تفسير سورة الطور

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الطور من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

قال: إنّ قريشًا لمّا اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي - ﷺ - قال قائل منهم: احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالطُّورِ (١)﴾ ﴿الواو﴾ للقسم. والطور (١) بالسريانية: الجبل. وقال بعضهم: هو عربي فصيح، ولذا لم يذكره الجواليقي في "المعربات". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الطور: كل جبل ينبت. قال الشاعر:
لَوْ مَرَّ بِالطُّوْرِ بَعْضُ نَاعِقَةٍ مَا أَنْبَتَ الطُّوْرُ فَوْقَهُ وَرَقَهْ
وقيل: بل هو جبل محيط بالأرض. والأظهر الأشهر: أنه اسم جبل مخصوص، هو طور سينين. يعني: الجبل المبارك، وهو جبل مدين، واسمه زبير، سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، ولذا أقسم الله تعالى به. لأنّه محل قدم الأحباب وقت سماع الخطاب.
وقال في "خريدة العجائب": جبل طور سينا هو بين الشام ومدين. قيل: إنه بالقرب من أيلة. وهو المكلم عليه موسى عليه السلام. كان إذا جاء موسى للمناجاة ينزل عليه غمام، فيدخل في الغمام ويكلم ذا الجلال والإكرام. وهو الجبل الذي دك عند التجلي، وهناك خر موسى عليه السلام صعقًا. وهذا الجبل إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها شجرة العوسج على الدوام. وتعظيم اليهود لشجرة العوسج لهذا المعنى. ويقال لشجرة العوسج: شجرة اليهود، انتهى كلام "الخريدة". والعوسج جمع عوسجة. وهو شجر الشوك، كما في "القاموس".
٢ - ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢)﴾؛ أي: مكتوب على وجه الانتظام. فإنَّ السطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به: القرآن أو ألواح موسى. وهو الأنسب بالطور أو اللوح المحفوظ. وقيل: جميع الكتب المنزلة، أو ما يكتبه الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منثورًا. فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله. نظيره قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(١) روح البيان.
كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}، وقوله: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)﴾.
٣ - ﴿فِي رَقٍّ﴾ متعلق بمسطور؛ أي: مكتوب في رق؛ أي: في جلد رقيق. ﴿مَنْشُورٍ﴾؛ أي: مبسوط. وقرأ الجمهور (١) ﴿فِي رَقٍّ﴾ بفتح الراء. وقرأ أبو السَّمال في ﴿رق﴾ بكسرها. قال الجوهري: الرق بالفتح: ما يكتب فيه. وهو جلد رقيق، ومنه قوله تعالى: ﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣)﴾. وقال المبرد: الرق: ما رق من الجلد ليكتب فيه. والمخشور: المبسوط. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. وأما الرق بالكسر: فهو المملوك. يقال: عبد رق، وعبد مرقوق.
٤ - ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)﴾ في السماء السابعة. وقيل: في سماء الدنيا. ويسمى الضراح (٢) بضم الضاد المعجعة. لأنّه ضرح؛ أي: رفع وأبعد، حيث كان في السابعة. ووصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة، ويعبد الله فيه. وقيل: الكعبة، ووصفها بالعمارة باعتبار عمارتها بالحجاج، والعمار، والمجاورين فيها. وقال بعضهم: المراد باليت المعمور: قلب المؤمنين، وعمارته بالمعرفة والإخلاص. فإنَّ كل قلب ليس فيه ذلك فهو خراب، فكأنه لا قلب.
٥ - ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥)﴾؛ أي: السماء المرفوعة عن الأرض مقدار خمس مئة عام. قال تعال: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾. سمَّاها سقفًا لكونها كالسقف للأرض. وقيل: هو العرش. ولا يخفى (٣) حسن موقع العنوان المذكور من حيث اجتماع السقف مع البيت، ومن حيث أن العرش على التقدير الثاني، والبيت المعمور مقاربان تقارب السقف بالبيت.
٦ - ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦)﴾؛ أي: المملوء ماء. وهو البحر المحيط الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة. وهو بحر لا يعرف له ساحل، ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى. والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه. وفي هذا البحر عرش إبليس لعنه الله. وفيه مدائن تطفو على وجه الماء. وهي آهلة من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض. وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
إلا الله تعالى. وقيل: معناه: والبحر المحبوس ماؤه من أن يفيض فيغرق جميع ما في الأرض من حيوان ونبات. وقيل: المسجور بمعنى الموقد من السجر. وهو إيقاد النار في التنور، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦)﴾. وقد روي: أنّ البحار تسجر يوم القيامة، فتكون نارًا. وهذا على أن يكون البحر بحر الدنيا وبحر الأرض. وقال عليّ رضي الله عنه، وعكرمة: هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين، ماء غليظ، يقال له: بحر الحيوان. وهو بحر مكفوف، أي: عن السيلان، يمطر منه على الموتى ماء كالمني بعد النفخة الأولى أربعين صباحًا، فينبتون في قبورهم.
٧ - ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾، أي: لنازل حتمًا. وهو جواب القسم. قال في "فتح الرحمن": المراد: عذاب الآخرة للكفّار، لا العذاب الدنيوي؛ أي: كائن لا محالة لمن يستحقه.
٨ - ﴿مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)﴾ يدفعه، ويرده عن أهل النار. وهو كقوله تعالى: ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾. وهذه الجملة خبر ثان لـ ﴿إن﴾، أو صفة لواقع. و"من" مزيدة للتأكيد. والفرق بين الدفع والرفع: أن الدفع بالدال يستعمل قبل الوقوع، والرفع بالراء يستعمل بعد الوقوع. ووجه تخصيص هذه الأمور بالأقسام بها لما أنها من أمور عظام تنبىء عن عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه، وحكمته الدالة على إحاطته بتفاصيل أعمال العباد، وضبطها الشاهدة بصدق أخباره الذي من جملتها الجملة المقسم عليها.
والمعنى: أي أقسم لك يا محمد بهذا الجبل العظيم الشأن، الذي كلمت فوقه موسى، وأنزلت عليه التوراة التي كتبت بنظام بديع مرتب الحروف في رق منشور، سهل على كل أحد أن يطلع على ما فيها من حكم وأحكام وآداب وأخلاق، وبالكعبة التي يعمرها عشرات الآلاف الذين يهرعون لها كل عام من أرجاء المعمورة، وينسلون إليها من كل حدب كما يعمرها المجاورون لا تبركًا بالعبادة فيها، وطلبًا لقبولها عند ربهم، والسقف المرفوع، أي: بالعالم العلوي، وما حوى من شموس، وأقمار، وكواكب ثاتبة، وسيارت، وما فيه من عرشه، وكرسيه، وملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وبالبحر المحبوس من أن يفيض ماؤه فيغرق جميع ما على الأرض، ولا يبقى ولا يذر من حيوان ونبات، فيفسد نظام العالم، وتعدم الحكمة الذي لأجلها خلق. وقد يكون المعنى:
وبالبحر الموقد في باطن الأرض بمنزلة التنور المحمي.
ثم ذكر ما أقسم عليه، فقال: من عذاب ربك يا محمد المحيط بالكافرين المكذبين بالرسل لواقع يوم القيامة، لا يدفعه عنهم دافع، ولا يجدون من دونه مهربًا جزاء ما دسوا به أنفسهم من الشرك والآثام، ودسوا به أرواحهم أو التكذيب بالرسل.
٩ - ﴿يَوْمَ تَمُوُر﴾ وتضطرب وتتحرك ﴿السَّمَاءُ مَوْرًا﴾؛ أي: اضطرابًا. وهو ظرف لواقع، مبين لكيفية الوقوع مُنَبِّىء عن كمال هوله وفظاعته، لا لدافع؛ لأنّه يوهم أنّ أحدًا يدفع عذابه في غير ذلك اليوم.
والغرض: أنّ عذاب الله لا يدفع في كل وقت. والمور: الاضطراب والتردد في المجيء والذهاب، والجريان السريع؛ أي: تضطرب، وتجيء، وتذهب. قيل: تدور السماء كما تدور الرحى، وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة. وقيل: يختلج أجزاؤها بعضها في بعض، ويموج أهلها بعضهم في بعض، ويختلطون، وهم الملائكة. وذلك من الخوف.
والمعنى (١): أي ليس للعذاب دافع في ذلك اليوم الذي ترتج فيه السماء. وهي في أماكنها، وتتحققون أنه لا مانع من عذاب الله، ولا مهرب منه.
١٠ - ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ﴾ عن أماكنها ﴿سَيْرًا﴾ كسير السحاب، وتزول عن مواضعها، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل، ثم تصير كالعهن - الصوف المندوف - ثم تطيرها الرياح، فتكون هباء منثورًا. كما دل على ذلك ما جاء في سورة النمل.
والحكمة في مور السماء، وسير الجبال: الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عودة إلى الدنيا لخرابها، وعمارة الآخرة. وتأكيد (٢) الفعلين بمصدريهما للإيذان بغرابتهما، وخروجهما عن الحدود المعهودة؛ أي: مورًا عجيبًا وسيرًا بديعًا، لا يدرك كنههما، كما سيأتي في مبحث البلاغة.
١١ - والفاء في قوله: ﴿فَوَيْلٌ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
مقدر، تقديره: إذا عرفت مور السماء، وسير الجبال في ذلك اليوم وأردت بيان ما سيقع للمكذّبين فأقول لك ويل، وشدة عذاب. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يقع ذلك المور والسير واقع ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بالله ورسوله وباليوم الآخر. وهذا (١) لا ينافي تعذيب غير المكذبين من أهل الكبائر. لأن المعنى: أنَّ الويل والعذاب الشديد خاص بالمكذبين.
١٢ - ثم وصف المكذبين بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ﴾ أي: في اندفاع وانغماس عجيب في الأباطيل والأكاذيبـ ﴿يَلْعَبُونَ﴾؛ أي: يلهون، ويتشاغلون بكفرهم؛ أي: الذين هم يلعبون، ويلهون، ويتشاكلون في أباطيل، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء، فهو لا يدري أين يضع رجله. قال في "فتح الرحمن": الخوض: التخبط في الأباطيل، شبه بخوض الماء، وغوصه.
والمعنى: أنهم يخوضون في أمر محمد - ﷺ - بالتكذيب والاستهزاء. وقيل: يخوضون في أسباب الدنيا، ويعرضون عن الآخرة.
وفي "الروح": قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ﴾ ليس صفة قصد بها تخصيص المكذبين وتمييزهم، وإنما هو للذم كقولك: الشيطان الرجيم.
والمعنى: أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء، وسير الجبال فهلاك يومئذٍ للمكذبين الذين يخوضون في الباطل، ويندفعون فيه، لاهين عن الآخرة، لا يذكرون حسابًا، ولا يخافون عقابًا.
١٣ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ﴾ إما بدل من ﴿يَوْمَ تَمُورُ﴾ أي: إنّ عذاب ربك لواقع للمكذبين يوم يدعون، ويدفعون ﴿إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ﴾ ويساقون إليها ﴿دَعًّا﴾؛ أي: دفعًا عنيفًا شديدًا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار دفعًا عنيفًا على وجوههم وفي أقفيتهم، حتى يردوها. قرأ الجمهور (٢) بفتح الدال وتشديد العين. وقرأ علي، والسلميّ وأبو رجاء، وزيد بن عليّ، وابن السميقع بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة. من الدعاء؛ أي: يدعون إلى النار، أو متعلق بقول مقدر قبل
١٤ - قوله تعالى: ﴿هَذِهِ النَّارُ﴾؛ أي: يقال لهم يوم
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
يدعون إلى نار جهنم دعا: هذه النار التي تشاهدونها الآن هي ﴿الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ في الدنيا؛ أي: تكذبون الوحي الناطق بها. والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار.
أي: إنَّ عذاب ربك لواقع يوم يدفعون؛ ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفًا. فإذا دنوا منها تقول لهم خزنتها تقريعًا وتوبيخا: هذه النار التي تشاهدونها هي التي كنتم بها تكذبون في الدنيا. وتكذيبهم بها تكذيب للرسول الذي جاء بخبرها، وللوحي الناطق بها.
١٥ - ثم وبخهم سبحانه أو أمر ملائكته بتوبيخهم، فقال: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا﴾ الذي ترون، وتشاهدون الآن كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة، ولكتبه المنزلة. وقدم الخبر هنا على المبتدأ؛ لأنَّه الذي وقع الاستفهام عنه، وتوجه التوبيخ إليه.
﴿أَمْ أَنْتُمْ﴾ عمي عن هذا ﴿لَا تُبْصِرُونَ﴾ به؛ كما كنتم عميًّا عن الحق في الدنيا. والهمزة في قوله: ﴿أَفَسِحْرٌ﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أكنتم تقولون للوحي: هذا سحر؟ فهذا المصداق؛ أي: هذه النار التي ترونها الآن سحر. والمصداق: ما يصدق الشيء، وأحوال الآخرة ومشاهدتها تصدق أقوال الأنبياء في الإخبار عنها. يعني: أنَّ الذي ترونه من عذاب النار حق. ﴿أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾؛ أي: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميًّا عن الخبر، أو أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم، حيث كنتم تقولون: إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون.
وعبارة زاده: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا﴾؛ أي: هل في المرئي تلبيس وتمويه، حتى قيل لكم: إنه نار، مع كونه ليس بنار في نفس الأمر، أم هل في بصركم خلل. فكلمة "أم" متصلة، والاستفهام للإنكار؛ أي: ليس شيء منهما ثابتًا. فثبت أنكم قد بعثتم وجوزيتم بأعمالكم، وأنَّ الذي ترونه حق. فهو تقريع شديد، وتهكم فظيع.
١٦ - وبعد هذا التقريع يقال لهم: ﴿اصْلَوْهَا﴾ إلخ؛ أي: ادخلوها، وقاسوا حرها وشدائدها ﴿فَاصْبِرُوا﴾ عليها إن شئتم ﴿أَوْ لَا تَصْبِرُوا﴾ إن شئتم؛ أي: ادخلوها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه. فإنه لا خلاص لكم منها. وهذا على جهة قطع رجائهم.
وكان المشركون في الدنيا ينسبون إلى محمد - ﷺ - أنه يسحر العقول، ويغطي
52
الأبصار، فَأَنَّبهم على ما قالوا مستهزئًا بهم، وقال لهم: هل ما ترونه بأعينكم الآن مما كنتم تنبئون به في الدنيا من العذاب حق، أو سحرتم أيضًا كما كان يفعل بكم محمد في الدنيا، أو قد غطيت أبصاركم فلا ترى شيئًا، بلى إنه لحق فلم تسحر أعينكم ولم تغط أبصاركم.
والخلاصة: هل في المرئي شك، أو في أبصاركم علل، لا واحد منهما بموجود. فالذي ترونه حق فاصلوها إلخ؛ أي: إذا لم يمكن لكم إنكارها، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل.. فالآن ادخلوها، وقاسوا شدائدها. فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وافعلوا ما شئتم.
فالأمران ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ في عدم النفع. قيل أيضًا: تفول لهم الملائكة هذا القول. و ﴿سَوَاءٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمران سواء. ويجوز أن يكون مبتدأ؛ والخبر محذوف؛ أي: سواء عليكم الصبر وعدمه.
وفي قوله (١): ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا﴾ بيان لعدم الخلاص، وانتفاء لعدم المناص. فإن من لا يصبر على شيء يحاول دفعه إما بإبعاده عنه، وإما بمحقه وإزالته. ولا شيء من ذلك بحاصل يوم القيامة؛ لأنّ عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا. فإن المعذب في الدنيا إن صبر انتفع بصبره. إما بالجزاء في الآخرة، وإما بالحمد في الدنيا فيقال: ما أشجعه، وما أقوى قلبه. وإن جزع ذم. وقيل فيه: يجزع كالصبيان والنسوان. وأما في الآخرة فلا مدح ولا ثواب على الصبر.
ثم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الخير والشر، لا الذي تعملون في الآخرة من الصبر، والخضوع، والخشوع، والتضرع؛ والدعاء. فإنه لا ينفع شيء منها. وإذا كان الجزاء واقعًا حتمًا.. كان الصبر وعدمه سواء.
والمعنى (٢): سواء عليكم الأمران: أجزعتم أم صبرتم في عدم النفع، لا بدفع العذاب، ولا بتخفيفه. إذ لا بد أن يكون الصبر حين ينفع، وذلك في الدنيا، لا غير. فمن صبر هنا على الطاعات لم يجزع هناك؛ إذ الصبر وإن كان مرًّا بصلًا لكن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
53
آخره حلو عسل.
١٧ - ولما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين، فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ عن الكفر والمعاصي ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ وبساتين خالدة ﴿وَنَعِيمٍ﴾ مقيم وملاذ دائمة. وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة. ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفّار زيادة في غمهم وحسرتهم. والتنوين في "جنات ونعيم" إما للتفخيم؛ أي: جنات، أيُّ جنّة، ونعيم، أي نعمة بمعنى الكامل في الصفة. وإما للتنويع؛ أي: في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين. والجنة مع كونها أشرف المواضع قد يتوهم أن من يدخلها إنما يدخلها ليعمل فيها، ويصلحها، ويحفظها لصاحبها كما هو شأن ناطور الكرم؛ أي: مصلحه وحافظه. فلما قال: ﴿وَنَعِيمٍ﴾ أفاد أنهم فيها متنعمون كما هو شأن المتفرج بالبستان، لا كالناطور والعمال.
١٨ - حالة كونهم ﴿فَاكِهِينَ﴾؛ أي: ناعمين متلذذين ﴿بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ وأعطاهم من إنعامه، ورضاه عنهم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وذلك أن المتنعم قد يستغرق في النعم الظاهرة، وقلبه مشغول بأمر ما. فلمَّا قال: ﴿فَاكِهِينَ﴾ تبين أن حالهم محض سرور وصفاء وتلذّذ، ولا يتناولون شيئًا من النعيم إلا تلذّذًا، لا لدفع ألم جوع أو عطش.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَاكِهِينَ﴾ بالألف، وبالنصب على الحال، وخبر ﴿إِنَّ﴾ ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾. وقرأ خالد ﴿فاكهون﴾ بالرفع على أنه خبر بعد خبر لـ ﴿إِنَّ﴾ عند من يجيز تعدد الخبر، أو هو خبر، و ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ متعلق به. وقرأ ابن عباس ﴿فكهين﴾ بغير ألف. والفكه: طيب النفس، كلما تقدم في الدخان. ويقال للأشر والبطر. ولا يناسب التفسير به هنا.
والمعنى (٢): أي إنّ الذين خافوا ربهم، وأخلصوا له العبادة في السر والعلن، وأدوا فرائضه، وتحلوا بآداب دينه، وانتهوا عن معاصيه، ولم يدنسوا أنفسهم بالمعاصي، والآثام، ولم يدسوا أرواحهم بالذنوب يجازيهم ربهم جزاء وفاقًا بجنات يتنعمون فيها، ويجدون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
كفاء ما قاسوا به من جليل الأعمال في الدنيا، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها، وما صبروا عليه من مكارهها ابتغاء رضوانه. وهم فيها قريرو الأعين، طيبو النفوس، لا يشغلهم شاغل، ولا يجدون هما ولا نصبًا، ولا يكدر صفو عيشهم مكدر.
وقوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ لبيان (١) أنَّ حالهم كحال من يتمتع بالبستان، لا كالناطور الذي يحرسه. وقوله: ﴿فَاكِهِينَ﴾ إشارة إلى أن قلوبهم لا يشغلها هم ولا نصب، بل هم في لذة وسرور وفرح وحبور.
ثم ذكر أنهم تمتعوا بنعمة أخرى قبل هذه فقال: ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه، ويضره. والجحمة: شدة تأجج النار، ومنه الجحيم؛ أي: جهنم؛ لأنه من أسمائها. وهو معطوف على ﴿آتَاهُمْ﴾ على أنّ "ما" مصدرية؛ أي: متلذذين بسبب إيتاء ربهم، ووقايتهم عذاب الجحيم. فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير: بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم، فيبقى الموصول بلا عائد، أو معطوف على خبر إنّ، أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد. وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافًا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة ﴿ووقّاهم﴾ بالتشديد.
١٩ - وقوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ على إضمار القول؛ أي: يقال لهم من قبل خزنة الجنة دائمًا: كلوا واشربوا أكلا وشربًا. ﴿هَنِيئًا﴾؛ أي: مأمون العاقبة من التخم والسقم. فـ ﴿هنيئًا﴾ صفة لمصدر محذوف، أو طعاما وشرابا هنيئًا. فهو صفة مفعول به محذوف. فإنّ في ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبه أو بدله (٢). وقيل: الباء زائدة، و"ما" فاعل هنيئًا. والمعنى عليه: هناكم ما كنتم تعملون؛ أي: جزاؤه.
والمعنى (٣): كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات، واشربوا مما لذ وطاب بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب، وبلا داء في تناولهما، وبلا خوف نفاد، وبلا إثم كما تشاهدون ذلك في طعام الدنيا وشرابها كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال،
(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.
وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة. فلا منَّ عليكم في هذا اليوم، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة؛ لأنّ هذا إنجاز الوعد.
قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾.
وفي قوله: ﴿هَنِيئًا﴾ إشارة (١) إلى خلو المآكل والمشارب مما ينغصهما، فإنّ الآكل قد يخاف المرض فلا يهنأ له الطعام، أو يخاف النفاد فيحرص عليه، أو يتعب في تحصيله وتهيئته بالطبخ والإنضاج، ولا يكون شيء من هذا في الآخرة.
وفي قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إيماء إلى أن هذا إنجاز لما وعدهم ربهم به في الدنيا، فلا من عليهم فيه، بل كان المن عليهم في الدنيا بهدايتهم للإيمان. وتوفيقهم لصالح الأعمال. كما قال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾.
٢٠ - ثمّ ذكر ما يتمتعون به من الفرش، فقال: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من الضمير في ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ أي: معتمدين ومستندين ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ جمع سرير. وفي الكلام حذف، تقديره: متكئين على نمارق على سرر مصفوفة. وهو الذي يجلس عليه. وهو من السرور إذا كان ذلك لأولى النعمة. وسرير الميت تشبيه به في الصورة، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله، وخلاصه من سجنه المشار إليه بقوله - ﷺ -: "الدنيا سجن المؤمن". وقرأ أبو السَّمال (٢): ﴿على سرر﴾ بفتح الراء. وهي لغة لكلب في المضعف فرارًا من توالي ضمّتين مع التضعيف.
﴿مَصْفُوفَةٍ﴾؛ أي: مصطفة، قد صف بعضها إلى جنب بعض، أو مرمولة؛ أي: مزينة بالذهب، والفضة، والجواهر. والظاهر (٣): أنّ جمع السرر مبني على أن يكون لكل واحد منهم سرر متعددة مصطفة معدة لزائريهم. فكل من اشتاق إلى صديقه يزوره في منزله.
قال الكلبيّ: طولها مئة ذراع في السماء؛ يتقابلون عليها في الزيارة، وإذا أراد
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
أحدهم القعود عليها تطامت واتضعت، فإذا قعد عليها ارتفعت إلى أصل حالها.
والمعنى (١): أي يجلسون على سرر مصفوف بعضها بجوار بعض جلسة المتكىء الذي لا كلفة عليه، ولا تكلف لديه. فإن من يكون عنده من يكلف له يجلس ولا يتكىء ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فحالهم حال اطمئنان، ورفع كلفة، وخلو بال. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.
ثم ذكر ما يتمتعون به من الأزواج، فقال: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ﴾؛ أي: قرناهم ﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ أي: جعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حسانات، واسعات العيون. واحد الحور: حوراء، وواحد العين: عيناء. وإنما سمين حورًا؛ لأنَّ الطرف يحار في حسنهن، وعينًا لأنهن الواسعات الأعين مع جمالها. والتزويج هنا ليس على أصل معناه: وهو عقد النكاح. بل بمعنى تصييرهم أزواجًا. لأنّه ليس في الجنة تزويج كالدنيا؛ لأنّ الجنة ليست دار تكليف. فشأن تزوج أهل الجنّة بالحور بقبول بعضهم بعضًا، لا بأن يعقد بينهم عقد النكاح. وقرأ عكرمة (٢): ﴿بحور عين﴾ على الإضافة.
٢١ - ولمّا فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم.. ذكر حال طائفة منهم على الخصوص، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ مبتدأ، خبره ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ﴾. ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ﴾؛ أي: نسلهم، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿بِإِيمَانٍ﴾ متعلق بـ ﴿اتبعوا﴾. والتنكير فيه (٣) للتقليل؛ أي: بشيء من الإيمان. وتقليل الإيمان ليس مبنيًا على دخول الأعمال فيه، بل المراد: قلة ثمرته، ودناءة قدره بذلك. فالتقليل فيه بمعنى التحقير.
والمعنى: واتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة، قاصرين عن رتبة إيمان الآباء. واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالةً، لا إلحاقًا.
﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ أي: أولادهم الصغار والكبار في الدرجة. كما روي: أنه - ﷺ - قال: "أنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته"، وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه؛ أي: يكمل سروره. ثم تلا هذه الآية.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
57
وفي الآية: دلالة بينة على أن الولد يحكم بإيمانه تبعًا لأحد أبويه، وتحقيقًا للحوقه به. فإنه تعالى إذا جعلهم تابعين لآبائهم، ولا حقين بهم في أحكام الآخرة، فينبغي أن يكونوا تابعين لهم، ولا حقين بهم في أحكام الدنيا أيضًا. قال في "فتح الرحمن": إن المؤمنين اتبعتهم أولادهم الكبار والصغار بسبب إيمانهم. فكبارهم بإيمانهم بأنفسهم، وصغارهم بأن اتبعوا في الإِسلام بآبائهم بسبب إيمانهم؛ لأنّ الولد يحكم بإسلامه تبعًا لأحد أبويه إذا أسلم. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد. وقال مالك: يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبيه دون أمه.
وقيل (١): إنّ الضمير في ﴿بِهِمْ﴾ راجع إلى الذرية المذكورة أولًا؛ أي: ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم. وقيل: المراد بالذين آمنوا: المهاجرون والأنصار فقط. وظاهر الآية العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك. فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ﴾ بإسناد الفعل إلى الذريّة. وقرأ أبو عمرو ﴿أَتْبَعْنَاهم﴾ بإسناد الفعل إلى المتكلّم كقوله: ﴿أَلْحَقْنَا﴾. وقرأ الجمهور ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بالإفراد. وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بالجمع، إلا أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ ﴿وأَتْبَعْناهم﴾. ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع والمشهور عنه كقراءة الجمهور.
والمعنى: أي إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم في الإيمان.. يلحقهم ربهم بآبائهم في المنزلة فضلًا منه وكرمًا، وإن لم يبلغوا بأعمالهم منزلتهم لتقر بهم أعينهم، ويكمل بهم فرحهم وحبورهم لوجودهم بينهم. وروى ابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبي - ﷺ - قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه، وزوجته، وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به".
﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾؛ أي (٣): وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق، وإلا لأبغضوهم في
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
(٣) روح البيان.
58
الدنيا شحًا، كما في "عين المعاني". من ألت يألت كضرب يضرب. ﴿مِنْ عَمَلِهِمْ﴾؛ أي: من ثواب عملهم ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الأولى متعلقة بألتناهم، والثانية زائدة.
والمعنى: ما نقصناهم من عملهم شيئًا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبنائهم، فتنتقص مثوبتهم، وتنحط درجتهم. وإنما رفعناهم إلى درجتهم ومنزلتهم بمحض الفضل والإحسان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾ بفتح اللام، من ألات. والحسن، وابن كثير بكسرها. وابن هرمز ﴿آلتناهم﴾ بالمد، من آلت على وزن أفعل. وابن مسعود، وأبي ﴿لتناهم﴾ من لات. وهي قراءة طلحة، والأعمش. ورويت عن شبل، وابن كثير، وعن طلحة، والأعمش أيضًا ﴿لتَنْاهم﴾ بفتح اللام. قال سهل لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال. وأنكر أيضًا آلتناهم بالمد كما قرأ ابن هرمز. وقال: لا يروى عن أحد، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية. وليس كما ذكر بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد. وقرىء ﴿وما ولتناهم﴾ ذكره ابن هارون. قال ابن خالويه: فيكون الحرف هنا من لات يليت، وولت يلت، وألت يألت، وألات يليت ويؤلت. وكلها بمعنى نقص. ويقال: ألت بمعنى غلظ. نقد قام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه فقال رجل: لا تألت أمير المؤمنين؛ أي: لا تغلظ عليه.
والمعنى (٢): أي وما أنقصنا مثوبات الآباء، وحططنا درجاتهم، بل رفعنا منزلة الأبناء تفضلًا منّا وإحسانًا.
وبعد أن أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذريّة إلى منزلة الآباء من غير عمل لهم.. أخبر عن مقام العدل. وهو أن لا يؤاخذ أحد بذنب أحد فقال: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾؛ أي: كل امرىء مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبًا أو ابنًا. وقد جعل العمل كأنه دين، والمرء كأنه رهن به. والرهن لا ينفك ما لم يؤد الدين. فإن كان العمل صالحًا.. فقد أدى الدين؛ لأنّ العمل الصالح يقبله الله سبحانه ويصعد إليه، وإن كان غير صالح فلا أداء ولا خلاص. إذ لا يصعد إليه غير الطيب. ونحو الآية قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
59
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩)}؛ أي: إنّ كل نفس رهن بعملها عند الله، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين. فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطاعوه من عملهم وكسبهم. والرهن (١): ما يوضع وثيقة للدَّين. ولما كان الرهن يتصور منه حبسه أستعير ذلك للمحتبس، أيَّ شيء كان. وقال ابن الشيخ: ﴿ما﴾ مصدرية. والفعيل بمعنى المفعول، والعمل الصالح بمنزلة الدين الثابت على المرء، من حيث أنه مطالب به. ونفس العبد مرهونة به. فكما أن المرتهن ما لم يصل إليه الدين لا ينفك منه الرهن كذلك العمل الصالح ما لم يصل إلى الله لا تتخلص نفس العبد المرهونة.
فالمعنى: كل امرىء مرهون عند الله بالعمل الصالح الذي هو دين عليه. فإن عمله، وأداه كما هو المطلوب منه فك رقبته من الركن، وإلّا أهلكها.
وفي الآية: وجه آخر، وهو أن يكون الرهين فعيلًا بمعنى فاعل. فيكون المعنى: كل امرىء بما كسب راهن دائم ثابت مقيم. إن أحسن.. ففي الجنة مؤبّدًا، وإن أساء.. ففي النار مخلَّدًا؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان. فإنّ العرَض لا يبقى إلا في جوهر، ولا يوجد إلا فيه. وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال. فإنّ الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات، وما عند الله باق. والباقي من الأعيان يبقى ببقاء عمله.
قال في "الإرشاد": وهذا المعنى أنسب بالمقام. فإنّ الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله. ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء. فالجملة تعليل لما قبلها، انتهى.
٢٢ - وبعد أن ذكر وجوه النعيم فيما سلف ذكر أنّه يزيدهم على ذلك حينًا فحينًا مما يشتهون من فنون النعماء، فقال: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ﴾؛ أي: زدناهم على ما كان لهم من النعيم ﴿بِفَاكِهَةٍ﴾ متنوعة كثيرة. والفاكهة: هي الثمار كلها. والتنوين فيها للتكثير؛ أي: بفاكهة لا تنقطع كلما أكلوا ثمرة عاد مكانها مثلها. ﴿وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾؛ أي: من اللحوم التي يشتهونها ويستطيبونها، وإن لم يقترحوا ولم يطلبوا.
والمعنى: وزدناهم عل ما كان من مبادي التنعم وقتًا فوقتًا مما يشتهون من
(١) روح البيان.
فنون النعماء، وضروب الآلاء. وذلك أنه تعالى لما قال: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ ونفى النقصان يصدق بإيصال المساوى دفع هذا الاحتمال بقوله: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ﴾؛ أي: ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة على ثواب أعمالهم، والإمداد لهم.
و ﴿ما﴾ (١) في ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ للعموم لأنواع اللحوم. وفي الخبر: "إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخرُّ بين يديك مشويًّا". وقيل: يقع الطائر بين يدي الرجل في الجنة فيأكل منه قديدًا ومشويًّا، ثم يطير إلى النهر. وذكر الفاكهة واللحم دون أنواع الطعام الأخرى؛ لأنهما طعام المترفين في الدنيا.
٢٣ - وبعد أن ذكر طعامهم أردفه بذكر شرابهم، وسرورهم لدى إحتسائهم له، فقال: ﴿يَتَنَازَعُونَ﴾؛ أي: يتعاطون ﴿فِيهَاَ﴾؛ أي: في الجنات، ويتداولون هم وجلساؤهم بكمال رغبة واشتياق. كما ينبىء عنه التعبير بالتنازع الذي هو التعاطي والتداول على طريق التجاذب. يعني: تجاذب الملاعبة لفرط السرور والمحبّة. وفيه نوع لذة. إذ لا يتصور في الجنة التنازع بمعنى التخاصم.
﴿كَأْسًا﴾؛ أي: يتعاطون ويتناولون فيها كؤوسًا من خمر، ويتجاذبونها هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل الندامى في الدنيا فيما بينهم لشدّة سرورهم. والكأس: قدح فيه شراب، ولا يسمى كأسًا إلا إذا كان فيه شراب، كما لا يسمّى مائدة إلا إذا كان فيه طعام.
والمعنى (٢): ﴿كَأْسًا﴾؛ أي: خمرًا تسمية لها باسم محلها.
ولما كانت الكأس مؤنثة مهموزة أنّث الضمير في قوله: ﴿لَا لَغْوٌ﴾؛ أي: لا باطل من الكلام؛ ولا ساقط منه. ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في شرب تلك الكأس. فلا يتكلّمون في أثناء الشرب بلغو الحديث، وسقط الكلام.
قال الراغب: اللغو من الكلام: ما لا يُعتدّ به. وهو الذي يورد لا عن روية وفكر. فيجري مجرى اللغا. وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. ﴿وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ في شربها؛ أي: لا يفعلون ما يأثم به فاعله؛ أي: ينسب إلى الإثم لو فعله في دار
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
التكليف من الكذب، والسبّ، والفواحش. كما هو ديدن المنادمين في الدنيا. وإنما يتكلّمون بالحِكَم وأحاسن الكلام، ويفعلون ما يفعله الكرام؛ لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة.
قرأ الجمهور (١): ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ بالرفع، والتنوين فيهما. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وأبو عمرو بفتحهما من غير تنوين. ومعنى ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا﴾؛ أي: لا فضول من الكلام فيها. ﴿وَلَا تَأْثِيمٌ﴾؛ أي: لا سِبَابَ ولا تَخاصم فيها. وقد أخبر سبحانه في موضع آخر عن حسن منظرها، وطيب مطعمها، فقال: ﴿بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)﴾، ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧)﴾، وقال: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩)﴾.
٢٤ - ثم ذكر ما لهم من خدم وحشم في الجنّة، فقال: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ أي: يدور على أهل الجنة بالكؤوس، والفواكه، والأطعمة. من الطواف. وهو المشي حول الشيء. ومنه الطائف لمن يدور حول البيت. وقال هنا، وفي الإنسان: ﴿وَيَطُوفُ﴾ بالواو. حيث قال في الإنسان: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ لأنه معطوف على ما قبله. وقال في الواقعة بلا واو، حيث قال: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ﴾. لأنّه حال أو خبر بعد خبر، انتهى "فتح الرحمن".
﴿غِلْمَانٌ لَهُمْ﴾ أي: مماليك مخصوصون بهم. ولم يضفهم (٢) بأن يقول: غلمانهم؛ لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا، فيشفق كل من خدم أحدًا في الدنيا أن يكون خادمًا له في الجنة، فيحزن لكونه لا يزال تابعًا. وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنّة؛ وجد له خدم لم يعرفهم، كما في "حواشي سعدي المفتي".
وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ...﴾ إلخ، حال من ﴿غلمان﴾. لأنّهم قد وصفوا؛ أي: كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء ﴿لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾؛ أي: درّ مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي. من كننت الشيء إذا سترته، وصنته من الشمس؛ لأنّه رطبا أحسن، وأصفى إذ لم تمسه الأيدي، ولم يقع عليه غبار. أو لؤلؤ مخزون؛ لأنه لا يخزن إلَّا الثمين الغالي القيمة.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
قيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر لية البدر على سائر الكواكب". أخرجه ابن جرير، وابن المنذر. وعنه - ﷺ -: "إنّ أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبّيك لبيك".
والمعنى (١): أي ويطوف عليهم بالكؤوس مماليك لهم يتصرّفون فيهم بالأمر والنهي والاستخدام، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في الأصداف في الحسن، والبهاء. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨)﴾.
٢٥ - ثمّ بيّن أنهم في الجنة يتذاكر بعضهم مع بعض في أحوال الدنيا، فقال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾؛ أي: بعض أهل الجنة ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ آخر، حال كونهم ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ أي: يسأل كل بعض منهم بعضًا آخر عن أحواله، وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله سبحانه من الكرامة. وذلك تلذّذًا واعترافًا بالنعمة العظيمة على حسب الوصول إليها على ما هو عادة أهل المجلس يشرعون في التحادث ليتمَّ به اشتئناسهم. فيكون كل بعض سائلًا ومسؤولًا، لا أنه يسأل بعض عين منهم بعضًا آخر معيّنًا.
أي (٢): يسأل بعضهم بعضًا في الجنة عن حاله، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن، والخوف، والهمِّ، وما كانوا فيه من الكدِّ والنكدِ بطلب المعاش، وتحصيل ما لا بدَّ منه من الرزق. وقيل: يقول بعضهم لبعض: بم صِرتم في هذه المنزلة الرفيعة؟ وقيل: إنّ التساؤل بينهم عند البعث من القبور. والأوّل أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة.
٢٦ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا...﴾ إلخ، مستأنفة استئنافًا بيانيًا. كأنَّه قيل: ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل؟ فقيل: قالوا؛ أي: المسؤولون. وهم كل واحد منهم في الحقيقة: ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿قَبْلُ﴾؛ أي: قبل دخول الجنة ﴿فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾؛ أي: خائفين، وجلين من عذاب الله تعالى. أو كنا خائفين من عصيان الله معتنين بطاعة الله. قيّد (٣) بقوله: ﴿فِي أَهْلِنَا﴾ فإنّ كونهم بين أهليهم مظنة الأمن. فإذا
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
خافوا في تلك الحال فلأن يخافوا في سائر الأحوال والأوقات أولى.
يقول الفقير: الظاهر أنَّ هذا الكلام وارد على عرف الناس. فإنهم يقولون: شأننا بين قومنا وقبيلتنا كذا. فهم كانوا في الدنيا بين قبائلهم وعشائرهم على صفة الإشفاق. وفيه تعريض بأن بعض أهليهم لم يكونوا على صفتهم، ولذا صاروا محرومين. ويدلّ (١) على هذا أنّ الأهل يفسّر بالأزواج، والأولاد، وبالعبيد والإماء، وبالأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع. كما في "شرح المشارق لابن الملك".
أخرج البزّار عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدّثان، فيتكيء ذا ويتكىء ذا، فيتحدثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان أتدري أي يوم غفر الله لنا اليوم الذي كنّا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا، ثم فصل ما يجيب به بعضهم بعضا، فقال: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ﴾ في الدنيا، ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه.
٢٧ - ﴿فَمَنَّ الله﴾ سبحانه؛ أي: تفضل وأنعم ﴿عَلَيْنَا﴾ بالمغفرة والرحمة، أو بالهداية والتوفيق لطاعته.
يقول الفقير: الظاهر: أنّ المنَّ والإنعامَ إنَّما هو بالجنة ونعيمها، كما دلّ عليه قوله: ﴿وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾؛ أي: (٢) حفظنا من عذاب النار النافذة في المسامّ؛ أي: ثقب الجسد كالمنخر، والفم، والأذن نفوذ السموم. وهي الريح الحارّة التي تدخل المسام. فأطلق على جهنم لنفوذ حرّها في المسام كالسموم. وقرأ أبو حيوة ﴿ووقّانا﴾ بتشديد القاف.
روي: أنَّ عائشة قالت: لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها.
٢٨ - ثم تمموا العلة في استحقاقهم للكرامة في تلك الدار بقولهم: ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل لقاء الله سبحانه، والمصير إليه ﴿نَدْعُوهُ﴾، أي:
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
نعبده، ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب دعائنا، وأعطانا سؤلنا. ﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾؛ أي: لأنّه هو المحسن الكثير الرحمة الواسع الفضل الذي إذ عُبد أثاب، وإذا سئل أجاب. وكل من المؤمن والكافر لا ينسى ما كان له في الدنيا. وتزداد لذّة المؤمن إذا رأى نفسه قد انتقلت من سجن الدنيا إلى نعيم الجنة، ومن الضيق إلى السعة. وتزداد آلام الكافر إذا رأى نفسه انتقل من الترف إلى التلف، ومن النعيم إلى الجحيم.
وقرأ الحسن وأبو جعفر، ونافع، والكسائي (١): ﴿أنه﴾ بفتح الهمزة؛ أي: لأنّه. وقرأ باقي السبعة ﴿إِنَّهُ﴾ بكسر الهمزة. وهي قراءة الأعرج، وجماعة، وفيها معنى التعليل.
٢٩ - والفاء في قوله: ﴿فَذَكِّرْ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر تقديره: إذا عرفت يا محمد أن في الوجود قوما يخافون الله سبحانه، ويشفقون في أهليهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: أثبت ودم على ما أنت عليه من تذكير المشركين بما أنزل إليك من الآيات والذكر الحكيم، ولا تكثرت بحسب يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل.
﴿فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ﴾؛ أي: بسبب إنعام الله عليك بالنبوّة، ورجاحة العقل ﴿بِكَاهِنٍ﴾؛ أي: بمخبر عن المغيبات بلا وحي. ﴿وَلَا مَجْنُونٍ﴾؛ أي: ولا زائل عقل، ولا فاسده. والباء (٢) متعلقة بمحذوف هو حال؛ أي: ما أنت متلبّسًا بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل بكاهن ولا مجنون. وقيل: متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام؛ أي: ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون. وقيل: الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية.
والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك. كما تقول: ما أنا بمعسر بحمد الله. وقيل: الباء للقسم متوسطة بين اسم ﴿ما﴾ وخبرها. والتقدير: ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون. والكاهن: هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي؛ أي: ليس ما تقوله كهانة. فإنك إنما تنطق بالوحي الذي
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
أمرك الله بإبلاغه. والمقصود من الآية: ردّ ما يقوله المشركون: إنه كاهن أو مجنون.
والمعنى: أي (١) فذكر أيها الرسول من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم، وعظهم بالآيات والذكر الحكيم، ولا تكثرت بما يقولون فيك من الأكاذيب. وقد انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك. والمقصود بذلك: الرد على القائلين بذلك، وإبطاله. فإن ما أوتيته من رجاحة العقل، وعلو الهمة، وكرم الفعال، وصدق النبوّة لكاف جد الكفاية في دحض هذا، وأشباهه. وممن قال: إنه كاهن: شيبة بن ربيعة. وممن قال: إنه مجنون: عقبة بن أبي معيط.
٣٠ - ثم ذكر أنهم ترقوا في الإنكار عليه، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ و ﴿أَمْ﴾ (٢) المكرّرة في هذه الآيات منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة الاستفهام. وقال في "برهان القرآن": أعاد أم خَمْس عَشْرَةَ مرّة. وكلّها إلزامات وليس للمخاطبين بها عنها جواب. وفي "عين المعاني": ﴿أَمْ﴾ هاهنا خمسة عشر. وكلّها استفهام. أربعة للتحقيق والتقرير مع التوبيخ بمعنى بل:
١ - ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ﴾.
٢ - ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ وقد قالوها.
٣ - ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾.
٤ - ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا﴾. وقد فعلوهما. وسائرها للإنكار.
وفي "فتح الرحمن": جميع ما في هذه السورة من ذكر ﴿أم﴾ استفهام غير عاطفة. واستفهم تعالى مع علمه بهم تقبيحًا عليهم وتوبيخًا لهم، كقول الشخص لغيره: أجاهل أنت؟ مع علمه بجهله؛ أي: بل أيقول كفّار مكة: هو؛ أي: محمد - ﷺ - ﴿شَاعِرٌ﴾ يتقوّل الكلام من تلقاء نفسه. وصفوه بالشعر؛ لأنهم يعدُّون الشعر دناءة. لأنّ الشعر كان مكسبة وتجارة. وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم، والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم. ومما يدل على شرف النثر أنَّ الإعجاز وقع في النثر دون النظم؛ لأنّ زمن النبيّ - ﷺ - زمن الفصاحة.
فإن قلت: فإذا كان الإعجاز واقعًا في النثر، فكيف قالوا في حقّ القرآن: شعر، وفي حقّه - ﷺ -: شاعر؟
قلت: ظنوا أنه - ﷺ - كان يرجو الأجر على التبليغ. ولذا قال تعالى: {قُلْ مَا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}. فكان - ﷺ - عندهم بمنزلة لشاعر، حيث إنّ الشاعر إنما يستجلب بشعره في الأغلب المال، وأيضًا لمّا كانوا يعدون الشعر دناءة حملوا القرآن عليه. ومرادهم عدم الإعتداد به.
قال ابن الشيخ: قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ إلخ، من باب الترقي إلى قولهم فيه: "إنه شاعر". لأنّ الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون. وقد قيل: أحسن الشعر أكذبه. وكانوا يقولون لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره. وإنا نصبر ونتربص موته وهلاكه كما هلك من قبله من الشعراء. وحينئذٍ تتفرق أصحابه، وإن أباه مات شابًّا، ونحن نرجوا أن يكون موته كموت أبيه.
وذلك قوله تعالى: ﴿نَتَرَبَّصُ﴾؛ أي: ننتظر ﴿بِهِ﴾؛ أي: بذلك الشاعر. والجملة صفة لشاعر. ﴿رَيْبَ الْمَنُونِ﴾؛ أي: تقلبات الزمان، وحوادث الدهر، ونزول الموت. فإنه إن كان شاعرًا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه، فيتبين كساد شعره.
وقد سبق آنفًا أنَّ ﴿أَمْ﴾ هنا بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري.
والمعنى: أي بل قال كفّار قريش: هو شاعر نتربّص، وننتظر به نوائب الدهر. فيهلك كما هلك غيره من الشعراء: زهير، والنابغة، وطرفة، وغيرهم. أو ننتظر به الموت كما مات أبوه شابًّا. وذلك كما تتمنى الصبيان في المكتب موت معلمهم ليتخلصوا من يده، فويل لمن أراد هلاك معلمه في الدين، وكان محرومًا من تحصيل اليقين.
روي: أنّ قريشًا اجتمعت في دار الندوة، وذهبت مذاهب شتى في صدّ دعوته - ﷺ -، ومقابلة هذا الخطر الداهم عليهم، وماذا يفعلون في الخلاص منه. فقال قائل من بني عبد الدار: تربصوا به ريب المنون. فإنّه شاعر، وسيهلك كما هلك زهير، والنابغة، والأعشى. ثم افترقوا على هذه المقالة. فنزلت الآية.
وخلاصة هذا: أنا نبتعد من إيذائه، ونتقي لسانه مخافة أن يغلبنا بقوّة شعره. وإنما سبيلنا معه أن نصبر عليه، ونتربص موته كما مات الشعراء من قبله.
٣١ - فأمره الله سبحانه أن يهددهم، ويتهكم بهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد جوابًا لهم ﴿تَرَبَّصُوا﴾؛ أي: انتظروا وتمهلوا في ريب المنون. وهذا أمر تهديد. ﴿فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾؛ أي: فإني متربص منتظر معكم قضاء الله سبحانه فيَّ وفيكم،
وستعلمون لمن تكون له حسن العاقبة، والظفر في الدنيا والآخرة. وفي هذا عِدَةٌ كريمة بإهلاكهم.
قرأ الجمهور (١): ﴿نَتَرَبَّصُ﴾ بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين. وقرأ زيد بن عليّ ﴿يتربص﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، ﴿ريب المنون﴾ بالرفع على النيابة.
وقد أهلكوا قبل رسول الله - ﷺ - في يوم بدر، وفي غيره من الأيّام. وقيل (٢): إنَّ معنى الآية: إني أخاف الموت، ولا أتمناه لا لنفسي، ولا لأحد، وإنما أنا نذير فتربصوا موتي، وأنا متربصه. ولا يسرنكم ذلك لعدم حصول ما تتمون بعدي.
٣٢ - ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ﴾؛ أي: بل أتأمرهم ﴿أَحْلَامُهُمْ﴾؛ أي: عقولهم السخيفة السفيهة ﴿بِهَذَا﴾ المقال المتناقض، حيث قالوا في حقّ الرسول: هو كاهن مجنون شاعر. فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة، ودقة نظر في الأمور، والمجنون مغطى عقله مختل فكره، والشاعر ذو كلام موزون، متسق، مخيل فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في رجل واحد. فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون (٣). وفرق عظيم بين من زال عقله، ومن يقول الشعر الحكيم الرصين، ومن يجعل قوله حجة في معرفة أخبار الغيب، ويعقد أن الجن توحي إليه بما يقول.
وقصارى هذا: أنهم لا أحلام لهم ولا عقول، فدع تفوههم بهذه الأقوال الزائغة المتناقضة. وفي الآية إشارة إلى التربص في الأمور، ودعوة الخلق إلى الله تعالى، والتوكل على الله فيما يجري على عباده، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين. إذ كل يجري على ما قضاه الله تعالى.
ثم ذكر السبب الحق في كل ما يعملون، فقال: ﴿أَمْ هُمْ﴾؛ أي: بل أهم ﴿قَوْمٌ طَاغُونَ﴾؛ أي: مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد مع ظهور الحقّ، لا يحومون حول الرشد والسداد. ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب الخارجة عن دائرة العقول والظنون، أي: بل الحق أن الذي حملهم على أن يقولوا ما قالوا هو طغيانهم، وعنادهم، وضلالهم عن الحق. وقرأ مجاهد (٤) ﴿بل هم﴾ مكان ﴿أم هم﴾.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
٣٣ - ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ محمد - ﷺ -؛ أي: اختلق القرآن من تلقاء نفسه. ثم قال: إنه من عند الله افتراء عليه تعالى، وليس الأمر كما زعموا. ﴿بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ البتة؛ لأن الله سبحانه ختم على قلوبهم. وفي "الإرشاد": فلكفرهم وعنادهم يرمونه بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحد بطلانها، كيف لا وما رسول الله - ﷺ - إلا واحد من العرب، أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم، وفي كون ذلك مبنيًا على العناد إشارة إلى أنهم يعلمون بطلان قولهم، وتناقضه؛ أي: إنَّ كفرهم هو الذي حملهم على هذه المطاعن، وزين لهم أن يقولوا ما قالوا.
٣٤ - ثم رد عليهم جميع ما زعموا، وتحداهم في دحض ما قالوا، فقال: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ والفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره؛ أي: (١) إذا كان الأمر كما زعموا من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر، ادّعى الرسالة وتقول القرآن من عند نفسه، فليأتوا بكلام مثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم، ومن حيث المعنى.
قال في "التكملة": والمشهور عند القراء ﴿بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ بتنوين حديث، فيكون الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ راجعًا إلى القرآن. وقرأ الجحدري (٢)، وأبو السمال ﴿بحديث مثله﴾ بالإضافة، فيكون الضمير راجعًا إلى الرسول - ﷺ -؛ أي (٣): بحديثِ رجل مثل الرسول في كونه أميًّا لم يصحب أهل العلم، ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدًا منهم. فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة فليأت بمثل ما أتى به، ولن يقدر على ذلك أبدًا.
﴿إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ فيما زعموا. فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضيّة مشاركتهم له - ﷺ - في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب، والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام. ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به، ودواعي الأمر بذلك.
والمعنى (٤): أي إن كان شاعرًا.. فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهنًا..
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
69
فلديكم الكهان الأذكياء، وإن كان قد تقوله.. فلديكم الخطباء الذين يحبرون الخطب، ويجيدون القول في كل فنون الكلام. فهلم فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون؛ فإن أسباب القول متوافرة لديهم كما هي متوافرة لديه، بل فيهم من طالت مزاولته للخطب والأشعار، وممارسته لأساليب النظم والنثر، وحفظ أيام العرب، ووقائعها أكثر من محمد - ﷺ -.
فائدة: وأعلم أن الإعجاز إما أن يتعلق بالنظم من حيث فصاحته وبلاغته، أو يتعلق بمعناه، ولا يتعلق به من حيث مادته. فإن مادته ألفاظ العرب، وألفاظه ألفاظهم. قال تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ تنبيهًا على اتحاد العنصر، وأنه منظم من عين ما ينظمون به كلامهم. والقرآن معجز من جميع الوجوه لفظًا ومعنى، ومتميز من خطبة البلغاء ببلوغه حد الكمال في أثنى عشر وجهًا. إيجاز اللفظ، والتشبيه الغريب، والاستعارة البديعية، وتلاؤم الحروف والكلمات، وفواصل الآيات، وتجانس الألفاظ، وتعريف القصص والأحوال، وتضمين الحكم والأسرار، والمبالغة في الأسماء والأفعال، وحسن البيان في المقاصد والأغراض، وتمهيد المصالح والأسباب، والإخبار عما كان وما يكون.
الإعراب
﴿وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)﴾.
﴿وَالطُّورِ (١)﴾ ﴿الواو﴾ حرف جر وقسم، ﴿الطور﴾ مجرور بالواو، الجار والمجرور متعلق بفعل قَسَمٍ محذوفٍ وجوبًا، تقديره: أقسم بالطور إنّ عذاب ربّك لواقع. ﴿وَكِتَابٍ﴾ معطوف على ﴿الطور﴾، ﴿مَسْطُورٍ﴾ صفة كتاب، ﴿فِي رَقٍّ﴾ متعلق بـ ﴿مَسْطُورٍ﴾. ﴿مَنْشُورٍ﴾ صفة ﴿رَقٍّ﴾. ﴿وَالْبَيْتِ﴾ معطوف على ﴿الطور﴾، أو كل منها قسم مستقل بنفسه، وجوابه جميعًا قوله: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ﴾. ﴿الْمَعْمُورِ﴾ صفة لـ ﴿الْبَيْتِ﴾، ﴿وَالسَّقْفِ﴾ معطوف على ﴿الطور﴾ أيضًا، ﴿الْمَرْفُوعِ﴾ صفة لـ ﴿السقف﴾، ﴿وَالْبَحْرِ﴾ معطوف على ﴿وَالطُّورِ (١)﴾، ﴿الْمَسْجُورِ﴾ صفة لـ ﴿الْبَحْرِ﴾، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿عَذَابَ﴾ اسمها، ﴿رَبِّكَ﴾ مضاف إليه، ﴿لَوَاقِعٌ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿وَاقِعٌ﴾ خبر ﴿إنّ﴾. وجملة إنّ جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة
70
القسم مستأنفة. ﴿مَا﴾. نافية، ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿دَافِعٍ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ثان لـ ﴿إن﴾.
﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤)﴾.
﴿يَوْم﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿واقع﴾؛ أي: يقع العذاب في ذلك اليوم. وتكون جملة النفي معترضة بين العامل ومعموله. وقيل: الظرف متعلق بـ ﴿دَافِعٍ﴾. ﴿تَمُورُ السَّمَاءُ﴾ فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿مَوْرًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على جملة ﴿تَمُورُ السَّمَاءُ﴾، ﴿سَيْرًا﴾ مفعول مطلق. ﴿فَوَيْلٌ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت وقوع العذاب في ذلك اليوم، وأردت بيان حال هؤلا. المكذبين لك.. فأقول لك: ويل للمكذبين لك. ﴿ويل﴾ مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة تضمنه معنى الدعاء. ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية، تعلق بـ ﴿ويل﴾، ﴿يَوْمَ﴾ مضاف، ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر، مضاف إليه، مبنيّ بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلّص من التقاء الساكنين لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا. ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ جار ومجرور، خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿فِي خَوْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَلْعَبُونَ﴾، وجملة ﴿يَلْعَبُونَ﴾ خبر المبتدأ. والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ﴾ الظرف فيه بدل من ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩)﴾، أو بدل من ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، ﴿يُدَعُّونَ﴾ فعل، ونائب فاعل. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُدَعُّونَ﴾، ﴿دَعًّا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿هَذِهِ﴾ مبتدأ، ﴿النَّارُ﴾ خبره. والجملة في محل الرفع نائب فاعل، محكي لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: هذه النار، ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿النَّارُ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾. وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ خبر كان، وجملة كان صلة الموصول.
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا
71
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)}.
﴿أَفَسِحْرٌ﴾ الهمزة للاستفهام الانكاري، داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أكنتم تقولون للوحي هذا سحر فسحر هذا؟ والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿سِحْرٌ﴾ خبر مقدم، ﴿هَذَا﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة الإنكار، ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا تُبْصِرُونَ﴾ خبره. والجملة مستأنفة؛ لأنّ الكلام الأول تمّ عند قوله: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا﴾. ويجوز أن تكون متصلة؛ أي: ليس شىء منهما ثابتًا، فثبت أنكم قد بعثتم وجوزيتم بأعمالكم، وأنّ الذي ترونه حق. فهو تقريع شديد، وتهكّم فظيع. وبعد هذا التقريع يقال لهم: اصلوها الخ. ﴿اصْلَوْهَا﴾ فعل أمر، وفاعل، ومفعول به. والجملة في محل النصب، مقول للقول المحذوف. ﴿فَاصْبِرُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿اصبروا﴾ فعل أمر وفاعل، والجملة معطوفة على ﴿اصْلَوْهَا﴾، ﴿أو﴾ حرف عطف، ﴿لَا﴾ ناهية جازمة، ﴿تَصْبِرُوا﴾ فعل، وفاعل مجزوم بلا الناهية. والجملة معطوفة على ﴿اصبروا﴾. ﴿سَوَاءٌ﴾. خبر لمبتدأ محذوف، أي: صبركم وعدم صبركم مستويان. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿سَوَاءٌ﴾. والجملة مقول للقول المحذوف. ونحا الزمخشري إلى إعرابها مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: سواء عليكم الأمران، وتبعه أبو حيان. ولا مانع من ذلك؛ لأن ما في سواء من معنى التسوية أفادها فائدة سوَّغت إعرابها مبتدأ. ﴿إِنَّمَا﴾ كافة ومكفوفة، ﴿تُجْزَوْنَ﴾ فعل مضارع، مغير الصيغة، ونائب فاعل، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول ثان لـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾. والجملة الفعلية مقول للقول المحذوف على كونها معللة لما قبلها. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره. وجملة كان صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: ما كنتم تعملونه.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)﴾.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ خبره، ﴿وَنَعِيمٍ﴾ معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان بشرى المتقين. ﴿فَاكِهِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿فَاكِهِينَ﴾؛ ﴿آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: إيّاه. والجملة صلة لـ ﴿ما﴾
72
الموصولة. ويصح أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: بإيتاء ربهم إياهم. ﴿وَوَقَاهُمْ﴾ معطوف على الصلة؛ أي: بإيتاء ربهم وبوقايته لهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الجملة حالًا، ولكن بتقدير قد. ﴿رَبُّهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ مفعول ثان، ﴿كُلُوا﴾ فعل أمر، وفاعل. والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقال لهم: كلوا. ﴿وَاشْرَبُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿كُلُوا﴾، ﴿هَنِيئًا﴾ حال من الفاعل؛ أي: مهنّئين، أو مفعول مطلق؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئين. ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾، أو ﴿اشْرَبُوا﴾. وجملة ﴿كُنْتُمْ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبر كان.
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)﴾.
﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾؛ أي: كائنون في جنات حال كونهم متكئين، أو من فاعل ﴿كلوا﴾، أو من مفعول ﴿اتاهم﴾، أو من مفعول ﴿وقاهم﴾. ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ﴿مَصْفُوفَةٍ﴾ صفة ﴿سُرُرٍ﴾، ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿زوجناهم﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على خبر ﴿إن﴾. أعني: في جنات. فهو خبر آخر. ﴿بِحُورٍ﴾ متعلق بـ ﴿زوجناهم﴾. وزوّج يتعدّى إلى المفعولين بنفسه. وعدي إلى الثاني هنا بالباء لتضمينه معنى قرنّاهم. ﴿عِينٍ﴾ صفة ﴿حور﴾، ﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلته، ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ﴾ فعل ومفعول به، ﴿ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ فاعل. والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِإِيمَانٍ﴾ حال من الذريّة، أي: حالة كون الذرية متلبسة بإيمان. ﴿أَلْحَقْنَا﴾ فعل وفاعل، ﴿بِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَلْحَقْنَا﴾، ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مفعول به. والجملة في محل الرفع خبر ﴿الَّذِينَ﴾. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ﴾. ﴿مِنْ عَمَلِهِمْ﴾ حال ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: ﴿مِن﴾ زائدة؛ ﴿شَيْءٍ﴾ مفعول ثان لـ ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾. ﴿كُلُّ امْرِئٍ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، ﴿بِمَا﴾ الباء حرف جر، ﴿ما﴾ موصولة أو مصدرية، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَهِينٌ﴾؛ ﴿كَسَبَ﴾ فعل ماض و ﴿رَهِينٌ﴾ خبر ﴿كُلُّ﴾. والجملة الاسمية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
73
﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣)﴾.
﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿أَلْحَقْنَا﴾. ﴿بِفَاكِهَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿أمددنا﴾، ﴿وَلَحْمٍ﴾ معطوف على ﴿فَاكِهَةٍ﴾، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، صفة لـ ﴿لحم﴾، وجملة ﴿يَشْتَهُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: مما يشتهونه ﴿يَتَنَازَعُونَ﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة أو حال من مفعول ﴿أَمْدَدْنَاهُمْ﴾ ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَتَنَازَعُونَ﴾ ﴿كَأْسًا﴾ مفعول به. ومعنى يتازعون كأسًا: يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما مر. إذ أهل الدنيا لهم لذة في ذلك. وقيل: معناه: يتعاطونها. ﴿لَا﴾ نافية للجنس مهملة لتكرّرها، ﴿لَغْوٌ﴾ مبتدأ، خبره ﴿فِيهَا﴾، وسوغ الابتداء تقدّم النافي عليها. والجملة الاسمية في محل النصب، صفة لـ ﴿كَأْسًا﴾. ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لَا﴾ زائدة زيدت لتأكيد ﴿لا﴾ الأولى، ﴿تَأْثِيمٌ﴾ معطوف على ﴿لَغْوٌ﴾.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥)﴾.
﴿وَيَطُوفُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿يطوف﴾ فعل مضارع، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، ﴿غِلْمَانٌ﴾ فاعل، ﴿لَهُمْ﴾ صفة لـ ﴿غِلْمَانٌ﴾. والجملة معطوفة على ﴿يَتَنَازَعُونَ﴾. ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿لُؤْلُؤٌ﴾ خبره، ﴿مَكْنُونٌ﴾ صفة ﴿لُؤْلُؤٌ﴾، وجملة ﴿كأن﴾ صفة ثانية لـ ﴿غِلْمَانٌ﴾، أو حال منه. ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿يَتَنَازَعُونَ﴾، ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿أَقْبَلَ﴾، وجملة ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ حال من الفاعل، ومن المجرور بـ ﴿عَلَى﴾.
﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿إنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿قَبْلُ﴾ في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على الضم لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف، والظرف متعلق بمحذوف حال من اسم كان. ﴿فِي أَهْلِنَا﴾ متعلق بـ ﴿مُشْفِقِينَ﴾، و ﴿مُشْفِقِينَ﴾ خبر
74
كان. وجملة كان في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَمَنَّ اللَّهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿من الله﴾ فعل، وفاعل. والجملة في محل الرفع، معطوفة على جملة كان. ﴿عَلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿مَنَّ﴾، ﴿وَوَقَانَا﴾ فعل، ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿عَذَابَ السَّمُومِ﴾ مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة ﴿من الله﴾.
﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كُنَّا﴾ في محل الرفع خبر إنّ، وجملة إن في محل النصب، مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من اسم كان. ﴿نَدْعُوهُ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل، ﴿الْبَرُّ﴾ خبر أول لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿الرَّحِيمُ﴾ خبر ثان له، وجملة إنّ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معللة لما قبلها. ﴿فَذَكِّرْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن في عباد الله مشفقين، وأردت بيان ما هو اللازم لك... فأقول لك. ﴿ذَكِّرْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية، ﴿ما﴾ نافية حجازية، ﴿أَنتَ﴾ في محل الرفع، اسمها، ﴿بِنِعْمَتِ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بما في ما من معنى النفي، فتكون الباء سببية. وهذا أرجح الأوجه الجارية هنا. والمعنى: انتفت عنك الكهانة، والجنون بسبب نعمة ربك عليك. وقال أبو البقاء: إنّ الباء في موضع نصب على الحال، والعامل فيها ﴿بِكَاهِنٍ﴾ أو ﴿مَجْنُونٍ﴾. والمعنى: ما أنت كاهنًا ولا مجنونًا حال كونك متلبسًا بنعمة ربك. وقيل غير ذلك. ﴿بِكَاهِنٍ﴾ الباء زائدة، ﴿كاهن﴾ خبر لما الحجازية، ﴿وَلَا مَجْنُونٍ﴾ معطوف عليه. وجملة ما الحجازية جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري كما مر. ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿شَاعِرٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو شاعر. والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾، وجملة ﴿نَتَرَبَّصُ﴾ صفة لـ
75
﴿شَاعِرٌ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿نَتَرَبَّصُ﴾، ﴿رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ مفعول به. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿تَرَبَّصُوا﴾ فعل أمر، وفاعل. والجملة في محل النصب مقول قل. ﴿فَإِنِّي﴾ ﴿الفاء﴾ تعليل للأمر المقصود به التهديد، ﴿إني﴾ ناصب واسمه، ﴿مَعَكُمْ﴾ حال من اسم إن. ﴿مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ خبر إنّ، وجملة إنّ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ على كونها تعليلية للأمر المقصود به التهديد.
﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤)﴾.
﴿أَمْ﴾: حرف إضراب بمعنى بل، وهمزة الاستفهام، ﴿تَأْمُرُهُمْ﴾ فعل، ومفعول به، ﴿أَحْلَامُهُمْ﴾ فاعل، ﴿بِهَذَا﴾ متعلق بـ ﴿تَأْمُرُهُمْ﴾. والجملة استفهامية إضرابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَمْ﴾ حرف عطف، ﴿هُمْ قَوْمٌ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿طَاغُونَ﴾ صفة ﴿قَوْمٌ﴾. والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة إلاستفهام التقريري، ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿تَقَوَّلَهُ﴾ فعل، وفاعل، مستتر، ومفعول به. والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب، ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿فَلْيَأْتُوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يقولون تقوّله، وأردت بيان ما هو اللازم لهم... فأقول لك فليأتوا إلخ. واللام لام الأمر، ﴿يأتوا﴾ فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والواو فاعل، ﴿بِحَدِيثٍ﴾ متعلق بـ ﴿يأتوا﴾، ﴿مِثْلِهِ﴾ صفة لـ ﴿حديث﴾. والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿كَانُوا﴾ ﴿صَادِقِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب إن الشرطية محذوف دلَّ عليه ما قبله، تقديره: إن صدقوا في هذا القول... فليأتوا بحديث مثله، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالطُّورِ (١)﴾ بالسريانية: الجبل. والمراد به: طور سينين. وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام. أقسم الله سبحانه به تشريفًا وتكريمًا وتذكيرًا بما
76
فيه من الآيات. وهو أحد جبال الجنة، قاله السدّيُّ. وقيل: إن الطور كل جبل ينبت الشجر الثمر، وما لا ينبت فليس بطور.
وقال المبرّد: يقال لكل جبل: طور. فإذا دخلت الألف واللام المعرفة فهو شيء بعينه.
﴿وَكِتَابٍ﴾ والمراد بالكتاب هنا: ما كتب من الكتب السماوية: كالقرآن، والتوراة، والإنجيل.
﴿مَسْطُورٍ﴾؛ أي: متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة، اهـ خطيب. وفي "المختار": السطر: الصف من الشيء، يقال: بني سطرًا. والسطر أيضًا: الخط والكتابة. وهو في الأصل مصدر، وبابه نصر. وسطر أيضًا بفتحتين. والجمع أسطار، كسبب وأسباب. وجمع الجمع أساطير وجمع السطر أسطر وسطور كأفلس وفلوس، اهـ.
﴿فِي رَقٍّ﴾ الرق بالفتح والكسر: الجلد الرقيق الذي يكتب فيه. وجمعه رقوق. والرق بالكسر: المملوك. قال الراكب: الرق: كل ما يكتب فيه جلدًا كان أو غيره. وهو بفتح الراء على الأشهر. ويجوز كسرها كما قرىء به شاذًّا. وأما الرق الذي هو ملك الأرقاء فهو بكسر الراء، لا غير.
﴿مَنْشُورٍ﴾؛ أي: مبسوط، غير مطوي، وغير مختوم عليه. قوله: ﴿تَمُورُ﴾ أصله: تمور بوزن تفعل، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الميم، فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مدّ. ﴿مَوْرًا﴾، مصدر من مار يمور كقال يقول قولًا. والمور: الاضطراب والتردد في المجيء والذهاب، والجريان السريع؛ أي: تضطرب، وتجيء وتذهب اضطرابًا.
﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠)﴾؛ أي: تزول عن وجه الأرض فتصير هباء منثورًا. وأصله تسير بوزن تفعل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى السين فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد.
﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)﴾ هو الكعبة المعمورة بالحجاج والمجاورين. ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥)﴾ هو السماء. ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦)﴾؛ أي: الموقد المحمي. من سجر النار؛ أي: أوقدها. وعنى به باطن الأرض. وهو الذي دل عليه الكشف الحديث،
77
ولم تعرفه الأمم قديمًا. وقد أشارت إليه الأحاديث. فعن عبد الله بن عمر: "لا يركبنَّ رجل البحر إلا غازيًا أو معتمرًا أو حاجًا؛ فإنَّ تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا".
وقد أثبت علماء طبقات الأرض - الجيلوجيا - أنَّ الأرض كلها كبطيخة، وقشرتها كقشرة البطيخة؛ أي: إنّ نسبة قشرة الأرض إلى النار التي في باطنها كنسبة قشرة البطيخة إلى باطنها الذي يؤكل، فنحن الآن فوق نار عظيمة؛ أي: فوق بحر مملوء نارًا. وهذا البحر مغطي من جميع جهاته بالقشرة الأرضية المحكمة السدّ عليه. ومن حين إلى آخر تتصاعد من ذلك البحر نار تظهر في الزلازل، والبراكين، كبركان فيزوف الذي هاج بإيطاليا سنة (١٩٠٩ م)، وابتلع مدينة مسيا، والزلزلة التي حدثت باليابان سنة (١٩٢٥ م)، وخرّبت مدنًا بأكملها.
﴿فِي خَوْضٍ﴾ وأصل الخوض: السير في الماء، ثم استعمل في الشروع في كل شيء، وغلب في الخوض في الباطل. كالإحضار فإنه عامّ في كل شيء، ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب.
﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)﴾؛ أي: يدفعون دفعًا عنيفًا شديدًا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون إلى النار، ويطرحون فيها. والدع: الدفع الشديد، وأصله أن يقال للعاثر: دع دع. أصله: يدععون بوزن يفعلون، نقلت حركة العين الأولى إلى الدال فسكنت، فأدغمت في العين الثانية. وقوله: ﴿دَعَاَ﴾ وزنه فعل، أدغمت العين في اللام. وفي "المختار": دعَّه دفعه، وبابه ردّ. ومنه قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢)﴾.
﴿اصْلَوْهَا﴾ في "المصباح": صلي بالنار، وصليها صلي من باب تعب وجد حرها والصلاء وزان كتاب حر النار، وصليت اللحم أصليه من باب رمي شويته. وأصله: اصليوها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة.
﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ النعيم: الدعة، والراحة، والتنعم، والترفه. والاسم النعمة بالفتح. قال الراغب: النعيم: النعمة الكثيرة، وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العين، ونعمه تنعيمًا جعله في نعمة، أي: لين عيش. وفي "البحر": التنعم
78
استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات.
﴿فَاكِهِينَ﴾؛ أي: ناعمين متلذّذين. في "القاموس": الفاكه: صاحب الفاكهة، وطيب العيش، والضحوك، والناعم الحسن العيش. كما أن الناعمة والمنعمة: الحسنة العيشة.
﴿بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أصله: أتيهم بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مد للأولى، وقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. ﴿وَوَقَاهُمْ﴾ الوقاية، حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره. ﴿عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ من الجحمة. والجحمة: شدة تأجج النار. ومنهم الجحيم؛ أي: جهنم؛ لأنه من أسماءها كما مر.
﴿هَنِيئًا﴾ والهنيء، والمريء صفتان من هنوء الطعام ومروء، إذا كان سائغًا سهلًا بحيث لا يورث الكدر من التخم والسقم وسائر الآفات.
﴿بِحُورٍ﴾ الحور بوزن فعل، جمع حوراء كسود جمع سوداء. من الحور. وهو شدة بياض العين في شدة سوادها. ﴿عِينٍ﴾ جمع عيناء. وهي الواسعة العينين. وقياسه فعل بضم ﴿الفاء﴾ كما جمع حوراء على ذلك إلا أنه لما كانت عينه ياء كسرت فاؤه، فقيل: عين بوزن فعل بكسر الفاء.
﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ أي: نقصناهم. من أن يألت من باب ضرب. قال في "القاموس": الله حقا يألته نقصه كألته إيلاتًا.
﴿بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ والرهن: ما يوضع وثيقة للدين. ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ﴾ أصل المد: الجر. وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه. وفي "القاموس": الإمداد: تأخير الأجل، وأن تنصر الأجناد بجماعة غيرك، والإعطاء، والإغاثة. ﴿بِفَاكِهَةٍ﴾ الفاكهة: ثمار الأشجار. ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أصله: يشتهيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت ثم ضمت الهاء لمناسبة الواو.
﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا﴾ يقال: نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس من كبدها. والتنازع والمنازعة: المجاذبة، ويعبَّر بها عن المخاصمة والمجادلة. والمراد بالتنازع هنا: التعاطي والتداول على طريق التجاذب.
﴿كَأْسًا﴾ والكأس: قدح فيه شراب، ولا يسمى كأسًا ما لم يكن فيه شراب.
79
كما لا تسمى مائدة ما لم يكن عليها طعام. ﴿لَا لَغْوٌ﴾ قال الراغب: اللغو من الكلام: ما لا يعتد به. وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا. وهو صوت العصافير، كما مرّ.
﴿وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ والتأثيم: فعل ما يأثم فاعله؛ أي: ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب، والسب، والفواحش.
﴿وَيَطُوفُ﴾ من الطواف. وهو المشي حول الشيء، والدوران به. ومنه: الطائف لمن يدور حول البيوت حافظًا لها. أصله: يطوف بوزن يفعل بضم العين نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الطاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد.
﴿غِلْمَانٌ﴾ جمع غلام. وهو الطار الشارب. ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ﴾ واللؤلؤ: جوهر بحري أبيض براق. ﴿مَكْنُونٌ﴾؛ أي: مصون محفوظ في صدفه، ووعائه الذي خلق فيه.
﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧)﴾ فيه إعلال بالقلب. أصله: وقينا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا. وفي "المفردات": السموم في الأصل: الريح الحارَّة التي تؤثر تأثير السم، فأطلقت على جهنم لنفوذ حرها في المسام كالسموم.
﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ قال الراغب: البر: خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر؛ أي: التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك تارة إلى الله تعالى. نحو: إنه هو البر الرحيم، وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد ربه، أي: توسع في طاعته. فمن الله الثواب، ومن العبد الطاعة.
﴿بِكَاهِنٍ﴾ وفي "المفردات": الكاهن الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن كالعراف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة على نحو ذلك، ولكون هاتين الصّناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطىء ويصيب. قال - ﷺ -: "من أتى عرافًا أو كاهنًا.. فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل الله على محمد". ويقال: كهن فلان كهانة إذا تعاطي ذلك، وكهن إذا تخصص بذلك، وتكَّهن تكلف ذلك وفي القاموس كهن له كجعل ونصر وكرم، كهانة بالفتح، وتكهن تكهنًا وتكهينًا قضى له بالغيب، فهو كاهن. والجمع كهنة، وكهان، وحرفته الكهانة بالكسر، انتهى.
80
﴿وَلَا مَجْنُونٍ﴾ وهو من به جنون. وهر زوال العقل أو فساده. وفي "المفردات": الجنون: الحائل بين النفس والعقل. وفي "التعريفات": الجنون: اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرًا.
﴿نَتَرَبَّصُ﴾ التربص: الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها. ﴿رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ الريب: ما يقلق النفوس؛ أي: يورث قلقًا واضطرابًا لها من حوادث الدهر، وتقلبات الزمان. فهو بمعنى الرائب من قولهم: رابه الدهر، وأرابه إذا: أقلقه. والمنون: الدهر، والموت، والكثير الامتنان كالمنونة. وسمَّاه ريبًا لا من حيث إنه مشكك في كونه، بل من حيث إنه يشكك في وقت حصوله. فالإنسان أبدًا في ريب المنون من جهة وقته، لا من جهة كونه. وعلى هذا قال الشاعر:
النَّاسُ قَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا بَقَاءَ لَهُمْ لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوا
وهو في الأصل فعول، من منه إذا: قطعه؛ لأنّ الدهر يقطع القويَّ، والموت يقطع الأماني والعمر.
﴿قُلْ تَرَبَّصُوا﴾ قال الراغب: التربص: انتظار الشخص سلعة كان يقصد بها غلاء، أو رخصًا، أو أمرًا ينتظر زواله، أو حصوله. انتهى. ﴿أَحْلَامُهُمْ﴾؛ أي: عقولهم. وفي "القاموس": الحلم بالضم وبضمتين: الرؤيا. والجمع أحلام. والحلم بالكسر: الأناة والعقل، والجمع أحلام وحلوم. ومنه: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ﴾ وهو حليم، والجمع حلماء وأحلام، انتهى.
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ والتقول: تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب. ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ أصله: يأتيون بوزن يفعلون بكسر العين، حذفت منه نون الرفع لدخول لام الأمر، ثمّ استنقلت الضمة على الياء فحذفت، فلمّا سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت التاء لمناسبة الواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإلتزام في قوله: ﴿وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢)﴾ فإنّه قد جاءت
81
الطاء قبل واو الردف لازمةً.
ومنها: تنكير ﴿كتاب﴾، و ﴿رق﴾، في قوله: ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣)﴾ للتفخيم، أو للإشعار بأنهما ليسا مما يتعارفه الناس.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَرَقِ﴾ لأنه حقيقة في جلد الحيوان الرقيق، ثم استعير لكل ما يكتب فيه من الصحائف والألواح.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾، وقوله: ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠)﴾.
ومنها: طباق السلب بين قوله: ﴿اصْبِرُوا﴾، وقوله: ﴿لَا تَصْبِرُوا﴾ وفيه أيضًا من الإهانة والتوبيخ ما لا يخفى.
ومنها: تأكيد الفعلين بمصدريهما في قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠)﴾ للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة؛ أي: مورًا عجيبًا وسيرًا عجيبًا، لا يدرك كنههما.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)﴾ حيث شبّه التخبّط والاندفاع في الأباطيل بخوض الغائص في الماء بجامع الانغماس في كل. فاستعار له اسمه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي التقريعيّ في قوله: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥)﴾.
ومنها: إظهار الرب في موضع الأضمار مضافًا إلى ضميرهم في قوله: ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ للتشريف والتعليل.
ومنها: ترك ذكر المأكول والمشروب في قوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ دلالة على تنوّعهما، وكثرتهما.
ومنها: تنكير ﴿إيمان﴾ في قوله: ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ إفادة للتقليل؛ أي: بشيء من الإيمان.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
82
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)}؛ لأنّ الرهن حقيقة فيما يوضع وثيقة للدين. فاستعاره للمحتبس بأيّ شيء كان من عمله.
ومنها: تنكير ﴿فاكهة﴾ في قوله: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ﴾ إفادة للكثرة وعدم الانقطاع؛ أي: بفاكهة كثيرة لا تنقطع، كلّما أكلوا ثمرة عاد مكانها مثلها.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿كَأْسًا﴾؛ أي: خمرًا، تسمية لها باسم محلها.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ حيث شبه الغلمان باللؤلؤ المكنون في الأصداف. لأنّه أحسن وأصفى، أو لأنّه مخزون، ولا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. فهو تشبيه مجمل؛ لأنّه حذف منه وجه الشبه.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ لأن فيه تعريضًا بأنّ بعض أهلهم لم يكونوا على صفتهم، ولذا صاروا محرومين، حيث قال: ﴿مُشْفِقِينَ﴾؛ أي: خائفين من عصيان الله سبحانه.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ شبهت حوادث الدهر بالريب الذي هو الشك بجامع التحيّر، وعدم البقاء على حالة واحدة في كل منهما. واستعير لفظ الريب لصروف الدهر وتواليه على طريق الاستعارة التبعية.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ﴾ فقد أسند الأمر إلى الأحلام. وقد كان العرب يتفاخرون بعقولهم، فأزرى الله بها، حيث لم تثمر لهم معرفة الحق والباطل. ويجوز اعتبارها استعارة مكنية إن أريد التشبيه. وكل مجاز عقلي يصح أن يكون استعارة مكنية، ولا عكس. كما هو مقرر في محله.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
83
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) أثبت رسالة محمد - ﷺ -، ورد عليهم ما زعموا من أنه كاهن، أو شاعر، أو مجنون، وأمره أن يذكر الناس، ويبشرهم، وينذرهم، ولا يأبه لمقالتهم، فالله ناصره عليهم.. انتقل إلى الرد عليهم في إنكارهم للخالق كما هو شأن الدهريين، أو في ادعائهم لله شريكًا كما هو شأن كثير من العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: ما نعبد الأوثان، والأصنام إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وبعد أن أقام عليهم الحجة في كل ذلك، وسد عليهم المسالك.. طلب إليه أن يتوكل عليه، وأن يعلم أن كيدهم لا يضره شيئًا، فالله ناصره عليهم، وسيظهر دينه، ويتم له الغلبة والفلج عليهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا...﴾ الآيات إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر مزاعمهم في النبوة، وبين فسادها بما لم يبق بعده وجه للعناد والمكابرة. ثم أعقبه بالرد عليهم في جحوده للألوهية إما بإنكارها بتاتًا، وإما بادعاء الشريك، أو باتخاذه الولد، سبحانه وتعالى
(١) المراغي.
84
عما يصفون.. أردف هذا بيان أن هؤلاء قوم بلغوا حدًّا في العناد أصبحوا به يكابرون في المحسوسات فضلًا عن المعقولات، فدعهم وشأنهم حتى يأت اليوم الذين لا مرد له يوم لا تنفعهم حبائلهم وشراكهم التي كانوا ينصبون مثلها في الدنيا، ولا يجدون لهم إذ ذاك وليًّا ولا نصيرًا. وأنَّ الله سيصيبهم بعذاب من عنده في الدنيا قبل ذلك اليوم. وأنه ناصرك عليهم، وكالئك بعين رعايته. واذكر ربك حين تقوم من منامك، ومن مجلسك، وحين تغيب النجوم، ويصبح الصباح، وتغرد الأطيار مسبحة منزهة خالق السموات والأرض قائلة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
التفسير وأوجه القراءة
٣٥ - ﴿أَمْ خُلِقُوا﴾ و ﴿أم﴾ هنا وفيما بعده منقطعة، تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، كما مر؛ أي: بل أخلقوا، وأحدثوا، وقدّروا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة.
﴿مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾؛ أي (١): من غير خالق لهم، ولا مقدر، ولا محدث، ولا موجد. فـ ﴿مِنْ﴾ لابتداء الغاية. قال الزجاج؛ أي: اخلقوا باطلًا وعبثًا لغير شيء لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون. وجعل ﴿مِنْ﴾ تعليلية بمعنى اللام؛ أي: أخلقوا من أجل لا شيء عليهم من عبادة ولا جزاء. وقال ابن كيسان: أخلقوا عبثًا، وتركوا سدى، لا يؤمرون، ولا ينهون. وقيل: المعنى: أم خلقوا من غير أب، ولا أم. فهم كالجماد لا يفهمون، ولا تقوم عليهم الحجة.
﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ لأنفسهم. فلذلك لا يعبدون الله تعالى؛ أي: بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم فلا يؤمرون، ولا ينهون مع أنهم يقرون أن الله خالقهم وإذا أقروا لزمتهم الحجة.
ومعنى الآية (٢): أي كيف ينكرون الخالق الموجد، فهل هم خلقوا هذا الخلق البديع الصنع من غير خالق ولا موجد، والعقل يشهد بأن كل ما يوجد من العدم لا بد له من موجد. ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾؛ أي: بل أهم أوجدوا أنفسهم، والضرورة والعقل يكذبان ذلك. إذ يلزم من هذا أن الشيء يكون مقدمًا في الوجود على نفسه.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
فهم باعتبار أنهم خالقون مقدمون على أنفسهم في الوجود باعتبار أنهم مخلوقون. وهذا بين البطلان.
٣٦ - ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ وهم لا يدعون ذلك، فلزمتهم الجحة. ولهذا أضرب عن هذا، وقال: ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾؛ أي: ليسوا على يقين من الأمر، بل يتخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده. فأم للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي؛ أي (١): ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأنّ الله واحد. فإذا سئلوا من خلقكم، وخلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، وهم غير موقنون بما قالوا، وإلا لما أعرضوا عن عبادته؛ أي: لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر، وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم، فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: إنهم كما طعنوا فيك يا محمد طعنوا في خالقهم، فلا تحزن لعدم إيمنهم ولا تبخع نفسك عليهم.
٣٧ - ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ﴾ رحمة ﴿رَبِّكَ﴾ ورزقه. فهو على حذف مضاف؛ أي: هل عندهم خزائن النبوّة، ومفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا، ويمسكونها عمن شاؤوا؛ أي: أعندهم خزائن علمه وحكمته، حتى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره. وقيل: هل عندهم خزائن أرزاق العباد فيعطونها من شاؤوا، ويحرمونها من شاؤوا.
﴿أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾؛ أي: بل أهم المسلطون الجبارون الغالبون على الأمور، يدبرونها كيفما شاؤوا، حتى يدبر أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وفي "عين المعاني": بل أهم الأرباب المسلطون على الناس فيجبرونهم على ما شاؤوا. جمع مسيطر، من السطر كأنه يخط للمسلط عليه خطًّا لا يجاوزه. وفي "كشف الأسرار": المسيطر: المسلط القاهر الذي لا يكون تحت أمر أحد ونهيه، ويفعل ما يشاء. وفي "القاموس": السطر: الصف من الشيء كالكتاب، والشجر وغيره، والخط والكتابة. ويحرك في الكل كما سيأتي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿المصيطرون﴾ بالصاد الخالصة. وهشام، وقنبل، وابن
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
محيصن وحميد، ومجاهد، وحفص بخلاف عنه بالسين الخالصة. وهو الأصل. ومن أبدلها صادًا فلأجل حرف الاستعلاء. وهو الطاء. وقرأ خلف عن حمزة، وخلاد عنه بخلاف عنه بصار مشمة زايًا. والمراد: أنه ليس الأمر كذلك بل الله هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
٣٨ - ﴿أَمْ لَهُمْ﴾؛ آي: بل ألهم ﴿سُلَّمٌ﴾؛ أي: مصعد ومرقى منصوب ممدود إلى السماء ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ خبر السماء، وكلام الملائكة، وما يوحى إلهم من علم الغيب حال كونهم صاعدين ﴿فِيهِ﴾؛ أي (١): في ذلك السلم حتى يعلموا ما هو كائن من الأمور التي يتقولون فيها رجمًا بالغيب، ويعلقون بها أطماعهم الفارغة. وفي "كشف الأسرار": فيه، أي: عليه، كقوله: ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾؛ أي: عليها.
فإن كانوا يدعون ذلك ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: فليأتوا بحجة تبين أنهم على الحق ما أتى محمد - ﷺ - بالبرهان الدال على صدق قوله فيما جاءهم به من عند ربه.
٣٩ - وبعد أن رد على الذين أنكروا الألوهية بتاتًا.. ردَّ على من قالوا: الملائكة بنات الله. وسفه أحلامهم إذ اختاروا له البنات ولأنفسهم البنين، فقال: ﴿أَمْ لَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾؛ أي: بل ألربكم البنات ولكم البنون ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾. وهذا (٢) إنكار عليهم، حيث جعلوا لله ما يكرهون، أو تسفيه لهم، وتركيك لعقولهم، وإيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء، فضلًا عن الترقي بروحه إلى عالم الملكوت، والتطلع على الأسرار الغيبية.
وذلك أن من جعل خالقه أدنى حالًا منه بأن جعل له ما لا يرضى لنفسه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)﴾. فإنه لم يستبعد منه أمثال تلك المقالات الحمقاء.
والالتفات إلى الخطاب لتشديد ما في ﴿أَمْ﴾ المنقطعة من الإنكار والتوبيخ. والمعنى؛ أي (٣): بل أيضيفون إلى الله سبحانه البنات، وهي أضعف الصنفين،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما. ومن كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد.
٤٠ - ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله، وأعرض عنهم، فقال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ﴾ أي: بل أتسأل يا محمد هؤلاء المشركين الذين أرسلناك إليهم على ما تدعوهم إليه من توحيد الله وطاعته ﴿أَجْرًا﴾ وجعلا تأخذه من أموالهم ﴿فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ﴾؛ أي: من غرامة ما حملتهم من الأجرة؛ أي: من التزام غرامة تطلبها منهم ﴿مُثْقَلُونَ﴾؛ أي: متعبون، مجهودون، مثقلون بحملهم ذلك المغرم الثقيل. فلا يقدرون على إجابتك إلى ما تدعوهم إليه. فالمغرم مصدر ميمي بمعنى الغرم. ولا بد من تقدير مضاف. يعني: لا عذر لهم أصلًا، والدين لايباع بالدنيا. فالأجر على الله تعالى، كما قال: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾. وقد سبق تحقيقه في مواضع متعددة.
٤١ - ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ﴾؛ أي: بل أعندهم علم ما غاب عن الخلق. أو المعنى: هل عندهم (١) اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ما فيه للناس فينبئونهم بما شاؤوا، ويخبرونهم بما أرادوا. ليس الأمر كذلك. إذ لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله.
قال قتادة: وهذا جواب (٢) لقولهم: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾. يقول الله تعالى: أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدًا يموت قبلهم، فهم يكتبون؛ أي: يحكمون بما يقولون.
٤٢ - ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا﴾؛ أي: ألا يكتفون بهذه المقالات الفاسدة، ويريدون مع ذلك أن يكيدوا بك كيدًا وإساءة. وهو كيدهم برسول الله - ﷺ - في دار الندوة، ومكرهم بالقتل، أو الحبس، أو الإخراج. فإن الكيد هو الأمر الذي يسوء من نزل به سواء كان في نفسه حسنًا أو قبيحًا. فالاستفهام في المعطوف للتقرير، وفي المعطوف عليه للإنكار.
وقال سعدي المفتي: الظاهر: أنه من الإخبار بالغيب. فإن السورة مكية وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة. فإن قيل: فليكن نزول الطور في تلك الليلة.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
قلنا: قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نزل بعدها بمكة ﴿تَبَارَكَ﴾ الملك وغيرها من السور، انتهى.
وقال في "فتح الرحمن": والظاهر أنه من الإخبار بالغيب. فإنّ السورة مكية، وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة. ثم أهلكهم الله تعالى ببدر عند إنتهاء سنين. عدتها عدة ما هنا من كلمة ﴿أَمْ﴾. وهي خمس عشرة. فإن بدرًا كانت في الثانية من الهجرة. وهي الخامسة عشرة من النبوة. وأذلهم في غير موطن. ومكر سبحانه بهم: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)﴾.
﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ القصر فيه إضافي؛ أي: هم الذين يحيق بهم كيدهم، أو يعود عليهم وباله، لا من أرادوا أن يكيدوه. فإنه المظفر الغالب عليهم قولًا وفعلًا حجةً وسيفًا، أو هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته. فالمراد: ما أصابهم يوم بدر من القتل، كما مرّ آنفًا.
٤٣ - ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ يعينهم، ويحرسهم من عذابه تعالى؛ أي: بل أيدعون أن لهم إلهًا غير الله تعالى يحفظهم، ويرزقهم، وينصرهم.
ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنيعة، فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾؛ أي: تنزه الله تعالى: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي (١) عن إشراكهم به. فما مصدرية، أو عن شركة ما يشركونه به، فما موصولة. والمضاف مقدر، وكذا العائد.
٤٤ - ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم، فقال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا﴾؛ أي: وإن يرى هؤلاء المشركون ﴿كِسْفًا﴾ أي: قطعة ﴿مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا﴾ عليهم لتعذيبهم. وفي "عين المعاني": قطعة من العذاب، أو من السماء، أو جانبًا منها. من الكسف وهو التغطية، كالكسوف. والكسف والكسفة بمعنى واحد. وهو القطعة من الشيء. ﴿يَقُولُوا﴾ من فرط طغيانهم، وشدة عنادهم: هو ﴿سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾؛ أي: متراكم غليظ يمطرنا؛ أي: هم في طغيان بحيت لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ لقالوا: هذا السحاب سحاب تراكم؛ أي: ألقي بعضه على بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.
(١) روح البيان.
وفي "التأويلات النجمية": يعني: أنهم وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ حتى شاهدوه بالعين.. لقالوا إنما سكرت أبصارنا. وليس هذا عيانًا عن مشاهدة. وقد تقدم (١) اختلاف القراء في ﴿كِسَفًا﴾. قال الأخفش: يعني: بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعًا.
والمعنى (٢): أي إنَّ هؤلاء قوم ديدنهم العناد، والمكابرة. فلو رأوا بعض ما سألوا من الآيات، فعاينوا كسفًا من السماء ساقطًا لكذَّبوا، وقالوا: هذا سحاب بعضه فوق بعض؛ لأنّ الله قد ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارهم. فأصبحوا ينكرون ما تبصره الأعين، وتسمعه الآذان.
٤٥ - ثم أمر الله سبحانه رسوله لله أن يتركهم، فقال: ﴿فَذَرْهُمْ﴾، أي: فاتركهم يا محمد، وخلهم ﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾ ويشاهدوا ﴿يَوْمَهُمُ﴾ مفعول به، لا ظرف ﴿الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾؛ أي: يموتون، ويهلكون. وهو على البناء للمفعول. من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته أماتته، وأهلكته. قال ابن الشيخ: المقصود (٣) من الجواب عن الاقتراح المذكور: بيان أنهم مغلوبون بالحجة، مبهوتون، وأن طعنهم ذلك ليس إلا للعناد والمكابرة، حتى لو أجبناهم في جميع مقترحاتهم لم يظهر منهم إلا ما يبنى على العناد والمكابرة. فلذلك رتب عليه قوله: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ بالفاء. وهو أمر موادعة، منسوخ بآية السيف.
والمعنى: أي فدعهم وشأنهم، ولا تكترث بهم، حتى يأتي اليوم الذي يجاوزن فيه بسيئات أعمالهم. وهو يوم بدر، قاله البقاعيّ. وهو الظاهر في الآية، لا النفخة الأولى كما قيل. إذ لا يصعق بها إلا من كان حيًّا حينئذٍ.
وقرأ الجمهور: (٤) ﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾. وقرأ أبو حيوة ﴿يلقوا﴾. وقرأ الجمهور ﴿يُصْعَقُون﴾ بفتح الياء بالبناء للفاعل. وقرأ ابن عامر، وعاصم على البناء للمفعول. وقرأ السلمي بضم الياء، وكسر العين من أصعق الرباعيّ.
٤٦ - وقوله: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي﴾ ولا يدفع ﴿عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ من الإغناء في رد
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
العذاب، أو شيئًا من عذاب الله سبحانه، بدل من ﴿يَوْمَهُمُ﴾؛ أي: لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله - ﷺ - في الدنيا. ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ من جهة الغير في رفع العذاب عنهم؛ أي: ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة.
٤٧ - ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: (١) وإنّ لهؤلاء الظلمة: أبي جهل وأصحابه. ﴿عَذَابًا﴾ آخر ﴿دُونَ ذَلِكَ﴾؛ أي: غير ما لاقوه من القتل؛ أي: قبله. وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين، كما مر في سورة الدخان. أو وراءه. وهو عذاب القبر، وما بعده من فنون عذاب الآخرة؛ أي: وإن لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابًا في الدنيا دون عذاب الآخرة؛ أي: قبله. وهو قتلهم يوم بدر. والظاهر: أن المراد بالعذاب: القحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر؛ لأنّه كان في السنة الثانية للهجرة. والقحط وقع لهم قبلها.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما سيصيرون إليه من عذاب الله، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة لفرط جهلهم، وسوء غفلتهم، أو لا يعلمون شيئًا أصلًا.
وفيه إشارة (٢) إلى أن منهم من يعلم ذلك، وإنما يصر على الكفر عنادًا. فالعالم الغير العامل والجاهل سواء. فعلى العاقل أن يحصل علوم الآخرة، ويعمل بها.
٤٨ - ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ بإمهالهم إلى يومهم الموعود الذي وعدناهم فيه العذاب، وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان والشدائد، ولا تكن في ضيق مما يمكرون.
يقول الفقير: أمر الله تعالى نبيه علبه السلام بالصبر لحكمه، لا لأذى الكفار وجفائهم تسهيلًا للأمر عليه؛ لأنّ في الصبر لحكمه حلاوةً، ليست في الصبر للأذى والجفاء. وإن كان الصبر له صبرًا للحكم، فاعرف.
﴿فَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا، وفي حمايتنا. فلا تبال بهم. قال الزجاج: إنّك بحيث نراك، ونحفظك، ونرعاك فلا يصلون إليك. وجمع العين لجمع الضمير، والإيذان بغاية الاعتناء في الحفظ،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
وبكثرة أسبابه إظهارًا للتفاوت بين الحبيب والكليم، حيث أفرد فيه العين والضمير، حيث قال: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾. وقيل: جمع العين هنا لأنّه أضيف إلى ضمير الجماعة، وأفرد هناك لكون الضمير مفردًا. وقرأ أبو السمال ﴿بأعينّا﴾ بنون واحدة مشددة.
والمعنى (١): واصبر على أذاهم، ولا تبال بهم، وامض لأمر الله ونهيه، وبلغ ما أرسلت به فإنك بمرأى منا، نراك ونرى أعمالك، ونحوطك، ونحفظك فلا يصل إليك منهم أذى.
﴿وَسَبِّحْ﴾؛ أي: نزهه تعالى عما لا يليق به، حال كونك متلبسًا ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ وشكره على نعمائه عليك ﴿حِينَ تَقُومُ﴾ من أي مقام قمت. قال سعيد بن جبير، وعطاء؛ أي: قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك؛ أي: سبح الله متلبسًا بحمده. فإن كان ذلك المجلس خيرًا ازددت إحسانًا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من جلس مجلسًا فكثر فيه لغطه - الكلام الرديء القبيح - فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.. كان كفارةً لما بينهما". وفي "فتح القريب": "فقد غفر له". يعني: من الصغائر ما لم تتعلق بحق آدمي كالغيبة. وقال الضحاك، والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة، وهي صلاة الفجر. والأول أولى.
٤٩ - ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: وفي بعض ساعات الليل ﴿فَسَبِّحْهُ﴾ سبحانه وتعالى. وأفرد بعض الليل بالتسبيح والصلاة؛ لأنّ العبادة فيه أشق على النفس، وأبعد عن الرياء. كما يلوح إليه تقديمه على الفعل. يقول الفقير؛ ولأن الليل زمان المعراج، والصلاة هو المعراج المعنوي. فمن أراد أن يلتحق برسول الله - ﷺ - في معراجه فليصل بالليل والناس نيام؛ أي: في جوفه حين غفلة الناس. ولشرف ذلك الوقت كان معراجه - ﷺ -
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
92
في ذلك الوقت، لا قرب الصباح. لأن في قربه قد يستيقظ بعض النفوس للحاجات. وإن كان السحر الأعلى مما له خواص كثيرة. وقال مقاتل؛ أي: صل صلاة المغرب والعشاء. وقيل: ركعتي الفجر.
﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ بكسر الهمزة مصدر أدبر الرباعي. والنجوم: جمع نجم. وهو الكوكب الطالع. يقال: نجم نجومًا ونجمًا؛ أي: طلع.
والمعنى: وسبح وقت إدبارها من آخر الليل؛ أي: وقت غيبتها بضوء الصباح. وقيل: صلاة الفجر. واختاره ابن جرير. وقيل: هو التسبيح في أدبار الصلوات.
وقرأ الجمهور ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ بكسر الهمزة على أنه مصدر. وقرأ سالم بن أبي الجعد، ومحمد بن السميقع، ويعقوب، والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع؛ أي: أعقاب النجوم، وأدبارها إذا غربت. ودبر الأمر آخره. وقد تقدم الكلام على هذا في سورة ق. وفي ختم هذه السورة بالنجوم، وافتتاح السورة الآتية بالنجم من حسن الانتهاء والابتداء، ما لا يخفى.
الإعراب
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام، ﴿خُلِقُوا﴾ فعل ماض، مغير الصيغة، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة أو معطوفة. ﴿مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقُوا﴾، ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿أَمْ﴾ حرف إضراب وعطف، ﴿عِنْدَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة أو معطوفة. ﴿أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ مبتدأ وخبر، معطوف على ما قبله، ﴿أَمْ﴾ حرف إضراب بمعنى بل وهمزة الاستفهام، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿سُلَّمٌ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. وجملة ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ صفة لـ ﴿سُلَّمٌ﴾، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾. ﴿فَلْيَأْتِ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره:
93
جزم وطلب، ﴿يأت﴾ فعل مضارع مجزوم بلام الطلب، ﴿مُسْتَمِعُهُمْ﴾ فاعل، ﴿بِسُلْطَانٍ﴾ متعلق بـ ﴿يأت﴾، ﴿مُبِينٍ﴾ صفة لـ ﴿سلطان﴾. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)﴾.
﴿أَمْ﴾ حرف إضراب واستفهام، ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿الْبَنَاتُ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. ﴿وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ معطوف على ﴿لَهُ الْبَنَاتُ﴾. ﴿أَمْ﴾ حرف إضراب، ﴿تَسْأَلُهُمْ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول، ﴿أَجْرًا﴾ مفعول ثان. والجملة مستأنفة. ﴿فَهُمْ﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع، ﴿هم﴾ مبتدأ، ﴿مِنْ مَغْرَمٍ﴾ متعلق بـ ﴿مُثْقَلُونَ﴾، و ﴿مُثْقَلُونَ﴾ خبر. والجملة معطوفة مفرعة على الجملة الفعلية. ﴿أَمْ﴾ حرف إضراب ﴿عِنْدَهُمُ﴾ خبر مقدم، ﴿الْغَيْبُ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. ﴿فَهُمْ﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع، ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَكْتُبُونَ﴾ خبره. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. ﴿أَمْ﴾ حرف إضراب، ﴿يُرِيدُونَ كَيْدًا﴾ فعل، وفاعل، ومفعول. والجملة إضرابيّة، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَالَّذِينَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿الذين﴾ مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل، لا محل له من الإعراب، ﴿الْمَكِيدُونَ﴾ خبر. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية. ﴿أَمْ﴾ حرف إضراب ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿إِلَهٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾ صفة لـ ﴿إِلَهٌ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا. والجملة مستأنفة. ﴿عَمَّا﴾ متعلق بـ ﴿سُبْحَانَ﴾، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾ صلة لما الموصولة، أو لما المصدرية.
﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿يَرَوْا﴾ فعل، وفاعل، مجزوم
94
بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿كِسْفًا﴾ مفعول به، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ صفة لـ ﴿كِسْفًا﴾، ﴿سَاقِطًا﴾ صفة لـ ﴿كِسْفًا﴾. ﴿يَقُولُوا﴾ فعل، وفاعل، مجزوم على كونه جواب الشرط. والجملة مستأنفة، أو معطوفة. ﴿سَحَابٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو سحاب. ﴿مَرْكُومٌ﴾ صفة ﴿سَحَابٌ﴾. والجملة في محل النصب، مقول لـ ﴿يَقُولُوا﴾. ﴿فَذَرْهُمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا بلغوا في الكفر والعناد إلى هذا الحدّ، وتبيّن أنّهم لا يرجعون عن الكفر، وأردت بيان ما هو الأسهل عليك فأقول لك ذرهم. ﴿ذرهم﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، ﴿يُلَاقُوا﴾ فعل، وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى. ﴿يَوْمَهُمُ﴾ مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى ملاقاتهم يومهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ذرهم﴾. ﴿الَّذِي﴾ صفة لـ ﴿يَوْمَهُمُ﴾، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُصْعَقُونَ﴾، و ﴿يُصْعَقُونَ﴾ فعل مغير، ونائب فاعل، صلة الموصول، والعائد ضمير "فيه"، ﴿يَوْمَ﴾ بدل من ﴿يَوْمَهُمُ﴾، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يُغْنِي﴾ فعل مضارع، ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به، ﴿كَيْدُهُمْ﴾ فاعل ﴿يُغْنِي﴾، ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به أو مفعول مطلق. وجملة ﴿لَا يُغْنِي﴾ في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُنْصَرُونَ﴾ من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿لَا يُغْنِي﴾. ﴿وإن﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿لِلَّذِينَ﴾: خبر ﴿إن﴾ مقدم وجعلة ﴿ظَلَمُوا﴾ صلة الموصول. ﴿عَذَابًا﴾: اسم ﴿إن﴾ مؤخر، ﴿دُونَ ذَلِكَ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿عَذَابًا﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَكِنَّ﴾ الواو: عاطفة، ﴿لكن﴾ حرف نصب، ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾ اسمها، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ خبرها. وجملة لكن معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾. ﴿وَاصْبِرْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿اصبر﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿اصبر﴾، ﴿فَإِنَّكَ﴾ الفاء: تعليلية، ﴿إنك﴾ ناصب واسمه، ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ خبره؛ أي: بمرأى منّا. وجملة ﴿إِنَّ﴾ تعليلية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَسَبِّحْ﴾ فعل، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿اصبر﴾، ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ حال من فاعل ﴿سبّح﴾، ﴿حِينَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿سبح﴾، وجملة
95
﴿تَقُومُ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حِينَ﴾، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ متعلق بـ ﴿فَسَبِّحْهُ﴾، و ﴿فَسَبِّحْهُ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿اصبر﴾، ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ مصدر ناب مناب الظرف، منصوب على الظرفية، معطوف على محل ﴿من الليل﴾ على كونه متعلقًا بسبّحه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾؛ أي: من غير خالق. ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾ جمع خزانة بالكسر. وهو مكان الخزن، يقال: خزن المال أحرزه، وجعله في الخزانة. وهو على حذف مضاف؟ أي: خزائن رزقه ورحمته.
﴿أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ جمع مسيطر. والمسيطر: المسلط القاهر، حتى لا يكون تحت أمر أحد من سيطر عليه إذا راقبه وحفظه أو قهره. ولم يأت على مفيعل إلا خمسة ألفاظ. أربعة صفة اسم فاعل. مهيمن: من هيمن، إذا اطلع وراقب. ومبيقر: من بيقر، إذا أفسد وأهلك، ومشى مشية المتكبر، كما في "القاموس". ومسيطر: من سيطر، إذا تسلط. ومبيطر: من بيطر الدواب إذا عالج. وواحد اسم جبل. وهو المحيصر.
﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ﴾ قال الراغب: السلم: ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة. ثم جعل اسمًا لما يتوصل به إلى كل شيء رفيع. ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بحجة واضحة تصدق استماعه. ﴿فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ﴾؛ أي: التزام غرامة تطلبها منهم. فالمغرم: مصدر ميمي بمعنى الغرم. وفي "الكشاف": المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه. وفي "فتح الرحمن": المغرم: ما يلزم أداؤه. وفي "المفردات": الغرم: ما ينوب الإنسان من ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذا المغرم والغريم يقال لمن له الدين، ولمن عليه الدين، انتهى.
﴿مُثْقَلُونَ﴾؛ أي: محملون ثقلًا وحملًا. ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا﴾؛ أي: مكرًا وتحيلًا في هلاكك. وفي "المصباح": كاد كيدًا من باب باع، إذا خدعه ومكر به. والاسم المكيدة. وكان هذا المكر في دار الندوة، وهي دار من دور أهل مكة للمشاورة فيها إذا أشكل عليهم الأمر. وفي "التعريفات": الكيد: إرادة مضرة الغير خفية. وهو من الخلق الحيلة السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق.
96
﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ جمع مكيد، اسم مفعول من كاد يكيد، فهو مكيد بوزن مبيع. وأصله: مكيودون، جمع مكيود، نقلت حركة الياء إلى الكاف فسكنت، فالتقى ساكنان: الياء، وواو مفعول، فحذفت واو مفعول لأنَّها زائدة، هذا على رأي سيبويه، ثم كسرت الكاف لمناسبة الياء. وأما على رأي الأخفش فإنه يرى أن المحذوف منه الياء، وأنها لما حذفت كسر فاء الكلمة، ثم قلبت ﴿الواو﴾ ياء لسكونها إثر كسرة.
﴿كِسْفًا﴾؛ أي: قطعة. وفي "القاموس": الكسفة بالكسر: القطعة من الشيء، والجمع كسف كسدرة وسدر، وكسف كقربة وقرب. وفي "المختار": وقيل: الكسف والكسفة واحد. ﴿مَرْكُومٌ﴾؛ أي: متراكم ملقى بعضه على بعض. ﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾ أصله: يلاقيون بوزن يفاعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت القاف لمناسبة الواو، وحذفت نون الرفع لدخول أداة النصب.
﴿الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾؛ أي: يهلكون من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته أماتته وأهلكته. قال في "المختار": صعق الرجل بالكسر صعقة غشي عليه، ومنه: قوله تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: مات، ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: في حفظنا وحراستنا. ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾؛ أي: وقت إدبار النجوم، وغيبتها، وغروبها. والمراد بغروبها: ذهاب ضوئها بغلبة ضوء الصبح عليه، وإن كانت باقية في السماء، وذلك بطلوع الفجر، اهـ خطيب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المغاير بين ﴿الْخَالِقُونَ﴾ و ﴿خَلَقُوا﴾ في قوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥)﴾.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾؛ أي: خزائن رحمة ربك.
97
ومنها: ضرب المثل بالخزائن؛ لأنّ الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر. ومقدرات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس، فلا نهاية لها، اهـ قرطبي.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم في قوله: ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩)﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ تسجيلًا عليهم بصفة الكفر القبيحة.
والأصل: أم يريدون كيدًا فهم المكيدون. وفيه أيضًا القصر الإضافي؛ أي: هم الذين يحيق بهم كيدهم، أو يعود عليهم وباله، لا من أرادوا أن يكيدوه.
ومنها: أسلوب الفرض والتقدير في قوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا﴾؛ أي: لو رأوا ذلك... لقالوا ما قالوا. ومن المعلوم أنّ قريشًا لم ينزل عليهم قطع من السماء تعذيبًا لهم كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية. فالكلام على سبيل الفرض والتقدير. كأنه يقول: لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء عليهم لم ينتهبوا ولم يرجعوا، ويقولون في هذا النازل عنادًا واستهزاءً، وإغاظة لمحمد - ﷺ -: إنه سحاب مركوم، اهـ شيخنا.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
98
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة
تضمنت هذه السورة ما يلي:
١ - القسم بالعالم العلوي والسفلي على أن العذاب آت لا محالة.
٢ - وصف عذاب النار، وما يلاقيه المكذبون حينئذٍ من الذلة والمهانة.
٣ - وصف نعيم أهل الجنة، وما يتمتعون به من اللذات في مساكنهم، ومطاعمهم، ومشاربهم، وأزواجهم، وخدمهم، وحشمهم.
٤ - أمر الرسول - ﷺ - بالثبات على تبليغ الرسالة، والإعراض عن سفاهتهم من نحو قولهم: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو مفتر.
٥ - إثبات الألوهية بالبراهين التي لا تقبل جدلًا.
٦ - النعي على المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله.
٧ - بيان أنهم بلغوا في عنادهم حدًّا ينكرون معه المحسوسات التي لا شك فيها.
٨ - أمر الرسول - ﷺ - أن يتركهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي كانوا يوعدون.
٩ - الإخبار بأن الظالمين في كل أمة، وكل جيل يعذبون في الدنيا قبل عذابهم في الآخرة.
١٠ - الإخبار بأن الله حارس نبيه وكالئه فلا يصل إليه أذى من خلفه كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
١١ - أمره - ﷺ - بالذكر والتسبيح آناء الليل، وأطراف النهار، وفي كل موطنٍ ومجلس يقوم فيه (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) فرغنا من هذه السورة في تاريخ ١٧/ ٥/ ١٤١٥ هـ.
99
سورة النجم
سورة النجم مكيّة جميعًا في قول الجمهور، وروي عن ابن عباس، وعكرمة: أنّها مكية، إلا آية منها وهي مدنية، وهي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ الآية، نزلت بعد سورة الإخلاص.
وهي (١) اثنتان وستون آيةً، وثلاثمائة وستون كلمةً، وألف وأربع مئة وخمسة أحرف.
مناسبتها لما قبلها من وجوه (٢):
١ - إنّ السورة قبلها ختمت بقوله: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾، وبدئت هذه بقوله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)﴾.
٢ - إنّ السورة قبلها ذكر فيها تقوُّل القرآن، وافتراؤه وذكر هذا في مفتتح هذه السورة.
٣ - إنه ذكر في التي قبلها أن ذرية المؤمنين تبع لآبائهم، وفي هذه ذكر ذرية اليهود في قوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.
٤ - إنه قال هناك في المؤمنين: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ وقال هنا في الكفار: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾.
وقال أبو حيان: مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة؛ لأنه قال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾؛ أي: اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشعر، وقالوا: هو كاهن ومجنون. فأقسم تعالى إنه ما ضل، وإن ما يأتي به هو وحي من الله، انتهى.
تسميتها: سميت سورة النجم لقوله في أوّلها: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)﴾.
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
100
فضائلها: ومن فظائلها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود أنها أول سورة أعلن النبي - ﷺ - قراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.
ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي: إنَّ أول سورة أنزلت فيها سجدة ﴿وَالنَّجْمِ﴾، فسجد رسول الله - ﷺ -، وسجد الناس كلهم إلا رجلًا رأيته أخذ كفًّا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا. وهو أمية بن خلف.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم (١): سورة النجم كلها محكم إلا آيتين:
إحداهما: قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا﴾ (٢٩) الآية، نسخت بآية السيف.
والثانية: قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾ (٣٩) نسخت بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ الآية. فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفِّع الله تعالى الآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء. ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ (١١) سورة النساء، انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الناسخ والمنسوخ.
101

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٣٢)﴾.
المناسبة
قد تقدم آنفًا بيان المناسبة بين أوّل هذه السورة، وآخر التي سبقت. وقد أقسم (١) ربنا بخلق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتها إلا هو، وهي نجوم السماء التي تهدي الساري في الفلوات، وترشده إلى البعيد من المسافات، على أن محمدًا صاحبكم نبي حقًّا، وما ضل عن طريق الرشاد، ولا اتبع الباطل، ولا يتكلم إلا بوحي يوحيه الله إليه، ويعلمه إياه جبريل شديد القوى.
(١) المراغي.
102
ولقد رأه مرتين على صورته التي خلقه الله عليها بأجنحته وأوصافه الملكية. مرة بغار حراء في بدء النبوة، وأخرى ليلة المعراج، حين عرج به إلى السماء، ورأى من عجائب صنع الله ما رأى مما استطاع أن يخبركم به، ومما لم يستطع ذلك. فكيف بكم تجادلونه فيما أخبركم به؟ وتقولون طورًا: إنه مجنون، وطورًا آخر: إنه كاهن، وطورًا ثالثًا: إنه شاعر، وما كل هذا بالذي ينطبق على أوصافه. وهو صاحبكم، وأنتم أعلم بحاله، فحق عليكم أن تسمعوا قوله، وأن تطيعوا أمره. فتفوزوا برضوان من ربه.
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (١) لما بين أن ما رآه محمد - ﷺ - من العجائب ليلة المعراج قال للمشركين: ماذا رأيتم في هذه الأصنام، وكيف تحصرون أنفسكم في العالم المادّيّ وأصنامه، وتقطعون على أنفسكم طريق التقدم والارتقاء، وإن النفس لا ترقى إلا بما استعدت له. فإذا وقفت النفوس عند هذه المادة، وتلك الأصنام لم يكن لها عروج إلى السماء. ولاسيما أن هذه الأصنام لا تشفع لهم عند ربهم، ولا تجديهم نفعًا.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن لله سبحانه لما أمر رسوله بالإعراض عن المشركين مع شدة ميله إلى إيمانهم، وتطلعه إلى هدايتهم، وتعلقه بصلاحهم وإرشادهم، وهم قومه وعشيرته، وأبان له أن هؤلاء قوم انصرفوا عن النظر إلى الحق، ووجهوا همهم إلى زخرف الدنيا، وأن منتهى علمهم التصرف في شؤونها فهي قبلتهم التي إليها يحجون، ومطمع أنظارهم الذي إليه يرنون. وذكر أنه هو العليم باستعدادهم، وأنهم قوم ضالون، لا يصل الحق إلى شغاف قلوبهم، ولا يلتفتون إليه بعيونهم.. ذكر هنا أنه لا يهملهم، بل سيجزيهم بسوء صنيعهم. وهو العليم بما في السموات والأرض، فلا يترك عباده هملًا، بل يجازيهم بعدله. فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء على سوء صنيعه بما هو أهله. ثم أردف ذلك ذكر أوصاف المحسنين، وأنهم هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ولا
(١) المراغي.
103
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إن ادّعوا ذلك، وأردت إلزامهم الحجة فأقول لك قل لهم ليأت مستمعكم بسلطان مبين على ذلك. واللام حرف