تفسير سورة مريم

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة مريم من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة مريم عليها السلام
مكية وهي ثمان و تسعون آية

﴿ كهيعص١ ﴾ قرأ أبو بكر والكسائي بإمالة فتحة الهاء والياء وابن كثير وحفص بفتحهما وبن عامر وحمزة بفتح الهاء وإمالة الياء ونافع بإمالة الفاء والياء بين بين
﴿ ذكر رحمة ربك ﴾ يظهر قال لفظة صاد عند الذال من ذكر نافع وعاصم والباقون يدغمونها. ذكر خبر لما قبله أن كان المراد به السمرة أو القرآن فإنه مشتمل عليه أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو ﴿ ذكر رحمة ربك ﴾ أو مبتدأ حذف خبره أي فيما يتلى عليك ﴿ ذكر رحمة ربك ﴾ ﴿ عبده ﴾ مفعول للرحمة أو الذكر على أن الرحمة فاعله على الاتساع كقولك ذكرني جود زيد ﴿ زكريا ﴾ بدل منه أو عطف بيان، قرأ حمزة والكسائي وحفص بالقصر والباقون بالمد
﴿ إذ نادى ﴾ الظرف متعلق بالرحمة لو بالذكر يعني دعا ﴿ ربه ﴾ في محرابه ﴿ نداء خفيا ﴾ أي سرا في جوف الليل لأن الذكر والدعاء سرا أكثر إخلاصا والإخفاء سنة الدعاء
ثم فسر النداء بقوله ﴿ قال رب ﴾ أي يا ربي حذف حرف النداء والمضاف إليه اختصارا ﴿ إني وهن ﴾ أي ضعف ورق ﴿ العظم مني ﴾ أسند الوهن إلى العظم لأنه دعامة البدن وأصل بنائه
أو لأنه اصلب أعضاء البدن فإذا وهن كان ما وراءه اوهن، وتوحيده بإرادة الجنس ﴿ واشتعل الرأس شيبا ﴾ شبه الشيب بالنار لبياضه وانتشاره في الشعر باشتعالها واسند الاشتعال إلى الرأس وجعل الشيب تمييزا مبالغة وإشارة إلى استيعاب الشيب جميع الرأس واكتفى باللام عن الإضافة لأن ظهور المراد يغني عن التقيد فإنه يحكم عن رأسه لا عن رأس غيره، والمعنى ربي إني شبت. واختلفوا في سنه حينئذ ؟ فقيل : ستون أخرجه بن أبي حاتم عن ابن المبارك، وقيل : سبعون أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن الثوري، وقال المحلي مائة وعشرون سنة وقد بلغت امرأته ثمان وتسعين سنة ﴿ ولم أكن بدعائك ربي ﴾ أي يا ربي﴿ شقيا ﴾ أي خيبا يعني كلما دعوتك في الماضي استجبت لي ولم تخيبني قط، فالإجابة منك لدعائي جرى عادة منك وسنة وإني أطمع الإجابة منك الآن لما دعوتني به والكريم لا يخيب من أطمعه فالمصدر مضاف أي المفعول أي بدعائي إياك، وجاز أن يكون مضافا إلى الفاعل ويكون المعنى أنك لما دعوتني للإيمان آمنت و لم أشق بترك الايمان، فاستجب دعائي ببركة الايمان بك وإجابة دعائك، وجملة لم أكن معطوف على ما سبق أو حال من ضمير المتكلم فإنه في المعنى فاعل إذ معناه شبت.
﴿ وإني خفت الموالي ﴾ أي أبناء عمي ﴿ من وراءي ﴾ أي بعد موتي متعلق بمحذوف خفت فعل الموالي بعد موتي أو الذين يلون الأمر من بعدي أي لا يحسنوا خلافتي في أمتي بعد موتي ويبدلوا عليهم دينهم، والجملة إما معطوفة أو حال من فاعل أكن ﴿ وكانت امرأتي عاقرا ﴾ لا تلد ﴿ فهب لي من لدنك ﴾ فإن مثله لا يرجى إلا بفضلك وكمال قدرتك فإني وامرأتي لا نصلح للولادة عادة ﴿ وليا ﴾ يعني ابنا يلي أمري بعد موتي
﴿ يرثني ويرث من آل يعقوب ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي الفعلين بالجزم على أنهما جواب الدعاء والباقون بالرفع عنهما صفتان " لوليا " والمراد ميراث العلم والنبوة دون المال لأن الأنبياء لا يورثون المال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخده أخد بحظ وافر١ رواه لأحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي من حديث كثير بن قيس ورواه الترمذي وسماه قيس بن كثير، ولهذا منع أبو بكر فاطمة رضي الله عنها عن ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم حين طلبته وعليه انعقد الإجماع، روى البخاري في الصحيح عن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر رضي الله عنهم يلتمسان ميراثهما من النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ما تركناه صدقة ) ٢ وروى البخاري أيضا في الصحيح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( لا نورث ما تركناه صدقة ) وروى البخاري أيضا عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : انطلقت حتى أدخل على عمر فأتاه حاجبه فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمان والزبير وسعد قال : نعم فأذن لهم ثم قال فهل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، قال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال ( لا نورث ما تركناه صدقة ) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قال : اللهم قد قال ذلك فأقبل على علي وعباس فقال : هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك الحديث، وروى البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقه نسائي ومؤنة عامي فهو صدقة ) وفي الباب حديث حديثة بن اليماني وزبير بن العوام وأبي الدرداء والروافضي ينكرون حديث لا نورث وبه ينكرون على أبي بكر رضي الله عنه مع أن مقتداهم محمد بن يعقوب الكليني روى في جامعه عن أبي عبد الله جعفر الصادق بلفظ ( إن ألا الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ) الحديث، وأيضا سياق الآية لا يقتضي ميراث المال حيث قال :﴿ يرثني ويرث من أل يعقوب ﴾ مع أنه لا يمكن أن يرث من أل يعقوب بأجمعهم ميراث المال، وأيضا يبعد أن يشفق زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يرثه بنو عمه ماله والله أعلم.
﴿ واجعله رب ﴾ يا ربي ﴿ رضيا ﴾ أي مرضيا ترضاه قولا وعملا، أو راضيا عنك في السراء والضراء
١ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة(٢٧٥٢)، وأخرجه أبو داوود في كتاب: العلم، باب: في فضل العلم (٣٦٣٧)، وأخرجه بن ماجه في افتتاح الكتاب، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم (٢٢٣)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا نورث ما تركناه صدقة) (٦٧٢٦).
﴿ يا زكريا ﴾ فيه اختصار تقديره فاستجاب الله دعاءه فقال يا زكريا، ولقد مر الخلاف في مد زكريا وقصره في آل عمران ﴿ إنا نبشرك ﴾ قد مر الخلاف في التشديد والتخفيف فيه في آل عمران ﴿ بغلام ﴾ ولد ذكر يرثك كما سألت ﴿ اسمه يحيى ﴾ صفة لغلام، تولى الله سبحانه تسميته تشريفا له ﴿ لم نجعل له من قبل سميا ﴾ حال أو صفة بعد صفة لغلام، وقال قتادة والكلبي لم يسم أحد بحيي قبله وفيه دليل على أن التسمية بالأسامي الغريبة تعظيم للمسمى وقال سعيد بن جبير وعطاء أي لم نجعل له شبيها ومثلا كما قال الله تعالى :﴿ هل تعلم له سميا ﴾١ قال البغوي : ومعنى إنه لم يكن له مثل أنه لم يعص الله ولم يهم بمعصيته، قلت : لعل المراد منه اجتماع أكثر الفضائل وإن كان بعضها موجبا للفضل الجزئي ككونه حصورا وليس المراد كونه أفضل ممن قبله فضلا عليا لأن الخليل والكليم كانا قبله وكانا أفضل منه، وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس أي لم يلد العواقر مثله قال البيضاوي الأظهر أنه اسم أعجمي و إن كان عربيا فمنقول من الفعل كيعيش ويعمر، وقيل : سمي به لأنه حيي به رحم أمه أو لأن دين الله حيي بدعوته.
١ سورة مريم، الآية: ٦٥..
﴿ قال رب ﴾ أي يا ربي ﴿ أنى ﴾ أي كيف ﴿ يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا ﴾ حال ثانية أو معطوف على ما سبق وهذا سؤال استكشاف أي بأي طريق يكون الولد نحول شابين أو نلد هرمين وفيه استعجاب من الولادة نظرا إلى ملاحظة الأسباب لا بالنظر إلى كمال قدرته تعالى ﴿ وقد بلغت من الكبر عتيا ﴾ أصله عتو كعقود فاستثقلوا توالي الفتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء تم قلبت الثانية وأدغمت فقرا الجمهور عتيا بضم الفاء أي العين وكسر ما بعدها وحفص وحمزة والكسائي بكسرها اتباعا لما بعده، ومعنى العتو الإباء من الطاعة والمراد ههنا كمال الهرم فإن الضعيف لا يطيع أعضاء نفسه ولا يستطيع أن يأتي بما يريد، وقال قتادة يريد تحول العظم يقال عتا الشيخ يعتو عتيا و عسيا إذا انتهى سنه و كبره فهو عات وعاس إذا صار إلى اليبس و الجفاف.
﴿ قال ﴾ الله تعالى أو الملك المبلغ للبشارة تصديقا له ﴿ كذلك ﴾ أي الأمر كذلك أي كما قلت أنه مستبعد بملاحظة الأسباب مستعجب لكن ﴿ قال ربك هو علي هين ﴾ أو المعنى الأمر كما وعدت وقال قال ربك هو علي هين لا احتاج فيما أريد أن أفعل إلى الأسباب وجاز أن يكون المعنى قال زكريا كذلك يعني كما سبق فهو تكرير على التأكيد. وجاز أن يكون كذلك منصوبا يقال في قال ربك وتنازع الفعلان اعني قال وقال في للفاعلية فأعمل الثاني وأضمر في الأول وجاز عكس ذلك يعني قال ربك كذلك وهو إشارة إلى ما سبق يعني يبشرك بغلام إلخ هو علي هين بأن أرد عليك قوة الجماع وأفتق رحم امرأتك لعلوق أو إشارة إلى مبهم يفسره قوله :﴿ هو علي هين ﴾ ﴿ وقد خلقتك ﴾ قرأ حمزة والكسائي خلقناك بالنون والألف على التعظيم والباقون بصيغة الإفراد، حال من الضمير المجرور في علي متعلق بهين ﴿ من قبل ﴾ هذا ﴿ ولم تك شيئا ﴾ بل كنت معدوما حال من كاف خلقتك، وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء
﴿ وقال رب ﴾ أي ربي ﴿ اجعل لي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو وبفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ ءاية ﴾ علامة تدل على حمل امرأتي ﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال ﴾ وأيامها كما يدل عليه آية آل عمران في القصة أنه لم يقدر في تلك الأيام و الليالي على الكلام من الناس فإذا ذكر الله أنطق لسانه وتجرد للذكر والشكر﴿ سويا ﴾ حال من فاعل لا تكلم يعني صحيحا سليما من غير خرس ولا بكم، وقال مجاهد لا يمنع من الكلام مرض، وقيل، سويا أي متتابعات والأول أصح.
﴿ فخرج ﴾ عطف على مقدر يعني فظهرت آية ومنع من التكلم فخرج ﴿ على قومه من المحراب ﴾ أي من المسجد فإنها موطن الحرب مع الشيطان، وفي القاموس الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الأمام من المسجد والموضع الذي ينفرد بها لملك فيتباعد عن الناس، قال البغوي كان الناس من وراء المحراب ينظرونه أي يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون إذ خرج عليهم زكريا متغير اللون فقالوا مالك يا زكريا ﴿ فأوحى إليهم ﴾ فأومأ لقوله تعالى :﴿ إلا رمزا ﴾١ وقال مجاهد كتب لهم في الأرض ﴿ أن سبحوا ﴾ أن مفسرة لأوحى فإن فيه معنى القول أو مصدرية أي صلوا ونزهوا ربكم ﴿ بكرة ﴾ غدوة ﴿ وعشيا ﴾.
١ سورة آل عمران، الآية: ٤١..
﴿ يا يحيى ﴾ تقديره فحملت أم يحيى بيحيى ثم ولدته، ثم قلنا له حين صار أهلا للخطاب، قال المحلي بعد ولادته بسنتين يا يحيى ﴿ خذ الكتاب ﴾ أي التوراة ﴿ بقوة ﴾ أي بحمد واستظهار بالتوفيق ﴿ وءاتيناه الحكم ﴾ الحكمة وفهم الكتاب عطف على قلنا يا يحيى ﴿ صبيا ﴾ وهو ابن ثلاث سنين قرأ التوراة فهو صغير، ومن ها هنا قيل : ما للعب خلقنا، وقيل : المراد بالحكم النبوة استنبأه الله صغيرا
﴿ وحنانا من لدنا ﴾عطف على الحكم يعني أعطيناه رحمة عليه من عندنا، أو رحمة وتعطفا في قلبه على أبويه وغيرهما، أو هيبة ووقارا ورزقا أو بركة، في القاموس حنان كسحاب الرحمة والرزق والهيبة والوقار ورقة القلب ومنه الحنان اسم الله تعالى بمعنى الرحيم ﴿ وزكاة ﴾ طهارة من الذنوب، وقيل عني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقال قتادة هي العمل الصالح وهو قول الضحاك، وقال الكلبي صدقة تصدق الله بها على أبويه ﴿ وكان تقيا ﴾ مسلما مخلصا مطيعا لم يعمل خطيئة ولا هم بها عطف على آتيناه
﴿ وبرا بوالديه ﴾ أي بارا لطيفا محسنا إليهما ﴿ ولم يكن جبارا ﴾ أي متكبرا، وقيل : الجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب ﴿ عصيا ﴾ أي عاصي ربه
﴿ وسلام عليه ﴾ جملة معترضة أي سلام من الله مما يؤذيه ﴿ يوم ولد ﴾ سلم من أن يناله الشيطان بما ينال به بنو آدم ﴿ ويوم يموت ﴾ من عذاب القبر ﴿ ويوم يبعث حيا ﴾ من عذاب النار وهول يوم القيامة، قال سفيان بن عيينة يهم الإنسان في هذه الأحوال يوم ولد فيخرج مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث حيا فيرى نفسه في محشر لم ير مثله قط، فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن.
والظرف يعني ﴿ يوم ولد ﴾ معه ما عطف عليه متعلق بالظرف المستقر أعني عليه في سلام عليه. فإن قيل الظرف المستقر إما مقدم بحصل واستقر كما هو مذهب البصريين أو بحاصل ومستقر كما هو مذهب الكوفيين وعلى التقديريين لا دلالة إلا على زمان واحد إما الماضي وأما الحال فكيف يتصور ظرفية يوم ولد على تقدير الثاني والأخيرين على تقدير الأول ؟ قلنا : المحققون على أن العامل في الظرف عامل معنوي وهو معنى الحصول والاستقرار من غير ملاحظة زمان ولهذا قالوا العامل في الحال في قوله زيد في الدار قائما عامل معنوي وإنما يعبرونه بلفظ حصل وحاصل تجوزا كما يقال هذا زيد قائما تقديره أشير زيدا قائما فلا دلالة هاهنا على الزمان أصلا، فيجوز تعلق الظروف الزمانية الثلاثة من الماضي والحال والاستقبال به لاستشمام معنى الفعل منه، ولو سلمنا أنه في الأصل متعلق بحصل أو حاصل فبعدما سد الظرف مسده وانتقل الضمير من المحذوف إليه فخلع الظرف عن معنى الزمان فجاز تعلق الظروف الثلاثة به.
﴿ واذكر ﴾ عطف على مضمون الكلام السابق لأن ما يذكر يذكر لعلمه المخاطب ويحفظه فكأنه متضمن لقوله أعد هذه القصة وأحفظه فالتقدير أعلم ذكر رحمة ربك عبده زكريا واذكر ﴿ في الكتاب ﴾ أي في القرآن ﴿ مريم ﴾ قصتها ﴿ إذ انتبذت من أهلها ﴾ الظرف إما بدل من مريم بدل الاشتمال لأن الوقت مشتمل على ما فيها، أو بدل الكل لأن المراد بمريم قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد أو ظرف لمضاف مقدر، وقيل : إذ بمعنى المصدرية كقولك أكرمتك إذ لم تكرمني فيكون بدلا لا محالة، أي اعتزلت وتباعدت منهم والنبذ إلقاء الشيء وهو يستلزم البعد ﴿ مكانا شرقيا ﴾ أي مكانا في الدار مما يلي المشرق وكانا يوما شاتيا فجلست في مشرقة تفلي رأسها، وقيل : كانت طهرت من الحيض فذهبت لتغتسل، وقيل : تخلت للعبادة من البيت جانب المشرق، قال الحسن ومن تم اتخذ النصارى المرق قبلة، ومكانا ظرف أو مفعول به لأن في انتبذت معنى أتت
﴿ فاتخذت من دونهم حجابا ﴾ قال بن العباس سترا، وقيل : جلست من وراء جدار، وقال مقاتل : وراء جبل، وقال عكرمة إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت في المسجد فبينما هي تغتسل من الحيض تجردت عرض لها جبرائيل في صورة رجل شاب أمرد وضئ الوجه جعد الشعر سوي الخلق، قال الله تعالى، ﴿ فأرسلنا إليها روحنا ﴾ يعني جبرائيل عليه السلام أضاف إلى نفسه للتشريف سمي روحا لأن الدين يحيى به وبوحيه ﴿ فتمثل لها بشرا سويا ﴾ رجلا شابا أمرد سوي الخلق، وقيل المراد بالروح عيسى جاء في صورة بشر فجملت به والأول أًصح، فلما رأت مريم جبرائيل يقصد نحوها نادت من بعيدو
﴿ قالت إني ﴾ قرأ نافع وبن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أعوذ بالرحمان منك ﴾ قالت ذلك من غاية عفتها ﴿ إن كنت تقيا ﴾ وجواب الشرط محذوف أي فلا تتعرضني أو فتنتهي عني بتعوذي وهذا كقول القائل ان كنت مؤمنا فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعا لك من الظلم فالمعنى ينبغي أن تتقي الله ويكون تقواك مانعا لك من الفجور، وقيل، مبنى هذا الكلام على المبالغة وتقديره إن كنت تقيا فإني أعوذ منك كيف فكيف إذا لم كن كذلك، وجاز أن يكون أن نافية
﴿ قال ﴾ جبرائيل ﴿ إنما أنا رسول ربك ﴾ يعني لست بشرا تخافينه تتعوذين منه لكني ﴿ رسول ربك ﴾ من الملائكة أرسلني إليك ﴿ لأهب لك ﴾ أسند الفعل إلى نفسه مجازا لكونه سببا ظاهريا بالنفخ في الروع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى تقديره أرسلني ربك إليك يقول أرسلت رسولي إليك لأهب لك بتوسط كسبه النفخ في درعك وقرأ ورش وأبو عمرو ليهب لك وكذلك روى الحلواني عن قالون يعني ليهب ربك لك ﴿ ربك غلاما زكيا ﴾ طاهرا من الذنوب معصوما أو ناميا على الخير لا يزال مرتقيا على مساعد الخير والصلاح، قال الصوفية العلية من استوى يوماه فهو مغبون
﴿ قالت ﴾ مريم متعجبة من قوله لكونه على خلاف العادة ﴿ إني ﴾ كيف ﴿ يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ﴾حال يعني أنى يكون لي غلام في حال لم يمسسني بشر أي بنكاح فإن هذه الكنايات إنما يطلق فيه وأما في السفاح فيقال خبت بها وفجر ونحو ذلك ﴿ ولم أك بغيا ﴾ فاجرة، عطف على ما سبق وهو فعول عند المبرد أصله بغو قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعا ولذالك لم يلحقه التاء، وعند غيره فقيل بمعنى فاعل ولم يلحقه التاء لأنه للمبالغة، أرادت مريم أن الولد من نكاح أو سفاح ولم يتحقق شيء منهما.
﴿ قال ﴾ جبرائيل الأمر ﴿ كذلك ﴾ بعني يهب الله لك غلاما وإن لم يمسسك بشر ولم تك بغيا يعني بلا أب ﴿ قال ربك هو ﴾ أي خلق الولد من غير أب ﴿ علي هين ﴾ جملة قال ربك إما علة كجملة محذوفة دل عليه كذلك أو حال منه بتقدير قد، وجاز أن يكون كذلك مقولة لقال ربك تقدير قال جبرائيل قال ربك كذلك يعني أهب لك غلاما من غير أب، وقوله هو علي هين في معنى العلة ﴿ ولنجعله ﴾ أما عطف على قوله هو علي هين لكونه في معنى العلة يعني نفعل ذلك لكونه هينا ولنجعله، أو على علة مقدرة لجملة محذوفة تقديره أهب لك غلاما لنجتبيه بوحينا ولنجعله ﴿ ءاية للناس ﴾ أي علامة وبرهانا على كمال قدرتنا، وقيل : لنجعله عطف على موضع لنجعل أي لنجعله ءاية منا علة العباد يهتدون بإرشاده أو على ءاية أي لنجعله رحمة منا ﴿ وكان ﴾ ذلك ﴿ أما مقضيا ﴾ تعلق به قضاؤنا في الأزل أو قدر وسطر في اللوح أو أمرا حقيقا بأن يقضي ويفعل لك كونه آية ورحمة
﴿ فحملته ﴾عطف على معطوف تقديره فاطمأنت بقول الملك فنفخ الملك في جيب درعها فحملت حين لبست كذا قيل، وقيل : مد جبرائيل جيب درعها بأصبعيه ونفخ في الجيب، وقيل : نفخ في كم قميصها، وقيل في فيها، وقيل نفخ جبرائيل نفخة من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال ﴿ فانتبذت به ﴾ أي تنحت متلبسا بالحمل ﴿ مكانا قصيا ﴾ أي في مكان بعيد من أهلها قال ابن العباس أقصى الوادي وهو وادي ببيت المقدس فرارا من قومها أن يعيروها بالحمل من غير زوج. قال البغوي : اختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها ؟ قال ابن العباس : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء وقيل : ولدت لثمانية أشهر. وقيل : لستة أشهر، وقال مقاتل بن سليمان حملته مريم في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها وهي بنت عشر سنين وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
﴿ فأجاءها ﴾ فألجأها وهو في الأصل مشتق من جاء عدي بهمزة الأفعال لكنه خص بالإلجاء في الاستعمال كما استعمل أتى في أعطي ﴿ المخاض ﴾ أي وجع الولادة مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج، أسند الفعل إليه مجازا يعني أجاءها الله عند المخاض، أو المعنى جاءت سبب المخاض فالمخاض سبب ادع للمجيء فكأنه أجاءها ﴿ إلى جذع النخلة ﴾ لتستتر به ولتعتمد عليه وتتمسك به على وجع الولادة، والجدع هي العرق والغصن وكان نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء ولم يكن لها سعف، أخرج بن أبي حاتم عن أبي روق بلفظ انتهت مريم إلى جدع ليس له رأس فهزتها فجعل بها رأسا وحوصا ورطبا والتعريف للجنس، قال البيضاوي لعله تعالى ألأهمها ذلك ليدربها من الآيات ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب فإنها خير مطاعم النساء ﴿ قالت ﴾ استحياء من الناس ومخافة لومهم على الولادة من غير زوج ﴿ يا ليتني ﴾ المنادي محذوف تقديره يل أيها المخاطب يل ليتني ولعل المخاطب هاهنا نفسها أو جبرائيل عليه السلام، وقيل : يا للتنبيه والجملة المنادية لاستبعاد المتمنى ﴿ مت ﴾ قرأ بن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر بكسر الميم من مات يمات بكسر الميم في الماضي وفتحها في مثل خاف يخاف والباقون بفتحها من مات يموت بفتح العين في الماضي من قال يقول :﴿ قبل هذا ﴾ الأمر ﴿ وكنت نسيا ﴾ قرأ حفص وحمزة بفتح النون والآخرون بكسرها، والنسيان هو صد الحفظ وترك إنسان ضبط ما المستودع ‘ما لضعف قلبه أو عن غفلة أو عن قصد حتى يمحو من القلب ذكره، وكل سيان ذمه الله تعالى فهو ما كان أصله عن تعمد قال الله تعالى، ﴿ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ﴾ ١ وكلما عذر فيه فذا ليس عن تعمد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )٢ وقد يطلق السنيان على ترك الشيء على طريق الإهانة وهو المراد إذا نسب النسيان إلى الله تعالى كما في قوله تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾٣ والنسي بالكسر أصله ما نسي كالنقص لما ينقص وصار في المتعارف اسما لما يقل لاعتداد به، تقول العرب احفظوا أنساكم أي ما من شانه أي ينسى، والفتح، قيل لغة فيه مثل الوتر والوتر والحبس والحبس، ويل : هو مصدر ميمي وضع المفعول والمراد بالنسي إما نسي كما هوالأصل ولهذا أعقبه بقوله، ﴿ منسيا ﴾ دفعا لتوهم أنه يريد به ما يقل الاعتداد به وإن لم ينس، وقال البغوي أنسي ما لقي ونسي ولم يذكر لحقارته ومنسيا أي متروكا، قال قتادة أي شيئا لا يذكر ولا يعرف، وعكرمة والضحاك ومجاهد جيفة ملقاة، وقيل : معناه لم أخلق. فإن قيل لا يجوز التمني بالموت لضر نزل به كما في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾٤ قلنا : لعل ذلك قبل ورود النهي في شريعتهم أو بغلبة الحال بلا قصد منها أو لأجل خوف الفتنة كالدين فإن الإنسان عند خوف الفضيحة قد يكذب أو قد يهلك نفسه والله أعلم، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن تمني الموت لأجل خوف الفتنة جائز لا بأس به.
١ سورة السجدة، الآية ١٤..
٢ قال في اللآلئ: لا يوجد بهذا اللفظ، وأخرج بن ماجه بلفظ: ﴿إن الله وضع عن أمتي﴾ وقال في المقاصد: وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرة من الفقهاء و الأصوليين
انظر كشف الخفاء (١٣٩٣).

٣ سورة التوبة، الآية: ٦٧.
٤ سورة البقرة، الآية: ٩٤..
﴿ فنداها من تحتها ﴾ قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم على أنها جارة وجر ما بعدها وعلى هذا فاعل نادى محذوف يعني ناداها مناد وهو جبرائيل عليه السلام كذا قال ابن العباس والدي وقتادة والضحاك وجماعة قالوا : كانت مريم على أكمة وجبرائيل من وراء الأكمة تحتها فناداها لما سمع جزعها، وقال مجاهد والحسن هو عيسى فالجملة معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على ما سبق تقديره فوضعت حملها فناداها، وقرأ الباقون بفتح الميم والتاء على أنها موصولة وهي مع صلتها فاعل لنادى يعني هي ناداها للذي كان تحتها وهو جبرائيل عليه السلام أو عيسى عليه السلام وضمير تحتها راجعة إلى مريم وقيل إلى النخلة ﴿ ألا تحزني ﴾ أن مضمرة لنادى أي لا تحزني بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس ﴿ قد جعل ربك تحتك سريا ﴾ جملة في مقام التعليل للنهي والتبرئ إليهم، الصغير أخرجه الطبراني في معجم الصغير من حديث البراء بن عازب مرفوعا. لكن قال لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو ستان وأعله بن عدي في الكامل، أبي سفيان وهو معاوية بن يحيى، وحكي تضعيف عن بن معين والنسائي وبن المديني، وذكر البخاري تعليقا عن البراء وأسند عبد الرزاق وبن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم عن البراء موقوفا عليه، وكذا رواه الحاكم في المستدرك فقال إنه صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية من بن عمران السري أخرجه الله لتشربه أمه أي أم عيسى من هو فيه أيوب بن نهيك ضعفه أبو زرعة وأبو الحاتم، قيل : معنى تحتك تحت أمرك أن أمرتيه يجري جرى وإن أمرتيه بالإمساك أمسك، قال بن العباس ضرب جبرائيل وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى الله فيه الماء وحييت النخلة اليابسة فأورقت وأثمرت وأرطبت، وقيل : السري السيد من أسر والمراد به عيسى عليه السلام قال الحسن كان عيسى والله عبدا سريا أو رفيعا سيدا
﴿ وهزي إليك ﴾ أي حركي بجذب ودفع وأميلي إليك ﴿ بجذع النخلة ﴾ والباء زائدة للتأكيد، قال البغوي تقول العرب هزه وهز به ﴿ تساقط ﴾ قرأ الجمهور بفتح التاء والقاف وتشديد السين وحمزة بفتحها مع التخفيف أصله من التفاعل حذف حمزة إحدى التاءين وأدغمها غيره في السين، وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف من المفاعلة بمعنى أسقط والتأنيث لكون الضمير عائد إلى النخلة، وقرا يعقوب بالتاء والتحتانية والضمير يعود حينئذ إلى الجذع ﴿ عليك رطبا ﴾ تميز من نسبة تتساقط، وفيه مبالغة على قراءة الجمهور ومفعولا به على قراءة حفص ويعقوب ﴿ جنيا ﴾ يعني بلغ الغاية وجاء أوان اجتنانه، قال الربيع بن هيثم ما للنفساء عندي خير من لرطب ولا للمريض خير من العسل
﴿ فكلي ﴾ يا مريم من الرطب ﴿ واشربي ﴾ من السراء ومن الرطب وعصيره ﴿ وقري عينا ﴾ أي طيبي نفسا واطردي عنك ما أحزنكن عينا تميز من نسبة قري تعني لتقر عينك، وقيل : يعني يلدك واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه عن النظر إلى غيره، ويقال فى الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فيقرك بالنصر إليه من النظر لغيره، وقيل أقر الله عينه أي أنامها يقال أقر يقر إذا سكن أو أمر من القر ضد الحر أن دمعة السرور باردة ودمغة الحزن جارة، ولذالك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه ﴿ فإما ترين من البشر أحدا ﴾ ما زائدة أدغمت نون أن الشرطية فيها و النون للتأكيد تعني فكلما ترين يا مريم رميا فيسألك عن شأن ولدك ﴿ فقولي أني نذرت للرحمان صوما ﴾ أي صمتا كذالك كان بن مسعود يقرا يعني نذرت للرحمان أن امسك عن الكلام في شأنه وغيره مع الأناسي، وقال السدي كان في بني إسرائيل من يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسي، فقيل : إن الله أمرها أن تقول هذا إشارة لكونه المجادل والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه قاطع الطعن، وقيل : أمرها أن يقول هذا القدر نطقا ثم تمسك من الكلام بعده ﴿ فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾ بعد أن أخبركم بنذري يقال : كانت تكلم الملائكة لا تكلم الإنس.
﴿ فاتت به ﴾ أي بعيسى ﴿ قومها تحمله ﴾ أي حاملة إياه قيل : إنها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها، وقال الكلبي حمل يوسف النجار مريم وابنها عيسى إلى غار مكثت فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملته مريم إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال يا أماه أبشري إني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على قومها ومعها صبي رأوا وبكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين و﴿ قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ﴾ جواب قسم محذوف أي منكرا من فرث الجلد بمعنى الشق، ومنه قول الحسان لأفرينهم فري الأديم، أي أشقهم بالهجاء كما يشق الأديم، ومنه يستعمل في القرآن كثيرا بمعنى تصنع الكذب والشرك والظلم قال الله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب ﴾١ وقال :﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾٢ فإن المنكر من الشرك والمعاصي يشق عصمة الرجل وصلاحه، وقيل معناه عظيما عجيبا كأنه يفري العادة أي يقطعها ويشقها، قال أبو عبيدة كل أمر فائق من عجب أو عمل فهو فري، قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر ( فلم أرى عبقريا يفري فريه )٣ أي يعمل عمله عجيبا فألقا في العجب
١ سورة الصف، الآية: ٧..
٢ سورة النساء، الآية: ٤٨.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب، علامات لنبوة في الإسلام، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه (٢٣٩٣).
﴿ يا أخت هارون ﴾ أخرج بن أبي حاتم عن السدي أنهم عنوا بهم هارون النبي أخا موسى عليه السلام لأنها كانت من نسله كما يقال للتيمي يا أخا تميم، وقيل لأنه كانت من أعقا ب من كان مع هارون النبي في طبقة الأخوة أخرجه بن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة، وقال الكلبي كان هارون أخا مريم من أبيها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، روى البغوي عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرؤون ﴿ يا أخت هارون ﴾ وموسى كان قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال :( إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين من قبلهم )١ رواه مسلم في الصحيح، وقال البغوي قال قتادة وغيره كان هارون رجلا صالحا عابدا في بني إسرائيل روي أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسموا هارون بني إسرائيل سوى سائر الناس، شبهوها به على معنى أنك مثله في الصلاح وليس المراد به الأخوة في النسب كما قال تعالى :﴿ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ ٢ أي أشباههم، كذا اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإنما شبهوها به تهكما أو بما رأوا قبل ذلك من صلاحها، وقيل : كان هارون رجلا فاسقا من بني إسرائيل عظيم الغسق فشبهوها به شتما كذا أخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ﴿ ما كان أبوك ﴾ عمران ﴿ امرأ سوء وما كانت أمك ﴾ عنه ﴿ بغيا ﴾ زانية فيه تقرير لكون ذلك منها أمرا فريا فإن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش وأعجب
١ أخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء (٢١٣٠).
٢ سورة الإسراء: الآية: ٢٧..
﴿ فأشارت ﴾ مريم ﴿ إليه ﴾ أي إلى عيسى أن كلموه قال ابن مسعود لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وفي القصة أنها لما أشارت إليه، غضب القوم وقالوا : بئس ما فعلت أتسخرين منا ﴿ قالوا كيف نكلم من كان ﴾ كان زائدة كما في قوله تعالى ﴿ هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾١ وصلة من قوله ﴿ في المهد ﴾ أي الظرف المستقر ﴿ صبيا ﴾ حال من المستكن في الظرف، وجاز أن يكون كان تامة أو للدوام كما في قوله تعالى :﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾٢ أو بمعنى صار، والمراد بالمهد حجر أمه وقيل هو المهد بعينه، يعنون أنه لم نعهد عاقلا كلم صبيا أي في المهد أي سبيا لم يعقل على متكلم بعد، قال السدي : فلما سمع عيسى كلامهم ترك الرضا ع وأقبل عليهم وقيل : لما أشارت إليه ترك الثدي واتكأ على يساره واقبل عليهم وجعل يشير بيمينه
١ سورة الإسراء، الآية: ٩٣..
٢ سورة النساء، الآية: ١٧..
و﴿ قال إني عبد الله ﴾ بإضافة نفسه إلى الله أنه عبد مكرم ولما كان القوم منكرين لذلك أورده بالتأكيد، قال وهب أتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فعال لعيسى انطق بحجتك إن أمرت بها، فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يوما، وقال مقاتل : قال يوم ولد إني عبد الله على نفسه بالعبودية لله عز وجل أول ما تكلم لئلا يتخذه الناس إلها ﴿ ءاتني ﴾ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها ﴿ الكتاب ﴾ قال الحسن ألهم التوراة وهو في بطن أمه، وقال الأكثر ون الإنجيل وهو طفل صغير يعقل عقل الرجال، وقيل : معناه سيأتين الكتاب أي الإنجيل
وكذا قوله :﴿ وجعلني نبيا ﴾ يعني سيجعلني نبيا والتعبير بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع، وقيل : هذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم :( متى كنت نبيا ؟ قال كنت نبيا بين الروح والجسد ) رواه بن سعد وأبو نعيم في الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن أبي الجذعاء والطبراني عن ابن عباس.
﴿ وجعلني مباركا ﴾ البركة إما بمعنى تبات الخير وقراره مأخوذ من برك البعير، وإما بمعنى الزيادة في العطاء يقال اللهم بارك في عطائك، أو بمعنى العظمة والكرم يقال هذا من بركة فلان، قيل : معناه ههنا أي نفاعا، وقال مجاهد معلما للخير، قال عطاء أدعو إلى الله وإلى توحيده وعبادته، وقبل : مباركا على مكن تبعني ﴿ أين ما كنت ﴾ حيث كنت وفي الأرض أو في السماء وحيث توجهت، ويستفاد منه أنه نفاع في السماء يستفيد منه الملائكة ﴿ وأوصاني ﴾ أمرني ﴿ بالصلاة والزكاة ﴾ أي تطهير المال بأداء ما وجب فيه وتطهير النفس من الرذائل، قال البغوي : فإن قيل لم يكن لعيسى مال فيؤمر بالزكاة ؟ قيل : معناه أمرني بالزكاة لو كان لي مال وقيل : معناه أوصاني بان اصلي وأزكي مدة حياتي
﴿ وبرا ﴾ أي بارا ﴿ بوالدتي ﴾ عطف على مباركا أو منصوب بفعل دل عليه أوصاني أي وكلفني برا، وبرا حينئذ مصدر﴿ ولم يجعلني جبارا ﴾ أي عاتيا متكبرا ﴿ شقيا ﴾ عاصيا بربه، قيل الشقي هو الذي يذنب ولا يتوب
﴿ والسلام ﴾ إلى السلامة على } جملة فعلية في الأصل ولذالك عطف على فعلية سابقة جعلت اسمية لدلالته على الاستمرار ﴿ يوم ولدت ﴾ من ظعن الشيطان﴿ يوم أموت ﴾ من عذاب القبر ﴿ ويوم أبعث حيا ﴾ من الأهوال وعذاب النار أو التحية من اله عند كل تغير، واللام للعهد أو للجنس، وفيه تعريض بالمعنى على أعداءه فإنه لما جل جنس السلام على وعلى من هو معناه بالإيمان عرض بأن ضده على من يضاده مقوله تعالى :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾١ فإنه تعرض بأن العذاب على من كذب وتولى قال البغوي فلما كلمهم عيسى بهذا علموا ببراءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان.
١ سورة طه، الآية: ٧.
﴿ ذلك ﴾ الذي تقدم ذكره نكونه معترفا بالعبودية وغير ذلك ﴿ عيسى ﴾ مبتدأ وخبر﴿ ابن مريم ﴾ نعت أو خبر ثان يعني ليس عيسى من يصفه النصارى الألوهية فإنه منحوت خيالهم، فيه تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البر هاني حيث جعله الموصوف أصداد ما يصفونه، ثم عكس الحكم ﴿ قول الحق ﴾ قرأ بن عامر وعاصم ويعقوب بالنصب على أنه مصدر مؤكد تقديره أقول قول الحق أو على المدح، والباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الكلام السابق قول الحق لا ريب فيه وإضافة القول إلى الحق البيان وقيل هذا صفة لعيسى وبدل منه أو خبر ثان لذلك والحق هو الله ومناه وكلمة الله ﴿ الذي فيه ﴾ أي في هذه ﴿ يمترون ﴾ أي يشكون ويتنازعون فقالت اليهود ساحر كذاب وقالت النصارى ابن الله أو هو الله، ثم نفى عن نفسه الولد فقال ﴿ ما كان لله أن يتخذ من ولد ﴾
﴿ ما كان لله أن يتخذ من ولد ﴾ جيء بمن لتأكيد النفي ﴿ سبحانه ﴾ مصدر أقيم مقام الفعل أي أسبحه سبحانا، فهو جملة معترضة للدلالة على تنزه ذاته عن اتخاذ الولد ﴿ إذا قضى أمرا ﴾ إن أراد أن يحدث شيئا ﴿ فإنما يقول له كن فيكون ﴾ ومن ذلك لإحداث عيسى بلا أب ومن كان كذلك كان منزها من مشابهة الخلق بريا من الحاجة لإلى اتخاذ الولد بإحبال الإناث والتجزي بالعلوق، فالجملة الشرطية في مقام التعليل بنفي اتخاذ الولد، قرأ بن عامر فيكون بالنصب على الجواب.
﴿ وإن الله ربي وربكم ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر ويعقوب بكسر الألف على الاستئناف عطفا على ﴿ إني عبد الله ﴾ وأهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الألف عطفا على الصلاة والزكاة يعني وأوصاني بأن الله ربي، أو مبتدأ حذف خبره تقديره وإن الله ربي وربكم والجملة معطوفة على أني عبد الله مولنا للقول، فيه إشارة إلى اكتمال القوة النظرية باعتقاد التوحيد، وفي قوله :﴿ فاعبدوه ﴾ إشارة إلى استكمال القوة العملية بإتيان المأمورات والانتهاء عن المناهي والفاء للسببية، وفي قوله :﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ تعليل لقوله ﴿ فاعبدوه ﴾ وتأكيد لما سبق يعني الجمع بين الأمرين هو الصديق المشهود له بالخير.
﴿ فاختلف الأحزاب ﴾ يعني اليهود والنصارى أو فرق النصارى تحزبوا أي تفرقوا ثلاث فرق في أمر عيسى قالت النسطورية أنه بن الله، وقالت اليعقوبية أنه هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء وقالت الملكائية هو عيد الله ورسوله، وجملة فاختلف معطوفة على قال عيسى ﴿ من بينهم ﴾ كلمة من زائدة والظرف متعلق باختلف، والمعنى من بين أصحابه أو من بين قومه أو من بين الناس ﴿ فويل ﴾ الفاء للسببية وويل في الأصل مصدر منصوب معناه هلكوا أهلاكا، ثم نقلت الجملة من الفعلية إلى الاسمية ورفع على الابتداء للدلالة على الاستمرار أو نحو إسلام سلام عليكم ﴿ للذين كفروا ﴾ كان في الأصل مصدر مصوب متعلقا بالمصدر ثم جعل ظرفا مستقرا خبرا للمبتدأ ﴿ من مشهد يوم عظيم ﴾ متعلق بويل أي من شهود يوم عظيم وحسابه وجزاؤه وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو م مكانه فيه، أو ن شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن يشهد عليهم الملائكة و الأنبياء وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، و ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالفسوق والكفر، أو من وقت الشهادة عليهم أو من مكانها، وقيل هو ما شهدوا به في عيسى
﴿ أسمع نهم وأبصر يوم يأتوننا ﴾ يعني يوم القيامة صيغة التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب فالجمهور على أن المراد أن أسماعهم وأبصارهم يوم القيامة دير بأن يتعجب منها لأجل شدة استماعهم وأبصارهم الحق حين ل ينفعهم الاستماع والإبصار بعدما كانوا صما وعميا في الدنيا منه حين كان ينفعهم لو سمعوا وأبصروا، أو تهديدا بما سيسمعون ويبصرون يومئذ مما أوعدوا به ولم يسمعوا الإنذار في الدنيا والجار المجرور في محل الرفع بصيغة التعجب، وقيل : هو صيغة أمر أمر الله نب صلى الله عليه وسلم أن يسمعهم ويبصرهم يومئذ ذلك اليوم والجار والمجرور على هذا في محل النصب ﴿ لكن الظالمون اليوم ﴾
أي في الدنيا ظرف متعلق بالظرف المستقر أعني قوله ﴿ في ضلال مبين ﴾ وضع الظالمين موضع الضمير إشعارا بأنهم ظلموا، حيث لم يستعملوا الإسماع والإبصار حين كان ينفعهم وأغفلوا أنفس هم، وسجل على إغفالهم بأنهم في ضلال مبين.
﴿ وأنذرهم ﴾ يا محمد ﴿ يوم الحسرة ﴾ مفعول ثان لأنذرهم وجملة وأنذرهم معترضة أو معطوفة على فاختلف بتقدير قلنا أي وقلنا لك أ نذرهم يوم الحسرة ﴿ إ ذ قضي الأمر ﴾ أو بدل من اليوم أو ظرف من الحسرة وذلك إذا فرغ من الحساب دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم :( يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة خلود فيشرفون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا ؟ قالوا هذا الموت وكلهم قد رأوه، فيذبح ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وانذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر )١ الآية روى البغوي، وروى الشيخان في الصحيحين عنه نحو، وروى الشيخان ذبح الموت من حديث ابن عمر نحوه، ولكن ليس فيه قراءة الآية، وكذا روى أبو يعلى والبزار والطبراني في الوسط بسند صحيح عن أنس والحاكم وبن حبان عن أبي هريرة من غير ذكر قراءة الآية، وقال البيضاوي ( يوم يتحسر الناس المسيء على إساءته والمحسن على قلة إحسانه، وروى الطبراني وأبو يعلى عن معاد بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها ) وروى البغوي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من أحد يموت إلا ندم ) قالوا : فما ندمه يا رسول الله ؟ قال : إن كان محسنا أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم ألا يكون نزع )٢ ﴿ وهم في غفلة ﴾ عما هم عليه من الضلال و عما يعمل بهم في الآخرة ﴿ وهم لا يؤمنون ﴾ أي لا يصدقون المخبر الصادق، و الجملتان حالان من الضمير المستكن في الظرف أي في ضلال مبين وما بينهما اعتراض، أو من الضمير المنصوب في أنذرهم يعني أنذرهم غافلين غير مؤمنين فيكون حالا متضمنا للتعليل
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿وانذرهم يوم الحسرة﴾ (٤٧٣٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجن يدخلها الضعفاء(٢٧٤٩)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد (٣٠٢٤) وفيه من تكلم فيه
.

﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ﴾ يعني يفني الأرض ومن عليها ويبق الرب وحده كما يبق الوارث بعد موت المورث، وذكر كلمة من تغليبا للعقلاء أو المعنى يسلب الله تعالى مالكية غيره تعالى عن الأرض وعمن عليها بإهلاك الملاك فيكون الملك الله وحده ﴿ وإلينا يرجعون ﴾ بعدم يبعثون فن جازيهم عن حسب أعمالهم وجملة إلينا مرفوع المحل عل أن خبر أنا عطفا على نرث.
﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم ﴾ أي خبره ﴿ إنه كان صديقا ﴾ قيل : معناه كثير الصدق، وقيل : بل من لم يكذب قط، وقيل : بل من لم يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق وقيل : بل من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه وتصديقه بفعله، وقيل : كثير التصديق لله تعالى في ما غاب عنه من وحدانيته وصفاته وأنبيائه ورسوله بالبعث بعد الموت ويحسن ما أمر به ويقبح ما نهى عنه وحقق تصديقه بفعله فقام على إتيان الأوامر والانتهاء عن المناهي، قلت : ليس المراد بكثرة التصديق كثرته باعتبار متعلقة كما يدل عليه ظاهر عبارة البغوي، فإن التصديق جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم توجد في كل مؤمن حتى أنه لم يؤمن بشيء منها كان كافرا والقيام على إتيان الأوامر وترك المناهي حظ الصالحين منهم وليس كل صالح صديقا، بل المراد بكثرة التصديق قوته وشدته وذلك للنبوة أصالة أو وراثة أي بكمال متابعة الأنبياء ظاهرا وباطنا والاستغراق في كمالات النبوة والتجليات الذاتية الصرفة الداعية بلا حجاب بالوراثة والتبعية ألا ترى أنه تعالى ذكر أربعة أصناف الذين أنعم الله عليهم، فقال :﴿ من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ وبشر غيرهم من المؤمنين بمعيتهم كالصديقين على درجة من الشهداء والصالحين وقد ذكرنا ذلك في سورة النساء في تفسير قوله تعالى :﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾١ فالصديقون هم اللذين قال الله منهم :﴿ ثلث من الأولين* وقليل من الآخرين ﴾٢ وتفسيرها في سورة الواقعة وأكبر الصديقين بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما الخواص منهم، قال رضي الله عنه. أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب يعني بعدي من حيث الرتبة دون الزمان وأكبرهم جميعها أبو بكر سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقا وعليه انعقد الإجماع ﴿ نبيا ﴾.
من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض وهو العالي في الرتبة بإرسال الله تعالى إياه أو من النبأ بمعنى الخبر يعني المخبر من الله على اختلاف القراءتين كما مر
١ سورة النساء، الآية: ٦٨.
٢ سورة الواقعة، الآية: ١٣و١٤.
﴿ إذ قال ﴾ بدال من إبراهيم ما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو صديقا نبيا ﴿ لأبيه ﴾ آزر وقد مر في ذكره في سورة الانعام ﴿ يا أبت ﴾ ذكر الأبوة للاستعطاف ولذلك كررها ﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ﴾ المفعول للفعلين مبني غير منوي أي ما لا سمع له و لا بصر وجاز أن يكون تقديره ما لا يسمع شيئا ولا يبصره فيعرف حالك وسمع ذكرك ويرى خضوعك ﴿ ولا يغني عنك شيئا ﴾ من الإغناء في جلب نفع أو دفع ضر فشيئا منصوب على المصدرية، أو المعنى لا يدفع عنك شيئا من المضار فهو منصوب على المفعولية، بين إبراهيم عليه السلام أباه ضلالته برفق وشفقة ودعاه إلى الهدى واحتج عليه بأوضح حجة وبرهان قاطع مع رعاية الأدب حيث لم يصرح بضلالته بل طلب منه بيان ما يقتض عبادة الأوثان وأشار إلى أنهن أدنى رتبة من أن يركن إليهن عاقل فإن العاقل لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح والعبادة هي التي غاية التعظيم لا يستحقه إلا من له الاستغناء التام والإنعام إنعام القادر على الإثابة والإيلام قدرة تلم ة لا يستطيع أحد مدافعته وهو الخالق الرازق المحيي والمميت المتر المعاقب الثيب، فأما من كان ممكنا مثله محتاجا في الوجود وتوابعه إلى غيره وإن كان مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الإنعام والإيلام بل وإن كان أشرف الخلائق كالنبيين والملائكة، فإن العقل السليم يستنكف عن عبادته معرضا عن عبادة خالصة وجاعله كذلك فإنه استعارة من المستعير وطلب حاجة من المحتاج الفقير فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق القويم فقال ﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما ﴾
﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما ﴾بالله وأحكامه ﴿ ما لم يأتك فاتبعني ﴾ على ديني ﴿ أهدك صراطا سويا ﴾مستقيما يوصلك إلى فلاح الدارين، ومن كمال وخلقه أنه لم سم إياه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق منه ثم أظهر مضار ما كان عليه أبوه بعد ذكر خلوه عن النفع بأن ما هو عليه في الحقيقة عبادة للشيطان لكونه آمرا به فقال ﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان ﴾
﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان ﴾ أي لا تطعه فيما يزن لك من الكفر وعبادة الأوثان وبين وجه المضرة فيه بأن الشيطان نستعص على ربك المولى للنعم كلها بقوله :﴿ إن الشيطان كان للرحمان عصيا ﴾كثير العصيان ومعلوم أن المطاوع للعاصي وكل عاص حقيق بأن يسترد منه النعم وينتقم منه ولذلك عقبه بتخويفه وسوء عاقبته ما يجر إليه فقال :{ يا أبت إني
أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان }
﴿ يا أبت إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف أن يمسك ﴾ أي يصيبك ﴿ عذاب من الرحمان ﴾ إن أقمت على الكفر وإطاعة الشيطان، وفي ذكر الرحمان مع ذكر العذاب إشارة إلى أن العصيان يقتضي العذاب ممن هو موصوف بالرحمة الكاملة، فإن كمال الرحمة على المطيعين لا ينافي كمال الغضب على العاصي ن المتمردين ﴿ فتكون للشيطان وليا ﴾ قريبا في اللعن في الدنيا وعذاب النار في الآخرة تليه ويليك، قال البيضاوي : لعل اقتصاره على عصبا ن الشيطان من جناته لارتفاع همته في الربانية ولأنه ملاكها أو لأنه من حيث أنه نتيجة معاداته لآدم وذريته
﴿ قال ﴾ أبو آدم ﴿ أراغب أنت عن ءالهتي يا إبراهيم ﴾ فتعيبها، ولم يقابل يا أبت يا بني ولأخره وقدم الخبر على المبتدأ صدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده بقوله ﴿ لئن لم تنته ﴾ عن مقالك فيها أو عن الرغبة عنها لأرجمنك، قال الكلبي ومقاتل والضحاك لأشتمنك ولأبعدنك بالقول القبيح، وقال بن عباس لأضربنك، وقال الحسن لأقتلنك بالحجارة ﴿ واهجرني ﴾ عطف على ما دل عليه لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني ﴿ مليا ﴾ قال الكلبي اجتنبني طويلا، وقال مجاهد وعكرمة حينا، وقال سعد بن جبير دهرا وأصل الملي المكث يقال تمليت حينا والملوان الليل والنهار، وقال قتادة وعطاء سالما، وقال ابن العباس اعتزلني سالما لا يصيبك مني معرة يقال يلي بأمر كذا إذا كان كافيا
﴿ قال ﴾ إبراهيم عليه السلام ﴿ سلام عليك ﴾ سلام توديع ومتاركة مقابلة للسيئة بالحسنة كما هو دأب الحليم في مقابلة السفيه كما قال الله تعالى :﴿ وإذا خاطبهم الجاهل قالوا سلاما ﴾١ أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه ﴿ سأستغفر لك ربي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها، قال أكثر المفسرين : معناه أسأل الله تعالى لك أن يرزقك التوحيد والإسلام ويوفقك للتوبة فيغفر لك، فإن السؤال بالمغفرة للكافر لا يجوز إلا استدعاء بالتوفيق لما يوجب مغفرته وعندي ليس كذلك لما قال الله تعالى :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ إلا قول إبراهيم لأستغفرن لك ﴾٢ فإنه صريح بأنه لا يجوز لإقتداء إبراهيم في الاستغفار للشرك مع أنه يجوز الدعاء للمشرك بالتوفيق، فالأولى أن يقال لأن ذلك كان قبل النهي عن الاستغفار للمشرك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب :( والله لأستغفرن لك ما ألم أنه عنه ) فنزلت :﴿ ما كان للنبي والذين معه أن يستغفروا للمشركين ﴾٣ الآية وقد مر في سورة التوبة، وأيضا لو كان إبراهيم سأل الله تعالى أن يرزقه الإيمان لرزقه الله الإيمان فإن كل نبي يجاب لكنه لما لم يكن إيمانه مقدرا لم يسأل إبراهيم ذلك والله أعلم ﴿ كان بي حفيا ﴾ أي بليغا في البر والألطاف، قال الكلبي عالما يستجيب لي إذا دعوته، قال مجاهد عودني الإجابة لدعائي
١ سورة الفرقان، الآية: ٦٣..
٢ سورة الممتحنة، الآية: ٤..
٣ سورة التوبة، الآية: ١١٣..
﴿ وأعتزلكم ﴾ بالمهاجرة بديني، عطف على سأستغفر ﴿ وما تدعون ﴾ عطف على الضمير المنصوب يعني وأعتزل ما تدعونه أي تعبدونه من دون الله } قال مقاتل كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ﴿ وأدعوا ﴾ أي أعبد ﴿ ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ﴾ أي لا أشقى ولا أخيب بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام.
أورد كلمة عسى تواضعا وهضما للنفس وتنبيها على أن الإجابة والإثابة تفضل منن الله غير واجب عليه وأن ملاك الأمر الخاتمة وهي لا تدري
( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله( مهاجرا إلى الشام ( وهبنا له( بدلا ممن فارقهم من الكفرة ( إسحاق ويعقوب( أقر الله عينيه بأولاد كرام على الله لما ظرف متعلق لوهبنا وجملة وهبنا معطوف على محذوف تقديره قال سلام عليك إلى آخره فاعتزلهم فوهبنا له إسحاق ويعقوب ( وكلا( أي كل واحد منهما ( جعلنا نبيا
﴿ ووهبنا لهم ﴾ أي للثلاثة ( من أرحمتنا( وكلمة من للتبعيض أي بعض رحمتنا قال الكلبي هو المال والأولاد والكرام وقيل : الكتاب والنبوة، قال البيضاوي لعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد ( وجعلنا لهم لسان صدق علينا( المراد باللسان ما يصدر منه يقال لسان العرب أي لغتهم يعني كلام صدق وهو ما يثنون عليهم أهل الملل كلهم ويفتخرون بهم استجابة لدعوته ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين( ١ وإضافة اللسان إلى الصدق وتوصيفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهن لا تخفى على تباعد الأعصار وتبدل الملل لهم ظرف مستقر مفعول ثان لجعلنا وعليا حال من الضمير المرفوع المستكن في الظرف.
١ سورة الشعراء: الآية: ٨٤..
( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا( قرأ الكوفيون بفتح اللام يعني أخلصه الله واختاره لنفسه ونزهه عن التدليس بالتوحيد إلى غيره، والباقون بكسر اللام يعني أسلمه وجهه وأخلص نفسه لله ونزه عبادته عن الشرك الجلي والخفي ( وكان رسولا نبيا( يعني أرسله الله إلى الخلق فصار رفيعا الدرجة مخبرا من الله بأحكامه ولذلك قدم رسولا مع كون الرسالة أخص وأعلى من النبوة.
( وناديناه من جانب الطور( وهو جبل بين مصر ومدين ويقال اسمه الزبير، وذلكم حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي يا موسى إني أنا الله رب العالمين ( الأيمن( أي جانب الذي يلي يمين موسى عليه الصلاة والسلام إذ لا يمين للجبل وغنما أضيف إلى الطور لدنى ملابسة وكان موسى سائرا من مدين إلى مصر فلما وصل إلى الطور كان الطور على يمين موسى أو المراد من جانبه الميمون فإنه تمثل له الكلام من تلك الجهة ( وقربناه( بذاته تعالى قربا غير متكيف من لم يذقه لم يدر ( نجيا( حال من هذا لمضمرين في قربناه أي مناجيا ربه بأن أسمعه كلامه.
( ووهبنا له( أي لموسى حين دعا وقال :( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي( ١ ( ومن رحمتنا( أي من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا ( أخاه( مفعول لوهبنا أن كان من للسببية ويدل منه إن كان للتعييض ( هارون( عطف بيان لأخاه ( نبيا( حال من مفعول وهبنا يعني وهبنا له نبوة أخيه وإلا فكان هارون أكبر سنا منه، قال البغوي ولذلك سمي هارون هبة الله
١ سورة طه، الآيبة: ٢٩..
( واذكر في الكتاب إسماعيل( ابن إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه كان صداق الوعد( قال مجاهد لم يعد شيئا إلا وفى به، وقال مقاتل وعد رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه الرجل فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل، وقال الكلبي انتظره حتى حال عليه الحول وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح حيث قال :( ستجدني إن شاء الله مكن الصارين( ١ فوفى به ( وكان رسولا( إلى جرهم ( نبيا( قال البيضاوي هذا يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب الشريعة فإن أولاد إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانوا على شريعته
١ سورة الصافات، الآية: ١٠٢..
( وكان يأمر أهله( اشتغالا بالأهم وهو أن يقبل الرجل على نفسه وهو من أقرب الناس إليه بالتكميل قال الله تعالى :( وأنذر عشيرتك الأقربين( ١ وأمر أهله بالصلاة ٢ ( قوا أنفسكم وأهليكم نارا( ٣ وقيل : المراد به أمته فإن الأنبياء آباء الأمم ( بالصلاة والزكاوة( قال ابن عباس يريد التي افترض الله عليهم وهي الحنفية التي افترضت علينا وخص العبادتين بالذكر لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية والزكاة أفضل العبادات المالية ( وكان عند ربه مرضيا( رضي الله لنبوته ورسالته ورضي عنه لأجل قيامه على طاعته واستقامة أعماله وأفعاله.
١ سورة الشعراء، الآية: ٢١٤..
٢ سورة طه، الآية: ١٣٢..
٣ سورة التحريم، الآية: ٦..
( واذكر في الكتاب إدريس( هو سبط شيت جد أبي نوحد صلى الله عليه وسلم، اسمه أخنوخ، قبل سمي إدريس لكثرة درسه الكتب وقال البيضاوي اشتقاقه من الدرس برده منع الصرف نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة درسه حيث أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة، قال البغوي هو أول من خط بالعالم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط وكان من قبله يلبسون الجلود وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار وأول من نظر في علم النجوم والحساب ( إنه كان صديقا نبيا }
﴿ ورفعناه ﴾ عطف على كان صديقا ( مكانا عليا( قيل : يعني درجة رفيعة بشرف النبوة والزلفى، عند الله وقيل الجنة وقيل السماء السادسة أو الرابعة، روى أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس ليلة المعراج في السماء الرابعة " ١ وقد مر الحديث في سورة بني إسرائيل وسورة النجم وكان سبب رفع إدريس على ما قاله كعب وغيره أنه سار يوما في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا رب أنا مشيت يوما فأصابني من حر الشمس ما أصابني فكيف من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد ؟ اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال : يا رب ما الذي قضيت فيه ؟ قال : إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حمأها وحرها فأجبته فقال رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن له حتى إذا جاء إلى إدريس فكان يسأله إدريس فقال إني أخبرت أنك أكرم الملائكة، وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فازداد شكرا وعبادة، فقال الملك : لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال : حاجتي إليك قال : صديق لي من بني آدم يشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال : ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت أعلمته فيقدم لنفسه، قال : نعم، فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه أن يموت أبدا، قال : كيف ؟ قال : لا أجده أن يموت إلا عند مطلع الشمس، قال : فإني أتيتك وتركته هناك، قال : فانطلق فلا أجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيئا شيء فرجع الملك فوجده ميتا، قال وهب واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت ؟ فقال قوم هو حي، وقالوا : أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر واليابس وثنان في السماء إدريس وعيسى، وقال وهب : كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعا إلى طعامه فأبى أن يأكل منه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة إني أريد أن أهله من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت استأذنت ربي أني أصحبك، قال : فلي إليك حاجة، قال : ما هي ؟ قال : تفيض له ملك الموت ما في سؤالك قبض الروح، قال لأذوق كرب الموت وعمقه فأكون أشد استعدادا له، ثم قال : إدريس إن لي إليك حاجة أخرى، وما هي ؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله له فلي رفعه فلما قرب من النار قال : لي حاجة قال : وما تريد ؟ قال : تسأل مالكا حتى يفتح لي أبوابها فأوردها ففعل، ثم قال فكما أريتني النار فأرني الجنة فأرني الجنة فذهب إليها فاستفتح له أبوابها فأدخله الجنة، ثم قال ملك الموت أخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة وقال : لا أخرج منها فبعث الله ملكا حكما بينهما، فقال له الملك مالك لا تخرج ؟ قال : لأن الله تعالى قال :( كل نفس ذائقة الموت( ٢ فقد ذقته وقال :( وإن منكم إلا ورادها( ٣ وقد وردتها وقال :( وما هم بخاسرين منها( ٤ فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى الملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى :( ورفعناه مكانا عليا(
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق باب: ذكر الملائكة، (٣٢٠٧)..
٢ سورة آل عمران، الآية: ١٨٥..
٣ سورة مريم، الآية: ٧١..
٤ سورة المائدة، الآية: ٣٧..
( أولئك( أي المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس ( الذين انعم الله عليهم( بأنواع النعم الدنيوية والدينية ( من النبيئين( بيان للموصول حال من الضمير في عليهم ( من ذرية ءادم( وهو إدريس صلى الله عليه وسلم وغيره أجمعون بدل من النبيئين بإعادة الجار أو صفة أو حال من النبيئين، ويجوز أن يكون من فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية ( وممن( أي من ذرية من ( حملنا مع نوح( في السفينة خصوصا وهم ما عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح صلى الله عليه وسلم ( ومن ذرية إبراهيم( وهم إسماعيل وإسحاق وغيرهم ( وإسرائيل( عطف على إبراهيم يعني ومن ذرية إسرائيل ومنهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، فيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية ( وممن هدينا( أي جملة من هديناه إلى الحق يحتمل العطف على من الأولى البيانية وعلى من الثانية على تقدير كونها للتبعيض، فإن كان معطوفا على الأولى فهو يشتمل مريم وأهل إسماعيل الذين ذكروا في قوله تعالى :( وكان يأمر أهله بالصلواة( ١ ( واجتبينا( أي اجتبيناه من الأنام للنبوة والكرامة والهداية ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا( جمع ساجد يعني ساجدين رغبة فيها ( وبكيا( قرأ حمزة والكسائي بكسر الباء والجمهور بالضم ومعهم حفص ها هنا جمع ياك يعني باكين رهبة، الظرف متعلق بخروا وجملة خروا خبر لأولئك إن جعلت الموصول صفة واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله تعالى مع مالهم من علوا لرتبة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى عز وجل، روى ابن ماجة وإسحاق بن راهوية والبزار في مسنديهما من حديث ابن أبي وقاص قال :" اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ". ٢
١ سورة مريم، الآية: ٥٥..
٢ أخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: في حسن الصوت بالقرآن (١٣٣٧) وفي إسناده أبو رافع ضعيف متروك..
( فخلف من بعدهم( يعني فعقبهم وجاء بعدهم ( بعدهم( يعني عقب سوء يقال خلف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها ( أضاعوا( أي تركوا ( الصلواة( المفروضة وقال ابن مسعود وإبراهيم أخروها عن وقتها وقال سعيد بن المسيب هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تغرب الشمس قلت : ومن إضاعة الصلاة أن يأتوها على وجه مكروه أو يتركوا سنتها وآدابها ونحو ذلك ( واتبعوا الشهوات( يعني آثروا الشهوات النفس على طاعة الله تعالى وأتوا المعاصي ( فسوف يلقون غيا( أي يفقدون فيه ألقي على ما قال البغوي قول وهب فهو في جهنم بعيد قعره خبيث طبعه، وقال : قال ابن عباس هو واد في جهنم
وإن أودية جهنم لنستعيد من حرها أعد للزاني المصر عليه ولشارب الخمر المدمن عليها ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور، وكذا أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس مرفوعا وقال البغوي قال عطاء : واد في جهنم يسيل قيحا ودما، وقال قال كعب هو واد في جهنم فتح الله تلك البئر فيسفر بها في جهنم وروى البغوي عن زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال سمعت أبا أمامة الباهلي يقول إن ما بين شفير جهنتم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا من تحت يهوي أو قال صخرة تهوي عظمه كعشر عشروات عظام سمان، فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة ؟ قال نعم، غي وآثام، وأخرج ن جرير وان أبي حاتم سعيد بن منصور وهتاد والفريابي والحاكم وصحيحه والبيهقي من طريق عن ابن مسعود في هذه الآية أنه قال : الغي واد في جهنم، وفي لفظ نهر في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم، وفي لفظ نهر حميم في النار يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وأخرج البيهقي في الآية عهن البراء بن عازب قال الغي واد في جهنم بعيد القعر منتن الريح، وأخرج الطبراني والبيهقي عنه مرفوعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أن صخرة زنة عشرة أواق قذف بها في شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم ننتهي إلى غي وآثام وقلت : ما غي وآثام ؟ قال : نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار وهم اللذان ذكرهما الله تعالى في كتابه ( فسوف يلقون غيا( من يفعل ذلك يلق آثانا وقيل : الغي هو الضلال ضد الهداية فالمعنى يلقون غيا عن طريق الجنة وقيل كل شر عند العرب غي وكل خير ورشاد ومن ههنا قال الضحاك معناه يلقون خسرانا وقيل : هلاكا وقيل : عذابا فإن كل ذلك تفسير للشر وقيل : حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه يعني سوف يلقون جزاء غي وضلال كان عليه في الدنيا من العقائد والأعمال الفاسدة.
( إلا من تاب( عما ارتكبه من اتباع الشهوات وترك الصلاة ( وآمن( بعد ما كان كافرا ( وعمل صالحا( على ما يقتضيه الإيمان قال البيضاوي هذه الآية تدل على أن الآية في الكفرة يعني الوعيد المذكور مختص بالكفرة يعني بدل الآية لأجل هذه الاستثناء، قلت : من آمن وعمل صالحا لا من آمن ولم يعمل صالحا فالفاسق أيضا داخل في الوعيد المذكور كما يدل عليه ما مر من حديث ابن عباس في الغي أن الزاني والشارب وغير ذلك أي المصريين على الكبائر والله أعلم ( فأولئك( إشارة إلى من تاب وآمن وعملا صالحا ( يدخلون الجنة( قرأ ابن كثير وابن عمرو ويعقوب وأبو بكر على الباء للمفعول من أدخلن والباقون على الباء للفاعل من دخل ( ولا يظلمون شيئا( منصوب على المفعولية أي لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم أو على المصدرية أي ( ولا يظلمون شيئا( ن الظلم والتنقيص وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الإسلام يهدم ما كان قبله " ١ رواه مسلم في حديث عمرو بن العاص وجملة أولئك في مقام التعليل على مضمون الاستثناء
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (١٢١)..
( جنات عدن( بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها أو منصوب على المدح أو مفعول لفعل محذوف وهو أعني وعدن إن كان بمعنى الإقامة فما أضيف غليه نكرة وقيل : هو علم لجنة معينة والإضافة إضافة إلى الاسم وقيل هو علم لأرض الجنة فعلى هذين التقديرين جنات عدم معرفة وصفت بقوله تعالى :( التي وعد الرحمن عباده( وعلى تقدير كونه نكرة الموصول صفة للجنة أو بدل من جنات عدن والضمير العائد في الصلة محذوف تقديره التي وعد الرحمن بها عباده ( بالغيب( حال من عباده أي متلبسين بالغيبة عن الجنة أي غائبين عنها أو حال من الجنة أي متلبسة بالغيبة أي غائبة عنهم أو متعلق بوعد بحذف المضاف يعني وعد الرحمن بسبب تصديق الغيب والإيمان ( إنه( تعالى ( كان وعده( أي ما وعد به وهو الجنة ( مأتيا( يأتيها أهلها لا محالة، وقيل هو مفعول بمعنى فاعل يعني آتيا لأن كل ما آتاك فقد أتيته والعرب لا يفرق بين أقوال القائل إني على خمسون سنة وقوله أتيت على خمسين سنة، ووصل إلي الخبر ووصلت إلى الخبر
( لا يسمعون فيها لغوا( أي فضولا من الكلام، جملة مستأنفة أو حال مقدرة من عباده أو من الجنة أو من الضمير المحذوف في الصلة العائد إلى الموصوف بالموصول ( إلا سلاما( استثناء منقطع أي لكن يسمعون تسليما من الله تعالى ومن الملائكة أو من بعضهم على بعض أو المعنى لكن يسمعون قولا يسلمون فيه العيب والنقيصة ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا( قيل المراد به رفاهية العيش سعة الرزق، قال الحسن البصري كانت العرب لا يعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة، والعشي فوصف الله جنته بذلك، وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية : أنه قال يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا وأخرج ابن المبارك عن الضحاك في هذه الآية قال على مقادير الليل والنهار وأخرج ابن المنذر عهن الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى :( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا( قال ليس في الجنة ليل هم في نور أبدا يعرف لهم مقدار النهار يرفع الحجب ومقدار الليل بإرخاء الجبن وأخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن الحسن وأبي قلابة رضي الله عنه قالا : قال رجل : يا رسول الله هل في الجنة من ليل فإن الله يقول في كتابه :( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا( قال : ليس هناك ليل إنما هو ضوء نور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، ويأتيهم ظرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها وتسلم عليهم الملائكة.
( تلك الجنة التي نورث( أي نورثها ( من عبادنا من كان تقيا( أي نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه ذكر لفظ الوارثة لكونها أقوى الأسباب في التمليك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا يبطل برد وإسقاط وقيل : يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوه زيادة في كرامتهم والله أعلمن " ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى ( أولئك هم الوارثون( ١ وأخرج ابن ماجة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من فر من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة " ٢ والله تعالى أعلم.
١ أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد باب: صفة الجنة (٤٣٤١) في الزوائد، إسناد صحيح على شرط الشيخين..
٢ أخجره ابن ماجة في كتاب: الفرائض، باب: الحيف في الوصية (٢٧٠٣) وفي إسناده زيد العمي..
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل " ما يمنعك أن تزورنا ؟ فنزلت ( وما نتنزل( ١ تقدير قل يا جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم وما نتنزل، والمتنزل هو النزول على سهلة لأنه مطاوع نزل من التنزيل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل ( إلا بأمر ربك( منصوب المحل على الظرفية أو المصدرية، تقدير فيما نتنزل إلا وقتا متلبسا بأمر ربك على ما يقتضيه حكمتهن أو تنزيلا إلا تنزلا متلبسا بأمره واخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال أبطأ جبريل في النزول أربعين يوما فذكر نحوه، وأخرج ابن مدويه عن أنس قال :" سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي البقاع أحب إلى الله وأيها أبغض إلى الله ؟ قال : ما أدري حتى أسألن، وما نتنزل إلا بأمر ربك " وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن إسحاق عن ابن عباس أن قريشا لما سألوا عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر ما يجيب ورجا أن يوحى إليه فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا، فلما نزل جبريل قال له أبطأت فذكره وذكر البغوي قول الضحاك وعكرمة ومقاتل والكلبي أنه احتبس جبرائيل عن الني صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فقال : أخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل جبريل بعد أيام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك، فقال له جبريل إني كنت ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا أحبست احتبست فأنزل الله هذه الآية وأنزل :( والضحى واللي إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى( ٢ ( له ما بين أيدينا( جملة في محل النصب على العلية للمكث في النزول أو على الحال ومعنى له ما بين أيدينا عد هذا الوقت إلى قيام الساعة وإلى ما لا نهاية له من الدنيا والآخرة والثواب والعقاب وما خفلنا أي قبل هذا الوقت فيما مضى من الأشياء والأحوال وما بين ذلك أي الوقت الموجود وما فيه وقيل : ما بين أيدينا أي الأرض إذا أردنا النزول ( وما خلفنا( أي السماء إذا نزلنا ( وما بين ذلك( أي الهواء، يعني لا فتنزل في زمان إلا بأمر الله أو لا نتتقل من مكان إلى مكان إلا بأمر الله ( وما كان ربك نسيا( أي تاركا لك أي ما كان عدم النزول لترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة بل كان لعدم الأمر به لحكمة رآها فيه.
١ أخرج البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (٣٢١٨)..
٢ سورة الضحى الآية: ٣..
( رب السموات والأرض وما بينهما( بيان لامتناع النسيبان عليه وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو بدل من ربك ( فاعبده واصطبر لعبادته( خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتب على ما سبق يعغني لما عرفت رحمت ربك عليك وفضله وأنه لا ينبغي له أن ينساك فأقبل على عبادته شكرا لهذه النعمة واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي واستهزاء الكفار، عدى الاصطبار باللام وكان حق الكلام على عبادته للإشعار بما في العبارة من الالتذاذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعلت قرة عيني في الصلاة " ١ أو المعنى اصطبر على المشاق والشدائد وإيذاء الكفار لأجل عبادته تعالى أي للتمكن من عبادته ولتكون عابدا لله تعالى ( هل تعلم له سيما( قال ابن عباس يعني مثلا يستحق أن يعبد ويسمى إلها وقال الكلبي هل اعلم أحدا يسمى بالله غيره فإن المشركين وإن سموا الأصنام آلهة لم يسموا أحدا منها بالله قط، وذلك لظهور أحديته تعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة، وهو تقدير للأمر بالعبادة فإنه إذا ثبت أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غير لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.
١ أخرجه النسائي في كتاب: عشرة النساء باب: حب النساء (٣٩٣٩)..
( ويقول الإنسان أءذا مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيل ثم لننزعن من كمل شيعة أيهم أشد على الرحمن عثيا ثم لنحن أعلم بالذين هم اولى بها صليا وإن منكم إلا واردها كان على ربك حيثما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا(.
( ويقول الإنسان( المراد به الجنس فإن قول بعضهم يسند إلى الجنس أو بعضهم المعهود، قال البغوي المراد به أبي ابن خلف الجمحي كان منكرا للبعث روى أنه أخذ عظما باليا ففتنها وقال : يزعم محمد أنا نبعث بعدما نموت، فحكى الله تعالى قوله حيث قال :( أءذا متنا لسوف أخرج( من الأرض أو من حالة الموت ( حيا( تقديم الظرف وإبلاؤه حرف الإنكار لكون المنكر ما بعد الموت الحياة، والظرف تعلق لفعل دل عليه أخرج لا به لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلهن واللام ههنا لمجرد التأكيد من غير إرادة معنى الحال، قرأ ابن ذكوان بهمزة واحدة مكسورة على صورة الخبر بحذف همزة الاستفهام في اللفظ والمراد معنى الإنكار والباقون بهمزتين
( أولا يذكر الإنسان( قرأ نافع وعاصم وابن عامر بإسكان الذال وضم الكاف مخففا على وزن ينصر والباقون بفتح الكاف والذال مشددا أصله يتذكر أدغمت التاء في الذال ومعناه يتفكر عطف على يقولن أورد همزة الاستفهام بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار الجمع بينهما وكان الأصل إدخالها على المعطوف والمعطوف عليه إنكار الجمع بينهما وكان الأصل إدخالها على المعطوف عليه لكن أريد الدلالة على أت المنكر بالذات هو المعطوف وإنكار المعطوف عليه إنما نشأ منه ( أنا خلقته من قبل ولم يك شيئا( أصلا مع أن إيجاد المعدوم الصرف أعجب من جمع المواد بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان فيه من الأعراض
( فوربك( أقسم بنفسه مضافا إلى نبيه تفخيما لشأن الني صلى الله عليه وسلم والفاء للسببية فإن إنكارهم البعث سبب لحشرهم مع الشياطين إلى جهنم ( لنحشرنهم والشياطين( مفعول معه وجاز كونه معطوفا، قال البغوي يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ( ثم لنحشرنهم حول جهنم جثيا( حال من الضمير المنصوب، قال ابن عباس يعني جماعات جمع جثوة، وقال الحسن والضحاك جمع جاث أي جاثين على الركبب وقال السدي قائمين على الركب بضيق المقام، قلت : يحضر الله حول جهنم جميع الناس السعداء والأشقياء ليزداد السعداء غيظة وسرورا حين يرون ما نجاهم الله منه ويزداد الأشقياء حسرة وغيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والبيهقي عن عبد الله بن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كأني أراكم بالكرم دون جهنم جاثين " قرأ سفيان راوي الحديث ( وترى أمة جاثية( الآية، قال ابن حجر المراد بالكرم المكان العالي الذي يكون عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكلمة ثم تدل على تراخي حضورهم حول جهنم من الحشر وذلك لاحتباسهم دهرا طويلا في الموقف قبل أن يفصل بينهم.
( ثم لننزعن من كل شيعة( أي من كل أمة وأهل دين، وأصله من شاع يشيع شيعا وشيوعا ومشاعا وشيوعة، كديمومة وشيعانا محركة ذاع وفشا وشيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والإثنين والجمع والمذكر والمؤنث كذا في القاموس قلت : وإنما يطلق الشيعة على أتباع الرجل وأنصاره، لأن الشيوع والانتشار يستلزم التقوية والاتباع والأنصار ينتشرون ويتقوى بهم أمر المتبوعين قال الجوهري الشياع الانتشار والتقوية يقال شاع الحديث أي كثر وقوي شاع القوم انتشروا وكثروا وشيعت النار بالحطب قوت بها والشيعة من يقتوى بهم الإنسان وينتشرون عنه، ولما كان كل أمة أهل دين ينتشرون بدينهم ويتقوى أمرهم أطلق ههنا عليه ( أيهم أشد( أي هو أشد ( على الرحمن عثيا( أي استكبارا أو تجاوزا عن الحد في العصيان كذا في القاموس أو نبؤا عن الطاعة، قال البغوي : قال ابن عباس يعني جرأة، وقال مجاهد فجورا، وكلمة عثيا تمييز من نسبة أمثل يعني أيهم أشد عتوة على الرحمن وكلمة أي ههنا في محل النصب على المفعولية لننزعن عند سيبويه قال البيضاوي كان حقه أن يبني كسائر الموصولات لشبهها بالحروف كسائرالموصولات لكنه أعرب حملا على كل وبعض للزوم الإضافة وإذا حذف صغر صلته زاد نقصه فعاد إلى أصله، وعند الخليل مرفوع إما بالابتداء على أنه استفهامي صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى أصله، وعند الخليل مرفوع إما بالابتداء على أنه استفهامي وخبره أشد والجملة محكية وتقديره لننزعن من كل شيعة الذين يقال فيهم أيهم أشد أو معلق عنها لننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم أو مستأنفة وكلمة من للتبعيض أي لننزعن بعض كل شيعة أو زائدة والفعل واقع على كل شيعة وإما لشيعته لأنها بمعنى يشيع وعلى البيان.
( ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها وصيا( أي لنحن اعلم بالذين هم أولى بالصلاة أوصلهم بالنار أولي، وكلمة ثم ها هنا للتراخي في الرتبة كما في قوله تعالى ( ثم كان من الذين آمنوا( ١ أو يقال هذا الكلام كناية عم قولهم ثم لنعذبهم فلا إشكال إذ التعذيب متأخر من الإحضار قيل : أعلم ها هنا بمعنى العليم لاختصاص هذا العلم به تعالى وجاز أن يقال أن الكرام الكائبين وغيرهم من الملائكة، أيضا يعلمون الفاجر من التقي والسعيد من الشقي والله تعالى أعلم بذلك، قرأ حمزة والسكائي وحفص جثيا وعتيا وصلبا بكسر أوائلها كما ذكرنا في قوله تعالى :( وقد بلغت من الكبر عتيا( ٢ والجمهور بضمها وهي على وزن فعول كما ذكرنا وقوله من كل شيعة إن كان يعم الكفار والعصاة من المؤمنين ففي ذكر أشد تنبيه على أنه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان، ولو خص ذلك بالكفار على ما يقتضيه السياق كما اختاره البغوي وأكثر المفسرين فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب أو يدخل كلا طبقتها التي أعدت لهم أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية قال : يحشر الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة آثارهم ثم يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما ثم قرا :( فوربك لنحشرنهم( إلى قوله :( عتيا( وأخرج هناد عن أبي الأحوص في الآية قال : يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما.
١ سورة البلد، الآية: ١٧..
٢ سورة الأنبياء، الآية: ١٠٢..
( وإن منكم( عن نافية ومنكم صفة لمحذوف أي عن أحد منكم ( إلا واردها( أي جهنم قيل : القسم مضمر أي والله ما منكم إلا واردها بدليل ما ورد في الأحاديث إلا تحلة القسم وسنذركها ( كان على ربك حتما( الحتم مصدر الأمر إذا وجب يعني واجبا أوجبه الله على نفسه :( مقضيا( قضاء الله عليكم بأن وعده لا يمكن خلفه
( ثم ننجي( عطف على مضمون ما سبق تقديره نوردكم جميعا في جهنم ثم ننجي قرأ الكسائي بالتخفيف من الأفعال والباقون بالتشديد من التفعيل ( الذين اتقوا( الشرك فيساقون إلى الجنة بلا تعذيب أو بعد التعذيب ( ونذر الظالمين( أي الكافرين ( فيها( أي في النار ( جثيا( جميعا وقيل جاثمين على الركب، والمراد بالورود والدخول وإن كان بطريق المرور على الصراط الذين هو على متن جهنم، وقال قوم من أهل الأهواء ليس المراد بالورود الدخول فإنه من يدخلها لا يخرج منها أبدا وقالوا النار لا يدخلها مؤمن أبدا لقوله تعالى :( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها( ١ بل المراد به الحضور والرؤية فإنهم يحضرون جميعا موضع الحساب وهو بقرب جهنم، ثم ينجي الله المتقين بأمرهم إلى الجنة ويذر الظالمين فيها حثيا يأمرهم إلى النار نظيره قوله تعالى :( ولما ورد ماء مدين( ٢ وقد كان موسى أشرف عليه ولم يدخله ويؤيده ما رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بسند لا بأس به عن معاذ بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذ السلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم وإن الله تعالى يقول :( وإن منكم إلا وارثها( " ٣.
قلنا : إطلاق الورود على الإشراف والحضور والرؤية تجزؤ لا يجوز ارتكابه إلا لضرورة ولا ضرورة ها هنا ويأبى عن هذا التأويل قوله تعالى :( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا( الإنجاء والترك فيها لا يتصور إلا بعد الدخول ولا دليل في الحديث على عدم الدخول فإنه يثبت الرؤية تحلة القسم ولا ينفي الدخول ومعنى قوله تعالى :( أولئك عنها مبعدون( ٤ بعد ورودهم ( لا يسمعون حسيسها( ٥ إذ أبعدوا وقيل لا يسمعون حسيسها عند ورودهم النار لأن الله تعالى يجعلها عليهم بردا وسلاما أخرج هناد والطبراني والبيهقي عن خالد بن معدان قال إذا أدخل أهل الجنة الجنة قالوا ربنا ألم تعدنا أنا نرد النار ؟ ق'ال : بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، وأخرجه ابن عدي والطبراني عن يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " ولنا على كون الورود بمعنى الدخول ولو على سبيل المرور ما أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي عن ابي سمية قال : اختلفنا في الورود ؟ فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثم ننجي الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال : وأهوى بأصبعه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فيكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ".
وذكر البغوي أنه روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق مارى ابن عباس رضي الله عنه في معنى المورد، فقال ابن عباس هو الدخول وقال نافع ليس الورود الدخول فتلا ابن عباس :( بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون( أدخلها هؤلاء أم لاثم قال : يا نافع أما أنت وأنا سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله يخرجك بتكذيبك، واخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : خصم نافع بن الأزرق فذكر نحو ذلك وقال قرأ ابن عباس :( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون( قال : وردوا أم لا ؟ وقرأ :( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار( ٦ وردها أم لا ؟ أما أنا وأنت فستدخلها فانظر هل تخرج منها أم لا ؟ وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : إن منكم إلا واردها يعني البر والفاجر ألم تسمع قوله تعالى :( فأوردهم النار وبئس اللورد المورود( وقوله تعالى ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا( ٧ وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه سئل عن قوله تعالى :( وإن منكم إلا واردها( قال : وإن منكم إلا داخلها، وأخرج البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال لا يبقى أحد ألا دخله فهذه الآيات مضمرة للورود بالدخول وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه البيهقي عن ابن مسعود في قوله تعالى :( وإن منكم إلا واردها( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرد الناس كلهم النار ثم يصدون عنها بأعمالهم فأوهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحفن الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه " ٨ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : يرد الناس جميعا ورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط ومنهم من يمر كأجود الخيل ومنهم البرق ومنهم من يمر مثل الريح ومنهم من يمر حتى أن آخرهم سيرا نوره على موضع إلهام قدميه يمر كأجود الإبل ومن يمر كعدو، الرجل حتى أن آخرهم سيرا نوره على موضع إبهام قدميه يمر يتكفأ بيديه الصراط، وأخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم " ثم قرأ سفيان ( وإن منكم إلا واردها( ٩ وأخرج الطبراني عن عبد بن بشير الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد إلا عابر سبيل يعني الجواز على الصراط " وأخرج ابن جرير عن غنيم بن قيس قال ذكروا ورود النار فقال كعب نمسك النار الناس كأنها بين إهانة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم ثم ينادي مناد أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي قال : فيخسف بكل ولي لها هي أعلم بهم من الرجل بولده ويخرج المؤمنين ندية ثيابهم.
قال السيوطي فسر بعض علماء أهل السنة الورود بالدخول وهو أحد القولين في الآية ورجحه القرطبي واستشهد بحديث جابر ونحوه وفسر بعضهم بالمرور على الصراط ورجحه النوري واستشهد بما روى عن ابن مسعود وفيه ذكر المرور على الصراط وحديث أبي هريرة ونحوهما قلت : إذا كان الصراط على متن جهنم فالمرور يستلزم الدخول ولا يقضي الدخول بالوقوع في النار البتة ولذلك قلت فالمراد بالورود الدخول وإن كان على طريق المرور على الصراط جميعا بيثن الأحاديث فإن قيل قول الحسن والورود الممر عليها من غير أن يدخلها وكذا أخرج البيهقي عنه على أن المرور غير الدخول ؟ قلت المراد بالدخول في قول الحسن الوقوع والاستقرار في النار لا مطلق الدخول هكذا فيما أخرج هناد عن حفصة أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني لرجو أن لايدخلها أحد شهد بدرا والحديبية، قالت : يا رسول الله أليس الله يقول :( وإن منكم إلا ورادها كان على ربك حتما مقضيا( قال : الم تسمعيه قال :( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا( المراد فيه بعدم الدخول عدم الوقوع والاستقرار بدليل قوله ألم تسمعيه قال :( ثم ننجي( فإن هذا الجواب صريح في أن المراد بعدم الدخول عدم الاستقرار الذي مفاده الإنجاء وقال السيوطي قد أشفق كثير من السلف من تحقيق الورود واحتمال الصدور، أخرج هناد وأحمد في الزهد وسعيد بن منصور والحاكم والبيهقي عن حازم بن أبي حازم، رضي الله عنه قال بى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقالت امرأته ما يبكيك ؟ قال : إني أنبئت أني وارد النار ولم أنبأ أني صادر، وأخرجه هناد والبيهقي عن أبي إسحاق قال قام أبو ميسرة وعمرو بن شرحبيل إلى فراشه فقال ليت أمي لم تلدني فقالت : امراته لم ؟ فقال : لأن الله أخبرنا أنا واردوا النار ولم يبين أنا صادرون عنهان وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن قال : قال رجل لأخيه هل أتاك أنك وارد النارظ قال : نعم، فقال : فهل أتاك أنك صادر عنها قال لا، قال : ففيم الضحك إذا ؟ فمارئي ضاحكا حتى مات.
١ سورة مريم، الآية: ٨..
٢ سورة القصص، الآية: ٢٣..
٣ في أحد إسنادي احمد ابن لهيعة. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الجهاد، باب: الحرس في سبيل الله (٩٤٨٧)..
٤ سورة الأنبياء الآية: ١٠١..
٥ سورة الأنبياء الآية: ١٠٢..
٦ سورة هود الآية: ٩٨..
٧ سورة مريم الآية: ٨٦..
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة مريم (٣١٥٩)..
٩ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: فضل من مات له ولد فاحتسب (١٢٥١) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسب (٢٦٣٢)..
( وإذا تتلى عليهم( أي على الكفار معطوف على قول ( فخلف من بعدهم( ١ أو على قوله :( ويقول الإنسان( ٢ ( ءاياتنا بينات( واضحات الدلالة على معانيها إما بنفسها أو ببيان من الرسول صلى الله عليه وسلم أو واضحات الدلالة على صدق الرسول بإعجازها ( قال الذين كفروا( يعني النضر بن حارث وأمثاله من القريش ( للذين آمنوا( يعني الفقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم شقافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم فقالوا للمؤمنين ( أي الفريقين( من المؤمنين والكافرين ( خير مقاما( قرا ابن كثير بضم الميم على أنه ظرف أو مصدر من الإفعال يعني خير وإقامة أو خير موضع للإقامة، والباقون بفتح الميم على انه ظرف من القيام، أي خبر موضعا للقيام ( وأحسن نديا( أي مجلسا ومجتمعا يعني أنعم لما سمعوا الآيات البينات وعجزوا عن معارضتها أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ لدينا واستدلوا بها على فضلهم وحسن حالهم عند الله فرد الله عليهم ذلك مع التهدين على سبيل النقض فقال :( وكم أهلكنا قبلهم من قرن(
١ سورة مريم الآية: ٥٩..
٢ سورة مريم الآية: ٦٦..
( وكم( خبرية منصوب بما بعده ( أهلكنا قبلهم من قرن( تميز لكم سمى أهل كل عصر قرنا لاقترانهم في الزمان ( هم أحسن أثاثا( قال البغوي متاعا وأموالا، وقال مقاتل ثيابا ولباسا وفي القاموس الأثاث متاع البيت بلا واحد والمال أجمع والواحدة أثاثة وهو مع ما عطف عليه تميز عن نسبة أحسن إلى الضمير الراجح إلى القرن يعني أثاثهم أحسن ( ورءيا( قرأ قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همزة على قلب الهمزة ياء وإدغامها أو على أنه من الري الذي هو ضد العطش ومعناه الارتواء من النعمة وقرأ الجمهور بالهمزة ومعناه منظرا من الرؤية ووقف حمزة بإبدال الهمزة فوافق قالون جملة هم أحسن صفة لقرن.
( قل( يا محمد ( من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا( أم بمعنى الخبر أي يمده ويدعه في طغيانه ويمهله استدراجا في إيراد لفظ الأمر إيذان بان أمهاله مما ينبغي أن يفعله الرحمن حتى ينقطع معاذيره، قال الله تعالى :( أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر( ١ ( حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب( إما مع ما عطف عليه بدل من ما يوعدون تفصيل لما أجمل والمراد بالعذاب الأسر والقتل في الدنيا ( وإما الساعة( وما ينالهم فيه من الخزي والعذاب في الآخرة غاية للمد أو يقول :( الذين كفروا للذين ءامنوا أي الفريقين خير( ( فسيعلمون( عند ذلك ( من هو شر مكانا وأضعف جندا( أي أعواناهم أم المؤمنون فإن جندهم الشياطين وجند المؤمنين الملائكة، وجملة فسيعلمون جواب الشرط وهذا رد على قولهم :( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا( قابل شر مكانا بخير مقاما وأضعف جندان بأحسن نديا لأن حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكهم استطهارهم
١ سورة فاطر: الآية: ٣٧..
( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى( أي إيمانا وإيصالا إلى مقاصدهم وهو مراتب القرب من الله، عطف على مضمون الشرطية الواقعة بعد قل يعني من كان في الضلالة يمده الرحمن والذين اهتدوا زادهم هدى بالإيمان بما ينزل عليهم من الآيات، يعني إمهال الكافرين وتمتيعهم في الدنيا ليس لفضلهم عند الله، وقصور حظ المؤمنين من الدنيا ليس لنقصهم بل لأن الله تعالى جعل لقمة حظهم من الدنيا سببا لمزيد ثوابهم، ورفع درجاتهم عند الله وإيصالهم إلى مقاصدهم من مراتب القرب وقيل : هو عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأن قيل من كان في الضلالة يزيد الله في ضلالته ومن يعانده يزيد في هدايته ( والباقيات الصالحات( أي الأذكار والأعمال الصالحة التي تبقى عائدتها لصاحبها أبد الآبدين ( خير عند ربك ثوابا( عائدة مما متع به الكفار في الدنيا من النعم الفانية التي يفتخرون بها ( وخير مردا( أي عاقبة ومرجعا والخبر ههنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره منه في برده والله أعلم.
أخرج الشيخان عن خباب بن الأرث قال :" كنت رجلا قينا فعملت للعاص بن وائل واجتمع لي عنده فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت : أما والله لا أكفر حتى تموت ثم تبعثن قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ قلت : نعم، قال : فإنه سيكون لي ثمة مال وولد فأقضيك فأنزل الله تعالى :( أفرءيت( ١ لما كانت الرؤية أقوى سندا للإخبار استعمل أرأيت بمعنى أخبرني والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمخاطب غير معين، وكلمة رأيت بالفاء معطوفة على محذوف تقديره أوقع نظرك فرأيت ( الذي كفر بئاياتنا( يعني العاص بن وائل ( وقال( عطف على كفر ( لأوتين مالا وولدا( قرأ حمزة والكسائي ولدا بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتحهما قال البغوي هما لغتان مثل العرب والعرب والعجم والعجم، وقيل : بالضم والسكون جمع وبالفتحتين مفرد أسد وأسد
١ أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب: أفرأيت الذي كفر بئاياتنا (٤٧٣٢) وأخرجه مسلم في كتاب: القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح (٢٧٩٥)..
( اطلع الغيب( الجملة بتأويل المفرد مفعول ثان أو أرأيت واطلع ههنا من قبيل اطلع الجبل أي اتقى إلى أعلاه واستغنى بهمزة الاستفهام، عن همزة الوصل قال ابن عباس انظر في اللوح المحفوظ، وقال مجاهد : علم الغيب حتى أدعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا ( أم اتخذ عند الرحمن عهدا( يعني قال لا إله إلا الله، وقال قتادة يعني عمل صالحا، وقال الكلبي عهد الله إليه أن يدخله الجنة
( كلا( رد عليه يعني ليس الأمر كذلك ( سنكتب ما يقول( أي سنحفظ عليه أو سنظهر له أنا كتبنا قوله، أو سننتقم منه ما كتبنا من قوله ووجه هذه التأويلات أن نفس الكتابة لا يتأخر عن القول لقوله تعالى :( ما يلفظ قول إلا لديه رقيب عتيد( ١ وإسناد الكتابة إلى نفسه مع كون الملائكة الكرام كائبين لأن كتابتهم بأمره تعالى :( ونمد له من العذاب مدا( أي نزيد عذابه لأجل استهزائه بهذا القول فوق ما استحقه قبل ذلك بالكفر
١ سورة ق، الآية: ١٨..
( ونرثه( بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه ( ما يقول( يعني المال والولد ( ويأتينا( يوم القيامة ( فردا( لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلا أن يأتي ثمة زائدا، وجملة سنكتب مع عطف عليه في محل العلة للردع المستفاد من كلا
( واتخذوا( أي كفار قريش ( من دون الله ءالهة( يعني الأصنام ( ليكونوا لهم عزا( أي ليعتزوا هم عند الله بأن يكونوا وصلة أو شفعاء
( كلا( ردع وإنكار لتعززهم بها ( سيكفرون بعبادتهم( أي سيجحد الآلهة عبادتهم ويتبرؤون منهم ويقولون :( تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون( ١ وسيحد الكفار عبادتهم إياها ويقولون :( والله ربنا ما كنا مشركين( ٢ ( ويكونون( أي الأصنام ( عليهم( أي على الكفار ( ضدا( أي ذلا وهوانا فإنه ضد الغزو هذا التأويل يؤيد التأويل الأول فيما سبقن أو يضدهم ويخالفهم على معنى أنها تكون أعداء لهم يكذبونهم ويلعنوننهم أو معونة على الكفار في تعذيبهم بأن توقد بها نيارنهم وجاز أن يكون الضمير الأول للكفار والثاني للآلهة والمعنى ويكون الكفار على الآلهة منكرين كافرين بها بعد أن كانوا يعبدونها وتوحيد الضد لوحدة المعنى الذي به مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد نظيره قوله صلى الله عليه وسلم :" وهم يد على من سواهم " ٣ أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأبو داود والنسائي من حديث علي وابن حبان من حديث ابن عمر وفي القاموس أن الضد يكون جمعا أيضا ومنه قوله تعالى :( ويكونون عليهم ضدا(.
١ سورة القصص الآية: ٦٣..
٢ سورة الأنعام، الآية: ٢٣..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر (٢٧٤٩) وأخرجه النسائي في كتاب: القسامة، باب: القود بين الأحرار والمماليك في النفس (٤٧٣١) وأخرجه ابن ماجة في كتاب الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم (٢٦٨٣)..
( ألم تر( تعلم يا محمد ( أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين( الاستفهام للإنكار وإنكار النفي إثبات أي سلطناهم عليهم ( وقيضنا لهم قرناء( ١ قال البغوي وذلك حين قال :( واستفزز من استطعت منهم بصوتك( ٢ أو المعنى خليناهم وإياهم من أرسلت البعير أي أطلقته ( تؤزهم أزا( أي تهزمهم وتعزنهم على المعاصي بالتسويلات واتباع الشهوات والأز والهز التحريك وجملة تؤزهم أزا حال من الشياطين وفي الكلام تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاولي الكفار وتماديهم في الغي وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة.
١ سورة فصلت الآية: ٢٥..
٢
سورة الإسراء الآية: ٦٤..

( فلا تعجل عليهم( بدعائك عليهم بنزول العذاب ( إنما نعد لهم( أيام آجالهم التي قضيناها مدة أعمارهم ( عدا( يعني أعمارهم أيام محصورة معدودة والفاء في فلا تعجل للسببية وجملة ( إنما نعد لهم( معللة أو مستأنفة وجملة ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين( تأييد وتقرير لقوله ( واتخذوا من دونه ءالهة(
( يوم نحشر المتقين( مع ما عطف عليه ظرف لفعل محذوف أي نفعل بالفريقين ما نفعل أو منصوب باذكر أو متعلق بلا يملكون ( إلى الرحمن( أي إلى موضع كرامته وتجلياته ( وفدا( حال من المتقين جمع وافد أي وافدين عليه كما يفد الوفاد الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم أخرج الحاكم والبيهقي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير، وابن وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية فقال : والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساقون مسوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها عليها برحال الذهب وأزمتها الزيرجد فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة، وذكر البغوي قول علي رضي الله عنه، : ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالهم الذهب ومجائب سرجها البواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا طارت، واخرج البيهقي من طريق طلحة بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ( يوم نشحر المتقين إلى الرحمن وفدا( ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا( قال : عطاشا وأخرجه ابن جرير عن أبي طلحة عن أبي هريرة قال : وفدا أي على الإبل وأخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن قيس الملائي أن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك واحسن صورتكن فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم وتلا ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا(
وإن الكافر استقبله عمله في أقبحه صورة وأنتنه ريحا فيقول : أولا تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قبج صورتك ونتن ريحك فقال : كذلك من في الدنيا أنا عملك السيىء طال ما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم وتلا :( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم( ١ ( ونسوق المجرمين( بكفرهم ( إلى جهنم( قال البغوي مشاة وقيل عطاشا وقد تقطعت أعناقهم من العطش والورد جماعة يردون الماء ولا يرد أحد الماء بعد العطش وقد قال ابن عباس في تفسيره يعني عطاشا، قلت : ذكر الله سبحانه حال الفريقين أحدهما المتقين الكاملين في التقوى الأنبياء وغيرهم، وثانيهما المجرمين أي الكافرين ولم يذكر حال عامة المؤمنين من الصالحين والمذنبين، وقد ذكر في الحديث إن من الناس من يحشر مشاة وهم عامة المؤمنين وقد ذكرنا في سورة بني إسرائيل في تفسير قوله تعالى : يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما حديث أبي هريرة وحديث معاوية بن جند وحديث أبي ذر " أنت الناس يحشرون على ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم " وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وعشرة على بعير نحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا : وتبيت معهم حيث باتوا " ٢ قال ابن حجر في قوله صلى الله عليه وسلم :" راغبين وراهبين " قال : هم الطريقة الأولى هم عوام المؤمنين واثنان على بعير إلى آخره الطريقة الثانية، ولم يذكر واحدا على بعير إشارة على أنه يكون لمن فوقهم كالأبرار وقال البيهقي قوله راغبين إشارة إلى الأبرار وراهبين إلى المخلطين الذين هم بين الخوف والرجاء والذين يحشرهم النار الكفار، وذكر الحليمي مثله وزاد أن الأبرار هم المتقون يؤتون بنجائب من الجنة وأما البعير الذي يحمل عليه أشبه لأنمهم بين الخوف والرجاء فلا يليق أن يردوا على نجائب الجنة، قال : ويشبه أيضا تخصيص هؤلاء بمن يغفر لهم ذنوب عند الحساب ولا يعذبون واما الذين يعذبون بذنوبهم فإنهم يكونون مشاة على أقدامهم ويحتمل أن يمشوا وما لم يركبوا أو يكونوا ركبانا فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا قال : أما الكفار فإنهم مشاة على وجوههم وأخرج الطبراني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يحشر الأنبياء يوم القيامة على الدواب ليوافوا المحشر ويبعث صالح على ناقته وأبعث على البراق ويبعث أبناء الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادي بالأذان محضا بالشهادة حقا حتى إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين فقبلت ممن قبلت وردت لمن ردت ".
تنبيه : جزم الحليمي والغزالي بأن الذين يحشرون ركبانا يركبون من قبورهم ومال الأسماعيلي إلى أنهم يمشون إلى المواقف ويركبون من ثمة جميعا بينه وبين حديث الصحيحين والترمذي عن ابن عباس أنه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده( الآية، وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم صلى الله عليه وسلم٣ وكذا أخرج الشيخان عن عائشة والطبراني عن سودة بنت زمعة وأم سلمة، وسهل بن سعد والحسن بن علي والبزار عن ابن مسعود وليس في تلك الأحاديث قراءة الآية ولا قوله :" أول من يكسى إبراهيم " وزاد في تلك الأحاديث أنه قالت بعض نسائه وأوسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض قال : شغل الناس عن ذلك لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ونحو ذلك والله أعلم.
١ سورة الأنعام الآية: ٣١..
٢ سورة الإسراء الآية: ٩٧..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحشر (٢٤٢٣)..
( لا يملكون( الضمير فيه للعباد المدلول عليها بذكر القسمين وجملة لا يملكون إما حال من المتقين والمجرمين وإما مستأنفة ( الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( يعني لا من تخلى بما يستند به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الإيمان والعمل الصالح على ما وعد الله حيث قال :( ادعوني أستجب لكم( ١ وقال :( ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله( ٢ قال ابن صالح عن ابن عباس يشفعهم في إخوانهم ويزيدهم من فضله في إخوان إخوانهم أو المعنى إلا من اتخذ من الله إذنا في الشفاعة نظيره قوله تعالى :( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه( ٣ يقال : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به ومحل الموصول الرفع على البدل من الضمير أو النصب على الاستثناء وجاز أن يكون المستثنى مفرغا ويكون الواو في يملكون علامة الجمع لا الضمير مثل أكلوني البراغيث أي لا يملك الشفاعة أحد إلا من اتخذن قيل : المراد بمن اتخذ عند الرحمن عهدا من قال لا إله إلا الله فإن الله وعد المؤمنين بالمغفرة حيث قال :( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( ٤ وقال :( إن الله يغفر الذنوب جميعا( ٥ وقال صلى الله عليه وسلم :" حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به " ٦ متفق عليه من حديث معاذ ومحل الموصول حينئذ النصب على تقدير المضاف تقديره، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا على أن الشفاعة مضاف إلى المفعول نظيره قوله تعالى :( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى( ٧ وقيل : الضمير للمجرمين ويكون الشفاعة مصدرا مبنيا للمفعول والاستثناء وحينئذ منقطع والمعنى لا يملك المجرمون أن يشفع لهم لكن المؤمنين يشفع لهم.
١ سورة غافر الآية: ٦٠..
٢ سورة الشورى الآية: ٢٦..
٣ سورة البقرة الآية: ٢٥٥..
٤ سورة الزلزلة الآية: ٧..
٥ سورة الزمر الآية: ٥٣..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: اسم الفرس والحمار (٢٨٥٦) واخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة (٣٠)..
٧ سورة الأنبياء الآية: ٢٨..
( وقالوا( أي اليهود والنصارى وبعض العرب القائلون بأن الملائكة بنات الله، والضمير عائد إلى غير مذكور لشهرة هذا القول منهم كأنهم معلومون معهودون ( اتخذ الرحمن ولدا( قرأ حمزة والكسائي بضم الواو وسكون اللام في جميع المواضع من هذه السورة وفي الزخرف وسورة نوح ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في سورة نوح والباقون بفتحهما
( لقد جئتم( أيها القائلون بهذا القول فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب تهديدا لكمال شناعة القول ( شيئا إذا( قال ابن عباس يعني مكرا، وقال قتادة ومجاهد عظيما في الإنكار يقال ادنى الأمر وادنى أثقلني وعظم علي، وقال البغوي الإد في كلام العرب أعظم الدواهي
( تكاد السموات( قرأ نافع والكسائي ها هنا وفي ( حم عسق( بالياء التحتانية لتقدم الفعل وكون التأنيث غير حقيقي، والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل ( يتفطرن( قرأ نافع وابن كثير وحفص والكسائي وأبو جعفر بالياء التحتانية والتاء الفوقانية وفتح الطاء المشددة من التفعل والباقون بالنون وكسر الطاء مخففة من الأفعال يقال انفطر الشيء وتفطر أي تشقق والتفعل أبلغ لأنه مطاوع للتفعيل بخلاف الانفعال فإنه مطاوع للمجرد لأن أصل التفعل التكلف ( منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا( أي تنكسر كسرا في القاموس الهد الهدم الشديد والكسر قيل معنى ( السموات يتفطرن( أي يسقطن عليهم وتنشق الأرض أي تخسف بهم وتخر الجبال هذا أي تنطبق عليهم بضم الواو وسكون اللام وبفتحهما على ما مر من الخلاف، وأن مع صلتها في محل النص على العلة على حذف المضاف وإيصال الفعل إليه تقديره كراهة أن دعوا أو على الظرفية متعلقا بتفطرن وتنشق وتخر على سبيل التنازع، أو في محل الجر بإضمار اللام أو بإبدال من الضمير في منه، أو الرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك.
( أن ادعوا( أو فاعل هدا لأي هدها ادعاء الولد وهو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين وإنما اقتصر على الثاني ليحيط بكل ما أعدي له، أو من دعا بمعنى نسب الذات مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه، قال ابن عباس وكعب فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة وأسعرت جهنم حين قالوا ولد الله، وقيل : معناه إن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لولا حلم الله لخرب العالم وبدد قوائمه غضبا على من تفوه بها
( وما ينبغي( انبغي ينبغي مطاوع البغي إذا طلب ومعناه ما يتأتى ( لرحمن ان يتخذ ولدا( أي ما يتطلب لو طلب فرضا يعني ليس هذا إذا خلا تحت القدرة لكونه مستحيلا غير ممكن أو المعنى لا يليق ذلك لعلو شأنه فإنه نقض بالإضافة إليه وهو منزه عن المناقض وعما لا يليق به، قال البسضاوي لعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عده نعمة ومنعم عليه فلا يجانس من هو مبدا النعم كلها ومولى أصولها وفروعها فكيف يمكن له أن يتخذ ولدا ثم صرح به في قوله :( إن كل من في السموات والأرض
( إن كل من في السموات والأرض( من نكرة موصوفة بالظرف وكل مبتدأ المستثنى والمفرغ خبره يعني ما منهم أحد ( إلا ءاتي الرحمن عبدا( أي إلا وهو مملوك مخلوق له ويأوي إليه بالعبور والانقياد وبأتيه يوم القيامة ذليلان والعبودية المجازية ينافي البنوة ولذلك من ملك ابنه عتق عليه فكيف العبودية الحقيقية المساوية للمخلوقية وإفراد آتي وعبدا حملا على لفظة كل
( لقد أحصاهم( أي حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون من علمه وقدرته ( وعدهم عدا( يعني عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأحوالهم وأرزاقهم فإن ( وكل شيء عنده بمقدار( ١
١ سورة الرعد الآية: ٨..
( وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا( منفردا عن الأتباع والأنصار وليس معه شيء مما في الدنيا.
أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله تعالى :( إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا( يعني محبة في قلوب المؤمنين أو محبا يحبهم، قال في القاموس الود والواد الحب ويثلثان يعني يقرآن بكسر الواو وفتحها وضمنها والود أيضا المحب ويثلث كالوديد الكثير الحب وفيه تسلية لعبد الرحمن بن عوف ووعد له بأن يجعل الله له محبين من المؤمنين بدلا من الكافرين وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال : نزل هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعني يجعل الله تعالى محبته في قلوب المؤمنين وسائر الخلائق غير الكافرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كنت ولاه فعلي مولاه " ١ رواه أحمد وابن ماجة عن البراء وأحمد عن بريدة والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم وقال صلى الله عليه وسلم " ذكر علي عبادة " رواه صاحب مسند الفردوس عن عائشة وفي لفظ " حب علي عبادة " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أحب الله العبد قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض " ٢ رواه البخاري ومسلم ومن حديث أبي هريرة قلت : ويمكن تأويل هذه الآية أن الله تعالى يتخذه محبا لنفسه قال الله تعالى :" لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " ٣ الحديث
١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٣٧٢٢) وأخرجه ابن ماجة في افتتاح الكتابن باب: في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (١٢١)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق باب: ذكر الملائكة (٣٢٠٩) واخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: إذا أحب الله عبدا حبه إلى عباده (٢٦٣٧)..
٣ اخرجه البخاري في كتاب: الرقاقن باب: التواضع (٦٥٠٢)..
( فإنما يسرناه بلسانك( الباء بمعنى على أو هي أصله وعدى يسرناه لتضمنه معنى أنزلناه أي أنزلناه بلغتك وهو على هذا حال أي متلبسا بلغتك، قلت : ويمكن أن يقال تقديره يسرناه على أنك متلبسا بإذنك ( لتبشر به المتقين( عن الشرك ( وتنذر به( الضمير المنصوب في يسرناه والمجرور في به راجع إلى القرآن ( قوما لذا( أشداء الخصومة الذين يخارون النار مع وضوح الحق تعجبا وخصومة وعنادان وقال الحسن معناه صم عن الحق وقال مجاهد الألد الظالم الذي لا يستقيم وقال أبو عبيدة الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل الحصر إضافي يعني ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك وتنجها إن لم يؤمنوا إنما أنزلناه لتبشر وتنظر
( وكم أهلكنا قبلهم( أي كفار قومك ( من قرن( تخويف للكافرين وتجسير للرسول صلى الله عليه وسلم على إنذارهم ( هل نحس منهم من أحد( بإحدى الحواس الخمس وقيل : معناه هل ترى وقيل : هل تجد وقيل : هل تشعر ( لو تسمع لهم ركزا( الركز الصوت الخفي وأصل التركيب للخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون والله أعلم، تمت تفسير سورة مريم ويتلوه سورة طه ‘إن شاء الله تعالى يوم الاثنين خامس صفر من السنة الثالثة بعد الألف والمائتين سنة ١٢٠٣.
Icon