بد أن يعملوها، وَقَالَ آخَرُونَ ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾: أي قد كتبت عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لَا مَحَالَةَ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العذاب (وروي نحو هذا عن مقاتل والسدي وابن أَسْلَمَ)؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا»، وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ يعني حتى إِذَا جَآءَ مترفيهم - وهم الْمُنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا - عذابُ اللَّهِ وبأسُه ونقمتُه بهم ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ أي يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى: ﴿ذرني والمكذبين أُوْلِي النعمة ومهلهم قليلاً﴾، وقال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قلبهم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مناص﴾، وقوله: ﴿لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾ أَيْ لَا يجيركم أحد مِمَّا حَلَّ بِكُمْ سَوَاءٌ جَأَرْتُمْ أَوْ سَكَتُّمْ لَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا وَزَرَ، لَزِمَ الْأَمْرُ وَوَجَبَ الْعَذَابُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَكْبَرَ ذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾: أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ أَبَيْتُمْ وَإِنْ طُلِبْتُمُ امْتَنَعْتُمْ، ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الكبير﴾، وقوله: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾ الضمير للقرآن كَانُوا يَسْمُرُونَ وَيَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَجْرِ مِنَ الْكَلَامِ: إِنَّهُ سِحْرٌ، إِنَّهُ شِعْرٌ، إِنَّهُ كَهَانَةٌ إِلَى غير ذلك من الأقوال الباطلة. وقيل: أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَذْكُرُونَهُ فِي سَمَرِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَيَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ، مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ، أَوْ كَاهِنٌ، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلُهُ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أَيْ بِالْبَيْتِ يفتخرون به وتعتقدون أنهم أولياءه وليسوا به، كما قال ابن عباس: إنما كره السمر حين نزلت الْآيَةُ ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾ فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بالبيت، يقولون: نحن أهله ﴿سَامِراً﴾ قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه (أخرجه النسائي في التفسير عن ابن عباس).
- ٦٩ - أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
- ٧٠ - أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
- ٧١ - وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ
- ٧٢ - أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- ٧٣ - وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
- ٧٤ - وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
- ٧٥ - وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَامِلُ فِي جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ أي الْقُرْآنَ ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَجْرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: جُعْلاً ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أَيْ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أُجْرَةً وَلَا جَعْلًا وَلَا شَيْئًا عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، بَلْ أَنْتَ فِي ذَلِكَ تَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾، وَقَالَ: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾، وقال: ﴿اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَل هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مثل هذا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حبرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا
- ٧٧ - حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
- ٧٨ - وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
- ٧٩ - وَهُوَ الذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
- ٨٠ - وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- ٨١ - بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ
- ٨٢ - قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
- ٨٣ - لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ أَيِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، ﴿فَمَا اسْتَكَانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ فَمَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ بَلِ استمروا على غيهم وضلالهم، ما اسْتَكَانُوا أَيْ مَا خَشَعُوا ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ مَا دَعَوْا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ يَعْنِي الْوَبَرَ وَالدَّمَ - فَأَنْزَلَ الله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي، وأصله في الصحيحين)، وأصله فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ». وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ ﴿بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ يَعْنِي يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ إِلَى الْبِلَى، ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ يعنون الْإِعَادَةَ مُحَالٌ إِنَّمَا يُخْبِرُ بِهَا مَنْ تَلَقَّاهَا عن كتب الأولين واختلافهم، وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إِخْبَارًا عَنْهُمْ ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كرة خاسرة﴾، ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ الآيات.
- ٨٥ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
- ٨٦ - قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
- ٨٧ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
- ٨٨ - قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- ٨٩ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ
- ٩٠ - بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
يُقَرِّرُ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ والملك ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَآ؟﴾ أَيْ مَنْ مَالِكُهَا الَّذِي خَلَقَهَا وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَالثَّمَرَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أَيْ فَيَعْتَرِفُونَ لَكَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَا كان ذلك ﴿قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخَالِقِ الرزاق لَا لِغَيْرِهِ، ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟﴾ أَيْ مَنْ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْخَاضِعِينَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ مِنْهَا وَالْجِهَاتِ؟ وَمَنْ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يَعْنِي الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ؟ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بيده مثل القبة (أخرجه أبو داود في سننه). وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ
قوله: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾ أَيْ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده»، وكان إذا اجتهد باليمين قَالَ: «لَا وَمُقَلِّبَ الْقُلُوبِ»، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ كَانتِ الْعَرَبُ إِذَا كَانَ السيد فيهم أجار أَحَدًا لَا يُخْفَرُ فِي جِوَارِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ أَيْ وَهُوَ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَلَا معقب لحكمه، ﴿لاَ يُسْأَلُ عما يفعل وهم يسألون﴾، ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أَيْ سَيَعْتَرِفُونَ أَنَّ السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ أَيْ فَكَيْفَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ وَعِلْمِكُمْ بِذَلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ﴾ وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى ذَلِكَ، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ فالمشركون إنما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمُ الْحَيَارَى الْجُهَّالِ كما قال الله عنهم ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾.
- ٩٢ - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
يُنَزِّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ والتصرف والعبادة، فقال تَعَالَى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ لَوْ قُدِّرَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ، لَانفَرَدَ كُلٌّ منهم بما خلق، فَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ الْوُجُودُ، وَالْمُشَاهَدُ أَنَّ الْوُجُودَ منتظم متسق، غَايَةِ الْكَمَالِ ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾، ثُمَّ لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَطْلُبُ قَهْرَ الْآخَرِ وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، والمتكلمون عبروا عَنْهُ بِدَلِيلِ (التَّمَانُعِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ صانعان فصاعداً فأراد واحد تحرريك جسم والآخر أراد سُكُونَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ منهما كانا عاجزين، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُرَادَيْهِمَا لِلتَّضَادِّ، وَمَا جَاءَ هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا مِنْ فَرْضِ التَّعَدُّدِ فَيَكُونُ مُحَالًا؛ فَأَمَّا إِنْ حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَالْآخِرُ الْمَغْلُوبُ مُمْكِنًا، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصِفَةِ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ مقهوراً؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ أَوِ الشَّرِيكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أَيْ يَعْلَمُ مَا يَغِيبُ
- ٩٤ - رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- ٩٥ - وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
- ٩٦ - ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
- ٩٧ - وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ
- ٩٨ - وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يدعو بهذا الدُّعَاءَ عِنْدَ حُلُولِ النِّقَمِ ﴿رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذَلِكَ فَلَا تَجْعَلُنِي فِيهِمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي الحديث: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مفتون» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه). وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَرَيْنَاكَ مَا نُحِلُّ بِهِمْ من النقم والبلاء والمحن، ثم قال تعالى مُرْشِدًا لَهُ إِلَى التِّرْيَاقِ النَّافِعِ فِي مُخَالَطَةِ الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه لِيَسْتَجْلِبَ خَاطِرَهُ، فَتَعُودُ عَدَاوَتُهُ صَدَاقَةً وَبُغْضُهُ مَحَبَّةً، فقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾، وَهَذَا كَمَا قال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبينه عدوة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ أمره الله أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُ معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف، وفي الصحيح: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من همزة ونفخه ونفثه». وقوله تعالى: ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي، وَلِهَذَا أَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ في ابتداء الأمور، وذلك لطرد الشيطان عِنْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَالذَّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمور، ولهذا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ» (أخرجه أبو داود في سننه). وروى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ من الفزع: «باسم اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ. (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ).
- ١٠٠ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المحتضر عند الموت من الكافرين، وَسُؤَالِهِمُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُصْلِحَ مَا كَانَ أَفْسَدَهُ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ كقوله: ﴿وَلَوْ ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
- ١٠٢ - فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- ١٠٣ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
- ١٠٤ - تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ النُّشُورِ، وَقَامَ الناس من القبور ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يتساءلون﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود). وروى الإمام أحمد عن المسور بن مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة ألا نسبي وسبي وصهري»؛ وهذا الحديث له أصل في الصحيحين: «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها». وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مُسْنَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ (أُمَّ كُلْثُومٍ) بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ يوم القيامة ألا سبي ونسبي» (رواه الطبراني والبزار والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً إعظاماً وإكراماً)، وروى الحافظ ابن عساكر عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ ينقطع يوم القيامة ألا نسبي وصهري».
وقوله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَوْ بِوَاحِدَةٍ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيِ الَّذِينَ فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة، ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾: أَيْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ أَيْ خَابُوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نادى ملك بصوت يسمعه الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى مَلَكٌ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: شَقِيَ فَلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بعدها أبداً (رواه الحافظ البزار وفي إسناده ضعف). وقال تعالى: ﴿في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يَظْعَنُونَ ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وتغشى وُجُوهَهُمُ النار﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ﴾ الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «إن جهنم لما سيق لها أهلها، تلقَّاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة). وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ قَالَ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم (أخرجه ابن
مردويه عن أبي الدرداء). وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ قال ابن عباس: يعني عابسون، وقال ابن مَسْعُودٍ ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْسِ الْمَشِيطِ الَّذِي قَدْ بَدَا أَسْنَانُهُ وقلصت شفتاه، وعن أبي سعيد
- ١٠٦ - قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ
- ١٠٧ - رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه مِنَ الْكَفْرِ وَالْمَآثِمِ، وَالْمَحَارِمِ وَالْعَظَائِمِ الَّتِي أَوْبَقَتْهُمْ في ذلك فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلْتُ إليكم الْكُتُبَ وَأَزَلْتُ شُبَهَكُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ، كما قال تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾، وَقَالَ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، ولهذا قال: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ أَيْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ وَلَكِنْ كُنَّا أَشْقَى مِنْ أَنْ نَنْقَادَ لَهَا وَنَتَّبِعَهَا فَضَلَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ نُرْزَقْهَا، ثُمَّ قَالُوا: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ أي أرددنا إلى الدُّنْيَا فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا سَلَفَ مِنَّا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قال: ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾؟ أَيْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
- ١٠٩ - إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
- ١١٠ - فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ
- ١١١ - إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ
هَذَا جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ إِذَا سَأَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ، وَالرَّجْعَةَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. يَقُولُ: ﴿اخسؤوا فِيهَا﴾ أَيِ امْكُثُوا فِيهَا صَاغِرِينَ مُهَانِينَ أَذِلَّاءَ ﴿وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ أَيْ لَا تَعُودُوا إِلَى سُؤَالِكُمْ هَذَا فَإِنَّهُ لَا جَوَابَ لَكُمْ عِنْدِي، قَالَ ابن عباس ﴿اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ قَالَ: هَذَا قَوْلُ الرَّحْمَنِ حين انقطع كلامهم منه. وروى ابن أبي حاتم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَهَّلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا فَلَا يُجِيبُهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ، قَالَ: هَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَاللَّهِ عَلَى (مَالِكٍ) وَرَبِّ مَالِكٍ؛ ثُمَّ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ قَالَ: فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: ﴿اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ قال: فوالله مَا نَبَسَ الْقَوْمُ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ: فَشُبِّهَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ أَوَّلُهَا زَفِيرٌ وآخرها شهيق، وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تعالى أن لا يُخْرِجَ مِنْهُمْ أَحَدًا يَعْنِي مِنْ جَهَنَّمَ غيَّر وُجُوهَهُمْ وَأَلْوَانَهُمْ، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَشْفَعُ، فيقول: يا رب، فيقول الله من عرف أحداً فليخرجه، فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر، فلا يعرف أحداً فيناديه الرجل: يا فلان أَنَا فُلَانٌ، فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، قَالَ: فَعِنْدَ ذلك يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ فعند ذلك يقول الله تعالى: ﴿اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى
- ١١٣ - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ
- ١١٤ - قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- ١١٥ - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ
- ١١٦ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي عُمْرِهِمُ الْقَصِيرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَلَوْ صَبَرُوا فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أولياءه الْمُتَّقُونَ، ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ﴾ أَيْ كَمْ كَانَتْ إِقَامَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ ﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ أَيِ الْحَاسِبِينَ، ﴿قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أَيْ مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ﴿لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ لَمَا آثَرْتُمُ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي، وَلَمَا تَصَرَّفْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ هَذَا التصرف السيء، ولا استحقتتم مِنَ اللَّهِ سُخْطَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فلو أَنَّكُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ كَمَا فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا، وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أُدخِلَ أهلُ الجنةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ: لَنِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجْنَّتِي امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ. ثم قال: يَا أَهْلَ النَّارِ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَيَقُولُ بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ
فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، نَارِي وَسُخْطِي امْكُثُوا فِيهَا خالدين مخلدين" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي مرفوعاً). وقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ أَيْ أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنْكُمْ ولا حكمة لنا؟ وقيل: للعبث لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ أي لا تعوذون في الدار الآخرة، كما قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يترك سدى﴾ يَعْنِي هَمَلًا، وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ أَيْ تَقَدَّسَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ﴿لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ فَذَكَرَ الْعَرْشَ لِأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ أَيْ حَسَنُ الْمَنْظَرِ بَهِيُّ الشَّكْلِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زوج كريم﴾.
وكان آخر خطبة خطبها (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الناس إنكم لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَكُمْ والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي
وَأَبْكَى من حوله (أخرجه ابن أبي حاتم عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ). وروى أبو نعيم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في سرية، وأمرنا أم نَقُولَ إِذَا نَحْنُ أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾؟ قَالَ: فقرأناها فغنمنا وسلمنا، وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَانٌ أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة: باسم اللَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون، بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رحيم".
- ١١٨ - وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ سِوَاهُ، وَمُخْبِرًا أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ لَا بُرْهَانَ لَهُ، أَيْ لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فقال تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ أَيِ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾: أَيْ لَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا فَلَاحَ لَهُمْ وَلَا نَجَاةَ. قَالَ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «مَا تَعْبُدُ؟» قَالَ: أَعْبُدُ اللَّهَ وَكَذَا وَكَذَا حَتَّى عَدَّ أَصْنَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأيهم إذا أصابك ضر كَشْفَهُ عَنْكَ؟» قَالَ: اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ: «فَأَيُّهُمْ إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَدَعَوْتَهُ أَعْطَاكَهَا؟» قَالَ: اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ: «فَمَا يَحْمِلُكَ على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه» قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعلمون ولا يعلمون»، فقال الرجل بعدما أسلم: لقيت رجلاً خصمني (قال ابن كثير: هذا مرسل من هذا الوجه وقد رواه الترمذي مسنداً). وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ هذا إرشاد من الله تعالى إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَالْغَفْرُ إِذَا أُطْلِقَ، مَعْنَاهُ مَحْوُ الذَّنْبِ وَسَتْرُهُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّحْمَةُ مَعْنَاهَا أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.