تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿الر﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة) ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ هو القرآن الكريم ﴿لِتُخْرِجَ﴾ به ﴿النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ بأمره وإرادته وتوفيقه ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾ طريق
﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ الويل: حلول الشر، وقيل: إنه وادٍ في جهنم
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ يختارونها ويفضلونها ﴿عَلَى الآخِرَةِ﴾ فيتمسكون بزخرف الدنيا ومتاعها الفاني الزائل، ولا يؤمنون بما في الآخرة من ثواب وعقاب ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يمنعون الناس عن الإسلام ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ معوجة
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ أي إنه لا يجوز إرسال رسول أعجمي لأمة عربية، كما لا يجوز إرسال رسول عربي لأمة
-[٣٠٥]- أعجمية؛ لذا وجبت ترجمة القرآن لسائر اللغات (انظر توفية هذا البحث بكتابنا «الفرقان») ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ﴾ من يشاء إضلاله؛ بعد أن يزجي له الآيات البينات، ويضرب له الأمثال والعظات، ويسوق له المعجزات والدلالات؛ حتى إذا ما استمرأ عصيانه، ولج في طغيانه: وكله إلى شيطانه؛ فأضله وزاد في إضلاله قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ أي أنذرهم بوقائعه التي وقعت للأمم الكافرة قبلهم، أو ذكرهم بأيام نعمه عليهم؛ من تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من النعم التي لا تحصى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ التذكير ﴿لآيَاتٍ﴾ دلالات ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشكر لربه على ما أولاه
﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ من سامه خسفاً: إذا أولاه ظلماً وذلاً ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ أسوأه وأقبحه وأشده ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ يستبقونهن وقيل: يفعلون بهن ما يخل بالحياء ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ﴾ محنة
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ﴾ أعلم. وهي أيضاً بمعنى: «قال» وبها قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ براً وخيراً ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ عبر تعالى عن عدم الشكر بالكفر؛ لما فيهما من أوجه الشبه: فالكافر منكر للإله، وهذا منكر لنعم الإله؛ فكلاهما في الكفر سواء وحقاً إن من يعرف الإله وينكر نعمه؛ لأشد كفراً ممن لا يعرفه أصلاً جعلنا الله تعالى من عباده الشاكرين
﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ﴾ عن سائر خلقه ﴿حَمِيدٌ﴾ محمود في صنعه بهم
﴿وَعَادٌ﴾ قوم هود ﴿وَثَمُودُ﴾ قوم صالح ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالآيات الظاهرات، والحجج الواضحات ﴿فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي عضوا أناملهم من شدة الغيظ. وقيل: ردوا أيديهم في أفواه الرسل؛ ليمنعوهم من الكلام.
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ خالقهما ومبدعهما ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ﴾ بلا حساب ولا عقاب ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ وهو انتهاء آجالكم، أو إلى قيام الساعة ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا﴾ تمنعونا ﴿عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا﴾ من الأصنام ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ بحجة واضحة؛ تتسلط على عقولنا؛ فتلزمنا بتصديقكم
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بالإيمان والنبوة ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ وحده ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ في سائر أمورهم (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ﴾ وأي عذر لنا في ألا نتوكل عليه؟ ومن التوكل: الشكر عند العطاء، والصبر عند البلاء ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ هدى كلامنا طريقه المستقيم؛ الذي ارتضاه لنفسه، واختاره الله تعالى له
﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ أي أوحى إلى الرسل ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين الطاغين
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي أرض الظالمين وديارهم. وقد ورد «من آذى جاره ورثه الله داره» ﴿ذلِكَ﴾ النصر على الأعداء، وإيراث الأرض ﴿لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ أي خاف قيامه بين يدي للحساب يوم القيامة أو خاف قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ أي خاف عذابي الذي أوعدت به في القرآن
﴿وَاسْتَفْتَحُواْ﴾ أي طلب المؤمنون النصر من الله تعالى ﴿وَخَابَ﴾ ذل وخسر
-[٣٠٧]- ﴿كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ متكبر، مجانب للحق
﴿مِّن وَرَآئِهِ﴾ أي بعد انقضاء حياته ﴿جَهَنَّمَ﴾ يصلاها ﴿وَيُسْقَى﴾ فيها ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ هو ما يسيل من جوف أهل النار من القيح والدم
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ يبتلعه ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ يزدرده لرداءته وقبحه ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي يأتيه أنواع العذاب المقتضية للهلاك، المفضية للموت؛ ولكن الله تعالى يمد في حياته؛ ليزيد في تألمه وتحسره
﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي صفة الأعمال الصالحة؛ التي يعملها الذين كفروا بربهم؛ كالصدقة، وحسن الجوار، وصلة الرحم؛ فهذه الأعمال صفتها ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ أي يوم شديد هبوب الريح، وكل مائل عن غرضه؛ فهو «عاصف» قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ وذلك بالنسبة لأجر الآخرة، أما في الدنيا فيجزون على أعمالهم هذه فيها ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ﴾ عملوا في الدنيا ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ أي لا يقدرون على نيل ثوابه في الآخرة ﴿ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ العذاب والهلاك الكبير
﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ﴾ أي ظهرت الخلائق ﴿جَمِيعاً﴾ وبرزتلله تعالى من قبورها ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ الأتباع ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ﴾ السادة والرؤساء ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا﴾ دافعون عنا ﴿مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ﴾ أي الرؤساء المتبوعون ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ إلى الإيمان ﴿لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ إليه، أو «لو هدانا» لما ندفع به عذابه «لهديناكم» إليه. وفاتهم أنه تعالى هداهم للإيمان فأبوا، وأرشدهم سواء السبيل فعصوا قال تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ وقال جل شأنه: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ﴾ الآن ﴿أَجَزِعْنَآ﴾ الجزع: ضد الصبر ﴿أَمْ صَبَرْنَا﴾ على ما نحن فيه من العذاب ﴿مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ منجى ومهرب
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ﴾ أي فرغ من الحساب، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ بأن قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار؛ فوفى بما وعد؛ وها قد دخلتم النار بعصيانكم، ودخل أهل الجنة الجنة بطاعتهم ﴿وَوَعَدتُّكُمْ﴾ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ كذبتكم ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ تسلط وقوة؛ حتى ألزمكم بالعصيان، وأكرهكم على الكفر
-[٣٠٨]- ﴿إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ﴾ للكفر والعصيان ﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ أجبتم ندائي؛ بغير تعقل أو روية ﴿فَلاَ تَلُومُونِي﴾ الآن ﴿وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ على تغفلكم وعدم حرصكم ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ﴾
بمغيثكم. أي بمجيب صراخكم ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ أي بإشراككم إياي مع الله في الطاعة والعبادة
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ هي كلمة التوحيد، أو هي كل كلمة طيبة يقولها الإنسان لأخيه الإنسان؛ فتهدىء من روعه، وتزيد في حبه قال تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ فهذه الكلمة الطيبة ينميها الله تعالى ويعلي أجرها وجزاءها ﴿كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾ أي طيبة الظل والثمر. قيل: هي النخلة. والمقصود بها: كل شجرة وارفة الظلال، مفعمة الثمار
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ أي تجود بثمرها لآكله في كل وقت. وهو مثل للكلمة الطيبة وما تنتجه من طيب الأثر، ويانع الثمر
﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ هي كلمة الكفر، أو كل كلمة رديئة بذيئة؛ تترك أثراً سيئاً في النفوس، وضغناً كامناً في القلوب ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ منظرها كريه، وطعمها رديء. قيل: هي الحنظل. وقصد بها كل شجرة سيئة المنظر والمخبر ﴿اجْتُثَّتْ﴾ استؤصلت ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ ثبات
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ كلمة التوحيد ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بأن ينطقه الله تعالى بها عند موته، وعند سؤاله في القبر ﴿وَفِي الآخِرَةِ﴾ بأن يشهد بها وقت الحساب، فينجو من العقاب ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين؛ فالكفر سابق على الإضلال ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ وإنما يضلهم بعد إصرارهم على الكفران وتمرغهم في أوحال العصيان، ورفضهم الحجج والدلالات، والآيات البينات قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً﴾ أي كفروا بالنعمة ولم يشكروا عليها، فقد خلقهم تعالى ليؤمنوا به، فأنكروا وجوده، وأصحهم ليطيعوه: فعبدوا غيره، وأفاض عليهم من نعمائه ليشكروه فكفروا به وبذلك بدلوا أنعمه تعالى عليهم كفراً به وقيل: المراد بالنعمة في هذه الآية: الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وأكرم به من نعمة ما أعظمها وأجلها يؤيد ذلك قوله تعالى:
﴿وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ
-[٣٠٩]- دَارَ الْبَوَارِ﴾ لأن قومهم لما رأوا كفرهم بالنبي وتكذيبهم له اتبعوهم على ذلك. و «دار البوار» دار الهلاك
﴿جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾ يدخلونها ﴿وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ المقر
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾ أمثالاً ﴿لِيُضِلُّواْ﴾ الناس ﴿عَن سَبِيلِهِ﴾ دينه ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾ في الدنيا مدة حياتكم ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ يوم القيامة ﴿قُلْ﴾ أمر صادر ممن بيده مقاليد السموات والأرض، ومن بيده الموت والحياة والنشور؛ لرسوله وصفيه، وخيرته من خليقته؛ يقول له:
«قل» يا محمد ﴿لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بوحدانيتي ورسالتك ﴿يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ يؤدوها في أوقاتها ﴿وَيُنْفِقُواْ﴾ على الفقراء ﴿مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ بفضلنا؛ لا بكدهم وجهدهم؛ فكم من ساع - يتصبب عرقه، وينهال دمعه ودمه - في سبيل العيش؛ فلا يحصل على قوت يومه. وكم من قاعد أثقلته النعمة؛ والأرزاق عليه تترى من حيث لا يحتسب. وكم من مناد على سلعته؛ حتى جف لسانه، ونضب ريقه؛ فما تزداد سلعته بندائه إلا بواراً، ولا يزداد بتعبه إلا خساراً وكم من جالس على أريكته، لا يعلن عن بضاعته، ولا يدعو إليها، ولا يطنب في مدحها والمشترون من حوله كالذباب يحومون حول بضاعته المزجاة، ويتسابقون في شرائها، ويتزاحمون على اقتنائها. ومن هنا يصدق قول الحكيم العليم: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ فكيف لا تنفق مما رزقك مولاك أيها المسكين؟ ﴿سِرّاً﴾ إذا كان في ذلك كبحاً لجماح غرورك وطرداً لشيطان ريائك، وستراً للفقير، وحفظاً لماء وجهه ﴿وَعَلاَنِيَةً﴾ إذا كان في ذلك تعليماً للمنفقين، وحثاً للممسكين وحذار - رحمك الله - من الرياء والإيذاء؛ فـ «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى» ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ هو يوم القيامة ﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ﴾
كحال الدنيا: بيع وشراء، وأخذ وعطاء. فليراع الله تعالى في بيعه وشرائه لينفعه ذلك في يوم جزائه ﴿وَلاَ خِلاَلٌ﴾ ولا صداقة. فليراع في الدنيا من يصادق؛ فلا يخالل فيها إلا في الله ولله أو المراد «لا بيع فيه» لا عدل ولا فدية؛ فلا يستطيع المذنب أن يستبدل ذنبه، أو يفتدي نفسه بملء الأرض ذهباً «ولا خلال» أي ولا صديق ينفع في ذلك اليوم، أو يدفع عذاب الله تعالى
﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ﴾ دائمين لا يفتران، ولا يقف أحدهما عن الدوران
﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ أي وأعطاكم من كل ما رغبتم فيه. وقد جرت عادته تعالى أن يعطي عباده ما يسألون، وفوق ما يسألون ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ وكيف نحصي أنعمه التي لا تتناهى؟ أنحصي نعمة السمع والإبصار؟ أم نعمة الشم والذوق؟ أم نعمة الرزق والطعام؟ أم نعمة الماء والهواء؟ أم نعمة الإيمان والإسلام؛ التي لا تعادلها نعمة؟
-[٣١٠]- حقاً إن الإنسان لو حاول الإحصاء والحصر: لضاق ذرعاً؛ ولما وسعه إلا أن يقول: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ﴾ كثير الظلم لنفسه؛ لعدم شكر ربه على أنعمه ﴿كَفَّارٌ﴾ كثير الكفر، قليل الشكر جاء في الحديث القدسي «أخلق فيعبد غيري، وأرزق فيشكر غيري»
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً﴾ البلد: مكة؛ زادها الله تعالى شرفاً وأمناً ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعوته فلم يعبد أحد من ولده صنماً قط
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ﴾ أي الأصنام ﴿أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي﴾ منهم ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أي شأنه كشأني. وذلك كقوله: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوة الجاهلية». ﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ فلم يؤمن بك، ولم يستجب لدعوتك ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ﴾ لذنوب المذنبين؛ بفضلك ﴿رَّحِيمٌ﴾ بعبادك تغفر لمن تشاء منهم، وتعفو عمن تشاء قال نبي الله عيسى ابن مريم صلوات الله تعالى وسلامه عليهما:
﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
﴿رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي﴾ زوجه هاجر وولدها إسماعيل ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ مكة شرفها الله تعالى ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ لو قال عليه الصَّلاة والسَّلام: فاجعل أفئدة الناس تهوى إليهم؛ بغير «من» لما بقي على ظهر الأرض إنسان إلا وذهب إليهم بقلبه ولبه (انظر آية ٦٠ من سورة غافر) ﴿وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعاءه؛ فجلبت لهم الثمار من سائر الأقطار؛ وقد لا يتذوقها جانيها قبل أن يتذوقوها؛ فانظر يا أخي حكمة الحكيم العليم وبعد أن دعا إبراهيم ربه بما شاء: ختم دعاءه بحمده على نعمائه
﴿الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ﴾ بعد أن يئست من القوة والولد «وهب لي» ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ جد نبينا عليهم الصَّلاة والسَّلام ﴿وَإِسْحَاقَ﴾ بعد إسماعيل ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ لمن دعاه مؤمناً به، موقناً بإجابته
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي﴾ أيضاً اجعلهم مقيمي الصلاة.
وهي خير دعوة يدعوها المؤمن؛ فلا أحب له، ولا أنفع، ولا أصلح من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ﴾ من آداب الدعاء: أن يدعو الإنسان ربه بقبول دعائه، وأن يكون متيقناً بالإجابة؛ وإلا فهو شاك في قدرة ربه القادر على كل شيء
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ يا محمد أن ﴿اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ لسكوته عليهم، وإغفاله لهم ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ﴾ في التعذيب والانتقام ﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ شخص بصره: إذا فتح عينيه من غير أن يطرف؛ وهذا لشدة ذهولهم ورعبهم ﴿مُهْطِعِينَ﴾ مادي أعناقهم، أو مسرعين ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ رافعيها
﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ لا يغمضون أعينهم: لشدة ما يرون من الهول ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ﴾ قلوبهم ﴿هَوَآءٌ﴾ خالية من التفكير لكثرة فزعهم
﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ كفروا ﴿رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ﴾ أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ﴾ التي دعوتنا إليها، فلم نستجب لها ﴿وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ الذين أرسلتهم لنا فكذبناهم؛ فتقول لهم ملائكة الرحمن ﴿أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ أي حلفتم أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة، ولا تنتقلون إلى دار أخرى، وحياة أخرى. وذلك كقوله تعالى ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)
﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أي هو عالم بما يخفونه من الشر، وما يضمرونه من السوء والأذى للمؤمنين؛ فيجازيهم عليه ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ أي وإن كان مكرهم شديداً عظيماً؛ تبلغ قوته أن تزول منه الجبال؛ فإن الله تعالى قادر على إبطاله ومحوه، مقابلته بمكر هو أشد وأقوى منه
﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ وقيل: «وإن» بمعنى ما؛ أي وما كان مكرهم لضعفه وهوانه ﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ وقرأ أبي وابن مسعود وغيرهما «وإن كاد» ومعنى هذه القراءة: لقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال أن تزول منه
﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ ما وعدهم به من النصر، ونزول العذاب بالمكذبين ﴿أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ قوي، غالب ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ ممن عاداه
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ﴾ أي مسلسلين في الأغلال؛ وقد قرنت أيديهم إلى أرجلهم، أو قرن كل مجرم مع نظيره وشبيهه في الكفر والإجرام؛ كما يفعل بمجرمي أهل الدنيا
﴿سَرَابِيلُهُم﴾ ملابسهم ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾ تعلوها وتغطيها
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ ما عملت في الدنيا ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يحاسب الخلائق جميعاً في أسرع من لمح البصر
﴿هَذَا﴾ القرآن
﴿بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ أي أنزل لتبليغهم أوامر ربهم وموجدهم، وإنذارهم بغضبه على من يخالفه، وعقابه لمن يكفر به
﴿وَلِيَذَّكَّرَ﴾ ليتذكر به
﴿أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ ذووا العقول.
311
سورة الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الرَ﴾
312