تفسير سورة الأنفال

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ ﴾ الآية هذه السورة مدنية كلها إلا سبع آيات أولها وإذ يمكر بك الذين كفروا، إلى آخر الآيات، قاله ابن عباس ولا خلاف أنها نزلت يوم بدر وأمر غنائمه. وقال ابن زيد: لا نسخ فيها إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله تعالى والصادع فيها ليقع التسليم فيها من الناس وحكم القسمة نازل في خلال ذلك. والأنفال: جمع نَفَل. قال ابن عباس وجماعة: هي الغنائم.﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ أمر بإِصلاح ذات البين، وهذا يدل على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة وربما خيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمصافاة. وتقدم الكلام على ذات في قوله: بذات الصدور، والبين هنا الفراق والتباعد، وذات هنا نعت لمفعول محذوف أي وأصلحوا أحوالاً ذات افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت صفتها إليها كما تقول: اسقني ذا انائك، أي ماء صاحب إنائك، لما لابس الماء الإِناء وصف بذا وأضيف إلى الإِناء، والمعنى اسقني ما في الإِناء من الماء.﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي كاملي الإِيمان. قال ابن عطية: وجواب الشرط في قوله المتقدم: وأطيعوا، هذا مذهب سيبويه. ومذهب أبي العباس: أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب على الشرط. " انتهى ". والذي قاله مخالف لكلام النحاة فإِنهم يقولون إن مذهب سيبويه ان الجواب محذوف وإن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح.﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ ﴾ الآية قرىء: وجلت بفتح الجيم وهي لغة ولما كان معنى إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإِيمان قال: إنما المؤمنون، أي الكاملوا الإِيمان، ثم أخبر عنهم بموصول وصل بثلاث مقامات عظيمة وهي مقام الخوف ومقام الزيادة في الإِيمان ومقام التوكل، ويحتمل قوله: إذا ذكر الله أن يذكر اسمه فقط ويلفظ به تفزع قلوبهم لذكره استعظاماً له وهيباً وإجلالاً، ويحتمل أن يكون ذكر الله على حذف مضاف أي ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه.﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ الأحسن أن يكون الذين صفة للذين السابقة حتى يدخل في حيّز الجزية فيكون ذلك إخباراً عن المؤمنين بثلاث الصلاة القلبية وعنهم بالصفة البدنية والصفة المالية. وجمع أفعال القلوب لأنها أشرف وجمع في أفعال الجوارح بين الصلاة والصدقة لأنها عمود أفعال الجوارح. والظاهر أن قوله: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ عام في الزكاة ونوافل الصدقات وصلات الرحم وغير ذلك من المبارّ المالية.﴿ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ حقاً نعت لمصدر محذوف تقديره إيماناً حقاً. ويجوز أن يكون توكيد المضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفاً تقديره أحقه حقاً. وهم في قوله: هم المؤمنون، يجوز أن يكون فصلاً بين المبتدأ والخبر وأن يكون مبتدأ خبره المؤمنون، والجملة خبر لأولئك، ويجوز أن يكون بدلاً من أولئك.﴿ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ الآية، لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات والبدنية بالغفران وقوبلت المالية بالرزق الكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البديع.
﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ ﴾ الآية، ذكر في البحر في تأويل هذه الآية خمسة عشر قولاً لم يتضح شىء منها ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلب في إنشاء أفانينه وزوال الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئاً من تلك الأقوال، وان كان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يتحنك بلوك الكلام ولم يكن في طبعه صوغه أحسن صوغ ولا التصرف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإِعجاز، وقيل تسطير هذه الأقوال في البحر وقفت على جملة منها فلم يَلْقِ بخاطري منها شىء فرأيت في النوم أني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، فقلت له: ما مرّ بي شىء مشكل في القرآن مثل هذا، ولعل ثم محذوفاً يصح به المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شىء طائل، ثم قلت له: ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك، واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره والتقدير فكأنه قيل: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، أي بسبب إظهار دين الله تعالى وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذ كان أمر عليه السلام بخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدّك بملائكته. ودل على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله: إذ تستغيثون ربكم الآيات، ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل. وقد نص النحويون أنها قد يحدث فيها التعليل وخرّجوا عليه قوله تعالى:﴿ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ ﴾[البقرة: ١٩٨].
وأنشدوا: لا تشتم الناس كما لا تشتم   أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع في هذا المعنى كما تطيع الله عز وجل يدخلك الجنة أي لإِطاعتك الله يدخلك الجنة فكان المعنى لأجل أن خرجت لإِعزاز دين الله تعالى وقتل أعدائه نصرك الله وأمدّك بالملائكة. والظاهر أن من بيتك هو مقام سكناه بالمدينة لأنها مهاجرة ومختصة به. والواو في: ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً ﴾ واو الحال ومفعول.﴿ لَكَارِهُونَ ﴾ هو الخروج أي لكارهون الخروج معك وكراهتهم ذلك اما لنفرة الطبع وإما لأنهم لم يستعدوا للخروج. والظاهر أن ضمير الرفع في ﴿ يُجَادِلُونَكَ ﴾ عائد على فريقاً من المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم: ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإِسلام. ويحتمل أن يكون يجادلونك في موضع الحال من الضمير في لكارهون. ويحتمل أن يكون استئناف اخبار وما في قوله: ما تبين مصدرية أي بعد تبينه وهذا أبلغ في الإِنكار لجدالهم بعد وضوح الحق كأنما يساقون إلى الموت شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بمال من يشاق على الصغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل: كان خوفهم لقلة العدد وانهم كانوا رجالة. وروي أنهم ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المشركون في نحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتب السير.﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ ﴾ هي غير معيّنة. والطائفتان هما طائفة غير قريش وكانت فيها تجارة عظيمة لهم ومعها أربعون راكباً فيها أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام، وطائفة الذين استنفرهم أبو جهل وكانوا في العدد الذي ذكرناه وغير ذات الشوكة هي الغير لأنها ليست ذات قتال وإنما هي غنيمة باردة. ومعنى إحقاق الحق تبيينه وإعلاؤه. وبكلماته بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر لملائكة من نزولهم للنصرة وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وبما أظهر من خبره صلى الله عليه وسلم وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، والمعنى أنكم مرغبون في الفائدة العاجلة وسلامة الأحوال والله تعالى يريد معالي وإعلاء الحق والفوز في الدارين وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلهم ونصركم وأذلهم وأعزكم وحصل لكم ما أربي على فائدة العير وما أدناه وأقله هو خير منها.﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾ إذ بدل من إذ يعدكم؛ واستغاث طلب الغوث لما علموا أنه لا بد من القتال شرعوا في طلب الغوث من الله تعالى والدعاء بالنصرة. والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله: وإذ يعدكم الله وتودون. وان الخطاب في قوله: كما أخرجك. ويجادلونك هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أفرد فالخطابان مختلفان. واستغاث يتعدى بنفسه كما هو في الآية وكما هو في قوله:﴿ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ ﴾[القصص: ١٥].
ويتعدى بحرف الجر كما جاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة، وكقول الشاعر: حتى استغاثت بما لا رشاء له   من الأباطح في حافاته البُركُوالظاهر أن قراءة من قرأ مردفين بسكون الراء وفتح الدال أنه صفة لقوله: بألف أي أردف بعضهم ببعض.﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ ﴾ الضمير في وما جعله عائد على الامداد المنسبك من أني ممدكم. وتقدم تفسير نظير هذه الآية، والمعنى إلا بشرى لكم فحذف لكم وأثبت في آل عمران لأن القصة فيها مسهبة وهنا موجزة فناسب هنا الحذف وهنا قدم به وأخر هناك على سبيل التفنن في الفصاحة والاتساع في الكلام وهنا جاء أن الله عزيز حكيم رعاية لأواخر الآي وهناك ليست آخر آية لتعلق ليقطع بما قبله فناسب أن يأتي العزيز الحكيم على سبيل الصفة وكلاهما مشعر بالعلية كما تقول: أكرم زيداً العالم، وأكرم زيداً أنه عالم.
﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ ﴾ إذ بدل ثان من إذ يعدكم عدد تعالى نعمه على المؤمنين في يوم بدر وانتصب امنة على أنه مفعول من أجله لاتحاد الفاعل في قراءة من قرأ يغشيكم والمغشي هو الله تعالى. قال الزمخشري: ان منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإِضمار اذكر. " انتهى ". أما كونه منصوباً بالنصر ففيه ضعف من وجوه أحدهما أنه مصدر فيه الْ. وفي اعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو إلا من عند الله وذلك لا يجوز لا يقال: ضرب زيد شديد عمرا. الثالث أنه يلزم منه اعمال ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له وإذ ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة، وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش. وأما كونه منصوباً بما في عند الله من معنى الفعل فيضعّفه المعنى لأنه لا يصبر استقرار النصر مقيداً بالظرف والنصر من عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره. وأما كونه منصوباً بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفي وهو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك الثلاثة. ومعنى: ﴿ لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ أي من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر وكان نزول المطر قبل ذلك.﴿ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ ﴾ أي عذابه لكم بوسواسه. والرجز: العذاب. والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملاً تغوص فيه الأقدام فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام. والضمير في به عائد على المطر وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولاً منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة. وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يتغسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني وهو فعل محله القلب وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يفرون وقت الحرب. فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبي ظهر حرف التعليل. وحين ذكر لازمهما لم يؤكد بلام التعليل، وبدأ أولاً بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل والذي يؤدي به أفضل العبادات وتحيى به القلوب.﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾ هذا أيضاً من تعديد النعم إذ الإِيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويغنيهم. تقدم أن الخطاب السابق للمؤمنين وهنا جاء الخطاب في قوله: إذ يوحي ربك، لرسول الله وحده من ربه أي مالكه والناظر في إصلاحه، والملائكة، هم الذين أمدّ الله تعالى المؤمنين بهم، وأنى معكم بالنصر والتأييد، ثم أمر الملائكة بتثبيت المؤمنين وأخبر أنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار ثم أمره بضرب ما فوق الأعناق وهي الرؤوس وضرب كل بنان وهي الأصابع وهي اسم جنس، الواحد منها بنانة.﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ الآية الإِشارة إلى ما حل بهم من رعب اللقاء في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل والكاف لخطاب السامع وذلك مبتدأ وبأنهم خبره والضمير عائد على الكفار. وتقدم الكلام في المشاقة في قوله تعالى:﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾[البقرة: ١٣٧] والمشاقة هنا مفاعلة فكأنه لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوهم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق وعبّر المفسرون عن قوله: شاقوا الله أي صاروا في شق غير شقه. والضمير في جملة الجواب العائد على اسم الشرط الذي هو من محذوف تقديره شديد العقاب لكم.﴿ ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ ﴾ الآية جمع بين العذابين عذاب الدنيا وهو المعجل وعذاب الآخرة وهو المؤجل والإِشارة بذلكم إلى ما حل بهم من عذاب الدنيا والخطاب للمشاقين ولما كان عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة يسيراً سمي ما أصابهم منه ذوقاً، لأن الذوق يعرف به الطعم وهو يسير ليعرف به حال الطعم. ذلكم مبتدأ خبره محذوف تقديره ذلكم العقاب أو خبر مبتدأ محذوف تقديره العقاب ذلكم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون نصباً على عليكم ذلكم فذوقوه كقولك: زيداً فاضربه. " انتهى ". ولا يجوز هذا التقدير لأن عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بزيد أفأضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيداً فاضربه، وإنما هو منصوب على الاشتغال.﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ الآية، قال ابن عطية: أما على تقدير وحتم أنّ فيقدر ابتداء محذوف يكون ان خبره واما على تقدير، واعلموا انّ فهي على هذا في موضع نصب. " انتهى ". وقرأ الحسن وزير بن عليّ وسليمان التيمي وان بكسر الهمزة على استئناف اخبار ونبه على العلة وهي الكفر في كون عذاب النار لهم.
﴿ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ الآية، زحفاً نصب على الحال من المفعول أي زاحفين إليكم، أو من الفاعل أي زاحفين إليهم، أو منهما أي متزاحفين. قال الفراء: الزحف الدنو قليلاً قليلاً، يقال: زحف إليه يزحف زحفاً إذا مشى.﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾ عدل عن لفظ الظهور إلى لفظ الإِدبار تقبيحاً لفعل الفار وتبشيعاً لانهزامه وتضمن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة على القتال ومن يولهم يومئذٍ دبره الآية لما نهى تعالى عن تولي الإِدبار توعد من ولى دبره وقت لقاء العدو وناسب قولهم: ومن يولهم، قوله: فقد باء بغضب من الله، كان المعنى فقد ولى مصحوباً بغضب الله تعالى. قال الشاعر: فلسنا على الأعقاب تدمى كلُومنا   ولكن على أقدامنا تقطر الدماوالظاهر أن الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله: إذ لقيتم الكفار، وانتصب متحرفاً ومتحيزاً على الحال من الضمير المستكن في يولهم العائد على مَن.﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً ﴾ التحرف للقتال هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهذا من باب خدع الحرب ومكائدها. إلا متحيزاً اسم فاعل من تحيز أصله تحيوَز تفيعل من الحوز اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصار تحيز.﴿ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ المخصوص بالذم محذوف تقديره بئس المصير هي أي جهنم.﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾ الآية، لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل: قتلت وأسرت فنزلت. قال الزمخشري: والفاء جواب شرط محذوف تقديره ان افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. " انتهى ". وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال:﴿ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾[الأنفال: ١٢]، كان امتثال ما أمروا به سبباً للقتل. فقيل: فلم تقتلوهم، أي لستم مستبدّين بالقتل لأن الاقدار عليه والخالق إنما هو الله تعالى ليس للقاتل فيها شىء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبته لله تعالى وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفية بلم لأن لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع.﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ الآية، قال ابن عباس:" قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قبضة من تراب فرماهم بها. وقال: شاهت الوجوه، أي قبحت فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شىء "ومجيء لكنّ هنا في الموضعين أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله تعالى هو المنفي عنهم وهو حقيقة القتل.﴿ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً ﴾ قال السدي: ينصرهم وينعم عليهم. يقال: أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه والبلاء يستعمل للخير والشر، والبلاء الحسن قيل: بالنصر والغنيمة، وقيل: بالشهادة. واللام في ليبلى تتعلق بمحذوف بعد الواو تقديره وفعلنا ذلك، أي قتلهم ورميهم أو مقدر آخر الجملة تقديره بلاء حسناً فعلنا ذلك.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لكلامكم وما تفخرون به.﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما انطوت عليه الضمائر.﴿ ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ قال الزمخشري: ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع. وإن الله موهن معطوف على وليبلى يعني أن الغرض إبلاء للمؤمنين وتوهين كيد الكافرين. " انتهى ". وهذا فيه بعد لفصل المعطوف الذي هو وان الله عن ليبلى بجملتين إحداهما وان الله سميع عليم، والأخرى ما قدره في قوله ذلكم. وقال ابن عطية: ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلكم من الإِعراب رفع. قال سيبويه: التقدير الأمر ذلكم. وقرىء: موهّن من وهن. والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو: ضعّفت ووهّنت وبابه ان يعدى بالهمزة نحو أوْهنته. وقرىء: موهن إسم فاعل من أوهن. وقرىء: بالتنوين ونصب كيد وبحذفه وجر كيد على الإضافة.﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ ﴾ قال الجمهور: هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا باستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني ان كان محمد على الحق فانصره وإن كنا على حق فانصرنا.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ الظاهر أنه نداء وخطاب للمؤمنين الخلص حثهم بالأمر على طاعة الله ورسوله وأمروهم بالأمر رفعاً لأقدارهم.﴿ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ ﴾ أي عن الرسول صلى الله عليه وسلم.﴿ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ أي الأمر بالطاعة والنهي عن التولي.﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ ﴾ الآية، تقدم الكلام على الصم البكم الذين لا يعقلون في البقرة. وقيل: نزلت في طائفة من بني عبد الدار كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعاً يوم بدر وكانوا أصحاب اللواء.﴿ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ﴾ قال ابن عطية: أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علم الله تعالى منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم، بقوله: لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، والمراد لأسمعهم إسماع تفهّم وهدى. ثم ابتدأ تعالى الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال:﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ﴾ أي ولو فهّمهم.﴿ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبيّن لهم من الهدى. " انتهى ".
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ ﴾ تقدم الكلام في استجاب في قوله:﴿ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾[البقرة: ١٨٦]، وأفرد الضمير في دعاكم كما أفرده في: ولا تولوا عنه. والظاهر تعلق لما بقوله: دعاكم، ودعا يتعدى باللام قال: دعوت لما نابني مسْوَراً. وقال آخرون: وان أدع للجلي أكن من حماتها   ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ المعنى أنه تعالى هو المتصرف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإِنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذي ينبغي أن يستجاب إذا دعي إذ بيده ملكوت كل شىء وزمامه.﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً ﴾ الآية، هذا خطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختص بالظالم بل تعم الصالح والطالح. والجملة من قوله: لا تصيبن، خبرية صفة لقوله: فتنة، أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أنّ دخول نون التوكيد على المنفي بلا مختلف فيه فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو على الندور، والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين، وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل منفياً بلا مع الفصل نحو قوله: فلاذا نعيم يتركن لنعيمه   وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي. فلأن تلحقه من غير الفصل أولى نحو لا تصيبن. وزعم الزمخشري أن الجملة صفة وهي نهي، قال: وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل: واتقوا فتنة، مقولاً فيها لا تصيبن. وزعم الفراء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك أي أن تنزل عنها لا تطرحنك. قال: ومنه لا يحطمنكم أي أن تدخلوا لا يحطمنكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء. " انتهى ". وهذا المثال وهو قوله: ادخلوا، ليس نظير واتقوا فتنة، لأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هنا ألا ترى أنه لا يصح تقدير أن تتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منك خاصة، لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط غير مقتضاه من جهة المعنى. وأخذ الزمخشري قول الفراء وزاده فساداً وخبط فيه فقال: وقوله: لا تصيبن، لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر أو نهياً بعد أمر أو صفة لفتنة فإِذا كان جواباً فالمعنى أن إصابتكم فتنة لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم. " انتهى " تقريره لهذا القول، فانظر كيف قدر أن يكون جواباً للأمر الذي هو اتقوا ثم قدر أداة الشرط داخلة على غير مضارع اتقوا فالمعنى ان إصابتكم يعني الفتنة، وانظر كيف قدر الفراء في انزل عن الدابة لا تطرحنك، وفي قوله: ادخلوا، فادخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جواباً للأمر وفيه تخريجات أخر ذكرت في البحر. قال الزمخشري: خاصة أصله أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في لا تصيبن ويحتمل أن يكون حالاً من الذين ظلموا أي مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون خاصة حالاً من الضمير في الذين ظلموا. " انتهى ". لا أتعقل أنا هذا الوجه.﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ﴾ الآية نزلت عقب بدر فقيل خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيها يخافون أن يستلبهم المشركون، قاله ابن عباس فآواهم بالمدينة وأيدهم بنصره يوم بدر. والطيبات: الغنائم وما فتح به عليهم.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ﴾ الآية قال ابن عباس: نزلت في أبي لبابة حين استنصحته قريظة لما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم إلى أذرعات وأريحاء كفعله ببني النضير فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح فكانت خيانته في قصة طويلة.﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ وفي كون الأجر العظيم عنده تعالى إشارة إلى أن لا يفتن المرء بماله وولده فيؤثر محبتهما على ما عند الله تعالى فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك كما فعل أبو لبابة لأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة.﴿ يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الآية، الفرقان مصدر من فرق بين الشيئين أي حال بينهما. قال ابن عباس وجماعة: فرقانا مخرجاً. قال الشاعر: فكيف أرجي الخلد والموت طالبي   ومالي من كأس المنية فرقانأي مخرج ومخلص.﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، لما ذكر المؤمنين نعمه تعالى عليهم ذكرهم صلى الله عليه وسلم نعمه عليه في خاصة نفسه عليه السلام وكانت قريش تشاوروا في دار الندوة بما يُفعَل به فمن قائل يحبس ويقيد ويتربص به ريب المنون ومن قائل يخرج من مكة يستريحوا منه وتصور لهم إبليس في صورة شيخ نجدي وقيّل هذين الرأيين، ومن قائل يجتمع من كل قبيلة رجل ويضربونه ضربة واحدة بأسيافهم فيتفرق دمه في القبائل فلا يقدر بنو هاشم على محاربة قريش كلها فيرضون بأخذ الدية، فصوّب إبليس لعنه الله هذا الرأي. فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك وأمره ألا يبيت في مضجعه وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمر علياً أن يبيت في مضجعه ويتشح ببردته وباتوا راصدين فبادروا إلى المضجع فأبصروا علياً فبهتوا وخلف علياً رضي الله عنه ليرد ودائع كانت عنده وخرج إلى المدينة. ومعنى ليثبتوك أي ليثخنوك بالجراح والضرب، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه ولا حراك به ولا براج ورمى الطائر. فأثبته أي أثخنه. وقال الشاعر: فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم   قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعاأي مثخناً.﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ الآية، قائل ذلك النضر بن الحارث واتبعه قائلون كثيرون وكان من مردة قريش سافر إلى فارس والحيرة وسمع من قصص الرهبان والأناجيل واخبار رستم واسافنديار ورأى اليهود والنصارى يركعون ويسجدون قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً بالصفراء بالأثيل منها منصرفة من بدر وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جواباً فضيحاً بخلاف أدوات الشرط فإِنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر، نحو: من يكدني بشىء كنت منه   ومعنى قد سمعنا ولا نطيع أو قد سمعنا مثل هذا. وقولهم: لو نشاء أي لو نشاء القول لقلنا مثل هذا الذي تتلوه وذكر على معنى المتلو وهذا القول منهم على سبيل البهت والمصادمة وليس ذلك في استطاعتهم فقد طولبوا بسورة منه فعجزوا وكانوا أحب شىء إليهم الغلبة وخصوصاً في باب البيان فكانوا يتمالطون ويتعارضون ويحكم بينهم في ذلك وكانوا أحرص الناس على قهره صلى الله عليه وسلم فكيف يحيلون المعارضة على مشيئتهم ويتعللون بأنهم لو أرادوا لقالوا مثل هذا القول.﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ تقدم شرحه من الانعام.
﴿ وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ ﴾ الآية، قائل ذلك النضر بن الحارث، وقيل: أبو جهل، رواه البخاري ومسلم. والإِشارة في أن كان هذا إلى القرآن أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد وغيره أو نبوته عليه السلام من بين سائر قريش. وتقدم الكلام على اللهم. وقرأ الجمهور هو الحق بالنصب جعلوا هو فصلاً. وقال ابن عطية: ويجوز في العربية رفع الحق على أنه خبر هو والجملة خبر كان. قال الزجاج: ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب الحق. " انتهى ". وقد قرأ بها الأعمش وزيد بن علي وهي جائزة في العربية. فالجملة خبر كان وهي لغة تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم. قال الزمخشري: فإِن قلت: ما فائدة قوله من السماء والأمطار لا تكون إلا منها؟ قلت: كأنه أراد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسومة للعذاب فوضع حجارة من السماء موضع السجيل، كما يقال: صبّ عليه مسرودة من حديد يريد درعاً. " انتهى ". ومعنى جوابه أن قوله: من السماء، جاء على سبيل التوكيد كما أن قوله: من حديد، معناه التوكيد لأن المسرودة لا تكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا من السماء. وقال ابن عطية: وقولهم أي الكفار: من السماء مبالغة وإغراق. " انتهى ". والذي يظهر لي أن حكمة قولهم من السماء هي في مقابلتهم مجيء الأمطار من الجهة التي ذكر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي أنك تذكر أنه يأتيك الوحي من السماء فأتنا بعذاب من الجهة التي يأتيك منها الوحي إذ كان يحسن أن يعبّر عن إرسال الحجارة عليهم من غير جهة السماء بقولهم: فأمطر علينا حجارة، وقالوا ذلك على سبيل الاستبعاد والاعتقاد أن ما أتى به ليس بحق.﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ اللام في ليعذبهم لام الجحود. والنصب في الفعل بإِضمار أن بعد اللام، وتقدم الكلام عليها في آل عمران في قوله:﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الآية: ١٧٩].
وقال ابن بزي: نزلت الجملة الأولى بمكة أثر قوله: بعذاب أليم، والثانية عند خروجه من مكة في طريقه إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، والثالثة بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم. قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها. " انتهى ".﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ ﴾ الآية أنظر إلى حسن مساق هاتين الجملتين لما كانت كينونته فيهم سبباً لانتفاء تعذيبهم أكد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإِرادة المنتفية على رأي البصريين وانتفاء الإِرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام بل جاء خبر كان قولهم: معذبهم فشتان ما بين استغفارهم وكينونته صلى الله عليه وسلم فيهم. والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار. وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه: أن الضميرين عائدان على الكفار وكانوا يقولون في دعائهم: غفرانك، ويقولون: لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار فجعله الله تعالى أمنة من عذاب الدنيا.﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ الظاهر أن ما استفهامية أي أي شىء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متصفون بهذه الحال المقتضية للعذاب وهي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهلين لولايته ومن صدهم ما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصد، كانوا يقولون: نحن ولاة البيت نصد من نشاء وندخل من نشاء.﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ ﴾ الآية، لما نفى عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكد ذلك وان من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه، فالمعنى والله أعلم أن الذي يقوم به مقام صلاتهم هو المكاء والقصدية وضعوا مكان الصلاة، والتقرب إلى الله تعالى الصفير والتصفيق، وكانوا يطوفون بالبيت عراة رجالهم ونساؤهم مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفقون يفعلون ذلك، إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلطون عليه في صلاته وقراءته. ومكاء مصدر مكا يمكو وجاء على فعال ويكثر فعال في الأصوات كالصراخ.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر كانوا ينحرون يوماً عشراً من الإِبل ويوماً تسعاً وقيل غير ذلك.﴿ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ﴾ هذا إخبار بما يؤول إليه حال الكفار في الآخرة من حشرهم إلى جهنم إذ أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهم وكونهم مغلوبين. ومعنى قوله: والذين كفروا من وافى على الكفر، وأعاد الظاهر لأن من أنفق ماله من الكفار أسلم منهم جماعة ولام ليميز متعلقة بقوله: يحشرون. والخبيث والطيب وصفان يصلحان للآدميين، والخبيث هم الكفار، والطيب هم المؤمنون، وبعضه بدل من الخبيث أي ويجعل بعض الخبيث على بعض فيركمه أي يضمه. وأولئك إشارة إلى الذين. والخبيث اسم جنس لوحظ أولاً إفراده في قوله: بعضه، وفي قوله: فيركمه، ولوحظ ثانياً جمعه في قوله: أولئك هم الخاسرون.﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ الآية لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار وجعلهم فيها وخسرهم تلطف بهم وانهم إذا انتهوا عن الكفر وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر فلذلك كان المعنى وأن ينتهوا عن الكفر ويسلموا. وللام في للذين الظاهر أنها للتبليغ وانه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول وسواء أقاله بهذه العبارة أم غيرها.﴿ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾ العود يقتضي الرجوع إلى شىء سابق ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه، فالمعنى عودهم إلى ما أمكن انفصالهم عنه وهم الإِرتداد بعد الإِسلام وجواب الشرط. قالوا: فقد مضت سنة الأولين، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلك دليل على الجواب. والتقدير وان يعودوا انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنة الأولين في انا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم.﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة وهنا زيادة، كله توكيداً للدين.﴿ فَإِنِ انْتَهَوْاْ ﴾ أي عن الكفر. ومعنى بصير بإِيمانهم فيجازيهم على ذلك ويثيبهم.﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي أعرضوا عن الإِسلام والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ونعم النصير الله تعالى.
﴿ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ﴾ الآية، قال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة.﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ قال ابن عباس وجماعة: خمسة استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده: أعتقك الله، وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر والدنيا كلها لله تعالى وقسم الله وقسم الرسول واحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة أقسام. والظاهر أن ما موصولة، وغنمتم صلة ما، والعائد محذوف، ومن شىء تفسير لما انبهم في لفظ ما أريد بها العموم فلذلك دخلت الفاء في خبر ان لتضمن العموم معنى الشرط وان لله في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فالحكم ان لله خمسه. وأجاز الفراء أن تكون ما شرطية منصوبة بغنمتم، واسم انّ ضمير الشأن محذوف تقديره انه وحذف هذا الضمير مع أن المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر. وتقدم الكلام على ذوي القربى وما بعدها بالبقرة وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد.﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا ﴾ معطوف على بالله ويوم الفرقان يوم بدر بلا خلاف فرق الله فيه بين الحق والباطل. والجمعان: جمع المؤمنين وجمع الكافرين. والمنزل: الآيات والملائكة والنصر. وختم بصفة القدرة لأنه تعالى أدال المؤمنين أي نصرهم على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم.﴿ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ العدوة شط الوادي وتسمى شفيراً وضفّة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أي منعته أن يتجاوزه. قال الشاعر: عدتني عن زيارتها العوادي   وحالت دونها حرب زبونويسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاوزة. وقرىء: بالعدوة بكسر العين وبضمّها. ومعنى الدنيا: القربى، والقصوى: البعدى. وثبوت الواو في القصوى شاذ في القياس فصيح في الاستعمال. والقياس القصيا بالياء وقد قاله بعض العرب لأن الفعلي من ذوات الواو تقلب ياء كالدنيا من الدنو والعليا من العلو والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان. وقرىء أسفل بالنصب منصوباً على الظرف وهو في موضع الخبر للمبتدأ قبله وأصله وصف لموصوف محذوف تقديره والركب مكاناً أسفل منكم أي في مكان. وقرىء: أسفل بالرفع اتسع في الظرف، فجعل خبراً للمبتدأ قبله وذلك ان العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي الأرض اللينة التي تغوص فيها الأقدام ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم.﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ ﴾ كان الإلِتقاء على غير ميعاد. قال مجاهد: أقبل أبو سفيان وأصحابه تجاراً من الشام ولم يشعروا بأصحاب محمد ولا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر لتستقي ركابهم فاقتتلوا فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأسروهم.﴿ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾.
أي ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم كان مفعولاً أي موجوداً متحققاً واقعاً.﴿ لِّيَهْلِكَ ﴾ بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي. والظاهر أن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله تعالى وإعذار بالرسالة ويعيش من يعيش عن بيان منه وإعذار لا حجة لأحد عليه. وقرىء: حيي بياءين على الفكّ وحى بالإِدغام.﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الكفار قليلاً فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين انتبه: أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم. والمراد بالقلة قلة القدر والبأس والنجدة، وانهم مهزومون مصروعون، ولا يحمل على قلة العدد لأنه صلى الله عليه وسلم رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسع مائة إلى الألف فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد. وانتصب قليلاً على أنه مفعول ثالت ليرى. والأول هو ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة، وكثيراً مفعول ثالث لأرى. والأول ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة أجريت الحلمية مجرى أعلمت فتعدت إلى ثلاثة مفاعيل، وجواز حذف هذا المنصوب يبطل هذا المذهب تقول: رأيت زيداً في النوم، وأرى الله زيداً في النوم، قال الزمخشري: انتصب قليلاً على الحال. وما قاله ظاهر لأن أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأول كاف الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني ضمير الكفار فقليلاً وكثيراً منصوبان على الحال.﴿ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ ﴾ أي تفرقت آراؤكم في أمر القتال فكان يكون ذلك سبباً لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم، لأنه لو رآهم كثيراً أخبركم برؤياه ففشلتم، ولما كان عليه السلام محمياً من الفشل معصوماً من النقائص أسند تعالى الفشل إلى من يمكن ذلك في حقه، فقال تعالى: لفشلتم، وهذا من محاسن القرآن.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ ﴾ من الفشل والتنازع والاختلاف بإِراءته له عليه السلام الكفار قليلاً فأخبرهم بذلك.﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ ﴾ الآية، هذه الرؤية يقظة لا منام، وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيراً لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم. وقال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. وقلل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. وذلك قبل الإِلتقاء بهم ليجترؤا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيلوا في الخلاص أو استبعدوا واستنصروا.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ ﴾ أي فئة كافرة. حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء إسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف. وفي البخاري ومسلم" لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فأثبتوا "، وأمرهم بذكره تعالى كثيراً في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح والسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شىء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد. والأظهر أن يكون فتفشلوا جواباً للنهي فهو منصوب، ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجُبْن عن لقاء العدو، ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوماً عطفاً على ولا تنازعوا وذلك على قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وسكون الباء.﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ قال الزمخشري: والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتسببه بالريح وهبوبها. فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. وقول الشاعر: أتنظران قليلاً ريث غفلتهم   أم تعدوان فإِن الريح للعادي" انتهى ". وهو قول أبي عبيدة أن الريح هي الدولة. وقال آخر: إذا هبت رياحك فاغتنمها   فإن لكل خافقة سكونا﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ ﴾ الآية نزلت" في أبي جهل وأصحابه خرجوا لنصرة العير بالقينات والمعازف ووردوا الجحفة، فبعث خفاف الكناني وكان صديقاً له بهدايا مع ابنه وقال: إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئت بنفسي مع من خف من قومي فقال أبو جهل: إذ كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة، وان كنا نقاتل الناس فوالله إنّ بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمر وتعزف علينا القينات، فإِن بدراً مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد. فوردوا بدراً فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم فاحنها الغداة ". وفي قوله: ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار وانتصب بطراً ورئاء على أنه مفعول من أجله.﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ الآية، وهي ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتاله صلى الله عليه وسلم وهذا التزيين والقول والنكوص من وسوسة الشيطان على سبيل المجاز وهو من باب مجاز التمثيل.﴿ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ﴾ رجع في ضد إقباله، أي رجع إلى وراء.﴿ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ ﴾ مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم، لم يكتف بالفعل حتى أكد ذلك بالقول.﴿ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾ رأي خرق العادة ونزول الملائكة.﴿ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ ﴾ قال قتادة وابن الكلبي: معذرة كاذبة لأنه لم يخف الله قط. وقال الزجاج: بل خاف مما رأى من الهول خاف أن يكون اليوم الذي أنظر إليه، انتهى. ويحتمل أن يكون: ﴿ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ معطوفاً على معمول القول، قال ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أن عقاب الله شديد. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى استأنفه تهديداً لإِبليس ومن تابعه من مشركي قريش وغيرهم.﴿ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ الآية، ظاهر العطف التغاير، فقيل: المنافقون هم من الأوس والخزرج لما خرج عليه السلام. قال بعضهم: نخرج معه. وقال بعضهم: لا نخرج.﴿ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ المؤمنين ﴿ دِينُهُمْ ﴾ يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون، هذا معنى قول ابن عباس.﴿ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ هم قوم أسلموا ومنعتهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا، وقالوا: غر هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً. ولم يذكر أنّ منافقاً شهد بدراً مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإِنه ظهر يوم أحد قوله:﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا ﴾[آل عمران: ١٥٤].
والذين في قلوبهم مرض هو من عطف الصفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما لا يخفيه وبالمرض لقوله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ وهم منافق المدينة.﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، لو التي ليست شرطاً في المستقبل تقلب المضارع للمضي، فالمعنى لو رأيت وشاهدت. وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التعظيم أي لو رأيت أمراً عجيباً وشيئاً هائلاً. والظاهر أن الملائكة فاعل يتوفى، ويدل عليه قراءة من قرأ تتوفى بالتاء. فقيل في هذه القراءة: الفاعل ضمير الله، والملائكة مبتدأ، والجملة حالية كهي في يضربون. قال ابن عطية: ويضعّفه سقوط واو الحال فإِنها في الأَغلب تلزم مثل هذا. " انتهى ". ولا ويضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله وفي كثير من كلام العرب ولكن يضعفه تفكيك الكلام من حيث صار جملتين وانصباب الرؤية على الملائكة في حال ضربهم وجوه الكفار والملائكة هم الممد بهم يوم بدر، ويضربون حال من الملائكة، وجوههم حال الإِقبال. وادبارهم حالة هزيمتهم لأن الضرب في الإِدبار أخزى وأشد نكالاً.﴿ ذُوقُواْ ﴾ الآية، هو كلام مستأنف منه تعالى: بقوله: لهم في الآخرة.
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ تقدم الكلام عليه في آل عمران.﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً ﴾ الآية، ذلك مبتدأ، وخبره بأن الله لم يك، أي ذلك العذاب والانتقام بسبب كذا. وظاهر النعمة أنه يراد بها ما يكون فيه من سعة الحال والرفاعية والعزة والأمن والخصب وكثرة الأولاد.﴿ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ حتى هنا للغاية. المعنى إلى أن يغيروا وما موصولة بمعنى الذي، وبأنفسهم صلته، والباء ظرفية أي في أنفسهم من تبديل شكر الله تعالى بكفران النعمة.﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ الدأب العادة وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة.﴿ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ حمل على معنى كل فجمع الضمير في كانوا لأجل الفواصل ولم يحمل على لفظه كما حمل في قوله:﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ﴾[الإسراء: ٨٤]، فأفرد الضمير وكما أفرده في قوله:﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾[العنكبوت: ٤٠].
قال الزمخشري: وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي. " انتهى ". لا يظهر تخصيص الزمخشري كلا لغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في كذبوا وفي أهلكناهم لا يختص بهما فالذي يظهر عموم المشبّه به وهم آل فرعون والذين من قبلهم.﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ نزلت في بني قريظة منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالؤا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة مخالفهم.﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان. قال ابن عباس: شر الناس الكفار وشر الكفار منهم المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود، فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشر.﴿ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ﴾ بدل من الذين كفروا.﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ﴾ أي فاما تظفر بهم وثم محذوف تقديره فاقتلهم لأن التشريد لا يتسبب عن الظفر فقط بل عن الظفر والقتل والتشريد التطريد والابعاد.﴿ مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾ أي من الكفار. وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرذ بالذال المعجمة وكذا في مصحف عبد الله. قالوا: ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب. وقيل: الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل.﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ ﴾ الظاهر أن هذا استئناف كلام أخبره تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة. وقوله: ﴿ مِن قَوْمٍ ﴾ يدل على أنهم ليسوا الذين تقدم ذكرهم إذ لو كانوا إياهم لكان التركيب واما تخافن منهم، أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقى إليهم عهدهم وهو النبذ ومفعول فانبذ محذوف التقدير فانبذ إليهم عهدهم أي ارمه واطرحه. وفي قوله: فانبذ، عدم اكتراث به كقوله:﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾[آل عمران: ١٨٧].
ومعنى على سواء على طريق مستو قصد، وذلك أن يظهر لهم نبذ العهد ويخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا انك قطعت ما بينك وبينهم.﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ ﴾ قال الزهري: نزلت فيمن أفلت من الكفار يوم بدر، فالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم الدنيا. وقرىء: ولا يحسبن بياء الغيبة، والفاعل ضمير يعود على الرسول أو على السامع، والمفعول الأول الذين، والثاني سبقوا. وقال الزمخشري: وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة يشير إلى قراءته ولا يحسبن الذين كفروا بياء الغيبة. " انتهى ". لم ينفرد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللحن. وقرأ على عليّ وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش وكان الزمخشري توهم أن الفاعل الذين فما استنارت له. وقرىء: تحسبن بتاء الخطاب والمفعول الأول الذين كفروا، والثاني سبقوا. وقرىء: انهم بكسر الهمزة. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنهم فائتين لأنهم لا يعجزون، أي لا يقع منك حسبان لقوتهم لأنهم لا يعجزون. وقرىء: انهم بفتح الهمزة وهو تعليل للنهي أي لأنهم لا يعجزون من طلبهم.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ ﴾ الآية، لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل عدة ولا آلة وأمره تعالى بالتشديد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سبباً للأخذ في قتاله والتمالي عليه فأمره تعالى والمؤمنين بإِعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإِعداد الإِرصاد، وعلق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى. والمخاطبون هم المؤمنون، والضمير في لهم عائد على الكفار المتقدمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت. والظاهر العموم في كل ما يتقوى به في حرب العدو والآلات كالرمي وذكور الخيل وقوة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وعدة الحرب وعددها والازواد والملابس الباهية، ورباط: جمع ربط. قال ابن عطية: رابط جمع ربط ككلب وكلاب، فلا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من رباط كصاح صياحاً، لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس. " انتهى ". قوله: لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل له مصادر منقاسة ذكرها النحويون. وقوله: ﴿ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ ﴾ تفسير لما أبهم في قوله: ما استطعتم. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا وانّ القوة الرمي "فمعناه والله أعلم أن معظم القوة وأنكاها للعدوّ الرمي.﴿ تُرْهِبُونَ ﴾ تخوفون. وقرىء: ترهّبون بالتشديد.﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾ الظاهر أنهم المنافقون لأنه قال: لا تعلمونهم، أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم يتسترون عنكم أن تعلموهم بالإِسلام، فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة.﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ ﴾ الآية، الضمير في جنحوا عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنظير، جنح الرجل إلى الآخر مال إليه، وجنحت الإِبل أمالت أعناقها في السير قال ذو الرمة: إذا مات فوق الرحل أحييت روحه   بذكراك والعيس المراسيل جنّحأي مائلات وجنح يتعدى بإِلى وباللام. والسلم يذكر ويؤنث فقيل: التأنيث لغة. وقيل: على معنى المسالمة. وقيل: حملاً على النقيض وهو الحرب.﴿ وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ ﴾ أي وان يريدوا أي الجانحون للسلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة، والغدر مخادعة.﴿ فَٱجْنَحْ لَهَا ﴾ فما عليك من نياتهم الفاسدة فإِن محسبك وكافيك هو الله تعالى ومن كان الله حسبه لا يبالي من نوى سوأ، ثم ذكّره بما فعل معه أولاً من تأييده بالنصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أو لا يلطف بك آخراً. والمؤمنون هنا الأوس والخزرج. وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لولا الإِسلام لا ينقضي أبداً ولكنه تعالى منّ عليهم بالإِسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قرباً. ومعنى: ﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ أي على تأليف قلوبهم واجتماعها على محجة بعضها وكونها في الأوس والخزرج تظاهرت به أقوال المفسرين.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ ﴾ الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال والظاهر رفع ومن عطفا على ما قبله أي حسبك الله والمؤمنون. وقال الشعبي وابن زيد: معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك. قال ابن عطية: فمن هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف لأن موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدت حسبك مسدّها. " انتهى ". وهذا ليس بجيد لأن حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة، صحيحة ليست من نصب، وحسبك مبتدأ مضاف إلى الضمير، وليس مصدراً، ولا إسم فاعل، والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون، ومن مجرورة على حذف وحسب لدلالة حسبك عليه فيكون كقول الشاعر: أكل امرىءٍ تحسبين أمرأً   ونار توقد بالنيل ناراًأي وكل نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور. قال ابن عطية: وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بابه ضرورة الشعر " انتهى ". وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجازه سيبويه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح. قال الزمخشري: ومن اتبعك الواو بمعنى مع وما بعده منصوب، تقول: حسبك مبتدأ وزيداً درهم. ولا يجر لأن عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع، قال: فحسبك والضحاك سيف مهنّد   والمعنى، كفاك وكفى اتباعك من المؤمنين الله ناصراً. " انتهى ". وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه قال سيبويه: قالوا حسبك وزيداً درهم لما كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال: حسبك وبحسب أخاك درهم.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ ﴾ الآية، هاتان الجملتان شرطيتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبراً محضاً لم يكن فيه نسخ لكن الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النسخ وهذا من ذلك، ولذلك نسخ بقوله:﴿ ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ ﴾ الآية، والتقييد بالصبر في أول كل شرط لفظاً هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى. وتقييد الشرط الثاني بقوله: من الذين كفروا لفظاً هو محذوف من الشرط الأول في قوله: يغلبوا مائتين، فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد في الجملة الأولى وحذف نظيره من الثانية، وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أول جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾، مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاء بما قبل ذلك.﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ ﴾ الآية نزلت في أسارى بدر وكان عليه السلام قد استشار أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم. فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل، في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم. وقرأ أبو الدرداء وأبو حَيْوَة: ما كان للنبي معرفاً، والمراد به في التنكير والتعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً، وتقدم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي في آل عمران في قوله:﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾[الآية: ١٦١]، وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ، فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله: تريدون عرض الدنيا، ولم يجيء التركيب تريد عرض الدنيا لأنه عليه السلام لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط وإنما فعله جمهور مباشري الحرب.﴿ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الاثخان: المبالغة في القتل والجراحات. يقال: أثخنته الجراحات أثبتته حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة.﴿ لَمَسَّكُمْ ﴾ فيما تعجلتم منها ومن الفداء يوم بدر، قبل أن تؤمروا بذلك، عذاب عظيم.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ ﴾ الآية نزلت عقب بدر في أسرى بدرا علموا أن لهم ميلاً إلى الإِسلام وأنهم يؤملونه ان فدوا ورجعوا إلى قومهم. والظاهر أن الضمير في وان يريدوا خيانتك عائد على الأسرى لأنه أقرب مذكور والخيانة هي كونهم أظهر بعضهم الإِسلام ثم رجعوا إلى دينهم.﴿ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ ﴾ بخروجهم مع المشركين.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ ﴾ الآية قسم المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وأول من استجاب لله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإِيمان وسبباً لتقوية الدين من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وثنى بالانصار لأنهم ساوَوْهم في الإِيمان وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل الهِجرة بالإِيواء والنصر، وانفرد المهاجرون بالسبق، وذكر ثالثاً من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية.﴿ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ ﴾ ومعنى أولياء بعض في النصرة والتعاون والمؤازرة كما جاء في غير آية: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجريّ يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة، فمعنى ما لكم من ولايتهم من شىء نفي الموالاة في التوارث، وكان قوله:﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾[الأنفال: ٧٥] ناسخاً لذلك.﴿ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾ والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النصرة. " انتهى " ولما نزل ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا قال الزبير: هل نعينهم على أمران استعانوا بنا فنزل وان استنصروكم، والاستثناء في قوله: إلا على قوم معناه أن مَن بيننا وبينهم ميثاق لا ننصر المستنصرين الذين لم يهاجروا عليهم بل نتركهم وإياهم.
﴿ وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ الآية، لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثة وأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضاً ويرث بعضهم بعضاً، بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثته عليه السلام يوالي بعضهم بعضاً البا واحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً على رياستهم وتحزباً على المؤمنين.﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ ﴾ الضمير عائد على الاستنصار وهو المصدر المفهوم من قوله:﴿ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ ﴾[الأنفال: ٧٢] وتكن تامة وفتنة فاعل بها والفتنة إهمال المسلمين المستنصرين بنا حتى يتسلط عليهم عدوهم من الكفار. وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي كثير بالثاء المثلثة.﴿ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ ﴾ هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكراراً لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضاً وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم، وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم. وتقدم تفسير نظير أواخر هذه الآية في أول السورة فأغنى عن إعادته.﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ ﴾ يعني الذين لحقوا بالهجرة من سبق إليها فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شغوف السبق، وتقدم الإِيمان والهجرة والجهاد ومعنى من بعد أي من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية، قاله ابن عباس.﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾ الآية، قيل: هي في المواريث، واستدل بها أبو حنيفة على توريث ذوي الأرحام، وقيل: ليست في المواريث والله أعلم.
Icon