ﰡ
حم: تقرأ هكذا حاميم: من الحروف الصوتية، وقد تكلّمنا عن هذا الاسلوب والغرض منه.
أقْسَمَ الله تعالى بالقرآن الكاشف عن الدِّين الحقِ، المبينِ لما فيه صلاحُ البشرية في دنياهم وأُخراهم، وأنه انزلَ القرآنَ في ليلة مبارَكة هي ليلة القدر، لإنذار العباد وتخويفهم بإرسال الرسُل وانزال الكتب. وفي هذه الليلة المباركة يفصِل الله كل أمر محكَم، والقرآنُ رأس الحكمة والفيصلُ بين الحقّ والباطل، يبيّن لهم ايضرّهم وما ينفعهم. ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ إن الله لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو الذي بيدِه إحياؤهم وإماتتهم، وهو ربُّهم وربّ آبائهم الأولين، المالكُ لهم والمتصرّف فيهم حسب ما يريد.
﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾
انهم ليسوا بموقِنِين بعد أن بينّا لهم الرشدَ من الغيّ وأصرّوا على كفرهم وشكّهم وعنادهم لاهين لاعبين.
قراءات:
قرأ الكوفيون: ربِّ السموات. بالجر. والباقون: ربُّ السموات بالرفع.
انتظِر ايها الرسولُ يومَ القيامة حين تأتي السماءُ بدخانٍ واضحٍ يعمُّ الناسَ ويغطّيهم، فيقولون: ربنا اكشِف عنا العذابَ قد آمنا بدِينك. إن إيمانَهم لن ينفعَهم في ذلك اليوم، وقد جاءهم رسولُ الله بالرسالة الواضحة الصادقة، فكفروا به، وقالوا إنه مجنونٌ يعلّمه بعضُ الناس القرآنَ الذي يتلوه علينا.
وهنا يردّ الله تعالى عليهم: إنا سنرفعُ عنكم العذاب، وإنكم تعيشون الآن فرصةً قبل يوم القيامة فآمِنوا، إنكم ستعودون الى كُفركم وما كنتم عليه بعد سماعكم الآيات.
فاذكر ايها الرسولُ يومَ تأخذهم الأخْذَةُ الكُبرى بعنف وقوة، ﴿إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ منهم في ذلك اليوم الرهيب.
ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان واسباب الرخاء ﴿وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ مأمونٌ على ما أبلّغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما ادعوكم اليه.
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ﴾
اني ألتجئ الى الله ربي وربكم ان لا تصِلوا اليَّ بسوءٍ من قول أو عمل.
وان لم تصدّقوني فيما جئتكم به من عند الله ﴿فاعتزلون﴾ وخلُّوا سبيلي ولا ترجموني، ودعوا الأمرَ بيني وبينكم مسالمةً الى ان يقضيَ الله بيننا.
فلما طال مقامُ موسى بين أظهُرِ قومِ فرعون ولم يؤمنوا به، ولم يزدهم ذلك الا كفراً وعناداً دعا ربه شاكياً قومه حين يئسَ من غيمانهم، بأن هؤلاء القوم مجرمون، لا أمل فيهم.
وحينئذ أمره اللهُ ان يُخرج بني اسرائيل ليلاً وان يحذَروا، لأن فرعونَ وقومه سيتبعونهم. وطلب إليه: إنك اذا قطعت البحر يا موسى فاتركه ساكناً على حاله حتى يدخلَه فرعونُ وقومه فيغرقوا فيه. ﴿إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾.
ثم بين الله تعالى بعد غرقِ آل فرعون كم تركوا بعد إغراقهم ومَهلَكِهم من بساتينَ وقصور، وحدائقَ غناء وزروع ناضرة، وعيشة ناعمة ﴿كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ ناعمين مترفين.
﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾
هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذّبوا رُسلَنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا. ثم إننا أورثنا تلك البلادَ وما فيها من خير عميم قوماً آخرين، لا يمتّون إليهم بقرابة ولا دين. فما حزنتْ عليهم السماءُ ولا الأرض عندما أخذهم العذابُ ولا أُمهلوا لتوبةٍ او تداركِ تقصير.
ثم بين الله كيف نَجَّا موسى ومن معه وذَكَر إحسانَه إليهم بأنه خلّصهم من العذاب المهين، بإهلاك عدوّهم فرعون، الذي كان متكبراً مسرفاً في الشر والفساد، وبيّن انَّه اصطفاهم على عالَمِ زمانهم، وأعطاهم من المعجزات ما فيه اختبارٌ ظاهر لهم وبلاء. كما قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥].
يعود الحديث عن المنكِرين للبعث، وقولهم لا حياةَ بعد هذه الحياة. فإن هؤلاء المكذِّبين بالبعث ليقولون: إننا لا نموت الا مرةً واحدة، ولسنا بمبعوثين. فان كنتم صادقين فاسألوا ربَّكم أن يعجِّل لنا إحياءَ من ماتَ من آبائنا حتى يكونَ ذلك دليلاً على صِدق دعواكم.
ثم بين الله لهم على طريق السؤال: هل كفّار مكةَ خيرٌ في القوة والمنعة والسلطان ام قوم تُبَّع ومن سبقَهم من الجبابرة! إن قومك يا محمد ليسوا بقوّتهم وَمنْعَتِهم وسلطانهم، وقد أهلكناهم في الدنيا بكُفرهم وإجرامهم، فليَعْتبر قومك من مصير غيرهم. لِيوقنوا أنه تعالى لم يخلق هذه السمواتِ والأرضَ عبثا دون حكمة، كما قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥].
نحن ما خلقنا هذا الكونَ العجيب وما فيه الا بحكمة بالغة، على نظامٍ ثابت يدلّ على وجود اللهووحدانيته وقدرته ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ هذه الدلالةَ لغفلتهم.
ان يوم القيامة موعدُهم جميعاً وفيه يُفصَل بين الحقّ والباطل. يومئذٍ لا يستطيع أحدٌ ان يساعد احداً ولا ينفع مالٌ ولا بنون ولا أنساب ولا صديق حميم. ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ الا بصالح الاعمال. ﴿إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم﴾
الحديث الآن عن أهلِ النار وطعامهم وما يلاقُونه من عذابٍ أليم.. ان شجرة الزقُوم المعروفة بقُبح منظرِها وخُبثِ طَعْمِها وريحها هي طعامُ الفاجر الكافر الأثيم. ومذاقُها كسائل المعدِن المصهور، يغلي في البطون كالماءِ الشديد الحرارة.
ثم يقال لزبانية جهنم: خذوا هذا الفاجرَ الأثيم فجرّوه بعنفٍ الى وسط الجحيم، ثم صبُّوا فوق رأسه الماءَ الحار. ثم يقال له استهزاءً وتهكماً: ذُق العذابَ، ايها العزيز الكريم المعتزّ بنَسَبك وقومك.
ان هذا العذاب الذي تلاقونه الآن هو ما كنتم تكذّبون به في الدنيا.
وبعد ان بين الله أحوال المجرمين وما يلاقونه من اهوال وعذاب وتقريع، بيّن هنا أحوال المتقين وما يلاقونه في جنّات النعيم من ضُروب التكريم في منازل حسنة آمنة، في جنات النعيم، ملابسهم فيها من أنواع الحرير الفاخر، متقابلين على السُرر، يستأنس بعضهم ببعض، تحفُّ بهم زوجاتهم من الحُور العين، ويطلبون ما يشتهون من انواع الفاكهة. ثم بين ان حياتهم في هذا النعيم دائمة، وقد نجّاهم الله من العذاب الاليم.
﴿فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ وأيّ فضل وفوز أعظمُ من النجاة من عذاب أليم!
ثم بين الله تعالى أنه انزل هذا القرآن الكريم باللغة العربية ويسّره بها لعلّ العربَ ينتفعون به وبتعاليمه، وينشرونه في العالم. وبهذا يجيء ختام السورة كما بدئتْ، بذِكر القرآن. ثم يقول الله تعالى مسلّياً رسولَه الكريم وواعداً إياه بالنصر، ومتوعداً المكذّبين بالهلاك:
﴿فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ﴾
انتظِر أيها الرسول انهم منتظِرون، وسيعلمون لمن يكنُ النصر. وقد نصر الله تعالى رسوله واصحابه ونشروا دينه العظيم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحفص ورويس وابن عامر: يغلي بالياء. والباقون: تغلي بالتاء. وقرأ حفص وحمزة والكسائي وابو عمرو: فاعتِلوه بكسر التاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب: فاعتُلوه بضم التاء، وهما لغتان. وقرأ ابن عامر ونافع: في مُقام بضم الميم. والباقون: في مَقام بفتح الميم.