تفسير سورة إبراهيم

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة إبراهيم
هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وقتادة، هي مكية إلا من قوله :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً ﴾ الآية إلى قوله ﴿ إلى النار ﴾
وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جداً، لأنه ذكر فيها :﴿ ولو أن قرآناً ﴾ ثم ﴿ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ﴾ ثم ﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ فناسب هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك.
وأيضاً فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح ﴿ لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ وقيل له :﴿ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ﴾ أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل : أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال، إلى النور وهو الهدى.

سورة ابراهيم
ترتيبها ١٤ سورة إبراهيم آياتها ٥٢
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
404
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الآية إِلَى قَوْلِهِ إِلَى النَّارِ «١» وَارْتِبَاطُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ قَبْلَهَا وَاضِحٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً «٢» ثُمَّ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا «٣» ثُمَّ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «٤» فَنَاسَبَ هَذَا قَوْلَهُ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «٥» وَقِيلَ لَهُ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ «٦» أَنْزَلَ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليك كأنه قيل: أو لم يَكْفِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ هِيَ الضَّلَالُ، إِلَى النُّورِ وَهُوَ الْهُدَى.
وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الر أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء، وكتاب الْخَبَرُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الر، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: الْزَمْ أَوِ اقْرَأْ الر. وكتاب أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ في هذين الإعرابين، وكتاب مُبْتَدَأٌ. وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا فِي التَّقْدِيرِ أي: كتاب أي: عَظِيمٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كِتَابٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا كتاب، وأنزلناه جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَفِي قَوْلِهِ:
أَنْزَلْنَاهُ. وَإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ وَمُخَاطَبَتِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَيْكَ، وإسناد الإخراج إليه
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٢٨- ٣٠.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ٣١.
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ٣٧.
(٤) سورة الرعد: ١٣/ ٤٣.
(٥) سورة يونس: ١٠/ ٢٠.
(٦) سورة الرعد: ١٣/ ٢٧.
405
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَنْوِيهٌ عظيم وتشريف لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مِنْ حَيْثُ الْمُشَارَكَةُ فِي تَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ بِإِنْزَالِهِ تَعَالَى، وَبِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ هُوَ الدَّاعِي وَالْمُنْذِرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخْتَرِعُ الْهِدَايَةِ هُوَ اللَّهُ تعالى. والناس عَامٌّ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ مُسْتَعَارَانِ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ عِلَّةَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ قَالَ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ بِتَسْهِيلِ مَالِكِهِمُ النَّاظِرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، إِذْ هُمْ عَبِيدُهُ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى مِنَّةِ الْمَالِكِ، وَكَوْنُهُ نَاظِرًا في حال عبيده. وبإذن ظَاهِرُهُ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قَالَ: أَيْ مَأْذُونًا لَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ، مُسْتَعَارٌ مِنَ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ تَسْهِيلُ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ مَا يَمْنَحُهُمْ مِنَ اللُّطْفِ وَالتَّوْفِيقِ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى صِرَاطِ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى النُّورِ، وَلَا يَضُرُّ هَذَا الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ، لِأَنَّ بِإِذْنِ مَعْمُولٌ لِلْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ لِتُخْرِجَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ إِلَى صِرَاطِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى أَيِّ نُورٍ، فَقِيلَ: إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وقرىء: لِيَخْرُجَ مُضَارِعُ خَرَجَ بِالْيَاءِ بنقطتين من تحتها، والناس رُفِعَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِلَى النُّورِ، فِيهِ إِبْهَامٌ مَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَى صِرَاطِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا إِسْنَادُ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، نَاسَبَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ صِفَةَ الْعِزَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقُدْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنْزَالُ الْكِتَابِ، وَصِفَةُ الْحَمْدِ الْمُتَضَمِّنَةُ اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ مِنْ حَيْثُ الْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، إِذِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْإِيمَانِ هِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْحَمْدُ عَلَيْهَا وَالشُّكْرُ. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الْعَزِيزِ، لِتَقَدُّمِ مَا دَلَّ عَلَيْهَا، وَتَلِيهَا صِفَةُ الْحَمِيدِ لِتُلُوِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ اللَّهُ بِالرَّفْعِ فَقِيلَ: مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ اللَّهُ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَمْكَنَ لِظُهُورِ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَتَفَلُّتِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: اللَّهِ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَالْحَوْفِيِّ، وَأَبِي الْبَقَاءِ. وَعَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لِغَلَبَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْمَعْبُودِ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا غَلَبَ النَّجْمُ عَلَى الثُّرَيَّا انْتَهَى. وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْإِلَهَ، ثُمَّ نُقِلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَالْتَزَمَ فِيهِ النَّقْلَ وَالْحَذْفَ، وَمَادَّتُهُ إِذْ ذَاكَ الْهُمَزَةُ وَاللَّامُ وَالْهَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْحَمْدِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: لَا تُقَدَّمُ صِفَةٌ عَلَى مَوْصُوفٍ إِلَّا حَيْثُ سُمِعَ وَذَلِكَ قَلِيلٌ، وَلِلْعَرَبِ فِيمَا وُجِدَ
406
مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُقَدَّمَ الصِّفَةُ وَتَبْقِيَتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَفِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِعْرَابُهُ نَعْتًا مُقَدَّمًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعْدَ الصِّفَةِ بَدَلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُضِيفَ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ إِذَا قَدِمَتْهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُعْرَبَانِ صِفَتَيْنِ مُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَيُعْرَبُ لَفْظُ اللَّهِ مَوْصُوفًا مُتَأَخِّرًا. وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ تقديم ما لو تأخير لَكَانَ صِفَةً، وَتَأْخِيرُ مَا لَوْ تَقَدَّمَ لَكَانَ مَوْصُوفًا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسَّعَدِ
فَلَوْ جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ: وَالْمُؤْمِنِ الطَّيْرَ الْعَائِذَاتِ، وَارْتَفَعَ وَيْلٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلِلْكَافِرِينَ خَبَرُهُ. لَمَّا تَقَدَّمَ ذكر الظُّلُمَاتِ دَعَا بِالْهَلَكَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، ومن عَذَابٍ شَدِيدٍ فِي مَوْضِعِ الصفة لويل. وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ وَالْخَبَرُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بويل لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِالْخَبَرِ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا وَجْهُ اتِّصَالِ قَوْلِهِ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ بِالْوَيْلِ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَيَضِجُّونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَاهُ كَقَوْلِهِ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «١» انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَيُحْتَمَلُ هَذَا الْعَذَابُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ وَاقِعًا بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالِاسْتِحْبَابُ الْإِيثَارُ وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ نَفْسِهِ يَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهَا وَأَفْضَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَاسْتَجَابَ وَأَجَابَ، وَلَمَّا ضَمِنَ مَعْنَى الْإِيثَارِ عدي بعلى. وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الذَّمِّ، إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَذُمُّ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْكَافِرِينَ. وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فِي موضع الصفة لويل، أَمْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:
يَضِجُّونَ وَيُوَلْوِلُونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. وَنَظِيرُهُ إِذَا كَانَ صِفَةً أَنْ تَقُولَ: الدَّارُ لِزَيْدٍ الْحَسَنَةُ الْقُرَشِيِّ، فَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ زَيْدٍ وَصِفَتِهِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ صِفَةُ الدَّارِ، وَالتَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ أَنْ تَقُولَ: الدَّارُ الْحَسَنَةُ لِزَيْدٍ الْقُرَشِيِّ، أَوِ الدَّارُ لزيد القرشي
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ١٣.
407
الْحَسَنَةُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَيُصِدُّونَ مُضَارِعُ أَصَدَّ، الدَّاخِلِ عَلَيْهِ هَمْزَةُ النَّقْلِ مِنْ صَدَّ اللَّازِمِ صُدُودًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْغُونَها عِوَجاً «١» فِي آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى وَصْفِ الضَّلَالِ بِالْبُعْدِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: مَا بَالُ الْكُتُبِ كُلِّهَا أَعْجَمِيَّةٌ وَهَذَا عَرَبِيٌّ؟ فَنَزَلَتْ. وَسَاقَ قِصَّةَ مُوسَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ بِلِسَانِهِ، أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَمَا أَرْسَلَكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ، الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ عَامَّةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، أَوِ انْدَرَجَ فِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ الرَّسُولِ مَنْ لَيْسَ مِنْ قَوْمِهِ، كَانَ مَنْ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ لُغَةَ ذَلِكَ النَّبِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى تَعَلُّمِ تِلْكَ اللُّغَةِ حَتَّى يَفْهَمَهَا، وَأَنْ يَرْجِعَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى مَنْ يَعْلَمُهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ قَبْلَكَ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وَأَنْتَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِلِسَانِ قَوْمِكَ، وَقَوْمُكَ يُتَرْجِمُونَ لِغَيْرِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَعْنَى بِلِسَانِ قَوْمِهِ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ.
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: بِلِسْنِ بِإِسْكَانِ السِّينِ، قَالُوا:
هُوَ كَالرِّيشِ وَالرِّيَاشِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: وَاللِّسْنُ خَاصٌّ بِاللُّغَةِ، وَاللِّسَانُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْعُضْوِ، وَعَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: اللِّسَانُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ اللُّغَةُ، وَيُقَالُ: لِسْنٌ وَلِسَانٌ فِي اللُّغَةِ، فَأَمَّا الْعُضْوُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ لِسْنٌ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَالْجَحْدَرِيُّ: لُسُنِ بِضَمِّ اللَّامِ وَالسِّينِ، وَهُوَ جَمْعُ لسان كعماد وعمد. وقرىء أَيْضًا بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ السِّينِ مُخَفَّفٌ كَرُسُلٍ وَرُسْلٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى رَسُولٍ أَيْ: قَوْمِ ذَلِكَ الرَّسُولِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالْكُتُبُ كُلُّهَا نَزَلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ أَدَّاهَا كُلُّ نَبِيٍّ بِلُغَةِ قَوْمِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، ضَمِيرُ الْقَوْمِ وَهُمُ الْعَرَبُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ مِنَ السَّمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِيُبَيِّنَ لِلْعَرَبِ، وَهَذَا مَعْنًى فَاسِدٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَمِيعُ الْكُتُبِ أُدَّتْ إِلَى جِبْرِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ رَسُولَ كُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا سُؤَالًا وَابْنُ عَطِيَّةَ أَخَّرَهُمَا فِي كِتَابَيْهِمَا، وَيَقُولُ: قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْبَشَرِ بِإِذْعَانِ الْفُصَحَاءِ الذين يظن
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٤٥ وآل عمران: ٣/ ٩٩.
408
بِهِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَإِقْرَارُهُمْ بِالْعَجْزِ، كَمَا قَامَتْ بِإِذْعَانِ السَّحَرَةِ لِمُوسَى، وَالْأَطِبَّاءِ لعيسى عليهما السلام. وبين تَعَالَى الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَ مِنَ الرُّسُلِ بِلُغَةِ قَوْمِهِ وَهِيَ التَّبْيِينُ لَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ، فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُولِ غَيْرُ التَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَهْدِيَ بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الْوَاضِعُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْإِضْلَالِ التَّخْلِيَةُ وَمَنْعُ الْإِلْطَافِ، وَبِالْهِدَايَةِ التَّوْفِيقُ وَاللُّطْفُ، وَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ فَلَا يُغْلَبُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، الْحَكِيمُ فَلَا يَخْذُلُ إِلَّا أَهْلَ الْخِذْلَانِ، وَلَا يَلْطُفُ إِلَّا بِأَهْلِ اللُّطْفِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِآيَاتِنَا، إِنَّهَا تِسْعُ الْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ التَّوْرَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ وَهُوَ آيَاتُنَا، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا مُوسَى بالتوراة بلسان قومه، وأن أَخْرِجْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تَكُونُ تَفْسِيرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيَضْعُفُ زَعْمُ مِنْ زَعَمَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: قَوْمَكَ خُصُوصٌ لِرِسَالَتِهِ إِلَى قَوْمِهِ، بِخِلَافِ لِتُخْرِجَ النَّاسَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَهُ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ.
وَقِيلَ: الْقِبْطُ. فَإِنْ كَانُوا الْقِبْطَ فَالظُّلُمَاتُ هُنَا الْكُفْرُ، وَالنُّورُ الْإِيمَانُ، وَإِنْ كَانُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْنَا: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَالظُّلُمَاتُ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالنُّورُ الْعِزَّةُ بِالدِّينِ وَظُهُورُ أَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانُوا أَشْيَاعًا مُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ، قَوْمٌ مَعَ الْقِبْطِ فِي عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْمٌ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، فَالظُّلُمَاتُ الْكُفْرُ وَالنُّورُ الْإِيمَانُ. قِيلَ: وَكَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا إِلَى الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقِيلَ: إِلَى الْقِبْطِ بِالِاعْتِرَافِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمُوسَى، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّكْلِيفِ وَبِفُرُوعِ شَرِيعَتِهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَيَحْتَمِلُ وَذَكِّرْهُمْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ أخرج، فيكون في حيزان. وأيام اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَرَوَاهُ أُبَيٌّ مَرْفُوعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ عَصَيْنَا الْمَلِكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ زَيْدٍ: وَقَائِعُهُ وَنَقَمَاتُهُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ أَيْ وَقَائِعِهَا وَحُرُوبِهَا وَمَلَاحِمِهَا: كَيَوْمِ ذِي قَارٍ، وَيَوْمِ الْفِجَارِ، وَيَوْمِ فِضَّةَ وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَاؤُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا
409
أَيْ وَقَائِعُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، فَنَعْمَاؤُهُ: بِتَظْلِيلِهِ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَفَلْقِ الْبَحْرِ. وَبَلَاؤُهُ: بِاسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، وَتَذْبِيحِ أَبْنَائِهِمْ، وَإِهْلَاكِ الْقُرُونِ قَبْلَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخِضْرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، بَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَيَّامُ اللَّهِ بَلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ الْآخَرَ. وَلَفْظَةُ الْأَيَّامِ تَعُمُّ الْمَعْنَيَّيْنِ، لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَقَعُ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعْظِيمُ الْكَوَائِنِ الْمُذَكَّرِ بِهَا. وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالظَّرْفِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْإِسْنَادُ إِلَى الظَّرْفِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْإِسْنَادُ لِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يَوْمٌ عَبُوسٌ، وَيَوْمٌ عَصِيبٌ، وَيَوْمٌ بَسَّامٌ. وَالْحَقِيقَةُ وَصْفُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ أَوْ سُرُورٍ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ، إِلَى التذكير بأيام الله. وصبار، شَكُورٍ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهُمَا مُشْعِرَتَانِ بِأَنَّ أَيَّامَ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهِمَا بَلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ أَيْ: صَبَّارٌ عَلَى بَلَائِهِ، شَكُورٌ لِنَعْمَائِهِ.
فَإِذَا سَمِعَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَلَاءِ عَلَى الْأُمَمِ، أَوْ بِمَا أَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، تَنَبَّهَ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ إذا أصابه بلاء، من والشكر إِذَا أَصَابَتْهُ نَعْمَاءُ، وَخَصَّ الصَّبَّارَ وَالشَّكُورَ لِأَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يَنْتَفِعَانِ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ وَيَتَّعِظَانِ بِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ نَاظِرٍ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ سَجَايَا أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ: لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرُهُ تَعَالَى لِمُوسَى بِالتَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ نَجَاتِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِي ضِمْنِهَا تَعْدَادُ شَيْءٍ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنْ نَقَمَاتِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ إِذْ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ في قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً «١» وَتَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا: وَيُذَبِّحُونَ بِالْوَاوِ، وَفِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي الْأَعْرَافِ يُقَتِّلُونَ فَحَيْثُ لَمْ يُؤْتَ بِالْوَاوِ جَعَلَ الْفِعْلَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ:
يَسُومُونَكُمْ. وَحَيْثُ أَتَى بِهَا دَلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ. وَأَنَّ سَوْمَ سُوءِ الْعَذَابِ كَانَ بِالتَّذْبِيحِ وَبِغَيْرِهِ، وَحَيْثُ جَاءَ يُقَتِّلُونَ جَاءَ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّذْبِيحِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَيَذْبَحُونَ مُضَارِعُ ذَبَحَ ثُلَاثِيًّا، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حذف الواو.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٠٣.
410
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَأَذَّنَ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ «١» وَاحْتَمَلَ إِذْ أَنْ يكون منصوبا باذكروا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِذْ أَنْجَاكُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْإِعْلَامَ بِالْمَزِيدِ عَلَى الشُّكْرِ مَنْ نِعَمِهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ هُوَ الْإِنْعَامُ أَيْ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ إِنْعَامِي، وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ. قَالَ الْحَسَنُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ طَاعَتِي. وَقَالَ الرَّبِيعُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ فَضْلِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَئِنْ وَحَّدْتُمْ وَأَطَعْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي الثَّوَابِ. وَكَأَنَّهُ رَاعَى ظَاهِرَ الْمُقَابَلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. وَظَاهِرُ الْكُفْرِ الْمُرَادُ بِهِ الشِّرْكُ، فَلِذَلِكَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، أَيْ نِعْمَتِي فَلَمْ تَشْكُرُوهَا، رَتَّبَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحَلِّ الزِّيَادَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذُكِرَ الْعَذَابُ بَعْدَهُ عَدَلَ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَأَزِيدَنَّكُمْ، فَنَسَبَ الزِّيَادَةَ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ لَأُعَذِّبَنَّكُمْ، وَخَرَجَ فِي لَأَزِيدَنَّكُمْ بِالْمَفْعُولِ، وَهُنَا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: إِنَّ عَذَابِي لَكُمْ لَشَدِيدٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ، كَأَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ: تَأَذَّنَ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَذِنَ أَيْ: أَعْلَمَ، وَأَعْلَمَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ. ثُمَّ نَبَّهَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى، وَإِنْ أَوْعَدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شُكْرِكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ شُكْرِكُمْ، الْحَمِيدُ الْمُسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَسْبَغَ مِنْ نِعَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ الْحَامِدُونَ، فَثَمَرَةُ شُكْرِكُمْ إِنَّمَا هي عائدة إليكم. وأنتم خِطَابٌ لِقَوْمِهِ وَقَالَ: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي: النَّاسَ كُلَّهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا يَدْخُلُونَ فِي مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَجَوَابُ إِنْ تَكْفُرُوا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى التَّقْدِيرُ: فَإِنَّمَا ضَرَرُ كفركم لا حق بِكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ. وَالْحَمْدِ سَوَاءٌ كَفَرُوا أَمْ شَكَرُوا، وَفِي خِطَابِهِ لَهُمْ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ، وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ فِي ذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٦٧.
411
تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خِطَابِ مُوسَى لِقَوْمِهِ. وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ خِطَابٍ مِنَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَخَبَرُ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَمْ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، إِمَّا عَلَى الَّذِينَ، وَإِمَّا عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَاضٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الاعتراض تكون بين جزءين، يَطْلُبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي مِنْ بَعْدِهِمْ، فَإِنْ عَنَى مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بَعْدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَالٌ مِمَّا جُرَّ بِالْإِضَافَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مَحَلُّ إِعْرَابٍ مِنْ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، وَإِنْ عَنَى مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّائِبِ عَنِ الْعَامِلِ أَمْكَنَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأَنَفًا، وَكَذَلِكَ جَاءَتْهُمْ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا انْتَهَى. وَلَيْسَتْ بِاعْتِرَاضٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ بَيْنَ جزءين: أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ.
وَالضَّمِيرُ فِي جَاءَتْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِلنَّبَأِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْجَوَارِحُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَيْدِيهِمْ وَفِي أَفْوَاهِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ زَيْدٍ أَيْ: جَعَلُوا، أَيْ: أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فِي أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ لِيَعَضُّوهَا غَيْظًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.
وَالْعَضُّ بِسَبَبٍ مَشْهُورٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ أَزْمُهْ وَأَضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا
وَقَالَ آخَرُ:
لَوْ أَنَّ سَلْمَى أَبْصَرَتْ تَخَدُّدِي وَدَقَّةً فِي عَظْمِ سَاقِي وَيَدِي
وَبُعْدَ أَهْلِي وَجَفَاءَ عُوَّدِي عَضَّتْ مِنَ الْوَجْدِ بِأَطْرَافِ الْيَدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إليكم، وأشاروا بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ أَنِ اسْكُتْ تَكْذِيبًا لَهُ، وَرَدًّا لِقَوْلِهِ، وَاسْتِبْشَاعًا لِمَا جَاءَ بِهِ. وَقِيلَ: رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ضَحِكًا وَاسْتِهْزَاءً كَمَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ. وَقِيلَ: أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى
412
أَلْسِنَتِهِمْ وَمَا نَطَقَتْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
أَيْ: هَذَا جَوَابٌ لَكُمْ لَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُهُ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى الرُّسُلِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، قَالَ:
أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: جَعَلُوا أيدي أنفسهم في أفواه الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا أَشْنَعُ فِي الرَّدِّ وَأَذْهَبُ فِي الِاسْتِطَالَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ على الكفار، وفي أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي هُنَا النِّعَمُ، جَمْعُ يَدٍ الْمُرَادُ بِهَا النِّعْمَةُ أَيْ: رَدُّوا نِعَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ النِّعَمِ مِنْ مَوَاعِظِهِمْ وَنَصَائِحِهِمْ، وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْآيَاتِ فِي أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوهَا فَكَأَنَّهُمْ رَدُّوهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَرَجَعُوهَا إِلَى حَيْثُ جَاءَتْ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَفْوَاهِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِأَفْوَاهِهِمْ، وَالْمَعْنَى: كَذَّبُوهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ يُقَالُ: جَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، وَبِالْبَيْتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ فِي مَوْضِعَ الْبَاءِ فَتَقُولُ:
أَدْخَلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَفِي الْجَنَّةِ. وَأَنْشَدَ:
وَأَرْغَبُ فِيهَا مِنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ ولكنني عَنْ شِنْبِسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ
يُرِيدُ: أَرْغَبُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ: لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُجِيبُوا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ وَأَمْسَكَ: رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ، وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ أَيْضًا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ إِذَا تَرَكَ مَا أَمَرَ بِهِ انْتَهَى. وَمَنْ سَمِعَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ نَقَلَا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، كَأَنَّ الْمُمْسِكَ عَنِ الْجَوَابِ السَّاكِتَ عَنْهُ وَضَعَ يَدَهُ فِيهِ.
وَقَدْ رَدَّ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ أَجَابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، وَلَا يَرُدُّ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا وَسَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ الْمُرْضِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ.
قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يَتَجَوَّزَ فِي لَفْظَةِ الْأَيْدِي أَيْ: أَنَّهُمْ رَدُّوا قُوَّتَهُمْ وَمُدَافَعَتَهُمْ وَمُكَافَحَتَهُمْ فِيمَا قَالُوا بِأَفْوَاهِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: رَدُّوا جَمِيعَ مُدَافَعَتِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: فِي أَقْوَالِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ الْمُدَافَعَةِ بِالْأَيْدِي، إِذِ الْأَيْدِي مَوْضِعُ أَشَدِّ الْمُدَافَعَةِ وَالْمَرَادَّةِ انْتَهَى. بَادَرُوا أَوَّلًا إِلَى الْكُفْرِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ الْمَحْضُ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ وَهُوَ التَّرَدُّدُ، كَأَنَّهُمْ نَظَرُوا بَعْضَ نَظَرٍ اقْتَضَى أَنِ انْتَقَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ الْمَحْضِ إِلَى
413
التَّرَدُّدِ، أَوْ هُمَا قَوْلَانِ مِنْ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ بَادَرَتْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، وَطَائِفَةٍ شَكَّتْ، وَالشَّكُّ فِي مِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُفْرٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مِمَّا تَدْعُونَا بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي الضَّمِيرِ، كَمَا تُدْغَمُ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ فِي مِثْلِ: أَتُحَاجُّونِّي وَالْمَعْنَى: مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
ومريب صِفَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَى الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الشَّكِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَشَهَادَتِهَا عَلَيْهِ. وَقُدِّرَ مُضَافٌ فَقِيلَ: أَفِي إِلَاهِيَّةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَفِي وَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ الْبَتَّةَ وَهُوَ كَوْنُهُ منشىء الْعَالَمِ وَمُوجِدَهُ، فَقَالَ: فَاطِرِ السموات والأرض. وفاطر صِفَةٌ لِلَّهِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُبْتَدَأِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: فِي الدَّارِ زِيدٌ الْحَسَنَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فِي الدَّارِ الْحَسَنَةِ زَيْدٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَاطِرَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِيهِ شَكٌّ ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ أَيْ: يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ يَدْعُوكُمْ لِأَجْلِ الْمَغْفِرَةِ، نَحْوَ: دَعَوْتُهُ لِيَنْصُرَنِي. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مسور
ومن ذُنُوبِكُمْ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ إِلَى زِيَادَةِ مِنْ أَيْ: لِيَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.
وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُ زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ، وَلَا إِذَا جُرَّتِ الْمَعْرِفَةُ، وَالتَّبْعِيضُ يُصْبِحُ فِيهَا إِذِ الْمَغْفُورُ هُوَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَظَالِمِ. وَبِطَرِيقٍ آخَرَ يَصِحُّ التَّبْعِيضُ وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَيَبْقَى مَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنَ الذُّنُوبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، هُوَ فِي الْمَشِيئَةِ وَالْوَعْدُ إِنَّمَا هُوَ بِغُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ، لَا بِغُفْرَانِ مَا يُسْتَأْنَفُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ فِي الْكَافِرِينَ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ ذُنُوبَكُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ، وَلِأَنْ لَا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ انْتَهَى.
وَيُقَالُ: مَا فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ، إِذِ الْكَافِرُ إِذَا آمَنَ، وَالْمُؤْمِنُ إِذَا تَابَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْغُفْرَانِ وَمَا تَخَيَّلْتَ فِيهِ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي الْكَافِرِ الَّذِي آمَنَ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي تَابَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ الْمُرَادُ تَمْيِيزُ خِطَابِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خِطَابِ الْكَافِرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الطَّامَّاتِ، لِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا
414
حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا. وَقَالَ: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِلَى وَقْتٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ، أَوْ بَيَّنَّا مِقْدَارَهُ إِنْ آمَنْتُمْ، وَإِلَّا عَاجَلَكُمْ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي طَرْفٍ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ «١» وَقِيلَ هُنَا: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعَذَابِ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا لَا فَضْلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَلَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْنَا، فَلِمَ تُخَصُّونَ بِالنُّبُوَّةِ دُونَنَا؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى الْبَشَرِ رُسَلًا لَجَعَلَهُمْ مِنْ جِنْسٍ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِهِمُ اسْتِبْعَادُ بِعْثَةِ الْبَشَرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ أَرَادُوا إِحَالَتَهُ، وَذَهَبُوا مَذْهَبَ الْبَرَاهِمَةِ، أَوْ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْأَجْنَاسَ لَا يَقَعُ فِيهَا هَذَا الْقِيَاسُ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَغْمَضُوا هَذَا الْإِغْمَاضَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُمْ حُجَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْهُمُ السُّلْطَانَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّعْجِيزِ أَيْ: بَعْثَتُكُمْ مُحَالٌ، وَإِلَّا فَأَتُوا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أَيْ: إِنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَتَقْوَى بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَنَحَاهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ طَلَبَهُمُ السُّلْطَانَ الْمُبِينَ وَقَدْ أَتَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ، وَإِلَّا فَمَا أُتُوا بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ كَافٍ لِمَنِ اسْتَبْصَرَ، وَلَكِنَّهُمْ قَلَّدُوا آبَاءَهُمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مُمَاثِلُوهُمْ قَالُوا: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَيْ:
لَيْسَ مَقْصُودُكُمْ إِلَّا أَنْ نَكُونَ لَكُمْ تَبَعًا، وَنَتْرُكُ مَا نَشَأْنَا عَلَيْهِ مِنْ دِينِ آبَائِنَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَنْ تَصُدُّونَا بِتَشْدِيدِ النُّونِ، جَعَلَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَدَّرَ فَصْلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنَّهُ تَصُدُّونَنَا، فَأَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ فِي الضَّمِيرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَنْ الثُّنَائِيَّةَ الَّتِي تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ، لَكِنَّهُ هُنَا لَمْ يُعْمِلْهَا بَلْ أَلْغَاهَا، كَمَا أَلْغَاهَا مَنْ قَرَأَ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «٢» بِرَفْعِ يُتِمُّ حَمَلًا عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ أختها.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١١ الى ١٧]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٣٤.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٣.
415
سَلَّمُوا لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يُمَاثِلُونَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَحْدَهَا، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ، ونسبة ذلك إلى الله. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِمَنِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ، وَلَكِنْ أَبْرَزُوا ذَلِكَ فِي عُمُومِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَالْمَعْنَى: يَمُنُّ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ تَنْبِئَتَهُ. وَمَعْنَى بِإِذْنِ اللَّهِ: بِتَسْوِيغِهِ وَإِرَادَتِهِ، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوهَا لَيْسَ لَنَا الْإِتْيَانُ بِهَا، وَلَا هِيَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيبُ: وَمَا كَانَ لَنَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. فَلْيَتَوَكَّلْ أَمْرٌ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَصَدُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا وَأَمَرُوهَا بِهِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمِنْ حَقِّنَا أَنْ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مُعَانَدَتِكُمْ وَمُعَادَاتِكُمْ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْنَا مِنْكُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ وَمَا لَنَا أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَمَعْنَاهُ: وَأَيُّ عُذْرٍ لَنَا فِي أَنْ لَا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا، فَعَلَ بِنَا مَا يُوجِبُ تَوَكُّلَنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ لِهِدَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا سَبِيلَهُ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِ سُلُوكَهُ فِي الدِّينِ. وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لِاسْتِحْدَاثِ التَّوَكُّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّبَاتِ عَلَى ما استحدثوا من توكيلهم. وَلَنَصْبِرَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مَا يَجِبُ فِيهِ الصَّبْرُ وَهُوَ الْأَذَى. وما مَصْدَرِيَّةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي. وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا آذَيْتُمُونَاهُ وَكَانَ أَصْلُهُ بِهِ، فَهَلْ حُذِفَ بِهِ أَوِ الْبَاءِ فَوَصْلُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ قَوْلَانِ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ فِي لِيَتَوَكَّلِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَقْسَمُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ، أَوْ عَوْدِهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ. وَتَقْدِيرُ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ فِي مَا بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَرْكِيبُ حَتَّى، وَلَا تَرْكِيبُ إِلَّا أَنْ مَعَ قَوْلِهِ: لَتَعُودُنَّ بِخِلَافِ لَأَلْزَمَنَّكَ، أَوْ تَقْضِيَّنِّي حَقِّي وَالْعَوْدُ هُنَا بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ. أَوْ يَكُونُ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَمَنْ آمَنُوا بِهِمْ. وَغَلَبَ حُكْمُ مَنْ آمَنُوا بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي مِلَّتِهِمْ، فَيَصِحُّ إِبْقَاءُ
416
لَتَعُودُّنَ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْهَا أَوَّلًا إِذْ سَبَقَ كَوْنُهُمْ كَانُوا فِي مِلَّتِهِمْ، وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَكُونُوا فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ سُكُوتَهُمْ عَنْهُمْ، وَكَوْنَهُمْ أَغْفَالًا عَنْهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: لَيُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلِيُسْكِنَنَّكُمْ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، إِذْ لَفْظُهُ لَفْظُ الْغَائِبِ. وَجَاءَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لَهُمْ بِالْخِطَابِ، وَلَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ. وَلَمَّا أَقْسَمُوا بِهِمْ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ وَالْعَوْدَةِ فِي مِلَّتِهِمْ، أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى إِهْلَاكِهِمْ. وَأَيُّ إِخْرَاجٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِهْلَاكِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَوْدَةٌ إِلَيْهَا أَبَدًا، وَعَلَى إِسْكَانِ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَرْضَ أُولَئِكَ الْمُقْسِمِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ الظَّالِمِينَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِذْ جَائِزٌ أَنْ يُؤْمِنَ مِنَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ قَالُوا الْمَقَالَةَ نَاسٌ، وَإِنَّمَا تَوَعَّدَ لِإِهْلَاكِ مَنْ خَلَصَ لِلظُّلْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١» وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى تَوْرِيثِ الْأَرْضِ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بَعْدَ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «٢». وَمَقَامٌ يَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ وَالْمَكَانَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَقَامِي مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: قِيَامِي عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ لِأَعْمَالِهِ، وَمُرَاقَبَتِي إِيَّاهُ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٣». وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكَانُ وُقُوفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ مَوْقِفُ اللَّهِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «٤» وَعَلَى إِقْحَامِ الْمَقَامِ أَيْ لِمَنْ خَافَنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَاسْتَفْتَحُوا عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ: أَيِ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «٥» ويجوز أن يكون الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ، أَيِ: اسْتَحْكَمُوا اللَّهَ طَلَبُوا مِنْهُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ. وَاسْتِنْصَارُ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ كَقَوْلِ نُوحٍ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي «٦» وَقَوْلِ لُوطٍ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ «٧» وَقَوْلِ شُعَيْبٍ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «٨» وَقَوْلِ مُوسَى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ «٩» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنِ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: وَاسْتَفْتَحَ الكفار
(١) سورة لقمان: ٣١/ ١٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٢٨. [.....]
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ٣٣.
(٤) سورة الرحمن: ٥٥/ ٤٦.
(٥) سورة الأنفال: ٨/ ١٩.
(٦) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١٨.
(٧) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٦٩.
(٨) سورة الأعراف: ٧/ ٨٩.
(٩) سورة يونس: ١٠/ ٨٨.
417
عَلَى نَحْوِ مَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «١» وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَقَطَعَنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ. وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا قَوِيَ تَكْذِيبُهُمْ وَأَذَاهُمْ وَلَمْ يُعَاجَلُوا بِالْعُقُوبَةِ، ظنوا أن ما جاؤوا بِهِ بَاطِلٌ فَاسْتَفْتَحُوا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «٢» وَقَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً «٣» وَعَادٍ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «٤» وَبَعْضِ قُرَيْشٍ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «٥». وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ: الْأَنْبِيَاءِ، وَمُكَذِّبِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُلُّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يُنْصَرَ الْمُحِقُّ وَيُبْطَلَ الْمُبْطِلُ. وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الرُّسُلِ خَاصَّةً قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَاسْتَفْتِحُوا بِكَسْرِ التَّاءِ، أَمْرًا لِلرُّسُلِ مَعْطُوفًا عَلَى لَيُهْلِكَنَّ أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: لَيُهْلِكَنَّ، وَقَالَ لَهُمُ:
اسْتَفْتِحُوا أَيِ: اطْلُبُوا النَّصْرَ وَسَلُوهُ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ مَكَّةَ قَدِ اسْتَفْتَحُوا أَيِ اسْتَمْطَرُوا، وَالْفَتْحُ الْمَطَرُ فِي سِنِي الْقَحْطِ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ فَلَمْ يُسْقَوْا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ خَيَّبَ رَجَاءَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَأَنَّهُ يُسْقَى فِي جَهَنَّمَ بَدَلَ سُقْيَاهُ مَاءً آخَرَ وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. وَاسْتَفْتَحُوا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ حَدِيثِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ انْتَهَى. وَخَابَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَنُصِرُوا وَظَفِرُوا. وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَهُمْ قَوْمُ الرُّسُلِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ جَبَّارٍ. وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ كَالْخَلِيطِ بِمَعْنَى الْمُخَالِطِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْكُفَّارِ، كَأَنَّ وَخَابَ عَطْفًا عَلَى وَاسْتَفْتَحُوا. وَمِنْ وَرَائِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَيْ: مِنْ بَعْدِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَهْرَبُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وقطرب، والطبري، وجماعة: ومن وَرَائِهِ أَيْ وَمِنْ أَمَامِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَأَنْشَدَ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فيه يكون وراء فَرَجٌ قَرِيبٌ
وَهَذَا وَصْفُ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِجَهَنَّمَ، فَكَأَنَّهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَلَى شَفِيرِهَا، أَوْ وَصْفُ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُبْعَثُ وَيُوقَفُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي وَقَوْمُ تميم والفلاة ورائيا
(١) سورة ص: ٣٨/ ١٦.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٧٠.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٨٧.
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٣٨.
(٥) سورة الأنفال: ٨/ ٣٢.
418
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي لُزُومُ العصا نحني عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَوَرَاءُ مِنَ الْأَضْدَادِ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: اسْمٌ لِمَا تَوَارَى عَنْكَ، سَوَاءٌ كَانَ أَمَامَكَ أَمْ خَلْفَكَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى مِنْ خَلْفِهِ أَيْ: فِي طَلَبِهِ كَمَا تَقُولُ الْأَمْرُ مِنْ وَرَائِكَ أَيْ: سَوْفَ يَأْتِيكَ. وَيُسْقَى مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يُلْقَى فِيهَا وَيُسْقَى، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعَامِلِ فِي مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ. وَارْتِفَاعُ جَهَنَّمَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ حَقِيقَةِ الْمَاءِ. وَصَدِيدٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَاءٍ، كَمَا تَقُولُ:
هَذَا خَاتَمُ حَدِيدٍ وَلَيْسَ بِمَاءٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ بَدَلَ الْمَاءِ فِي الْعُرْفِ عِنْدَنَا يَعْنِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ مَاءٌ.
وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ عَلَى إِسْقَاطِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ أَسَدٍ التَّقْدِيرُ: مِثْلُ صَدِيدٍ.
فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ هُوَ نَفْسُ الصَّدِيدِ وَلَيْسَ بِمَاءٍ حَقِيقَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ صَدِيدًا وَلَكِنَّهُ مَا يُشَبَّهُ بِالصَّدِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَدِيدٍ عَطْفُ بَيَانٍ لِمَاءٍ قَالَ: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ، فَأَبْهَمَهُ إِبْهَامًا، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: صَدِيدٍ انْتَهَى. وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ عَطْفَ الْبَيَانِ فِي النَّكِرَاتِ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ، فَأَعْرَبَ زَيْتُونَةٍ «١» عطف بيان ل شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «٢» فَعَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صَدِيدٍ، عَطْفَ بَيَانٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: صَدِيدٍ نَعْتٌ لِمَاءٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ: هُوَ غُسَالَةُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ فُرُوجِ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي. وَقِيلَ: صَدِيدٍ بِمَعْنَى مَصْدُودٍ عَنْهُ أَيْ: لِكَرَاهَتِهِ يُصَدُّ عَنْهُ، فَيَكُونُ مَأْخُوذًا عَنْهُ مِنَ الصَّدِّ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أمامة عن الرسول قاله فِي قَوْلِهِ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ قَالَ: «يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، وَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ»
يَتَجَرَّعُهُ يَتَكَلَّفُ جَرْعَهُ.
وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ أَيْ: وَلَا يُقَارِبُ أَنْ يُسِيغَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْإِسَاغَةُ. وَالظَّاهِرُ هُنَا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ إِسَاغَتِهِ إِيَّاهُ، وَإِذَا انْتَفَتِ انْتَفَتِ الْإِسَاغَةُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكَدْ يَراها «٣» أَيْ لَمْ يَقْرُبُ مِنْ رُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا؟
وَالْحَدِيثُ: «جَاءَنَا ثُمَّ يَشْرَبُهُ»
فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ الْمَعْنَى:
وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَهُ ثُمَّ شَرِبَهُ، كَمَا جَاءَ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «٤» أَيْ وَمَا
(١) سورة النور: ٢٤/ ٣٥.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٣٥. [.....]
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٧١.
419
كَادُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَ الذَّبْحِ. وَتَجَرَّعَ تَفَعَّلَ، وَيَحْتَمِلُ هُنَا وُجُوهًا أَنْ يَكُونَ لِلْمُطَاوَعَةِ أَيْ جَرَّعَهُ فَتَجَرَّعَ كَقَوْلِكَ: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ. وَأَنْ يَكُونَ لِلتَّكَلُّفِ نَحْوَ: تَحَلَّمَ، وَأَنْ يَكُونَ لِمُوَاصَلَةِ الْعَمَلِ فِي مَهَلَةٍ نَحْوَ: تَفَهَّمَ أَيْ يَأْخُذُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ أَيْ: تَجَرَّعَهُ كَمَا تَقُولُ: عَدَا الشَّيْءَ وَتَعَدَّاهُ. وَيَتَجَرَّعُهُ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَيُسْقَى، أَوِ اسْتِئْنَافٌ. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَيْ: أَسْبَابُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ كُلِّ مَكَانٍ مَعْنَاهُ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ، وَذَلِكَ لِفَظِيعِ مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْآلَامِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مِنْ كُلِّ مَكَانٍ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ. وَقِيلَ: حَتَّى مِنْ إِبْهَامِ رِجْلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَرَادَ الْبَلَايَا الَّتِي تُصِيبُ الْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا، سَمَّاهَا مَوْتًا وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي جَهَنَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ لِتَطَاوُلِ شَدَائِدِ الْمَوْتِ، وَامْتِدَادِ سَكَرَاتِهِ. وَمِنْ وَرَائِهِ الْخِلَافُ فِي مِنْ وَرَائِهِ كَالْخِلَافِ فِي مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ.
وقال الزمخشري: وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ أَيْ: فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْتَقْبِلُهُ يَتَلَقَّى عَذَاًبا أَشَدَّ مِمَّا قَبْلَهُ وَأَغْلَظَ. وَعَنِ الْفُضَيْلِ: هُوَ قَطْعُ الْأَنْفَاسِ وَحَبْسُهَا فِي الْأَجْسَادِ انْتَهَى. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ فِي وَرَائِهِ هُوَ يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ الْمُتَقَدِّمِ لَا عَلَى كل جبار.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٨ الى ٣٤]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
420
الرَّمَادُ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ جِسْمٌ يَسْحَقُهُ الْإِحْرَاقُ سَحْقَ الْغُبَارِ، وَيُجْمَعُ عَلَى رُمُدٍ فِي الْكَثْرَةِ وَأَرْمِدَةٍ فِي الْقِلَّةِ، وَشَذَّ جَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَاءَ قَالُوا: أَرْمِدَاءُ، وَرَمَادٌ رَمْدَدٌ إِذَا صَارَ هَبَاءً أَرَقَّ مَا يَكُونُ. الْجَزَعُ: عَدَمُ احْتِمَالِ الشِّدَّةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الصَّبْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
جَزِعْتُ وَلَمْ أَجْزَعْ مِنَ الْبَيْنِ مَجْزَعًا وعذبت قَلْبًا بِالْكَوَاعِبِ مُولَعَا
الْمُصْرِخُ: الْمُغِيثُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
421
وَالصَّارِخُ الْمُسْتَغِيثُ، صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخًا وَصُرَاخًا وَصَرْخَةً. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:
فَلَا تَجْزَعُوا إِنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ وَلَيْسَ لَكُمْ عَنِّي غَنَاءٌ وَلَا نَصْرٌ
كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الظَّنَابِيبِ
وَاصْطَرَخَ بِمَعْنَى صَرَخَ، وَتَصَرَّخَ تَكَلَّفَ الصُّرَاخَ، وَاسْتَصْرَخَ اسْتَغَاثَ فَقَالَ: اسْتَصْرَخَنِي فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ وَيُوصَفُ بِهِ الْمُغِيثُ وَالْمُسْتَغِيثُ مِنَ الْأَضْدَادِ. الْفَرْعُ الْغُصْنُ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُولَدُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْفَرْعُ الشَّعْرُ يُقَالُ: رَجُلٌ أَفْرَعُ وَامْرَأَةٌ فَرْعَاءُ لِمَنْ كَثُرَ شَعْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ:
وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمِ اجْتَثَّ الشَّيْءَ اقْتَلَعَهُ، وَجَثَّ الشَّيْءَ قَلَعَهُ، وَالْجُثَّةُ شَخْصُ الْإِنْسَانِ قَاعِدًا وقائما. وقال لقيط الأياري:
هُوَ الْجَلَاءُ الَّذِي يَجْتَثُّ أَصْلَكُمْ فَمَنْ رَأَى مِثْلَ ذَا آتٍ وَمَنْ سَمِعَا
الْبَوَارُ: الْهَلَاكُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ أَبْطَالَ حَرْبٍ غَدَاةَ الْحَرْبِ إِذْ خِيفَ الْبَوَارُ
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ: ارْتِفَاعُ مَثَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ يُقَصُّ. وَالْمَثَلُ مُسْتَعَارٌ لِلصِّفَةِ الَّتِي فِيهَا غَرَابَةٌ، وَأَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ مَثَلُهُمْ؟
فَقِيلَ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ، كَمَا تَقُولُ: صِفَةُ زَيْدٍ عِرْضُهُ مَصُونٌ، وَمَالُهُ مَبْذُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ عَلَى إِلْغَاءٍ مَثَلُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَثَلُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَعْمَالُهُمْ بَدَلٌ مِنْ مَثَلُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَا لِلْجَمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدًا أَجُنْدُلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدًا
وَكَرَمَادٍ الْخَبَرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ أَعْمَالُهُمْ بَدَلًا مِنْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى تَقْدِيرِ:
مَثَلُ أَعْمَالِهِمْ، وكرماد الْخَبَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خَبَرٌ لِلثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ. وَهَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ:
الْمُتَحَصِّلُ مِثَالًا فِي النَّفْسِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ أَعْمَالُهُمْ فِي فَسَادِهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَتَلَاشِيهَا كَالرَّمَادِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيحُ، وَتُفَرِّقُهُ بِشِدَّتِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، وَلَا
422
يَجْتَمِعَ مِنْهُ شَيْءٌ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي رَجَّحَهُ ابن عطية قال الْحَوْفِيُّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَثَلُ عَارِيَةٌ مِنْ رَابِطٍ يَعُودُ عَلَى الْمَثَلِ، وَلَيْسَتْ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ. وَأَعْمَالُ الْكَفَرَةِ الْمَكَارِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِتْقِ الرِّقَابِ، وَفِدَاءِ الْأَسَارَى، وَعَقْرِ الْإِبِل لِلْأَضْيَافِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ، وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. شَبَّهَهَا فِي حبوطها وذهابها هباء مَنْثُورًا لِبِنَائِهَا عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَكَوْنِهَا لِوَجْهِهِ بِرَمَادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: الرِّيَاحُ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بقوم عَاصِفٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، كَمَا قَالُوا: يَوْمَ مَا حَلَّ وَكِيلٌ نَائِمٌ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ:
التَّقْدِيرُ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ، فَحُذِفَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ يُرِيدُ كَاسِفُ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: عَاصِفٌ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بَعْدَ الْيَوْمِ أُتْبِعَ إِعْرَابَهُ كَمَا قِيلَ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ خُفِضَ عَلَى الْجِوَارِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنِ الْحَسَنِ: فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ عَلَى إِضَافَةِ الْيَوْمِ لِعَاصِفٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، تَقْدِيرُهُ: فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعُصُوفِ فِي يُونُسَ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ «١» وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ: لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ، أَيْ: لَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا مِنْ ثَوَابٍ، كَمَا لَا يُقْدَرُ مِنَ الرَّمَادِ الْمَطِيرِ بِالرِّيحِ عَلَى شَيْءٍ. وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ مِنْ ثَوَابِ ما كسبوا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، هَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إِنَّ الْكَافِرَ لَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا عَمِلَ لِلَّهِ مِنْهَا»
ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْغَرَرِ الْبَعِيدِ الَّذِي يُعْمِقُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَأُبْعِدَ عَنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ، وَالْبَعِيدُ عَنِ الْحَقِّ، أَوِ الثَّوَابِ. وَفِي الْبَقَرَةِ: لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا «٢» عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَالْمُغَايَرَةِ فِي التَّقْدِيمِ والتأخير، والمعنى واحد.
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٤.
423
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ: قَرَأَ السُّلَمِيُّ أَلَمْ تَرْ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ. وَتَوْجِيهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تَرَى حَذَفَتِ الْعَرَبُ أَلِفَهَا فِي قَوْلِهِمْ: قَامَ الْقَوْمُ وَلَوْ تَرَ مَا زَيْدٌ، كَمَا حُذِفَتْ يَاءُ لَا أُبَالِي فِي لَا أُبَالِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْجَازِمُ تُخُيِّلَ أَنَّ الرَّاءَ هِيَ آخِرُ الْكَلِمَةِ فَسُكِّنَتْ لِلْجَازِمِ كَمَا قَالُوا فِي: لَا أُبَالِي لَمْ أُبَلْ، تَخَيَّلُوا اللَّامَ آخِرَ الْكَلِمَةِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَهِيَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: خَالِقُ اسْمَ فَاعِلٍ، والأرض بِالْخَفْضِ.
قَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: خلق فعلا ماضيا، والأرض بِالْفَتْحِ. وَمَعْنَى بِالْحَقِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
بِالْحِكْمَةِ، وَالْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَالْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَخْلُقْهَا عَبَثًا وَلَا شَهْوَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا يَحِقُّ مِنْ جِهَةِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَإِنْفَاذِ سَابِقِ قَضَائِهِ، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ.
وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ وَكَلَامِهِ. وَقِيلَ: بِالْحَقِّ حَالٌ أَيْ مُحِقًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُذْهِبْكُمْ، خِطَابٌ عَامٌّ لِلنَّاسِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ. وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِنَاسٍ آخَرِينَ مِنْ جِنْسِكُمْ آدَمِيِّينَ، وَيَحْتَمِلْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِكُمْ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ فِي النِّسَاءِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ «١» وَبَيَّنَّا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. وَمَا ذَلِكَ أَيْ: وَمَا ذَهَابُكُمْ وَالْإِتْيَانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا مُتَعَذِّرٍ عَلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ قَادِرُ الذَّاتِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِمَقْدُورٍ دُون مَقْدُورٍ، فَإِذَا خَلَصَ لَهُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ، وَانْتَفَى الصَّارِفُ، تَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ كَتَحْرِيكِ أُصْبُعِكَ. وَإِذَا دَعَا إِلَيْهِ دَاعٍ وَلَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ دُونِهِ صَارِفٌ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ لِقَوْلِهِ: الْقَادِرُ، لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقَادِرِيَّةَ وَيَنْفُونَ الْقُدْرَةَ، وَلِتَشْبِيهِ فِعْلِهِ تَعَالَى بِفِعْلِ الْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ: كَتَحْرِيكِ أُصْبُعِكَ. وَعِنْدَنَا أَنَّ تَحْرِيكَ أُصْبُعِنَا لَيْسَ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا نُسِبَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُدْرَةِ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي إِيجَادِ شَيْءٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِإِبْعَادِهِمْ فِي الضَّلَالِ، وَعَظِيمِ خَطْبِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، لِوُضُوحِ آيَاتِهِ الشَّاهِدَةِ لَهُ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ
(١) سورة النساء: ٤/ ١٣٣.
424
الْحَقِيقُ بِأَنْ يُعْبَدَ وَيُخَافَ عِقَابُهُ، وَيُرْجَى ثَوَابُهُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ انْتَهَى. وَبَرَزُوا: أَيْ ظَهَرُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى جَزَاءِ اللَّهِ وَحِسَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى بُرُوزِهِمْ لِلَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَوَارَى عَنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُبْرِزَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْعُيُونِ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ خَافٍ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ انْكَشَفُوا لِلَّهِ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَرَزُوا مَعْنَاهُ صَارُوا بِالْبَرَازِ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُتَّسِعَةُ، فاستعير ذلك لجميع يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: تَأْوِيلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا فَارَقَتِ الْجَسَدَ فَكَأَنَّهُ زَالَ الْغِطَاءُ وَبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذَاتِهَا عَارِيَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْبُرُوزُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الرَّجُلُ كَثِيرًا مَا يُورِدُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ وَهُمْ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الشَّرَائِعِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ لَا تَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مَفَاهِيمِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، فَتَفْسِيرُهُمْ كَاللُّغَزِ وَالْأَحَاجِيَّ، وَيُسَمِّيهِمْ هَذَا الرَّجُلُ حُكَمَاءَ، وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنْبِيَائِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي وَبَرَزُوا عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الْمُحَاسَبِينَ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبرزوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَبِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَالضُّعَفَاءُ: الْأَتْبَاعُ، وَالْعَوَامُّ. وَكُتِبَ بِوَاوٍ فِي الْمُصْحَفِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ عَلَى لَفْظِ مَنْ يُفَخِّمُ الْأَلِفَ قَبْلَ الْهَمْزَةِ فَيُمِيلُهَا إِلَى الْوَاوِ، وَمِثْلُهُ علمؤا بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: هم رؤساؤهم وقاداتهم، استغووا الضعفاء واستتبعوهم. واستكبروا تكبروا، وَأَظْهَرُوا تَعْظِيمَ أَنْفُسِهِمْ. أَوِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ. وَتَبَعًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ لِتَابِعٍ، كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَغَائِبٍ وَغَيَبٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ: عَدْلٌ وَرِضًا. وَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ؟ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ تَوْبِيخُهُمْ إِيَّاهُمْ وَتَقْرِيعُهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا وَالْمَعْنَى: إِنَّا اتَّبَعْنَاكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ كَمَا أَمَرْتُمُونَا وَمَا أَغْنَيْتُمْ عَنَّا شَيْئًا، فَلِذَلِكَ جاء جوابعهم: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ، أَجَابُوا بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ وَالْخَجَلِ وَرَدِّ الْهِدَايَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ الْأُولَى لِلتَّبْيِينِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا بَعْضَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ اللَّهِ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا لِلتَّبْعِيضِ مَعًا بِمَعْنَى: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا بعض شيء، هو بعض عَذَابِ اللَّهِ أَيْ:
بَعْضُ بَعْضِ عَذَابِ اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذَانِ التَّوْجِيهَانِ اللَّذَانِ وَجَّهَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مِنْ فِي الْمَكَانَيْنِ يَقْتَضِي أَوَّلُهُمَا التَّقْدِيمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: من عذاب الله. ومن التَّبْيِينِيَّةُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا مَا تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وَهُوَ بَعْضُ شَيْءٍ، هُوَ بَعْضُ الْعَذَابِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، فَيَكُونُ بَدَلَ عَامٍّ
425
مِنْ خَاصٍّ، لِأَنَّ مِنْ شَيْءٍ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَأَنَّ عَنَى بِشَيْءٍ شَيْئًا مِنَ العذاب فيؤول الْمَعْنَى إِلَى مَا قُدِّرَ، وَهُوَ بَعْضُ بَعْضِ عَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا لَا يُقَالُ، لِأَنَّ بَعْضِيَّةَ الشَّيْءِ مُطْلَقَةٌ، فَلَا يَكُونُ لَهَا بَعْضٌ. وَنَصَّ الْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ، زَائِدَةٌ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنْ عَذَابِ الله متعلق بمغنون، ومن فِي مِنْ شَيْءٍ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَقَالَ أبو البقاء: ومن زَائِدَةٌ أَيْ: شَيْئًا كَائِنًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: هَلْ تَمْنَعُونَ عَنَّا شَيْئًا؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٍ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ أَيْ:
غِنًى فَيَكُونُ مِنْ عَذَابِ الله متعلقا بمغنون انْتَهَى. وَمُسَوِّغُ الزِّيَادَةِ كَوْنُ الْخَبَرِ فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ، فَكَأَنَ الِاسْتِفْهَامَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَبَاشَرَهُ، وَصَارَتِ الزِّيَادَةُ هُنَا كَالزِّيَادَةِ فِي تَرْكِيبِ:
فَهَلْ تُغْنُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَجَابُوهُمْ مُعْتَذِرِينَ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَوْهُمْ، ولم يضلوهم إما موركين الذَّنْبَ فِي ضَلَالِهِمْ، وَإِضْلَالِهِمْ عَلَى اللَّهِ كَمَا حَكَى اللَّه عَنْهُمْ. وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الْمُنَافِقِينَ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ «١» انْتَهَى. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمُنَافِقِينَ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُجَوِّزُونَ صُدُورَ الْكَذِبِ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مُخَالِفًا لِأُصُولِ مَشَايِخِهِ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ فَلَطَفَ بِنَا رَبُّنَا. وَاهْتَدَيْنَا لَهَدَيْنَاكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الْوَجْهَ وَزَيَّفَهُ بِأَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا عَلَى اللُّطْفِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: لَوْ خَلَّصَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَهَدَانَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَهَدَيْنَاكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي بَسْطِ هَذَا الْقَوْلِ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ لَهَدَيْنَاكُمْ أَيْ: لَأَغْنَيْنَا عَنْكُمْ وَسَلَكْنَا بِكُمْ طَرِيقَ النَّجَاةِ، كَمَا سَلَكْنَا بِكُمْ سَبِيلَ الْهَلَكَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى الْهُدَى إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَمَسُوهُ وَطَلَبُوهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ لَأَرْشَدْنَاكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا إلى
(١) سورة المجادلة: ٥٨/ ١٨.
426
آخِرِهِ، دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَجَاءَتْ جُمَلُهُ بِلَا وَاوِ عَطْفٍ، كَأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ أَنُشِئَتْ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا؟ إِنَّمَا كَانَ لِجَزَعِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ فَقَالُوا ذَلِكَ: سَوَّوْا بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي عِقَابِ الضَّلَالَةِ الَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا، يَقُولُونَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْجَزَعِ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي الصَّبْرِ. وَلَمَّا قَالُوا: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ، أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِالْإِقْنَاطِ مِنَ النَّجَاةِ فَقَالُوا: مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ: أَيْ مَنْجًى وَمَهْرَبٍ، جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا. وَقِيلَ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا مِنْ كَلَامِ الضُّعَفَاءِ وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا جَمِيعًا سَوَاءٌ عَلَيْنَا يُخْبِرُونَ عَنْ حَالِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَ الضُّعَفَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْعَرْضِ وَقْتَ الْبُرُوزِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَنَّ قَوْلَهُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا، بَعْدَ صَبْرِهِمْ فِي النَّارِ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَبَعْدَ جَزَعِهِمْ مِثْلَهَا.
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مُحَاوَرَةَ الْأَتْبَاعِ لِرُؤَسَائِهِمُ الْكَفَرَةِ، ذَكَرَ مُحَاوَرَةَ الشَّيْطَانِ وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْإِنْسِ، وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الرُّؤَسَاءِ وَالشَّيَاطِينِ فِي التَّلَبُّسِ بِالْإِضْلَالِ. وَالشَّيْطَانُ هُنَا إِبْلِيسُ، وَهُوَ رَأْسُ الشَّيَاطِينِ.
وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّ الْكَافِرِينَ يَقُولُونَ: وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لهم فمن يشع لَنَا، فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ غَيْرُ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَقُمْ أَنْتَ فَاشْفَعْ لَنَا، فَإِنَّكَ أَضْلَلْتَنَا، فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهُ أَحَدٌ وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمْ»
الْآيَةَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَقِفُ إِبْلِيسُ خَطِيبًا فِي جَهَنَّمَ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ نَارٍ يَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ جَمِيعًا فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، يَعْنِي: الْبَعْثَ، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ، وَثَوَابَ الْمُطِيعِ، وَعِقَابَ الْعَاصِي، فَصَدَقَكُمْ وَعْدَهُ، وَوَعَدْتُكُمْ أَنْ لَا بَعْثٌ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، فَأَخْلَفْتُكُمْ. قُضِيَ الْأَمْرُ تَعَيَّنَ قَوْمٌ لِلْجَنَّةِ وَقَوْمٌ لِلنَّارِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْمَوْقِفِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ أَوْ بَعْدَ حُصُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الطَّبَرِيِّ. وَقِيلَ: قُضِيَ الْأَمْرُ قطع وفرغ مِنْهُ، وَهُوَ الْحِسَابُ، وَتَصَادَرَ الفريقين إلى مقربهما. وَوَعْدُ الْحَقِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ
427
إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ أَيْ: الْوَعْدِ الْحَقِّ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَقُّ صِفَةَ اللَّهِ أَيْ: وَعْدَهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الشَّيْءَ الثَّابِتَ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ أَيْ: فَوَفَّى لَكُمْ بِمَا وَعَدَكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَإِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ وَوَسْوَسَتَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسُّلْطَانِ الْغَلَبَةَ وَالتَّسْلِيطَ وَالْقُدْرَةَ أَيْ: مَا اضْطَرَرْتُكُمْ ولا خوفتكم بقوة مني، بَلْ عَرَضْتُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا فَأَتَى رَأْيُكُمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَهْرِ مِنَ الْحَامِلِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِتَقْوِيَةِ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَاسِ إِلَيْهِ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسْلِيطِ. وَقِيلَ: وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى صَرْعِ الْإِنْسَانِ وَتَعْوِيجِ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَإِزَالَةِ عقله، فلا تلوموني. وقرىء: فَلَا يَلُومُونِي بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ يُرِيدُ فِي مَا آتَيْتُمُوهُ مِنَ الضَّلَالِ، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ فِي سُوءِ نَظَرِكُمْ وَاسْتِجَابَتِكُمْ لِدُعَائِي مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حَيْثُ اغْتَرَرْتُمْ، وَأَطَعْتُمُونِي إِذْ دَعَوْتُكُمْ، وَلَمْ تُطِيعُوا رَبَّكُمْ إِذْ دَعَاكُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَيُحَصِّلُهَا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا التَّمْكِينُ، وَلَا مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا التَّزْيِينُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُ الْمُجْبِرَةُ لَقَالَ: فَلَا تَلُومُونِي وَلَا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى عَلَيْكُمِ الْكُفْرَ وَأَجْبَرَكُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ.
مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِنَافِعِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِمُنْقِذِكُمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ:
بِمُنْجِيكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِمُغِيثِكُمْ، وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: بِمُصْرِخِيِّ بِكَسْرِ الْيَاءِ، وَطَعَنَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَعَلَّهَا مِنْ وَهْمِ الْقُرَّاءِ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ مَنِ الْوَهْمِ، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْبَاءَ فِي بِمُصْرِخِيِّ خَافِضَةٌ لِلَّفْظِ كُلِّهِ، وَالْبَاءُ لِلْمُتَكَلِّمِ خَارِجَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: نَرَاهُمْ غَلِطُوا، ظَنُّوا أَنَّ الْبَاءَ تُكْسَرُ لِمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ رَدِيئَةٌ مَرْذُولَةٌ، وَلَا وَجْهَ لَهَا إِلَّا وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: صَارَ هَذَا إِجْمَاعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى الشُّذُوذِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ ضَعِيفَةٌ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهَا بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ:
428
وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ يَاءَ الْإِضَافَةِ سَاكِنَةً، وَقَبْلَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ فَحَرَّكَهَا بِالْكَسْرِ لِمَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ يَاءَ الْإِضَافَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَفْتُوحَةً حَيْثُ قَبْلَهَا أَلِفٌ نَحْوَ:
عَصَايَ فَمَا بَالُهَا، وقبلها باء. (فَإِنْ قُلْتَ) : جَرَتِ الْيَاءُ الْأُولَى مَجْرَى الْحُرِّ الصَّحِيحِ لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ، كَأَنَّهَا يَاءٌ وَقَعَتْ سَاكِنَةً بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ سَاكِنٍ، فَحُرِّكَتْ بِالْكَسْرِ عَلَى الْأَصْلِ.
(قُلْتُ) : هَذَا قِيَاسٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْمُسْتَفِيضَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ تَتَضَاءَلُ إِلَيْهِ الْقِيَاسَاتُ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَشْهَدُوا لَهَا بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ، قَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِلْأَغْلَبِ الْعِجْلِيِّ، وَهِيَ لُغَةٌ بَاقِيَةٌ فِي أَفْوَاهِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْيَوْمِ، يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا فِيِّ أَفْعَلُ كَذَا بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَالَ: فَهُوَ تَوْجِيهُ الْفَرَّاءِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ الزَّجَّاجُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ، فِي غُضُونِ كَلَامِهِ حَيْثُ قَبْلَهَا أَلِفٌ، فَلَا أَعْلَمُ حَيْثُ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالظَّرْفِ نَحْوَ: قَعَدَ زَيْدٌ حَيْثُ أَمَامَ عُمَرَ وَبَكْرٍ، فَيَحْتَاجُ هَذَا التَّرْكِيبُ إِلَى سَمَاعٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
لِأَنَّ يَاءَ الْإِضَافَةِ إِلَى آخِرِهِ، قَدْ رَوَى سُكُونَ الْيَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ بِذَلِكَ الْقُرَّاءُ نَحْوَ:
مَحْيَايَ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَكَرْنَا مِنَ النُّحَاةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ. وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِيهَا الْخَلَفُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا: إِنَّهَا خَطَأٌ، أَوْ قَبِيحَةٌ، أَوْ رَدِيئَةٌ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَة أَنَّهَا لُغَةٌ، لَكِنَّهُ قَلَّ اسْتِعْمَالُهَا. وَنَصَّ قُطْرُبٌ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ فِي بَنِي يَرْبُوعٍ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ: هِيَ صَوَابٌ، وَسَأَلَ حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَذَكَرَ تَلْحِينَ أَهْلِ النَّحْوِ فَقَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا تُبَالِي إِلَى أَسْفَلِ حَرَكَتِهَا، أَوْ إِلَى فَوْقُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ بِالْخَفْضِ حَسَنَةٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ.
وَلَيْسَتْ عِنْدَ الْإِعْرَابِ بِذَلِكَ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى إِنْكَارِ أَبِي حَاتِمٍ عَلَى أَبِي عَمْرٍو تَحْسِينَهَا، فَأَبُو عَمْرٍو إِمَامُ لُغَةٍ، وَإِمَامُ نَحْوٍ، وَإِمَامُ قِرَاءَةٍ، وَعَرَبِيٌّ صَرِيحٌ، وَقَدْ أَجَازَهَا وَحَسَّنَهَا، وَقَدْ رَوَوْا بَيْتَ النَّابِغَةِ:
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِيِّ قَالَتْ لَهُ مَا أَنْتَ بِالْمَرَضِيِّ
عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبَ
بِخَفْض الْيَاء مِنْ عليّ.
وما فِي بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مَصْدَرِيَّةٌ، ومن قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِأَشْرَكْتُمُونِي أَيْ:
كَفَرْتُ الْيَوْمَ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْيَوْمِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ «١» وَقَالَ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ. وقيل: موصولة
(١) سورة الممتحنة: ٦٠/ ٤.
429
بِمَعْنَى الَّذِي، وَالتَّقْدِيرُ: كَفَرْتُ بِالصَّنَمِ الَّذِي أَشْرَكْتُمُونِيهِ، فَحَذَفَ الْعَائِدَ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلُ متعلق بكفرت، وما بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: كَفَرْتُ مِنْ قَبْلُ حِينِ أَبَيْتُ السُّجُودَ لِآدَمَ بِالَّذِي أَشْرَكْتُمُونِيهِ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. تَقُولُ: شَرَكْتُ زَيْدًا، فَإِذَا أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ قُلْتُ: أَشْرَكْتُ زَيْدًا عَمْرًا، أَيْ جَعَلْتُهُ لَهُ شَرِيكًا. إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقَ مَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا الْأَصَحُّ فِيهَا أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى آحَادٍ مِنْ يَعْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَحْوُ مَا هَذِهِ يَعْنِي فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ مَا فِي قَوْلِهِمْ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا انْتَهَى. وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ جَعَلَ سُبْحَانَ عَلَمًا عَلَى مَعْنَى التَّسْبِيحِ، كَمَا جَعَلَ بَرَّةً عَلَمًا للمبرة. وما مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِبْلِيسَ إِقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِكُفْرِهِ الْأَقْدَمِ أَيْ: خَطِيئَتِي قَبْلَ خَطِيئَتِكُمْ. فَلَا إِصْرَاخَ عِنْدِي أَنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، حَكَى اللَّهُ عَنْهُ مَا سَيَقُولُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ عَلَيَّ النَّظَرُ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَنْ يَتَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ الْمَقَامَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَا يقول، يخافوا، ويعلموا مَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْهُ، وَيُنْجِيهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ يَوْمَ ذَاكَ. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ كَلَامٌ هُنَا فِي الشَّيْطَانِ وَالْمَلَائِكَةِ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِهِ.
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ: لَمَّا جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً «١» وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَأُدْخِلَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَأُدْخِلُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُضَارِعُ أَدْخَلَ أَيْ: وَأُدْخِلُ أَنَا. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلَّقَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِأُدْخِلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَبِمَ يَتَعَلَّقُ يَعْنِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَقَوْلِكَ وَأُدْخِلُهُمْ أَنَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ كَلَامٌ غَيْرُ مُلْئَتِمٍ؟ (قُلْتُ) : الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِمَا بَعْدَهُ أَيْ: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يَعْنِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ:
تَحِيَّتُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ الْحَسَنُ: أُدْخِلُ بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ بِإِخْبَارِ الله
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٢١.
430
تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَلْطَفَ لَهُمْ وَأَحْنَى عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «١» فِي أَوَائِلِ سُورَةِ يُونُسَ.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ضَرَبَ مَعَ الْمَثَلِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ، فَكَانَ يُغْنِي ذَلِكَ عَنِ الْكَلَامِ فِيهِ هُنَا، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَبْدَوْا هُنَا تَقْدِيرَاتٍ، فَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَأَبُو البقاء مثلا مفعولا بضرب، وكلمة بَدَلٌ مِنْ مَثَلًا. وَإِعْرَابُهُمْ هَذَا تَفْرِيعٌ، عَلَى أَنَّ ضرب مثل لَا يَتَعَدَّى لَا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَثَلًا مفعول بضرب، وكلمة مَفْعُولٌ أَوَّلُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهَا مَعَ الْمَثَلِ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى جَعَلَ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ شجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جَعَلَ كَلِمَةَ طَيِّبَةٍ مَثَلًا هِيَ أَيِ: الْكَلِمَةُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَعَلَى الْبَدَلِ تَكُونُ كَشَجَرَةٍ نَعْتًا لِلْكَلِمَةِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبَدَأَ بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةً نَصْبًا بِمُضْمَرٍ أي: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، كَقَوْلِكَ: شَرَّفَ الْأَمِيرُ زَيْدًا كَسَاهُ حُلَّةً، وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكَلُّفُ إِضْمَارٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ.
وقرىء شَاذًّا كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى الابتداء، وكشجرة خَبَرُهُ انْتَهَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أَيِ الْمَثَلُ كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكلمة، والكلمة الطيبة هي: لا له إلا الله قاله ان عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِيمَانُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، أَوِ المؤمن نفسه قال عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالرَّبِيعُ، أَوْ جَمِيعُ طَاعَاتِهِ أَوِ الْقُرْآنُ قَالَهُ الْأَصَمُّ، أَوْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ، أَوِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ أَوِ التَّسْبِيحُ وَالتَّنْزِيهُ وَالشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ الْمُؤْمِنُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ،
أَوْ جَوْزَةُ الْهِنْدِ قَالَهُ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوِ النَّخْلَةُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ زَيْدٍ،
وَجَاءَ ذَلِكَ نَصًّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْآيَةَ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا هِيَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ»
الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَجِيءَ بِطِبْقٍ عَلَيْهِ رُطَبٌ فَقَالَ
(١) سورة يونس: ١٠/ ١٠.
431
أَنَسٌ: كُلْ يَا أَبَا الْعَالِيَةِ، فَإِنَّهَا الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ثُمَّ قَالَ: أُتِيَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعِ بُسْرٍ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نحو هذا.
وقال لزمخشري: كُلُّ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ طَيِّبَةِ الثِّمَارِ كَالنَّخْلَةِ، وَشَجَرَةِ التِّينِ، وَالْعِنَبِ، وَالرُّمَّانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَقَدْ شَبَّهَ الرَّسُولُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِالْأُتْرُجَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُشَبَّهَ أَيْضًا بِشَجَرَتِهَا. أَصْلُهَا ثَابِتٌ أَيْ: فِي الْأَرْضِ ضَارِبٌ بِعُرُوقِهِ فِيهَا. وَقَرَأَ نس بْنُ مَالِكٍ: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا، أُجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلَى الشَّجَرَةِ لَفْظًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّبَبِيِّ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا إِسْنَادُ الثُّبُوتِ إِلَى السَّبَبِيِّ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَفِيهَا حُسْنُ التَّقْسِيمِ، إِذْ جَاءَ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، يُرِيدُ بِالْفَرْعِ أَعْلَاهَا وَرَأَسَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَا فُرُوعٍ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِلَفْظِ الْجِنْسِ. وَمَعْنَى فِي السَّمَاءِ: جِهَةُ الْعُلُوِّ وَالصُّعُودِ لَا الْمِظَلَّةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا»
وَلَمَّا شُبِّهَتِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ كَانَتِ الْكَلِمَةُ أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ فَرْعُهَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «١» وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَهُوَ ثَوَابُ اللَّهِ هُوَ جَنَاهَا، وَوَصَفَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: طَيِّبَةٍ، أَيْ كَرِيمَةِ الْمَنْبَتِ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّجَرَةِ لَهُ لَذَّةٌ فِي الْمَطْعَمِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
طَيِّبُ الْبَاءَةِ سَهْلٌ وَلَهُمْ سُبُلٌ إِنْ شِئْتَ فِي وَحْشٍ وَعْرِ
أَيْ سَاحَتُهُمْ سَهْلَةٌ طَيِّبَةٌ. الثَّانِي: رُسُوخُ أَصْلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهَا، وَأَنَّ الرِّيَاحَ لَا تَقْصِفُهَا، فَهِيَ بَطِيئَةُ الْفَنَاءِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ حَصَلَ الْفَرَحُ بِوِجْدَانِهِ. وَالثَّالِثُ: عُلُوُّ فَرْعِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الشَّجَرَةِ وَرُسُوخِ عُرُوقِهَا، وَعَلَى بُعْدِهَا عَنْ عُفُونَاتِ الْأَرْضِ، وَعَلَى صَفَائِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ. الرَّابِعُ: دَيْمُومَةُ وُجُودِ ثَمَرَتِهَا وَحُضُورُهَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ. وَالْحِينُ فِي اللُّغَةِ قِطْعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا تُطْلِقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ
وَالْمَعْنَى: تُعْطِي جَنَاهَا كُلَّ وَقْتٌ وَقَّتَهُ اللَّهُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ،
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ١٠.
432
وَالْحَسَنُ، أَيْ كُلَّ سَنَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا حِينًا فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ سَنَةً، وَاسْتَشْهَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ قَالَهُ عَلِيٌّ
وَمُجَاهِدٌ، سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ مُدَّةُ بَقَاءِ الثَّمَرِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْحِينُ شَهْرَانِ، لِأَنَّ النَّخْلَةَ تَدُومُ مُثْمِرَةً شَهْرَيْنِ. وَقِيلَ: لَا تَتَعَطَّلُ مِنْ ثَمَرٍ تَحْمِلُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَهِيَ شَجَرَةُ جَوْزِ الْهِنْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ: كُلَّ حِينٍ أَي كُلَّ غُدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ، وَمَتَى أُرِيدُ جَنَاهَا وَيَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَالتَّذَكُّرُ الْمَرْجُوُّ بِضَرْبِ الْمَثَلِ هُوَ التَّفَهُّمُ وَالتَّصَوُّرُ لِلْمَعَانِي الْمُدْرَكَةِ بِالْعَقْلِ، فَمَتَى أُبْرِزَتْ بِالْمَحْسُوسَاتِ لَمْ يُنَازَعْ فِيهَا الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَالْوَهْمُ، وَانْطَبَقَ الْمَعْقُولُ عَلَى الْمَحْسُوسِ، فَحَصَلَ الْفَهْمُ وَالْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: الْكَذِبُ، وَقَالَ: أَنْ تَجُرَّ دَعْوَةَ الْكُفْرِ وَمَا يُعْزَى إِلَيْهِ الْكَافِرُ.
وَقِيلَ: كُلُّ كَلَامٍ لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً خَبِيثَةً، وقرىء: ومثل كَلِمَةٍ بِنَصْبِ مَثَلَ عَطْفًا عَلَى كَلِمَةً طَيِّبَةً.
وَالشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ:
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَفِرْقَةٌ: شَجَرَةُ الثُّومِ. وَقِيلَ: شَجَرَةُ الْكَشُوتِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ لَا وَرَقَ لَهَا وَلَا أَصْلَ قَالَ: وَهِيَ كُشُوتٌ فَلَا أَصْلَ وَلَا ثَمَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُرَدُّ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِنَ النَّجْمِ وَلَيْسَتْ مِنَ الشَّجَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا مَثَّلَ بِالشَّجَرِ فَلَا تُسَمَّى هَذِهِ شَجَرَةً إلا بتحوّز،
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ»
وَقِيلَ: الطُّحْلُبَةُ. وَقِيلَ:
الْكَمْأَةُ. وَقِيلَ: كُلُّ شَجَرٍ لَا يَطِيبُ لَهُ ثَمَرٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْكَافِرُ، وَعَنْهُ أَيْضًا:
شَجَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ بِشَجَرَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، إِذَا وُجِدَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَوْصَافُ هُوَ أَنْ يَكُونَ كَالْعِضَاةِ أَوْ شَجَرَةِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا إِذَا اجْتُثَّتْ أَيِ: اقْتُلِعَتْ جَثَّهَا بِنَزْعِ الْأُصُولِ وَبَقِيَتْ فِي غَايَةِ الْوَهْيِ وَالضَّعْفِ، فَتُقَلِّبُهَا أَقَلُّ رِيحٍ. فَالْكَافِرُ يَرَى أَنَّ بِيَدِهِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يُغْنِي عَنْهُ كَهَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي يَظُنُّ بِهَا عَلَى بُعْدِ الْجَاهِلِ أَنَّهَا شَيْءٌ نَافِعٌ، وَهِيَ خَبِيثَةُ الْجَنْيِ غَيْرُ نَافِعَةٍ انْتَهَى. وَاجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ أَيْ: لَمْ يَتَمَكَّنْ لَهَا أَصْلٌ وَلَا عِرْقٌ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَابِتَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ أَيِ: اسْتِقْرَارٍ. يُقَالُ: أقر الشَّيْءُ قَرَارًا ثَبَتَ ثَبَاتًا، شَبَّهَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ، فَهُوَ لَا يَثْبُتُ بَلْ يَضْمَحِلُّ عَنْ قَرِيبٍ لِبُطْلَانِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّابِتُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ وَتَمَكَّنَ فِيهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ
433
نَفْسُهُ. وَتَثْبِيتُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَوْنُهُمْ لَوْ فُتِنُوا عَنْ دِينِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَثَبَتُوا عَلَيْهِ وَمَا زَلُّوا، كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَالَّذِينَ نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ، وَكُشِطَتْ لُحُومُهُمْ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، كَمَا ثَبَتَ جُرْجِيسُ وَشَمْعُونُ وَبِلَالٌ حَتَّى كَانَ يُعَذَّبُ بِالرَّمْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَتَثْبِيتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَوْنُهُمْ إِذَا سُئِلُوا عِنْدَ تَوَافُقِ الْإِشْهَادِ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَلَمْ يَبْهَتُوا، وَلَمْ تُحَيِّرْهُمْ أَهْوَالُ الْحَشْرِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ طاووس وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ تَثْبِيتَهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مُدَّةُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ وَقْتُ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَجَمَاعَةٌ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ وَقْتُ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ، وَرَوَاهُ الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَثْبِيتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ حَيَاتُهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَحَشْرُهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: التَّثْبِيتُ فِي الدُّنْيَا الْفَتْحُ وَالنَّصْرُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ. وَمَا
صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ تِلَاوَتِهِ عِنْدَ إِيعَادِ الْمُؤْمِنِ فِي قَبْرِهِ، وَسُئِلَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْإِخْلَاصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ
، لَا يَظْهَرُ مِنْهُ يَعْنِي: أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ فِي الْقَبْرِ، وَلَا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ فِي الْقَبْرِ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمَلٌ. وَمَعْنَى يُثَبِّتُ: يُدِيمُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الزَّلَلِ. وَمِنْهُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُثَبِّتُ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِآمَنُوا. وَسُؤَالُ الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أَيِ: الْكَافِرِينَ لِمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِضْلَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَوْنُهُمْ لَا يَثْبُتُونَ فِي مَوَاقِفِ الْفِتَنِ، وَتَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ وَهِيَ الْحَيْرَةُ الَّتِي تَلْحَقُهُمْ، إِذْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِحُجَّةٍ. وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ اضْطِرَابُهُمْ فِي جَوَابِهِمْ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ تَشْبِيهُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ عَلَى تَشْبِيهِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَتَلَاهُ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَعَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِرَاضٌ فِيمَا خَصَّ بِهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ ذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى، إِنَّ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا يسئل عَمَّا يَفْعَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ أَيْ: تَوْجِيهَ الْحِكْمَةِ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ مِنْ تَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَأْيِيدِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ عِنْدَ ثَبَاتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ، وَمِنْ إِضْلَالِ الظَّالِمِينَ وَخِذْلَانِهِمْ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَأْنِهِمْ عِنْدَ زَلَلِهِمْ انْتَهَى.
وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
434
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُدَاهُمْ، وَحَالَ الْكَافِرِينَ وَإِضْلَالَهُمْ، ذَكَرَ السَّبَبَ فِي إِضْلَالِهِمْ. وَالَّذِينَ بَدَّلُوا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ قَالَهُ الْحَسَنُ، بَدَّلُوا بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ رَسُولًا مِنْهُمْ يُعَلِّمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِ وَشَرَّفَهُمْ بِهِ، وَأَسْكَنَهُمْ حرمه، وجعلهم قوام بيته، فَوَضَعُوا مَكَانَ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ كُفْرًا. وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُمَرَ عَنْهُمْ فَقَالَ: هُمَا الْأَعْرَابُ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالِي أَيْ: بَنِي مَخْزُومٍ، وَاسْتُؤْصِلُوا بِبَدْرٍ. وَأَعْمَامُكَ أَيْ: بَنِي أُمَيَّةَ، وَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوٌ مَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَادَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: هُمْ قُرَيْشٌ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَلَى أَنَّهُمْ قُرَيْشٌ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: هُمْ مُنَافِقُو قُرَيْشٍ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ عَلَمِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ قَبْلَ قِصَّتِهِ، وَقِصَّتُهُ كَانَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَخُصُّ من فعل فعل جِبِلَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَنِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «١» أَيْ شُكْرَ رِزْقِكُمْ، كَأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّكْرُ فَوَضَعُوا مَكَانَهُ كُفْرًا، وَجَعَلُوا مَكَانَ شُكْرِهِمُ التَّكْذِيبَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نَفْسَ النِّعْمَةِ بِالْكُفْرِ حَاصِلًا لهم الكفر بدل النعمة، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ أَسْكَنَهُمُ اللَّهُ حَرَمَهُ، وَجَعَلَهُمْ قِوَامَ بَيْتِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بَدَلَ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنَ الشُّكْرِ الْعَظِيمِ، أَوْ أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِالنِّعْمَةِ وَالسَّعَةِ لِإِيلَافِهِمُ الرِّحْلَتَيْنِ، فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ، فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ، فَحَصَلَ لَهُمُ الْكُفْرُ بَدَلَ النِّعْمَةِ، وَبَقِيَ الْكُفْرُ طَوْقًا فِي أَعْنَاقِهِمْ انْتَهَى. وَنِعْمَةُ اللَّهِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ أَيْ: بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَكُفْرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «٢» أَيْ بِسَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. فَالْمَنْصُوبُ هُوَ الْحَاصِلُ، وَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ أَوِ الْمَنْصُوبُ عَلَى إِسْقَاطِهَا هُوَ الذَّاهِبُ، عَلَى هَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ «٣» وَإِذَا قَدَّرْتَ مُضَافًا مَحْذُوفًا وَهُوَ
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٨٢.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٠٨.
435
شُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ ثُمَّ حُذِفَتْ، وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ فَالْبَاءُ دَخَلَتْ عَلَى نِعْمَةِ ثُمَّ حُذِفَتْ. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أَيْ: مَنْ تَابَعَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَزَعَمَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ كُفْرًا هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَبَدَّلُوا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ بَدَّلَ مِنْ أَخَوَاتِ اخْتَارَ، فَالَّذِي يُبَاشِرُهُ حَرْفُ الْجَرِّ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَالَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ لَا بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: جَهَنَّمُ بَدَلًا مِنْ دَارِ الْبَوَارِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفُ بَيَانٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِحْلَالُ فِي الْآخِرَةِ. وَدَارُ الْبَوَارِ جَهَنَّمُ، وَقَالَهُ:
ابْنُ زَيْدٍ.
وَقِيلَ: عَنْ عَلِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ
، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ، فَيَكُونُ دَارُ الْبَوَارِ أَيِ: الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا كَقَلِيبِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قُتِلُوا فِيهِ. وَعَلَى هَذَا أَعْرَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ: جَهَنَّمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ: يَصْلَوْنَ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: جَهَنَّمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَهَنَّمُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّصْبَ عَلَى الِاشْتِغَالِ مَرْجُوحٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلَا مَا يَكُونُ مُسَاوِيًا، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى النَّصْبِ. وَلَمْ يكونوا ليقرأوا بِغَيْرِ الرَّاجِحِ أَوِ الْمُسَاوِي، إِذْ زَيْدٌ ضَرَبْتَهُ أَفْصَحُ مِنْ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ رَاجِحًا، وَعَلَى تَأْوِيلِ الِاشْتِغَالِ يَكُونُ يَصْلَوْنَهَا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جَهَنَّمَ، أَوْ حَالًا مِنْ دَارِ الْبَوَارِ، أَوْ حَالًا مَنْ قَوْمِهِمْ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
وَبِئْسَ الْقَرَارُ هِيَ أَيْ: جَهَنَّمُ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أَيْ زَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَتَهُ أَنْ صَيَّرُوا لَهُ أَنْدَادًا وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عُمَرَ: وَلِيَضِلُّوا هنا، ولِيُضِلَّ «١» فِي الْحَجِّ وَلُقْمَانَ وَالرُّومِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَالْمَآلِ. لَمَّا كَانَتْ نَتِيجَةُ جَعْلِ الْأَنْدَادِ آلِهَةً الضَّلَالَ أَوِ الْإِضْلَالَ، جَرَى مَجْرَى لَامِ الْعِلَّةِ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِتُكْرِمَنِي، عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: قِرَاءَةُ الْفَتْحِ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَتَحْتَمِلُ الْعَاقِبَةَ. وَالْعِلَّةُ وَالْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «٢» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمَتَّعُوا إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لِانْغِمَاسِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالْحَاضِرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ، مَأْمُورُونَ بِهِ، قَدْ أَمَرَهُمْ آمِرٌ مُطَاعٌ لَا يَسَعُهُمْ أن يخالفوه، ولا
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٩ وسورة لقمان: ٣١/ ٦. [.....]
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٤٠.
436
يَمْلِكُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ أَمْرًا دُونَهُ، وَهُوَ آمِرُ الشَّهْوَةِ وَالْمَعْنَى: إِنْ دُمْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْخِذْلَانُ وَالتَّخْلِيَةُ وَنَحْوُهُ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ «١» انتهى ومصيركم مَصْدَرُ صَارَ التَّامَّةِ بِمَعْنَى رَجَعَ. وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَى النَّارِ، وَلَا يُقَالُ هُنَا صَارَ بِمَعْنَى انْتَقَلَ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى بِإِلَى أَيْ: فَإِنَّ انْتِقَالَكُمْ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّهُ تَبْقَى إِنَّ بِلَا خَبَرٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ حَذْفَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ أَوْ كَائِنٌ، لِأَنَّ حَذْفَ الْخَبَرِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ قَلِيلٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُحْذَفُ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ نَكِرَةً، وَالْخَبَرُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ. وَقَدْ أَجَازَ الْحَوْفِيُّ: أَنْ يَكُونَ إِلَى النَّارِ مُتَعَلِّقًا بِمَصِيرَكُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا.
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ وَكُفْرَهُمْ نِعْمَتَهُ، وَجَعَلَهُمْ لَهُ أَنْدَادًا، وَتَهَدُّدَهُمْ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ وَالتَّيَقُّظِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِلْزَامِ عَمُودَيِ الْإِسْلَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَعْمُولُ قُلْ، مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ يُقِيمُوا. وَيُقِيمُوا مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَهَذَا قَوْلُ:
الْأَخْفَشِ، وَالْمَازِنِيِّ. وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ إِنْ يُقِيمُوا، وَرَدَ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّهُ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِقَامَةِ لَا الْكَافِرِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَتَى أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ فَعَلُوُهُ لَا مَحَالَةَ. قَالَ ابْنُ عطية:
ويحتمل أن يكون يُقِيمُوا جَوَابَ الْأَمْرِ الَّذِي يُعْطِينَا مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: قُلْ وَذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ قُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى بَلِّغْ وَأَدِّ الشَّرِيعَةَ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ انْتَهَى. وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّ فِي مَا قَبْلَهُ مَعْمُولَ الْقَوْلِ: أَقِيمُوا، وَفِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَلِّغِ الشَّرِيعَةَ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ مَعْمُولَ قُلْ هُوَ قَوْلُهُ: يُقِيمُوا، وَهُوَ أَمْرٌ مَجْزُومٌ بِلَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسِ أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ:
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٨.
437
وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُ اللَّامِ لِأَنَّ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قُلْ، عِوَضٌ مِنْهُ. وَلَوْ قِيلَ: يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا ابْتِدَاءٌ بِحَذْفِ اللَّامِ، لَمْ يَجُزْ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْمُبَّرِدُ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا يُقِيمُوا، فَيُقِيمُوا الْمُصَرَّحُ بِهِ جَوَابُ أَقِيمُوا الْمَحْذُوفِ قِيلَ. وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ يُخَالِفُ الشَّرْطَ إِمَّا فِي الْفِعْلِ، أَوْ فِي الْفَاعِلِ، أَوْ فِيهِمَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِثْلُهُ فِيهِمَا فَهُوَ خَطَأٌ كَقَوْلِكَ: قُمْ يَقُمْ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَنْ يُقِيمُوا يُقِيمُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ المقدر للمواجهة ويقيموا عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ وَهُوَ خَطَأٌ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ وَاحِدًا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَنْ تَقُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا يُقِيمُوا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ الْأَمْرِ مَعَهُ شَرْطٌ مُقَدَّرٌ تَقُولُ: أَطِعِ اللَّهَ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، أَيْ إِنْ تُطِعْهُ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ. وَمُخَالَفَةُ هَذَا الْقَوْلِ لِلْقَوْلِ قَبْلَهُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي هَذَا مُقَدَّرٌ بَعْدَ فِعْلِ الْأَمْرِ، وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ الْأَمْرُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعٌ بِلَفْظِ الْخَبَرِ صُرِفَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: أَقِيمُوا، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَفِرْقَةٌ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَارِعًا بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، لَبَقِيَ عَلَى إِعْرَابِهِ بِالنُّونِ كَقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ «١» ثُمَّ قَالَ: تُؤْمِنُونَ «٢» وَالْمَعْنَى: آمِنُوا. وَاعْتَلَّ أَبُو عَلِيٍّ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بُنِيَ يَعْنِي: عَلَى حَذْفِ النُّونِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَقِيمُوا، وَهَذَا كَمَا بُنِيَ الِاسْمُ الْمُتَمَكِّنُ فِي النِّدَاءِ فِي قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ، يَعْنِي عَلَى الضَّمَّةِ لَمَّا شُبِّهَ بِقَبْلُ وَبَعْدُ انْتَهَى، وَمُتَعَلِّقُ الْقَوْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ أَوِ الْمُقَدَّرِ فِي هَذِهِ التَّخَارِيجِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ وَالْإِنْفَاقِ، إِلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ فَمُتَعَلِّقُهُ الشَّرِيعَةُ فَهُوَ أَعَمُّ، إِذْ قُدِّرَ قُلْ بِمَعْنَى بَلِّغْ وَأَدِّ الشَّرِيعَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقُولَ هُوَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدُ أَعْنِي قَوْلَهُ: اللَّهُ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِ مَعْمُولِ الْقَوْلِ هُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي الْآيَةَ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، يُخَالِفُهُ تَرْتِيبُ التَّرْكِيبِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُقِيمُوا الصَّلَاةَ كَلَامًا مُفْلِتًا مِنَ الْقَوْلِ وَمَعْمُولِهِ، أَوْ يَكُونُ جَوَابًا فُصِلَ بِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَعْمُولِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ، لَا يَسْتَدْعِي إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقَ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ بَعِيدٍ جِدًّا. وَاحْتَمَلَ الصَّلَاةَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ أَيْ: كُلُّ صَلَاةٍ فَرْضٍ وَتَطَوُّعٍ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْخَمْسُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: وَفَسَّرَ الْإِنْفَاقَ بِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ. وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ سِرًّا وَعَلانِيَةً «٣» وَشَرَحَهَا فِي أَوَاخِرِ البقرة.
(١) سورة الصف: ٦١/ ١٠.
(٢) سورة الصف: ٦١/ ١١.
(٣) سورة الْبَقَرَةِ: ٢/ ٢٧٤.
438
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَيْعُ هُنَا الْبَذْلُ، وَالْخِلَالُ الْمُخَالَّةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ خَالَلْتُ خِلَالًا وَمُخَالَّةً وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْبَذْلِ مُقَابِلَ شَيْءٍ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
صَرَفْتُ الْهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ وَلَا قَالِ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخِلَالُ جَمْعُ خَلَّةٍ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ «١» بِالْفَتْحِ أَوْ بِالرَّفْعِ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) :
كَيْفَ طَابَقَ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ وَصْفَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ؟ (قُلْتُ) : مِنْ قِبَلِ أَنَّ النَّاسَ يُخْرِجُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَيُعْطُونَ بَدَلًا لِيَأْخُذُوا مِثْلَهُ، وَفِي الْمُكَارَمَاتِ وَمُهَادَاةِ الْأَصْدِقَاءِ لِيَسْتَخْرِجُوا بِهَدَايَاهُمْ أَمْثَالَهَا أو خيرا مِنْهَا، وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا كَقَوْلِهِ: وَمَا لا حد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ، فَبَعَثُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوا بَدَلَهُ فِي يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ أَيْ: لَا انْتِفَاعَ فِيهِ بِمُبَايِعَةٍ وَلَا مُخَالَّةٍ، وَلَا بِمَا يُنْفِقُونَ فِيهِ أَمْوَالَهُمْ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُكَارَمَاتِ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ لِوَجْهِ اللَّهِ انْتَهَى. وَلَمَّا أَطَالَ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي وَصْفِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَكَانَ حُصُولُ السَّعَادَةِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَالشَّقَاوَةِ بِالْجَهْلِ، بِذَلِكَ خَتَمَ وَصْفَهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَالَ: الله الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ وَذَكَرَ عَشَرَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ فَذَكَرَ أَوَّلًا إبداعه وإنشاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِبَاقِي الدَّلَائِلِ، وَأَبْرَزَهَا فِي جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ لِيَدُلَّ وَيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ فِي الدَّلَالَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مُتَعَلِّقَاتِهَا مَعْطُوفَاتِ عَطْفِ المفرد على المفرد، وَاللَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، والذي خَبَرُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ أَخْبَرَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَقَرَّرَتْ فِي نَفْسِهِ آمَنَ وَصَلَّى وَأَنْفَقَ انْتَهَى. يُشِيرُ إِلَى مَا تقدم من قَوْلِهِ: إِنَّ مَعْمُولَ قُلْ هو قوله تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ الْآيَةَ.
فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ لِعِبَادِي اللَّهُ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ أَخْرَجَ هُوَ رِزْقًا لَكُمْ، ومن لِلتَّبْعِيضِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى النَّكِرَةِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الرِّزْقَ هُوَ بَعْضُ جَنْيِ الْأَشْجَارِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِرِزْقٍ كَالْمُجَرِّدِ لِلْمَضَرَّاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأَخْرَجَ بِهِ رِزْقًا لَكُمْ هُوَ الثَّمَرَاتُ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ مِنْ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ إِنَّمَا تَأْتِي بَعْد الْمُبْهَمِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَفْعُولَ
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣١.
439
أخرج، ورزقا حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَخْرَجَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى رِزْقٍ.
وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَاجِبٌ، وَبَعْدَهَا مَعْرِفَةٌ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْأَخْفَشِ. وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعُ فُلْكٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لِتَجْرِيَ. وَمَعْنَى بِأَمْرِهِ:
رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِقَوْلِهِ، كُنْ.
وَانْطَوَى فِي تَسْخِيرِ الْفُلْكِ تَسْخِيرُ الْبِحَارِ، وَتَسْخِيرُ الرِّيَاحِ. وَأَمَّا تَسْخِيرُ الْأَنْهَارِ فَبِجَرَيَانِهَا وَبِتَفْجِيرِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا. وَانْتَصَبَ دَائِبَيْنِ عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى: يَدْأَبَانِ فِي سَيْرِهِمَا وَإِنَارَتِهِمَا وَإِصْلَاحِهِمَا مَا يُصْلِحَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَبْدَانِ وَالنَّبَاتِ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ دَائِبَيْنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول إِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ أَنَّ الطَّاعَةَ انْقِيَادٌ مِنْهُمَا فِي التَّسْخِيرِ، فَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ: سَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ أَنَّهَا طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَطَاعَةِ الْعِبَادَةِ مِنَ الْبَشَرِ فَهَذَا جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَتَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَوْنُهُمَا يَتَعَاقَبَانِ خَلْفَهُ لِلْمَنَامِ وَالْمَعَاشِ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُمَا عَرَضَانِ، وَالْأَعْرَاضُ لَا تُسَخَّرُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، وَالْخِطَابُ لِلْجِنْسِ مِنَ الْبَشَرِ أَيْ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ أُوتِيَ مِنْ كل ما شأن أَنْ يَسْأَلَ وَيَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَا يَطَّرِدُ هَذَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ هَذِهِ النِّعَمُ فِي الْبَشَرِ فَيُقَالُ: بِحَسَبِ هَذَا الْجَمِيعِ أُوتِيتُمْ كَذَا عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ لِلنِّعْمَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٌّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ قَائِدٍ، وَقَتَادَةُ، وَسَلَامٌ، وَيَعْقُوبُ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ
، أَيْ: مِنْ كُلِّ هَذِهِ المخلوقات المذكورات. وما مَوْصُولَةٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: مَا شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَلَ بِمَعْنَى يَطْلُبُ الِانْتِفَاعَ بِهِ. وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ مِنْ كُلٍّ كَقَوْلِهِ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «١» أَيْ غَيْرَ سَائِلِيهِ. أَخْبَرَ بِسُبُوغِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يَسْأَلُوهُ مِنَ النِّعَمِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِمَا سَأَلُوهُ. وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَثَنَى بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُظْهِرُ أَنَّهُ مُنَافٍ لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْقِرَاءَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ تَكُونُ مَا نَافِيَةً، فَيَكُونُونَ لَمْ يَسْأَلُوهُ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُونَ قَدْ سَأَلُوهُ، وما بِمَعْنَى الَّذِي. وَأُجِيزَ أَنْ تكون
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٢٣.
440
مَصْدَرِيَّةً، وَيَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِظُهُورِ التَّنَافِي بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ تِلْكَ عَلَى تَقْدِيرٍ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً عَلَى وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَصْلُحْ أَحْوَالُكُمْ وَمَعَائِشُكُمْ إِلَّا بِهِ، فَكَأَنَّكُمْ سَأَلْتُمُوهُ، أَوْ طَلَبْتُمُوهُ بِلِسَانِ الْحَالِ. فَتَأَوَّلَ سَأَلْتُمُوهُ بِقَوْلِهِ: مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي سَأَلْتُمُوهُ إِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ يُرَادُ بِهِ الْمَسْئُولُ. وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي عَادَ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ كُلِّ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ إِيَّاهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ. وَالرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّكَ إِنْ قَدَّرْتَهُ مُتَّصِلًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:
مَا سَأَلْتُمُوهُوهُ، فَلَا يَجُوزُ. أَوْ مُنْفَصِلًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا سَأَلْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَالْمُنْفَصِلُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. وَالنِّعْمَةُ هُنَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، يُقَالُ: أَنْعَمَ إِنْعَامًا وَنِعْمَةً، أُقِيمَ الِاسْمُ مَقَامَ الْإِنْعَامِ كَقَوْلِكَ: أَنْفَقْتُ إِنْفَاقًا وَنَفَقَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النِّعْمَةَ هُوَ الْمُنْعَمُ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ اسْمُ جِنْسٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ بَلْ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَمَعْنَى لَا تحصوها، لَا تُحْصُوهَا، لَا تَحْصُرُوهَا وَلَا تُطِيقُوا عَدَّهَا، هَذَا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَعُدُّوهَا عَلَى الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ، وَحَضَرَ عَذَابُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْجِنْسُ أَيْ: تُوجَدُ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ وَهِيَ:
الظُّلْمُ، وَالْكُفْرُ، يَظْلِمُ النِّعْمَةَ بِإِغْفَالِ شُكْرِهَا، وَيَكْفُرُهَا بِجَحْدِهَا. وَقِيلَ: ظَلُومٌ فِي الشِّدَّةِ فَيَشْكُو وَيَجْزَعُ، كَفَّارٌ فِي النِّعْمَةِ يَجْمَعُ وَيَمْنَعُ. وَفِي النَّحْلِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «١» وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْخَتْمَيْنِ: أَنَّهُ هُنَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَبَعْدَهُ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا، فَكَانَ ذَلِكَ نَصًّا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْقَبَائِحِ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالظُّلْمِ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ، بِجَعْلِ الْأَنْدَادِ نَاسَبَ أَنْ يحتم بِذَمِّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَجَاءَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ. وَأَمَّا فِي النَّحْلِ فَلَمَّا ذَكَرَ عِدَّةَ تَفَضُّلَاتٍ، وَأَطْنَبَ فِيهَا، وَقَالَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «٢» أَيْ: مَنْ أَوْجَدَ هَذِهِ النِّعَمَ السَّابِقَ ذِكْرُهَا لَيْسَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، ذَكَرَ مِنْ تَفَضُّلَاتِهِ اتِّصَافَهُ بِالْعَذَابِ وَالرَّحْمَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا، كَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْخَلْقِ، فَفِي ذَلِكَ إِطْمَاعٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ. وَانْتَقَلَ مِنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى عِبَادَةِ الْخَالِقِ أَنَّهُ
(١) سورة النحل: ١٦/ ١٨.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٧.
441
يَغْفِرُ زَلَلَهُ السَّابِقَ وَيَرْحَمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالنِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ، ذَكَرَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمُنْعِمِ، وَمِنْ جِنْسِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ مِنَ الْمُنْعِمِ مَا يُنَاسِبُهُ حَالَةَ عَطَائِهِ وَهُوَ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، إِذْ لَوْلَاهُمَا لَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَحَصَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مَا يُنَاسِبُهُ حَالَةَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْكُفْرَانُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ ظُلْمٌ فَاللَّهُ غَفُورٌ، أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَةٍ فَاللَّهُ رَحِيمٌ، لِعِلْمِهِ بِعَجْزِ الْإِنْسَانِ وَقُصُورِهِ. وَدَعْوَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بآية النَّحْلِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ السَّخَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيد بن أسلم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٥٢]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩)
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
442
جَنَبَ مُخَفَّفًا، وَأَجْنَبَ رُبَاعِيًّا لُغَةُ نَجْدٍ، وَجَنَّبَ مُشَدَّدًا لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: مَنَعَ، وأصله من الْجَانِبُ. الْهَوَى: الْهُبُوطُ بِسُرْعَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا رُمِيَتْ بِهِ الْفِجَاجُ رَأَيْتَهُ تَهْوِي مَخَارِمُهَا هَوَى الْأَجْدَلِ
شَخَصَ الْبَصَرُ أَحَدَ النَّظَرِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي مَكَانِهِ. الْمُهْطِعُ: الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِمُهْطِعٍ سَرَحَ كَأَنَّ عِنَانَهُ فِي رَأْسِ جِذْعٍ مَنْ أَرَاكٍ مُشَذَّبِ
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ:
إِذَا دَعَانَا فَأُهْطِعْنَا لِدَعْوَتِهِ دَاعٍ سُمَيْعٍ فَلَبَوْنَا وَسَاقُونَا
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ يَكُونُ الْإِهْطَاعُ الْإِسْرَاعُ وَإِدَامَةُ النَّظَرِ. الْمُقْنِعُ: هُوَ الرَّافِعُ رَأْسَ الْمُقْبِلِ بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْقُتَبِيُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يُبَاكِرُنَّ الْعُصَاةَ بِمُقْنِعَاتٍ نَوَاجِذُهُنَّ كالحدإ الوقيع
نصف الْإِبِلَ بِالْإِقْنَاعِ عِنْدَ رَعْيِهَا أَعَالِيَ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ: أَقْنَعَ رَأْسَهُ نَكَّسَهُ وَطَأْطَأَهُ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى رَفَعَ أَعْرَفَ فِي اللُّغَة انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنْهُ قَنِعَ الرَّجُلُ إِذَا رَضِيَ، كَأَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السُّؤَالِ. وَفَمٌ مُقْنِعٌ مَعْطُوفَةٌ أَسْنَانُهُ إِلَيْهِ دَاخِلًا، وَرَجُلٌ مُقَنِّعٌ بِالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ بَيْضَةُ الرَّأْسِ مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَرْؤُسٍ. الطَّرْفُ: الْعَيْنُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا
وَيُقَالُ: طَرَفَ الرَّجُلُ طَبَّقَ جَفْنَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَسُمِّيَ الْجَفْنُ طَرَفًا لِأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ
443
ذَلِكَ. الْهَوَاءُ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْخَلَاءُ الَّذِي لَمْ تَشْغَلُهُ الْأَجْرَامُ الْكَثِيفَةُ، وَاسْتُعِيرَ لِلْجَبَانِ فَقِيلَ: قَلْبُ فُلَانٍ هَوَاءٌ. وَقَالَ الشاعر:
كأن الرحل مِنْهَا فَوْقَ صَعْلٍ مِنَ الظُّلُمَاتِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ
الْمُقَرَّنُ: الْمَشْدُودُ فِي الْقَرْنِ، وَهُوَ الْحَبْلُ. الصَّفَدُ: الْغُلُّ، وَالْقَيْدُ يُقَالُ: صَفَدَهُ صَفْدًا قَيَّدَهُ، وَالِاسْمُ الصَّفْدُ، وَفِي التَّكْثِيرِ صَفَّدَهُ مُشَدَّدًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَبْقَى بِالْمُلُوكِ مُصْفِدِينَا وَأَصْفَدْتُهُ: أَعْطَيْتُهُ. وَقِيلَ: صَفَّدَ وَأَصْفَدَ مَعًا فِي الْقَيْدِ وَالْإِعْطَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فلم أَعْرِضْ أَبَيْتُ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ أَيْ: بِالْعَطَاءِ. وَسُمِّيَ الْعَطَاءُ صَفَدًا لأنه يقيده وَيُعْبَدُ. السِّرْبَالُ: الْقَمِيصُ، يُقَالُ: سَرْبَلْتُهُ فَتَسَرْبَلَ. الْقَطِرَانُ: مَا يُحْلَبُ مِنْ شَجَرِ الْأَبْهَلِ فَيُطْبَخُ، وَتَهْنَأُ بِهِ الْإِبِلُ الْجَرْبَى، فَيُحْرَقُ الْجَرَبُ بِحَرِّهِ وَحِدَّتِهِ، وَهُوَ أَقْبَلُ الْأَشْيَاءِ اشْتِعَالًا، وَيُقَالُ فِيهِ قَطْرَانٌ بِوَزْنِ سَكْرَانَ، وَقِطْرَانٌ بِوَزْنِ سِرْحَانٍ.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّعْجِيبَ مِنَ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِسْكَانُهُ إِيَّاهُمْ حَرَمَهُ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَعَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ آمِنَةً، وَدَعَا بِأَنْ يُجَنِّبَ بَنِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ وَذُرِّيَّتَهُ فِي بَيْتِهِ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الصَّلَاةُ، لِيَنْظُرُوا فِي دِينِ أَبِيهِمْ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيَزْدَجِرُوا وَيَرْجِعُوا عَنْهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ هُنَا هَذَا الْبَلَدُ مُعَرَّفًا، وَفِي الْبَقَرَةِ مُنْكَرًا «١».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا سَأَلَ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَادِ الَّتِي يَأْمَنُ أَهْلُهَا وَلَا يَخَافُونَ، وَفِي الثَّانِي أَنْ يخرجه مِنْ صِفَةٍ كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْخَوْفِ إِلَى ضِدِّهَا مِنَ الْأَمْنِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ بَلَدٌ مَخُوفٌ، فَاجْعَلْهُ آمِنًا انْتَهَى. وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢٦.
444
وَهُوَ كَوْنُ مَحَلِّ الْعَابِدِ آمِنًا لَا يَخَافُ فِيهِ، إِذْ يَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ دَعَا ثَانِيًا بِأَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَمَعْنَى وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ: أَدِمْنِي وَإِيَّاهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَبَنِيَّ أَوْلَادَهُ، مِنْ صُلْبِهِ الْأَقْرِبَاءِ. وَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا، وَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ الْأَقْرِبَاءِ لِصُلْبِهِ صَنَمًا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَدْ سُئِلَ، كَيْفَ عَبَدَتِ الْعَرَبُ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ: مَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ صَنَمًا وَكَانُوا ثَمَانِيَةً، إِنَّمَا كَانَتْ لهم حجارة ينصبوها وَيَقُولُونَ: حَجَرٌ، فَحَيْثُ مَا نَصَبُوا حَجَرًا فَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيْتِ، فَكَانُوا يَدُورُونَ بِذَلِكَ الْحَجَرِ وَيُسَمُّونَهُ الدُّوَارَ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتَضِي إِفْرَاطَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ حَصَلَ فِي رُتْبَتِهِ فَكَيْفَ يَخَافُ أَنْ يَعْبُدَ صَنَمًا؟ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهَا فِي الْخَوْفِ وَطَلَبِ الْخَاتِمَةِ. وَكَرَّرَ النِّدَاءَ اسْتِعْطَافًا لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ سَبَبَ طَلَبِهِ: أَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، إِذْ قَدْ شَاهَدَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَمَعْنَى أَضْلَلْنَا: كُنَّا سَبَبًا لِإِضْلَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ضَلُّوا بِعِبَادَتِهَا، كَمَا تَقُولُ: فِتْنَتُهُمُ الدُّنْيَا أَيِ: افْتَتَنُوا بِهَا، وَاغْتَرُّوا بِسَبَبِهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: وَأَجْنِبْنِي مِنْ أَجْنَبَ، وَأَنَّثَ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ كَمَا تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ إِخْبَارُ جَمْعِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالْوَاوِ وَمَجَازٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا. فَمَنْ تَبِعَنِي أَيْ: عَلَى دِينِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنِّي. جَعَلَهُ لِفَرْطِ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَمُلَابَسَتِهِ
كَقَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
أَيْ لَيْسَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى تَعْظِيمِ الْغِشِّ بِحَيْثُ هُوَ يَسْلُبُ الْغَاشَّ الْإِيمَانَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَمَنْ عَصَانِي، هَذَا فِيهِ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ طَاعَةٌ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَنْ عَصَانِي فَيُحَادُّونَ الشِّرْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَغْفِرُ لِي مَا سَلَفَ مِنَ الْعِصْيَانِ إِذَا بَدَا لِي فِيهِ وَاسْتَحْدَثَ الطَّاعَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ عَصَانِي ظَاهِرُهُ بِالْكُفْرِ لِمُعَادَلَةِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَعْنَاهُ حِين يُؤْمِنُوا، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ كَافِرٍ، لَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا كَانَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالنُّطْقِ الْحَسَنِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «١».
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٨.
445
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ: كَرَّرَ النِّدَاءَ رَغْبَةً فِي الْإِجَابَةِ وَإِظْهَارًا لِلتَّذَلُّلِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَتَى بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَذَكَرَ بَنِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُ. وَذَلِكَ هَاجَرُ لَمَّا وَلَدَتْ إِسْمَاعِيلَ غَارَتْ مِنْهَا سَارَّةُ،
فَرُوِيَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاقَ هُوَ وَهَاجَرُ وَالطِّفْلُ، فَجَاءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَمَتَهُ هُنَالِكَ، وَرَكِبَ مُنْصَرِفًا مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ
، وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا وَلِيَ دَعَا بِمَا فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ بَقَاءِ هَاجَرَ وَمَا جَرَى لَهَا وَلِإِسْمَاعِيلَ هُنَاكَ فَفِي كِتَابِ البخاري والسير وغيره. ومن لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ إِسْحَاقَ كَانَ فِي الشَّامِ، وَالْوَادِي مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، لِأَنَّهُ كَانَ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ هَاجَرَ وَابْنَهَا فِي ذَلِكَ الْوَادِي، وَأَنَّهُ يَرْزُقُهَا الْمَاءَ، وَإِنَّمَا نَظَرَ النَّظَرَ الْبَعِيدَ فَقَالَ: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَقَالَ: غَيْرِ ذِي مَاءٍ، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُ الْوَادِي عِنْدَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ ذَا زَرْعٍ مُسْتَلْزِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ زَرْعٌ إِلَّا حَيْثُ وُجِدَ الْمَاءُ، فَنَفَى مَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْمَاءِ وَهُوَ الزَّرْعُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَاءُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِوَادٍ هُوَ وَادِي مَكَّةَ، غَيْرِ ذِي زَرْعٍ: لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ زَرْعٍ قَطُّ كَقَوْلِهِ:
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ «١» بِمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيهِ اعْوِجَاجٌ، مَا فِيهِ إِلَّا اسْتِقَامَةٌ لَا غَيْرَ انْتَهَى. وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ وَهِيَ ظَرْفٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمَاضِي مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: لَا يَكُونُ، وَلَيْسَ هُوَ مَاضِيًا، وَهُوَ مَكَانُ أَبَدًا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مَعَ غَيْرِ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْتِ حَالَةَ الدُّعَاءِ، وَسَبَقَهُ قِبَلَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَيْتِ وَمَتَى وُضِعَ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ. وَوُصِفَ بِالْمُحَرَّمِ لِكَوْنِهِ حُرِّمَ عَلَى الطُّوفَانِ أَيْ: مُنِعَ مِنْهُ، كَمَا سُمِّيَ بِعَتِيقٍ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ عَزِيزًا مُمَنَّعًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُحْتَرَمًا لَا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دُعَاءٌ مُعْتَرِضٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَا يَخْلُو هَذَا الْبَيْتُ الْمُعَظَّمُ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ، دَعَا لَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَخَصَّ الصَّلَاةَ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا أَفْضَلُهَا، أَوْ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ. وَقَوْلُهُ: لِيُقِيمُوا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُهُ بِأَنَّ
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٢٨.
446
هَذَا الطِّفْلَ سَيُعَقَّبُ هُنَالِكَ، وَيَكُونُ لَهُ نَسْلٌ. وَأَفْئِدَةٌ: جَمْعُ فُؤَادٍ وَهِيَ الْقُلُوبُ، سمي القلب فؤاد لإنفاده مَأْخُوذٌ مِنْ فَأَدَ، وَمِنْهُ الْمُفْتَأَدُ، وَهُوَ مُسْتَوْقَدُ النَّارِ حَيْثُ يُشْوَى اللَّحْمُ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ الْأَفْئِدَةُ: الْقَطْعُ مِنَ النَّاسِ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ بَحْرٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفْئِدَةُ النَّاسِ، لَازْدَحَمَتْ عَلَى الْبَيْتِ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَحَجَّتْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَفْئِدَةٌ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِكَ: الْقَلْبُ مِنِّي سَقِيمٌ يُرِيدُ قَلْبِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْئِدَةُ نَاسٍ، وَإِنَّمَا نَكَّرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ لِتَنْكِيرِ أَفْئِدَةٍ، لِأَنَّهَا فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ لِتَتَنَاوَلَ بَعْضَ الْأَفْئِدَةِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَ لَنَا فِعْلٌ يُبْتَدَأُ فِيهِ لِغَايَةٍ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، إِذْ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً جَعْلُ الْأَفْئِدَةِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي مِنْ التبعيض. وقرأ هشام: أفئدة بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحُلْوَانِيُّ عَنْهُ وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى الْإِشْبَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ هِشَامًا قَرَأَ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ كَالْيَاءِ، فَعَبَّرَ الرَّاوِي عَنْهَا بِالْيَاءِ، فَظَنَّ مَنْ أَخْطَأَ فَهْمَهُ أَنَّهَا بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَالْمُرَادُ بِيَاءٍ عِوَضًا مِنَ الْهَمْزَةِ، قَالَ: فَيَكُونُ هَذَا التَّحْرِيفُ مِنْ جِنْسِ التَّحْرِيفِ الْمَنْسُوبِ إِلَى مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بَارِئُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ، وَنَحْوُهُ بِإِسْكَانِ حَرَكَةِ لإعراب، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَاسًا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالدَّانِيُّ الْحَافِظُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّقَلَةَ عَنْ هشام وأبي عمرو كانوا مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْقِرَاءَةِ وَوُجُوهِهَا، وَلَيْسَ يُفْضِي بِهِمُ الْجَهْلُ إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ فيهم مثل هذا وقرىء آفِدَةً: عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ لِلْحَذْفِ مَنْ أَفِدَ أَيْ دَنَا وَقَرُبَ وَعَجِلَ أَيْ: جَمَاعَةٌ آفِدَةٌ، أَوْ جَمَاعَاتٌ آفِدَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعُ ذَلِكَ فُؤَادٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، وَصَارَ بِالْقَلْبِ أَأْفِدَةً، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ أَلِفًا كَمَا قَالُوا. فِي آرَآمٍ أَأْرَامٍ، فَوَزْنُهُ أعفلة. وقرىء أَفِدَّةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِلَّةٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ فُؤَادٍ وَذَلِكَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ هُوَ الْوَجْهَ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِل مِنْ أَفِدَ كَمَا تَقُولُ: فَرِحَ فَهُوَ فَرِحٌ. وَقَرَأَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ: أَفْوِدَةٌ بِالْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ جَمْعُ وَفَدٍ، وَالْقِرَاءَةُ حَسَنَةٌ: لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، بَلْ ذَكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ انْتَهَى. أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ فِي فُؤَادٍ بَعْدَ الضَّمَّةِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي جَوْنٍ، ثُمَّ جَمَعَ فَأَقَرَّهَا فِي الْجَمْعِ إِقْرَارَهَا فِي المفرد. أو هو جَمْعُ وَفَدٍ كَمَا قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَلَبَ إِذِ الْأَصْلُ أَوْفَدَهُ. وَجَمْعَ فَعْلٍ عَلَى أَفْعِلَةٍ شَاذٌّ نَحْوَ: نَجْدٍ وَأَنْجِدَةٍ، وَوَهْيٍ وَأَوْهِيَةٍ. وَأُمُّ الْهَيْثَمِ امْرَأَةٌ نُقِلَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ
447
عَلِيٍّ: إِفَادَةٌ عَلَى وَزْنِ إِشَارَةٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ كَمَا قَالُوا: إِشَاحٌ فِي وِشَاحٍ، فَالْوَزْن فِعَالَةٌ أَيْ: فَاجْعَلْ ذَوِي وِفَادَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ أَفَادَ إِفَادَةً، أَوْ ذَوِي إِفَادَةٍ، وَهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يُفِيدُونَ وَيُنْتَفَعُ بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَهْوِي إِلَيْهِمْ أَيْ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ وَتَطِيرُ نَحْوَهُمْ شَوْقًا وَنِزَاعًا، وَلَمَّا ضَمَّنَ تَهْوِي مَعْنَى تَمِيلُ عَدَّاهُ بِإِلَى، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيدِ بِهَا طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا تَبْكِ
وَمِثَالُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا مُؤْمِنُ الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: تُهْوَى بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَهْوَى الْمَنْقُولَةِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مِنْ هَوَى اللَّازِمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُسْرِعُ بِهَا إِلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُجَاهِدٌ: تَهْوَى مُضَارِعُ هَوَى بِمَعْنَى أَحَبَّ
، وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى النُّزُوعِ وَالْمَيْلِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَعَ سُكَّانِهِمْ وَادِيًا مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَنْ يُجْلَبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ كَقَوْلِهِ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «١»
وَرُوِيَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِفِيِّ أَنَّهُ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَرْزُقَ سُكَّانَ مَكَّةَ الثَّمَرَاتِ، بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاقْتَلَعَ بِجَنَاحِهِ قِطْعَةٌ مِنْ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: مِنَ الْأُرْدُنِّ فَجَاءَ بِهَا، وَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعًا، وَوَضَعَهَا قَرِيبَ مَكَّةَ فَهِيَ الطَّائِفُ.
وَبِهَذِهِ الْقِصَّةِ سُمِّيَتْ وَهِيَ مَوْضِعُ ثَقِيفٍ، وَبِهَا أَشْجَارٌ وَثَمَرَاتٌ. وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ النِّعْمَةُ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ حَاضِرَةً فِي وَادٍ بِبَابٍ لَيْسَ فِيهِ نَجْمٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا، ثُمَّ فَضَّلَهُ فِي وُجُودِ أَصْنَافِ الثِّمَارِ فِيهِ عَلَى كُلِّ رِيفٍ، وَعَلَى أَخْصَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا ثِمَارًا، وَفِي أَيِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ تَرَى الْأُعْجُوبَةَ الَّتِي يُرِيكُهَا اللَّهُ.
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَهِيَ: اجْتِمَاعُ الْبَوَاكِيرِ وَالْفَوَاكِهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَزْمَانِ مِنَ الرَّبِيعِيَّةِ وَالصَّيْفِيَّةِ وَالْخَرِيفِيَّةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ بِعَجِيبٍ.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٥٧.
448
السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ: كَرَّرَ النِّدَاءَ لِلتَّضَرُّعِ وَالِالْتِجَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَفَاوُتٌ بَيْنَ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى جَمْعِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ عَامٌّ فِيمَا يُخْفُونَهُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ. وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنَ الْوَجْدِ لِمَا وَقَعَ بَيْنَنَا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَمَا نُعْلِنُ مِنَ الْبُكَاءِ وَالدُّعَاءِ.
وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنْ كَآبَةِ الِافْتِرَاقِ، وَمَا نُعْلِنُ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَاجَرَ حِينَ قَالَتْ لَهُ عِنْدَ الْوَدَاعِ: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَكِلُكُمْ. قَالَتْ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ:
لَا نَخْشَى تَرَكْتَنَا إِلَى كَافٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِاكْتِنَافِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّمَ مَا يَخْفَى هُوَ وَمَنْ كَنَّى عَنْهُ، تَمَّمَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ خَافِيَةٍ عَنْهُ تَعَالَى. وَقِيلَ:
وَمَا يَخْفَى الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «١» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ مَا وَقَعَ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَةَ دُعَائِهِ، إِذْ تَرَكَ هاجر والطفل بِمَكَّةَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْدَهُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هِبَةِ وَلَدَيْهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ إِسْحَاقَ، وَعَلَى الْكِبَرِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي وُهِبَ لَهُ فِيهَا وَلَدَاهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقِيلَ: إِسْمَاعِيلُ لِأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَإِسْحَاقُ لِتِسْعِينَ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لَهُ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْكِبَرِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِيهَا بِهِبَةِ الْوَلَدِ أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكِبَرَ مَظِنَّةُ الْيَأْسِ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ مَجِيءَ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِيَاسِ أَحْلَى فِي النَّفْسِ وَأَبْهَجُ لَهَا. وَعَلَى الْكِبَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ قال: وأنا كبير، وعلى عَلَى بَابِهَا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ لَكِنَّهُ مَجَازٌ، إِذِ الْكِبَرُ مَعْنَى لَا جَرَمَ يَتَكَوَّنُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَسَنَّ وَكَبِرَ صَارَ مُسْتَعْلِيًا عَلَى الْكِبَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى فِي قَوْلِهِ عَلَى الْكِبَرِ بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ:
إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْكَتِفُ
وَكَنَّى بِسَمِيعِ الدُّعَاءِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَالتَّقَبُّلِ، وَكَانَ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ يهبه ولدا بقوله:
(١) سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ٢٦/ ٧٤. [.....]
449
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «١» فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَهُ مِنَ الْوَلَدِ وَأَكْرَمَهُ بِهِ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ.
وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ سَمِيعٍ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمِثَالِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ إِضَافَةً مِنْ نَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى إِعْمَالِ فَعِيلٍ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَفْعُولِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِيهِ. وَفِي إِعْمَالِ بَاقِي الْخَمْسَةِ الْأَمْثِلَةِ فَعُولٍ، وَفَعَّالٍ، وَمِفْعَالٍ، وَفَعِلٍ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا لَيْسَ ذَلِكَ إِضَافَةً مِنْ نَصْبٍ فَيَلْزَمُ جَوَازُ إِعْمَالِهِ، بَلْ هِيَ إِضَافَةٌ كَإِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ: هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ فَعِيلٍ إِلَى فَاعِلِهِ، وَيَجْعَلُ دُعَاءَ اللَّهِ سَمِيعًا عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَالْمُرَادُ: سَمَاعُ اللَّهِ انْتَهَى. وَهُوَ بَعِيدٌ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصفة الْمُشَبَّهَةِ، وَالصِّفَةُ مُتَعَدِّيَةٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عِنْد أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَبْسٌ.
وَأَمَّا هُنَا فَاللَّبْسُ حَاصِلٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمِثَالِ لِلْمَفْعُولِ، لَا مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ فِي مِثْلِ: زَيْدٌ ظَالِمُ الْعَبِيدِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ لَهُ عَبِيدًا ظَالِمِينَ.
وَدُعَاؤُهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُقِيمُهَا، إِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الدَّيْمُومَةَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ أُعْلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ كَافِرًا، أَوْ مَنْ يُهْمِلُ إِقَامَتَهَا وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: دُعَاءُ رَبِّنَا بِغَيْرِ يَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ فِي الْوَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْوَقْفِ. وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ: إِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ الْمَغْفِرَة لِأَبَوَيْهِ الْقَرِيبَيْنِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مُؤْمِنَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ إِيمَانِهِ وَلَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ عَدَاوَةُ اللَّهِ، وَهَذَا يَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ كَانَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَ هُنَا أَشْيَاء مِمَّا كَانَ دَعَا بِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ أُمَّهُ، وَنُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ جَاءَ نَصًّا دُعَاؤُهُ لِأَبِيهِ بِالْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «٢».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ وَكَانَا كَافِرَيْنِ؟
(قُلْتُ) : هُوَ مِنْ تَجْوِيزَاتِ الْعَقْلِ، لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ جَوَازِهِ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ انْتَهَى. وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ.
وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدٌ، وَزَيْدٌ:
رَبَّنَا عَلَى الْخَبَرِ.
وَابْنُ يَعْمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: وَلِوَلَدَيَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِفَتْحِ اللَّامِ يَعْنِي:
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٠٠.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٦.
450
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَأَنْكَرَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: إن فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: وَلِأَبَوِيَّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: وَلِوُلْدَيَّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ وَلَدٍ كَأَسُدٍ فِي أَسَدٍ، ويكون قد دعا لذريته، وَأَنْ يَكُونَ لُغَةً فِي الْوَلَدِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيْتَ زِيَادًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَلَيْتَ زِيَادًا كَانَ وَلَدَ حِمَارٍ
كَمَا قَالُوا: الْعَدَمُ وَالْعُدْمُ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَلِوَالِدِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ كَقَوْلِهِ:
وَاغْفِرْ لِأَبِي، وَقِيَامُ الْحِسَابِ مَجَازٌ. عَنْ وُقُوعِهِ وَثُبُوتِهِ كَمَا يُقَالُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَهْلِ الْحِسَابِ كما قال: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «١».
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ، لِلسَّامِعِ الَّذِي يُمْكِنُ مِنْهُ حُسْبَانُ مِثْلِ هَذَا لِجَهْلِهِ بِصِفَاتِ اللَّهِ، لا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِلظَّالِمِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَلَا تَحْسَبْ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَكَذَا فَلَا تَحْسَبِ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِهِ غَافِلًا الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «٢» يُرِيدُ الْوَعِيدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُ، يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْغَافِلِ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنْ مُعَامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمُ الْمُحَاسِبِ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ وَعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهَارُونَ الْعَتَكِيِّ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَنُؤَخِّرُهُمْ بِنُونِ الْعَظْمَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ أَيْ: يُؤَخِّرُهُمُ اللَّهُ. مُهْطِعِينَ مُسْرِعِينَ، قَالَهُ:
ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ. وَذَلِكَ بِذِلَّة وَاسْتِكَانَةٍ كَإِسْرَاعِ الْأَسِيرِ وَالْخَائِفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الضُّحَى: شَدِيدِي النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْرُقُوا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: غير رافعي رؤوسهم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَدَّ يَمِينِ النَّظَرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُقْبِلِينَ للإصغاء، وأنشد:
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ
وَقَالَ الحسن: مقنعي رؤوسهم وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَى السَّمَاءِ، لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَوَاءٌ صُفْرٌ مِنَ الْخَيْرِ خَاوِيَةٌ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَوْفٌ لا عقول
(١) سورة المطففين: ٨٣/ ٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٣.
451
لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: خَرِبَةٌ خَاوِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ وَلَا عَقْلٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ: خَالِيَةٌ إِلَّا مِنْ فَزَعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا، أَيْ: إِلَّا مِنْ هَمِّ مُوسَى. وَهَوَاءٌ تَشْبِيهٌ مَحْضٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِهَوَاءٍ حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي فَرَاغِهَا مِنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي الرَّحْمَةِ، فَهِيَ منحرقة مُشْبِهَةُ الْهَوَاءِ فِي تَفَرُّغِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَانْخِرَاقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي اضْطِرَابِ أَفْئِدَتِهِمْ وَجَيَشَانِهَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهَا تَجِيءُ وَتَذْهَبُ وَتَبْلُغُ عَلَى مَا رَوى حَنَاجِرَهُمْ، فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ أَبَدًا فِي اضْطِرَابٍ. وَحُصُولُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ لِلظَّالِمِينَ قَبْلَ الْمُحَاسَبَةِ بِدَلِيلِ ذِكْرِهَا عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ. وَقِيلَ: عِنْدَ إِجَابَةِ الدَّاعِي، وَالْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: عِنْدَ ذَهَابِ السُّعَدَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَشْقِيَاءِ إِلَى النَّارِ.
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ،. وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لا نذر، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَيْسَ بِزَمَانٍ لِلْإِنْذَارِ، وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْمَعْنَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ الظَّالِمِينَ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبَشِّرُونَ وَلَا يُنْذِرُونَ. وَقِيلَ: الْيَوْمُ يَوْمُ هَلَاكِهِمْ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، أَوْ يَوْمُ مَوْتِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِشِدَّةِ السَّكَرَاتِ، وَلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ بِلَا بُشْرَى كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ «١» وَمَعْنَى التَّأَخُّرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ الرَّدُّ إِلَى الدُّنْيَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، إِذِ الْإِمْهَالُ إِلَى أَمَدٍ وَحَدٍّ مِنَ الزَّمَانِ قَرِيبٌ قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَيْ: لِتَدَارُكِ مَا فَرَّطُوا مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ. أَوْ لَمْ تَكُونُوا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ فَيُقَالُ لَهُمْ، وَالْقَائِلُ الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْقَائِلُ اللَّهُ تَعَالَى. يُوَبِّخُونَ بِذَلِكَ، وَيَذْكُرُونَ مَقَالَتَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَإِقْسَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «٢» وَمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ، مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْ:
لَا نُبْعَثُ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي النَّارِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ: أَوْ لَمْ تَكُونُوا، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ بَطَرًا وَأَشَرًا، وَلِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ من عادة الجهل
(١) سورة المنافقون: ٦٣/ ١٠.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٣٨.
452
وَالسَّفَهِ. وَأَنْ يَقُولُوا بِلِسَانِ الْحَالِ حَيْثُ بَنَوْا شَدِيدًا، وَأَمْلَوْا بَعِيدًا. وَمَا لَكُمْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: أَقْسَمْتُمْ، وَلَوْ حَكَى لَفْظَ الْمُقْسِمِينَ لَقِيلَ: مَا لَنَا مِنْ زَوَالٍ، وَالْمَعْنَى: أَقْسَمْتُمْ أَنَّكُمْ بَاقُونَ فِي الدُّنْيَا لَا تَزُولُونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ، وَقِيلَ: لَا تَنْتَقِلُونَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ لَمْ تَكُونُوا مَحْكِيًّا بِقَوْلِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لَا يَزُولُونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَقَوْلُهُ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَسَكَنْتُمْ إِنْ كَانَ مِنَ السُّكُونِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَرُّوا فِيهَا وَاطْمَأَنُّوا طَيِّبِي النُّفُوسِ سَائِرِينَ بِسَيْرَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، لَا يُحَدِّثُونَهَا بِمَا لَقِيَ الظَّالِمُونَ قَبْلَهُمْ. وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّكْنَى، فَإِنَّ السُّكْنَى مِنَ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ اللُّبْثُ، وَالْأَصْلُ تَعْدِيَتُهُ بفي كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ فِي الدَّارِ وَقَرَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ عَلَى سُكُونٍ خَاصٍّ تَصَرَّفَ فِيهِ، فَقِيلَ: سَكَنَ الدَّارَ كَمَا قِيلَ: تَبَوَّأَهَا، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بِالْخَبَرِ وَبِالْمُشَاهَدَةِ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالِانْتِقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَبَيَّنَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَيْ:
وَتَبَيَّنَ لَكُمْ هُوَ أَيْ حَالُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ كَيْفَ، لِأَنَّ كَيْفَ إِنَّمَا تَأْتِي اسْمَ اسْتِفْهَامٍ أَوْ شَرْطٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ شَاذًّا مِنْ دُخُولِ عَلَى عَلَى كَيْفَ فِي قَوْلِهِمْ: عَلَى كيف تبيع الأحمرين، وإلى فِي قَوْلِهِمْ: أَنْظُرُ إِلَى كَيْفَ تَصْنَعُ، وَإِنَّمَا كَيْفَ هُنَا سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَعَلْنَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ:
وَنُبَيِّنُ بِضَمِّ النُّونِ، وَرَفْعِ النُّونِ الْأَخِيرَةِ مُضَارِعُ بَيَّنَ، وَحَكَاهَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ السُّلَمِيِّ: إِنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ جَزَمَ النُّونَ عطفا على أو لم تَكُونُوا أَيْ: وَلَمْ نُبَيِّنْ فَهُوَ مُشَارِكٌ فِي التَّقْرِيرِ. وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ أَيْ: صِفَاتِ مَا فَعَلُوا وَمَا فُعِلَ بِهِمْ، وَهِيَ فِي الْغَرَابَةِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِكُلِّ ظَالِمٍ.
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ:
الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَكَرُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ:
453
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ «١» أَيْ مَكَرُوا بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ «٢» أَيْ: وَقَدْ مَكَرَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «٣» الْآيَةَ وَمَعْنَى مَكْرُهُمْ أَيِ: الْمَكْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ جُهْدَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مَقُولًا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلظَّلَمَةِ الَّذِينَ سَكَنَ فِي مَنَازِلِهِمْ. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أَيْ: عِلْمُ مَكْرِهِمْ فَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُنَفِّذُ لَهُمْ فِيهِ قَصْدًا، وَلَا يُبَلِّغُهُمْ فِيهِ أَمَلًا أَوْ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُهُ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ إِضَافَةُ مَكْرٍ وَهُوَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ، كَمَا هُوَ مُضَافٌ فِي الْأَوَّلِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعِنْدَ اللَّهِ مَا مَكَرُوا أَيْ مَكْرُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهُمْ بِهِ، وَهُوَ عَذَابُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، يَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ كَانَ مَكْرٌ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ هُوَ، إِذْ قُدِّرَ يَمْكُرُهُمْ بِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ مَكَرَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ بِنَفْسِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «٤» وَتَقُولُ: زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِهِ، وَلَا يُحْفَظُ زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِسَبَبِ كَذَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ.
وَقَرَأَ عَمْرٌو، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَإِنْ كَادَ بِدَالٍ مَكَانَ النُّونِ لَتَزُولُ بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ
، وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْكِسَائِيُّ كذلك، إلا أنهم قرأوا وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ، فَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا. فَمَنْ قَرَأَ كَادَ بِالدَّالِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْرُبُ زَوَالُ الْجِبَالِ بِمَكْرِهِمْ، وَلَا يَقَعُ الزَّوَالُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ كَانَ بِالنُّونِ، يَكُونُ زَوَالُ الْجِبَالِ قَدْ وَقَعَ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ مَكْرِهِمْ وَشِدَّتُهُ، وَهُوَ بِحَيْثُ يَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ وَتَنْقَطِعُ عَنْ أَمَاكِنِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لِتَزُولَ لَيَقْرُبُ زَوَالُهَا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كَمَعْنَى قِرَاءَةِ كَادَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَلَوْلَا كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الْجِبَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهَا لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
وَإِنْ كَانَ بِالنُّونِ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ بكسر اللام،
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٤٤.
(٢) سورة ابراهيم: ١٤/ ٤٤.
(٣) سورة الأنفال: ٨/ ٣٠.
(٤) سورة الأنفال: ٨/ ٣٠.
454
وَنَصْبِ الْأَخِيرَةِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيٍّ
، وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِهَا. فَعَنِ الْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ، وكان تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: وَتَحْقِيرُ مَكْرِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِتَزُولَ مِنْهُ الشَّرَائِعُ وَالنُّبُوَّاتُ وَأَقْدَارُ اللَّهِ الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ فِي ثُبُوتِهَا وَقُوَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَا كَانَ بِمَا النَّافِيَةِ: لَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِرَاءَةِ وَمَا بِالنَّفْيِ، يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، لِأَنَّ فِيهَا تَعْظِيمَ مَكْرِهِمْ، وَفِي هَذَا تَحْقِيرُهُ.
وَيُحْتَمَلُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا نَافِيَةٌ أَنْ تَكُونَ كَانَ نَاقِصَةً، وَاللَّامُ لَامُ الْجُحُودِ، وَخَبَرُ كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: أَهْوَ مَحْذُوفٌ؟ أَوْ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ؟ وَعَلَى أَنَّ إِنْ نَافِيَةٌ وَكَانَ نَاقِصَةٌ، وَاللَّامُ فِي لِتَزُولَ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، خَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَإِنْ عَظُمَ مَكْرُهُمْ وَتَتَابَعَ فِي الشِّدَّةِ بِضَرْبِ زَوَالِ الْجِبَالِ مِنْهُ مَثَلًا لِتَفَاقُمِهِ وَشِدَّتِهِ أَيْ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ مُسْتَوٍ لِإِزَالَةِ الْجِبَالِ مُعَدًّا لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى تَعْظِيمِ مَكْرِهِمْ أَيْ: وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا بِمَا يَفْعَلُ لِيَذْهَبَ بِهِ عِظَامُ الْأُمُورِ انْتَهَى. وَعَلَى تَخْرِيجِ هَذَيْنِ تَكُونَ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَكَانَ هِيَ النَّاقِصَةُ. وعلى هذا التخريج تنفق مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ أَوْ تَتَقَارَبُ، وَعَلَى تَخْرِيجِ النَّفْيِ تَتَعَارَضُ كما ذكرنا. وقرىء لتزول بفتح اللام الأولى وَنَصْبِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ فَتَحَ لَامَ كَيْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ زَوَالَ الْجِبَالِ مَجَازٌ ضُرِبَ مَثَلًا لِمَكْرِ قُرَيْشٍ، وَعِظَمِهِ وَالْجِبَالُ لَا تَزُولُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغُلُوِّ وَالْإِيغَالِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَكْرِهِمْ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ جَبَلًا زَالَ بِحَلِفِ امْرَأَةٍ اتَّهَمَهَا زَوْجُهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ كَاذِبًا مَاتَ، فَحَمَلَهَا لِلْحَلِفِ، فَمَكَرَتْ بِأَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَنِ الدَّابَّةِ وَكَانَتْ وَعَدَتْ مَنِ اتُّهِمَتْ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ عَنِ الدَّابَّةِ، فَأَرْكَبَهَا زَوْجُهَا وَذَلِكَ الرَّجُلُ، وَحَلَفَتْ عَلَى الْجَبَلِ أَنَّهَا مَا مَسَّهَا غَيْرُهُمَا، فَنَزَلَتْ سَالِمَةً، وَأَصْبَحَ الْجَبَلُ قَدِ انْدَكَّ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ عَدْنَانَ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ النَّمْرُودِ أَوْ بُخْتُ نَصَّرَ، وَاتِّخَاذُ الْأَنْسَرِ وَصُعُودُهُمَا عَلَيْهَا إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْجِبَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُرْآنِ لِثُبُوتِهِ وَرُسُوخِهِ، وَعَبَّرَ بِمَكْرِهِمْ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ هَذَا شِعْرٌ هَذَا إِفْكٌ، فَأَقْوَالٌ يَنْبُو عَنْهَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَبِعِيدٌ جِدًّا قِصَّةُ الْأَنْسَرِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُسْبَانِ كَهَوَ فِي قَوْلِهِ:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا «١» وَأَطْلَقَ الْحُسْبَانَ عَلَى الْأَمْرِ الْمُتَحَقِّقِ هُنَا كما قال الشاعر:
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٤٢.
455
فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي أَضِلُّ مَنِيَّتِي فَكُلُّ امْرِئٍ كَأْسَ الْحِمَامِ يَذُوقُ
وَهَذَا الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «١» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «٢» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى وَعْدِهِ، وَنَصْبِ رُسُلَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي إعرابه فقال الجمهور والفراء، وَقُطْرُبٌ، وَالْحَوْفِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مِمَّا أُضِيفَ فِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ: هَذَا مُعْطِي دِرْهَمٍ زَيْدًا، لَمَّا كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ جَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَنْتَصِبُ مَا تَأَخَّرَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ نَظِيرًا لَهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
تَرَى الثَّوْرَ فِيهَا مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ وَسَائِرُهُ بَادٍ إِلَى الشَّمْسِ أَجْمَعَ
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: لَمَّا تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يُبَالِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَلِمَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ؟ (قُلْتُ) : قَدَّمَ الْوَعْدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «٣» ثُمَّ قَالَ: رُسُلَهُ، لِيُؤْذِنَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُخْلِفْ وَعْدَهُ أَحَدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ إِخْلَافُ الْمَوَاعِيدِ، كَيْفَ يَخْلُفُهُ رُسُلُهُ الَّذِينَ هُمْ خِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ؟ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَنْ وَعَدَهُ بِالنَّارِ مِنَ الْعُصَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ أَصْلًا. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ لِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَشْرُوطٌ إِنْفَاذُهُ بِالْمَشِيئَةِ. وَقِيلَ: مُخْلِفُ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «٤» فَأُضِيفَ إِلَيْهِ، وَانْتَصَبَ رُسُلَهُ بِوَعْدِهِ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ: مُخْلِفَ مَا وَعَدَ رُسُلَهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، لَا بِمَعْنَى الَّذِي.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: مُخْلِفٌ وَعْدَهُ رُسُلِهِ بِنَصْبِ وَعْدَهُ، وَإِضَافَةِ مُخْلِفَ إِلَى رُسُلِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَقِرَاءَةِ: قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُشَبَّعًا فِي الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَيَّدُ إِعْرَابَ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ مِمَّا تَعَدَّى فِيهِ مُخْلِفَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يُغَالَبُ ذُو انْتِقَامٍ مِنَ الْكَفَرَةِ لَا يَعْفُو عَنْهُمْ. وَالتَّبْدِيلُ يَكُونُ فِي الذَّاتِ أَيْ: تَزُولُ ذَاتٌ وَتَجِيءُ أُخْرَى. وَمِنْهُ: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «٥» وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «٦» وَيَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ
(١) سورة غافر: ٤/ ٥١.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢١.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٩. [.....]
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ٩.
(٥) سورة النساء: ٤/ ٥٦.
(٦) سورة سبأ: ٣٤/ ١٦.
456
الْحَلَقَةَ خَاتَمًا، فَالذَّاتُ لَمْ تُفْقَدْ لَكِنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّبْدِيلِ هُنَا، أَهْوَ فِي الذَّاتِ، أَوْ فِي الصِّفَاتِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ، وَتُزَالُ عَنْهَا جِبَالُهَا وَآكَامُهَا وَشَجَرُهَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَوِيَةً لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أمتا، وتبدل السموات بِتَكْوِيرِ شَمْسِهَا، وَانْتِثَارِ كَوَاكِبهَا، وَانْشِقَاقِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ بِأَرْضٍ كَالْفِضَّةِ نَقِيَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ. وَقَالَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ فِضَّةٍ وَالْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ أَرْضٌ مِنْ خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، وَجَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا.
وَقِيلَ: تَصِيرُ نَارًا وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا تَرَى أَكْوَابَهَا وَكَوَاعِبَهَا. وقال أبي: تصير السموات حِقَابًا. وَقِيلَ: تَبْدِيلُهَا طَيُّهَا.
وَقِيلَ: مَرَّةً كَالْمُهْلِ، وَمَرَّةً وَرْدَةٌ كَالدِّهَانِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: بِانْشِقَاقِهَا فَلَا تَظَلُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يُبَدِّلُ هَذِهِ الْأَرْضَ بِأَرْضٍ عَفْرَاءَ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قُرْصَةُ نَقِيٍّ»
وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ
وَعَنْ عَلِيٍّ: تُبَدَّلُ أرضا من فضة، وسموات مِنْ ذَهَبٍ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَرْضًا مِنْ فِضَّةٍ بَيْضَاءَ كَالصَّحَائِفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ تِلْكَ الْأَرْضُ وَإِنَّمَا تُغَيَّرُ، وَأَنْشَدَ:
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْلَمُ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمِعْتُ مِنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى أَنَّ التَّبْدِيلَ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ تُبَدَّلُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ عَلَى خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَفَرِيقٌ يَكُونُونَ عَلَى فِضَّةٍ إِنْ صَحَّ السَّنَدُ بِهَا، وَفَرِيقُ الْكَفَرَةِ يَكُونُونَ عَلَى نَارٍ وَنَحْوِ هَذَا، وَكُلُّهُ وَاقِعٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُونَ وَقْتَ التَّبْدِيلِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ عَلَى الصِّرَاطِ»
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ تَبْدِيلِ الْأَرْضِ والسموات هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الأرض جهنم، ويجعل السموات الْجَنَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ «١» وَقَوْلُهُ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «٢» انْتَهَى. وَكَلَامُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا، وَصَحَّ
فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ خَلْقِهِمَا.
وَبَرَزُوا: أَيْ ظَهَرُوا. لَا يُوَارِيهِمْ بِنَاءٌ وَلَا حِصْنٌ، وَانْتِصَابُ يَوْمَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ قَالَهُ الزمخشري، أو معمولا لمخلف وَعْدِهِ. وَإِنَّ وَمَا بَعْدَهَا اعتراض قاله الحوفي.
(١) سورة المطففين: ٨٣/ ٧.
(٢) سورة المطففين: ٨٣/ ١٨.
457
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظرفا فَالْمُخْلِفُ وَلَا لِوَعْدِهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ أَنْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَلَكِنْ جُوِّزَ أَنْ يَلْحَقَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ أَيْ: لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ يَوْمَ تُبَدَّلُ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ إِنَّ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا، لَمْ يُبَالِ أَنَّهُ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ، أَوْ مَعْمُولًا لِانْتِقَامٍ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْحَوْفِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، أَوَّلًا ذَكَرَ قاله أبو البقاء. وقرىء:
نُبَدِّلُ بِالنُّونِ الْأَرْضَ بِالنَّصْبِ، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السموات، حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ اسْتِئْنَافٌ. وَبَرَزُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الأرض، وقد مَعَهُ مُزَادَةٌ. وَمَعْنَى لِلَّهِ: لِحُكْمِ اللَّهِ، أَوْ لِمَوْعُودِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبرزوا بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً جَعَلَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالَمِ وَكَثْرَتِهِمْ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ. وَجِيءَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَهُمَا: الْوَاحِدُ وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لا يشركه أحد في أُلُوهِيَّتِهِ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ آلِهَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تَنْفَعُ. وَالْقَهَّارُ وَهُوَ الْغَالِبُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «١». وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ إِذْ تُبَدَّلُ، وَبَرَزُوا مُقَرَّنِينَ مَشْدُودِينَ فِي الْقَرْنِ أَيْ: مَقْرُونٌ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، أَوْ مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي غُلٍّ أَوْ تُقْرَنُ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَرْجُلِهِمْ مُغَلَّلِينَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقٌ فِي الْأَصْفَادِ بِقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ أَيْ: يُقْرَنُونَ فِي الْأَصْفَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لمقرنين، وَفِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُسْتَقِرِّينَ فِي الْأَصْفَادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فِي جَهَنَّمَ وَادٍ، وَلَا مَفَازَةٌ، وَلَا قَيْدٌ، وَلَا سِلْسِلَةٌ، إِلَّا اسْمُ صَاحِبِهِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحْنِقِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْكَلْبِيُّ، وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ مِنْ قَطِرٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَتَنْوِين الرَّاء
، أَنَّ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ أَنَّى صِفَةٌ لِقِطْرٍ. قِيلَ: وَهُوَ الْقَصْدِيرُ، وَقِيلَ: النُّحَاسُ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِالْقَطِرَانِ، وَلَكِنَّهُ النُّحَاسُ يَصِيرُ بِلَوْنِهِ. وَالْآنِيُّ الذَّائِبُ الْحَارُّ الَّذِي قَدْ تَنَاهَى حَرُّهُ. قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ سُعِّرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ، فَتَنَاهَى حَرُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ آنَ أَنْ يُعَذَّبُوا بِهِ يَعْنِي: حَانَ تَعْذِيبُهُمْ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ شَأْنِهِ.
أَيِ: الْقَطْرَانُ، أَنْ يُسْرِعَ فِيهِ اشْتِعَالُ النَّارِ، وَقَدْ يَسْتَسْرِجُ بِهِ، وَهُوَ أَسْوَدُ اللَّوْنِ منتن الريح،
(١) سورة غافر: ٤٠/ ١٦.
458
فَيُطْلَى بِهِ جُلُودُ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَعُودَ طِلَاؤُهُ لَهُمْ كَالسَّرَابِيلِ وَهِيَ الْقُمُصُ، لِتَجْتَمِع عَلَيْهِمُ الْأَرْبَعُ: لَذْعُ الْقَطِرَانِ وَحُرْقَتُهُ، وَإِسْرَاعُ النَّارِ فِي جُلُودِهِمْ، وَاللَّوْنُ الْوَحْشُ، وَنَتَنُ الرِّيحِ.
عَلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقَطِرَانَيْنِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّارَيْنِ. وَكُلُّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ، أَوْ أَوْعَدَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَكَأَنَّهُ مَا عِنْدَنَا مِنْهُ إِلَّا الْأَسَامِيَ وَالْمُسَمَّيَاتِ ثَمَّةَ، فَبِكَرَمِهِ الْوَاسِعِ نَعُوذُ مِنْ سُخْطِهِ وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا يُنْجِينَا مِنْ عَذَابِهِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مِنْ قَطْرَانٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ
، وَهُوَ فِي شِعْرِ أَبِي النَّجْمِ قَالَ: لَبِسْنَهُ الْقَطْرَانَ وَالْمُسُوحَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ بالنصب، وقرىء بِالرَّفْعِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى «١» فَهِيَ عَلَى حَقِيقَةِ الْغَشَيَانِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى التَّجَوُّزِ، جَعَلَ وُرُودَ الْوَجْهِ عَلَى النَّارِ غشيانا. وقرىء:
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ بِمَعْنَى تَتَغَشَّى، وَخَصَّ الْوُجُوهَ هُنَا. وَفِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ويَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «٢» لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَأَشْرَفِهِ كَالْقَلْبِ فِي بَاطِنِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «٣». وليجزي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ مَا يَفْعَلُ، لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ أَيْ: مُجْرِمَةٍ بِمَا كَسَبَتْ، أَوْ كُلَّ نَفْسٍ مِنْ مُجْرِمَةٍ وَمُطِيعَةٍ: لِأَنَّهُ إِذَا عَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ لِإِجْرَامِهِمْ عُلِمَ أَنَّهُ يُثِيبُ الْمُطِيعِينَ لِطَاعَتِهِمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَبَرَزُوا أَيِ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، وَيَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ عَامًّا أَيْ: مُطِيعَةٌ وَمُجْرِمَةٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَى، مُعْتَرِضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَ هَذَا، أَوْ أَنْفَذَ هَذَا الْعِقَابَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ لِيَجْزِيَ فِي ذَلِكَ الْمُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ انْتَهَى. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا «٤» إِلَى قَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ «٥» وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إِلَى السُّورَةِ. وَمَعْنَى بَلَاغٌ كِفَايَةٌ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: هُوَ عَطْفٌ مُفْرَدٌ على مُفْرَدٌ أَيْ: هَذَا بَلَاغٌ وَإِنْذَارٌ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لا تفسير إعراب. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: لِيُبَلِّغُوا وَلِيُنْذِرُوا. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ حَسَنٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: وَلِيَذَّكَّرَ، فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ لَا غَيْرُ انْتَهَى. وَلَا يَخْدِشُ ذَلِكَ، إِذْ يَكُونُ وَلِيَذَّكَّرَ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ، بَلْ يُضْمِرُ لَهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ. وقال
(١) سورة الليل: ٩٢/ ١.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ٤٨.
(٣) سورة الهمزة: ١٠٤/ ٧.
(٤) سورة ابراهيم: ١٤/ ٤٢.
(٥) سورة ابراهيم: ١٤/ ٥١.
459
ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ، وَهُوَ لِيُنْذَرُوا بِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرًا لِهُوَ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيُنْذَرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: لِيُنْصَحُوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ بِهَذَا الْبَلَاغِ انْتَهَى. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ: بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ الذَّالِ، كَانَ الْبَلَاغُ الْعُمُومَ، وَالْإِنْذَارُ لِلْمُخَاطِبِينَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ: الذَّرَّاعُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ: وَلِيَنْذَرُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ، مُضَارِعُ نَذَرَ بِالشَّيْءِ إِذَا عَلِمَ بِهِ فَاسْتَعَدَّ لَهُ. قَالُوا: وَلَمْ يُعْرَفْ لِهَذَا الْفِعْلِ مَصْدَرٌ، فَهُوَ مِثْلُ عَسَى وَغَيْرِهِ مِمَّا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ. وَلِيَعْلَمُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا خَافُوا مَا أَنْذَرُوا بِهِ دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى النَّظَرِ، فَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، إِذِ الْخَشْيَةُ أَصْلُ الْخَيْرِ. وَلِيَذَّكَّرَ أَيْ: يَتَّعِظَ وَيُرَاجِعَ نَفْسَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْمَوَاعِظِ. وَأَسْنَدَ التَّذَكُّرَ وَالِاتِّعَاظَ إِلَى مَنْ لَهُ لُبٌّ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُجْدِي فِيهِمُ التَّذَكُّرُ.
وَقِيلَ: هِيَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَنَاسَبَ مُخْتَتَمُ هَذِهِ السُّورَة مُفْتَتَحَهَا، وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله: لتخرج الناس.
460
Icon