تفسير سورة الطور

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الطور من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الطور
مكية، تسع وأربعون آية، ثمانمائة واثنتا عشرة كلمة، ألف وخمسمائة حرف
وَالطُّورِ (١) أي طور سينين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، واسمه زبير أقسم الله به، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) أي كتاب مكتوب في كاغد مبسوط، غير مطوي، وغير مختوم عليه- وهو القرآن- يقرؤه المؤمنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ، أو هو التوراة المكتوبة في الألواح التي أنزلت على موسى، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وهو إما الكعبة أو بيت معمور بالناس الطائفين به، العاكفين، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، أو الضراح، وهو في السماء بحيال الكعبة، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدا، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) فوق كل شيء وهو السماء. وقيل: العرش، فإنه سقف الجنة، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) أي الممتلئ وهو بحر فوق السماء السابعة تحت عرش الرحمن، يسمى بحر الحيوان، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. ويقال: هو بحر حار يصير نارا.
روي أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) أي لنازل بشدة على مستحقه يوم القيامة، ما لَهُ أي العذاب مِنْ دافِعٍ (٨) عنه يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) أي يوم تخرج السماء عن مكانها وتدور بأهلها دورانا كدوران الرحا وتموج الخلائق بعضهم في بعض من الهول فيوم معمول لواقع، أو لدافع، أي ليس له دافع يوم تمور السماء وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠)، أي تزول الجبال عن وجه الأرض، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل، ثم تصير كالصوف المندوف، ثم تطيرها الرياح فتصير هباء منثورا.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)، أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع، فشدة عذاب إذا للمكذبين للرسل الذين هم يلهون في أباطيل، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
457
و «يوم» إما ظرف لقول مقدر بعده، أي يوم يدفعون إليها دفعا عنيفا يقال لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) في الدنيا. وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون دفعا على وجوههم وزجا أقفيتهم ويقولون لهم توبيخا: هذِهِ النَّارُ إلخ. وإما بدل من يومئذ والمعنى: فويل يوم يقع العذاب للمكذبين وهو يوم يدعون أي المكذبون إلى النار والعامة على فتح الدال وتشديد العين مضمومة.
وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء، وزيد بن علي بسكون الدال وفتح العين فيكون دعا حالا من الواو، أي يوم ينادون مدعوين بأن يقال لهم: هلموا إلى نار جهنم فادخلوها وتقول لهم الخزنة: هذه النار، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) ؟ أي فهذا العذاب الذي ترونه سحر كما كنتم تقولون في الدنيا للأنبياء هم سحرة أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر، أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل؟ فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق.
اصْلَوْها أي ادخلوا النار وقاسوا شدائدها، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي فافعلوا ما شئتم من الصبر على عذاب النار وعدمه، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي صبركم عليه وتركه سواء عليكم في عدم النفع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)، فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع بحسب الوعد كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) دائم فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، أي متلذذين بما أعطاهم ربهم.
وقرأ الحسن وغيره «فكهين» بغير ألف، أي معجبين وقرئ «فاكهون» على أنه خبر إن أي ذوو فاكهة كثيرة بسبب إعطاء ربهم إياهم تلك، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) عطف على ما آتاهم أي إنهم ناعمون بأمرين بما آتاهم ربهم، وبأنه وقّاهم، أو عطف على «في جنات». فالمعنى إن المتقين أدخلهم ربهم جنات ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم فيقول الله لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب، وبلا داء في تناولهما وبلا خوف نفاد وبلا إثم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)
فلا من عليكم في هذا اليوم وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة لأن هذا إنجاز الوعد، مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ حال من الضمير المستكن في خبر إن أي كائنون في جنات حال كونهم متكئين على نمارق على سرر موصولة بعضها إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) أي بنساء بيض عظام الأعين. فقوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ عطف على خبر «إن» وهو إشارة إلى أن المزوج هو الله تعالى يتولى الطرفين يزوّج عبيده بإمائه، ومن يكون كذلك لا يفعل إلّا ما فيه راحة العبيد والإماء فهو إشارة إلى أن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمن لا بملك النكاح، وإنما عدي بالباء إشارة إلى أن المنفعة في التزويج هنا للرجال فقط وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم، وأيضا إن في التزويج معنى الإلصاق، وفي الباء كذلك، فكأن المعنى جعلناهم ملصقين بحور من غير عقد منهم.
458
وقرئ «بحور عين» على إضافة الموصوف إلى صفته. وقرئ «بعيس عين».
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم. وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم ذرياتهم» بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه وبقطع الهمزة. والباقون «واتبعتهم» بإسناد الفعل إلى الذرية، وبهمزة وصل. قرأ نافع «ذريتهم» بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية. وقرأ ابن كثير والكوفيون بالإفراد فيهما وأبو عمرو بالجمع فيهما مع النصب بالكسرة، وابن عامر بالجمع فيهما والرفع في الأولى والنصب بالكسرة في الثانية، والذرية هنا محمولة على الآباء والأبناء معا، أي إن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا بسبب الإيمان كما هو منقول عن ابن عباس وغيره، والله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده الصغار، ومن ارتد من المسلمين لا يحكم بكفر ولده، كما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه» ثم تلا هذه الآية
. فالآباء داخلون في اسم الذرية، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة، فإن كان معها أخذ علم أو عمل كانت أجدر، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء مع من أحب»
«١». وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصنا شيئا من درجة الأعلى لأجل إلحاق الأدنى به وهذا لإزالة وهم المتوهم أن ثواب الأعلى يوزع على من دونه. وقرأ ابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام. والباقون بفتحها. وقرأ ابن هرمز «آلتناهم» بمد الهمزة. وقرئ «لتناهم» بكسر اللام و «لتناهم» بالفتح كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) أي كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله فإن عمل صالحا فك نفسه، وإلا أهلكها فالعمل بمنزلة الدين الثابت حيث إن العبد مطالب بذكر العمل خيرا أو شرا ويقال: كل امرئ بما كسب دائم فإن أحسن ففي الجنة مؤبدا، وإن أساء ففي النار مخلدا، وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) أي زدناهم على ما كان لهم وقتا بعد وقت بأنواع الفواكه، وأنواع اللحمان مما يشتهون فكل واحد من أهل الجنة يعطى في الجنة ما يشتهي وإن لم يطلبه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتعاطون في الجنة خمرا هم وجلساؤهم بكمال الاشتياق، أو بتجاذب بعضهم إناء الخمر من بعض في شربها تجاذب ملاعبة لا تجاذب مخاصمة، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه، لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) أي لا كلمة لغو ولا إثم بسبب شربها، أي بسبب زوال العقل ونهوض الغضب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالبناء على الفتح في الاسمين. والباقون بالرفع. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
(١) رواه أبو داود في السنن (٥١٢٧)، ومسلم (٢٠٣٤)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٢: ٥٩).
بالكؤوس وغيرها من التحف للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور، ولذلك لم يقل تعالى غلمانهم وإنما قال: غِلْمانٌ لَهُمْ لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا، فيخاف كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، كَأَنَّهُمْ في بياضهم وشدة صفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) مخزون مصون من الحر والبرد، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ في الزيارة يَتَساءَلُونَ (٢٥)، أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أمر الدنيا، وعن نعيم الجنة قالُوا أي قال كل منهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل دخول الجنة فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)، أي خائفين على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان فأخطأنا في ذلك. وقوله تعالى: فِي أَهْلِنا متعلق بمحذوف حال من الضمير في مشفقين أي حال كوننا بين أهلينا في الدنيا، أو بيان ل «قبل»، أي في وقت اجتماعنا مع أهلنا فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة ودخول الجنة، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) أي عذاب النار.
وقال ثعلب السموم: شدة الحر، أو شدة البرد في النهار إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه الرحمة أي في الدنيا نَدْعُوهُ أي نسأله الحفظ من العذاب ونعبده، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي الصادق في وعده لنا المحسن إلينا، الرَّحِيمُ (٢٨) بعباده المؤمنين.
وقرأ نافع والكسائي بفتح همزة «أنه» على تقدير كون اللام ملفوظا بها. والباقون بكسرها استئنافا على معنى التعليل، فَذَكِّرْ أي عظ يا أشرف الخلق فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بالنبوة ورجاحة العقل، بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أي فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم لقولهم لك: أنت كاهن تخبر بما في الغد، ومجنون. أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون أي كفار مكة هو شاعِرٌ يتقول الكلام من تلقاء نفسه نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) أي ننتظر بذلك الشاعر تقلبات الزمان ونزول الموت، فإنه إن كان شاعرا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه، فيتبين كساد شعره. وقالوا أيضا:
نتربص موته فإن أباه مات شابا، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، فلا نعارضه الآن مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وجملة «نتربص» نعت ل «شاعر».
قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الكفار:
تَرَبَّصُوا أي انتظروا موتي- وهذا أمر تهديد- فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أي فإني أتربص هلاككم، وقد أهلكوا في يوم بدر وفي غيره من الأيام ويقال إن معنى هذه الآية أني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد وإنما أنا نذير، فتربصوا موتي وأنا متربصة ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتمنون بعدي، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أي أتأمرهم عقولهم بهذا المقال المتناقض فإنهم قالوا في حق الرسول: هو كاهن مجنون شاعر، فإن الكاهن ذو دقة نظر في الأمور، والمجنون مختل فكره، والشاعر ذو كلام موزون متسق، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد! بل هم قوم مجاوزون الحدود في العناد لا يحومون حول السداد. ولذلك يقولون: أكاذيب خارجة عن دائرة العقول. وقرئ «بل هم». أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي بل يقولون:
كذب محمد في القرآن من عند نفسه وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) بالقرآن استكبارا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي فليجيئوا بكلام مثل القرآن في البلاغة، وصحة المعاني، والإخبار بالمغيبات من تلقاء أنفسهم، فإنهم مثل محمد في البشرية والعربية، إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) فيما قالوا فإن صدقهم في ذلك يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثله، ففيهم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل القصائد، ويقص القصص. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟! أي أوجدوا من غير خالق، فلذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول.
وقال ابن كيسان: أم خلقوا لغير شيء من عبادة وجزاء، فخلقوا عبثا، وتركوا سدى فلا إعادة. وقيل: أي من غير أب وأم، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يقيم الله عليهم حجة، أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟! أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) لأنفسهم فلا يأتمرون لأمر الله ولا يعبدون الله، وهم لا يقولون ذلك، فإذا أقروا أن تمّ خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة ومن الإقرار بأنه قادر على البعث! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) ف «أم» للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، أي ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأن الله واحد، فإذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا، وإلّا لما
أعرضوا عن عبادته، أي لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي إنهم كما طعنوا فيك يا أشرف الخلق طعنوا في خالقهم. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، و «أم» استفهام إنكاري أي أعندهم خزائن رحمة الله حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، أم عندهم خزائن علم الله بالغيب حتى يختاروا للنبوة من شاءوا، أم هم الغالبون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا، أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا أن محمد ليس برسول، وأن كلامه ليس بمرسل، أي أنتم لستم بخزنة الله، ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها، ولا أنتم اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم. فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أي إذا ادعوا الاستماع من الملائكة فليأت مدعي الاستماع بحجة واضحة تصدق دعواه، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أي أتزعمون أن لله تعالى البنات ولكم البنون خاصة لتكونوا أقوى منه تعالى، فتكذبوا رسوله وتردوا قوله من غير حجة، فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم! أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي أجر الدنيا من مال، أو غيره على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أي فهم لذلك الأجر من التزام غرامه محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك!
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أي هل عندهم علم ما غاب عنهم فهم يكتبون ما غاب عنهم حتى يمكنهم منازعة محمد، أي هل صاروا في درجة محمد حتى استغنوا عنه وأعرضوا أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ
461
كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ
(٤٢) ! والمعنى: أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا، فتثقلهم عن الاتباع، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك، فيعرضون عنك أم ليس لهم شيئا من هذين الأمرين بل يريدون العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فالذين كفروا معذبون. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يمنعهم من عذاب الله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) أي عن الذي يشركون من الولد ومن مثل الآلهة، لأنهم كانوا يقولون: البنات لله، وكانوا يقولون: هو تعالى مثل ما يعبدونه، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) أي لو عذبنا كفار مكة بنزول قطع من السماء عليهم لم ينتهوا عن طغيانهم، ولم يرجعوا عن عنادهم ولقالوا في هذا النازل إغاظة لمحمد: هذا سحاب تراكب بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه قطعة نازلة للعذاب، فَذَرْهُمْ أي إذا تبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فاتركهم على شر أحوالهم، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) أي يهلكون بالقتل يوم بدر.
وقرئ «يلقوا». وقرأ ابن عامر وعاصم «يصعقون» بضم الياء مبنيا للمفعول، وباقي السبعة بفتحها مبينا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي يوم لا يدفع عنهم مكرهم- في مناصبتهم يوم بدر- شيئا من الهلاك وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) أي ولا يمنعون من القتل والأسر النازلين بهم في ذلك اليوم، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إن لهؤلاء الظلمة بعبادتهم الأوثان عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي قبل ما لاقوه من القتل يوم بدر، وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين. وقرئ دون ذلك قريبا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) أن العذاب يلاقوه. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي بمنظر منا وفي حفظنا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) من موضعك أي حين تعزم على القيام وقد
ورد في الخبر: «إن من قال سبحان الله من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللغط واللغو في ذلك المجلس»
. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩) أي وقت الصبح حين يذهب ضياؤها بضوء الشمس.
462
Icon