تفسير سورة هود

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة هود من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

أنار الله براهينهم وقدس الله أسرارهم وكن في عزمك هذا متوجها الى قبلة الوحدة وكعبة الذات مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مصفيا قلبك عن امارات الكثرة والتعدد بحيث ارتفع عنك الالتفات الى نفسك وشأنك ايضا حتى تحل عليك الحيرة المفنية هويتك في هوية الحق المسقطة لتعيناتك رأسا ولا يتيسر لك هذا الا بالركون عن لوازم الطبيعة والخروج عنها وعن ما يترتب عليها من اللذات الوهمية والمشتهيات البهيمية التي هي مقتضيات التعينات العدمية والتشخصات الهيولانية ومتى صفا سرك وسريرتك عن أمثال هذه المزخرفات العائقة عن الاستغراق في بحر الذات قد فزت بما فزت وصرت بما صرت وحكم الله عليك بالخير والحسنى وأسكنك عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وليس وراء الله مرمى لا حول ولا قوة الا بالله وهو يقول الحق وهو يهدى السبيل
[سورة هود عليه السّلام]
فاتحة سورة هود عليه السّلام
لا يخفى على ذوى العبرة والاستبصار واولى الخبرة والاعتبار من المنقطعين نحو الحق المتأملين في كشف غوامض اسرار توحيده بقدر الاستطاعة والاقتدار بتوفيق من عند العليم القدير المجبولين على الحكمة والتدبير من لدن حكيم خبير. ان مبنى الأمر ومناط هذا الشأن العظيم الذي هو التوحيد والعرفان انما هو على العبودية المحضة والتذلل التام والانكسار المفرط المفضى الى افناء الهويات الباطلة في هوية الحق الحقيق بالحقية وفناء التعينات العدمية فيها وذلك لا يحصل الا بمتابعة الرسول البشير النذير المؤيد من لدن عليم قدير ليرشدهم ويهديهم بالتوجه والتبتل الى اللطيف الخبير إذ مرجع الكل اليه كما ان مبدأه من عنده ومصدره لديه ومعاده اليه كما قال سبحانه. وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. لذلك اخبر سبحانه لرسوله المبعوث على كافة الخلق المبين لهم طريق الرشد في كتابه المنزل عليه بعد احكام آياته وتفصيلها تأييدا له وتقوية لأمره ليهدى به التائهين عن جادة التوحيد المنصرفين عنها بمتابعة الشيطان المريد فقال متيمنا باسمه العظيم مخاطبا على رسوله الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي احكم آيات كتابه الدالة على توحيده لتكون موصلة الى وحدة ذاته لمن تمسك بها الرَّحْمنِ على عباده بتفصيل تلك الآيات تسهيلا عليهم وتوضيحا لهم الرَّحِيمِ لهم بأمرهم بالعبادة والتذلل ليتحققوا بمرتبة حق اليقين الذي هو الصراط المستقيم
[الآيات]
الر ايها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء لواء لوامع أنوار الألوهية وارتفاع رايات رموز اسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا كِتابٌ انزل إليك لتأييدك في أمرك وشأنك ومصدق لعموم ما في الكتب السالفة جامع لأحكامها وحكمها قد أُحْكِمَتْ ضممت ونظمت آياتُهُ أشد تنظيم وتضميم وابلغ احكام وإتقان بحيث لا يعرضه خلل واختلال أصلا لا في معناه ولا في لفظه لذلك عجزت عن معارضته عموم ارباب اللسان والبيان مع وفور دواعيهم ثُمَّ بعد أحكامه لفظا ومعنى قد فُصِّلَتْ وأوضحت فيه المعارف والحقائق والاحكام المتعلقة بالعقائد والعلوم اليقينية والقصص المشيرة الى العبر والمواعظ والأمثال المشعرة الى الرموز والإشارات الصادرة مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ متقن في أفعاله خَبِيرٍ تصدر منه الأفعال على وجه الخبرة والاعتبار
ومن اجلة ما حكم فيه واحكم أَلَّا تَعْبُدُوا ايها الاظلال المجبولون على العبادة حسب الفطرة الاصلية إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي قد أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بمقتضى جوده باستقلاله إيجادا إبداعيا بمد ظله عليكم ورش نوره إليكم وقل لهم يا أكمل
الرسل تبشيرا وتنبيها إِنَّنِي مع كوني من حملتكم وبنى نوعكم لَكُمْ مِنْهُ اى من الله المتوحد بذاته حسب امره ووحيه نَذِيرٌ أنذركم عما يبعدكم عن الحق حتى لا تستحقوا عذابه وعقابه وَبَشِيرٌ ايضا من لدنه سبحانه أبشركم بما بقربكم نحو جنابه حتى تستحقوا الفوز العظيم من عنده سبحانه
وَايضا قد حكم فيه أَنِ اسْتَغْفِرُوا واسترجعوا في فرطاتكم رَبَّكُمْ الذي رباكم على فطرة المعرفة والتوحيد ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وترجعوا نحوه وتوصلوا به سبحانه بعد رفع حجب الانابة عن البين وكشف سدل التعينات الوهمية عن العين يُمَتِّعْكُمْ بعد اضمحلال رسومكم وتلاشى هوياتكم في هويته بالرزق المعنوي والغداء الحقيقي من عنده مَتاعاً حَسَناً بمقتضى نشئات أوصافه وأسمائه وتطورات تجلياته الجمالية والجلالية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو عبارة عن الطامات الكبرى التي قد انقهرت دونها توهمات الاظلال وتحيلات السوى والاعيار وَبعد تسييركم وتنزيلكم من عالم الغيب متنازلين الى عالم الشهادة لاقتراف المعارف والحقائق وترجيعكم منها اليه متصاعدين اظهار لقدرته وسلطته وكمال حكمته ومصلحته التي لا تنكشف الا له ولا تكتنه الا عنده يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ اى يؤتى ويعطى كلا من ذوى العناية الموفقين على الهداية التي قد خلقوا لأجلها فَضْلَهُ اى حقه وحراءه اى قبل منهم ما اكتسبوا من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات واقرهم في النهاية على مقر قد نزلوا عنه في البداية وَقل لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح إِنْ تَوَلَّوْا وتعرضوا وتنصرفوا عن مقتضى إنذاري وتبشيرى فَإِنِّي من غاية اشفاقى لكم وتحننى نحوكم أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ اى من نزول العذاب عليكم سيما يوم العرض الأكبر الذي قد أشرقت فيه شمس الذات الى حيث اضمحلت دونها نقوش الاظلال والعكوس مطلقا وفنى في شروقها السوى والأغيار رأسا ونودي حينئذ من وراء سرادقات العز والحلال عند ارتفاع تراحم الاظلال والأغيار لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من وراءها إذ لا مجيب غيره لله الواحد القهار
وبالجملة اعلموا ايها الاظلال المقهورة والعكوس المستهلكة إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جميعا رجوع الظل الى ذي الظل والعكوس الى ما انعكس هي منه وَبالجملة هُوَ سبحانه في ذاته مع انه قاهر فوق عباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ من صور العذاب والانتقام قَدِيرٌ لا يخرج عن حبطة قدرته مقدور ولا يعزب عن حضرة علمه معلوم مما جرى عليهم من الأحوال
أَلا إِنَّهُمْ اى المحجوبين الغافلين من غاية جهلهم وغفلتهم عن الله يَثْنُونَ ويعطفون ويحرفون صُدُورَهُمْ عن الميل الى الحق وعن التوجه نحوه طالبين لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ اى يستروا ويخفوا من الله ما تكن صدورهم من الاعراض عن الحق والمخالفة بأوامره ورسله أَلا انهم لم يعلموا ولم يتفطنوا ان الله المطلع بجميع ما جرى ويجرى في ملكه وملكوته يعلم منهم عموم ما جرى عليهم ولاح منهم حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ويطلبون التدثر والتغطى بها وقت رقودهم في مضاجعهم بل يَعْلَمُ منهم جميع ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم ومشاعرهم وكيف لا يعلم سبحانه إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِذاتِ الصُّدُورِ وبما هو مكنون فيها من السرائر والضمائر
وَكيف يستبعد أمثال هذا من حيطة حضرة علمه المحيط إذ ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك فِي الْأَرْضِ مثلا إِلَّا عَلَى اللَّهِ المتكفل لأرزاق مظاهره ومصنوعاته مطلقا رِزْقُها
اى ما تعيش وتتقوم به وَمع ذلك يَعْلَمُ منشأها ومصدرها في عالم الغيب ويعلم ايضا مُسْتَقَرَّها اى محل قرارها وبقائها في عالم الشهادة ومقدار ثباتها واستقرارها فيها وَيعلم ايضا مُسْتَوْدَعَها ومرجعها في عالم الغيب بعد انقضاء النشأة الاولى وبالجملة كُلٌّ من الأحوال والأطوار والنشأة الطارية عليها بحيث لا يشذ شيء منها مثبت مسطور يعلم تقديره ومحفوظ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة علمه ولوح قضائه
وَكيف تنكرون ايها المنكرون احاطة علمه وتستخفون منه سبحانه شيأ من مخايلكم وانى يعزب ويغيب عن علمه شيء مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ اى أبدع واظهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات اللتين هما بمثابة الآباء والأمهات والفواعل والقوابل لنشأتكم وظهوركم فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لتحيطوا بالجهات كلها وَقد كانَ عَرْشُهُ اى مجلاه ومحل بروزه وتشعشع تجلياته قبل ظهور هذه المظاهر والمجالى الكائنة مستويا عَلَى الْماءِ اى على الحيوة المحضة الحقيقية والقيومية المطلقة والديمومية المستمرة الثابتة ازلا وابدا الخالية عن مطلق التغيرات والانقلابات المتوهمة من نقوش التعينات العدمية والتشخصات الهيولانية المترتبة على آثار الأسماء والصفات الإلهية وانما أظهرها سبحانه على هذا التمثال وابدعها على هذا المنوال لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم ايها العكوس والاظلال أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وقبولا وأتم توجها ورجوعا وأكمل تحققا ووصولا في يوم الجزاء وَبعد ما قد نبههم الحق على ما هو الا حق وأوجدهم على فطرة الفطنة والذكاء بمبدئهم ومنشأهم الأصلي لَئِنْ قُلْتَ يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وإصلاحا لأحوالهم إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب والجزاء وتنقيد الأعمال فعليكم اليوم ان تتهيؤا لها وتدخروا لأجلها حتى لا تؤاخذوا ولا تعاقبوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم من فرط غفلتهم وقسوتهم بعد ما سمعوا منك قولك هذا إِنْ هذا وما الذي تقول وتفوه هذا الرجل ان وقع وتحقق إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته عظيم امره لو وقع إذ احياء الموتى من العظام الرفات لا يتصور الا بالسحر الخارق للعادات فان وقع فهو في غاية الندارة ونهاية الغرابة
وَبعد ما استوجبوا لا سوء العذاب واستحقوا باشد العقاب بكفرهم هذا وانكارهم يوم الجزاء لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ المعد لهم اى إتيانه لحكمة ومصلحة قد استأثرنا بها إِلى أُمَّةٍ اى الى ازمنة وساعات من الأوقات والأحيان مَعْدُودَةٍ قلائل لَيَقُولُنَّ مستهزئين مستسخرين من غاية جهلهم وجحودهم ما يَحْبِسُهُ واى شيء يعوقه ويمنعه عن إتيان ما يدعيه من العذاب ووقوع ما يعد به من الأخذ والبطش أَلا تنبهوا ايها المؤمنون وتذكروا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب الموعود عليهم لا يخفف عنهم مطلقا بل لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ساقطا عن ذمتهم أصلا بل حل عليهم حتما وَحاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الموعود وقت ما انذرهم الرسول.
ثم قال سبحانه وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ اى من غاية لطفنا وجودنا الى الإنسان المجبول على الكفران والنسيان ونهاية إحساننا معه وتفقدنا لحاله لئن أعطيناه وفضلنا عليه مِنَّا رَحْمَةً ونعمة تسره وتفرج همه ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ومنعناها عنه لحكمة اظهار قدرتنا الغالبة وبسطتنا الكاملة إِنَّهُ من قلة تصبره وغاية ضعفه وتكسره لَيَؤُسٌ قنوط من فضلنا ورحمتنا كَفُورٌ لما وصل اليه من نعمتنا
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ وأنعمنا عليه نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أعجزته وأزعجته لَيَقُولَنَّ مفتخرا مباهيا بطرا قد ذَهَبَ السَّيِّئاتُ المؤلمة المحزنة عَنِّي إِنَّهُ من غاية غفلته عن المنعم
لَفَرِحٌ فَخُورٌ بطر فرحان مغرور مفتخر بما في يده من النعم مشغول بها عن المنعم وعن شكرها وأداء حقها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على ما أصابهم من السيئات المملة المؤلمة واسترجعوا الى الله لكشفها وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وواظبوا على الخيرات والحسنات وداوموا على الإيثار والصدقات شكرا لما أنعمنا عليهم أُولئِكَ السعداء الصابرون على البلاء الشاكرون على الآلاء والنعماء لَهُمْ مَغْفِرَةٌ اى ستر ومحو لذنوبهم التي قد مضت عليهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ منا إياهم الا وهو الرضاء منهم تفضلا عليهم وامتنانا
فَلَعَلَّكَ يا أكمل الرسل من غاية ودادك ايمانهم ونهاية محبتك بمتابعتهم لك تارِكٌ أنت بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من لدنا مشتملا على توبيخهم وتقريعهم وزجرهم وتشنيعهم كراهة ان يركنوا عنك وينصرفوا عن متابعتك وَضائِقٌ بِهِ اى بسبب ما يوحى إليك صَدْرُكَ مخافة أَنْ يَقُولُوا لو أظهرت عليهم بما اوحيت به لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ بدل هذه التوبيخات والوعيدات من عند ربه ليتابع الناس له أَوْ هلا جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ مصدق لنبوته ورسالته ليطيعوا ويؤمنوا له طوعا بلا كلفة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبهذياناتهم هذه ولا تخطر ببالك أمثال هذا إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ بلغ عموم ما انزل إليك من الإنذار والتخويف ولا تلتفت الى ردهم وقبولهم وتوكل على ربك وثق به واعتمد عليه فانه يكفى ويكف عنك مؤنة ضررهم وشرورهم وَبالجملة اللَّهُ المراقب عليهم عَلى كُلِّ شَيْءٍ صدر عنهم وَكِيلٌ حفيظ عليهم يعلم منهم ما هو مستوجب للعقوبة والعذاب وما هو موجب للنوال والثواب يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته او لم يكف بتصديق نبوتك ورسالتك وصدقك في دعوى الهداية والرشد القرآن المعجز لعموم ارباب اللسن والبيان مع تشددهم في المعارضة والمقابلة
أَمْ يَقُولُونَ مكابرة وعنادا افْتَراهُ واختلقه من تلقاء نفسه في نسبته الى الوحى والإلهام تغريرا وترويجا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما نسبوك الى الافتراء والاختلاق فَأْتُوا ايها المكابرون المعاندون بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ اى مثل اقصر سورة من سور القرآن مُفْتَرَياتٍ مختلقات كما زعمتم مع انكم أنتم أحق باختلاقها لكثرة تمرنكم وتزاولكم في الإنشادات والانشاءات وتتبع كلام البلغاء والتعود بمدارسة القصص والقصائد وان عجزتم أنتم عن اختلاقها بأنفسكم فاستظهروا بإخوانكم ومعاونيكم وَبالجملة ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ واستمدوا منهم واتفقوا معهم في اختلاقها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ظنكم هذا
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ايها المؤمنون ولم يأتوا بما تحديتم إياهم فَاعْلَمُوا ايها المؤمنون واطمئنوا وتيقنوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وبكمال قدرته وارادته لا يمكن لاحد من مظاهره ومصنوعاته ان يأتى بمثله ويعارض معه وكيف يعارض معه سبحانه إذ لا شيء سواه وَأَنْ لا إِلهَ في الوجود إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لحكمه مسلمون أموركم كلها اليه مخلصون مطمئنون متمكنون في جادة توحيده بل أنتم بحمد الله ايها الموحدون المحمديون هكذا.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير مَنْ كانَ بارتكاب الأعمال الشاقة واحتمال شدائدها ومتاعبها يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها المزخرفة التي تترتب عليها من الأموال والأولاد نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها لأجلها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ اى لا ينقص شيء من أجور أعمالهم في النشأة الاولى ان كان غرضهم مقصورا عليها محصورا بها
واما في النشأة الاخرى أُولئِكَ القاصرون المقصرون هم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
اى لم يبق لهم مما يترتب على أعمالهم فيها إِلَّا النَّارُ إذ حسناتهم قد وفيت في النشأة الاولى ولم يبق لهم سوى توفية السيئات وليس توفية السيئات الا بالنار وما يترتب عليها من انواع العذاب والآلام وَبالجملة قد حَبِطَ اى ضاع واضمحل عموم ما صَنَعُوا فِيها اى في النشأة الاولى من الخيرات والمبرات بإرادتهم مزخرفات الدنيا الدنية لأجلها وَبعدم إخلاصهم وانعكاس مرادهم باطِلٌ فاسد ضائع جميع ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصالحات فيها بل قد صارت أعمالهم الصالحة طالحة من خساسة نيتهم وخباثة طويتهم
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنى أتظنون وتحسبون ان من انكشف له برهان واضح وكشف صريح وشهود محقق من قبل ربه وتحقق بمقام التوحيد واطلع على سرسريان الوحدة الذاتية في جميع الكوائن والفواسد وَمع ذلك يَتْلُوهُ ويطرء عليه ويجرى على لسانه شاهِدٌ ناطق بتصديقه نازل مِنْهُ اى من عند ربه امتنانا له وتفضلا عليه يريد ويقصد من أفعاله واعماله الصادرة عنه ظاهرا مثل ما أراد أولئك المحجوبون المستورون عن الحق واحاطته وشموله واستقلاله في الآثار الظاهرة في الآفاق كلا وحاشا هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وبالجملة ما يتذكر منه الا أولوا الألباب وَكيف ينكرون شهادة القرآن على تصديق خير الأنام إذ قد جاء مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن كِتابُ مُوسى من قبل ربه مصدقا له في دعواه وقد صار كتابه بكمال اشتماله على الحكم والاحكام إِماماً وقدوة لقاطبة الأنام وَرَحْمَةً شاملة للخواص والعوام ليهديهم الى دار السّلام وبالجملة أُولئِكَ اى عموم اهل التورية وهم الذين يؤمنون بها ويمتثلون بما فيها يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بحقية القرآن لكونه مذكورا في كتابهم المنزل عليهم وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى بالقرآن وينكر بحقيته مِنَ الْأَحْزابِ المتحزبين مع المحرفين للتورية المنحرفين عن جادة العدالة والايمان فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ لا بد وان يرد عليها بمقتضى العدل الإلهي فَلا تَكُ أنت يا أكمل الرسل فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْهُ اى من ورودهم عليها انجازا لوعده سبحانه إِنَّهُ الْحَقُّ الثابت النازل مِنْ رَبِّكَ لا بد ان يتحقق وقوعه حتما وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لانهماكهم في الغفلة وغلظ حجبهم عن الله لا يُؤْمِنُونَ بحقيته سبحانه وحقية وعده وإنجازه الموعود لذلك حرفوا ما جاء من عند الله في كتابه وزادوا عليه ما لم يجيء من لدنه سبحانه ظلما وعدوانا
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله مِمَّنِ افْتَرى وقد نسب عَلَى اللَّهِ كَذِباً عمدا وحرف كتابه بتنقيص شيء منه او زيادة عليه قصدا أُولئِكَ الأشقياء المحرفون المجترؤون على الله بتبديل آياته يُعْرَضُونَ في يوم العرض الأكبر عَلى رَبِّهِمْ ويسألون عما فعلوا بكتاب الله فينكرون ويستنزهون أنفسهم عنه وَيومئذ يَقُولُ الْأَشْهادُ ويشهد عليهم الشهود العدول من أعضائهم وجوارحهم إلزاما لهم بانه هؤُلاءِ المسرفون المعاندون الَّذِينَ قد كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ وحرفوا كتابه افتراء ومراء ظلما وزورا وبعد إشهاد هؤلاء الاشهاد نودي من وراء سرادقات العز والجلال تفضيحا لهم وتخذيلا على رؤس الملأ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ وطرده وابعاده عن سعة رحمته نازلة عَلَى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى حكمه وحكمته عنادا ومكابرة
وهم الَّذِينَ يَصُدُّونَ ويصرفون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الشرع المتين المبين المنزل من عنده على أنبيائه ورسله بالعدالة والتقويم وَيَبْغُونَها عِوَجاً اى يريدون ان يحدثوا فيها عوجا وانحرافا ليصرفوا عنها ويرتدوا منها أهلها سيما بعد ايمانهم بها وانقيادهم لها
فاستحقوا العذاب والنكال الأخروي وَالحال انه هُمْ بِالْآخِرَةِ المعدة للجزاء والانتقام هُمْ كافِرُونَ منكرون لخبث طينتهم وردائه فطنتهم وفطرتهم
أُولئِكَ البعداء المسرفون المفترون على الله المفرطون في تحريف كتابه لَمْ يَكُونُوا من اهل الغلبة والاعجاز حتى صاروا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ كل من يتحدى معهم ويعارضهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حتى ينصروهم ويحفظوهم من عذاب الله إياهم ان تعلق ارادته بتعذيبهم في الدنيا وانما امهلهم وأخر عذابهم الى يوم الجزاء ليقترفوا من موجباته وأسبابه اكثر مما كانوا عليه حتى يدوم وبالهم ونكالهم لأجلها بل يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أضعافا وآلافا لأنهم بسبب اعراضهم عن الحق ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إذ في آذانهم واسماعهم وقر وصمم وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لتعاميهم عن ابصار آثاره ودلائله
وبالجملة أُولئِكَ
المعزولون عن استماع كلمة الحق وابصار علاماته هم الَّذِينَ
قد خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بالافتراء على الله بما لا يليق بجنابه باشراك مصنوعاته معه في استحقاق العبادة
وَمع ذلك قد ضَلَ
وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة الباطلة ولم يبق لهم سوى الندامة والخسران
لذلك لا جَرَمَ وحق عليهم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ المقصورون على الخسران والحرمان الأبدي الا ذلك هو الخسران المبين أعاذنا الله منه
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وفوضوا أمورهم كلها اليه سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى جنابه وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ وتضرعوا له مطمئنين خاشعين أُولئِكَ السعداء المقبولون الصالحون المصلحون الخاشعون المخبتون أَصْحابُ الْجَنَّةِ التي هي دار السعداء هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مطمئنون متمكنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وبالجملة مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ اى المؤمن والكافر في السعادة والشقاوة والهداية والضلال كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ كل واحدة مع نقيضها هَلْ يَسْتَوِيانِ كل من النقيضين مَثَلًا ايها العقلاء أَفَلا تَذَكَّرُونَ التفاوت والتفاضل وهل تتنبهون وتتفطنون
وَمن عدم تذكر الإنسان ووفور توغله في الغفلة والنسيان لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الناجي عما سوى الحق المنجى للهالكين في تيه الضلال إِلى قَوْمِهِ حين ظهر عليهم امارات الكفر والعصيان ولاح منهم علامات الظلم والطغيان قائلا لهم على وجه العظة والنصيحة إِنِّي من غاية اشفاقى وعطفي لَكُمْ نَذِيرٌ من قبل الحق أنذركم من حلول عذابه ونزول غضبه وسخطه بسبب ظلمكم وكفركم مُبِينٌ مظهر مبين لكم ما يوجب تعذيبكم من أفعالكم وأعمالكم الدالة على كفركم وشرككم فعليكم ايها المسرفون المفرطون
أَنْ لا تَعْبُدُوا ولا تتوجهوا إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له ولا شيء سواه ولا تشركوا به غيره إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ لو أشركتم بالله وكفرتم به عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع كأن الم العذاب يسرى في زمانه ايضا لفظاعة شأنه وشدة أهواله واحزانه
ثم لما سمعوا قوله وفهموا مراده استكبروا عليه واستبعدوا امره فَقالَ الْمَلَأُ اى الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مستكبرين عليه مستهزأين له ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كيف تدعى الرسالة والنيابة عن الله والوحى من جانبه وَمع ذلك لا شوكة لك ولا استيلاء ولا حول ولا قوة بسبب المال والأعوان والأنصار حتى تدّعى الرسالة علينا بل ما نَراكَ اتَّبَعَكَ منا إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا اى اسافلنا وادانينا عقلا وجاها سعة ومالا بادِيَ الرَّأْيِ اى يلوح رذالتهم للناظرين في بادى النظر بلا احتياج الى تأمل وتعمق
وَبالجملة ما نَرى لَكُمْ ايها السفلة الأراذل تابعا ومتبوعا عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ زيادة في العقل والمال والجاه والثروة والرياسة حتى نتبعكم ونقبل منكم قولكم بَلْ ما نَظُنُّكُمْ ونعتقدكم الا كاذِبِينَ في دعويكم مفترين فيها طالبين الرياسة والثروة بسببها بلا اظهار معجزة وبينة واضحة
قالَ نوح متحسرا آيسا منهم قنوطا عن ايمانهم بعد ما سمع منهم ما سمع يا قَوْمِ أضافهم مع غاية يأسه بمقتضى شفقة النبوة أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم عَلى بَيِّنَةٍ واضحة دالة على صدقى في دعواي نازلة على مِنْ رَبِّي لتأييدى وتصديقى وَمع ذلك قد آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ سبحانه تفضلا وامتنانا مشعرة بنجابتى وطهارتى وصدقى في قولي وتذكيري فَعُمِّيَتْ فخفيت واشتبهت عَلَيْكُمْ الدلائل والشواهد مع وضوحها وسطوعها أَنُلْزِمُكُمُوها بها وَالحال انه أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ تكرهون لها غير ملتفتين إليها ولا متأملين فيها ولا في إشاراتها ورموزاتها
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى وإرشادي إياكم وهدايتي لكم مالًا جعلا واجرا بل إِنْ أَجرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أمرني به وبعثني لتبليغه وَان أردتم ان اطرد من معى من المؤمنين فاعلموا انى ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا وليس في وسعى وطاقتي ان اطردهم وكيف اطردهم إِنَّهُمْ من كمال سعادتهم وصلاحهم مُلاقُوا رَبِّهِمْ الذي قد وفقهم على الايمان والهداية فيخاصم سبحانه مع طاردهم البتة وينتقم عنه لأجلهم وَلكِنِّي أَراكُمْ من خباثة بواطنكم وقساوة قلوبكم قَوْماً تَجْهَلُونَ وتنكرون لقاء الله ولا تعتقدون بحوله وقوته واعانته للمظلوم وانتقامه على الظالم الطارد
وَيا قَوْمِ المكابرين المعاندين في طلب طرد المؤمنين مَنْ يَنْصُرُنِي ويدفع عنى مَنْ حلول عذاب اللَّهِ وبطشه وانتقامه على إِنْ طَرَدْتُهُمْ ابتغاء مرضاتكم ومواساة لكم بلا وحى وارد من قبل الحق واذن نازل من عنده أَفَلا تَذَكَّرُونَ ايها المجبولون على العقل المفاض المستلزم للتوحيد والعرفان لينكشف عندكم وتعرفوا عاقبة التماسكم طرد المؤمنين وتوفيقكم عليه
وَيا قوم لا أَقُولُ لَكُمْ مدعيا بعدم طردهم وابعادهم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فاغنيهم بها لذلك لم اطردهم وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ اى انا لا ادعى الاطلاع على غيوب أحوالهم في عواقبهم ومآلهم حتى يكون سبب ودادي لهم وَايضا لا أَقُولُ لكم مباهاة ومفاخرة إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا ما أنت الا بشر مثلنا وَلا أَقُولُ ايضا لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الذين تَزْدَرِي وتستحقرهم أَعْيُنُكُمْ يعنى قد استرذلتموهم وتقولون في حقهم ما نريك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادى الرأى لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ولن يعطيهم اللَّهُ خَيْراً ابدا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ حالهم ومآلهم وعواقب أمورهم من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلعني عليها بل اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الإخلاص والرضاء وبالجملة مالي علم بأحوالهم الا بوحي الله والهامه ولم يوح الى شيء منها وان تفوهت عنهم وعن أحوالهم بلا وحى إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ المجترئين على الله في ادعاء الاطلاع على غيبه رجما به وتخمينا وبعد ما سمعوا من نوح عليه السّلام ما سمعوا
قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم يا نُوحُ نادوه استهانة واستحقارا قَدْ جادَلْتَنا وخاصمت معنا بالمقدمات الكاذبة الواهية الوهمية فَأَكْثَرْتَ علينا جِدالَنا وبالغت فيها وتماديت فَأْتِنا ايها المكثر المفرط بِما تَعِدُنا من العذاب فانا لن نؤمن بك ابدا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك وبعد ما سمع
منهم ما سمع
قالَ نوح عليه السّلام متأسفا متحزنا مأيوسا قنوطا من ايمانهم يا قوم لست انابآت بموعدى حتى تعجزونى وتضطرونى وتستهزءوا بي بل إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اى بالعذاب الموعود اللَّهُ المنتقم منكم المقتدر على اخذكم وقهركم إِنْ شاءَ انتقامكم وتعلق ارادته لمقتكم وهلاككم وَبالجملة ما أَنْتُمْ حين حلول غضب الله عليكم بِمُعْجِزِينَ الله في فعله واخذه إذ هو القاهر فوق عباده بل أنتم حينئذ عاجزون مضطرون مقهورون
وَبالجملة لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي اليوم حتى يلحقكم ما سيلحقكم من العذاب الموعود إِنْ أَرَدْتُ وأحببت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لأحفظكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يعنى لا ينفعكم نصيحتي ان تعلق مشيئة الحق في حضرة علمه وسابق قضائه باغوائكم واضلالكم إذ هُوَ سبحانه رَبُّكُمْ ومتولى أموركم وَإِلَيْهِ لا الى غيره من وسائل العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ في عموم أموركم وحالاتكم أتريد يا نوح نصحهم وإشفاقهم وهم لا يقبلون منك
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل هم يقولون قد اختلقه من عنده ونسبه الى الوحى ترويجا وتغريرا قُلْ لهم حين قالوا لك هذا مجاراة عليهم ومماراة لهم إِنِ افْتَرَيْتُهُ واختلقت ما جئت به فَعَلَيَّ إِجْرامِي اى وبال امرى ونكاله عائد على وجزاؤه آئل الى وَالحال أَنَا بَرِيءٌ في نفسي مِمَّا تُجْرِمُونَ وتنسبون أنتم الىّ من الجرائم
وَبعد ما بالغوا في العتو والعناد والإصرار على ما هم عليه من الجور والفساد وحان حين أخذهم وانتقامهم أُوحِيَ والهم إِلى نُوحٍ حين ظهر عليهم امارات الإنكار ولاح منهم علامات الاستخفاف والاستكبار أَنَّهُ اى الشان لَنْ يُؤْمِنَ لك ابدا بعد هذا احد مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ لك قبل هذا فاقنط عن ايمانهم ولا تجتهد في هدايتهم وإرشادهم فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن ولا تغتم من إهلاكنا إياهم وإنزال العذاب عليهم واعلم جزما انهم مهلكون بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الاعراض والإنكار والعتو والاستكبار
وَبعد ما حصل لك اليأس والقنوط عن ايمانهم اصْنَعِ الْفُلْكَ والسفينة لحفظك وحفظ من آمن معك من الغرق بِأَعْيُنِنا اى بكنفنا وجوارنا وحفظنا وحصارنا وَوَحْيِنا لك كيف تصنعها وتشيدها وَبعد ما صنعت لا تُخاطِبْنِي ولا تناج يا نوح معى فِي إنجاء القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالمكابرة والعناد ونبذوا وراء ظهورهم ما جئت به من لدنا من الهداية والرشد إِنَّهُمْ بسبب انهماكهم في الغفلة والغرور مُغْرَقُونَ مهلكون حتما جزما لا نجاة لهم أصلا
وَبعد ما أوحاه الحق وامره شرع يَصْنَعُ الْفُلْكَ بتعليم جبرائيل عليه السّلام إياه باذن الله وَقد كان حينئذ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ وطائفة مِنْ قَوْمِهِ حين اشتغاله بصنع الفلك قد سَخِرُوا مِنْهُ واستهزؤا معه لكونه في بادية لا ماء فيها وقالوا له على سبيل التهكم قد صرت نجارا بعد ما كنت نبيا مختارا قالَ لهم نوح المنكشف بما امره الحق له إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن لجهلكم بسر صنيعنا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ايضا حين كنا على الفلك وأنتم غرقى كَما تَسْخَرُونَ اليوم منا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وتدركون وبال ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية الزموا مكانكم لتعلموا مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه منا ومنكم وَمن يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم مستمر وبالجملة هم قد صاروا مصرين على إصرارهم
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وحان حلول أجلنا الذي قد أجلنا وقدرنا لمقتهم وهلاكهم في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَفارَ اى نبع وعلا حينئذ التَّنُّورُ المعهود في حضرة علمنا ولوح قضائنا نبع
ماء الطوفان منه وبعد فوران التنور المعهود وغليانه واطلعت عليه امرأته فأخبرته قُلْنَا له تفضلا عليه وامتنانا احْمِلْ فِيها اى في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ من الحيوانات التي تعيش في البر وفي الهواء اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى وَاحمل ايضا عليها أَهْلَكَ اى جميع اهل بيتك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والحكم منا في سابق قضائنا بانه قد كان من الكافرين المغرقين وَاحمل ايضا فيها جميع مَنْ آمَنَ لك من قومك وَالحال انه ما آمَنَ مَعَهُ من قومه إِلَّا قَلِيلٌ قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونسائهم واثنان وسبعون رجلا من غيرهم والكل مع نوح عليه السّلام. روى انه عليه السّلام قد أتم السفينة وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلثين وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش وفي أوسطها الانس وفي أعلاها الطير
وَبعد ما نبع التنور وانتشر الماء وانبسط على الأرض قالَ نوح بوحي الله إياه والهامه ارْكَبُوا فِيها اى صيروا في جوفها متمكنين واستقروا عليها قائلين متيمنين بِسْمِ اللَّهِ إذ هو سبحانه بحوله وقوته مَجْراها وَمُرْساها حيث أراد إجرائها وارساءها اى إقامتها إِنَّ رَبِّي الذي رباني بلطفه واوحانى بصنعها ونحتها لَغَفُورٌ لمن استغفر له رَحِيمٌ يقبل توبته ويمحو ذلته وينجى عن عذابه فركبوا مسميين متيمنين على الوجه المأمور
وَهِيَ اى السفينة تَجْرِي بِهِمْ فِي خلال مَوْجٍ وهو ما ارتفع من الماء من تهييج الرياح عال كَالْجِبالِ الشامخ وَحينئذ نادى نُوحٌ ابْنَهُ المسمى بكنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ قد اعتزل عنه وانصرف عن دينه فرآه بين الماء فتحرك عطف الأبوة فصاح عليه يا بُنَيَّ صغره واضافه لشدة شفقته وترحمه ارْكَبْ مَعَنا لتنجو من الغرق وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المغرقين وبعد ما سمع ابنه صيحة أبيه
قالَ مستنكرا عليه سَآوِي والتجئ إِلى جَبَلٍ عال يَعْصِمُنِي مِنَ إغراق الْماءِ بشموخه وارتفاعه قالَ يا بنى لا عاصِمَ ولا منجى الْيَوْمَ لاحد مِنْ أَمْرِ اللَّهِ المبرم وحكمه المحكم إِلَّا مَنْ رَحِمَ الحق إياه وأنجاه إذ لا منجى ولا عاصم في الوجود غيره وَحينئذ قد حالَ بَيْنَهُمَا اى بين نوح وابنه كنعان الْمَوْجُ العظيم الهائل فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وصار ابنه من زمرة الغرقى الهالكين
وَبعد ما انبسط الماء على وجه الأرض وعلا على اعالى الجبال وإقلال الرواسي وهلك من عليها قِيلَ من وراء سرادقات العز والجلال مناديا آمرا على الأرض والسماء مثل نداء ذوى العقول المكلفين المبادرين الى امتثال الأوامر المأمورة لهم يا أَرْضُ النابعة للماء المخرجة له ابْلَعِي ماءَكِ اى انشفى واقبضى ما نبع عنك من الماء وَيا سَماءُ الماطرة الهامرة أَقْلِعِي وأمسكي ماءك ولا تمطرى ٢ إذ يمطر الماء مثل ما نبع من الأرض وَبعد ورود الأمر الوجوبي الإلهي غِيضَ الْماءُ ونقص من نشف الأرض وأقلعت السماء وَقُضِيَ الْأَمْرُ الموعود الذي هو إهلاك الكفار وإنجاء المؤمنين وَبعد انقضاء المأمور المعهود وانجاز الوعد الموعود قد اسْتَوَتْ السفينة واستقرت عَلَى الْجُودِيِّ هو جبل بالموصل وقيل بآمد. روى انه عليه السّلام قد ركب على السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار صومه سنة سنية منه على من بعده وهو صوم يوم عاشوراء وَبعد إهلاك أولئك الكفرة العصاة الغواة قِيلَ من قبل الحق بُعْداً اى قد بعد بعدا وطرد طردا مقتا وهلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين
عن مقتضى الوحى الإلهي المكذبين لرسله ابعادا لهم عن ساحة عز الحضور بحيث لا يرجى قربهم وقبولهم أصلا
وَبعد ما وقع ما وقع نادى وناجى نُوحٌ رَبَّهُ باثّا له الشكوى في حق ابنه كنعان فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي ايضا مِنْ أَهْلِي وأنت بفضلك وجودك قد وعدتني بنجاة أهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الذي وعدتني به الْحَقُّ الصدق والصريح الذي لا خلف فيه وَبالجملة أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ واقسطهم وأعدلهم بل احكام جميع الحكام راجع الى حكمك يا رب
قالَ سبحانه مجيبا له مزيلا لشكويه يا نُوحُ إِنَّهُ اى ابنك بسبب اعتزاله عنك وعن دينك لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إذ لا قرابة ولا الفة بين المؤمن والكافر وكيف يكون من أهلك إِنَّهُ من غاية فسقه وفساده كأنه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعنى هو مسمى به لكونه مغمورا فيه مجسما منه بحيث لا يرجى صلاحه وإصلاحه مطلقا فَلا تَسْئَلْنِ متعرضا معترضا على ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بوروده على إِنِّي أَعِظُكَ واذكر لك قبيل هذا مخافة أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ اى كذلك منهم بذهولك وغفلتك عما نبهت عليك بالاستثناء السابق يعنى قوله الا من سبق عليه القول وبعد ما سمع نوح من ربه ما سمع
قالَ معتذرا الى ربه مستحييا رَبِّ إِنِّي بعد ظهور خطائى وزلتى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ بعد هذا ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا اى وان لم تَغْفِرْ لِي زلتى وسوء ادبى وَلم تَرْحَمْنِي بفضلك وجودك أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا
قِيلَ من قبل الله بعد ما غاض الماء واستوت وانكشفت الأرض ويبست يا نُوحُ اهْبِطْ وانزل أنت من السفينة ومن معك مقرونا بِسَلامٍ وسلامة ونجاة وأمن ناش مِنَّا عليك تفضلا وامتنانا وَبَرَكاتٍ وخيرات كثيرة نازلة من لدنا عَلَيْكَ اصالة وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ تبعك تبعا سماهم امما باعتبار العاقبة والمآل وَمن ذرية من معك أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ونربيهم في النشأة الاولى بأنواع النعم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في النشأة الاخرى بسبب كفرهم وفسقهم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بدل ما تلذذوا بنعم الدنيا وكفروا بها
تِلْكَ اى قصة نبينا نوح عليه السّلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى من بعض اخباره نُوحِيها إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تعليما لك وتذكيرا لأمتك إذ ما كُنْتَ تَعْلَمُها لا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ لا بالدراسة ولا بالتعليم مِنْ قَبْلِ هذا الوحى والإنزال وان طعن المشركون لك ونسبوك الى الكذب والافتراء فَاصْبِرْ على اذياتهم وكن في تبليغك وارشادك على عزيمة خالصة صحيحة إِنَّ الْعاقِبَةَ الحميدة والأجر الجزيل في النشأة الاخرى لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن الميل الى البدع والأهواء ويصبرون على عموم المكاره والأذى حتى يتحققوا بمقام الرضاء ويفوزوا بشرف اللقاء
وَبعد ما تناسل قوم نوح وتكاثرت امم منهم فاستكبروا عن طريق التوحيد واتخذوا الأوثان والأصنام آلهة قد أرسلنا إِلى قوم عادٍ العادين عن طريق الحق المتجاوزين عن صراط التوحيد ظلما وعدوانا أَخاهُمْ هُوداً ليهديهم الى طريق الحق والصراط المستقيم قالَ بعد ما أوحينا اليه وإذنا له بتذكير قومه يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه تحننا وإشفاقا على ما هو مقتضى الإرشاد اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا اله الا هو واعتقدوا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب غَيْرُهُ إذ لا موجود سواه ولا اله الا هو إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم بعد ما ظهر الحق باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة غيره إِلَّا مُفْتَرُونَ مبطلون في اتخاذها افتراء ومراء
يا قَوْمِ اسمعوا قولي واتعظوا به
وامضوا بمقتضاه واقبلوا نصحى إذ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ولا اطلب منكم عوضا بل انا مأمور بالتبليغ والتذكير من عند العليم الخبير إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي وجبلنى على جبلة الهداية والإرشاد أَتشكون في امرى وتترددون في شأنى وتذكيري ونصحى فَلا تَعْقِلُونَ ولا تستعملون عقولكم في أفعالكم القبيحة وأعمالكم الفاسدة الناكبة عن طريق العدالة التي هي صراط الله الأعدل الا قوم
وَبعد ما ازدادوا الإصرار والاستكبار وأخذهم الله أولا بعقم الأرحام والأمطار فاضطروا قال هود عليه السّلام يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من فرطاتكم وهفواتكم واطلبوا المغفرة والنجاة منه سبحانه ثُمَّ تُوبُوا واسترجعوا إِلَيْهِ نادمين مخلصين يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ بأمر الله وبمقتضى ارادته مِدْراراً مغزارا وامطارا كثيرة على سبيل التتابع والإدرار تفضلا عليكم وامتنانا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ اى يضاعف أولادكم التي هي قوة ظهوركم وَعليكم ان لا تَتَوَلَّوْا ولا تتعرضوا على الله حال كونكم مُجْرِمِينَ معرضين عنه وعن رسله مصرين على ما أنتم عليه
قالُوا بعد ما سمعوا منه ما سمعوا يا هُودُ نادوه باسمه استحقارا له واستكبارا عليه ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ واضحة مثبتة لدعواك حتى نقبل منك قولك وبعد ما لم تجئ إلينا بالبينة الملجئة ما كنا نعتقدك صدوقا صادقا ثقة معتمدا حتى نقبل منك قولك بلا بينة اترك ما أنت عليه من الدعوى الكاذبة وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا التي قد وجدنا آباءنا وأسلافنا لها عاكفين عَنْ قَوْلِكَ وعن مجرد دعواك بلا بينة ودليل وَبالجملة ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مصدقين بلا شاهد وبينة
بل إِنْ نَقُولُ وما نتفوه في شأنك إِلَّا اعْتَراكَ اى سوى هذا القول وهوانك قد أصابك ورماك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ من جنون وخفة عقل وخبط واختلال حال وقد كنت أنت تسئ الأدب معهم وتذكرهم وتهجوهم بما لا يليق بشأنهم لذلك اصابوك واستخفوا عقلك وبعد ما سمع منهم هود ما سمع ايس من ايمانهم وهدايتهم حيث قالَ أولا مبرئا نفسه من الشرك امحاضا للنصح إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ العالم بسرى واعلانى وخفيات أسراري وَاشْهَدُوا أنتم ايضا ايها الهالكون في تيه الغفلة والغرور على أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس له شريك في الوجود أصلا سيما من العكوس والاظلال الهالكة المستهلكة في أنفسها والتماثيل الباطلة العاطلة المتخذة
مِنْ دُونِهِ آلهة سواه سبحانه فَكِيدُونِي اى فعليكم ايها الحمقى المنحطون عن زمرة العقلاء بعد ما سمعتم قولي وحققتم برائتى ان تمكرونى وتصيبونى أنتم وشركاؤكم جَمِيعاً ثُمَّ بعد اليوم لا تُنْظِرُونِ اى لا تمهلوني في امرى ولا تضعفوا ولا تفتروا في مكري
إِنِّي قد تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ لا أبالي بكم وشركائكم ولا اتحزن لمكركم ومكرهم بعد ما أتمكن بمقر التوحيد إذ ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك على الأرض إِلَّا هُوَ سبحانه بذاته وبيد قدرته آخِذٌ بِناصِيَتِها اى بوجوهها التي تلى الحق يقودها نحوه ويتصرف فيها كيف يشاء حسب ارادته اختيارا وبالجملة إِنَّ رَبِّي في جميع شئونه وتطوراته عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا اعوجاج له أصلا
فَإِنْ تَوَلَّوْا اى ان تتولوا وتعرضوا أنتم عما جئت به من ربي فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ واجتهدت في تبليغه وبذلت وسعى فيه فاعلموا انه لا أبالي انا ولا يبالى الله ايضا بإعراضكم وإصراركم بل ان شاء يستأصلكم وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ليتعظوا بكم ويعتبروا منكم ومما جرى عليكم وَأنتم بإعراضكم وانصرافكم عنه سبحانه لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً من الإضرار لا بالله ولأبي بل
إِنَّ رَبِّي من كمال جوده وسعة رحمته عَلى كُلِّ شَيْءٍ كائن في حيطة جوده ووجوده حَفِيظٌ رقيب
وَلَمَّا تمادوا في الغفلة والاعراض وبالغوا في الإصرار والاستكبار قد جاءَ أَمْرُنا وجرى حكمنا بالريح فعصفت عليهم السموم وكانت تدخل من أنوفهم أجوافهم فقطعت أمعاءهم فهلكوا ولما أخذناهم بما أخذناهم نَجَّيْنا من مقام جودنا هُوداً الداعي لهم الى سبيل الحق وَايضا قد نجينا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ ناشئة مِنَّا تفضلا عليهم وامتنانا وَما اقتصرنا على انجاءهم من عذاب الدنيا بل قد نَجَّيْناهُمْ ايضا كرامة منا إياهم مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ معد لأولئك الكفرة في النشئة الاخرى
وَتِلْكَ العصاة الغواة المقهورون بقهر الله وغضبه عادٌ المبالغون في العتو والعناد قد جَحَدُوا من غاية غفلتهم وغرورهم بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة على السنة رسله وَعَصَوْا رُسُلَهُ ايضا بالتكذيب والاستحقار إذ يستلزم تكذيب الواحد تكذيب الجميع وَاتَّبَعُوا من غاية جهلهم ونهاية بغضهم مع الله ورسله أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ مبالغ في التجبر والتكبر عَنِيدٍ متناه في المكابرة والعناد فتركوا متابعة الداعي لهم الى سبيل الرشد
وَلذلك أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ايضا وبالجملة قد صاروا متبوعين لأصحاب الطرد والتخذيل في النشأة الاولى والاخرى أَلا تنبهوا يا اولى الأبصار وذوى الاعتبار إِنَّ عاداً المعاندين المكابرين قد كَفَرُوا رَبَّهُمْ نعمه وجحدوا توحيده أَلا بُعْداً طردا وتخذيلا وتبعيدا عن ساحة عز الحضور لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ اردفه بعطف البيان ليتميز من عاد ارم
وَبعد ما انقرضوا وانقهروا بما انقهروا قد أرسلنا إِلى ثَمُودَ حين ظهروا بالكفر والشقاق والانصراف عن منهج الرشد باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة أَخاهُمْ صالِحاً لأنه اولى وأليق بإرشادهم وهدايتهم قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يكن له كفوا احد ولا تشركوا به شيأ إذ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ موجد مظهر لكم من كتم العدم غَيْرُهُ بل هُوَ سبحانه بذاته وبمقتضى أسمائه وأوصافه الذاتية والفعلية قد أَنْشَأَكُمْ وأظهركم مِنَ الْأَرْضِ بامتداد اظلال أسمائه ورش رشحات انواره الذاتية التابعة لتجلياته الجلالية والجمالية وبعد ما أظهركم منها وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وابقاكم عليها زمانا وربيكم بأنواع اللطف والكرم وبالجملة فَاسْتَغْفِرُوهُ واسترجعوا اليه على ما فرطتم في حقه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مخلصين نادمين عسى ان يقبل منكم ويعفو عن زلاتكم إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ لكم يعلم منكم توبتكم وإخلاصكم فيها مُجِيبٌ يجيب دعوتكم ويعفو عن زلتكم
قالُوا بعد ما سمعوا منه دعوته وتذكيره يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ أنت فِينا مَرْجُوًّا مستشارا مؤتمنا وقد اعتقدناك سيدا سندا ذا رشد وامانة قَبْلَ هذا الزمان فالآن قد صرت أخرق اخرف ذا خلل ظاهر وخبط متناه أَتَنْهانا أنت وتمنعنا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ونهيتنا عن عبادة معبوداتنا ومعبودات آبائنا وأسلافنا القديمة وَالحال انه إِنَّنا لَفِي شَكٍّ وتردد عظيم مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من وحدة الا له المعبود بالحق وكذا من بطلان آلهتنا القديمة التي قد وجدنا آباءنا لها عابدون مُرِيبٍ ذي ريبة منتهية الى كمال الإنكار مع انك ايضا لم تأت ببينة معجزة تلجئنا الى تصديقك
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم مقرونا عَلى بَيِّنَةٍ واضحة موضحة دالة على صدق ما ادعيت نازلة مِنْ عند رَبِّي لتصديقي وتأييدى وَ
الحال انه قد آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة ورسالة تامة مؤيدة بأنواع المعجزات فَمَنْ يَنْصُرُنِي يكفيني ويمنعني مِنْ عذاب اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ سيما في تبليغ رسالته واظهار ما أمرني بإظهاره وأوصاني بنشره وبالجملة فَما تَزِيدُونَنِي حين ابتلائى وأخذ الله إياي بعصيانى غَيْرَ تَخْسِيرٍ على تخسير وتخذيل فوق تخذيل
وَبعد ما ايس عن ايمانهم قال يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً دالة على صدقى في دعواي وتأييد الله إياي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ مسلمة بلا منع وإباء وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لأجل الماء والكلأ فَيَأْخُذَكُمْ ويلحقكم ان أصبتموها بسوء عَذابٌ قَرِيبٌ اجله وحلوله وبعد ما قد ظهرت الناقة من الصخرة الصماء بين أظهرهم وأكلت كلأهم وشربت ماءهم فتضرروا منها وشاوروا في أمرها وتقرر رأيهم الى قتلها
فَعَقَرُوها وأهلكوها ظلما وعدوانا بغيا وطغيانا فَقالَ لهم صالح بعد ما وقع الواقعة الهائلة تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ وعيشوا بعد ما خالفتم حكم الله وقد أتيتم بما قد نهيتم عنه ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة فوادعوا فيها وتوادعوا واعلموا ان ذلِكَ وَعْدٌ قد اوحى الى من ربي ووعد ربي غَيْرُ مَكْذُوبٍ ولا منسوب الى كذب قط بل صادق مصدوق متيقن مجزوم به لا تشكوا فيه
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب المهلك بعد انقضاء الأيام الثلاثة التي قد ظهرت فيها علاماته من اصفرار وجوههم في اليوم الاول واحمرارها في الثاني واسودادها في الثالث نَجَّيْنا من فضلنا وجودنا صالِحاً الذي قد أصلح نفسه وأراد إصلاح نفوسهم فلم يقبلوا إصلاحها بل أفسدوها بأنفسهم وَنجينا ايضا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وصلحوا باصلاحه بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا على قلوبهم حتى وفقوا بها على قبول دعوته واظهار الايمان به وبسبب ايمانهم قد نجوا من خزي النشأة الاخرى وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ايضا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل الموفق لهم على الايمان والإذعان هُوَ الْقَوِيُّ المحصور على القوة والقدرة إذ لا حول ولا قوة الا به وهو الْعَزِيزُ الغالب على إمضائه وإنفاذه حيث أراد وشاء
وَبعد ما أنجاهم الله بلطفه أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالعتو والعناد الصَّيْحَةُ الهائلة المهولة التي قد وعدها الله لإهلاكهم فَأَصْبَحُوا بعد ما سمعوا الصيحة في أثناء الليل فِي دِيارِهِمْ التي قد كانوا متمتعين فيها جاثِمِينَ جامدين ميتين بحيث
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ولم يسكنوا فِيها أصلا وعند وقوع تلك الواقعة الهائلة قد صاح اصحاب العبرة والاعتبار وأولو الخبرة والاستبصار أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بكفران نعمه وتكذيب رسله أَلا بُعْداً لِثَمُودَ عن سعة رحمة الحق في النشأة الاولى والاخرى
وَبعد ما انقرض أولئك الهالكون في تيه الغفلة والغرور حدث بعدهم قوم لوط المبالغون في الغفلة القبيحة والديدنة الشنيعة عقلا ونقلا ومروة المصرون عليها زمانا الى ان أخذناهم بما أخذناهم وحين أردنا أخذهم لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا اى الملائكة المأمورون لإهلاك قوم لوط إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى والبشارة بالولد بعد ما ايس هو وزوجته عن التوالد والتناسل قالُوا له حين لا قوة سَلاماً اى نسلم سلاما عليك ترحيبا منا إليك وتعظيما قالَ سَلامٌ عليكم دائما مستمرا ايها المستحقون للتحية والترحيب فَما لَبِثَ وما جلس بعد نزولهم الى أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ مشوى ضيافة لهم ونزلا لقدومهم ووضع بين أيديهم فانصرفوا عنه ولم يمدوا أيديهم نحوه
فَلَمَّا رَأى ابراهيم أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ ولا يتناولون منه كما هو عادة المسافرين نَكِرَهُمْ اى أنكر منهم عدم أكلهم لان
الامتناع من الطعام دليل على قصد المكروه لصاحبه وَأَوْجَسَ واهمز مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ورعبا حتى أحسوا منه الخوف وعلامات الرعب قالُوا تسلية له وازالة لرعبه لا تَخَفْ منا إِنَّا وان كنا من اهل الإنذار والإهلاك قد أُرْسِلْنا إِلى إهلاك قَوْمِ لُوطٍ مالنا معك شغل
وَحين قالوا له ما قالوا امْرَأَتُهُ اى سارة حاضرة قائِمَةٌ لخدمة الأضياف فَضَحِكَتْ بعد ما سمعت قولهم فرحا وسرورا لأنها كانت تقول اضمم إليك لوطا فانى اعلم ان البلاء ينزل على هؤلاء المسرفين فَبَشَّرْناها اى سارة تفضلا وامتنانا بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ ولده يَعْقُوبَ أب الأنبياء
قالَتْ سارة بعد ما سمعت منهم التبشير مستحية مستغربة يا وَيْلَتى ويا هلكتي وفضيحتي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ قد مضت علىّ تسع وتسعون سنة وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فانيا ابن مائة وعشرين سنة وبالجملة إِنَّ هذا التوالد بيننا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ غريب خارق للعادة ان وقع
قالُوا ازالة لشكها وتعجبها أَتَعْجَبِينَ وتستبعدين مِنْ أَمْرِ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة وحكمه وحكمته أمثال هذا اى التوالد بينكما تفضلا وامتنانا وما هذا الا رَحْمَتُ اللَّهِ اى انواع فضله وجوده وَبَرَكاتُهُ اى خيراته الكثيرة النازلة عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْبَيْتِ يعنى اهل بيت الخلة والنبوة إِنَّهُ سبحانه في ذاته حَمِيدٌ يفعل دائما ما يوجب الحمد له مَجِيدٌ محسن كثير الإحسان والانعام المستجلب لانواع المحامد والاثنية
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ اى الخوف والرعب بتسلية الرسل إياه وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بما لا ترقب له فيه أخذ يُجادِلُنا اى يجادل مع رسلنا ويناجى معنا فِي حق قَوْمِ لُوطٍ وأخذنا إياهم وما حمله على المجادلة والمناجاة إلا فرط اشفاقه ورقة قلبه
إِنَّ إِبْراهِيمَ في نفسه لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام كظيم الغيظ والغضب صبور على عموم المصيبات أَوَّاهٌ كثير التأوه والتأسف من الذنب الصادر عنه مُنِيبٌ رجاع الى الله في جميع حالاته فقاس حالهم على نفسه فأخذ يجادل في حقهم مؤملا انابتهم ورجوعهم قال الرسل له بوحي الله إياهم
يا إِبْراهِيمُ المتحقق بمقام الخلة أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال وانصرف عن مدافعة حكم الله المبرم المحكم إِنَّهُ اى الشان قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وثبت منه الحكم بهلاكهم ولا تنفعهم مجادلتكم وممانعتكم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عن قريب عَذابٌ حتم جزم غَيْرُ مَرْدُودٍ بتقويك وحمايتك وَاذكر يا أكمل الرسل
لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً على اشكال مرد ملاح صباح متناسبة الأعضاء وهم ما رأوا طول عمرهم أمثال هؤلاء في الصباحة واللطافة وكمال الرشاقة سِيءَ بِهِمْ اى ساء مجيئهم على هذه الأشكال لوطا ومن آمن معه وَضاقَ مجيئهم على هذه الصور البديعة بِهِمْ ذَرْعاً قد شق واشتد على لوط والمؤمنين امر حفظهم وحضانتهم لأنهم عالمون بقبح صنيع قومهم لو علموا مجيئهم لقصدوا بهم ولهم ايضا مكروها واشتد عليهم ايضا مدافعتهم وإخراجهم إذ هم قد نزلوا ضيفا فاضطر لوط في أمرهم وشأنهم وتحير وَقالَ متأوها متضجرا متأسفا هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد مظلم في غاية الشدة والظلمة
وَبعد ما انتشر خبر نزولهم جاءَهُ قَوْمُهُ متجسسين يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ويطوفون حول بيته سريعا ويطلبون فرصة الدخول عليهم ويحتالون لدفع لوط والمؤمنين وَهم قوم خبيث مِنْ قَبْلُ قد كانُوا من غاية خباثتهم يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الخارجة عن مقتضى العقل والنقل والمروة وحين اضطر لوط من تبخترهم وترددهم ولم ير في نفسه مدافعتهم ومقاومتهم
قالَ لقومه من غاية غيرته وحميته في حق أضيافه يا قَوْمِ هؤُلاءِ الإناث بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ان أردتم الوقاع فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور وَلا تُخْزُونِ ولا تخجلوني فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ ايها المجبولون على فطرة الإدراك رَجُلٌ رَشِيدٌ ذو مروءة وعقل كامل
قالُوا في جوابه مبالغين مقسمين والله لَقَدْ عَلِمْتَ يقينا ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ اى ميل وحظ بل انما عرضت بناتك علينا لنترك اضيافك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ يقينا ما نُرِيدُ ثم لما اضطر لوط عليه السّلام من مسارعتهم ومماراتهم
قالَ مشتكيا الى الله مناجيا نحوه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ادفع بها خزيي وخزي أضيافي لا دفعكم بتوفيق الله واقداره أَوْ آوِي وارجع حين ظهور عدم مقاومتى ومدافعتي معكم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هو حفظ الله وكنف وقايته وجواره وحصين حضانته وحصاره ثم لما رأى الرسل اضطرار لوط واضطرابه إذ هو غلق على أضيافه باب بيته فيجادل مع قومه ويتكلم معهم عند الباب وبعد ما امتدت مجادلته معهم قصدوا ان يثقبوا الجدار فاشتغلوا بالثقب والنقب
قالُوا اى الرسل بعد ما بلغ الم لوط غايته يا لُوطُ لا تغم ولا تضطرب في أمرنا ولا تهلك نفسك غيرة وغيظا إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ابدا ولن ينالوا باضرارنا حتى اضطررت من أجلنا ذرنا معهم واخرج أنت من بيننا فخرج لوط عليه السّلام مفتحا باب بيته فدخلوا على الرسل بالفور فضرب جبرئيل بجناحه على وجوههم فأعماهم فانقلبوا خارجين صائحين النجاء النجاء فان في بيت لوط سحرة وبعد ما خرجوا فاقدين أبصارهم قال الرسل امر اللوط فَأَسْرِ اى سر ليلا بِأَهْلِكَ وبمن آمن معك بِقِطْعٍ اى بعد مضى طائقة مِنَ اللَّيْلِ وَبعد ما خرجتم لا يَلْتَفِتْ ولا ينظر مِنْكُمْ ايها الخارجون أَحَدٌ خلفه حين سمع حنينهم وأنينهم وتشدد العذاب عليهم إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها تلتفت البتة حين سمعت الصيحة فخرجوا على الوجه المأمور فنزل عليهم العذاب بعد خروجهم بالفور فصاحوا صيحة عظيمة ولم يلتفت احد من الخارجين الا مرأته فلما سمعت التفتت وصاحت وا قوماه فاصيبت هي ايضا بلا تراخ ومهلة إِنَّهُ اى الأمر والشان في علمنا مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فلما سمع لوط من الرسل ما سمع واستسرع الى مقتهم من شدة ضجرته منهم قالوا له إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ اى موعد هلاكهم صبح هذه الليلة أَلَيْسَ الصُّبْحُ ايها المستعجل بِقَرِيبٍ
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا على رسلنا باهلاكهم جَعَلْنا اى جعل الرسل باقدارنا وتمكيننا إياهم قريتهم عالِيَها سافِلَها اى يقلبون عليهم بيوتهم وَمع ذلك قد أَمْطَرْنا من جانب السماء عَلَيْها اى على أماكنهم وقراهم حِجارَةً تتحجر مِنْ سِجِّيلٍ وهو معرب سنك وكل مَنْضُودٍ ممتزج منضد بعضها على بعض
مُسَوَّمَةً معلمة مقدرة عِنْدَ رَبِّكَ وحضرة علمه ولوح قضائه لإهلاك هؤلاء البغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والغرور بها وَبالجملة ما هِيَ اى أمثال هذه البليات والمصيبات مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدود الله وعن مقتضيات أوامره ونواهيه بِبَعِيدٍ غريب حتى يستغرب في حقهم
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين من ذوى الاستبصار والاعتبار وقت إذ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ حين بالغوا التطفيف والتخسير في المكيلات والموزونات أَخاهُمْ ومن شيعتهم شُعَيْباً المتشعب منهم ليكون ادخل في نصحهم واجهد في هدايتهم وإرشادهم قالَ موصيا لهم متحننا على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد
الصمد الفرد الذي ليس له شريك في الوجود والألوهية والربوبية وتيقنوا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مظهر لكم وكذا لعموم ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة غَيْرُهُ بل الألوهية محصورة عليه مقصورة له منحصرة بذاته إذ لا شيء سواه ولا يستحق للعبادة الا هو وَعليكم ايها المأمورون من عنده بالاعتدال والاقتصاد في جميع الأخلاق والأفعال والأحوال ان لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ لبنى نوعكم إِنِّي أَراكُمْ وأخبركم بِخَيْرٍ اى سعة ورفاهية فائضة من الله عناية لكم وتفضلا عليكم فعليكم ان تزيدوها وتديموها بالشكر والإنصاف والانتصاف على مقتضى ما أمرتم به من عند ربكم وَان لم تسمعوا منى نصحى ولم تقبلوا قولي إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من غيرة الله ومن كمال قهره وسطوة جلاله عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فيه عذابه على عموم اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال
وَبعد ما قدم المنهي للعناية والاهتمام بشأنه اردفه بالمأمور للتأكيد والمبالغة وزيادة التقرير والاحكام كأنه قد استدل عليه لمزيد اشفاقه بهم وكمال مرحمته إياهم فقال يا قَوْمِ ان أردتم خير الدارين ونفع النشأتين أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ على عباد الله لا تزيدوا عليهما ولا تنقصوا منهما إذ كلا الطرفين مذمومان بلا وفيهما فاوفوهما بِالْقِسْطِ والعدل السوى وَعليكم ان لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ في حال من الأحوال وَبالجملة لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ولا تظهروا عليها بالمكر والخداع والحيف والبخس والتطفيف
وبالجملة بَقِيَّتُ اللَّهِ التي قد قدرها لعباده في حضرة علمه خَيْرٌ لَكُمْ ومزيد لأموالكم من تطفيفكم وتنقيصكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وبكمال تدبيراته وتقديراته وَاعلموا يا قوم ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ احفظكم عن جميع ما لا يعنيكم بل ما انا الا مبلغ ما أرسلت به إليكم فلكم الامتثال والتوفيق من الله الكبير المتعال
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالُوا له مستهزئين متهكمين يا شُعَيْبُ المدعى دعوة الخلق الى الحق أَصَلاتُكَ الكثيرة التي تصليها في خلواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام والأوثان أَوْ أَنْ نَفْعَلَ ونتصرف فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعنى أتأمرك صلاتك ان نترك أفعالنا التي قد كنا عملنا بها في ازدياد أموالنا وبضائعنا حسب ارادتنا واختيارنا إِنَّكَ ايها الداعي للخلق الى الحق لَأَنْتَ الْحَلِيمُ ذو الحلم والكرم لا تعجل في الانتقام الرَّشِيدُ العاقل الكامل الكافل لا تتكدر بأمثال هذه الأوهام
وبالجملة ما قالوا له أمثال هذا الا استهزاء وسخرية قالَ شعيب عليه السّلام بعد ما تفرس بنور النبوة استهزاءهم يا قَوْمِ الساعين للباطل المصرين عليه أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ
قد جئت لكم ملتبسا عَلى بَيِّنَةٍ مصدقة لي ناشئة مِنْ قبل رَبِّي معجزة لعموم من يقابلني ويعارضني وَمع ذلك قد رَزَقَنِي مِنْهُ اى من عنده سبحانه رِزْقاً حَسَناً معنويا وصوريا وروحانيا وجسمانيا فهو لا يليق بمثلي ان يفترى عليه سبحانه وينسب اليه امر ما لم يوح اليه من عنده كذبا او بهتانا وَاعلموا ايضا انى ما أُرِيدُ بنهي لكم عن التطفيف والتبخيس أَنْ أُخالِفَكُمْ فيما أنتم عليه وارجع انا بنفسي إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ لاستبد واتخصص به وبالجملة ما هذا الا إفساد وميل عن جادة الحق وصراط الله الا قوم فكيف يميل سيما الموحد المؤيد من عند الله بأنواع اللطف والكرم واصناف المعجزات الخارقة للعادات الى أمثال هذا بل إِنْ أُرِيدُ وما اقصد إِلَّا الْإِصْلاحَ مقدار مَا اسْتَطَعْتُ وَما انا متكفل للإصلاح ايضا ومدّع للاستقلال به إذ ما تَوْفِيقِي وليس اقتدارى وتمكينى وما حولي وقوتي
إِلَّا بِاللَّهِ إذ لا حول ولا قوة بالأصالة الا بالله لذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وثقت والتجأت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ارجع وأتوقع في عموم ما رجوت إذ هو مولاي ومتولى أموري وعليه اعتمادي واعتضادى
وَبعد ما تفرس منهم العصبية والمراء قال على مقتضى المحبة والشفقة وإرخاء العنان يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي اى لا يحملنكم بغضي وعداوتي المركوزة في قلوبكم على الجرائم المستجلبة لانواع العذاب والنكال إياكم وبالجملة انى أخاف عليكم أَنْ يُصِيبَكُمْ بسبب جرائمكم وعصيانكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ مثل ما أصاب قَوْمَ هُودٍ أَوْ مثل ما أصاب قَوْمَ صالِحٍ وَبالجملة ما قَوْمُ لُوطٍ وقصة استئصالهم وإهلاكهم وتقليب أماكنهم عليهم مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ متماد في البعد بحيث يحصل لكم الذهول عنه لقرب عهدهم
وَيا قوم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الذي قد أظهركم من كتم العدم من جميع فرطاتكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وأخلصوا في انابتكم ورجوعكم نحوه ولا تغتموا بعد اخلاص التوبة بما جرى عليكم من الجرائم إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ يقبل توبتكم ويعفو زلتكم الصادرة عنكم فيما مضى وَدُودٌ يحبكم حينئذ ويرحمكم ويتفضل عليكم وبعد ما قد بالغ عليه السّلام في نصحهم وإرشادهم
قالُوا له تسفيها وتخويفا يا شُعَيْبُ نادوه باسمه على سبيل الاستهزاء والاستحقار ما نَفْقَهُ ونعقل كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ اى بعض هذياناتك التي قد تكلفت أنت بها وَإِنَّا وان لم نفهم بعض كلماتك لابتنائها على الخبل والخرق لَنَراكَ في بادى الرأى فِينا ضَعِيفاً في غاية الضعف والحقارة وَبالجملة لَوْلا رَهْطُكَ اى عشائرك واقوامك لَرَجَمْناكَ بالحجارة البتة بسبب هذياناتك هذه وذكرك آلهتنا بالسوء ودخلك على أفعالنا وتصرفاتنا فيها وَاعلم يقينا انك بنفسك ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ بل عزتك عندنا بسبب رهطك لكونهم إخواننا في الدين فلا نريد إذا هم بقتلك والافتتان بك ورجمك وبعد ما ايس شعيب عليه السّلام عن ايمانهم
قالَ يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه هنا تهكما بخلاف ما مضى إذ قد قنط عن صلاحهم بالمرة أَرَهْطِي واقوامى أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الذي أوجدكم من كتم العدم فعززتموهم وراعيتم جانبهم وَاتَّخَذْتُمُوهُ اى الله سبحانه وأوامره ونواهيه واطاعة رسوله وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا مطروحا منبوذا وراء ظهوركم بل قد رجحتم جانب المصنوع المرجوح على صانعه الراجح وبالجملة إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من المفاسد مُحِيطٌ بعلمه احاطة حضور بحيث لا يغيب عنه شيء فيفصلها عليكم ويجازيكم بها
وَيا قَوْمِ الناكبين عن طريق الحق المصرين على الباطل اعْمَلُوا ما شئتم عَلى مَكانَتِكُمْ وعلى مقتضى مرتبتكم وشأنكم اىّ عمل شئتم إِنِّي ايضا عامِلٌ على شأنى سَوْفَ تَعْلَمُونَ أنتم وانا ايضا مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ منا بالله بسر ربوبيته وتوحيده وَارْتَقِبُوا وانتظروا وترقبوا أنتم بالعذاب والنكال إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ متربص منتظر
وَلَمَّا جاءَ ونفذ أَمْرُنا باهلاكهم نَجَّيْنا وأخرجنا أولا من بينهم شُعَيْباً الناجي وَكذا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وامتثلوا بما أمروا به من عنده بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا إياهم تفضلا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم حين صاروا في فراشهم بائتين الصَّيْحَةُ الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ التي كانوا مترفهين فيها جاثِمِينَ جامدين جثمانهم وأجسامهم بلا روح وصاروا
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ولم يسكنوا فِيها فصاح عليهم من صاح من ارباب الفطنة والعبرة أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ
وَبعد ما انقرض أولئك الطغاة الغواة المهلكون في الغي والضلال
المفسدون في الأرض بأنواع الإفساد والإضلال لَقَدْ أَرْسَلْنا حين حدث على الأرض أمثال ما حدث في ازمنة أولئك الهالكين بل هؤلاء أسوأ منهم حالا وأقبح شيمة منهم وخصالا وأشد منهم بغضا وشكيمة على الحق واهله عبدنا مُوسى اى المختص من لدنا بتكليمنا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا واستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَسُلْطانٍ اى قد أيدناه من لدنا بحجة واضحة وبرهان قاطع مُبِينٍ ظاهر الدلالة على صدقه في دعواه عند من له ادنى مسكة
إِلى فِرْعَوْنَ الذي هو رأس اهل الضلال ورئيسهم حيث يتفوه بالالوهية من غاية عتوه واستكباره وَمَلَائِهِ المعاونين له في امره وشأنه ثم لما أمهلنا زمانا على غروره ورفعنا قدره في هذه الدنيا وصيرنا مسرورا تغريرا عليه مكرا وتلبيسا الى حيث فَاتَّبَعُوا من على الأرض أَمْرَ فِرْعَوْنَ وامتثلوا بمقتضاه وَالحال انه ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ وما حكمه وشأنه بِرَشِيدٍ هاد الى الحق موصل الى مقصد التوحيد بل هو غار موصل الى تيه الضلال والتقليد المستلزم للدخول الى نار الخذلان وسعير الحرمان إذ هو بنفسه
يَقْدُمُ قَوْمَهُ ويتقدم عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ التي قد انكشفت فيها السرائر واضمحلت الأوهام والضمائر فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ مثل إيرادهم على ماء نيل في دار الدنيا شبه حالهم في النشأة الاخرى بحالهم في النشأة الاولى لذلك عبر عنه بالإيراد وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ نار الخذلان وجحيم الحرمان
وَهم من غاية خبثهم وفسادهم أُتْبِعُوا فِي هذِهِ النشأة لَعْنَةً دائمة مستمرة وَيلعنون ايضا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأضعاف هذه اللعنة وآلافها إيفاء لها وزيادة عليها وبالجملة بِئْسَ الرِّفْدُ والعون والعطاء الْمَرْفُودُ المعان المعطى رفدهم وعونهم الذي هو عبارة عن طردهم ولعنهم في الدارين وحسب النشأتين
ذلِكَ المذكور مِنْ أَنْباءِ الْقُرى واخبارهم وما جرى عليهم نَقُصُّهُ عَلَيْكَ بالوحي يا أكمل الرسل ليكون عبرة لك ولمن تبعك مشاهدة وتذكيرا إذ مِنْها اى من تلك القرى ما هو قائِمٌ جدرانها بلا سقوف وَمنها ما هو حَصِيدٌ مدروس مندك كالزرع المحصود قد عفت آثاره واندرست اطلاله
وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ باهلاكهم وتخريب ديارهم وَلكِنْ هم قد ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ باتخاذ مصنوعاتنا آلهة أمثالنا مستحقة للعبادة ظنا منهم ان آلهتهم تنفعهم لدى الحاجة وتشفعهم وقت الشفاعة فَما أَغْنَتْ وما كفت وما دفعت عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظلما وزورا مِنْ شَيْءٍ اى شيأ قليلا من القضاء لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وحين نزل عذابه وحل عقابه إياهم بل وَما زادُوهُمْ آلهتهم حين حلول العذاب عليهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ اى هلاك وتخسير فوق هلاك وتخسير إذ هم بسبب عبادة هؤلاء قد صاروا مطرودين عن سعة رحمة الله وجوده
وَكَذلِكَ اى ومثل ما سمعت يا أكمل الرسل أَخْذُ رَبِّكَ وانتقامه وبطشه وقت إِذا أَخَذَ الْقُرى وحين انتقم من أهلها بظلمهم وعصيانهم وَالحال انه هِيَ ظالِمَةٌ خارجة أهلها عن مقتضى الأمر الإلهي ونهيه وبالجملة إِنَّ أَخْذَهُ للمسرفين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية أَلِيمٌ مؤم شَدِيدٌ في غاية الشدة والإيلام لكونهم مبالغين في الإصرار والاستكبار
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصص الأمم الهالكة لَآيَةً عظة وتذكيرا عظيما وعبرة كاملة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ وحساب الله إياه فيها على رؤس الملأ والاشهاد إذ ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ اى يجمع ويحشر الناس فيه لأجل الحساب والجزاء وَايضا ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهد فيه الجميع للجميع بل الجوارح والآلات على صاحبها
وَما نُؤَخِّرُهُ ونسوقه الى يوم الموعود والعذاب المعهود فيه إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ اى الى انقضاء مدة قصيرة
اذكر يا أكمل الرسل عظة وتذكيرا لمن تبعك يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم الموعود الهائل لا تَكَلَّمُ فيه نَفْسٌ ولا تشفع شافع لشدة هوله وفزعه إِلَّا بِإِذْنِهِ اى باذن الله واقداره إياها فَمِنْهُمْ اى من الموقنين في المحشر يوم العرض الأكبر شَقِيٌّ قد خرج من الدنيا على الشقاوة ووخامة العاقبة وَمنهم سَعِيدٌ قد خرج منها على السعادة وحسن العاقبة
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا في الدنيا وخرجوا منها على الشقاوة فَفِي النَّارِ اى هم في النشأة الاخرى داخلون في النار مضطرون مضطربون فيها إذ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ اى إخراج نفس من شدة الحرارة وَشَهِيقٌ اى رده يعنى حالهم فيها كحال من استولت الحرارة على قلبه وضاق الأمر عليه فيردد نفسه كما في سكرة الموت وما ذلك الا من شدة كربهم والمهم ولكونهم متناهيين في الشقاوة والقساوة في دار الدنيا لا ينقطع عذابهم فيها أصلا بل صاروا
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ اى ما تحقق الجهتان الحقيقيتان اى الفوق والتحت إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وتعلق ارادته ومشيته بإخراج البعض منها كفساق المؤمنين وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وله الاختيار التام في عموم مراداته ومقدوراته ومن جملتها إخراج بعض العصاة عن نيران الإمكان
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا في الدنيا وخرجوا على السعادة منها فَفِي الْجَنَّةِ اى هم في النشأة الاخرى في الجنة التي أعدت للسعداء الآمنين الفانين الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ متنعمين فيها مترفهين بأنواع النعم الجسام إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وتعلق ارادته ان يرفعهم بأعلى منها الا وهو الانكشاف الذاتي والتجلي الشهودى كل ذلك لمن يعطى عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ متناه مقطوع إذ لا انقطاع للتجليات الذاتية ولا للذاتها المترتبة عليها بالنسبة الى الفائزين بها جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم وبعد ما تبين حال السعداء المقبولين والأشقياء المردودين
فَلا تَكُ أنت يا أكمل الرسل فِي مِرْيَةٍ شك وتردد مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون ان يستجلب عليهم العذاب والنكال كما استجلب على أسلافهم إذ هم ما يَعْبُدُونَ لأوثانهم وأصنامهم إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ وأسلافهم إياها مِنْ قَبْلُ فيلحقهم مثل ما لحقهم لان اشتراك الأسباب يوجب اشتراك المسببات بالضرورة وَإِنَّا وان امهلناهم زمانا في الدنيا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ وحظهم من العذاب في الآخرة مثلهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ عن عذابهم عدلا منا إياهم
وَكيف لا نوفى العذاب على المشركين لَقَدْ آتَيْنا من عظيم جودنا مُوسَى الْكِتابَ اى التورية حين نشأ الجدال والمراء والكفر والفسوق بين بنى إسرائيل واضمحلت العدالة بالكلية فَاخْتُلِفَ فِيهِ مثل اختلافهم في كتاب الذي هو أفضل الكتب علما واحاطة واجمعها حكما وأشملها معرفة وأكملها حقيقة وكشفا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في انظار هؤلاء الكفرة وإمهالهم الى يوم القيمة لَقُضِيَ حكم وفصل بَيْنَهُمْ الآن بحيث يتميز المحق من المبطل فيلحق المبطلين وبال ما صنعوا فهلكوا كما هلكوا وَإِنَّهُمْ اى كفار قومك يا أكمل الرسل من غاية انهماكهم في الغفلة وتماديهم في العناد والاستكبار لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من امر القرآن مع انهم قد عارضوا معه مرارا فأفحموا مُرِيبٍ موقع في الريب والشك سيما بالنسبة الى الخرق المنحطين عن التأمل في مرموزاته والتدرب في إشاراته
ثم قال سبحانه وَإِنَّ كُلًّا اى ما كلا
من المؤمنين المحقين والكافرين المبطلين لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ويوفون عليهم حين يحشرون ويعرضون على الله للحساب والجزاء بلا زيادة ولا تنقيص إظهارا للقدرة الغالبة الكاملة والعدالة التامة الشاملة رَبُّكَ الذي أظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة أَعْمالَهُمْ اى اجورها وجزاءها ان خيرا فخير وان شرا فشر وكيف لا يوفيهم ولا يوفر عليهم سبحانه أجورهم إِنَّهُ سبحانه بذاته وأوصافه وأسمائه بِما يَعْمَلُونَ من الخير والشر والصلاح والفساد والعبادة وتركها خَبِيرٌ على وجه الحضور بحيث لا تغيب عن حضوره غائبة ولا تخفى عليه خافية ومتى تفطنت يا أكمل الرسل بخبرة الحق وحضوره تفطنا شوقيا وتنبهت تنبها وجدانيا حضوريا وانكشفت بها انكشافا عينيا شهوديا
فَاسْتَقِمْ واعتدل في اوصافك وافعالك وأقوالك كَما أُمِرْتَ من قبل ربك وبموجب وحيه والهامه عليك وَامر ايضا بالعدالة والاستقامة مَنْ تابَ مَعَكَ وآمن لك واتبعك وَبالجملة لا تَطْغَوْا ولا تميلوا ولا تخرجوا ايها المتحققون بحقية التوحيد واستقامة صراطه ولا تنحرفوا عن سبيل السلامة التي هي جادة الشريعة المصطفوية أصلا إِنَّهُ سبحانه بذاته بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال الموجبة للعدالة او الانحراف بَصِيرٌ لا يخفى عليه شيء ولصعوبة الامتثال بهذه الآية الكريمة قال صلّى الله عليه وسلّم شيبتني سورة هود وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية قصمت ظهور أنبياء الله وأوليائه
وَبالجملة لا تَرْكَنُوا ولا تميلوا ميلة يسيرة ولا تلتفتوا التفاتا قليلا ايها المستوون على صراط الحق المستقيمون في جادة عرفانه وتوحيده إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وخرجوا عن حدود الله الموضوعة لإصلاح احوال عباده فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بادنى الميلة والالتفات وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينقذونكم من النار لو توالونهم وتداومون الميل إليهم ثُمَّ اعلموا انكم لو اخترتم موالاة الظلمة واتخذتموهم إخوانا كسائر المؤمنين لا تُنْصَرُونَ أنتم ولا تنقذون من النار بولايتهم ونصرهم ايضا فعليكم ان لا تتخذوا الكفار اولياء من دون المؤمنين
وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم يا أكمل الرسل على الميل والركون الى الله بجميع الأعضاء والجوارح في عموم الأوقات والحالات سيما طَرَفَيِ النَّهارِ اى قبل الطلوع وقبل الغروب فإنهما وقتان محفوظان عن وسوسة الأوهام خاليان عن الشواغل غالبا وَعليك ان تختلس الفرصة لتوجهك زُلَفاً في آنات وساعات مِنَ أواخر اللَّيْلِ قريبة بالنهار فان مجرد اقدامك عليها وإقامتك لها حسنات سيما في تلك الساعات الخالية عن وساوس الشواغل والخيالات إِنَّ الْحَسَناتِ الخالية عن شوب الرياء والرعونات يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وتصفى صاحبها عن كدر الغفلات ذلِكَ اى الأمر بالاستقامة على المتذكرين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويتعظون بجميع ما جرى عليهم من الخصب والرخاء انما هو ذِكْرى وعظة كافية وتذكرة وافية لِلذَّاكِرِينَ الله في عموم أحوالهم وحالاتهم
وَبالجملة اصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أذاهم واكظم غيظك فان الصبر على المصيبات من أعظم الحسنات والمثوبات فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ سيما على من أساء إليهم
فَلَوْلا وهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الذين قد خلوا مِنْ قَبْلِكُمْ فيهم أُولُوا بَقِيَّةٍ وتقية وذووا رأى ونهية وفضل وتدبير يَنْهَوْنَ برأيهم الصائب وتدبيرهم المتين عَنِ الْفَسادِ الواقع فِي الْأَرْضِ لكن اليوم ما بقي منهم عليها احد إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ اى من عقلائهم ليتبع لهم العوام فينجوا من الآثام وَمع ذلك لم يتبعوا حتى ينجوا بل اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أنفسهم بالعرض على عذاب الله وبالخروج عن مقتضى حدوده في ما أُتْرِفُوا فِيهِ اى المترفهون المتنعمون من ذوى اللذات والشهوات فاهتموا بتحصيل اسبابها وَكانُوا بميلهم الى مقتضيات الهوى واللذات الجسمانية مُجْرِمِينَ مستحقين لانواع العقوبات
وَما كانَ رَبُّكَ وليس من سنته وجرى عادته لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اى بسبب شرك وكفر صدر عنهم وَأَهْلُها والحال ان أهلها مُصْلِحُونَ على الأرض لا مفسدون عليها يعنى لا يأخذهم سبحانه بمجرد حق الله بلا انضمام حقوق العباد اليه بل انما أخذهم الله حين فشا الفسوق والمراء وظهر الفساد والجدال بين العباد
كيف وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ من غاية لطفه لعباده بمقتضى جماله لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على التوحيد بلا مخالفة منهم وَلكن قد اظهر وأوجد البعض بمقتضى الجمال والبعض الآخر بمقتضى القهر والجلال لذلك لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وجعل فطرته على صرافة الوحدة وَلِذلِكَ التوحيد والعرفان قد خَلَقَهُمْ وأظهرهم سبحانه وَبالجملة قد تَمَّتْ وجرت كَلِمَةُ رَبِّكَ بوضع الاختلاف بين استعدادات عباده حسب شئونه وتجلياته بمقتضى أوصافه المتضادة وأسمائه المتقابلة بحسب الكمال لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ التي قد أعدت للأشقياء المردودين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية والقسط الحقيقي مِنَ الْجِنَّةِ اى الشياطين وَالنَّاسِ التابعين لهم والمقتفين أثرهم أَجْمَعِينَ من جنسهما جميعا
وَكُلًّا اى كل قصة نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ العظام من جملة ما نُثَبِّتُ بِهِ ونقرر على مقر التوحيد فُؤادَكَ إذ بكل قصة من القصص المذكورة ينشرح صدرك لقبول التوحيد ونزول الوحدة الذاتية وَقد جاءَكَ وحصل لك فِي هذِهِ القصص الْحَقُّ اى الشهود الكامل والانكشاف التام المطابق للواقع خاصة وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يصدقونك ويقتفون اثرك
وَقُلْ يا أكمل الرسل لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بك وبدينك وكتابك مماراة لهم ومباهلة اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى عمل شئتم إِنَّا عامِلُونَ ايضا على مكانتنا وشأننا بتوفيق الله إيانا
وَانْتَظِرُوا باى شيء انتظرتم إِنَّا ايضا مُنْتَظِرُونَ بالعواقب
وَالغايات عند الله العالم بالسرائر والخفيات إذ لِلَّهِ خاصة لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والاطلاع عليهما وعلى مكنوناتهما وَإِلَيْهِ لا الى غير يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إذ لا مرجع سواه ولا آمر الا هو فَاعْبُدْهُ يا أكمل الرسل حق عبادته وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ حق التوكل والتفويض وَما رَبُّكَ يا أكمل الرسل المحيط حضرة علمه بعموم ذرائر الأكوان احاطة حضور بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من العبادة والإخلاص والتبتل والتوكل والرضا والتسليم وكذا من نقائضها
خاتمة سورة هود عليه السّلام
عليك ايها الموحد المحمدي المأمور بتهذيب الأخلاق من الرذائل والأوصاف من الذمائم والأفعال من القبائح والأقوال من الكواذب وعموم الأطوار من المخالفات المنافية لصرافة الوحدة ان تستقيم وتعتدل حسب عزائمك في هذه الأمور على الوجه المأمور لنبيك الذي هو قبلة جميع مقاصدك بقوله تعالى فاستقم كما أمرت واعتدل بجميع ما صدر عنك فلك ان تقتفى اثره صلّى الله عليه وسلّم
Icon