تفسير سورة الإنفطار

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الإنفطار من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الانفطار مكية، وآيها تسع عشرة.

إِذَا السماء انفطرت أي انشقتْ لنزول الملائكةِ كقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً وقولُه تعالى وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا والكلامُ في ارتفاع السماءِ كما مرَّ في ارتفاعِ الشمسِ
وَإِذَا الكواكب انتثرت أي تساقطتْ متفرقةً
وَإِذَا البحار فُجّرَتْ فُتحَ بعضُها إلى بعضٍ فاختلطَ العذبُ بالأُجاجِ وزالَ ما بينهما من البرزخ الحاجزِ وصارتِ البحارُ بَحْراً واحِداً ورُويَ أن الأرضَ تنشفُ الماءَ بعد امتلاءِ البحارِ فتصيرُ مستويةً وهو مَعْنى التسجيرِ عند الحسنِ رضيَ الله عنه وقيلَ إنَّ مياه البحارِ الآنَ راكدةٌ مجتمعةٌ فإذَا فجرتْ تفرقتْ وذهبت وقرئ فُجِرَتْ بالتخفيفِ مبنياً للمفعولِ وَمبنياً للفاعلِ أيضاً بمْعَنى بغتْ من الفجورِ نظراً إلى قولِه تعالى لاَ يَبْغِيَانِ
وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ أي قلب وأُخرجَ موتاهَا ونظيرُه بَحْثر لفظاً ومَعْنى وهُما مركبانِ من البعثِ والبحثِ مع راءٍ ضُمَّتْ إليهمَا وقولُه تعالى
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جوابُ إذا لكنْ لاَ على أنَّها تعلمُه عندَ البعثِ بل عند نشرِ الصحفِ لما عرفتَ من أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ الفصلُ بينَ الخلائق لا أزمنة متعددة حسب تعددِ كلمةِ إذَا وإنما كُررتْ لتهويلِ ما في حيزهَا من الدَّواهِي والكلام في كالذي مرَّ تفصيلُه في نظيره ومَعْنى ما قَدَّم وأخَّر ما أسلفَ من عملِ خيرٍ أو شرَ وأخَّر من سنة حسنة أو سيئةٍ يُعملُ بها بعدَهُ قالَه ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً ما قدمَ منْ معصيةٍ وأخَّر من طاعةٍ وهو قولُ قتادةٍ وقيلَ ما قدمَ من أمواله لنفسه وماأخر لوثته وقيلَ ما قدمَ من فرض وأخَّر من فرض وقيل أو عملِه وآخرُهُ ومعنى علمِها التفصيليُّ حسبما ذُكِرَ فيَما مر مرارا
يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم أيْ أيُّ شيءٍ خدعكَ وجرَّأك على عصيانِه وقد علمتَ ما بينَ يديكَ من الدواهِي التامَّةِ والعراقيلِ الطَّامة وما سيكونُ حينئذٍ من مُشاهدةِ أعمالِك كُلِّها والتعرضُ لعنوانِ كرمِه تعالَى للإيذانِ بأنَّه ليسَ مما يصلُح أن يكونَ مدارا لاغتراره يغويهِ الشيطانُ ويقولُ له افعلْ ما شئتْ فإنَّ ربكَ كريمٌ قد تفضلَ عليكَ في الدُّنيا وسيفعلُ مثَلُه في الآخرةِ فإنَّه قياسٌ عقيمٌ وتمنيةٌ باطلةٌ بل هُو ممَّا يوجبّ المبالغةَ في الإقبالِ على الإيمانِ والطاعةِ والاجتنابِ عن الكفرِ والعصيانِ كأنَّه قيلَ ما حملكَ على عصيانِ ربِّكَ الموصوفِ بالصفاتِ الزاجرةِ عنهُ الداعيةِ إلى خلافِه وقولُه تعالى
الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربويية مبيَّنة للكرم منبهةٌ على أن من مَنْ قدَرَ على ذلكَ بدَءاً قدرَ عليه إعادةً والتسويةُ جعلُ الأعضاءِ سليمةً سويةً مُعدةً لمنافعها وعدلها عدلَ بعضِها ببعضٍ بحيثُ اعتدلتْ وَلَم تتفاوتْ أو صَرْفُها عن خِلْقةٍ غيرِ ملائمةٍ لها وقُرِىءَ فعدّلكَ بالتشديد أى صيرك متعدلا متناسبَ الخلقِ من غير تفاوتٍ فيه
في اي صُورَةٍ مَّا شاء ركبك أى وركبك في أي صورة شاءها من الصور المختلفةِ ومَا مزيدةٌ وشاءَ صفةٌ لصورةٍ أي ركبك في أي صورةٍ شاءَها واختارَها لكَ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ كقولِه تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى أحسن تقويم وإنما لَمْ يعطفْ الجملةِ على ما قبلَها لأنها بيانٌ لعدلكَ
كَلاَّ ردعٌ عن الاغترارِ بكرمِ الله تعالَى وجعلِه ذريعةً إلى الكفرِ والمعاصِي مع كونِه موجباً للشكرِ والطاعةِ وقولُه تعالى
بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين إضرابٌ عن جملة مقدر ينساقُ إليها الكلامُ كأَّنه قيلَ بعد الردعِ بطريق الاعتراضِ وأنتم لا ترتدعونَ عن ذلكَ بل تجترئونَ على أعظمِ من ذلكَ حيثُ تكذبونَ بالجزاءِ والبعثِ رأساً أو بدينِ الإسلامِ الذي هُما من جملةِ أحكامِه فلا تصدقونَ سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاب وقيلَ كأنَّه قيل إنَّكم لا تستقيمونَ على ما توجيه نِعَمِي عليكُم وإرشادِي لكُم بل تكذبونَ الخ وقال القفالُ ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ من أنَّه لا بعثَ ولا نشورَ ثم قيلَ أنتُم لا تتبينونَ بهذا البيانِ بل تكذبونَ بيومِ الدينِ وقولُه تعالى
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين حالٌ من فاعلِ تكذبونَ مفيدةٌ لبطلان تكذبيهم وتحققِ ما يكذبونَ بهِ أي تكذبونَ بالجزاءِ والحالُ أنَّ عليكُم من قبلِنا لحافظين لأعمالكم
121
٨٢ سورة الانفطار (١١ ١٨)
122
كراما لدنيا
كاتبين لها
يعملون مَا تَفْعَلُونَ من الأفعالِ قليلاً وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه عند الله عز وجل من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ الكرامَ وقولُه تعالَى
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لايخفى وقولُه تعالَى
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقولُه تعالَى :﴿ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ ﴾ استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لا يَخْفى.
يَصْلَوْنَهَا إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ ما حالُهم فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا
يَوْمِ الدين يومَ الجزاءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ
وما هم عنهابغائبين طرفةَ عينٍ فإن المرادَ دوام نفى الغيبة لانفى دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ الجملةَ الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بها استمرارَ النَّفِي لا نفيَ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد النَّفِي لا قبلَهُ وقيل معناهُ وما كانُوا غائبينَ عنها قبل ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبما قال النبي صلى عليه وسلم القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حُفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ وقولُه تعالَى
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين
ثم أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرة دراية الخلق على أى صورة تصوره فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ على أنَّ ما الا ستفهامية خبر ليوم الدين إلا بالعكسُ كما هُو رأيُ سيبويهِ لما مرَّ منْ أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلب بها الوصف وإن كانتْ موضوعةً
122
لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه وقولُه تعالَى
123
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:وقولُه تعالَى :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ﴾ تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرةِ درايةِ الخلقِ على أيِّ صورةٍ تصورُوه فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ، على أنَّ ما الاستفهاميةَ خبرٌ ليومِ الدينِ لا بالعكسُ كما هُو رأي سيبويهٍ لما مرَّ من أنَّ مدارَ الإفادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ، ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلبُ بها الوصفُ وإن كانتْ موضوعةً لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في موقعِ الإضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه.
يوم لا تملك نفس لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيانٌ إجماليٌّ لشأن يومِ الدينِ إثرَ إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ فإن لفى إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا كلُّ ما في القرآنِ من قولِه تعالَى مَا أدراكَ فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قولِه وما يدريكَ فقد طُويَ عنْهُ ويومَ مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ هُو يومَ لا يملكُ فيه نفس من النفوس لنفس من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ الخ أو منصوبٌ بإصمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيمِ أمرِ يومِ الدينِ وتشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معرفتِه اذكُر يومَ لا تملكُ نفسٌ الخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ كما أنَّ إبدالهُ من يومِ الدينِ على قراءةِ الرفعِ كذلكَ بل الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنه خير لمبتدأٍ محذوفٍ عنْ رسولِ الله صلى الله اعليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الا نفطار كتبَ الله تعالَى له بعددِ كلِّ قطرةٍ من السماءِ وبعددِ كلِّ قبرٍ حسنةً والله تعالَى أعلمُ
123
٨٣ سورة المطففين (١ ٢)

بسم الله الرحمن الرحيم

124
Icon