ﰡ
في بدء نزول الوحي بعد نزول سورة العلق «اقرأ» نزلت سورة المزمّل التي تعالج آثار الوحي الثقيل على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحمله على ملازمة عبادة الله تعالى في الليل والنهار، لتقوى روحانيته وصلته بربّه وتكتمل حالة الخشوع والإخلاص لله، وتطالبه بترتيل القرآن ليتمكن سامعوه من تدبّره وإدراك معانيه، كما تطالبه بكثرة الذكر لله لتستمر الصلة بالله تعالى الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وبالصبر في الدعوة، وتفريغ النهار للدعوة والتبليغ وجهاد المعارضين ومشاغل الحياة واكتساب الرزق،
قال ابن عباس: كان نزول المزمّل في ابتداء الوحي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما سمع قول الملك، ونظر إليه، أخذته الرّعدة، فأتى أهله، فقال: «زملوني زملوني» أي غطّوني.
وهذا مطلع سورة المزمّل المكّية:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [المزمّل: ٧٣/ ١- ١٠].
(٢) اقرأه بتثبت وتؤدة.
(٣) شاقّا شديدا.
(٤) قيام الليل بعد النوم.
(٥) مواطأة وموافقة، يتوافق فيها القلب مع السمع على تفهم القرآن.
(٦) أعدل قولا.
(٧) عملا كثيرا سريعا.
(٨) انقطع إليه انقطاعا.
(٩) مفوضا إليه أمورك.
(١٠) الهجر الجميل: هو ما لا عتاب معه.
فيا أيها النّبي المتزمّل المتلفّف بثيابك، صلّ صلاة الليل أو صلاة التهجد بمقدار نصف الليل، بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك، وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. والأمر بقيام الليل في رأي جمهور أهل العلم: هو أمر على جهة النّدب، قد كان، ولم يفرض قط.
وقال بعضهم: كان فرضا في وقت نزول هذه الآية، إما على الجميع، وإما على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وحده حتى توفّي، وهذا هو الراجح.
ثم اقرأ القرآن على تمهّل، مع تبيين الحروف، ليكون عونا على فهم القرآن وتدبّره، وقوله: تَرْتِيلًا تأكيد في الإيجاب، وأنه لا بد للقارئ منه، ليستحضر المعاني.
والترتيل: أن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، كما كان يفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم. أخرج الحاكم وغيره عن البراء: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».
إننا سنوحي إليك القرآن، وسننزله عليك، وفيه التكاليف الشاقة على البشر، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس، من الفرائض والحدود، والحلال والحرام، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه.
إن ناشئة الليل، أي قيام الليل، وهو الذي ينشأ بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها، وأشد ثبوتا ورسوخا، وأقوم قولا وأثبت قراءة، لأنه بخلو البال من أشغال النهار يوافق قلب المرء لسانه، وفكره عبارته، فهذه مواطأة صحيحة.
ولا تنقطع عن ذكر الله في أي وقت ليلا أو نهارا، وأكثر من ذكر الله، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا، وأخلص العبادة لربّك، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية.
وَتَبَتَّلْ معناه: انقطع من كل شيء إلا منه، وافرغ إليه.
وسبب الأمر بالعبادة وضرورة التّبتّل: أن ربّك ربّ المشرق والمغرب الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة، فأفرده بالتوكّل، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور.
والوكيل: القائم بالأمور الذي توكل إليه الأشياء.
والقيام بتبليغ الرسالة يتطلب جهدا متواصلا، وصبرا دائما، فاصبر أيها الرسول على أذى قومك، وما ينالك من السّب والاستهزاء، ولا تجزع من ذلك، ولا تتعرض لهم، ولا تعاتبهم ودارهم. وعلاج الأذى: هو الصبر. والهجر الجميل:
وهو أن تجانبهم وتداريهم، ولا تعاتبهم وفوّض أمرهم إلى الله تعالى. فالهجر الجميل: هو الذي لا عتاب معه.
أرشدت الآيات إلى فرضية التّهجد على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، خاصة به، وإلى وجوب ترتيل القرآن: وهو قراءته على مهل، وتبيين حروفه، وتحسين مخارجه، وإظهار مقاطعه، مع تدبّر المعاني. وناشئة الليل، أي العبادة في الليل أشدّ انسجاما وتوافقا بين الفكر والقلب، والعقل والنفس، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة. والنهار لكسب العيش والحاجات الأصلية. ولا يترك ذكر الله باللسان والقلب في جميع الأوقات، والتّبتّل:
الانقطاع إلى الله بالكلية، بإخلاص العبادة، لا تعطيل أعمال الدنيا، ويطالب المؤمن بإفراد الله بالعبادة، وبالتوكل عليه دون سواه، ولا بدّ من الصبر على الأذى في سبيل نشر الدعوة إلى الله وتوحيده.
هدّد الله تعالى وأوعد المشركين على الإعراض عن قبول دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وخوّفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله، وعذاب الدنيا ومخاطره، وأنذرهم بإرسال رسول شاهد على أعمالهم كإرسال موسى عليه السّلام إلى فرعون، ثم وصف الله تعالى عذاب الآخرة، وأنه لشدته يشيب منه الولدان، وتتشقق السماوات منه، وأن هذه تذكرة مؤثرة وعظة بليغة، لمن شاء اتخاذ السبيل القويم إلى ربّه تعالى. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١١ الى ١٩]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [المزمّل: ٧٣/ ١١- ١٩].
قوله تعالى: وَذَرْنِي روي أنها نزلت في صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين: وهذا وعيد لهم. ومعناه: دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال فلا يتمكن أحد من منع العذاب عنهم، فإني أكفيك أمرهم، وأنتقم لك منهم، فلا تأبه بكونهم أرباب الغنى والسعة والتّرفّه في الدنيا، وتمهّل عليهم رويدا وزمنا طويلا. والمراد: لا تشغل أيها النّبي بالك بهم وكلهم إلي.
(٢) اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ.
(٣) قيودا ثقيلة. [.....]
(٤) نارا محرقة.
(٥) يغصّ به فلا يستساغ.
(٦) تلّا من رمل متجمع بتأثير الريح، ومهيلا: رخوا لينا.
(٧) ثقيلا شديدا.
(٨) جمع أشيب.
(٩) منشق متصدّع.
والأنكال: جمع نكل: وهو القيد من الحديد، ويروى أنها قيود سود من نار.
وروي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية فصعق.
وزمان ذلك العذاب الذي يعذب به الكافرون: هو في يوم تضطرب فيه الأرض والجبال، وتتزلزل بمن عليها. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وتصير الجبال كالكثيب المهيل، أي الرمل المتجمع السائل، الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان، بعد ما كانت حجارة صماء، وصخورا صلبة، ثم تنسف نسفا، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب.
والمهيل: هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها.
ثم هدّد الله تعالى مشركي مكة بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة، وهو: إننا أرسلنا إليكم أيها المشركون في مكة وغيرها، رسولا هو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم، وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع، وطاعة وعصيان، كما أرسلنا موسى عليه السّلام إلى الطاغية فرعون، يدعوه إلى دين الحق والإيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه، وكذّبه ولم يؤمن برسالته، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا، وعاقبناه عقابا مؤلما، وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأنتم أولى بالهلاك والدمار، إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه السّلام. وإنما عرّف كلمة (الرسول) في المرة الثانية، لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر.
كيف تقون أنفسكم، وتنعمون بالأمان والاستقرار إن بقيتم على الكفر، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور، لشدة هوله، وهذا كناية عن شدة الخوف وتصير السماء متشققة به متصدعة، لشدته وعظيم هوله، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا، لا محالة، ولا محيد عنه. وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ معناه: كيف تجعلون واقيا لأنفسكم، وكلمة (يوما) مفعول به لكلمة (تتقون) ويجوز أن يكون ظرفا، والمعنى: تتقون عقاب الله يوما. ويَجْعَلُ الْوِلْدانَ إما مسند إلى اسم الله تعالى، أو مسند إلى اليوم. و (الولدان) صغار الأطفال. والسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي ذات انفطار وتشقق، كامرأة حائض وطالق. والانفطار: التصدع والانشقاق، على غير نظام يقصد. وضمير (به) إما عائد على اليوم، وإما عائد على الله تعالى.
وهذه الآية لها نظائر، منها: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: ٢٥/ ٢٥]. أي بالغمام الذي هو ظلل، يأتي الله تعالى فيها، والمعنى: يأتي أمره وقدرته. وكذلك مُنْفَطِرٌ بِهِ أي بأمره وسلطانه. وضمير كانَ وَعْدُهُ ظاهر أنه لله تعالى. ويحتمل أن يكون لليوم، لأنه يضاف إليه من حيث هو فيه.
إن توالي التهديدات لمشركي قريش، مع وصف ألوان العذاب، يدلّ على شدة غضب الله تعالى وسخطه على كل من كفر بالله وأشرك، وأن كل أعمال المشركين مرصودة مدونة عليهم مشهود بها من رسولهم عليها، حتى لا تكون مجالا للإنكار والجحود. وما تقدم في سورة المزمل من الآيات المخوفة موعظة بليغة، فمن أراد اتّعظ بها واتّخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة.
الإسلام كله دين يسر، وسهولة، وتخفيف، قد يفرض أو يطلب فيه شيء لظرف من الظروف في فاتحة الوحي الإلهي، ثم يرفع الفرض أو الندب مثل قيام الليل، وذلك فضل من الله ورحمة، وإحسان ونعمة، ليكون المطلوب على جهة الدوام والاستمرار موصوفا بصفة اليسر ودفع الحرج والمشقة. وآيات التخفيف متنوعة، منها ما ورد في قيام الليل الذي كان مطلوبا إما على جهة الوجوب أو على الندب، بحسب الخلاف المذكور بين العلماء:
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المزمّل: ٧٣/ ٢٠].
إن ظروف طروء المرض، والتجارة، والجهاد في سبيل الله اقتضت التخفيف عن النبي وأمته في شأن عبادة الليل، والله محيط علمه بكل شيء.
فإن الله تعالى يعلم أيها الرسول أنك تقوم ممتثلا أمر ربك، تاركا النوم والراحة لمدة هي أقل من ثلثي الليل أحيانا، وأحيانا تقوم نصفه أو ثلثه أو أدنى من الثلث، بحسب قدراتهم مع عذر النوم. إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الندب، بحسب الخلاف المتقدم بين العلماء، في أوائل سورة المزمّل. وتقوم معك ذلك القدر في قيام الليل طائفة من أصحابك، والله يجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.
(٢) تطيقوه.
(٣) يسر عليكم وخفف عنكم.
(٤) الضرب في الأرض: هو السفر للتجارة وغيرها.
(٥) يطلبون الرزق من الله بالتجارة وغيرها.
قال مقاتل: لما نزلت قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال الله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ. والمراد بقوله: لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه، لصعوبة الأمر، لا أنهم لا يقدرون عليه.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ هذا في صلاة قيام الليل، أي صلّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، فالمراد بالقراءة: الصلاة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وهذه الآية نسخت المطالبة بقيام الليل.
وأسباب التخفيف: هي أن الله تعالى علم بطروء أعذار ثلاثة على بني آدم تحول بينهم وبين قيام الليل: هي المرض، والسفر، والجهاد، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة وكسب العيش والأرباح، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل. وقوم آخرون: هم المجاهدون في سبيل الله، لا يطيقون قيام الليل، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة، وكذا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: عَلِمَ أَنْ أن مخففة من الثقيلة، أي أنه يكون. والضرب في الأرض: هو السفر للتجارة.
فصلّوا ما تيسّر، واقرؤوا في صلاتكم الليلة قبيل الفجر ما تيسّر من القرآن، والمراد بالأمر هنا الإباحة، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها، وأدّوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها، وملازمة الخشوع فيها، دون غفلة عنها، وأدّوا الزكاة الواجبة في الأموال، وأنفقوا في سبيل الله إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد، وعلى المحتاجين. وإقراض الله تعالى: هو استلاف العمل الصالح عنده مجازا عن القبول.
ثم أكد الله تعالى طلب الصدقة ورغّب فيها، فجميع ما تقدّمونه من الخير المذكور وغير المذكور، ثوابه حاصل لكم، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، ومما تؤخّرونه إلى وقت الموت، أو توصون به، لإخراجه من التركة بعد موتكم.
ثم أمر الله تعالى بالاستغفار، وأوجب لنفسه صفة الغفران، لا إله غيره، فأكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها، فإنكم قد تقترفون بعض الذنوب، والله كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمن لمن استرحمه. قال بعض العلماء: فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية، ومن قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) [الذّاريات: ٥١/ ١٧- ١٨].