تفسير سورة عبس

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة عبس من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
تفسير سورة عبس١
بسم الله الرحمن الرحيم سورة عبس. وهي مكية بإجماع المفسرين. وقصص هذه السورة التي لا تفهم الآية إلا به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم وكان يتحَّفى بدعائهم إلى الله تعالى فبينما هو يوما مع رجل من عظمائهم قيل الوليد بن المغيرة المخزومي وقيل عتيبة بن ربيعة وقيل شيبة وقيل العباس وقيل : أمية بن خلف، وقال ابن عباس : كان في جمع منهم فيهم عتبة والعباس وأبو جهل إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي وهو رجل أعمى يقوده رجل آخر فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قائده أن يؤخره عنه، ففعل، فدفعه عبد الله نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : استدنني يا محمد علمني مما علمك الله وكان في ذلك كله قطع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجل المذكور من قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأ عليه القرآن ثم قال له أترى بما أقول بأسا ؟ فكان ذلك الرجل يقول : لا والدمى يعني الأصنام ويروى لا والدماء يعني الذبائح للأصنام فلما شغب عليه أمر عبد الله بن أم مكتوم عبس وأعرض عنه وذهب ذلك الرجل فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى بيته فلوى رأسه وشخص بصره وأنزلت عليه هذه السورة٢ قال سفيان الثوري : فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه وقال له أنس بن مالك : رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة مرتين.
١ قال الشوكاني في فتح القدير: "وتسمى سورة السفرة"..
٢ ذكره الواحدي في (أسباب النزول) وأخرجه الترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزلت سورة عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى، وساقت الخبر وأخرج مثله عبد الرزاق، وعبد ابن حميد، وأبو يعلى، عن أنس رضي الله عنه، وأخرج ابن جرير وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال": بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبا جهل بن هشام، وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص أن يؤمنوا فأقبل إليه رجل أعمى،... وساق القصة..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة عبس
وهي مكية بإجماع المفسرين، قصص هذه السورة التي لا تتفهم السورة إلا به أن رسول الله ﷺ كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم، وكان يتحفى بدعائهم إلى الله تعالى، فبينما هو يوما مع رجل من عظمائهم قيل الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل عتيبة بن ربيعة، وقيل شيبة وقيل العباس، وقيل أمية بن خلف، وقال ابن عباس: كان في جمع منهم فيهم عتبة والعباس وأبو جهل إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي وهو رجل أعمى يقوده رجل آخر فأومأ رسول الله ﷺ إلى قائده أن يؤخر عنه ففعل فدفعه عبد الله نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: استدنني يا محمد، علمني مما علمك الله، وكان في ذلك كله قطع لحديث رسول الله ﷺ مع الرجل المذكور من قريش، وكان رسول الله ﷺ قد قرأ عليه القرآن، ثم قال له: أترى بما أقول بأسا، فكان ذلك الرجل يقول: لا والدمى يعني الأصنام، ويروى: لا والدماء، يعني الذبائح للأصنام، فلما شغب عليه أمر عبد الله بن أم مكتوم عبس وأعرض عنه، وذهب ذلك الرجل فروي أن النبي ﷺ انصرف إلى بيته فلوى رأسه وشخص بصره، وأنزلت عليه هذه السورة. قال سفيان الثوري: فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه، وقال له أنس بن مالك: رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء، واستخلفه النبي ﷺ على المدينة مرتين.
قوله عز وجل:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧)
«العبوس» : تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة: لو كان رسول الله ﷺ كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش،
436
و «التولي» : هنا الإعراض، وأَنْ: مفعول من أجله، وقرأ الحسن أَنْ جاءَهُ بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على تَوَلَّى وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز، ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا.
ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله ﷺ عائشة تذكر امرأة، فقالت: إنها القصيرة. فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي وما يطلعك على أمره وعقبى حاله، ثم ابتدأ القول: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه، وأصل يَزَّكَّى: يتزكى، فأدغم التاء في الزاي وكذلك يَذَّكَّرُ، وقرأ الأعرج. «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم، وقرأ جمهور السبعة: «فتنفعه» بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده والأعرج: «فتنفعه» بالنصب في جواب التمني، لأن قوله أَوْ يَذَّكَّرُ في حكم قوله: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بماله، و: تَصَدَّى معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ونافع: «تصدى» بشد الصاد على إدغام التاء، وقرأ الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش: «تصدى»، بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «تصدى»، بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول، أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى محتقرا لشأن الكفار: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وما يضرك ألا يفلح، فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الاكتراث بهم، ثم قال مبالغا في العتب: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي يمشي، وقيل المعنى: يَسْعى في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك، وَهُوَ يَخْشى الله تعالى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، وإما أن المعنى يتداخل، وقرأ الجمهور من القراء: «تلهى» بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه، «تلهى» بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف: «تتلهى» بتاءين، وروي عنه «تلهى» بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «تلهى» بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «وما استأثر الله به فاله عنه»، وقوله تعالى في هاتين: وَأَمَّا مَنْ فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحمله الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي ﷺ في هذه السورة، ثم قال: كَلَّا يا محمد أي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر تَذْكِرَةٌ لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل المعنى أن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد ﷺ وتأنيس له، وقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يتضمن وعدا ووعيدا على نحو قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
437
إِلى رَبِّهِ مَآباً
[النبأ: ٣٩] وقوله تعالى: فِي صُحُفٍ يتعلق بقوله: إِنَّها تَذْكِرَةٌ، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن، وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين، واختلف الناس في «السفرة»، فقال ابن عباس: هم الملائكة لأنهم كتبة يقال: سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضا: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة: هم القراء وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه: هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعلم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر: [الوافر].
وما أدع السفارة بين قومي وما أسعى بغش إن مشيت
و «الصحف» على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف، وقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ دعاء على اسم الجنس وهو عموم يراد به الخصوص، والمعنى: قتل الإنسان الكافر، ومعنى قُتِلَ أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد: قُتِلَ بمعنى لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى: ما أَكْفَرَهُ يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفا أي أيّ شيء أَكْفَرَهُ أي جعله كافرا، وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي ﷺ ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي ﷺ وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله»، ويروى أنه قال: «ما يخاف أن يرسل الله عليك كلبه»، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة.
قوله عز وجل:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٨ الى ٣٢]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧)
وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
قوله تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه، وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم والقرينة تبين الغرض، وهذا نظير قوله: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ [المرسلات: ١٣] واللفظ المشار إليه ماء الرجل وماء المرأة، وقرأ جمهور الناس: «فقدّره» بشد الدال، وقرأ بعض القراء: «فقدره» بتخفيفها، والمعنى جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من أنحائه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان، واختلف المتأولون في معنى قوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي: هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها، وقال الحسن ما معناه: إن السَّبِيلَ هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسره له هو هبة العقل، وقال
438
مجاهد: أراد السَّبِيلَ عامة اسم الجنس في هدى وضلال أي يسر قوما لهذا كقوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣]، وقوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ١٠] وقوله تعالى:
فَأَقْبَرَهُ معناه أمر أن يجعل له قبر، وفي ذلك تكريم لئلا يطرح كسائر الحيوان، والقابر هو الذي يتناول جعل الميت في قبره، والمقبر الذي يأمر بقبر الميت، ويقرره، وأَنْشَرَهُ معناه: أحياه، يقال: نشر الميت وأنشره الله، وقوله: إِذا شاءَ يريد إذا بلغ الوقت الذي شاءه وهو يوم القيامة، وقرأ بعض القراء:
شاءَ أَنْشَرَهُ بتحقيق الهمزتين، وقرأ جمهور الناس: شاءَ أَنْشَرَهُ بمدة وتسهيل الهمزة الأولى، وقرأ شعيب بن أبي حمزة: «شاء نشره»، وقرأ الأعمش: «شاء انشره» بهمزة واحدة، وقوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ رد لما عسى أن للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه وإثبات أنه ترك حق الله تعالى، ولم يقض ما أمره، قال مجاهد: لا يقضي أحد أبدا ما افترض عليه، ثم أمر تعالى الإنسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه، وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيره إلى أن المراد إِلى طَعامِهِ إذا صار رجيعا ليتأمل حيث تصير عاقبة الدنيا، وعلى أي شيء يتفانى أهلها وتستدير رحاها، وهذا نظير ما روي عن ابن عمر: أن الإنسان إذا أحدث فإن ملكا يأخذ بناصيته عند فراغه فيرد بصره إلى نحوه موقفا له ومعجبا فينفع ذلك من له عقل، وذهب الجمهور إلى أن معنى الآية: فلينظر إلى مطعوماته وكيف يسرها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض، ويروى أن رجلا أضافه عابد فقدم إليه رغيفا قفارا فكأن الرجل استخشنه فقال له: كله فإن الله تعالى لم ينعم به وكمله حتى سخر فيه ثلاثمائة وستين عاملا الماء والريح والشمس ثلاثة من ذلك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «أنّا صببنا» بفتح الألف على البدل وهي قراءة الأعرج وابن وثاب والأعمش، ورد على هذا الإعراب قوم بأن الثاني ليس الأول وليس كما ردوا لأن المعنى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إلى إنعامنا في طعامه فترتب البدل وصح، «وأنا» في موضع خفض، وقرأ الجمهور: «إنا» بكسر الألف على استئناف تفسير الطعام، وقرأ بعض القراء: «أنى» بمعنى كيف ذكرها أبو حاتم، و «صب الماء» : هو المطر، و «شق الأرض» : هو بالنبات، و «الحب» : جمع حبة بفتح الحاء وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه، والحبة بكسر الحاء كل ما ينبت من البزور ولا يحفل به ولا هو بمتخذ، و «القضب» قال بعض اللغويين: هي الفصافص، وهذا عندي ضعيف، لأن الفصافص هي للبهائم فهي دخل في الأبّ، وقال أبو عبيدة: «القضب» الرطبة، قال ثعلب: لأنه يقضب كل يوم. والذي أقوله إن «القضب» هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، وغضا من النبات كالبقول والهليون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة، والغلب الغلاظ الناعمة، و «الحديقة» الشجر الذي قد أحدق بجدار أو نحوه، و «الأبّ» : المرعى قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة، وقال الضحاك: «الأبّ» : التبن، وفي اللفظة غرابة وقد توقف في تفسيرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومَتاعاً نصب على المصدر، والمعنى تتمتعون به أنتم وأنعامكم، فابن آدم في السبعة المذكورة والأنعام في الأبّ.
439
قوله عز وجل:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
الصَّاخَّةُ: اسم من أسماء القيامة، واللفظة في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخ الآذان أي تصمها، ويستعمل هذا اللفظ في الداهية التي يصم نبؤها الآذان لصعوبته، وهذه استعارة وكذلك في الصيحة المفرطة التي يصعب وقعها على الأذن، ثم ذكر تعالى فرار المرء من القوم الذين معهودهم أن لا يفر عنهم في الشدائد، ثم رتبهم تعالى الأول فالأول محبة وحنوا، وقرأ أبو أناس جوية «من أخيه وأمه وأبيه» بضم الهاء في كلها، وقال منذر بن سعيد وغيره: هذا الفرار هو خوف من أن يتبع بعضهم بعضا بتبعات إذ الملابسة تعلق المطالبة، وقال جمهور الناس: إنما ذلك لشدة الهول على نحو ما روي أن الرسل تقول يومئذ نفسي نفسي لا أسألك غيري، و «الشأن الذي يغنيه» : هو فكرة في سيئاته وخوفه على نفسه من التخليد في النار، والمعنى يُغْنِيهِ عن اللقاء مع غيره والفكرة في أمره، قال قتادة: أفضى كل إنسان إلى ما يشغله عن غيره. وقال النبي ﷺ لعائشة: «لا يضرك في القيامة كان عليك ثياب أم لا»، وقرأ هذه الآية وقال نحوه: لسودة، وقد قالتا: وا سوأتاه ينظر بعض الناس إلى بعض يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس:
«يغنيه» بالغين منقوطة وضم الياء على ما فسرناه، وقرأ ابن محيصن والزهري وابن السميفع: «يعنيه» بفتح الياء والعين غير منقوطة من قولك عناني الأمر أي قصدني وأردني. ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله حين بدت لهم تباشيرها من الكفار، ومُسْفِرَةٌ: معناه: نيرة باد ضوؤها وسرورها، وتَرْهَقُها معناه تلح عليها، و: «القترة» الغبار و «الغبرة» الأولى إنما هي العبوس والهم كما يرى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار، وأما «القترة» : فغبار الأرض ويقال إن ذلك يغشاهم من التراب الذي تعوده البهائم، ثم فسر تعالى أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم الكفرة قريش يومئذ ومن جرى مجراهم قديما وحديثا.
نجز تفسير سورة عَبَسَ والحمد الله كثيرا.
Icon