تفسير سورة مريم

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة مريم من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * كۤهيعۤصۤ ﴾ الآية هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها وقال مقاتل: إلا آية السجدة فهي مدنية ونزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة التي قبلها قصصاً عجباً كقصة أهل الكهف وقصة الرجلين وقصة موسى مع الخضر وقصة ذي القرنين وهذه السورة تضمنت قصصاً عجباً من ولادة يحيى بين شيخ فان وعجوز عاقر وولادة عيسى من غير أب فلما اجتمعا في هذا الشىء المغرب ناسب ذكر هذه الآية بعد تلك وتقدم الكلام في أول البقرة على الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك وذكر خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلوّ من القرآن ذكر وقرىء: ذكر فعلاً ماضياً رحمة بالنصب وقرىء: ذكر فعل أمر من التذكير رحمة بالنصب وعبده نصب بالرحم أي: ذكر أن رحمة ربك عبده وذكر في السبعة كما تقدم * ورحمة مصدر لا يراد بها أنها واحدة من الرحمات لأنه إذ ذاك لا ينصب المفعول لا يجوز أن تقول أعجبني ضربه زيد عمراً لأنه إذ ذاك محدود بالوحدة فلا يعمل. و ﴿ زَكَرِيَّآ ﴾ بدل أو عطف بيان وإذ ظرف العامل فيه ذكر أو رحمة ووصف النداء بالخفي لئلا يخالطه رياء وقيل غير ذلك.﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي ﴾ هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فإِذا وهن تداعى وسقطت قوته وقرىء: وهن بفتح الهاء وكسرها.﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾ شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأسه وإلى هذا نظر ابن دريد فقال: واشتعل المبيض في مسوده   مثل اشتعال النار في جزل الغضا﴿ وَلَمْ أَكُنْ ﴾ يغني فيما مضى أي ما كنت.﴿ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ بل كنت سعيداً موفقاً إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك فعلى هذا الكاف مفعول وقيل المعنى بدعائك لي إلى الإِيمان شقياً بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصاً فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول وروي أن حاتماً الطائي أتاه طالب حاجة فقال: أنا الذي أحسنت إليك وقت كذا فقال: مرحباً بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته.﴿ وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى ﴾ الموالي بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب*. وقال الشاعر: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا   تنبشوا بيننا ما كان مدفوناًوالأظهر اللائق بزكريا من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا وكذلك قول من قال إنما خاف أن تنقطع النبوة من ولده وترجع إلى عصبته لأن ذلك إنما هو لله يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاؤه ويصطفيه من عباده وقرىء:﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ ﴾ بجزمهما جواباً للأمر وهو هب وبرفعهما على الصفة لقوله: ولياً والظاهر أن الإِرث يكون في العلم والدين والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم. و ﴿ رَضِيّاً ﴾ بمعنى مرضي.﴿ يٰزَكَرِيَّآ ﴾ أي قيل له بأثر الدعاء والمنادي والمبشر لزكريا هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى:﴿ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾[آل عمران: ٣٩] الآية والغلام الولد الذكر وقد يقال على الأنثى غلامه والظاهر أن يحيى ليس عربياً لأنه لم يكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة.﴿ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ أي من قبل ولادته من تسمى باسمه بل هو منفرد بتسمية يحيى وأنى بمعنى كيف وتقدم الكلام عليها في قوله: قال رب أنى يكون لي غلام في آل عمران والقي المبالغة في الكبر ويبس العود يقال عتا العود وعسا يبس وجسا.﴿ قَالَ كَذٰلِكَ ﴾ أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ.﴿ قَالَ رَبُّكَ ﴾ فالكاف رفع أو نصب بقال وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله:﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ وهو ضمير معناه إيجاده عليّ هين.﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل ولادة يحيى يشير إلى عظيم قدرته.﴿ تَكُ شَيْئاً ﴾ أي في حيز العدم والمعدوم لا يسمى شيئاً.﴿ قَالَ ﴾ أي زكريا.﴿ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً ﴾ أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقينه كما قال إبراهيم ولكن ليطمئن قلبي لا لتوقف منه صدق ما وعد به ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك قال: آيتك روي ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحداً ومع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله فإِذا أراد مقاولة أحد لم يطقه. و ﴿ سَوِيّاً ﴾ حال من ضمير ألا تكلم أي في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة وعن ابن عباس سوياً عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث وذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن وقرىء: ألا تكلم بالرفع جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم وقرىء: بالنصب على أنها الناصبة للمضارع.﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ ﴾ أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس ومحرابه موضع مصلاه والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران.﴿ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ ﴾ أي أشار إليهم ويشهد له قوله: إلا رمزاً.﴿ يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله تعالى له على لسان ملك يا يحيى خذ الكتاب ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً ﴾ والكتاب التوراة * قال ابن عطية: هو التوراة بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإِنجيل موجوداً " انتهى " ليس كما قال بل قيل انه كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك وقيل الكتاب هنا اسم جنس أي اتل كتاب الله تعالى وقيل الكتاب صحف إبراهيم والحكم النبوة وصبياً أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة وعن ابن عباس في حديث مرفوع ابن سبع سنين.﴿ وَحَنَاناً ﴾ معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس * قال أبو عبيدة: تحنن على هواك المليك   فإِن لكل مقام مقالاقال وأكثر ما يستعمل مثنى كما قال الشاعر: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا   حنانيك بعض الشر أهون من بعض﴿ وَزَكَاةً ﴾ أي طهارة.﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ قل قتادة: لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا هم بامرأة.﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ أي كثير البر والإِكرام والتبجيل.﴿ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً ﴾ أي منكراً عصياً أي كثير العصيان.﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ ﴾ أي أمان عليه والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإِنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى.﴿ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ ﴾ الآية لما تقدم قصة زكريا مع ما فيها من الغرابة أعقب بما هو أغرب منها وهو وجود ولد من غير ذكر وإذ ظرف لما معنى لا يعمل فيه أذكر لأنه مستقبل بل التقدير واذكر ما جرى لمريم وقت كذا.﴿ ٱنتَبَذَتْ ﴾ افتعل من نبذ ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت وانتصب مكاناً على الظرف أي في مكان ووصف بشرقي لأنه كان مما يلي بيت المقدس.﴿ حِجَاباً ﴾ أي حائطاً أو لشىء يسترها والظاهر أن الروح هو جبريل وانتصب بشراً على أنه حال ووصفه بقوله: سوياً أي كامل الصورة حسن الأعضاء وضيء الوجه وإنما مثله لها في صورة الإِنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على السماع لكلامه ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبراً لعفتها وجواب أن في قوله: إن كنت محذوف تقديره ان كنت تقياً فاذهب عني.﴿ قَالَ ﴾ أي جبريل.﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك وهو الذي استعاذت به وقوله لها ذلك تطمين لها واني لست ممن يظن به ريبة أرسلني إليك.﴿ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً ﴾ وقرىء: ليهب بالياء وفيه ضمير يعود على الله تعالى وقرىء: بالهمز أسند الهبة إلى نفسه على سبيل المجاز إذ الواهب هو الله تعجبت مريم وعلمت بما ألقى في روعها أنه من عند الله وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها ولم أك بغياً تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بسفاح أو بنكاح والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبل الياء لتصح الياء.﴿ قَالَ كَذٰلِكَ ﴾ الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا.﴿ وَلِنَجْعَلَهُ ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا ولنجعله أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك والضمير في ولنجعله عائد على الغلام وكذلك في قوله وكان أي وجوده أمراً مفروغاً وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك.﴿ فَحَمَلَتْهُ ﴾ أي في بطنها وذكروا أقوالاً كثيرة مضطربة في مدة الحمل.﴿ مَكَاناً قَصِيّاً ﴾ أي مكاناً بعيداً.﴿ فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ ﴾ أي ساقها المخاض وهو الطلق بالألم الذي يلحقها لانزعاج الولد في بطنها للخروج فأجاءها أي جاء بها تعدى جاء تارة بالباء وتارة بالهمز قال الزمخشري إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإِلجاء ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاء فيه كما تقول بلغنيه وأبلغنيه ونظيره أتى حيث لم تستعمل في الاعطاء ولم تقل آتيت المكان وآتانيه فلان " انتهى " أما قوله: وقول غيره ان الاستعمال غيره إلى معنى الإِلجاء فيحتاج إلى نقل الأئمة المستقرئين ذلك على لسان العرب والإِجاءة تدل على المطلق فيصلح لما هو بمعنى الإِلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت أقمت زيداً فإِنه قد يكون مختاراً لذلك وقد تكون قد فسرته على القيام وأما قوله له: ألا تراك إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز ذلك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياسا فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا أجاء فيجيز ذلك وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية وأن أصله أأتى وليس كذلك بل آتى مما بني على أفعل فليس منقولاً من أتى بمعنى جاء إذ لو كان منقولاً من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني والفاعل هو الأول إذا عديت بالهمزة تقول آتى المال زيداً وآتي زيد عمراً المال فيختلف التركيب بالتعدية لأن زيداً عند النحويين هو المفعول الأوّل والمال هو المفعول الثاني وعلى ما ذكره الزمخشري يكون العكس فدل ذلك على أنه ليس ما قاله وأيضاً فأتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى وقوله: ولم يقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال أتيت المكان كما تقول جئت المكان وقال الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتم   فقالوا الجن قلت عموا صباحاًومن رأى النقل بالهمزة قياساً قال آتانيه * والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى كان ببيت لحم وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت له وصارت كالمهد وهي الآن تزار بحرم بيت المقدس ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فغمدته فيه وهو الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في ذلك اليوم في كل ماء.﴿ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ ﴾ استندت إلى الجذع إذ لم يكن وراءها امرأة تشددها كعادة النساء عند الوضع ذكروا في هذا الجذع أقوالاً مضطربة والظاهر أنها نخلة عادتها أن تثمر وترطب فلما اشتد بها الأمر هناك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام قالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه.﴿ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا ﴾ وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها السوء في دينها * والنسى الشىء الحقير الذي من شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقه الطمث ونسي فعل بمعنى مفعول كالطحن بمعنى مطحون ورعي بمعنى مرعي وأكد ذلك بقوله: منسياً لاختلاف صورتي التركيب والظاهر أن المنادى هو عيسى عليه السلام أي فولدته فأنطقه الله * وناداها أي حالة الوضع وقيل جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقيل وكان يقبل الولد كالقابلة وقرىء: من تحتها فقيل عيسى وقيل جبريل فمن موصولة فعلى هذا يكون المنادى عيسى صلى الله عليه وسلم وأن حرف تفسير.
﴿ أَلاَّ تَحْزَنِي ﴾ نهي * سريا السرى الرجل العظيم من الرجال له شأن عظيم والسري في اللغة الجدول وفي قوله: ربك تأنيس لها إذ هو مالكها والناظر في إصلاحها ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع * قال ابن عباس: كان الجذع نخراً يابساً فلما هزته إذا السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحاً ثم احمر فصار زهواً ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها لا يتسرح منها شىء وإلى حرف جر وفي قوله: هزي ضمير الفاعل وهو الياء وقد تعدى الفعل إلى ضمير الجر ونظيره قوله تعالى:﴿ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾[القصص: ٣٢] وقوله تعالى:﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾[الأحزاب: ٣٧] وفي النحو أن الفعل إذا رفع ضميراً متصلاً أو مستكناً لا يتعدى إلى ضمير النصب ولا إلى ضمير الجر فلا تقول ضربتك ولا تضربيني ولا زيد ضربه يعني ضرب نفسه بل المعروف أنه يؤتى بدل الضمير المنصوب بالنفس فتقول ضربت نفسك وضربت نفسي وزيد ضرب نفسه إلا في باب ظن وفقد وعدم فيجوز ذلك فتقول ظننتك قائماً وظننتني قائماً وفي هزي إليك جاء فصيحاً تعدى ذلك إلى ضمير الجر والباء زائدة في قوله بجذع لأن هز متعد بنفسه تقول هززت الغصن وقرىء:﴿ تُسَاقِطْ ﴾ بتشديد السين وأصله تتساقط فأدغمت التاء في السين، وقرىء: تساقط بحذف التاء وقرىء: تساقط مضارع ساقطت تساقط فعلى هذه القراءة يكون رطباً مفعولاً به وعلى القراءتين قبل ذلك يكون رطباً تمييزاً منقولاً من الفاعل إذ الأصل تساقط أو تساقط رطبه وفي قوله: وهزي دليل على السبب لتحصيل الرزق.﴿ فَكُلِي وَٱشْرَبِي ﴾ لما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية ولمجاورة قوله تساقط عليك رطباً جنيا * ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال:﴿ وَقَرِّي عَيْناً ﴾ أي لا تحزني ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحداً.﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ ﴾ إن شرطية وما زائدة وأصل ترين ترأييني نقلت حركة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وحذفت نون الرفع لدخول الجازم الذي هوان ثم أدخلت النون الشديدة فانحذفت تاء الضمير فبقيت ترين والياء المكسورة هي لام الفعل.﴿ فَقُولِيۤ ﴾ جواب الشرط والجملة بعده معمول لقولي في موضع نصب وفي قولها:﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ ﴾ لطيفة وهو قولها: للرحمن أي الذي رحمني أولاً وآخراً وفي هذه الحال وغيرها ولا تناقض لأن المعنى:﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً ﴾ بعد قولي هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليها المعنى أي فاما ترين من البشر أحداً وسألك أو حاورك الكلام فقولي * وصوما قال السدي وابن زيد: كانت سنة الصيام عندهم الإِمساك عن الأكل والكلام.﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا ﴾ الآية تحمله جملة حالية أي حاملة له * والفري العظيم الشنيع.﴿ يٰأُخْتَ هَارُونَ ﴾ الآية الظاهر أنه أخوها الأقرب وكانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم نعوا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالباً تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك.﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ ﴾ لما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء ونفوا عن أمها البغاء وهو الزنا روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك وقيل هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام فتركوها.﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ ألف أشارت منقلبة عن ياء وقال يزيد بن حاتم المهلبي هي منقلبة عن واو من الشورى ونازعه أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن غانم بن شرحبيل بن ثوبان الرعيني قاضي افريقية وتحاكما إلى قتيبة الميال وكان يزيد قد جلبه من الكوفة إلى المغرب فقال له ابن غانم: كيف تبني من الإِشارة تفاعلنا فقال: تشايرنا فقال له يزيد: ما الدليل على هذا؟ فقال: قول كثير وقلت وفي الأحشاء داء مخامر إلا حبذا يا عز ذاك التشاير وقوله تعالى: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وقيل كان المستنطق لعيسى زكريا ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها ثم قالوا لها على جهة الإِنكار والتهكم بها.﴿ كَيْفَ نُكَلِّمُ ﴾ أي:﴿ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ ﴾ يربى لا يكلم وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام وقيل بوحي من الله إليها وكان قيل انها تامة وقيل زائدة وينتصب.﴿ صَبِيّاً ﴾ على الحال في هذين القولين والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مدلول الجملة بالزمان الماضي ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله وكان الله غفوراً رحيماً.﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ﴾ أنطقه الله أولاً بقوله: إني عبد الله رداً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى وفي قوله: عبد الله والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمّه مما اتهمت به لأنه تعالى لم يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلا مبراة مصطفاة * والكتاب الإِنجيل أو التوراة أو مجموعهما.﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾ أنه تعالى نبأه حال طفولته أكمل الله تعالى عقله واستنبأه طفلاً وقيل ان ذلك سبق في قضائه وسابق حكمته.﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً ﴾ أي نفاعاً. و ﴿ أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾ شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركاً وحذف لدلالة ما تقدم عليه * وما في أينما زائدة وفي ما دمت مصدرية ظرفية أي مدة دوام حياتي والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في شريعتهم في البدن والمال * والجبار المتعاظم وكان صلى الله عليه وسلم في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب وينام حيث جنه الليل لا مسكن له وكان يقول سلوني فإِني لين القلب صغير في نفسي والألف واللام في والسلام للجنس.﴿ ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾ الآية الإِشارة بذلك إلى المولود الذي ولدته مريم المتصف بتلك الأوصاف الجميلة وذلك مبتدأ وعيسى خبره وابن مريم صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل والمقصود ثبوت بنوته من مريم خاصة من غير أب وليس بابن الله كما تزعم النصارى ولا لغير رشدة كما تزعم اليهود وانتصاب قول على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذا الاخبار عن عيسى بن مريم ثابت صدق ليس منسوباً لغيرها أي أنها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل أي أقول الحق وأقول قول الحق فيكون الحق هنا الصدق، وقرىء: قول برفع اللام وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي نسبته إلى أمه خاصة فقط الحق، قال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل " انتهى " هذا الذي ذكره لا يكون إلا على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن اللفظ لا يكون الذات وقرىء: يمترون بياء الغيبة وبتاء الخطاب وامترى افتعل اما من المرية وهي الشك أو من المراء وهو المجادلة والملاحاة وكلاهما مقبول هنا قالت اليهود ساحر كذاب وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة وهو الله.﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ من زائدة في سياق النفي والنفي لم يتسلط على كان وإذ انتفى الكون انتفى متعلقة وهو الاتخاذ فكان حرف النفي باشر يتخذ ومن ولد في موضع المفعول والنفي هنا دل على التنزيه ولذلك أعقب هذا النفي بقوله سبحانه: أي تنزه عن الولد إذ هو فما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا يتعلق به القدرة لاستحالته إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإِيجاد شىء أوجده فهو منزه عن التوالد وقال بعض شعراء العرب: ألا رب مولود وليس له أب   وذي ولد لم يلده أبوانعني بالأول عيسى وبالثاني آدم وتقدم الكلام على الجملة من قوله إذا قضى أمراً وقرىء وإن بكسر الهمزة وقرىء: بفتحها التقدير وكان الله ربي وربكم فاعبدوه والإِشارة بقوله هذا أي القول بالتوحيد وفني الولد والصاحبة والصراط هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إل يالنجاة.﴿ فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ﴾ هذا إخبار من الله تعالى لرسوله بتفرق بني إسرائيل فرقاً ومعنى من بينهم أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف بسببه من غيرهم * والأحزاب قال الكلبي: اليهود والنصارى، وقال قتادة: ان بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات فكذبه الثلاثة واتبعه اليعقوبية ثم قال أحد الثلاثة عيسى هو ابن الله فكذبه الاثنان واتبعه النسطورية وقال أحد الاثنين عيسى أحد ثلاثة الله إله ومريم إله وعيسى إله فكذبه الرابع واتبعه الإِسرائيلية وقال الرابع عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعه فريق من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة فغلب المؤمنون وقتلوا وظهر اليعقوبية على الجميع والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل ومشهد مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدراً ومكاناً وزماناً فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة وأن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة ويجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن يشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وأن يكون من مكان الشهادة أو أن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات هو يوم القيامة.﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ صيغة تعجب وحذف من الثاني بهم لدلالة الأول عليه وتقديره ما أسمعهم وما أبصرهم وتقدم الكلام في التعجب من الله تعالى وفي قوله: فما أصبرهم على النار.﴿ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ هو يوم القيامة.﴿ لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفار وغيرهم من الظالمين واليوم أي في دار الدنيا ويوم الحسرة اسم جنس لأن بعده حسرات كثيرة في مواطن عدة منها يوم الموت ومنها أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك. و ﴿ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾ أي أمر يوم القيامة.﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ﴾ جملة حالية والعامل فيها قوله: وأنذرهم لعلهم ينتفعون بالإِنذار ويفكرون في يوم الحسرة.﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ﴾ هو عبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق وكأنها وارثة.﴿ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية واذكر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أتل عليهم نبأ إبراهيم وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى * ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيها وعبادتهما من دون الله وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد الجماد والفريقان وإن اشتركا في الضلال فالفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه تذكيراً للعرب بما كان أبوهم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سلكوا غير طريقه وفيه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل * قال الزمخشري: هذه الجملة يعني قوله: انه كان صديقاً نبياً وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذا قال نحو قولك رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقاً نبياً أي كان جامعاً لمقام الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات " انتهى " التخريج الأول يقتضي تصرف إذ وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف والتخريج الثاني مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا تنسب إلا إلى لفظ واحد اما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا ولا جائز أن يكون إذ معمولاً لصديقاً لأنه قد نعت إلا على رأي الكوفيين ويحتمل أن يكون معمولاً لنبيا أي منبأ في وقت قوله: لأبيه ما قال وان التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد وتقدم الكلام على يا أبت في سورة يوسف واستفهم إبراهيم عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الأصنام وهو منتف عنه السمع والبصر والإِغناء عنه شيئاً تنبيهاً على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتفت عنه هذه الأوصاف رتب إبراهيم عليه السلام الكلام مع أبيه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحاً في ذلك نصيحة ربه عز وجل ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جواباً انتقل معه إلى اخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق وقال من العلم على سبيل التبعيض أي شىء من العلم ليس معك وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعد ما نبىء إذ في لفظ جاءني تجدد العلم والذي جاءه الوحي الذي يأتي به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها وتوحيد الله وإفراده بالعبادة والألوهية فاتبعني على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام.﴿ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ وهو الإِيمان وإفراده بالعبادة.﴿ يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ ﴾ انتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصياً للرحمن استعصى حين أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم فأبى فهو عدو لك ولأبيك آدم من قبل وكان لفظ الرحمن هنا تنبيهاً على سعة رحمته وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى وإعلاماً بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده عن هذه الرحمة.﴿ يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ ﴾ الآية الأولى حمل أخاف على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيساً من إيمانه بل كان راجياً له وخائفاً أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدب معه إذ لم يصرح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك فخرج الخائف وأتى بلفظ هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ورتب على مس العذاب بقوله: إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان.﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ﴾ قال أي أبوه استفهم استفهام إنكار والرغبة عن الشىء تركه عمداً وآلهته أصنامه وأغلط له في الإِنكار وناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيا بني * قال الزمخشري: وقدم الخبر على المبتدأ في قوله: أراغب أنت عن آلهتي لأنه كان أهم عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإِنكار لرغبته عن آلهته وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه " انتهى " والمختار في إعراب أراغب أنت أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام وأنت فاعل سدت مسد الخبر ويترجح هذا الاعراب على ما أعربه به الزمخشري من كون أراغب خبر وأنت مبتدأ بوجهين أحدهما أن لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ والثاني أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو أراغب وبين معموله الذي هو عن آلهتي بما ليس بمعمول للعامل لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ بخلاف كون أنت فاعلاً فإِنه معمول لراغب فلم يفصل بين أراغب وبين عن آلهتي بأجنبي إنما فصل بمعمول له ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسماً على إنفاد ما توعده به إن لم ينته ومتعلق تنته محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه وأن تكون لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي.﴿ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾ جواب القسم محذوف وظاهر الرجم بالحجارة * قال الزمخشري: فإِن قلت علام عطف واهجرني قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لأن لأرجمنك تهديد وتقريع " انتهى " وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإِنشائية فقوله: واهجرني معطوف على قوله: لئن لم تنته لأرجمنك وكلاهما معمول للقول وانتصب ملياً على الظرف أي دهراً طويلاً ومنه الملوان وهما الليل والنهار.﴿ قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ ﴾ قرأ أبو البرهشم سلاماً بالنصب ورفع سلام على الابتداء ونصبه على المصدر أي سلمت سلاماً دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإِيمان بالله وإفراده بالعبادة.﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ أي معتنياً وبي متعلق به ولما كان في قوله لأرجمنك فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلامة والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يمتثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم فهاجر إلى الشام وقيل الى حران وكانوا بأرض كوثا ولسان الصدق الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس:﴿ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مُوسَىٰ ﴾ الآية وقرىء: مخلصاً بفتح اللام أي أخلصه الله للعبادة والنبوة وقرىء: بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وحسن مجيء قوله: نبياً بعد قوله: رسولاً كونه فاصلة واطلاق رسول على الملائكة ولا يقال لهم في العرف أنبياء ونداؤه إياه هو تكليمه تعالى إياه * والطور الجبل المشهور بالشام والظاهر أن الأيمن صفة للجانب لقوله في آية أخرى جانب الطور الأيمن بنصب الأيمن نعتاً لجانب الطور والأيمن مشتق من اليمن وهي البركة.﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ هو تقريب مكانة وتشريف لا مكان ونجيا فعيلاً من المناجاة وهو حال من المفعول في قربناه والمناجاة المسارة ومن في من رحمتنا للسبب أي من أجل رحمتنا له أو للتبعيض وأخا مفعول بوهبنا وهارون بدل أو عطف بيان * قال الزمخشري: وأخاه على هذا الوجه يعني كون من في من رحمتنا للتبعيض بدل وهارون عطف بيان كقولك رأيت رجلاً أخاك زيداً " انتهى " والذي يظهر ما قلناه ولا ترادف من بعضنا فتبدل منها وإسماعيل هو ابن ابراهيم عليهما السلام وصدق وعده أنه كان منه مواعيد لله وللناس فوفي بالجميع ولذلك خص بصدق الوعد.﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ ﴾ أي كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ولأنهم أولى من سائر الناس كقوله تعالى:﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ ﴾[الشعراء: ٢١٤].
﴿ مَرْضِيّاً ﴾ مفعول من رضى ويقال: مرضو بإِدغام واو مفعول في اللام التي هي واو يقال مرضى لأنه اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون وقلبت ياء فأدغمت الياء في الياء مرضياً وحسن مجيء مرضى دون مرضو كونه فاصلة.
﴿ إِدْرِيسَ ﴾ جد أبي نوح وهو أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعله الله من معجزاته وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ المكاييل والموازين والأسلحة فقاتل بني قابيل وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة * والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة وحديث أبي هريرة وأنس أنه في السماء الرابعة.﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ والذين خبره وهو إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء ومن في من النبيين للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم ومن الثانية للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح لأنه من ولد سام بن نوح.﴿ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ إسحاق ويعقوب وإسماعيل وإسرائيل معطوف على إبراهيم وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل وكذلك عيسى عليه السلام لأن مريم من ذريته.﴿ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا ﴾ يحتمل العطف على من الأولى والثانية.﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ ﴾ كلام مستأنف ويجوز أن يكون الذين صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر وانتقل في هذه الجمل من الاسم الظاهر إلى ضمير المتكلم في قوله: حملنا وما بعده ثم إلى الاسم الظاهر في قوله: آيات الرحمن وهذا من التفنن في البلاغة والفصاحة وانتصب سجداً على الحال المقدرة لأنهم حالة الحزور ما كانوا سجداً والبكي جمع باك كشاهد.﴿ وَبُكِيّاً ﴾ أصله بكوياً اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها * قال ابن عطية: وبكيا بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك " انتهى " ليس قوله هذا بسديد لأن اتباع حركة الباء لحركة الكاف لا يعني المصدرية ألا تراهم قرؤا جثياً بكسر الجيم جمع جاث وقالوا: عصى فاتبعوا وسمع في جمعه بكاة كرام ورماة قال الشاعر: ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم   مع البكاة على من مات يبكونا﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ الآية، قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود وغيره: والشهوات عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله وعن على الشهوات من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور وألغى كل شر والرشاد كل خير وقال عبد الله بن عمرو وغيره الغي واد في جهنم.﴿ إِلاَّ مَن تَابَ ﴾ إستثناء متصل والضمير في تاب مفرد عائد على لفظ من ثم حمل على المعنى فجمع في قوله: فأولئك، وقرىء: يدخلون مبنياً للفاعل والمفعول وانتصب جنات عدن على أنه بدل من قوله: الجنة، وقرىء: بالرفع على إضمار مبتدأ محذوف تقديره تلك جنات عدن والعدن الإِقامة يقال عدن بالمكان إذا قام به وقال الزمخشري: عدن علم لأن المضاف إليها وهو جنات وصف بالتي وهي معرفة فلو لم تكن جنات مضافة إلى معرفة لم توصف بالمعرفة " انتهى " ولا يتعين ذلك إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف أو منصوباً بإِضمار أعني أو أمدح أو بدلاً من جنات ويبعد أن يكون صفة لقوله الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدّم النعت وجيء بعده بالبدل ودعوى الزمخشري أن عدنا علم بمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه، وقال الزمخشري أيضاً: ولولا ذلك أي كونه علماً لأرض الجنة لما ساغ الإِبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ولما ساغ وصفها بالتي " انتهى " أما قوله: ولولا ذلك إلى قوله: موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة وإنما ذلك شىء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه في كتبنا في النحو فملازمته فاسدة وبالغيب حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أي وهم غائبون عنها لا يشهدونها ومأتياً مفعول من أتى واحتمل وعده أن يكون اسم مفعول أي موعوده.﴿ إِلاَّ سَلاَماً ﴾ إستثناء منقطع لأن سلام الملائكة ليس من جنس اللغو ومعنى بكرة وعشياً جميع الأوقات وكني بالطرفين عن ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾[الرعد: ٣٥].
﴿ نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ التوريث استعارة أي يبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث والأتقياء يلقون ربهم وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة.﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ أبطأ جبريل عليه السلام مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء قال: يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت الآية.﴿ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ﴾ القصد بذلك الاشعار بملك الله تعالى لملائكته وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم ملكه.﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ فعيل للمبالغة في ناس كرحيم مبالغة في راحم والمعنى أنه تعالى لا يهمل أمرك وارتفع رب السماوات على البدل من قوله: ربك أو على تقدير خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رب وعدي فاصطبر باللام على سبيل التضمين أي أثبت بالصبر لعبادته لأن العبادة تورد شدائد فأثبت لها وأصله التعدية بعلى كقوله تعالى:﴿ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾[طه: ١٣٢] والسمي من يوافق في الاسم تقول هذا سميك أي اسمه مثل اسمك فالمعنى أنه لم يتسم بفلظ الله شىء قط وكان المشركون يسمون أصنامهم كاللات والعزى إله وأما لفظة الله فلم يطلقوه على شىء من أصنامهم.﴿ وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ ﴾ الآية سبب النزول أي رجلاً من قريش قيل هو أبي بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيبعث هذا وسخر وكذب وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم، وقرىء: أئذا على الاستفهام وإذا على الخبر والناصب لإِذا فعل محذوف تقديره أئذا مت أبعث ولا يمكن أن يعمل فيه لسوف أخرج لأن لام الابتداء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها قال الزمخشري: فإِن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال فكيف جامعت حرف الاستقبال قلت لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف " انتهى " ما ذكره من أن اللام تعطي معنى الحال منازع فيه فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال وأما قوله: كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلا على مذهب من يزعم أن الأصل فيه الاله وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شىء ولو قلنا أن أصله إله وحذف فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض إذ لو كانت للعوض من المحذوفة لتثبت دائماً في النداء وغيره ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذاً ولا يذكر الإِنسان كرر لفظ الإِنسان تشنيعاً عليه في إنكاره البعث وتذكيراً له بإِيجاده قبل ذلك وإنشائه من العدم الصرف * قال الزمخشري: الواو عطفت لا يذكر على يقول وسقطت همزة الإِنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف " انتهى " * هذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإِنما عطف ما بعدها على ما قبلها وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو فتقر الهمزة على حالها وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة. و ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل بعثه وإِنكاره البعث.﴿ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه بدل على أن المعدوم لا يسمى شيئاً ولما أقام الحجة على حقيقة البعث أقسم على ذلك باسمه تعالى مضافاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتفخيماً لقدره وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيماً لحقه ورفعاً منه. و ﴿ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ﴾ جواب القسم والضمير المنصوب الظاهر أنه عائد على منكري البعث في قوله: ويقول الإِنسان يريد الإِنسان الجنس المنكر للبعث وقيل الضمير عام في جميع المحشورين والشياطين معطوف على الضمير المنصوب.﴿ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ ﴾ إن كان الضمير عاماً أحضروا ليروا النار فيفرح المؤمن بنجاته وحول منصوب على الظرف وجثيا قاعدين على الركب.﴿ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ ﴾ أي: لنخرجن كقوله تعالى:﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾[الأعراف: ١٠٨] وقيل لزمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم * والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب والضمير في أيهم عائد على المحشورين المحضرين وأيهم مبني عند سيبويه وهو مفعول بلننزعنّ ويدل على أنه مفعول قراءة من قرأ أيهم بالنصب وأشد خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أشد وليونس والخليل مذهب في أيهم وأيها استفهام مرفوع بالابتداء ذكر ذلك في النحو * وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعاً على من كل شيعة كقوله:﴿ وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا ﴾[مريم: ٥٠] أي لننزعن بعض كل شيعة فكان قائلاً قال: فمن هم فقيل أيهم أشد عتياً " انتهى " فيكون أيهم موصولة خبر مبتدأ محذوف وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين وعتيا تمييز وأصله المصدر يقال عتا يعتو عتواً وعتياً.﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ ﴾ أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً مميز موضعه بها أي: بجهنم. و ﴿ صِلِيّاً ﴾ تمييز وهو في الأصل مصدر.﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ إن نافية بمعنى ما وثم محذوف تقديره وإن منكم أحد إلا واردها خبر لمبتدأ محذوف ومعنى واردها أي معروض عليها ولا يقتضي الورود الدخول * قال ابن عطية: وإن منكم إلا واردها قسم والواو يقتضيه ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم "" انتهى " ذهل عن قول النحويين أنه لا يستغني عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن والجواب جاء هنا على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا عليه وقوله: الواو يقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو القسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ولا يجوز ذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم نعم السير على بئس العير أي على عير بئس العير * وقول الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه   أي برجل نام صاحبهوهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.﴿ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ ﴾ اسم كان ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله: واردها أي كان الورود ومفعول اتقوا محذوف أي الشرك والشرك هنا ظلم الكفر.﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ ﴾ نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس فقالوا للمؤمنين أي الفريقين خير مقاماً أي منزلاً وسكناً * وأحسن ندياً أي مجلساً ولما أقام الحجة على منكري البعث واتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا وذلك عندهم يدل على كرامتهم عند الله ثم ذكر كثرة من أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم وكم جزية مفعول بأهلكنا أي كثيراً أهلكنا. و ﴿ مِّن قَرْنٍ ﴾ تمييز * قال الزمخشري: وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية " انتهى " تابعه أبو البقاء على ذلك ونص أصحابنا على أن كم الخبرية والاستفهامية لا توصف ولا يوصف بها فعلى هذا يكون أحسن في موضع الصفة لقرن وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربياً فصار كلفظ جميع قال تعالى:﴿ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾[يس: ٥٣] وقال: نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وقرىء:﴿ وَرِءْياً ﴾ بهمزة ساكنة وزنه فعل بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون فمعناه مرئياً وقرىء: وريا بإِبدال الهمزة ياء وإدغام الياء في الياء بعدها وهو بمعنى المهموز وقرىء: وزياً بالزاي بعدها ياء مشددة وهي البزة الحسنة والأثاث الآلات المجتمعة المستحسنة.
﴿ قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ ﴾ الآية فليمدد يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء وكان الأصل منا ومنكم مد الله له أي أملى له حتى يؤول إلى عذابه وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل ويحتمل أن يكون خبراً في المعنى وصورته صورة الأمر تقديره فيمد له كما جاء في الأمر يراد به الخبر في قول الشاعر: وكوني بالمكارم ذكريني   أي تذكرينني فأوقع الأمر وأراد به الخبر وحتى غاية لما قبله وجمع الضمير في رأوا حملاً على معنى من بعد حمله مفرداً في كان وفي له إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً وإظهار الله تعالى دينه على الدين كله على أيديهم وأما يوم القيامة وما ينالهم من العذاب والنكال فيحينئذٍ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً لا خير مقاماً وأحسن ندياً وان المؤمنين على خلاف صفتهم * ولما ذكر امداد الضلال لهم في ضلالاتهم وارتباكهم في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذكر ذلك بزيادة هدى للمتقين المهتدين وبذكر الباقيات الصالحات التي هي بدل من تنعيمهم في الدنيا التي تضمحل ولا تثبت * وقال الزمخشري: ويزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في الضلالة مداً ويمد له الرحمن ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه ويزيد المهتدي هداية بتوفيقه " انتهى " لا يجوز أن يكون ويزيد معطوفاً على موضع فليمدد سواء كان دعاء أم خبراً بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر ان كانت من موصولة أو في موضع الجواب إن كانت من شرطية وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله: ويزيد الله الذين اهتدوا عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ وجملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على جملة الجزاء جزاء وإذا كانت أداة الشرط إسماً لا ظرفاً تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميراً أو ما يقوم مقامه وكذا في الجملة المعطوف عليها أي مرجعاً وتقدم تفسيره في الباقيات الصالحات في الكهف.﴿ أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ ﴾ الآية قيل نزلت في العاص بن وائل عمل له خباب بن الأرت وكان قيناً أي حداداً فاجتمع له عنده دين فتقاضاه فقال لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال العاص: أو مبعوث أنا بعد الموت فقال خباب: نعم، قال فإِنه إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك والهمزة في أطلع للإِستفهام ولذلك عادلتها أم ومفعول أرأيت الأول الذي كفر والمفعول الثاني جملة الاستفهام التي هي أطلع وما بعدها وتقدم الكلام على أرأيت في الأنعام عند الرحمن عهداً أي: له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول وكلا حرف ردع وزجر وتنبيه على الخطأ أي فهو مخطىء فيما يصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه ولم يجيء كلاً فيما تقدم تفسيره من القرآن.﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ﴾ كني بالكتابة عما يترتب عليها من الجزاء فلذلك دخلت السين التي للاستقبال أي سنجازيه على ما يقوله:﴿ وَنَمُدُّ لَهُ ﴾ أي نطول له من العذاب الذي يعذب به المستهزؤون أي نزيده من العذاب ونضاعف له من المد.﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ أي نسلبه المال والولد فيكون كالوارث له.﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ أي بلا مال ولا ولد واللام في ليكونوا لام كي، يكونوا الآلهة لهم عزاً يتعززون بها في النصرة والمنعة والإِنقاذ من العذاب والظاهر أن الضمير في سيكفرون عائد على أقرب مذكور محدث عنه فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم ويحتمل أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة إن يكونوا كما قالوا﴿ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: ٢٣].
﴿ ضِدّاً ﴾ قال ابن عباس: أعوانا.﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ الآية أرسلنا معناه سلطنا ولذلك عداه بعلى ومعنى تؤزهم أي تحركهم إلى الكفر.﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى لا تعجل عليهم بأن يهلكوا.﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ أياماً محصورة وأنفاساً معدودة كأنها في سرعة تقضيها تعدو عدي نحشر بإِلى الرحمن تعظيماً لهم وتشريفاً وذكر صفة الرحمانية التي حضهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر فجاءت لفظة الرحمن مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم ولفظة الوفد مشعرة بالإِكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم ولفظة السوق فيه إزعاج وهو أن، وعدي بإِلى جهنم تفظيعاً لهم وتشنيعاً لحال مقرهم والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء كما قال الشاعر: ردي ورد قطاة صما   كدرية أعجبها ورد ألماًوأطلق الورد على العطاش تسمية للشىء بسببه إذ لا يرد الماء إلا من كان عطشاناً * والضمير في لا يملكون عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه والاستثناء متصل ومن بدل من ذلك الضمير * وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون يعني الواو في لا يملكون علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث والفاعل من اتخذ لأنه في معنى الجمع " انتهى " * لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميراً وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنه لغة ضعيفة وأيضاً قالوا والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل عن العرب وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع * والعهد هنا قال ابن عباس: لا إله إلا الله محمد رسول الله.﴿ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ الضمير في قالوا عائد على بعض اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله وبعض النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله وبعض مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله.﴿ لَّقَدْ جِئْتُمْ ﴾ فيه التفات من ضمير الغيبة في قالوا: إلى ضمير الخطاب في جئتم زيادة تسجيل عليهم بالجراءة على الله والتعرض لسخطه وتنبيه على عظيم ما قالوا:﴿ شَيْئاً إِدّاً ﴾ الاد بفتح الهمزة والاد بكسرها العجب وقيل العظيم المنكر والادة الشدة وآدني الأمر أثقلني وعظم علي وقرىء: يكاد بالياء وبالتاء وقرىء: * يتفطرون وينفطرون ومعنى ينفطرن بتشققن منه أي من نسبة الولد إلى الله * وهدّا منصوب على الحال ومعناه هدماً وسقوطاً.﴿ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً ﴾ أن مع الفعل بتأويل المصدر وهو تعليل للأفعال قبله من الانفطار والانشقاق والخرور * قال الزمخشري: يجوز في أن دعوا ثلاثة أوجه أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه كقوله: على حالة لو أن في البحر حاتماً   على جوده لضنّ بالماء حاتمومنصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا علل الخرور بالهد والهد بدعاء الولد ومرفوعاً بأنه فاعل هدا أي هدها دعاء الولد للرحمن " انتهى " الأول فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين والثاني أيضاً فيه بعد لأن الظاهر أن هذا لا يكون مفعولاً له بل مصدر من معنى وتخر أو في موضع الحال والثالث أيضاً بعيد لأن ظاهر هدا أن يكون مصدراً توكيد يا والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إن كان أمراً أو مستفهماً عنه نحو ضربا زيدا واضربا زيداً على خلاف فيه وأما أن كان خبراً كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الولد للرحمن فلا يقاس بل ما جاء من ذلك فهو نادر كقول امرىء القيس: وقوفاً بها صحبى على مطيهم   أي وقف صحبي ومعنى دعوا نسبوا لله الولد وينبغي مطاوع لبغي بمعنى طلب أي وما يتأتى له اتخاذ الولد لأن الولد مستحيل وينبغي من الأفعال التي تتصرف وسمع فيها الماضي قالوا ابتغي وقد عدّها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط * وكل مبتدأ مضافة إلى من الموصولة أي وكل الذي والخبر قوله: الا آتى وقال الزمخشري: من موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله: * رب من انفجت غيظاً صدره *." انتهى " * الأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل * وانتصب عبداً على الحال ثم ذكر تعالى أنه أحصاهم وأحاط بهم وحصرهم بالعدد فلم يفته أحد منهم وانتصب فرداً على الحال أي منفرداً ليس معه أحد ممن جعلوه شريكاً له وخبر كلهم آتيه فرداً وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفرداً على لفظ كل فتقول كلكم ذاهب ويجوز أن يعود جمعاً مراعاة للمعنى فتقول كلكم ذاهبون * والسين في سيجعل للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا وهي بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة وكانوا ممقوتين من الكفرة فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإِسلام وفشا واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا لا على الإِطلاق ومعنى ودّا أي: محبة والضمير في يسرناه عائد على القرآن أي أنزلناه عليك ميسراً سهلاً بلسانك، أي: بلغتك وهو اللسان العربي المبين.﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم * واللدّ جمع ألدّ لدّا وهو الشديد الخصومة في الباطل.﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ تخويف لهم وإنذار بالاهلاك بالعذاب والضمير في قبلهم عائد على قوماً لدّا وهل تحس استفهام معناه النفي وكم خبرية بأهلكنا أي كثيراً أهلكنا ومن أحد مفعول بتحس ومن زائدة. والركز قال ابن عباس: الصوت الخفي.
Icon