تفسير سورة مريم

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة مريم من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ

هذه خمسة حروف مقطعة، تنطق باسم الحرف لا بمسماه، لأن الحرف له اسم وله مسمى، فمثلا كلمة ( كتب ) مسماها ( كتب ) أما بالاسم فهي كاف، تاء، باء. فالاسم هو العلم الذي وضع على اللفظ.
وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتدئت بحروف مقطعة تنطق باسم الحرف لا مسماه، وهذه الحروف قد تكون حرفا واحدا مثل : ن، ص، ق. وقد تكون حرفين مثل : طه، طس. وقد تكون ثلاثة أحرف مثل : الم، طسم. وقد تأتى أربعة أحرف مثل : المر. وقد تأتى بخمسة أحرف مثل : كهيعص، حمعسق.
لذلك نقول : لا بد في تعلم القرآن من السماع، وإلا فكيف تفرق بين الم في أول البقرة فتنطقها مقطعة وبين﴿ ألم نشرح لك صدرك " ١ " ﴾( سورة الشرح )فتنطقها موصلة ؟ وصدق الله تعالى حين قال :﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " ١٨ " ﴾( سورة القيامة ).
ونلاحظ في هذه الحروف أنه ينطق بالمسنى المتعلم وغير المتعلم، أما الاسم فلا ينطق به إلا المتعلم الذي عرف حروف الهجاء. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمياّ لم يجلس إلى معلم، وهذا بشهادة أعدائه، فمن الذي علمه هذه الحروف ؟.
إذن : فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف، ونحن نتكلم بمسميات الحروف لا بأسمائها.
الذكر : له معان متعددة، فالذكر هو الإخبار بشيء ابتداء، والحديث عن شيء لم يكن لك به سابق معرفة، ومنة التذكير بشيء عرفته أولا، ونريد أن نذكرك به، كما في قوله تعالى :﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " ٥٥ " ﴾( سورة الذاريات ).
ويطلق الذكر على القرآن :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ٩ " ﴾( سورة الحجر ).
وفي القرآن أفضل الذكر، وأصدق الأخبار والأحداث كما يطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ٤٣ " ﴾( سورة النحل ).
والذكر هو الصيت والرفعة والشرف، كما في قوله تعالى :
﴿ وإنه لذكر لك ولقومك.. " ٤٤ " ﴾( سورة الزخرف ).
وقوله تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم.. " ١٠ " ﴾ ( سورة الأنبياء )أي : فيه صيتكم وشرفكم، ومن ذلك قولنا : فلان له ذكر في قومه. ومن الذكر ذكر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة، وذكر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن ذلك قوله تعالى ﴿ فاذكروني أذكركم.. " ١٥٢ " ﴾( سورة البقرة )
ومن قوله تعالى :﴿ ذكر رحمة ربك.. " ٢ " ﴾( سورة مريم )أي : هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به.
والرحمة : هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يديم له صلاحه لمهمته، إذن : فكل راحم ولو من البشر، وكل مرحوم ولو من البشر، ماذا يصنع ؟ يعطى غيره شيئا من النصائح تعينه على أداء مهمته على اكمل وجه، فما بالك إن كانت رحمة الله لخير خلقه محمد ؟.
إنها رحمة عامة ورحمة شاملة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم، فلا وحي ولا رسالة من بعده، ولا إكمال. إذن فهو أشرف الخلق، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته، ومهمة محمد أكرم المهمات.
وكلمة ( رحمة ) هنا مصدر يؤدى معنى فعله، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول، كما نقول : آلمني ضرب الرجل ولده، فمعنى :﴿ رحمت ربك عبده زكريا " ٢ " ﴾( سورة مريم )أي : رحم ربك عبده زكريا. لذلك قال تعالى :﴿ رحمت ربك.. " ٢ " ﴾( سورة مريم )لأنها أعلى أنواع الرحمة، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا، فقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ١٠ " ﴾( سورة الأنبياء ).
فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به، بل هي رحمة عامة لجميع العاملين، وهذه منزلة كبيرة عالية. فالمراد من ﴿ ذكر رحمة ربك عبده زكريا " ٢ " ﴾( سورة مريم ).
يعنى هذا الذي يتلى عليك الآن يا محمد هو ذكر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي اجل الرحمات بعبدة زكريا. وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخلق مهانة ومذلة، وهي كلمة بشعة لا تقبل، أما العبودية لله تعالى فهي عز وشرف، بل منتهي العز والشرف والكرامة، وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء وتحزن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره، أما العبودية لله تعالى فيأخذ العبد خير سيده.
لكن ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر عبده زكريا ؟.
قالوا : لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسببات أسبابا، ثم قال للأسباب : أنت لست فاعلة بذاتك، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتك ألا تفعلي أبطلت عملك، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به.
ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم، أو بجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم أن ينجى إبراهيم ؛ لأنه كان من الممكن ألا يمكن خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه، أو ينزل مطرا يطفئ ما أوقدوه من نار، لكن ليست نكاية القوم في هذا، فلو أفلت إبراهيم من قبضتهم، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا : لو كنا تمكنا منه لفعلنا كذا وكذا، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا.
إذن : شاءت إرادة الله أن تكيد هؤلاء، وأن تظهر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتمكنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلا، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق :
﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " ٦٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وكذاك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلا على طلاقة القدرة في مسألة الخلق، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه وتعالى جعل للكون أسبابا، لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب، وقد يلغيها نهائيا ويأتي بالمسببات دون أسباب.
وقد تجلت طلاقة القدرة في قصة بدء الخلق، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يدير خلقه على كل أوجه الخلق، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر.
فالقدرة الإلهية إذن غير مقيدة بالأسباب، وتظل طلاقة القدرة هذه في الخلق إلى أن تقوم الساعة، فنرى الرجل والمرأة زوجين، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبب سبحانه، فهو القائل :
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " ٤٩ " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير " ٥٠ " ﴾( سورة الشورى ).
وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أن يرزقه الولد. قال تعالى :﴿ ذكر رحمة ربك عبده زكريا " ٢ " ﴾( سورة مريم )أي : رحمه الله، لكن متى كانت هذه الرحمة ؟.
أي : في الوقت الذي نادى فيه ربه نداء خفيا.
والنداء لون من ألوان الأساليب الكلامية، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر، وهو أن تطلب شيئا من عندك، فلو قلت : يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالا عليك، فالنداء إذن طلب الإقبال عليك، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى ؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنيه منك.
فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد ؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم ؟ فإذا كان إقباله عليك موجودا في كل وقت، فما الغرض من النداء هنا ؟.
نقول : الغرض من النداء : الدعاء. ووصف النداء هنا بأنه :﴿ نداء خفيا " ٣ " ﴾( سورة مريم )لأنه ليس كنداء الخلق للخلق، يحتاج إلى رفع الصوت حتى يسمع، إنه نداء لله تبارك وتعالى الذى يستوى عنده السر والجهر، وهو القائل :
﴿ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور " ١٣ " ﴾( سورة الملك ).
ومن أدب الدعاء أن ندعوه سبحانه كما أمرنا :
﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية.. " ٥٥ " ﴾( سورة الأعراف ).
وهو سبحانه :﴿ فإنه يعلم السر وأخفي " ٧ " ﴾( سورة طه )أي : وما هو أخفي من السر ؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سرا، علم انه سيكون سرا. لذلك، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي ؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء، إن سمعه غيره ربما استنقصه، فجعل الدعاء خفيا بين العبد وربه حتى لا يفتضح أمره عند الناس.
أما الحق سبحانه فهو ستار يحب الستر حتى على العاصين، وكذلك ليدعو العبد ربه بما يستحي أن يذكره أمام الناس، وليكون طليقا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء ؛ لأنه ربه ووليه الذي يفزع إليه. وإن كان الناس يحزنون ويتضجرون أن سألتهم أدنى شئ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته.
لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه ؟.
دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر ؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها معطلة عنده ؛ لذلك توجه إلى الله بالدعاء : يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خرق الناموس والقانون، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته.
أخفاه أيضا ؛ لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده، إلا أنه لم يأتمنهم على منهج الله ؛ لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج، فكيف يأتمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم ؟ فإذا دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه ؛ لذلك جاء دعاؤه خفيا يسره بينه وبين ربه تعالى. لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال :﴿ يرثني ويرث من آل يعقوب.. " ٦ " ﴾ ( سورة مريم ).
إذن : فالعلة في طلب الولد دينية محضة، لا يطلب لمغنم دنيوي، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد.
لذلك قوله :( يرثني ) هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض ؛ أن الأنبياء لا يورثون،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه ".
وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم. فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى ؛ لذلك قال بعدها :﴿ ويرث من آل يعقوب.. " ٦ " ﴾( سورة مريم )
أي : النبوة التي تناقلوها. فلا يستقيم هنا أبدا أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وورث سليمان داود.. " ١٦ " ﴾ ( سورة النمل )ففي أي شئ ورثه في النبوة والملك، فالمسألة بعيدة كل البعد عن الميراث المادي.
هذا هو النداء، أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلام :﴿ رب إني وهن العظم مني.. " ٤ " ﴾( سورة مريم ).
ويرد في الدعاء أن نقول : يا رب.
أو نقول : يا الله، فقال زكريا ( رب ) أي يا رب ؛ لأنه يدعو بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر، إنه يطلب الولد، وهذا أمر يتعلق ببنية الحياة وصلاحها للإنجاب، وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى من بعد أبيه.
فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه : يا رب يا من تعطى من آمن بك، وتعطى من كفر، يا من تعطى من أطاع، وتعطى من عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك.
أما الدعاء بالله ففي أمور العبادة والتكليف. ثم يقدم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب :
﴿ رب إني وهن العظم مني.. " ٤ " ﴾( سورة مريم )والوهن هو الضعف، وقال :﴿ وهن العظم مني.. " ٤ " ﴾( سورة مريم )لأن لكل شئ قواما في الصلابة والقوة، فمثلا الماء له قوام معروف والدهن له قوام، واللحم له قوام، والعصب والعظم وكل عناصر تكوين الإنسان، والعظم هو أقوى هذه الأشياء والعظم في بناء الجسم البشرى مثل ( الشاسيه ) في لغة العصر الحديث، وعلى العظم يبنى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب، فإذا أصاب العظام وهي أقوى العناصر ضعف فغيرها من باب أولى.
لذلك، فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال ؟.
قال : مرت بنا سنون صعبة : فسنه أذابت الشحم أي : بعد الجوع وعدم الطعام وسنه أذهبت اللحم أي : بعد أن أنهت الشحم، وسنه محت العظم.
فكأن العظم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم الإنسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام والشراب. والعظم في هذه الحالة يوجه غذاءه للمخ خاصة ؛ لأنه ما دام في المخ بقيه قبول حياه فما حدث للجسم من تلف قابل للإصلاح والعودة إلى طبيعته، إذن : فسلامة الإنسان مرتبطة بسلامته المخ.
لذلك نجد الأطباء في الحالات الحرجة يركزون اهتمامهم على سلامه المخ، ويرتبون عليه حياة الإنسان أو موته، حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية، أما إن توقف المخ فهذا يعنى الموت.
فكأن نبي الله زكريا عليه السلام يقول : يا رب ضعف عظمى، ولم يعد لدى إلا المصدر الأخير لاستبقاء الحياة.
ولما كان العظم شيئا باطنا مدفونا تحت الجلد، فهو حيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أن يأتي بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح :( واشتعل الرأس شيبا.. " ٤ " ) ( مريم ) فشبه انتشار الشيب في رأسه باشتعال النار، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار.
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضا تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار، فإذا ما انتهت هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت النار في التضاؤل، حتى تصير جذوة لا لهب ثم تنطفئ.
واشتعال الرأس بالنار أيضا دليل على ضعف الجسم ووهن قوته ؛ لأن الشعر يكتسب لونه من مادة ملونة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في بصيلة الشعرة، وتمد الشعرة بهذا اللون، وضعف الجسم يضعف هذه المادة تدريجيا، حتى تختفي، وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء، والبياض ليس لونا، إنما البياض عدم اللون نتيجة ضعف الجسم وضعف الغدد التي تفرز هذا اللون.
لذلك، نجد المترفين الذين يعنون كثيرا بشعرهم ويضعون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر الشيب عندهم تبيض سوالفهم ؛ لأن السوالف عادة بعد أن يهذبها الحلاق تأخذ أكبر قدر من المواد الكاوية التي تؤثر على بصيلات الشعر وعلى هذه المادة الملونة. والشعرة مثل الأنبوبة يسهل توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلاقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة.
ثم يقول :﴿ ولم أكن بدعائك رب شقيا " ٤ " ﴾ ( سورة مريم )أي : لم أكن فيما مضى بسبب دعائي لك شقيا ؛ لأني مستجاب الدعوة عندك، فكما أكرمتني سابقا بالإجابة فلم أكن شقيا بدعائك، بل كنت سعيدا بالإجابة، فلا تخلف عادتك معي هذه المرة، واجعلني سعيدا بأن تجيبني، خاصة وأن طلبي منك طاعة لك، فأنا لا أريد أن أخرج من الدنيا إلا وأنا مطمئن على من يحمل المنهج، ويقوم بهذه المهمة من بعدى.
وأنت قد تدعو الله لأمر تحبه، فإذا لم يأت ما تحبه ولم تجب حزنت وكأنك قد شقيت بدعائك، وقد قد يكون شقائك كذب ؛ لأنك لا تدرى الحكمة من عدم الإجابة، لا تدرى أن الله تعالى يتحكم في تصرفاتك.
وربما تدعو لأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم الله أنه لا خير لك فيه، فمنعه عنك وعدل لك ما أخطأت فيه من تقدير الخير، فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك، وأحسن إليك من حيث ترى أنه حرمك، لأنك طلبت الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع الله من حيث يعلم أن الخير ليس في ذلك.
ثم يذكر زكريا عليه السلام علة أخرى هي علة العلل ولب هذه المسألة.
( الموالي )من الولاء، وهم أقاربه من أبناء عمومته، فهم الجيل الثاني الذي سيأتي بعده، ويخاف أن يحملوا المنهج ودين الله من بعده لأنه رأي من سلوكياتهم في الحياة عدم أهليتهم لحمل هذه المهمة. ﴿ من ورائي.. " ٥ " ﴾( سورة مريم ).
سبق أن أوضحنا في صوره الكهف أن كلمه وراء تأتى بمعنى : خلف، أو أمام، أو بعد، أو غير. وهنا جاءت بمعنى : من بعدى. ثم يقول :﴿ وكانت امرأتي عاقرا.. " ٥ " ﴾( سورة مريم ).
والعاقر هي التي لا تلد بطبيعتها بداية، أو صارت عاقر بسبب بلوغها سن اليأس مثلا. ونحن نعلم أن التكاثر والإنجاب في الجنس البشرى ينشأ من رجل وامرأة، وقد سبق أن وصف زكريا حاله من الضعف والكبر، ثم يخبر عن زوجته بأنها عاقر لا تلد، إذن : فأسباب الإنجاب كلها معطلة.
وقوله :﴿ وكانت امرأتي عاقرا.. " ٥ " ﴾( سورة مريم )أي : هي بطبيعتها عاقر، وهذا أمر مصاحب لها ليس طارئا عليها، فلم يسبق لها قبل ذلك.
ثم يقول :﴿ فهب لي.. " ٥ " ﴾( سورة مريم )والهبة هي العطاء بلا مقابل، فلأسباب هنا معطلة، والمقدمات تقول : لا يوجد إنجاب ؛ لذلك لم يقل مثلا أعطني ؛ لأن العطاء قد يكون عن مقابل، أما في هذه الحالة فالعطاء بلا مقابل وبلا مقدمات، فكأنه قال : يا رب إن كنت ستعطيني الولد فهو هبة منك لا أملك أسبابها ؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلام :
﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل.. " ٣٩ " ﴾( سورة إبراهيم ).
ولنا وقفة وملحظ على قوله تعالى :﴿ على الكبر.. " ٣٩ " ﴾( سورة إبراهيم )
حيث قال المفسرون :( على )هنا بمعنى ( مع )و ( على )ثلاثة أحرف و ( مع )حرفان، فلماذا عدل الحق تبارك وتعالى عن الخفيف إلى الثقيل ؟ لا بد أن وراء هذا اللفظ إضافة جديدة، وهي أن مع تفيد المعية فقط، أما ( على )على تفيد المعية والاستعلاء، فكأنة قال : إن الكبر يا رب يقتضي ألا يوجد الولد، لكن طلاقة قدرتك أعلى من الكبر. ومن ذلك أيضا قوله تعالى :
﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد )كأن الظلم يقتضي أن يعاقبوا، لكن رحمة الله بهم ومغفرته لهم علت على استحقاق العقاب. وقوله :
﴿ من لدنك.. " ٥ " ﴾( سورة مريم )أي : من عندك أنت لا بالأسباب ( وليا )أي :: ولدا صالحا يلينى في حمل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لتسلم لهم حركة الحياة.
سبق وأن أوضحنا أن الميراث هنا لا يقصد ميراث المال ؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وما تركوه من مال فهو صدقة من بعدهم، إنما المراد هنا ميراث العلم والنبوة والملك، وحمل منهج الله إلى الناس، ونلحظ أنه لم يكتف بقول ( يرثني )بل قال ( ويرث من آل يعقوب )فلست أنا القمة في الطاعة في آل يعقوب، فهناك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وهذا تواضع منة ومراعاة لأقدار الرجال وإنزالهم منازلهم. وقولة :﴿ أجعله ربى رضيا " ٦ " ﴾( سورة مريم ).
أي : مرضيا عنه منك.
المتأمل هذه القصة يجد هذه الآية قد اختصرت من القصة ما يفهم من سياقها ثقة في نباهة السامع، وأنة قدر على إكمال المعنى، فكأن معنى الآية : سمع الله دعاء زكريا وحيثيات طلبه، فأجابه بقوله :( يا زكريا.. " ٧ " )مريم وتوجيه الكلام إلى زكريا عليه السلام هكذا مباشرة دليل على سرعة الاستجابة لدعائه، فجاءت الإجابة مباشرة دون مقدمات.
ومثال ذلك : ما حكاه القرآن من قصة سليمان _ عليه السلام _ وبلقيس، قال سليمان :
﴿ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " ٣٨ " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " ٣٩ " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم " ٤٠ " ﴾( سورة النمل ).
فبين قوله :﴿ قبل أن يرتد إليك طرفك.. " ٤٠ " ﴾( سورة النمل ).
وقوله :﴿ رآه مستقرا عنده.. " ٤٠ " ﴾( سورة النمل )كلام يقتضيه سياق القصة، كأن نقول : فأذن له فذهب وأتى بالعرش، لكن جاء الأسلوب سريعا ليتناسب مع سرعة الحدث في إحضار عرش بلقيس من مكانه. وقولة :﴿ إنا نبشرك.. " ٧ " ﴾( سورة مريم ).
البشارة : هي الإخبار بما يسرك قبل أن يجيء ليستطيل أمد الفرح بالشيء السار، وقد يبشرك مساويك ويكذب في البشرى، وقد تأتى الظروف والأحداث مخالفة لما يظنه، فكيف بك إذا بشرك الله تعالى ؟ ساعة أن تكون البشارة من الله فاعلم إنها حق وواقع لا شك فيه. وقوله :﴿ بغلام اسمه يحيى.. " ٧ " ﴾( سورة مريم )أي : وسماه أيضا. ونحن نعلم أن للبشر اختيارات في وضع الأسماء للمسميات، ولهم الحرية في ذلك، فواحدة تسمى ولدها ( حرنكش )هي حرة، وأخرى تسمى ابنتها الزنجية ( قمر )هي أيضا حرة.
إلا أن الناس حين يسمون يتمنون في المسمى مواصفات تسر النفس وتقر العين، فحين تسمى سعيدا تفاؤلا بأن يكون سعيدا فعلا، والاسم وضع للدلالة على المسمى، لكن، أيملك هذا المتفائل أن يأتي المسمى على وفق ما يحب ويتمنى ؟ لا، لا يملك ذلك ولا يضمنه ؛ لأن هناك قوة أعلى منه تتحكم في هذه المسألة، وقد يأتي المسمى على غير مراده.
أما إذا كان الذي سمى هو الله تعالى فلا بد أن يتحقق الاسم في المسمى، وينطبق عليه، ولا بد أن يتحقق مراده تعالى في من سماه، وقد سمى الحق تبارك وتعالى ابن زكريا يحي فلا بد أن تنطبق عليه هذه الصفة، ويحيى فعل ضده يموت، إذن : فهو سبحانه القادر على أن يحيه، لكن يحيه إلى متى ؟ وكم عام ؟ الحياة هنا والعيش يتحقق ولو بمتوسط الأعمار مثلا، فقد أحياه وتحقق فيه صفة الحياة.
ولذلك استدل أهل المعرفة من تسميته يحيى على أن ابن زكريا سيموت شهيدا ليظل حيا كما سماه الله وقد كان. وقوله :﴿ لم نجعل له من قبل سميا " ٧ " ﴾( سورة مريم ).
السمي : اختلف العلماء في معناها فقالوا : تأتى بمعنى : نظير أو مثيل أو شبيه واما سميا يعنى : اسمه كاسمه. ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " ٦٥ " ﴾( سورة مريم )
فقالوا سميا هنا تحمل المعنيين : هل تعلم له نظيرا أو شبيها ؛ لأنه سبحانه وتعالى :
﴿ ليس كمثله شئ.. " ١١ " ﴾( سورة الشورى )، ﴿ ولم يكن له كفوا أحد " ٤ " ﴾( سورة الإخلاص )ويمكن أن نقول بهذا المعنى أيضا في قصة يحيى عليه السلام، إلا أنة يقع فيه شيئا وهو : أن الله سبحانه وتعالى حينما قال في مسألة يحيى :﴿ لم نجعل له من قبل سميا " ٧ " ﴾( سورة مريم )واعتبرناها بمعنى المثل أو النظير أو الشبيه، فهذا يعنى أنه لم يسبق يحيى واحد مثله في الصلاح والتقوى، فأين إذن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ؟ وأين إسماعيل وإسحق ؟.
فهذا المعنى وغن كان السياق يحتمله في غير هذا الموضوع إلا أنه لا يستقيم هنا ؛ لأن الله تعالى جعل من قبل يحيى من هو أفضل من يحيى، أو مثله على الأقل. أما المعنى الأخر فيكون :
﴿ هل تعلم له سميا " ٦٥ " ﴾( سورة مريم )أي : هل هناك من تسمى باسمه تعالى ؟ وهذا هو المعنى الذي يستقيم في قصة يحيى عليه السلام ؛ لأنه أول اسم وضعه الحق سبحانه على ابن زكريا، ولم يكن أحد تسمى به من قبل، أما بعده فقد انتشر هذا الاسم، حتى قال الشاعر :
وسميته يحيى ليحيى فلم يكن لرد قضاء الله فيه سبيل
ونقف هنا على آيه من آيات الله في التسمية، حيث لم يجرؤ أحد من الكفرة والملاحدة الذين يجاهرون بإلحادهم ويعلنون إنكارهم للخالق سبحانه، لم يجرؤ أحد أن يسمى ولده ( الله )، وحرية اختيار الأسماء مكفولة، وهذا إن دل فإنما يدل على كفرهم عناد ولجج، وأنهم غير صادقين في كفرهم، ويعلمون أن الله موجود ؛ لذلك يخافون على أنفسهم وعلى أولادهم أن يسموا بهذا الاسم.
إذن كلمة ( سميا )في مسألة الألوهية تؤخذ على المعنيين، أما في مسألة يحيى فلا تحتمل إلا المعنى الثاني.
وهب أن الحق سبحانه وتعالى استعرض الأسماء السابقة فلم يجد في الماضي من سمى الله فأعلنها تحديا :﴿ هل تعلم له سميا " ٦٥ " ﴾( سورة مريم )
فلم بعد هذا التحدي أن يسمى أحد بهذا الاسم.
لما سمع زكريا عليه السلام البشارة من ربه. واطمأن إلى حصوله أغراه ذلك في أن يوغل في معرفة الوسيلة، وكيف سيتم ذلك، وتتحقق هذه البشارة حال كونه قد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر ؟.
لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله، وهو يعلم تماما أن الله تعالى علم بحاله وحال زوجه ؟ الواقع أن زكريا عليه السلام لا يستنكر حدوث هذه البشرى، يستدرك على الله، وحاشاه أن يقصد ذلك، وإنما أطمعته البشرى في أن يعرف الكيفية، كما حدث في قصة موسى عليه السلام حينما كلمه ربه واختاره، وأفرده بهذه الميزة فأغراه الكلام في أن يطلب الرؤيا، فقال :﴿ رب أرني أنظر إليك.. " ١٤٣ " ﴾( سورة الأعراف )وكما حدث في قصه إبراهيم عليه السلام لما قال لربه :
﴿ رب أرني كيف تحيي الموتى.. " ٢٦٠ " ﴾( سورة البقرة ).
وأبو الأنبياء لا يشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، ولكنة يريد أن يعرف هذه الطريقة العجيبة، فالكلام ليس في الحقيقة وجودا وعدما، إنما في الكيفية لا دخل له بالوجود.
فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة لا تقال إنما تباشر عمليا، فأمره بما نعلم من هذه القصة : وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه، ثم يضمهن إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها، ثم أمره بأن يقطعهن أجزاء، ثم يفرق هذه الأجزاء على قمم الجبال ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أن يدعوهن بنفسه، وأن يصدر الأمر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدب فيها الحياة من جديد، وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل، بل جعل من لا يستطيع ذلك يفعله، ويقدر عليه.
فإن كان البشر يعدون أثر قدرتهم على الضعفاء، فمن لا على حمل شئ يأتي بمن يقوم به، ويظل هو ضعيفا لا يقدر على شئ، أما الحق سبحانه وتعالى فيعدى قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قويا قادر على الفعل. فقوله :﴿ أنى يكون لي غلام.. " ٨ " ﴾( سورة مريم )سؤال عن الكيفية، كما أن إبراهيم عليه السلام لما قال له ربه :
﴿ أو لم تؤمن.. " ٢٦٠ " ﴾( سورة البقرة )أي : بقدرتي على إحياء الموتى، قال ( بلى )أي : نعم أومن
﴿ ولكن ليطمئن قلبي.. " ٢٦٠ " ﴾( سورة البقرة )أي : إلى الكيفية التي يتم بها الإحياء. أو : أن زكريا عليه السلام بقوله :﴿ أنى يكون لي غلام.. " ٨ " ﴾( سورة مريم ).
يريد أن يوثق هذه البشرى ويسجلها، كما تعد ولدك بأن تشترى له هدية فيلح عليك في هذه المسألة ليؤكد وعدك له، ويستلذ بأنه وعد محقق لا شك فيه، ثم يذكر زكريا حيثيات تعجبه من هذا الأمر فيقول :﴿ وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " ٨ " ﴾( سورة مريم )عتيا من عتا يعنى طغى وتكبر وأفسد كثيرا، والعتو : الكفر، والعتي : هو القوى الذي لا يغالب ؛ لذلك وصف الكبر الذي هو رمز للضعف بأنه عتي ؛ لأن ضعف الشيب والشيخوخة ضعف لا يقدر أحد على مقاومته، أو دفعه أبدا، مهما احتال عليه بالأدوية والعقاقير ( والفيتامينات ).
ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلام ؛ وتلح عليه ؛ لأنه دعا الله كثيرا أن يرزقه الولد، ففي موضع آخر يقول :﴿ رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " ٨٩ " ﴾( سورة الأنبياء )
فزكريا عليه السلام يريد الولد الذي يرثه وهو موروث ؛ لأن الله تعالى خير الوارثين. لكن يأتي الرد :
﴿ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه.. " ٩٠ " ﴾( سورة الأنبياء ).
ونلاحظ أن الله تعالى قبل لأن يقول :﴿ وأصلحنا له زوجه.. " ٩٠ " ﴾( سورة الأنبياء ).
التي ستنجب هذا الولد، قال :﴿ ووهبنا له يحيى.. " ٩٠ " ﴾( سورة الأنبياء )فصلاح الزوجة ليس شرطا في هذه البشرى وحدوث هذه الهبة.
وهنا مظهر من مظاهر طلاقة القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ، فهو سبحانه قادر على إصلاح هذه الزوجة العاقر، فالصنعة الإلهية لا تقف عند حد، كما لو تعطل عندك أحد الأجهزة مثلا فذهبت به إلى الكهربائي لإصلاحه فوجد التلف به كبيرا، فينصحك بتركه وشراء آخر جديد، فلا حيلة في إصلاحه.
لذلك أصلح الله تعالى لزكريا زوجه حتى لا نظن أن يحيى جاء بطريقة أخرى، والزوجة لا تزال على حالها.
( قال )أي : الحق سبحانه وتعالى :
﴿ كذلك قال ربك.. " ٩ " ﴾( سورة مريم )أي : أنه تعالى قال ذلك وقضى به، فلا تناقش في هذه المسألة، فنحن أعلم بك وما أنت فيه من كبر، وأن زوجتك عاقر، ومع ذلك سأهبك الولد.
وقوله تعالى :﴿ هو علي هين.. " ٩ " ﴾( سورة مريم ).
وفي آية أخرى يقول في آية البعث :﴿ وهو أهون عليه.. " ٢٧ " ﴾( سورة الروم )فلا تظن أن الأمر بالنسبة لله تعالى فيه شئ هين وشئ أهون، وشئ شاق، فالمراد بهذه الألفاظ تقريب المعنى إلى أذهاننا.
والحق سبحانه يخاطبنا على كلامنا نحن وعلى منطقنا، فالخلق من موجود أهون في نظرنا من الخلق من غير موجود كما قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " ١٥ " ﴾( سورة ق ).
إذن : فمسألة الإيجاد بالنسبة له تعالى ليس فيها سهل وأسهل أو صعب وأصعب، لأن هذه تقال لمن يعمل الأعمال علاجا، ويزاولها مزاوله، وهذا في أعمالنا نحن البشر، أما الحق تبارك وتعالى فإنه لا يعالج الأفعال، بل يقول للشيء كن فيكون :
﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " ٨٢ " ﴾( سورة يس )
ثم يدلل الحق سبحانه وتعالى بالأقوى، فيقول :
﴿ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " ٩ " ﴾( سورة مريم ).
فلأن يوجد يحيى من شئ أقل غرابة من أن أوجد من لا شئ.
( آية )أي : علامة على أن امرأته قد حملت في يحيى، وكأن زكريا عليه السلام يتعجل الأمور ولا صبر له طوال تسعة أشهر، بل يريد أن يعيش في ظل هذه النعمة، وكأنه واقع لا ينفك لسانه حامدا شاكرا عليها، وتظل النعمة في باله رغم أن ولده ما يزال جنينا في بطن أمه.
فيجيب ربه :﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " ١٠ " ﴾( سورة مريم ).
علامتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال و ( ألا )ليست للنهي عن الكلام، بل هي إخبار عن حالة ستحدث له دون إرادته، فلا يكلم الناس مع سلامة جوارحه ودون علة تمنعه من الكلام، كخرس أو غيره. لذلك قال :﴿ ثلاث ليال سويا " ١٠ " ﴾( سورة مريم )أي : سليما معافى، سوى التكوين، لا نقص فيك، ولا قصور في جارحة من جوارحك. وهكذا لا يكون عدم الكلام عيبا، بل آية من آيات الله. وهناك فرق بين أمر كوني وأمر شرعي، الأمر الكوني هو ما يكون وليس لك فيه اختيار في ألا يكون، والأمر الشرعي ما لك فيه اختيار من الممكن أن تكون تطيعه فتكون طائعا أو تعصيه فتكون عاصيا.
وهذا الذي حدث لزكريا أمر كوني، وآية من الله لا اختيار له فيها، وكأن الحق سبحانه يعطينا الدليل على أنه يوجد من لا مظنة أسباب، وقد يبقى الأسباب سليمة صالحة ولا يظهر المسبب، فالسان هنا موجود، وآلات النطق سليمة، لكنه لا يقدر على الكلام.
فتأمل طلاقة القدرة، فقد شاء سبحانه لزكريا الولد بغير أسباب، وهنا منع مع وجود الأسباب، فكلا الآيتين سواء في قدرته تعالى ومشيئته.
إذن : حدثت هذه المسألة لزكريا وهو في ( المحراب )أي : مكان العبادة والصلاة، وعادة ما يكون مرتفعا على شرف عما حوله، وكان مصلى الأنبياء والصالحين، وسمى محرابا لأنه يحارب فيه الشيطان بكيده ووسوسته. وقد ذكر المحراب أيضا في قصة داود عليه السلام :
﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا.. " ٣٩ " ﴾( سورة آل عمران ).
وقوله تعالى :﴿ فأوحى إليهم.. " ١١ " ﴾( سورة مريم ).
قلنا إن الوحي له معنى لغوى ومعنى شرعي، الوحي لغة : الإخبار بطريق خفي. وعلى هذا المعنى يأتي المعنى بطرق متعددة، فالله تعالى يوحي للرسل والأنبياء، ويوحي لغير الرسل من المصطفين، كما في قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه.. " ٧ " ﴾( سورة القصص )أي : أخبرها بطريق خفي، هو طريق الإلهام. ويوحي إلى الملائكة :
﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.. " ١٢ " ﴾( سورة الأنفال )
ويوحي للصالحين من أتباع الرسل :
﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي.. " ١١١ " ﴾( سورة المائدة )
ويتعدى الأعلام بخفاء إلى الحشرات :
﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون " ٦٨ " ﴾( سورة النحل )
بل يتعدى الوحي إلى الجماد في قوله تعالى :
﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها " ١ " وأخرجت الأرض أثقالها " ٢ " وقال الإنسان ما لها " ٣ " يومئذ تحدث أخبارها " ٤ " بأن ربك أوحى لها " ٥ " ﴾( سورة الزلزلة ).
وقد يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض :
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.. " ١١٢ " ﴾( سورة الأنعام ).
ويوحون إلى أوليائهم :
﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم.. " ١٢١ " ﴾( سورة الأنعام ).
أما الوحي الشرعي فهو إعلام من الله وحده إلى نبي يدعى النبوة ومعه معجزة. إذن فالوحي : إعلام خفي من الله للرسول. فقوله تعالى :﴿ فأوحى إليهم.. " ١١ " ﴾( سورة مريم )أي : قال لهم بطريق الإشارة ؛ لأنه لا يتكلم ﴿ أن سبحوا بكرة وعشيا " ١١ " ﴾( سورة مريم ).
بكرة : أول النهار، وعشيا : آخره، يعنى طوقوا النهار بالتسبيح بداية ونهاية. وكأن زكريا عليه السلام قد بدت عليه علامات الفرح الانبساط بالبشرى، ورأي أن شكره لله وتسبيحه لا ينهض بهذه النعمة، فأمر قومه أن يسبحوا لله معه، ويشكروه معه على هذه النعمة ؛ لأنها لا تخصه وحده، بل هي عامة لكل القوم.
نلحظ أن الآية الكريمة انتقلت بنا نقله واسعة، وطوت فترة طويلة من حياة يحيى علية السلام فقد كان السياق يتحدث عنه وهو بشرى لوالده، وهو ما يزال في بطن أمه جنينا، وفجأة يخاطبه وكأنه أصبح أمرا وقعا :﴿ يا يحيى خذ الكتاب بقوة.. " ١٢ " ﴾( سورة مريم )فقد بلغ مبلغ النضج، وأصبح أهلا لحمل مهمة الدعوة، إذن : المسألة مأخوذة مأخذ الجد، وهي حقيقة واقعة. وقوله :﴿ خذ الكتاب.. " ١٢ " ﴾( سورة مريم )أي : التوراة، وفيها منهج الله الذي ينظم لهم حركة حياتهم ﴿ بقوة.. " ١٢ " ﴾( سورة مريم )أي : بإخلاص في حفظة وحرص على العمل به ؛ لأن العلم السماوي والمنهج الإلهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به. وإلا فقد قال تعالى في بنى إسرائيل :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس.. " ٥ " ﴾( سورة الجمعة )فقد حملهم الله التوراة، فلم يحملوها ولم يعملوا بها.
والقوة : هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولاب الحياة حركة وسكونا، وخذ مثلا سفينة الفضاء التي تنطلق إلى الفضاء الخارجي، وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل : من أين لها بالوقود الذي يحركها طوال هذه المدة ؟ والحقيقة أنها لا تحتاج إلى وقود إلا بمقدار ما يخرجها من مدار الجاذبية الأرضية، فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ولا تتوقف إلا بقوة توقفها، وكذلك الساكن يظل ساكنا إلى أن تأتى قوة تحركه.
إذن : القوة إما أن تحرك الساكن أو تسكن المتحرك وتصده، ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية من مصدات توقف القطار ؛ لأنك إن أردت أن توقف القطار تمنع عنه الوقود، لكن تظل به قوة دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه، وهذا ما يسمونه قانون العطالة. يعنى : إن كان الشيء متحركا فيحتاج إلى قوة توقفه، وإن كان ساكنا يحتاج إلى قوة تحركه.
ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس، وتلاحظه إذا تحركت بك السيارة تجد أن جسمك يندفع للخلف ؛ لأنها تحركت للأمام وأنت ساكن، فإن توقفت السيارة تحرك جسمك للأمام لأنها توقفت وأنت متحرك. إذن : هذه الأشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة.
فقوله تعالى :﴿ خذ الكتاب بقوة.. " ١٢ " ﴾( سورة مريم )لأن الكتاب فيه أوامر وفيه نواه، يأمر بالخير وينهاك عن الشر، فإن أمرك بالخير وأنت لا تفعله تحتاج إلى قوة دفع تدفعك إلى الخير، وكأنك كنت ساكنا تحتاج إلى قوة تحركك، وإن نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجه إلى قوة تمنعك وتوقف حركتك في الشر، والمنهج هو هذه القوة التي تحركك إلى الخير وأنت ساكن، وتسكنك عن الشر وأنت متحرك.
ثم يقول تعالى :﴿ وآتيناه الحكم صبيا " ١٢ " ﴾( سورة مريم ).
الحكم : العلم والفهم للتوراة، أو الطاعة والعبادة، ﴿ صبيا " ١٢ " ﴾( سورة مريم )في سن مبكرة ؛ لأن المسألة عطاء من الله لا يخضع للأسباب، فجاء يحيى عليه السلام مبكر النضج والذكاء، يفوق أقرانه وهو صغير أن دعاه أقرانه : " ما للعب خلقنا "..
ولأن يحيى جاء إلى الدنيا حال كبر وضعف والديه، وهو كطفل يحتاج من يشمله بالعطف والحنان، ويعوضه حنان الوالدين، ويحتاج إلى من يعلمه ويربيه ؛ لذلك تولى الحق سبحانه وتعالى هذه المهمة، فهو سبحانه خالقه ومسميه ومتوليه فوهبه حنانا منه سبحانه :
( من لدنا.. " ١٣ " مريم ) من عندنا ؛ لأن طاقة الحنان عند الوالدين قد نضبت. وقوله :
﴿ وزكاة.. " ١٣ " ﴾( سورة مريم )أي طهارة من الذنوب وصفاء نفس وبركة، وهذه كلها نتيجة التربية الإلهية بمنهج الله الذي يرسم له حركته في الحياة : أفعل كذا ولا تفعل كذا.
﴿ وكان تقيا " ١٣ " ﴾( سورة مريم )أي : استجاب لهذا الحنان. وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقيا، أي : منفذا لأوامر الله مجتنبا لنواهيه، وبذلك وقى نفسه من صفات الجلال من الله تعالى. وقلنا : إن التقوى أن تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعا يحميك ويبعدك عن إيذائه، فتقول : اتق الله واتق النار، كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه ؟.
نقول : اتق الله أي : اجعل بينك وبين صفات جلاله وجبروته وقاية تحميك من جبروته وجباريته وقهره، فلست مطيقا لأدنى شئ من العذاب، والنار من جنود الله ومظهر من مظاهر قهره، فاتقاء النار جزء من اتقاء الله، والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلال هي الطاعة بامتثال الأوامر والنواهي.
فرغم أن يحيى عليه السلام جاء أبويه في حال كبرهما وضعفهما، ولم يجد منهما الحنان الكافي والتربية المناسبة، ولم يشعر معهما بالأبوة الكاملة، فكان دورهما في حياته ثانويا، وحمايلهم عليه باهتة متواضعة، مع هذا كله كان بارا بهما حانيا عليهما. وقال عنه أيضا :
﴿ ولم يكن جبارا عصيا " ١٤ " ﴾( سورة مريم ).
وصفة الجبروت وصفة العصيان لا يتصوران من الولد على والديه، إلا حين يرى من أبيه شرودا عنة وانصرافا عن رعايته، وحين يرى من أمه انشغالا عن تربيته، فهي تاركة له غير مراعية لحقه.
لذلك نرى صورا من هذا الجبروت ومن هذا العصيان، ونسمع من يقسو على أمه وعلى أبيه ؛ لأنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية، فتقطعت بينهما أواصر الأبوة. ويبدوا أن زكريا حكى لولده ما حدث، وقص عليه قصته، فتهم الولد دور والديه ونفي عنهما أي تقصير، فكان بهما بارا رحيما، ولهما طائعا متواضعا.
هذه مسائل ثلاث تعد أعلام حياة للإنسان : الميلاد، والموت، والبعث. وقد خصه الله بالسلام يوم مولده ؛ لأنه ولد على غير العادة في الميلاد فأمه عاقر قد أسنت، ومع ذلك لم تتعرض لألسنة الناس ولم يعترض أحد على ولادتها، وهي على هذا الوصف، فلم يتجرأ أحد عليها ؛ لأن ما حدث لها كان آية من آيات الله وقد بشر الله بها زكريا لتكون البشرى إعدادا ومقدمة لهذا الحدث العجيب.
وخصه بالسلام يوم يموت ؛ لأنه سيموت شهيدا، والشهادة غير الموت، الشهادة تعطيه حياة موصولة بالحياة الأبدية الخالدة. وكذلك خصه يوم القيامة يوم يبعث حيا.
وقصة مريم في واقع الأمر كانت قبل قصة زكريا ويحيى لان طلب زكريا من الولد نتيجة ما سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم يأت به، وهو كافها ومتولي أمرها، فتعجب أن يرى عندها رزقا لم يحمله إليها، وهي مقيمة على عبادتها في محرابها، فقال لها :
﴿ يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ٣٧ " ﴾( سورة آل عمران )وكأن هذه أول بداية قانون : من أين لك هذا ؟ لكن عطاءه تعالى لا يخضع للأسباب، بل هو سبحانه يرزق من يشاء متى يشاء وبغير حساب. وشاءت إرادة الله أن تنطق مريم بهذه المقولة :
﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ٣٧ " ﴾( سورة آل عمران )لأنها ستنبه زكريا إلى شئ، وستحتاجها أيضاً مريم فيما بعد حينما تشعر بالحمل من غير زوج، فلن تعترض على هذا الوضع، وستعلم أنه عطاء من الله.
وكذلك نبهت هذه الآية زكريا عليه السلام إلى فضل الله وسعة رحمته، وهذا أمر لا يغيب عن نبي الله، ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إلا أنها بعيدة عن بؤرة الشعور وبعيدة عن الاهتمام، فإذا ما ذكر بها انتبه إليها ؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ هنالك دعا زكريا ربه.. " ٣٨ " ﴾
( سورة آل عمران )فمادام أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فلماذا لا أدعو الله بولد صالح يحمل أمر الدعوة من بعدي، وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمنعه كبر السن أو العقم أو خلافه.
إذن : فمريم هي التي أوحت لزكريا بهذا الدعاء، واستجاب الله لزكريا ورزقه يحيى ؛ ليكون ذلك مقدمة وتمهيداً لمريم، فلا تنزعج من حملها، وترد هذه المسألة إلى أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وليكون ذلك إيناساً لنفسها واطمئناناً، وإلا فمن الممكن أن تلعب بها الظنون وتنتابها الشكوك، وتتصور أن هذا الحمل نتيجة شيء حدث لم تشعر به، أو كانت نائمة مثلاً.
لكن الحق تبارك وتعالى يقطع عنها كل هذه الشكوك، ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها في طعام لم يأت به أحد إليها، وفي حمل زوجة زكريا وهي عاقر لا تلد.
قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب مريم.. " ١٦ " ﴾( سورة مريم ).
الكتاب هو القرآن الكريم، أي : اذكر يا محمد في كتاب الله الذي أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم، وقد سبق الحديث عن هذه القصة في سورة ( آل عمران )لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن نذر أمها لما في بطنها لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إلا الذكران الذين يتحملون مشقة هذا العمل، فلما وضعتها أنثى لم يوافق ظنها إرادة الله، ولم تستطع مريم خدمة البيت مكاناً أفرغت نفسها لخدمته قيماً، وديناً حملت نفسها عليه حملاً، حتى أنها هجرت أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذي اتخذته خلوة لها لعبادة الله بعيداً عن أعين الناس.
ومريم هي ابنة عمران، وقد قال القرآن في خطابها :
﴿ يا أخت هارون.. " ٢٨ " ﴾( سورة مريم )ولذلك حدث لبس عند كثير من الناس، فظنوها أخت نبي الله موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى عليهما السلام.
والحقيقة أن هذه المسألة جاءت مصادفة اتفقت فيها الأسماء ؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى اليمن قال لهم أهلها : إنكم تقولون : إن مريم هي أخت موسى وهارون، مع أن بين مريم وعمران أبي موسى أحد عشر جيلاً ! !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ذكرتم لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكر الأسماء خاصة الأنبياء فيسمون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون "
حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلاف رجل اسمهم هارون. إذن : فالأسماء هنا مصادفة، فهي ابنة عمران، لكن ليس أبا موسى، وأخت هارون، لكن ليس هو أخو موسى.
وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصها وشخصها باسمها واسم أبيها، وسبق أن أوضحنا أن التشخيص في قصة مريم جاء لأنها فذة ومفردة بين نساء العالم بشيء لا يحدث ولن يحدث إلا لها، فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء.
أما إن كان الأمر عاماً يصح أن يتكرر فتأتي القصة دون تشخيص، كما في حديث القرآن عن زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر، وهما زوجتان لنبيين كريمين، وعن زوجة فرعون كمثال للإيمان الذي قام في بيت الكفر وفي عقر داره، فالمراد هنا ليس الأشخاص، بل المراد بيان حرية العقيدة، وأن المرأة لها في الإسلام حرية عقدية مستقلة ذاتية، وأنها غير تابعة في عقيدتها لأحد، سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر.
وقوله تعالى :
﴿ إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " ١٦ " ﴾( سورة مريم )﴿ انتبذت من أهلها.. " ١٦ " ﴾( سورة مريم )أي : ابتعدت عنهم، من نبذ الشيء عنه أي أبعده، فكأن أنسها لا بالأهل، ولكن أنسها كان برب الأهل. والقرآن يقول :﴿ من أهلها.. " ١٦ " ﴾( سورة مريم )ولم يقل : من الناس، فقد تركت مريم أقرب الناس إليها وأحبهم عندها وذهبت، إلى هذا المكان، ﴿ مكانا شرقيا " ١٦ " ﴾( سورة مريم ).
لكن شرقي أي شيء ؟ فكل مكان يصح أن يكون شرقياً، ويصح أن يكون غربياً، فهي إذن كلمة دائرة في كل مكان. لكن هناك علم بارز في هذا المكان، هو بيت المقدس، فالمراد إذن : شرقي بيت المقدس، وقد جاء ابتعادها عن أهلها إلى هذا المكان المقدس لتتفرغ للعبادة ولخدمة هذا المكان.
لكن، لماذا اختارت الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات ؟ قالوا : لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس، لأنها سمة النور المادي الذي يسير الناس على هداه فلا يتعثرون، وللإنسان في سيره نوران : نور مادي من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح، وهو النور الذي يظهر له الأشياء من حوله، فلا تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ولا بأضعف منه فتحطمه.
وكذلك له نور من منهج الله يهديه في مسائل القيم، حتى لا يتخبط تائهاً بين دروبها، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ الله نور السماوات والأرض.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور ).
ثم يقول بعدها :﴿ نور على نورٍ.. " ٣٥ " ﴾( سورة النور )أي : نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس.
الحجاب : هو الساتر الذي يحجب الإنسان عن غيره ويحجب غيره عنه فما فائدة أن تتخذ بينها وبين أهلها ستراً بعد أن ابتعدت عنهم ؟ نقول : انتبذت من أهلها مكاناً بعيداً، هذا في المكان، إنما لا يمنع أن يكون هناك مكين آخر يسترها حتى لا يطلع عليها أحد، فهناك إذن مكان ومكين.
والحجاب قد يكون حجاباً مفرداً فهو ساتر فقط، وقد يكون حجاباً مستوراً بحجاب غيره، فهو حجاب مركب، كما يصنع أهل الحجاب نفسه مستوراً، ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً " ٤٥ " ﴾( سورة الإسراء )
وقوله تعالى :﴿ فأرسلنا إليها روحنا.. " ١٧ " ﴾( سورة مريم ).
كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلاقات متعددة، أولها الروح التي بها قوام حياتنا المادية، فإذا نفخ الله الروح في المادة دبت فيها الحياة والحس والحركة، ودارت كل أجهزة الجسم، وهذا المعنى في قوله تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر ).
لكن، هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من الله هي الحياة المقصودة من خلق الله للخلق ؟ قالوا : إن كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها ؛ لأن الإنسان قد يمر بها ويموت بعد ساعة، أو بعد يوم، أو بعد سنة، أو عدة سنوات.
إذن : هي حياة قصيرة حقيرة هينة، هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام، أما الإنسان الذي كرمه الله وخلق الكون من أجله فلابد أن تكون له حياة أخرى تناسب تكريم الله له، هذه الحياة الأخرى الدائمة الباقية يقول عنها القرآن :
﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعملون " ٦٤ " ﴾( سورة العنكبوت ).
( لهي الحيوان )أي : الحياة الحقيقية، أما حياتك الدنيا فهي مهددة بالموت حتى لو بلغت من الكبر عتياً، فنهايتك إلى الموت، فإن أردت الحياة الحقيقية التي لا يهددها موت فهي في الآخرة.
فإذا كان الخالق تبارك وتعالى جعل لك روحاً في الدنيا تتحرك بها وتناسب مدة بقائك فيها، ألا يجعل لك في الآخرة روحاً تناسبها، تناسب بقاءها وسرمديتها، والقرآن حينما يتحدث عن هذه الروح يقول للناس :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. " ٢٤ " ﴾( سورة الأنفال )فكيف يدعوهم لما يحييهم، ويخاطبهم وهم أحياء ؟ نعم، هم أحياء الحياة الدنيا، لكنه يدعوهم إلى حياة أخرى دائمة باقية، أما من يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إلا هذه الحياة القصيرة الفانية التي لا بقاء لها.
وكما سمى الله السر الذي ينفخه في المادة فتدب فيها الحركة والحياة " روحاً "، كذلك سمى القيم التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة " روحاً "، كما قال تعالى :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا.. " ٥٢ " ﴾
( سورة الشورى )أي : القرآن الكريم. كما سمى الملك الذي ينزل بالروح روحاً :
﴿ نزل به الروح الأمين " ١٩٣ " ﴾( سورة الشعراء )وهو جبريل عليه السلام. إذن : فقوله تعالى :
﴿ فأرسلنا إليها روحنا.. " ١٧ " ﴾( سورة مريم ) أي : جبريل عليه السلام.
﴿ فتمثل لها بشراً سوياً " ١٧ " ﴾( سورة مريم )معنى تمثل : أي : ليست هذه حقيقته، إنه تمثل بها، أما حقيقته فنورانية ذات صفات أخرى، وذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فلماذا إذن جاء الملك مريم في صورة بشرية ؟.
لأنهما سيلتقيان، ولا يمكن أن يتم هذا اللقاء خفية، وكذلك يستحيل أن يلتقي الملك بملكيته مع البشر ببشريته، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر، ولابد في لقائهما أن يتصور الملك في صورة بشر، أو يرقى البشر إلى صفات الملائكة، كما رقى محمد صلى الله عليه وسلم إلى صفات الملائكة في حادث الإسراء والمعراج، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب.
لذلك، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملكاً رد عليهم الحق تبارك وتعالى :
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولاً " ٩٥ " ﴾( سورة الإسراء ). وقال :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " ٩ " ﴾( سورة الأنعام ).
إذن : لا يمكن أن يلتقي الملك بالبشر إلا بهذا التقارب. جاء جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به، ولا تفزع إن رأته على صورته الملائكية ﴿ فتمثل لها بشراً.. " ١٧ " ﴾( سورة مريم )أي : من جنسها ﴿ سوياً " ١٧ " ﴾( سورة مريم )أي : سوى الخلقة والتكوين، وسيماً، قد انسجمت أعضاؤه وتناسقت على أجمل ما يكون البشر، فلا يعيبه كبر جبهته أو أنفه أو فمه، كما نرى في بعض الناس.
وهذا كله لإيناس مريم وطمأنينتها، وأيضاً ليثبت أنها العذراء العفيفة ؛ لأنها لما رأت هذا الفتى الوسيم القسيم ما أبدت له إعجاباً ولا تلطفت إليه في الحديث، ولا نطقت بكلمة واحدة يفهم منها ميل إليه.
فلم تظهر له إعجاباً، ولا مالك إليه بكلمة واحدة، وهذا دليل على عفتها وطهارتها واستقامتها والتزامها. وقولها :
﴿ أعوذ.. " ١٨ " ﴾( سورة مريم )أي : ألجأ وأعتصم بالله منك ؛ لأنني أخاف أن تفتك بي، أو تعتدي علي وأنا ضعيفة لا حول لي ولا قوة إلا بالله، فأستعيذ به منك. والمؤمن هو الذي يحترم الاستعاذة بالله ويقدرها، فإن استعذت بالله أعاذك، وإن استجرت بالله أجارك.
ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم امرأة، وكانت على شيء من الحسن أثار غيرة نسائه، فخشين أن تغلبهن على قلب رسول الله، فدبرن لها أمراً يبعدها من أمامهن، فقلن لها وكانت غرة ساذجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إذا اقترب منه إنسان أن يقول له : أعوذ بالله منك، فما كان من المرأة إلا أن قالت هكذا لرسول الله عندما دخلت عليه، فقال لها : " لقد استعذت بمعيذ، ألحقي بأهلك " فقول مريم :﴿ إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " ١٨ " ﴾( سورة مريم )لأن المؤمن التقي هو الذي يخاف الله، ويحترم الاستعاذة به، وكأنها قالت : إن كنت تقياً فابتعد عني، واختارت الاستعاذة بالرحمن لما عندها من الأمل إن لم يكن تقياً مؤمناً أن يبتعد عنها رحمة بها وبضعفها، ولجأت إلى الرحمن الرحيم الذي يحميها ويحرسها منه.
قال :
﴿ رسول ربك.. " ١٩ " ﴾( سورة مريم ).
ولم يكن رسول الله ؛ لأن الرب هو المتولي للتربية الذي يحسنها ويصونها من الفساد، فعطاء الربوبية عطاء مادي، أما عطاء الألوهية فهو عطاء معنوي قيمي هو العبادة، فأنا رسول ربك الذي يتولاك ويرعاك ويحرسك فلا تخافي.
وقوله :﴿ لأهب لك.. " ١٩ " ﴾( سورة مريم )يفهم منه أن ما سيحدث لمريم هبة من الله غير خاضعة للأسباب التكوينية، فالهبة في هذه الحالة هبة حقيقية محضة، فقد قلنا في قصة زكريا ويحيى أن الله تعالى وهب يحيى لزكريا حال كونه كبير السن وامرأته عاقر، لكن على أية حال فالجهازان موجودان : الذكورة والأنوثة، لكن في حال مريم فهي أنثى بلا ذكر، فهنا الهبة المحضة، والمعجزة الحقيقية.
وقوله :
﴿ غلاماً زكيا " ١٩ " ﴾( سورة مريم )أي : منقى مطهر صافي الخلقة.
( أنى )استفهام عن الكيفيات التي يمكن أن تتم بها هذه المسألة، وتعجب كيف يحدث ذلك. وقوله :
﴿ يمسسني.. " ٢٠ " ﴾( سورة مريم ) :
المس هنا كناية وتعبير مهذب عن النكاح، وقد نفت السيدة مريم كل صور اللقاء بين الذكر والأنثى حين قالت :
﴿ لم يمسسني بشر ولم أك بغياً " ٢٠ " ﴾( سورة مريم ).
فالتقاء الذكر بالأنثى له وسائل : الوسيلة الأولى : هي الزواج الشرعي الذي شرعه الله لعباده للتكاثر وحفظ النسل، وهو إيجاب وقبول وعقد وشهادة، وهذا هو المس الحلال.
الوسيلة الثانية : أن يتم هذا اللقاء بصورة محرمة بموافقة الأنثى أو غصباً عنها. وقد نفت مريم عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت :
﴿ لم يمسسني بشر.. " ٢٠ " ﴾( سورة مريم )
لا في الحلال، ولا في الحرام وأنا بذاتي
﴿ لم أك بغياً " ٢٠ " ﴾( سورة مريم )
إذن : فمن أين لي بالغلام ؟.
وكلمة : مس جاءت في القرآن للدلالة على الجماع، كما في قوله تعالى :
﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن.. " ٢٣٦ " ﴾( سورة البقرة )
فالمراد بالمس هنا الجماع، لذلك فقد فسر الإمام أبو حنيفة قوله تعالى :
﴿ لامستم النساء.. " ٤٣ " ﴾( سورة مريم )بأنه الجماع ؛ لأن القرآن أطلق المس، وأراد به النكاح، والمس فعل من طرف واحد، أما الملامسة فهي مفاعلة بين اثنين، فهي من باب أولى تعني : جامعتم. وقولها :﴿ ولم أك بغياً " ٢٠ " ﴾( سورة مريم ).
البغي : هي المرأة التي تبغي الرجال. والبغاء : هو الزنا، والبغي : التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم، وربما تكرههم على هذه الجريمة. وقولها :﴿ بغياً " ٢٠ " ﴾( سورة مريم )
مبالغة في البغي وهو الظلم واختارت صيغة المبالغة بغي ولم تقل باغية ؛ لأن باغية تتعلق بحقوق ما حول العرض، أما الاعتداء على العرض ذاته فيناسبه المبالغة في هذا الفعل.
كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجب أن يكون له ولد :
﴿ قال كذلك قال ربك.. " ٩ " ﴾( سورة مريم )أي : أنا أعرف ما أنت فيه من كبر السن، وأن امرأتك عاقر لا تلد، لكن الأمر جاء من الله وصدر حكمه، وهو وحده الذي يملك التنفيذ، فلم التعجب إذن ؟
وهنا نجد بعض المتوركين على القرآن يعترضون على قوله تعالى :( كذلكَ )بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم ( كذلكِ )، والسياق والمعنى واحد، وأيهما أبلغ من الأخرى، وإن كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة ؟.
وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فهمهم لكلام الله، فكلمة ( كذلك )عبارة عن ذا اسم إشارة، وكاف الخطاب التي تفتح في خطاب المذكر، وتكسر في خطاب المؤنث.
وهنا أيضاً قال :( ربك )أي : الذي يتولى تربيتك ورعايتك، والذي يربيه ربه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربى. وقوله :
﴿ هو على هين.. " ٢١ " ﴾( سورة مريم )
كما قال في مسألة البعث بعد الموت :
﴿ وهو أهون عليه.. " ٢٧ " ﴾( سورة الروم )فكلمة هين وأهون بالنسبة للحق تبارك وتعالى لا تؤخذ على حقيقتها ؛ لأن هين وأهون تقتضي صعب وأصعب، وهذه مسائل تناسب فعل الإنسان في معالجته للأشياء على قدر طاقته وإمكاناته، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هين وأهون منه ؛ لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال معالجة، ولا يزاولها، وإنما بقوله تعالى ( كن )فالحق سبحانه يخاطبنا على قدر عقولنا، فقوله :
﴿ هو على هين.. " ٢١ " ﴾( سورة مريم )أي : بمنطقكم أنتم إن كنت قد خلقتكم من غير شيء، فإعادتكم من شيء موجود أمر هين. ثم يقول تعالى :
﴿ ولنجعله آية للناس ورحمة منا.. " ٢١ " ﴾( سورة مريم )
هل كان الغرض من خلق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يظهر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط ؟ لا، بل هناك هدف آخر ﴿ ولنجعله آية للناس.. " ٢١ " ﴾( سورة مريم )أي : أمراً عجيباً، يخرج عن مألوف العادة والأسباب، كما نقول : هذا آية في الحسن، آية في الذكاء، فالآية لا تقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول.
والآية هنا أن الخالق تبارك وتعالى كما خلق آدم عليه السلام من غير أب أو أم، وخلق حواء من غير أم، خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل من يشاء عقيماً.
إذن : فهذا أمر لا يحكمه إلا إرادة المكون سبحانه. فالآية للناس في أن يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخلق، وأنها غير خاضعة للأسباب، وليست عملية ميكانيكية، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد.
لكن، أكانت الآية في خلق عيسى عليه السلام أم في أمه ؟ كان من الممكن أن يوجد عيسى من أب وأم، فالآية إذن في أمه، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية ؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى :
﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية.. " ٥٠ " ﴾( سورة المؤمنون ).
فعيسى ومريم آية واحدة، وليسا آيتين ؛ لأنهما لا ينفصلان. ثم يقول تعالى :
﴿ ورحمة منا.. " ٢١ " ﴾( سورة مريم ).
ووجه الرحمة في خلق عيسى عليه السلام على هذه الصورة، أنه سبحانه يرحم الناس من أن يشكوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها، ولو كان هذا الشك مجرد خاطر، فإنه لا يجوز ولا يصح بالنسبة للخالق سبحانه وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخلق من شيء، ومن بعض شيء، ومن لا شيء.
وقوله :﴿ وكان أمراً مقضياً " ٢١ " ﴾( سورة مريم )أي : مسألة منتهية لا تقبل المناقشة، فإياك أن تناقش في كيفيتها ؛ لأن الكلام عن شيء في المستقبل إن كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألا يتم مراده لأي سبب من الأسباب كأن تقول : سأفعل غداً كذا وكذا، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك، إذن : فأنت لا تملك كل عناصر الفعل.
أما إذا كان الكلام من الله تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حق وواقع، فقال تعالى :
﴿ وكان أمراً مقضياً " ٢١ " ﴾( سورة مريم ).
ولما تكلمنا عن تقسيمات الأفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلام، والمضارع الذي يحدث في الحال، أو في الاستقبال قلنا : إن هذه الأفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية والاستقبالية.
فإذا قال تعالى :﴿ وكان الله غفوراً رحيماً " ١٤ " ﴾( سورة الفتح ).
فهل كان الحق سبحانه غفوراً رحيماً في الماضي، وليس كذلك في الحاضر والمستقبل ؟ لا، لأن الحق سبحانه كان ولا يزال غفوراً رحيماً، فرحمته ومغفرته أزلية حتى قبل أن يوجد من يغفر له ومن يرحمه.
لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي، فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلاً، فهو سبحانه خالق قبل أن يخلق الخلق وبصفة الخلق خلق، كما ضربنا مثلاً لذلك : نقول فلان شاعر، فهل هو شاعر لأنه قال قصيدة ؟ أم قال القصيدة لأنه شاعر، وبالشعر صنع القصيدة ؟ إذن : فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولولا وجود الصفة فيه ما قال.
فالصفة إذن أزلية في الحق سبحانه، فإذا قلت :
﴿ وكان الله غفوراً رحيماً " ١٤ " ﴾( سورة الفتح ).
فقد ثبتت له هذه الصفة أزلاً، ولأنه سبحانه لا يتغير، ولا يعارضه أحد فقد بقيت له، هذا معنى : كان ولا يزال. وهذه المسألة واضحة في استهلال سورة النحل :
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه.. " ١ " ﴾( سورة النحل ).
لذلك وقف بعض المستشرقين أمام هذه الآية، كيف يقول سبحانه ( أتى )بصيغة الماضي، ثم يقول :
﴿ فلا تستعجلوه.. " ١ " ﴾( سورة النحل )أي : في المستقبل ؟ نقول : لأن قوله تعالى ( أتى )فهذه قضية منتهية لاشك فيها ولا جدال، فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها ؛ لذلك جاءت بصيغة الماضي وهي في الواقع أمر مستقبل.
( فحملته )أي : حملت به على الحذف والإيصال، والحمل يقتضي حاملاً ومحمولاً.
﴿ فانتبذت به مكاناً قصياً " ٢٢ " ﴾( سورة مريم )لا تظن أن هذه اللقطة من القصة لقطة معادة، فالانتباذ الأول كان للخلوة للعبادة، وهنا ﴿ فانتبذت به.. " ٢٢ " ﴾( سورة مريم )أي : ابتعدت عن القوم لما أحست بالحمل، وخشيت أعين الناس وفضولهم فخرجت إلى مكان بعيد.
﴿ فأجاءها.. " ٢٣ " ﴾( سورة مريم ).
الفعل جاء فلان. أي : باختياره ورضاه، إنما أجاءه فلان أي جاء به رغماً عنه ودون إرادته، فكأن المخاض هو الذي ألجأها إلى جذع النخلة وحملها على الذهاب إلى هذا المكان رغماً عنها
﴿ فأجاءها.. " ٢٣ " ﴾( سورة مريم )أي : جاء بها، فكأن هناك قوة خارجة عنها تشده إلى هذا المكان. والمخاض : هو الألم الذي ينتاب المرأة قبل الولادة، وليس هو الطلق الذي يسبق نزول الجنين. وقوله :﴿ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة.. " ٢٣ " ﴾( سورة مريم ).
أوضح لنا علة مجيئها إلى جذع النخلة ؛ لأن المرأة حينما يأتي وقت ولادتها تحتاج إلى ما تستند إليه، وتتشبث به ليخفف عنها ألم الوضع، أو رفيقة لها تفزع إليها وتقاسمها هذه المعاناة، فألجأها المخاض إذن إلى جذع ( النخلة )، وجاءت النخلة معرفة لأنها نخلة معلومة معروفة.
وجذع النخلة : ساقها الذي يبدأ من الجذر إلى بداية الجريد، فهل ستتشبث مريم عند وضعها بكل هذه الساق ؟ بالطبع ستأخذ الجزء القريب منها فقط، وأطلق الجذع على سبيل المبالغة كما في قوله تعالى :
﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.. " ١٩ " ﴾( سورة البقرة ).
ومعلوم أن الإنسان يسد أذنه بأطراف الأصابع لا بأصابعه كلها، فعبر عن المعنى بالأصابع مبالغة في كتم الصوت المزعج والصواعق التي تنزل بهم.
إذن : فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر لا تستطيع إخفاءه، ولا تقدر على ستره، فقد قبلت قبل ذلك أن يبشرها الملك بغلام زكي، وقبلت أن تحمل به، فكيف بها الآن وقد تحول الأمر من الكلام إلى الواقع الفعلي، وهاهو الوليد في أحشائها، وقد حان موعد ولادته ؟.
لابد أن ينتابها نزوع انفعالي قد خرج عن نطاق الستر والتكتم، فإذا بها تقول :
﴿ يا ليتني مت قبل هذا ونت نسياً منسياً " ٢٣ " ﴾( سورة مريم )أي : تمنت لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف العصيب، مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن الله سيهب لها غلاماً زكياً تعجبت قائلة :
﴿ أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً " ٢٠ " ﴾( سورة مريم ).
مجرد تعجب وانفعال هادئ، أما وقد أصبح الأمر ولادة حقيقية فلابد من فعل نزوعي شديد يعبر عما هي فيه من حيرة، لذلك تمنت الموت، مع أن الله تعالى نهانا عن تمني الموت، كما
ورد في الحديث الشريف الذي يرشدنا إذا ضاقت بنا الحياة ألا نتمنى الموت، بل نقول : " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي "
وقلنا : إن تمني الموت المنهي عنه ما كان فيه اعتراض على قدر الله، وتمرد على إرادته سبحانه، كأن تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنى الموت، أما أن تتمنى الموت لعلمك أنك ستصير إلى خير مما تركت فهذا أمر آخر.
وقد ورد في القرآن مسألة تمني الموت هذه في الكلام عن بني إسرائيل الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، وأن الدار الآخرة لنا خالصة عند الله، فبماذا رد عليهم القرآن الكريم ؟.
والله طالما أن الأمر كما تقولون، والآخرة لكم ﴿ فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " ٩٤ " ﴾( سورة البقرة )
ثم قرر الحق سبحانه ما سيكون منهم فقال :
﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم.. " ٩٥ " ﴾( سورة البقرة )
وقال عنهم :﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياةٍ.. " ٩٦ " ﴾( سورة البقرة )
وماداموا لن يتمنوا الموت، وماداموا أحرص الناس على الحياة، فلابد أن حياتهم هذه التي يعيشونها افضل لديهم من الحياة الأخرى.
فالمؤمن إذن لا يجوز أن يتمنى الموت هرباً من بلاء أصابه أو اعتراض على قدر الله، ويجوز له ذلك إن علم أنه صائر إلى افضل مما هو فيه. وقولها :﴿ نسياً منسياً " ٢٣ " ﴾( سورة مريم ).
النسي : هو الشيء التافه الذي لا يؤبه به، وهذا عادة ما ينسى لعدم أهميته، كالرجل الذي نسى عند صاحبه علبة كبريت بها عودان اثنان، وفي الطريق تذكرها فعاد إلى صاحبه يطلب ما نسيه، وهكذا تمنت مريم أن تكون نسياً منسياً حتى لا يذكرها أحد. ولم تكتف بهذا، بل قالت :
﴿ نسياً منسياً " ٢٣ " ﴾( سورة مريم )لأن النسي : الشيء التافه الذي ينسى في ذاته، لكن رغم تفاهته فربما يجد من يتذكره ويعرفه، فأكدت النسي بقولها ( منسياً )أي : لا يذكره أحد، ولا يفكر فيه أحد.
﴿ من تحتها.. " ٢٤ " ﴾( سورة مريم ).
فيها قراءتان ( من، مَن )صحيح أن جبريل عليه السلام مازال موجوداً معها لكنه ليس تحتها، فدل ذلك على أن الذي ناداها هو الوليد ﴿ ألا تحزني.. " ٢٤ " ﴾( سورة مريم ).
وحزن مريم منشؤه الانقطاع عن الناس، وأنها في حالة ولادة، وليس معها من يسندها ويساعدها، وليس معها من يحضر لها لوازم هذه المسألة من طعام وشراب ونحوه. لذلك تعهدها ربها تبارك وتعالى فوفر لها ما يقيتها من الطعام والشراب، فقال :
﴿ قد جعل ربك تحتك سرياً " ٢٤ " ﴾( سورة مريم ).
والسري : هو النهر الذي يجري بالماء العذب الزلال، ثم يعطيها الطعام المناسب لحالتها.
وهكذا وفر الحق سبحانه وتعالى لمريم مقومات الحياة وعناصر استبقائها، وهي مرتبة على حسب أهميتها للإنسان : الهواء والشراب والطعام، والإنسان يصبر على الطعام شهراً دون أن يأكل، ويمكنه أن يقتات على ما هو مخزون في جسمه من غذاء، لكنه لا يصبر على الماء أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام حسب ما في جسمه من مائية، في حين لا يصبر على الهواء لحظة واحدة، ويمكن أن يموت من كتم نفسٍ واحد.
لذلك، من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يملك الطعام كثيراً، ويملك الماء قليلاً، ولا يملك الهواء لأحد أبداً، لأنك لو غضبت على أحد فمنعت عنه الهواء لمات قبل أن ترضى عنه، إذن : فعناصر استبقاء الحياة مرتبة حسب أهميتها في حياة الإنسان، وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في متناول يدها وأغناها عن أن يخدمها أحد.
فالهواء موجود وهي في الخلاء، ثم الماء فأجرى تحتها نهراً عذباً زلالاً، ثم الطعام فقال :
﴿ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً " ٢٥ " ﴾( سورة مريم )وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يظهر لمريم آية أخرى من آياته، فأمرها أن تهز جذع النخلة اليابس الذي لا يستطيع هزه الرجل القوي، فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولادة ومشاقها ؟.
كما أن الحق سبحانه قادر على أن ينزل لها طعامها دون جهد منها ودون هزها، إنما أراد سبحانه أن يجمع لها بين شيئين : طلب الأسباب والاعتماد على المسبب، الأخذ بالأسباب في هز النخلة، رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولادة، وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في وحدتها لنعلم أن الإنسان في سعيه مطالب بالأخذ بالأسباب مهما كان ضعيفاً.
لذلك أبقى لمريم اتخاذ الأسباب مع ضعفها وعدم قدرتها، ثم تعتمد على المسبب سبحانه الذي أنزل لها الرطب مستوياً ناضجاً، وهل استطاعت مريم أن تهز هذا الجذع الكبير اليابس ؟
إنها مجرد إشارة تدل على امتثال الأمر، والله تعالى يتولى إنزال الطعام لها، وقد صور الشاعر هذا الموقف بقوله :
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الربط
وإن شاء أعطاها من غير هزة ***ولكن كل شيءٍ له سبب
وقوله :﴿ تساقط.. " ٢٥ " ﴾( سورة مريم )أي : تتساقط عليك ﴿ رطباً جنياً " ٢٥ " ﴾( سورة مريم )أي : استوى واستحق أن يجني، وليس مبتسراً قبل موعده، ومن الرطب ما يتساقط قبل نضجه فلا يكون صالحاً للأكل.
وقوله :﴿ تساقط عليك.. " ٢٥ " ﴾( سورة مريم )فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله، وإلا فالبلحة لم تخرج عن طوع أمها، إذن : فقد ألقتها طواعية واستجابة حين تم نضجها.
ونلحظ هنا أن الحق تبارك وتعالى عند إيجاد القوت لمريم جاء بالماء أولاً، فقال :
﴿ وقد جعل ربك تحتك سرياً " ٢٤ " ﴾( سورة مريم ).
ثم أتى بالطعام فقال :
﴿ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً " ٢٥ " ﴾( سورة مريم )لأن الماء أولى من الطعام في احتياج الإنسان، أما عند الأمر بالانتفاع فقال :﴿ فكل وأشربي.. " ٢٦ " ﴾( سورة مريم ).
فبدأ بالطعام قبل الشراب، لماذا ؟ لأن الإنسان عادة يأكل أولاً، ثم يشرب، فالماء مع أهميته، إلا أنه يأتي في العادة بعد الطعام، فسبحان من هذا كلامه.
وقوله :﴿ وقري عيناً.. " ٢٦ " ﴾( سورة مريم ).
بعد أن وفر لها الحق سبحانه الطعام والشراب الذي هو قوام المادة، وبه يتم استبقاء الحياة، لكن بعد الطعام والشراب يبقى لديها حزن عميق وألم وحيرة مما هي فيه ؛ لذلك يعطيها ربها تبارك وتعالى بعد القوت الذي قوام المادة يعطيها السكينة والطمأنينة ويخفف عنها ألم النفس وحيرة الفؤاد.
﴿ وقري عيناً.. " ٢٦ " ﴾( سورة مريم )قري : أي : اسكني. وهذا التعبير عند العرب كناية عن السرور، ومنها قوله تعالى على لسان امرأة فرعون :
﴿ قرت عينٍ لي ولك.. " ٩ " ﴾( سورة القصص ).
والعرب تعبر بقرة العين وسكونها عن السرور ؛ لأن سكون العين على مرأى واحد لا تتحول عنه دليل على أن العين صادفت مرأى جميلاً تسعد به وتسر فلا يغني عنه مرأى آخر، فتظل ساكنة عليه لا تتحرك عنه.
وقد يستعمل هذا التعبير في المقابل أي : في الشر والدعاء على إنسان وتمني الشر له، كالمرأة التي دخلت على أحد الخلفاء فنهرها فقالت له : أتم الله عليك نعمته وأقر عينك. فظن الحضور أنها تدعو له، لكنه فطن لمرادها، فقال لجلسائه : ما فهمتم ما تقول، إنها تقصد أتم الله عليك نعمته أي : أزالها، أما سمعتم قول الشاعر :
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم
ذلك لأن الإنسان بطبيعته ابن أغيار، لا يثبت على حال، فإذا ما وصل إلى القمة وتمت له النعمة، وهو ابن أغيار فلابد أن يتحول عنها. وقولها : أقر الله عينك، أي : أكسنها بالعمى.
فقوله تعالى لمريم :
﴿ وقري عيناً.. " ٢٦ " ﴾( سورة مريم )أي : كوني سعيدة باصطفاء الله لك مسرورة بما أعطاك، فما تهتمين به وتحزنين هو عين النعمة التي ليست لأحد غيرك من نساء العالمين. ثم يقول تعالى :
﴿ فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسياً " ٢٦ " ﴾( سورة مريم )
وهنا يتولى الحق سبحانه وتعالى الدفاع عن مريم وتبرير موقفها الذي لا تجد له هي مبرراً في أعراف الناس، فمن يلتمس عذراً لامرأة تحمل وتلد دون أن يكون لها زوج ؟ ومهما قالت فلن تصدق ولن تسلم من ألسنة القوم وتجريحهم.
إذن : فجواب ما يكره السكوت، فأمرها سبحانه أن تلزم الصمت ولا تجادل أحداً في أمرها :
﴿ فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسياً " ٢٦ " ﴾( سورة مريم ).
والصوم هنا أي : عن الكلام، كما حدث مثل هذا في قصة زكريا ؛ لأن المعجزات قريبة من بعضها، فقد أعطى الله زكريا مع عطب الآلات، وأعطى مريم بنقص الآلات، ولا يبرر هذه المعجزات ولا يدافع عنها إلا صانعها تبارك وتعالى.
وهذه المسألة اعترض عليها بعض الذين يحبون أن ينتقدوا على القرآن، فقالوا : كيف يأمرها بالصوم عن الكلام، وفي نفس الوقت يأمرها أن تقول : نذرت للرحمن صوماً ؟
يجوز أنها قالت هذه العبارة أولاً لأول بشر رأته ليتم بذلك إعلان صومها، ثم انقطعت عن الكلام، ويجوز أن يكون المراد بالكلام هنا الإشارة، والدلالة بالإشارات أقوى الدلالات وأعمها، فإن اختلفت اللغات بين البشر لأن كل جماعة تواضعوا على لغة خاصة بهم، فإن لغة الإشارة تظل لغة عامة يتفق عليها الجميع، فمثلاً حين تومئ برأسك هكذا تعني نعم في كل اللغات، وحين تشير بأصبعك هكذا تعني لا، إذن : فالدلالة لغة عالمية وعامة. وقد تعرض القرآن الكريم في موضع آخر لهذه المسألة في قوله تعالى :
﴿ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولاً " ٩٣ " ﴾( سورة الكهف )أي : لا يقربون من الفهم، فهم يفهمون من باب أولى، ومع ذلك كان بينهم كلام وإشارة ولغة، وفهم كل منهم عن الآخر :
﴿ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج.. " ٩٤ " ﴾( سورة الكهف )
ونلحظ في قولها :
﴿ فلن أكلم اليوم إنسياً " ٢٦ " ﴾( سورة مريم ).
أن النهي عن الكلام مع البشر خاصة فلم تقل : لن أتكلم، وإلا فمعها جبريل عليه السلام يكلمها وبينهما تفاهم، لعله يرى لها مخرجاً، وقد كانت مريم واثقة مطمئنة إلى هذا المخرج، فإذا كان ربها تبارك وتعالى أمرها بالصوم عن الكلام، فإنه سينطق الوليد ليتكم هو ويدافع عن أمه أمام اتهامات القوم.
ولما تكلمنا في قوله تعالى :
﴿ فناداها من تحتها ألا تحزني.. " ٢٤ " ﴾( سورة مريم )
استبعدنا أن يكون هذا النداء من جبريل، وقلنا : إنه نداء الوليد ؛ لذلك اطمأنت مريم وعلمت أنها أمام معجزة عظمى، ووثقت تمام الثقة أنها حين تشير إليه سيتكلم هو ويرد عنها الحرج مع قومها ؛ لأن الكلام ممن يقدر على الكلام لا يأتي بحجة تقنع الناس عن خلاف العادة، أما حين يتكلم وهو في المهد، فهذا يعني أنه معجزة خارقة للعادة، فإذا كان الوليد معجزة فالمعجزة في أمه من باب أولى.
ونعجب للسيدة مريم، فبدل أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعين الناس، أو تنتقل به إلى مكان آخر في فيافي الأرض إذا بها تحمله، وتذهب به، وتبادر به قومها، وما كانت لتفعل ذلك وتتجرأ عليه إلا لثقتها في الحجة التي معها، والتي ستوافيها على يد وليدها.
لذلك لما سأل بعض المستشرقين الإمام محمد عبده رحمه الله في باريس : بأي وجه قابلت عائشة قومها بعد حديث الإفك ؟ سبحان الله إنهم يعلمون أنه إفك وباطل، لكنهم يرددونه كأنهم لا يفهمون.
فأجاب الشيخ رحمه الله ببساطة : بالوجه الذي قابلت به مريم قومها وهي تحمل وليدها. أي : بوجه الواثق من البراءة، المطمئن إلى تأييد الله، وأنه سبحانه لن يسلمها أبداً ؛ لذلك لما نزلت براءة عائشة في كتاب الله قالوا لها : اشكري النبي، فقالت : بل اشكر الله الذي برأني من فوق سبع سماوات.
فلما رآها القوم على هذه الحال قالوا فيها قولاً غليظاً :
﴿ يا مريم لقد جئت شيئاً فريا " ٢٧ " ﴾( سورة مريم ).
فرياً : الفري للجلد : تقطيعه، والأمر الفري : الذي يقطع معتاداً عند الناس فليس له مثيل، أو من الفرية وهي تعمد الكذب.
قولهم لمريم :
﴿ يا أخت هارون.. " ٢٨ " ﴾( سورة مريم ).
هذا كلام جارح وتقريع ومبالغة منهم في تعييرها، فنسبوها إلى هارون الذي سمي على اسم النبي، فأنت من بيت صلاح ونشأت في طاعة الله، فكيف يصدر منك هذا الفعل ؟ كما ترى أنت سيدة محجبة يصدر منها في الشارع عمل لا يتناسب ومظهرها فتلومها على هذا السلوك الذي لا يتصور من مثلها. وقوله :﴿ ما كان أبوك امرأ سوءٍ.. " ٢٨ " ﴾( سورة مريم )
الرجل السوء هو الذي إن صحبته أصابك منه سوء، ونالك بالأذى ﴿ وما كانت أمك بغياً " ٢٨ " ﴾( سورة مريم ).
قلنا : إن البغي : هي المرأة التي تبغي الرجال وتدعوهم إليها، فالمراد : من أين لك هذه الصفة، وأنت من أسرة خيرة صالحة ؟.
وفي هذا دليل على أن نضح الأسر يؤثر في الأبناء، فحين نكون الأسرة المؤمنة والبيت الملتزم بشرع الله، وحين نحتضن الأبناء ونحوطهم بالعناية والرعاية، فسوف نستقبل جيلاً مؤمناً واعياً نافعاً لنفسه ولمجتمعه. إذن فقولهم :
﴿ ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغياً " ٢٨ " ﴾( سورة مريم )
اتهام صريح لمريم، وتأكيد على أنها وقعت في محظور، وكأنهم مصرون على رميها بالفاحشة.
أي : حين قال القوم ما قالوا أشارت إلى الوليد وهي واثقة أنه سيتكلم، مطمئنة إلى أنها لا تحمل دليل الجريمة، بل دليل البراءة. فلما أشارت إليه تقول لقومها : اسألوه، تعجبوا :
﴿ قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً " ٢٩ " ﴾( سورة مريم )
ونلاحظ في قولهم أنهم لم يستبعدوا أن يتكلم الوليد، فلم يقولوا : كيف يتكلم من كان في المهد صبياً ؟ بل قالوا :﴿ كيف نكلم.. " ٢٩ " ﴾( سورة مريم )أي : نحن، فاستبعدوا أن يكلموه، فكأنهم يطعنون في أنفسهم وفي قدرتهم على فهم الوليد إن كلمهم.
والمهد : هو المكان الممهد المعد لنوم الطفل، لأن الوليد لا يقدر على أن يبعد الأذى عن نفسه، فالكبير مثلاً يستطيع أن يمهد لنفسه مكان نومه، وأن يخرج منه ما يؤرق نومه وراحته، وعنده وعي، فإذا آلمه شيء في نومه يستطيع أن يتحلل من الحالة التي هو عليها، وينظر ماذا يؤلمه.
وكأنه قال للقوم : لا تتكلموا أنتم، أنا الذي سأتكلم. ثم بادرهم بالكلام :﴿ قال إني عبد الله.. " ٣٠ " ﴾( سورة مريم )وهكذا استهل عيسى عليه السلام كلامه بإظهار عبوديته لله تعالى، وفي هذا دليل على أنه قد يقال فيه أنه ليس عبداً، وأنه إله أو شريك للإله. لذلك كانت أول كلمة نطق بها ﴿ قال إني عبد الله.. " ٣٠ " ﴾( سورة مريم ).
فالمعجزة التي جاءت بي لا تمنع كوني عبداً لله ؛ لذلك لو سألت الذين يعتقدون في عيسى عليه السلام أنه إله أو شريك للإله : إنكم تقولون أنه تكلم في المهد، فماذا قال ؟ فلا يعترفون بقوله أبداً ؛ لأن قوله ونطقه :﴿ إني عبد الله.. " ٣٠ " ﴾( سورة مريم ).
ينفي معتقدهم من أساسه. ليس هذا وفقط، بل :﴿ آتاني الكتاب.. " ٣٠ " ﴾( سورة مريم ).
لكن كيف آتاه الله الكتاب وهو ما يزال وليداً في مهده ؟ قالوا : على اعتبار أنه أمر مفروغ منه، وحادث لاشك فيه، كأنه يقول : أنا أهل لأن أتحمل أمانة السماء إلى أهل الأرض. مع أن الكتاب لم يأت بعد، إلا أنه ملقن لقنه ربه الكتاب بالفعل، وإن لم يأت الوقت الذي يبلغ فيه هذا الكتاب.
﴿ وجعلني نبياً " ٣٠ " ﴾( سورة مريم ).
فسلوكي سلوك قويم، ولا يمكن أن يكون في مطعن بعد ذلك، وإن كان هناك مطعن فهو بعيد عني، ولا ذنب لي فيه.
أي : وشرع لي أيضاً مادمت حياً.. وقد قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرئ أمه الصديقة، ذلك أنهم اتهموها في أعز شيء لديها ؛ ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها، وإنقاذاً لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول :
﴿ إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً " ٢٦ " ﴾( سورة مريم ).
فلم ذكر والدته هنا ؟ ولم حرص على تقرير بره بها ؟ قالوا : لأن البعض قد يظن أن عيسى عليه السلام حينما يكبر ويعرف قصة خلقه، وأن أمه أتت به من غير أب، ودون أن يمسسها بشر قد تترك هذه المسألة ظلالاً في نفسه وتساوره الشكوك في أمه، فأراد أن يقطع كل هذه الظنون.
ذلك لأنه هو نفسه الدليل، وهو نفسه الشاهد على براءة أمه، والدليل لا يشكك في المدلول، فكأنه يقول للقوم : إياكم أن تظنوا أني سأتجرأ على أمي، أو يخطر ببالي خاطر سوء نحوها. ثم يقول :
﴿ ولم يجعلني جباراً شقياً " ٣٢ " ﴾( سورة مريم ).
فنفى عن نفسه صفة الجبروت والقسوة والتعاظم ؛ لأن الرسول لابد أن يكون لين الجانب رفيقاً بقومه ؛ لأنه أتى ليخرج الناس مما ألفوه من الفساد إلى ما يثقل عليهم من الطاعة.
والإنسان بطبعه حين يألف الفساد يكره من يخرجه عن فساده، فمن الطبيعي أن يتعرض النبي لاستفزاز القوم وعنادهم ومكابرتهم، فلو لم يكن لين الجانب، رقيق الكلمة، يستميل الأذن لتسمع والقلوب لتعي ما صلح لهذه المهمة. لذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله :
﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك.. " ١٥٩ " ﴾( سورة آل عمران ).
ومعنى :﴿ شقياً " ٣٢ " ﴾( سورة مريم )أي : عاصياً، وما أبعد من هذه صفاته عن معصية الله التي يشقى بسببها الإنسان.
سبق أن قلنا في قصة يحيى عليه السلام : إن هذه الأحداث أعلام ثلاثة في حياة الإنسان : يوم مولده، ويوم موته، ويوم أن يبعث يوم القيامة. فما وجه السلامة في هذه الأحداث بالنسبة لعيسى عليه السلام ؟.
قوله :﴿ والسلام على يوم ولدت.. " ٣٣ " ﴾( سورة مريم )لأن يوم مولده مر بسلام، رغم ما فيه من عجائب، فلم يتعرض له أحد بسوء، وهو الوليد الذي جاء من دون أب، وكان من الممكن أن يتعرض له ولامه بعض المتحمسين الغيورين بالإيذاء، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ومر الميلاد بسلام عليه وعلى أمه.
﴿ ويوم أموت.. " ٣٣ " ﴾( سورة مريم )لأنهم أخذوه ليصلبوه، فنجاه الله من أيديهم، وألقى شبهه على شخص آخر، ورفعه الله تعالى إلى السماء.
﴿ ويوم أبعث حياً " ٣٣ " ﴾( سورة مريم )فليس هناك من الرسل من سيسأل هذه الأسئلة، ويناقش هذه المناقشة التي نوقشها عيسى في الدنيا :
﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " ١١٦ " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به.. " ١١٧ " ﴾( سورة المائدة )
وليس هذا قدحاً في مكانة عيسى عليه السلام ؛ لأن ربه تبارك وتعالى يعلم أنه ما قال لقومه إلا ما أمر به، ولكن أراد سبحانه توبيخ القوم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، فوجه السلام في يوم
﴿ أبعث حياً " ٣٣ " ﴾( سورة مريم )أنه نوقش في الدنيا وبرئت ساحته.
﴿ ذلك.. " ٣٤ " ﴾( سورة مريم )أي : ما تقدم من قصة عيسى عليه السلام ﴿ قول الحق.. " ٣٤ " ﴾( سورة مريم )أي : يقولها الله تعالى قولة حق، والحق هو الله، فالذي قص عليك هذا القصص هو الله، وقوله الحق الذي لا باطل فيه، فيكون الحق الذي هو ضد الباطل، فالمعنيان ملتقيان. أو : يكون المراد بقول الحق كلمة ( كن )التي بها يتم الخلق.
ثم يقول تعالى :
﴿ الذي فيه يمترون " ٣٤ " ﴾( سورة مريم )
من المراء : وهو الاختلاف والجدال بالباطل، فالحق سبحانه يعلم أنهم سيشكون فيه، ويتجادلون بالباطل، وأنهم سيقولون فيه الأقاويل، وكأن الله تعالى يقول لهم : اتركوا هذه الأقاويل والأباطيل في شأن عيسى وخذوا بما أخبرتكم به من خبره، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لماذا تكلم الحق سبحانه هنا عن نفي الولد بالذات ؟.
قالوا : لأن مسألة الشريك لله تعالى تنفي بأولية العقل، فإن كان كل إله صالحاً للفعل وللترك، فهذه صورة مكررة لا تناسب الإله، وإن كان هذا إلهاً لكذا وهذا إله لكذا، فما عند أحدهما نقص في الآخر، وهذا محال في الإله، ولو أن هناك إلهاً آخر لذهب كل منهما بجزء، كما قال سبحانه :
﴿ إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ.. " ٩١ " ﴾( سورة المؤمنون )
لذلك نفى مسألة الولد ؛ لأنها ذات أهمية خاصة بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام ؛ لأن الولد من الممكن أن يستبعد فيه الدليل، لماذا ؟ لأن دليله اتخاذ الولد أو حب الولد، والإنسان يحب الولد ويسعى إليه، لماذا ؟.
قالوا : لأن الإنسان ابن دنياه، وهو يعلم أنه ميت ميت، فيحب أن يكون له امتداد في الدنيا وذكر من بعده، فالإنسان يتمسك في الدنيا حتى بعد موته، وهو لا يدري أن ذكر الإنسان لا يأتي بعده بل ذكره يسبقه إلى الآخرة بالعمل الصالح.
إذن : فحب الولد هنا لاستدامة استبقاء الحياة، وهذا محال في حق الله تبارك وتعالى ؛ لأنه الباقي الذي لا يزول.
وقد يتخذ الولد ليكون عزوة لأبيه وسنداً ومعيناً، وهذا دليل الضعف، والحق سبحانه هو القوي الذي لا يحتاج إلى معونة أحد. إذن : فاتخاذ الولد أمر منفي عنه تبارك وتعالى، فهو أمر لا يليق بمقام الألوهية، ويجب أن تنزه الله تعالى أن يكون له ولد ؛ لذلك يقول تعالى بعدها :
﴿ سبحانه.. " ٣٥ " ﴾( سورة مريم ).
وسبحان تدل على التنزيه المطلق لله تعالى تنزيهاً له في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فهو سبحانه ليس كمثله شيء، وإن وجدت صفة مشتركة بينك وبين الله كأن يكون لله تعالى وجه ويد، ولك وجه ويد، فإياك أن تنزل بالمستوى الأعلى فتقول : وجهه كوجهي، أو يده كيدي، لأن لك وجوداً ولله تعالى وجود، فهل وجودك كوجود الله ؟.
وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم، ووجوده تعالى لم يسبق بعدم ولا يلحقه العدم، فعليك إذن أن تقول في مثل هذه المسائل :
﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع العليم " ١١ " ﴾( سورة الشورى )
والمتتبع لمادة ( سبح )في القرآن الكريم يجد أنها جاءت بكل الصيغ :
الماضي :﴿ سبح لله ما في السماوات والأرض.. " ١ " ﴾( سورة الحديد )
والمضارع :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " ﴾( سورة الجمعة )
والأمر في :﴿ سبح اسم ربك الأعلى " ١ " ﴾( سورة الأعلى ).
فمادام الكون كله سبح لله، ولم ينقطع عن تسبيحه، بل مازال مسبحاً، فلما خلق الخلق أمرهم بالتسبيح ؛ لأنهم جزء من منظومة الكون المسبح، وعليهم أن ينتظموا معه، ولا يكونوا نشازاً في كون الله.
أما المصدر ( سبحان )فقد جاء ليدل على التنزيه المطلق لله تعالى، حتى قبل أن يخلق الخلق، والتنزيه ثابت له تعالى قبل أن يخلق من ينزهه كما في قوله تعالى :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.. " ١ " ﴾
( سورة الإسراء )لأن المسألة عجيبة وفوق إدراك العقل، فقد جاء بالمصدر ( سبحان )الدال على التنزيه المطلق لله، كأنه تعالى يحذر الذين يحكمون عقولهم، ولا يحكمون قدرة الله الذي خلقهم بقانون الزمان والمكان والبعد والمسافة، فكل فعل يتناسب قوة وقدرة مع فاعله.
ثم يقول تعالى :
﴿ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ٣٥ " ﴾( سورة مريم ).
ذلك لأن الآية في خلق عيسى عليه السلام مخالفة للنواميس كلها، وخارقة للعادة التي ألفها الناس، فإياك أن تتعجب من فعل الله تعالى في يحيى، حيث جاء به مع عطب الآلات، أو تتعجب من خلق عيسى حيث جاء به مع نقص الآلات.
وإياك أن تتعجب من كلام عيسى وهو في المهد صبياً، فهي أمور نعم خارقة للعادة وللنواميس، فخذها في إطار ( سبحانه )وتنزيهاً له ؛ لأنه تعالى إذا أراد شيئاً لا يعالجه بعمل ومزاولة، وإنما يعالجه ( بكن )فيكون.
ولا تظن أن خلق الأشياء متوقف على هذا الأمر ( كن )، فإن كان الفعل مكوناً من ( كاف )و( نون )فقبل أن تنطق النون يكون الشيء موجوداً، لكن ( كن )هو أقصر ما يمكن تصوره لنا، والحق سبحانه يخاطبنا بما يقرب هذه المسألة إلى عقولنا، وإلا فإرادته سبحانه ليست في حاجة إلى قول ( كن )فما يريده الله يكون بمجرد إرادته. كما أنك لو أمعنت النظر في قوله تعالى :
﴿ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ٣٥ " ﴾( سورة مريم ).
تجد ( يقول له )أي : للشيء، فكأن الشيء موجود بالفعل، موجود أزلاً، فالأمر بكن ليس لإيجاده من العدم، بل لمجرد إظهاره في عالم الواقع.
الرب : هو المتولي للتربية والرعاية. والتربية تعني أن يأخذ المربي المربى بالرياضة إلى ما يصلحه لأداء مهمته والقيام بها، كما لو أردت مهندساً تربيه تربية مهندس، وإن أردت طبيباً تربيه تربية طبيب. ونحن هنا أمام قوم أشركوا بالله، ونحتاج لداعية يخرجهم من الشرك إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة.
فالمعنى : مادام أن الله تعالى ربي وربكم، والمتولي لتربيتنا جميعاً، فلابد أن يربي لكم من يصلحكم ؛ لأنه تعالى لا يخاطبكم مباشرة، بل سيبعثني إليكم أبلغكم رسالته، وأدعوكم إلى عبادته وحده لا شريك له، ومادام الله ربي وربكم فمن الواجب أن تطيعوه ﴿ فاعبدوه.. " ٣٦ " ﴾( سورة مريم ).
والعبادة أن يطيع العابد معبوده في أوامره وفي نواهيه. كما قال تعالى :
﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله.. " ٥ " ﴾( سورة البيئة )
ثم يقول تعالى :
﴿ هذا صراط مستقيم " ٣٦ " ﴾( سورة مريم )أي : الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، وهو الطريق الذي يوصلك لمقصودك من أقرب طريق، وبأقل مجهود، ومعلوم أن الخط المستقيم هو أقرب طريق بين نقطتين.
الأحزاب : أي الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من قومه، فمنهم من قال : هو إله، ومنهم من قال : ابن إله. وآخر قال : هو ثالث ثلاثة. ومنهم من رماه بالسحر وقال عنه بعضهم : ابن زني نستغفر الله مما يقوله الظالمون والكافرون.
والأحزاب : جمع حزب، وهم طائفة من الناس اجتمعوا حول مبدأ من المبادئ، ورأي من الآراء يدافعون عنه ويعتقدونه، ويسيرون في حياتهم على وفقه، ويخضعون حركة حياتهم لخدمته.
ومعنى :﴿ من بينهم.. " ٣٧ " ﴾( سورة مريم ).
يعني من داخل المؤمنين به ومن أتباع عيسى أنفسهم، فالذين قالوا عنه هذه الأباطيل ليسوا من أعدائه، بل من المؤمنين به. وهكذا اختلف القوم في أمر عيسى، وكان لكل منهم رأي، وجميعها منافية للصواب بعيدة عن الحقيقة ؛ لذلك توعدهم الخالق سبحانه بقوله :
﴿ فويل للذين كفروا من مشهد يومٍ عظيمٍ " ٣٧ " ﴾( سورة مريم )
فقد قلتم في عيسى ما قلتم في الدنيا، وخضتم فيه بما أحببتم من القول ؛ لأن الله تعالى جعل إرادتكم نافذة على جوارحكم، وأعطاكم حرية الفعل والاختيار، فوجهتم جوارحكم واخترتم ما يغضب الله، فكأن عقوبة الدنيا لا تناسب ما فعلوه، ولابد لهم من عقوبة آجلة في الآخرة تناسب ما حدث منهم في حق نبيهم وفي حق ربهم تبارك وتعالى.
﴿ فويل للذين كفروا من مشهد يومٍ عظيمٍ " ٣٧ " ﴾( سورة مريم )
ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة، يوم تبلى السرائر، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
وسماه المشهد العظيم ؛ لأنه يوم مشهود يشهده الجميع ؛ لأن العذاب في الدنيا مثلاً لا يشهده إلا الحاضرون المعاصرون، ولا يشهده السابقون ولا اللاحقون، أما عذاب الآخرة فهو المشهد العظيم الذي يراه كل الخلق.
وربما كان بعض العذاب أهون من رؤية الغير للإنسان وهو يعذب، فربما تحمل هو العذاب في نفسه أما كونه يعذب على مرأى من الناس جميعاً، ويرونه في هذه المهانة وهذه الذلة وقد كان في الدنيا عظيماً أو جباراً أو عاتياً أو ظالماً، لاشك أن رؤيتهم له في هذه الحالة تكون أنكى له وأبلغ.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنهم في آية أخرى :
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " ٢٧ " ﴾
( سورة الأنعام )
هذا منهم مجرد كلام :
﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.. " ٢٨ " ﴾( سورة الأنعام )أي : ظهر لهم ما كانوا يخفون ولم يقل يخفى عنهم، كأنهم كانوا يعلمون عنه شيئاً ولكنهم أخفوه. وقال عنهم :
﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " ١٢ " ﴾( سورة السجدة ).
فلماذا أبصروا وسمعوا الآن ؟ لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وعي، فينكرون ويبصرون آيات الله في الكون ولا يؤمنون، أما في الآخرة فقد انكشفت لهم الحقائق التي طالما أنكروها، ولم يعد هناك مجال للمكابرة أو الإنكار ؛.
قوله :
﴿ أسمع بهم وأبصر.. " ٣٨ " ﴾( سورة مريم )أي : أسمع بهم وأبصر بهم، وهذه من صيغ التعجب على وزن ( افعل به )يعني ما أشد سمعهم، وما أشد بصرهم، فهم الآن يرهفون السمع ويدققون النظر حتى إن الإنسان ليتعجب من سمعهم الدقيق، وبصرهم المحيط بعد أن كانوا في الدنيا يضعون أصابعهم في آذانهم فلا يسمعون، ويستغشون ثيابهم فلا يبصرون، كانوا في عمى عن آيات الله الواضحات التي تثبت صدق الرسل، وعن الآيات التي تحمل الأحكام، وعن الآيات الكونية التي تدل على قدرة الصانع الحكيم.
وقوله :﴿ يوم يأتوننا.. " ٣٨ " ﴾( سورة مريم )أي : أسمع بهم وأبصر بهم في هذا اليوم يوم القيامة، والإنسان بحكم خلق الله تعالى له، واستخلافه في الأرض جعل له السيطرة على جوارحه فهو يأمرها فتطيعه، فجوارح الإنسان وطاقاته مسخرة لإرادته، فلسانك تستطيع أن تنطق ب لا إله إلا الله. كما تستطيع أن تقول : لا إله أو تقول : الله ثالث ثلاثة. واللسان مطواع لك لا يعصاك في هذه أو تلك، وما أعطاك الله هذه الحرية وكفل لك الاختيار إلا لأنه سيحاسبك عليها يوم القيامة : أأردت الخير الذي وجهك إليه أم أردت الشر الذي نهاك عنه ؟.
أما يوم القيامة فتنحل هذه الإرادة، ويبطل سلطانها على الجوارح في يوم ينادي فيه الحق تبارك وتعالى :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة غافر )يومها ستشهد الجوارح على صاحبها، كما قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " ٢٤ " ﴾( سورة النور ).
ويقول تعالى :
﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ.. " ٢١ " ﴾( سورة فصلت ).
لم لا ؟ وقد تحررت الجوارح من قيد الإرادة، وجاء الوقت لتشتكي إلى الله، وتنطق بكلمة الحق التي كتمتها تحت وطأة الإرادة وقهرها.
وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك بمجموعة من الجنود يسيرون تحت إمرة قائدهم المباشر، ويأتمرون بأمره، ويطيعونه طاعة عمياء، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى انطلقت ألسنتهم بالشكوى من تعسف قائدهم وغطرسته.
ثم يقول تعالى :
﴿ لكن الظالمون اليوم في ضلالٍ مبينٍ " ٣٨ " ﴾( سورة مريم ).
فيا ليتهم فهموا هذه المسألة، لكنهم ظلموا، وما ظلموا إلا أنفسهم، فالله تبارك وتعالى لا يضره كفر الكافرين، ولا ينقص من ملكه تعالى وسلطانه، لكن كيف يظلم الإنسان نفسه ؟
يظلم الإنسان نفسه ؛ لأنه صاحب عقل واعٍ يستقبل الأشياء ويميزها، وصاحب نفس شهوانية تصادم بشهواتها العاجلة هذا العقل الواعي، وتصادم المنهج الرباني الذي يأمرها بالخير وينهاها عن الشر، هذه النفس بشهواتها تدعو الإنسان إلى مرادها وتوقعه في المتعة الوقتية واللذة الفانية التي تستوجب العذاب وتفوت عليه الخير الباقي والنعيم الدائم.
لذلك يقول تعالى :
﴿ ولكن الناس أنفسهم يظلمون " ٤٤ " ﴾( سورة يونس ).
قوله تعالى :
﴿ وأنذرهم يوم الحسرة.. " ٣٩ " ﴾( سورة مريم ).
الإنذار : هو التحذير من شر قادم. والحسرة : هي الندم البالغ الذي يصيب النفس الإنسانية حينما يفوتها خير لا يمكن تداركه، وحينما تلقي شيئاً لا تستطيع دفعه. أما الندم فيكون حزناً على خير فاتك، لكن يمكن تداركه، كالتلميذ الذي يخفق في امتحان شهر من الشهور فيندم، لكنه يمكنه تدارك هذا الإخفاق في الشهر التالي، أما إذا أخفق في امتحان آخر العام فإنه يندم ندماً شديداً، ويتحسر على عام فات لا يمكن تدارك الخسارة فيه.
لذلك سيقول الكفار يوم القيامة :
﴿ يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.. " ٣١ " ﴾( سورة الأنعام ).
والمعنى : يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك، واحضري فقد فاتت الفرصة إلى غير رجعة. إذن : فيوم الحسرة هو يوم القيامة، حيث أن يعود أحد ليتدارك ما فاته من الخير في الدنيا، وليت العقول تعي هذه الحقيقة، وتعمل لها وهي ما تزال في سعة الدنيا.
ومعنى :
﴿ إذ قضى الأمر.. " ٣٩ " ﴾( سورة مريم )أي : وقع وحدث، ولا يمكن تلافيه، ولم يعد هناك مجال لتدارك ما فات ؛ لأن الذي قضى هذا الأمر وحكم به هو الله تبارك وتعالى الذي لا يملك أحد رد أمره أو تأخيره عن موعده أو مناقشته فيه، فسبحانه، الأمر أمره، والقضاء قضاؤه، ولا إله إلا هو.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن الله حينما يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار يأتي بالموت على هيئة كبش، فيقول للمؤمنين : أتعرفون هذا ؟ قالوا : نعم هو الموت جاءنا وعرفناه، ويقول للكفار : أتعرفون هذا ؟ يقولون : عرفناه، فيميت الله الموت ويقول لأهل الجنة : خلود بلا موت. ولأهل النار : خلود بلا موت "
وهكذا قضى الله الأمر ليقطع الأمل على الكفار الذين قد يظنون أن الموت سيأتي ليخرجهم مما هم فيه من العذاب ويريحهم، فقطع الله عليهم هذا الأمل وآيسهم منه، حيث جاء بالموت مشخصاً وذبحه أمامهم، فلا موت بعد الآن فقد مات الموت. لذلك يخبر عنهم الحق تبارك وتعالى :
﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون " ٧٧ " ﴾( سورة الزخرف ).
ثم يقول تعالى :﴿ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون " ٣٩ " ﴾( سورة مريم ).
الغفلة : أن يصرف الإنسان ذهنه عن الفكر في شيء واضح الدليل على صحته ؛ لأن الحق تبارك وتعالى ما كان ليعذب خلقه إلا وقد أظهر لهم الأدلة التي يستقبلها العقل الطبيعي فيؤمن بها.
فالذي لا يؤمن إذن إما غافل عن هذه الأدلة أو متغافل عنها أو جاحد لها، كما قال سبحانه :
﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً.. " ١٤ " ﴾( سورة النمل ).
ومن الغفلة غفلتهم عن الموت، وقد قالوا : من مات قامت قيامته. ومن حكمة الله أن أبهم الموت، أبهمه وقتاً، وأبهمه سبباً، وأبهمه مكاناً، فكان إبهام الموت هو عين البيان للموت ؛ لأن إبهامه يجعل الإنسان على استعداد للقائه في أي وقت، وبأي سبب، وفي أي مكان، فالموت يأتي غفلة ؛ لأنه لا يتوقف على وقت أو سبب أو مكان.
فالطفل يموت وهو في بطن أمه، ويموت بعد يوم، أو أيام من ولادته، ويموت بعد مائة عام، ويموت بسبب وبدون سبب، وقد نتعجب من موت أحدنا فجأة دون سبب ظاهر، فلم تصدمه سيارة، ولم يقع عليه جدار أو حجر، ولم يداهمه مرض، فما السبب ؟ السبب هو الموت، إنه سيموت، أي أنه مات لأنه يموت، كما يقال : والموت من دون أسباب هو السبب.
كيف يقول الحق سبحانه :
﴿ نرث الأرض.. " ٤٠ " ﴾( سورة مريم ).
وهي والكون كله ملك له تعالى ؟ قالوا : لأنه تبارك وتعالى هو المالك الأعلى، وقد ملك من خلقه من ملك، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فليس لأحد ملك على شيء، ليس للإنسان سيطرة حتى على جوارحه وأعضائه، فالأمر كله يومئذ لله تعالى، فيرد الملك إلى صاحبه الأعلى، ولا أحد يرث هذا الملك إلا الله تعالى. لذلك، فالذين اغتروا بنعم الله في الدنيا فظنوا أن لهم مثلها في الآخرة، فقال أحدهم :
﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلباً " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف )
نقول له : لا، صحيح سترد إلى ربك، لكن لن يكون لك عنده شيء ؛ لأن الذي ملكك في الدنيا ملكك من باطن ملكيته تعالى، فإذا ما جاءت الآخرة كان هو الوارث الوحيد.
وقوله :﴿ وإلينا يرجعون " ٤٠ " ﴾( سورة مريم )أي : أن الأمر لا يتوقف على أن نرث ملكهم، ويذهبوا هم لحال سبيلهم، بل سنرث ملكهم، ثم يرجعون إلينا لنحاسبهم فلن يخرجوا هم أيضاً من قبضة الملكية.
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في استهلال سورة مريم عن ميلاد سيدنا يحيى لزكريا، وعن ميلاد سيدنا المسيح من مريم، أراد أن يعرض لنا موكباً من مواكب الرسالات التي أرسلها نوراً من السماء لهداية الأرض، فقال :
﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم.. " ٤١ " ﴾( سورة مريم )
فهو أبو الأنبياء وقمتهم ؛ لأن الله تعالى مدحه بقوله :
﴿ إن إبراهيم كان أمة.. " ١٢٠ " ﴾( سورة النحل ).
فليس هناك فرد يحتوي على خصال الكمال ومواهب الفضل كلها، لكن المجموع يحتويها فهذا شجاع قوي البنية، وهذا ذكي، وهذا حاد البصر، وهذا نابغ في الطب، وهذا في الزراعة، مواهب متفرقة بين البشر، لا يجمعها واحد منهم، فلا طاقته ولا حياته ولا مجهوده يستطيع أن يكون موهوباً في كل شيء، فالكمال كله موزع في الخلق، إلا إبراهيم، فقد كان عليه السلام يساوي في مواهبه أمةً بأكملها.
وقوله :﴿ إنه كان صديقاً نبياً " ٤١ " ﴾( سورة مريم )
صديق : من مادة صدق، ومعناها : تكلم بواقع ؛ لأن الكذب أن تتكلم بغير واقع. وهذا يسمى : صادق في ذاته، أما قولنا : صديق أي : مبالغة في الصدق، فقد بلغ الغاية في تصديق ما يأتي من الحق تبارك وتعالى، فهو يطيع ويذعن ولا يناقش، كما رأينا من أم موسى عليه السلام لما قال لها الحق سبحانه :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني.. " ٧ " ﴾( سورة القصص )
بالله، أي أم يمكن أن تصدق هذا الكلام، وتنصاع لهذا الأمر ؟ وكيف تنجي ولدها من شر أو موت مظنون بموت محقق ؟.
إذن : فهذا كلام لا يصدق، وفوق نطاق العقل عند عامة الناس، أما في موكب الرسالات فالأمر مختلف، فساعة أن سمعت أم موسى هذا النداء لم يساورها خاطر مخالف لأمر الله، ولم يراودها شك فيه ؛ لأن وارد الله عند هؤلاء القوم لا يعارض بوارد الشيطان أبداً، وهذه قضية مسلمة عند الرسل.
إذن : الصديق هو الذي بلغ الغاية في تصديق الحق، فيورثه الله شفافية وإشراقاً بحيث يهتدي إلى الحق ويميزه عن الباطل من أول نظرة في الأمر ودون بحث وتدقيق في المسألة ؛ لأن الله تعالى يهبك النور الذي يبدد عندك غيامات الشك، ويهبك الميزان الدقيق الذي تزن به الأشياء، كما قال سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً.. " ٢٩ " ﴾( سورة الأنفال ).
ومن سمى أبو بكر رضي الله عنه صديقاً، ليس لأنه صادق في ذاته، بل لأنه يصدق كل ما جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج الذي كذب به كثيرون، ماذا قال ؟.
قال : " إن كان قال فقد صدق ".
فالأمر عنده متوقف على مجرد قول رسول الله، فهذا هو الميزان عنده، وطالما أن رسول الله قد قال فهو صادق، هكذا دون جدال، ودون مناقشة، ودون بحث في ملابسات هذه المسألة ؛ لذلك من يومها وهو صديق عن جدارة. والسيدة مريم قال عنها الحق تبارك وتعالى :
﴿ وأمه صديقة.. " ٧٥ " ﴾( سورة المائدة ).
فسماها صديقة ؛ لأنها صدقت ساعة أن قال لها الملك :
﴿ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً " ١٩ " ﴾( سورة مريم ).
فوثقت بهذه البشارة، وأخذتها على أنها حقيقة واقعة، فلما جاء الوليد أشارت إليه وهي على ثقة كاملة ويقين تام أنه سينطق ويتكلم.
إذن : فالصديق ليس هو الذي يصدق، بل الذي يصدق. وهكذا كان خليل الله إبراهيم ( صديقاً )وكان أيضاً ( نبياً )لأن الإنسان قد يكون صديقاً يعطيه الله شفافية خاصة، وليس من الضروري أن يكون نبياً، كما كانت مريم صديقة وأبو بكر صديقاً، فهذه إذن صفة ذاتية إشراقية من الله، أما النبوة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى، وهدى يأتي من السماء يحمل النبي مسئوليته.
هذا الحديث من إبراهيم عليه السلام لأبيه على اعتبار أنه نبي جاء ليعدل سلوك الناس على وفق منهج الله، وأولهم أبوه، وقد ذكره القرآن هكذا بأبوته لإبراهيم دون أن يذكر اسمه، إلا في آية واحدة قال فيها :
﴿ لأبيه آزر.. " ٧٤ " ﴾( سورة الأنعام )وهذه الآية أحدثت إشكالاً فظن البعض أن آزر هو أبو إبراهيم الحقيقي الصلبي.
وهذا القول يتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي يوضح طهارة أصل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : " أنا خيار من خيار، مازلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات "
إذن : فأصول النبي إلى آدم " طاهر متزوج طاهرة "، فلو قلنا إن آزر الذي قال الله في حقه :
﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.. " ١١٤ " ﴾( سورة التوبة )هو أبو إبراهيم، لكان في ذلك تعارض مع الحديث النبوي، فكيف يكون في آباء محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكافر ؟.
ولو تأملنا إطلاقات الأبوة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الإشكال، فالقرآن تكلم عن الأبوة الصلبية المباشرة، وتكلم عن الأبوة غير المباشرة في الجد وفي العم، فسمى الجد أباً، والعم أباً ؛ لأنه يشترك مع أبي في جدي، فله واسطة استحق بها أن يسمى أباً. وفي القرآن نصان : أحدهما : يطلق على الجد أباً، والآخر يطلق على العم أباً.
فالأول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلام :
﴿ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين " ٣٦ " ﴾( سورة يوسف ).
فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم ؛ لأنهم رأوه من المحسنين، فكأن الإحسان له مقاييس معروفة حتى عند غير المحسن، فلما تعرضوا لأمر يهمهم لم يلجئوا إلا لهذا الرجل الطيب، فمقاييس الكمال محترمة ومعتبرة حتى عند فاقد الكمال.
فلما قالوا له :﴿ إنا نراك من المحسنين " ٣٦ " ﴾( سورة يوسف ).
علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته، وكيف سلوكه بينهم، فأراد أن يزيدهم مما عنده من إشراقات، فأمره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة حسنة بينهم، بل عنده أشياء أخرى، فقال :
﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما.. " ٣٧ " ﴾( سورة يوسف )
ثم ترك الإجابة عن سؤالهم، وأخذ في الحديث فيما يخصه كنبي وداعية إلى الله، فأخبرهم أن ما عنده من مواهب هو عطاء من الله، وليس هو بأذكى منهم، فقال :
﴿ ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون " ٣٧ " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. " ٣٨ " ﴾( سورة يوسف ).
ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلان ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء، فهاهم يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له رب واحد :
﴿ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " ٣٩ " ﴾( سورة يوسف ).
وهكذا كان يوسف النبي الداعية حريصاً على نشر دعوته وهداية من حوله، حتى وهو في سجنه ما نسى مهمته، وما قصر في دعوته، فلما فرغ من موعظته واستطاع بلباقة أن يسمعهم ما يريد، وإلا لو أجابهم عن سؤالهم من بداية الأمر لانصرفوا عن هذه الموعظة، وما أعاروها اهتماماً.
والآن يعود إلى سؤالهم وتفسير رؤياهم :
﴿ أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " ٤١ " ﴾( سورة يوسف ).
شاهدنا في هذه القصة هو قوله تعالى :
﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. " ٣٨ " ﴾( سورة يوسف )ويوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، فسمى الأجداد آباءً. وقد يسمي العم أباً، كما جاء في قوله تعالى :
﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.. " ١٣٣ " ﴾( سورة البقرة ).
فعد إسماعيل في آباء يعقوب، وهو عمه.
إذن : لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال ( لأبيه )في كل الآيات لانصرف المعنى إلى الأبوة الصلبية الحقيقية، أما أن يقول ولو مرة واحدة :
﴿ لأبيه آزر.. " ٧٤ " ﴾( سورة الأنعام )فهذا يعني أن المراد عمه ؛ لأنه لا يؤتي العلم بعد الأبوة إلا إذا أردنا العم، كما نقول نحن الآن حين نريد الأبوة الحقيقية : جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية، وفي الأبوة غير الحقيقية نقول : جاء أبوك فلان.
وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى :﴿ لأبيه آزر.. " ٧٤ " ﴾( سورة الأنعام )مرة واحدة، ليثبت لنا أن آزر ليس هو الأب الصلبي لإبراهيم، وإنما هو عمه، وبذلك يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم طهارة نسبه ونقاء سلسلته إلى آدم عليه السلام. وقوله :﴿ يا أبت.. " ٤٢ " ﴾( سورة مريم )وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول : يا أبي، إلا أنهم يحذفون ياء المتكلم ويعوضون عنها بالتاء، فلماذا ؟ قالوا : لأن ( أبت )لها ملحظ دقيق، فهو يريد أن يثبت أنه وإن كان أباً إلا أن فيه حنان الأبوين : الأب والأم. فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الآخر ؛ لذلك نجدها لا تقال إلا في الحنانية المطلقة ( يا أبت )كما لو ماتت الأم مثلاً، فقام الأب بالمهمتين معاً، وعوض الأبناء حنان الأم المفقودة.
وقوله :﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً " ٤٢ " ﴾( سورة مريم ) :
يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدب الدعوة، حيث قدم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يشعر أباه بالنقص، أو يظهر له أنه أعلم منه.
﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً " ٤٢ " ﴾( سورة مريم ).
نلحظ أنه لم يقل من البداية : لم تعبد الشيطان، بل أخر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة، وبدل أن يقول الشيطان حلل شخصيته، وأبان عناصره، وكشف عن حقيقته : لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئاً، فهذه الصفات لا تكون في المعبود، وهي العلة في أن نتجنب عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان، وخصوصاً في بيئة إبراهيم عليه السلام وكانت مليئة بالأوثان والأصنام.
لأن العبادة ماذا تعني ؟ تعني طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وثن أو شمس أو قمر، بماذا أمرتهم هذه المعبودات ؟ وعن أي شيء نهتهم ؟ وماذا أعدت هذه المعبودات لمن عبدها ؟ وماذا أعدت لمن عصاها ؟ ما المنهج الذي جاءت به حتى تستحق العبادة ؟ لا يجود شيء من هذا كله، إذن : فعبادتهم باطلة.
يكرر نبي الله إبراهيم هذا النداء الحنون مرة أخرى، وكأنه يريد أن يثير في أبيه غريزة الحنان، ويوقظ عنده أواصر الرحم، كأنه يقول له : إن كلامي معك كلام الابن لأبيه، كما نفعل نحن الآن إن أراد أحدنا أن يحنن إليه قلب أبيه يقول : يا والدي كذا وكذا.. يا أبي اسمع لي. وكذلك حال إبراهيم عليه السلام حيث نادى أباه هذا النداء في هذه الآيات أربع مرات متتالية، وما ذلك إلا لحرصه على هدايته، والأخذ بيده إلى الطريق المستقيم.
وقوله :
﴿ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك.. " ٤٣ " ﴾( سورة مريم ) : أي : لا تظن يا أبي أني متعالم عليك، أو أني افضل، أو أذكى منك، فهذا الكلام ليس من عندي، بل من أعلى مني ومنك، فلا غضاضة في سماعه والانصياع له، وهو رسالة كلفت بإبلاغك إياها، وهذا الذي جاءني من العلم لم يأتك أنت، وهذا اعتذار رقيق من خليل الله، فالمسألة ليست ذاتية بين ولد وعمه، أو ولد وأبيه، إنها مسألة عامة تعدت حدود الأبوة والعمومة.
ولذلك لما تحدثنا في سورة الكهف عن قصة موسى والخضر عليهما السلام، قلنا : إن العبد الصالح التمس لموسى عذراً ؛ لأنه تصرف بناءً على علم عنده، ليس عند موسى مثله، فقال له :
﴿ وكيف تصبر على ما لم تحد به خبراً " ٦٨ " ﴾( سورة الكهف ) : وكذلك قال إبراهيم لأبيه حتى لا تأخذه العزة، ويأنف من الاستماع لولده. ثم يقول :
﴿ فاتبعني أهدك صراطاً سوياً " ٤٣ " ﴾( سورة مريم ) : لأن هذا المنهج الذي أدعوك إليه ليس من عندي، بل من أعلى مني ومنك، والصراط السوي : هو الطريق المستقيم الذي يوصلك للغاية بأيسر مشقة، وفي أقصر وقت.
نلحظ أن إبراهيم في بداية محاورته لأبيه قال :
﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.. " ٤٢ " ﴾( سورة مريم ).
مع أن الشيطان يمكن أن يسمع ويبصر، فكيف يكون ذلك ؟.
قالوا : لأن الشيطان هو الذي يسول عبادة الصنم أو الشجر أو الشمس أو القمر، فالأمر مردود إليه وهو سببه، إلا أن إبراهيم عليه السلام حلل المسألة المباشرة ؛ لأن أباه يعبد صنماً لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنه شيئاً، وهذا بشهادتهم أنفسهم، كما جاء في قوله تبارك وتعالى :
﴿ هل يسمعونكم إذ تدعون " ٧٢ " أو ينفعونكم أو يضرون " ٧٣ " ﴾( سورة الشعراء ).
فهذا استفهما، ولا يستفهم مستفهم مجادل ممن يجادله عن شيء، إلا وقد علم أن الجواب لابد أن يكون في صالحه ؛ لأنه ائتمنه على الجواب. إذن : فعبادة ما دون الله مردها إلى إغواء الشيطان.
ثم يستطرد إبراهيم قائلاً :﴿ إن الشيطان كان للرحمن عصياً " ٤٤ " ﴾( سورة مريم ).
عصياً : مبالغة في العصيان، فالشيطان ليس عاصياً، بل عصياً يعصي أوامر الله بلددٍ وعناد.
مازال خليل الله يتلطف في دعوة أبيه فيقول :
﴿ يمسك عذاب.. " ٤٥ " ﴾( سورة مريم ) : ولم يقل مثلاً يصيبك. فهو لا يريد أن يصدمه بهذه الحقيقة، والمس : هو الالتصاق الخفيف، وكأنه يقول له : إن أمرك يهمني، وأخاف عليك مجرد هبو التراب أن ينالك. وهذا منتهى الشفقة عليه والحرص على نجاته.
ثم يقول :﴿ فتكون للشيطان ولياً " ٤٥ " ﴾( سورة مريم ) : أي : قريباً منه، وتابعاً له يصيبك من العذاب ما يصيبه، وتعذب كما يعذب.
وهكذا انتهت هذه المحاورة التي احتوت أربعة نداءات حانية، وجاءت نموذجاً فريداً للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ فراعت مشاعر الأب الذي يدعوه ولده ويقدم له النصح، ورتبت الأمور ترتيباً طبيعياً، وسلسلتها تسلسلاً لطيفاً لا يثير حفيظة السامع ولا يصدمه.
وقد راعى الحق تبارك وتعالى جوانب النفس البشرية فأمر أن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا تجمع على المدعو قسوة الدعوة، وقسوة أن يترك ما ألف، ويخرج منه إلى ما لم يألف.
فأنت حين تدعو شخصاً إلى الله فإنما تخرجه عن الفساد الذي ألفه، وهو لم يألف الفساد إلا بعد أن اشتهاه أولاً، ثم اعتاده بالفعل والممارسة ثانياً، وهاتان مصيبتان آخذتان بزمامه، فما أحوجه لأسلوب لين يستميل مشاعره ويعطفه نحوك فيستجيب لك.
وما أشبه الداعية في هذا الموقف بالذي يحتال ليخلص الثواب الحرير من الأشواك، أما إن نهرته وقسوت عليه فسوف يعرض عنك، وينصرف عن دعوتك، ويظل على ما هو عليه من الفساد ؛ لذلك قال تعالى :
﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ) :
ويقولون : النصح ثقيل فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً، وقالوا : الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان.
الفعل ( رغب )يحمل المعنى وضده حسب حرف الجر بعده، نقول : رغب في كذا. أي : أحبه وذهب إليه، ورغب عن كذا أي : كرهه واعتزله، فمعنى ﴿ أراغب أنت على آلهتي يا إبراهيم.. " ٤٦ " ﴾( سورة مريم ) : أي : تاركها إلى غيرها، كما جاء في قوله تعالى :
﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه.. " ١٣٠ " ﴾( سورة البقرة ) : أي : تركها إلى ملة أخرى.
ونلاحظ أن الفعل رغب لم يأت مقترناً بعده بنفي إلا مرة واحدة، وإن كانت ( في )مقدرة بعد الفعل، وهذا في قوله تعالى عن نكاح يتامى النساء :﴿ وترغبون أن تنكحوهن.. " ١٢٧ " ﴾( سورة النساء ).
والرغبة في الشيء تعني حبه وعشقه، والرغبة في الطريق الموصل إليه، إلا أنك لم تسلك هذا الطريق بالفعل، ولم تأخذ بالأسباب التي توصلك إلى ما ترغب فيه، وهذا المعنى واضح في قصة أصحاب الجنة في سورة ( ن )حيث يقول تعالى :
﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين " ١٧ " ولا يستثنون " ١٨ " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون " ١٩ " فأصبحت كالصريم " ٢٠ " ﴾( سورة القلم ).
فقد اتفقوا على قطف ثمار بستانهم في الصباح، ولم يقولوا : إن شاء الله، فدمرها الله وأهلكها وهم نائمون، وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم :
﴿ لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين " ٢٤ " ﴾( سورة القلم )وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حرموا المسكين ﴿ فلما رأوها قالوا إنا لضالون " ٢٦ " بل نحن محرومون " ٢٧ " ﴾( سورة القلم ). ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ، وعادوا إلى صوابهم فقالوا :
﴿ عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون " ٣٢ " ﴾( سورة القلم ) : أي : راغبون في الطريق الموصل إليه تعالى، فقبل أن تقول : أنا راغب إلى الله، فالمسألة ليست حباً فقط بل حباً بثمن وسعي وعمل يوصلك إلى ما تحب. إذن : قبل أن تكونوا راغبين في ربكم ارغبوا إليه أولاً.
وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات.. " ٥٨ " ﴾( سورة التوبة ) : أي : يعيبك في توزيعها.
﴿ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " ٥٨ " ﴾( سورة التوبة ).
فهم إذن لا يحبون الله، وإنما يحبون العطاء والعرض الزائل، بدليل أنهم لما منعوا سخطوا وصرفوا نظرهم عن دين الله كمن قال الله فيهم :
﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.. " ١١ " ﴾( سورة الحج ).
لذلك يعدل لهم الحق سبحانه سلوكهم، ويرشدهم إلى المنهج القويم :
﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " ٥٩ " ﴾( سورة التوبة ) : أي : آخذين الوسيلة الموصلة إليه، فالذي يرغب في حب الله عليه أن يرغب في الطريق الموصل إليه. ثم يقول أبو إبراهيم :
﴿ لئن لم تنته لأرجمنك.. " ٤٦ " ﴾( سورة مريم ) : أي : تترك هذه المسألة التي تدعو إليها. والرجم : هو الرمي بالحجارة، ويبدو أن عملية الرجم كانت طريقة للتعذيب الشديد، كما في قوله تعالى :
﴿ إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم.. " ٢٠ " ﴾( سورة الكهف )، ﴿ واهجرني ملياً " ٤٦( سورة مريم ) : أي : ابتعد عني وفارقني { ملياً " ٤٦ " ﴾( سورة مريم ).
الملي : البرهة الطويلة من الزمن. ومنها الملاوة : الفترة الطويلة من الزمن، والملوان : الليل والنهار.
فماذا قال نبي الله إبراهيم لعمه بعد هذه القسوة ؟ لم يخرج إبراهيم عن سمته العادل، ولم يتعد أدب الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكأن إبراهيم عليه السلام يريد أن يلفت نظر عمه، ويؤكد له أنه في خطر عظيم يستوجب العذاب من الله، وهذا أمر يحزنه ولا يرضيه، وكيف يترك عمه دون أن يأخذ بيده ؟ فقال له أولاً :
﴿ سلام عليك.. " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) : أي : سلام مني أنا، سلام أقابل به ما بدر منك فأمري معك سلام، فلن أقابلك بمثل ما قلت، ولن أغلظ لك، ولن ينالك مني أذى، ولن أقول لك : أفً.
لكن السلام مني أنا لا يكفي، فلابد أن يكون لك سلام أيضاً من الله تعالى ؛ لأنك وقعت في أمر خطير لا يغفر ويستوجب العذاب وأخشى ألا يكون لك سلام من الله. لذلك قال بعدها :﴿ سأستغفر لك ربي.. " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) :
كأنه يعتذر عن قوله :﴿ سلام عليك.. " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) :
فأنا ما قلت لك : سلام عليك إلا وأنا أنوي أن استغفر لك ربي، حتى يتم لك السلام إن رجعت عن عقيدتك في عبادة الأصنام، وهو بذلك يريد أن يحننه ويستميل قلبه.
ثم أخبر عن الاستغفار في المستقبل فلم يقل استغفرت، بل ﴿ سأستغفر.. " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) :
يريد أن يبرئ استغفاره لعمه من المجاملة والنفاق والخداع، وربما لو استغفرت لك الآن لظننت أني المجاملة والنفاق والخداع، وربما لو استغفرت لك الآن لظننت أني أجاملك، أما ﴿ سأستغفر لك.. " ٤٧ " ﴾( سورة مريم )أي : بعيداً عنك ليكون دعاءً عن ظهر غيب، وهو أرجى للقبول عند الله. ثم يقول :﴿ إنه كان بي حفياً " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) : يريد أن يطمئن عمه إلى أن له منزلة عند الله، فإذا استغفر له ربه فإنه تعالى سيقبل منه.
وحفياً : من الفعل حفي يحفى كرضي يرضى، ويأتي بعده حرف جر يحدد معناها. تقول : حفي به : أي بالغ في إكرامه إكراماً يستوعب متطلبات سعادته، وقابله بالحفاوة : أي بالإكرام الذي يتناسب مع ما يحقق له السعادة.
وهذا أمر نسبي يختلف باختلاف الناس، فمنهم من تكون الحفاوة به مجرد أن تستقبله ولو على حصيرة، وتقدم له ولو كوباً من الشاي، ومن الناس من يحتاج إلى الزينات والفرش الفاخرة والموائد الفخمة ليشعر بالحفاوة به.
ونقول : حفي عنه : أي بالغ في البحث عنه ليعرف أخباره، وبلغ من ذلك مبلغاً شق عليه وأضناه، وبالعامية يقولون : وصلت له بعدما حفيت، ومن ذلك قوله تعالى عن الساعة :
﴿ يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ١٨٧ " ﴾( سورة الأعراف ) : أي : كأنك معنى بالساعة، مغرم بالبحث عنها، دائم الكلام في شأنها. إذن فمعنى :
﴿ إنه كان بي حفياً " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) : أي : أن ربي يبالغ في إكرامي إكراماً يحقق سعادتي، ومن سعادتي أن الله يغفر لك الذنب الكبير الذي تصر عليه، وكأنه عليه السلام يضخم أمرين : يضخم الذنب الذي وقع فيه عمه، وهو الكفر بالله، ويعظم الرب الذي سيستغفره لعمه عنده ﴿ إنه كان بي حفياً " ٤٧ " ﴾( سورة مريم ) : ومادام ربي حفياً بي فلن يخذلني، كيف وقد جعلني نبياً واحتفى بي، فكن مطمئناً إن أنت تبت مما أنت عليه من المعتقدات الباطلة، إنه سيغفر لك. وكأن إبراهيم عليه السلام يؤكد لعمه على منزلته عند ربه، وما على عمه إلا أن يسمع كلامه، ويستجيب لدعوته.
وظل إبراهيم عليه السلام يستغفر لعمه كما وعده، إلى أن تبين له أنه عدو لله فانصرف عند ذلك، وتبرأ منه، كما قال تعالى :
﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.. " ١١٤ " ﴾( سورة التوبة ).
اعتزل : ترك صحبة إلى خير منها ولو في اعتقاده، وهنا يلفتنا الحق سبحانه إلى أن الإنسان حين يجادل في قضية، ويرى عند خصمه لدداً وعناداً في الباطل، لا يطيل معه الكلام حتى لا يؤصل فيه العناد، ويدعوه إلى كبرياء الغلبة ولو بالباطل.
لذلك، فالحق تبارك وتعالى يعلم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أرادوا البحث في أمره صدقاً أو كذباً والعياذ بالله، أن يبحثوه مثنى أو فرادى، ولا يبحثوه بحثاً جماهيرياً غوغائياً ؛ لأن العمل الغوغائي بعيد عن الموضعية يستتر فيه الواحد في الجماعة، وقد يحدث ما لا تحمد عقباه ولا يعرفه أحد.
والغوغائية لا يحكمها عقل ولا منطق، والجمهور كما يقولون : عقله في أذنه. وسبق أن قلنا : إن كليوباترا حين هزمت وحليفها صوروا هذه الهزيمة على أنها نصر، كما حدث كثيراً على مر التاريخ، وفيها يقول الشاعر :
أسمع الشعب ديون ملأ الجو هتافاً أثر البهتان فيه يا له من ببغاءٍ كيف يوحون إليه بحياتي قاتليه وانطلى الزور عليه عقله في أذنيه
إذن : فالجمهرة لا تبدي رأياً، ولا تصل إلى صواب. يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنةٍ.. " ٤٦ " ﴾( سورة سبأ ) : فبحث مثل هذا الأمر يحتاج إلى فردين يتبادلان النظر والفكر والدليل ويتقصيان المسألة، فإن تغلب أحدهما على الآخر كان الأمر بينهما دون ثالث يمكن أن يشمت في المغلوب، أو يبحثه فرد واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول الله، وما هو عليه من أدب وخلق، وكيف يكون مع هذا مجنوناً ؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون ؟ والذين قالوا عنه : ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر التابعين له ؟
إذن : لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذهنه، واستعرض الآراء المختلفة لاهتدى وحده إلى الصواب، فالاعتزال أمر مطلوب إن وجد الإنسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق حتى لا نؤصل الجدل والعناد في نفس الخصم.
لذلك يقول تعالى :
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.. " ٩٧ " ﴾( سورة النساء ) : أي : كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه البقعة إلى غيرها من أرض الله الواسعة، وكأن الحق تبارك وتعالى يلفت نظرنا إلى أن الأرض كلها أرض الله، فأرض الله الواسعة ليست هي مصر أو سوريا أو ألمانيا، بل الأرض كلها بلا حواجز هي أرض الله، فمن ضاق به مكان ذهب إلى غيره لا يمنعه مانع، وهل يوجد هذا الآن ؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ والأرض وضعها للأنام " ١٠ " ﴾( سورة الرحمن ) :
أي : الأرض لك الأرض للأنام كل الأنام وهذا من المبادئ التي جعلها الخالق سبحانه للإنسانية، فلما استحدث الإنسان الحواجز والحدود، وأقام الأسوار والأسلاك ومنع الأنام من الحركة في أرض الله نشأ في الكون فساد كبير، فإن ضاق بك موضع لا تجد بديلاً عنه في غيره، وإن عشت في بيئة غير مستقيمة التكوين كتب عليك أن تشقى بها طوال حياتك.
وقلنا : إن هذه الحدود وتلك الحواجز أفرزت أرضاً بلا رجال، ورجالاً بلا أرض، ولو تكاملت هذه الطاقات لاستقامت الدنيا. ومسألة الاعتزال هذه، أو الهجرة من أرض الباطل، أو من بيئة لا ينتصر فيها الحق وردت في نصوص عدة بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام منها قوله تعالى :
﴿ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " ٦٨ " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " ٦٩ " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " ٧٠ " ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " ٧١ " ﴾( سورة الأنبياء ).
فترك إبراهيم الأرض التي استعصت على منهج الله إلى أرض أخرى، وهاجر بدعوته إلى بيئة صالحة لها من أرض الشام.
نعود إلى اعتزال إبراهيم عليه السلام للقوم، لا لطلب الرزق وسعة العيش، بل الاعتزال من أجل الله وفي سبيل مبدأ إيماني يدعو إليه :﴿ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر.. " ٤٢ " ﴾( سورة مريم ).
﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان.. " ٤٤ " ﴾( سورة مريم ) : والقياس يقتضي أن يقول : وأعتزلكم وما تعبدون.. وأدعو ربي. أي : أعبده، إلا أنه عدل عن العبادة هنا وقال :﴿ واعتزلكم وما تدعون.. " ٤٨ " ﴾( سورة مريم ).
فلماذا ؟.
قالوا : لأن الإنسان لا ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إلا حين يستغني، فإن ألجأته الأحداث واضطرته الظروف لا يجد ملجأ إلا إلى الله فيدعو. إذن : فالعبادة ستصل قطعاً إلى الدعاء، ومادمت ستضطر إلى الدعاء فليكن من بداية الأمر :﴿ واعتزلكم وما تدعون من دعون الله.. " ٤٨ " ﴾( سورة مريم ).
إذن : استخدم الدعاء بدل العبادة ؛ لأنني أعبد الله في الرخاء فإن حدثت لي شدة لا أجد إلا هو أدعوه. وقوله :﴿ وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً " ٤٨ " ﴾( سورة مريم ) : أي : عسى ألا أكون شقياً بسبب دعائي لربي ؛ لأنه تبارك وتعالى لا يشقى من عبده ودعاه، فإن أردت المقابل فقل : الشقي من لا يعبد الله ولا يدعوه.
قوله :
﴿ وهبنا له إسحاق ويعقوب.. " ٤٩ " ﴾( سورة مريم ).
لم يذكر هنا إسماعيل ؛ لأن إسحق جاء جزاءً من الله لإبراهيم على صبره في مسألة ذبح إسماعيل، وما حدث من تفويضهما الأمر لله تعالى، والتسليم لقضائه وقدره، كما قال تعالى :
﴿ فلما أسلما.. " ١٠٣ " ﴾( سورة الصافات ) : أي : إبراهيم وإسماعيل ﴿ وتله للجبين " ١٠٣ " وناديناه أن يا إبراهيم " ١٠٤ " قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين " ١٠٥ " إن هذا لهو البلاء المبين " ١٠٦ " وفديناه بذبح عظيمٍ " ١٠٧ " ﴾( سورة الصافات ).
ولم يقتصر الأمر على الفداء، بل ﴿ وبشرناه بإسحاق.. " ١١٢ " ﴾( سورة الصافات ).
فلما امتثل لأمر الله في الولد الأول وهبنا له الثاني. وفي آية أخرى يقول تعالى :
﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين " ٧٢ " ﴾( سورة الأنبياء ) : كأن الحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام. ثم يمتن الله على الجميع بأن يجعلهم أنبياء ﴿ وكلاً جعلنا نبياً " ٤٩ " ﴾( سورة مريم ) : فليس الامتنان بأن وهب له إسحاق ومن بعده يعقوب، بل بأن جعلهم أنبياء، وهذه جاءت بشرى لإبراهيم، وكان حظه أن يرعى دعوة الله حياً، ويطمع أن تكون في ذريته من بعده، وكانت هذه فكرة زكريا عليه السلام فكلهم يحرصون على الذرية لا للعزوة والتكاثر وميراث عرض الدنيا، بل لحمل منهج الله وامتداد الدعوة فيهم والقيام بواجبها.
انظر إلى قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام :
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن.. " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة ) : أي : حمله تشريعات فقام بها على أتم وجه وأداها على وجهها الصحيح، فلما علم الله منه عشقه للتكليف أتمها عليه :
﴿ إني جاعلك للناس إماماً " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة ) : فتثور مسألة الإمامة في نفس إبراهيم، ويطمع أن تكون في ذريته من بعده فيقول :﴿ ومن ذريتي.. " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة ).
لذلك يعدل الحق سبحانه فكرة إبراهيم عن الإمامة، ويضع المبدأ العام لها، فهي ليست ميراثاً، إنها تكليف له شروط :
﴿ قال لا ينال عهدي الظالمين " ١٢٤ " ﴾( سورة البقرة ) : فالظالمون لا يصلحون لهذه المهمة. فوعى إبراهيم عليه السلام هذا الدرس، وأخذ هذا المبدأ، وأراد أن يحتاط به في سؤاله لربه بعد ذلك، فلما دعا ربه :
﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات.. " ١٢٦ " ﴾( سورة البقرة ) :
فاحتاط لأن يكون في بلده ظالمون، فقال :﴿ ومن آمن منهم بالله واليوم الآخر.. " ١٢٦ " ﴾( سورة البقرة ).
لكن جاء قياس إبراهيم هنا في غير محله، فعدل الله له المسألة ؛ لأنه يتكلم في أمر خاص بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فقد ضمن الله الرزق للجميع فلا داعي للاحتياط في عطاء الربوبية ؛ لذلك أجابه ربه :
﴿ قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " ١٢٦ " ﴾( سورة البقرة ).
إذن : فهناك فارق بين العطاءين : عطاء الربوبية وعطاء الألوهية، والإمامية في منهج الله، فعطاء الربوبية رزق يساق للجميع وخاضع للأسباب، فمن أخذ بأسبابه نال منه ما يريد، أما عطاء الألوهية فتكليف وطاعة وعبادة.
يقول تعالى :
﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيبٍ " ٢٠ " ﴾( سورة الشورى ).
قوله تعالى :
﴿ ومن رحمتنا.. " ٥٠ " ﴾( سورة مريم ).
المراد بالرحمة النبوة ؛ لذلك لما قال أهل العظمة والجاه المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف ).
وكأنهم استقلوا رسول الله أن يكون في هذه المنزلة، رد عليهم القرآن :
﴿ أهم يقسمون رحمت ربك.. " ٣٢ " ﴾( سورة الزخرف ).
إذن : فعطاؤه تعالى في النبوات رحمة أشاعها الله في ذرية إبراهيم. وقوله :
﴿ وجعلنا لهم لسان صدقً علياً " ٥٠ " ﴾( سورة مريم ) : أي : كلمة صدق وحق ثابت مطابق للواقع، ولسان الصدق يعني مدحاً في موضعه، وثناءً بحق لا مجاملة فيه، والثناء يكون باللسان، وهانحن نذكر هذا الركب من الأنبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب بالثناء الحسن والسيرة الطيبة، ونأخذهم قدوة، وهذا كله من لسان الصدق، ويبدو أنها دعوة إبراهيم حين قال :
﴿ رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين " ٨٣ " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " ٨٤ " ﴾( سورة الشعراء ).
وهذا أيضاً ركب من ركب النبوات، وقد أخذت قصة موسى عليه السلام حيزاً كبيراً من كتاب الله لم تأخذه قصة نبي آخر، مما دعا الناس إلى التساؤل عن سبب ذلك، حتى بنو إسرائيل يفضلون أنفسهم على الناس بأنهم أكثر الأمم أنبياءً، وهذا من غبائهم ؛ لأن هذه تحسب عليهم لا لهم، فكثرة الأنبياء فيهم دليل على عنادهم وغطرستهم مع أنبيائهم.
فما من أمة حيرة الأنبياء، وآذتهم كبني إسرائيل ؛ لذلك كثر أنبياؤهم، والأنبياء أطباء القيم وأساة أمراضها، فكثرتهم دليل تفشي المرض، وأنه أصبح مرضاً عضالاً يحتاج إلى علاجه لا لطبيب واحد، بل لفريق من الأطباء.
والبعض يظن أن قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ، كما نقول نحن ونقص : كان يا ما كان حدث كذا وكذا، ولو كانت قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ لجاءت مرة واحدة. لكنها ليست كذلك ؛ لأن الحكمة من قصها على رسول الله كما قال تعالى :
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.. " ١٢٠ " ﴾( سورة هود ).
إذن : فالهدف من هذا القصص تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقومه ؛ لأنه سيتعرض لمواقف وشدائد كثيرة يحتاج فيها إلى تثبيت ومواساة وتسلية، فكلما جد بينه وبين قومه أمر قال له ربه : اذكر موسى حين فعل كذا وكذا، وأنت خاتم الرسل، وأنت التاج بينهم، فلابد لك أن تتحمل وتصبر.
أما لو نزلت مثل هذه القصة مرة واحدة لكان التثبيت بها مرة واحدة، وما أكثر الأحداث التي تحتاج إلى تثبيت في حياة الدعوة.
لذلك نجد خصوم الإسلام يتهمون القرآن الكريم بالتكرار في قصة موسى عليه السلام، وهذا دليل على قصورهم في فهم القرآن، فهذه المواضع التي يرون فيها تكراراً ما هي إلا لقطات مختلفة لموضوع واحد، لكن لكل لقطة منها موقع وميلاد، فإذا جاء موقعها وحان ميلادها نزلت.
ومما رأوا فيه تكراراً، وليس كذلك قول تعالى عن موسى عليه السلام طفلاً :﴿ عدو لي وعدو له.. " ٣٩ " ﴾( سورة طه ).
ونتساءل : متى تستعر العداوة بين عدوين ؟ إن كانت العداوة من طرف واحد فإن الطرف الآخر يقابلها بموضوعية ودون لدد في الخصومة إلى أن تهدأ العداوة بينهما، فهو عدو دون عداوة، فحينما يراه صاحب العداوة على هذا الخلق يصرف ما في نفسه من عداوة له، كما قال تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ٣٤ " ﴾( سورة فصلت ).
أما إن كانت العداوة بين عدوين حقيقيين : هذا عدو وهذا عدو، هنا تستعر العداوة، وتزكو نارها، ويحتدم بينهما صراع، ولابد أن يصرع أحدهما الآخر.
والحق تبارك وتعالى حينما تكلم عن موسى وفرعون، جعل العداوة مرة من موسى في قوله تعالى :
﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً.. " ٨ " ﴾( سورة القصص ).
فالعداوة هنا من موسى ليفضح الله أمر فرعون، فهاهو يأخذ موسى ويربيه، وهو لا يعلم أنه عدو له، وعلى يديه ستكون نهايته غريقاً، فالمقاييس عنده خاطئة، وهو يدعي الألوهية. ومرة أخرى يثبت العداوة من فرعون في قوله تعالى :﴿ يأخذه عدو لي وعدو له.. " ٣٩ " ﴾( سورة طه ) :
فالعداوة هنا من فرعون. إذن : فالعداوة من الطرفين، لذلك فالمعركة بينهما كانت حامية. كذلك من المواضع التي ظنوا بها تكراراً قوله تعالى :
﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " ٧ " ﴾( سورة القصص ).
وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى :
﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحي " ٣٨ " أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له.. " ٣٩ " ﴾( سورة طه ).
والمستشرقون أحدثوا ضجة حول هذه الآيات : لأنهم لا يفهمون أسلوب القرآن، وليست لديهم الملكة العربية للتلقي عن الله، فهناك فرق بين السياقين، فالكلام الأول :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم.. " ٧ " ﴾( سورة القصص ).
هذه أحداث لم تقع بعد، إنها ستحدث في المستقبل، والكلام مجرد إعداد أم موسى للأحداث قبل أن تقع.
أما المعنى الثاني فهو مباشر للأحداث وقت وقوعها ؛ لذلك جاء في عبارات مختصرة كأنها برقيات حاسمة لتناسب واقع الأحداث :
﴿ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم.. " ٣٩ " ﴾( سورة طه ).
كما أن الآية الأولى ذكرت :
﴿ فألقيه في اليم.. " ٧ " ﴾( سورة القصص ).
ولم تذكر التابوت كما في الآية الأخرى :
﴿ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم.. " ٣٩ " ﴾( سورة طه ).
إذن : ليس في المسألة تكرار كما يدعي المغرضون ؛ فكل منهما تتحدث عن حال معين ومرحلة من مراحل القصة. ثم يقول تعالى :
﴿ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً.. " ٥١ " ﴾( سورة مريم ).
من خلص شيئاً من أشياء، أي : استخرج شيئاً من أشياء كانت مختلطة به، كما نستخلص مثلاً العطور من الزهور، فقد أخذت الجيد وتركت الرديء، وبالنسبة للإنسان نقول : فلان مخلص لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة، وكل ملكة من ملكاته، أو جهز من أجهزته له مهمة يؤديها، إلا أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته، أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض الشوائب، فيحتاج الإنسان لأن يخلص نفسه من هذه الشوائب.
فمثلاً، الحق تبارك وتعالى جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد، وهو بقاء النوع ؛ لذلك تجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا بالعقل والاختيار إذا أدى كل من الذكر والأنثى هذه المهمة لا يمكن أن تمكن الأنثى الذكر منها، وكذلك الذكر لا يأتي الأنثى إذا علم من رائحتها أنها حامل.
إذن : وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها، وهي حفظ النوع، لكن الإنسان لم يقف بهذه الغريزة عند حدودها، بل جعلها متعة شخصية يأتي حفظ النوع تابعاً لها.
وكذلك الحال في غريزة الطعام، فالإنسان إذا جاع يحتاج بغريزته إلى أن يأكل، والحكمة من ذلك استبقاء الحياة، لا الامتلاء باللحم والشحم. فالحيوان يقف بهذه الغريزة عند حدها، فإذا شبع فلا يمكن أن تجبره على عود برسيم واحد فوق ما أكل.
أما في الإنسان فالأمر مختلف تماماً، فيأكل الإنسان حتى الشبع، ثم حتى التخمة، ولا مانع بعد ذلك من الحلو المشروبات وخلافه ؛ لذلك وضع لنا الخالق سبحانه وتعالى المنهج الذي ينظم لنا هذه الغريزة، فقال تعالى :﴿ وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا.. " ٣١ " ﴾( سورة الأعراف ).
وفي الحديث الشريف : " بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه "
ومن الغرائز أيضاً غريزة حب الاستطلاع، فالإنسان يحب أن يعرف ما عند الآخر ليحدث بين الناس الترقي اللازم لحركة الحياة، ومعرفة أسرار الله في الكون، وهذا هو الحد المقبول أما أن يتحول حب الاستطلاع إلى التجسس وتتبع عورات الآخرين، فهذا لا يقبل ويعد من شوائب النفوس، يحتاج إلى أن نخلص أنفسنا منه.
إذن : لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألا نخرج عنها، والمخلص هو الذي يقف بغرائزه عند حدها لا يتعداها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها. وهذه الصفة إما أن يكرم الله بها العبد فيخلصه من البداية من هذه الشوائب، أو يجتهد هو ليخلص نفسه من شوائبها باتباعه لمنهج الله. هذا هو المخلص : أي الذي خلص نفسه.
لذلك، يقولون : من الناس من يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، ومن الناس من يصل بكرامة الله إلى طاعة الله. وقد جعل الله تعالى الأنبياء مخلصين من بدايتهم، ليكونوا جاهزين لهداية الناس، ولا يضيعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها.
ألم يستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة يعلم الناس كيف يخلصون أنفسهم ؟ فكيف إن كان النبي نفسه في حاجة لأن يخلص نفسه ؟ ولمكانة هؤلاء المخلصين ومنزلتهم تأدب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال :
﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾( سورة ص ) : لأن هؤلاء لا يقدر إبليس على غوايتهم. ثم يقول تعالى :
﴿ وكان رسولاً نبياً " ٥١ " ﴾( سورة مريم ) : لأن من عباد الله من يكون مخلصاً دون أن يكون نبياً أو رسولاً كالعبد الصالح مثلاً ؛ لذلك أخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه جمع له كل هذه الصفات.
والرسول : من أوحى إليه بشرع يعمل به ويؤمر بتبليغه لقومه. أما النبي، فهو من أوحى إليه بشرع يعمل به لكن لم يؤمر بتبليغه.
إذن : فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً ؛ لأن النبي يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه.
قوله تعالى :
﴿ من جانب الطور الأيمن.. " ٥٢ " ﴾( سورة مريم ).
أيمن الطور، أم أيمن موسى ؟ أي مكان لا يقال له أيمن ولا أيسر، إنما الأيمن والأيسر بالنسبة لك أو لغيرك، فالذي تعتبره أنت يميناً يعتبره غيرك يساراً، ولا يقال للمكان أيمن ولا أيسر إلا إذا قسته إلى شيء ثابت كالقبلة مثلاً فتقول : أيمن القبلة، وأيسر القبلة، وخلف القبلة، وأمام القبلة.
إذن : فقوله :
﴿ من جانب الطور الأيمن.. " ٥٢ " ﴾( سورة مريم ) : أي : أيمن موسى، وهو مقبل على الجبل، وهذه لقطة مختصرة من القصة جاءت مفصلة في قوله تعالى :
﴿ فلما قضى موسى الأجل سار بأهله آنس من جانب الطور ناراً.. " ٢٩ " ﴾( سورة القصص ).
وقوله :﴿ وقربنا نجياً " ٥٢ " ﴾( سورة مريم ) : أي : قربناه لنناجيه بكلام. والنجي : هو المناجي الذي يسر القول إلى صاحبه، كما جاء في الحديث الشريف : " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر، فإن ذلك يحزنه "
وقد قرب الله تعالى موسى ليناجيه ؛ لأن هذه خصوصية لموسى عليه السلام، فكلام الله لموسى خاص به وحده لا يسمعه أحد غيره، فإن قلت : فكيف يكلمه الله بكلام، ويسمى مناجاة ؟ قالوا : لأنه تعالى أسمعه موسى، وأخفاه عن غيره، فصار مناجاة كما يتناجى اثنان سراً. وهذا من طلاقة قدرته تعالى أن يسمع هذا، ولا يسمع ذلك.
وبعض المفسرين يرى أن ( الأيمن )ليس من اليمين، ولكن اليمن والبركة. و ﴿ قربناه.. " ٥٢ " ﴾( سورة مريم ) : أي : من حضرة الحق تبارك وتعالى. لكن هل حضرة الحق قرب منه، أم موسى هو الذي قرب من حضرة الحق سبحانه ؟ كيف نقول إن الله قرب منه وهو سبحانه أقرب إليه من حبل الوريد، فالتقريب إذن لموسى عليه السلام.
وهكذا جمع الحق تبارك وتعالى لموسى عدة خصال، حيث جعله مخلصاً ورسولاً ونبياً، وخصه بالكلام والمناجاة.
وهب الله لموسى أخاه هارون رحمة بموسى ؛ لأن هارون كان معيناً لأخيه ومسانداً له في مسألة الدعوة، وهذه لم تحدث مع نبي آخر، أن يجعل الله له معيناً في حمل هذه المهمة ؛ لذلك قال موسى عليه السلام :
﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون " ٣٤ " ﴾( سورة القصص ).
والردء : هو المعين. وهكذا أعطانا الحق تبارك وتعالى لقطة سريعة من موكب النبوة في قصة موسى، ولمحة موجزة هنا أتى تفصيلها في موضع آخر.
قوله تعالى :
﴿ إنه كان صادق الوعد.. " ٥٤ " ﴾( سورة مريم ) :
ما الميزة هنا وكل الرسل كانوا صادقي الوعد ؟ قالوا : لأن هناك صفة تبرز في شخص ويتميز بها، وإن كانت موجودة في غيره، فالذي يصدق في وعد أعطاه، أو كلمة قالها صدق في أمر يملكه ويتعلق به.
أما إسماعيل عليه السلام فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت، أمر يتعلق بنفسه، حين قال لأبيه :
﴿ يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " ١٠٢ " ﴾( سورة الصافات ).
وليت الأمر جاء مباشرة، إنما رآه غيره، وربما كانت المسألة أيسر لو أن الولد هو الذي رأى أباه يذبحه، لكنها رؤيا رآها الأب، والرؤيا لا يثبت بها حكم إلا عند الأنبياء. فكان إسماعيل دقيقاً في أجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا الأمر :
﴿ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى.. " ١٠٢ " ﴾( سورة الصافات ).
فخاف إبراهيم عليه السلام أن يقبل على ذبح ولده دون أن يخبره حتى لا تأتي عليه فترة يمتلئ غيظاً من أبيه إذا كان لا يعرف السبب، فأحب إبراهيم أن يكون استسلام ولده للذبح قربى منه لله، له أجرها وثوابها.
قال إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم :
﴿ يا أبت افعل ما تؤمر.. " ١٠٢ " ﴾( سورة الصافات ).
والوعد الذي صدق فيه قوله :
﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين " ١٠٢ " ﴾( سورة الصافات ).
وصدق إسماعيل في وعده، واستسلم للذبح، ولم يتردد ولم يتراجع ؛ لذلك استحق أن يميزه ربه بهذه الصفة ﴿ إنه كان صادق الوعد.. " ٥٤ " ﴾( سورة مريم ).
فلما رأى الحق تبارك وتعالى استسلام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لقضاء الله رفع عنه قضاءه وناداه :
﴿ أن يا إبراهيم " ١٠٤ " قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين " ١٠٥ " إن هذا لهو البلاء المبين " ١٠٦ " وفديناه بذبح عظيمٍ " ١٠٧ " ﴾( سورة الصافات )فكانت نتيجة على هذا الابتلاء أن فدى الله الذبيح، وخلصه من الذبح، ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر :
﴿ ووهبنا له إسحاق.. " ٨٤ " ﴾( سورة الأنعام ).
وهذه لقطة قرآنية تعلمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء الله، ورضى بقدره فسوف يجني ثمار هذا الاستسلام، والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم لا يرضون به، والحق تبارك وتعالى لا يجبره أحد، فالقضاء نافذ نافذ، رضيت به أم لم ترض.
وحين تسلم لله وترضى بقضائه يرفعه عنك، أو يبين لك وجه الخير فيه. إذن : عليك أن تحترم القدر وترضى به ؛ لأنه من ربك الخالق الحكيم، ولا يرفع قضاء الله عن الخلق حتى يرضوا به.
وكثيراً ما نرى اعتراض الناس على قضاء الله خاصة عند موت الطفل الصغير، فنراهم يكثرون عليه البكاء والعويل، يقول أحدهم : إنه لم يتمتع بشبابه.
ونعجب من مثل هذه الجهالات : أي شباب ؟ وأية متعة هذه ؟ وقد فارق في صغره دنيا باطلة زائلة، ومتعة موقوتة إلى دار باقية ومتعة دائمة ؟ كيف وقد فارق العيش مع المخلوق، وذهب إلى رحاب الخالق سبحانه ؟.
إنه في نعيم لو عرفته لتمنيت أن تكون مكانه، ويكفي أن هؤلاء الأطفال لا يسألون ولا يحاسبون، وليس لهم مسكن خاص في الجنة ؛ لأنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون ؛ لذلك يسمونهم ( دعاميص الجنة.
وآخر يعترض لأن زميله في العمل رقى حتى صار رئيساً له، فإذا به يحقد عليه ويحقره، وتشتعل نفسه عليه غضباً، وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله : أأخذ زميله شيئاً من ملك الله دون قضائه وقدره، إذن : فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر الله فيه، فما أخذ شيئاً غصباً عن الله.
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اسمعوا وأطيعوا، ولو ولى عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة ".
أي : من خصال إسماعيل العظيمة التي ذكرها الله تعالى له :
﴿ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة.. " ٥٥ " ﴾( سورة مريم ) : أي : زوجته. والحق تبارك وتعالى لا يهتم بخصلة ولا يذكرها إلا إن كانت كبيرة عنده، تساوي كونه صادق الوعد وكونه رسولاً ونبياً، فمن أراد أن يتصف بصفة من صفات النبوة، فعليه أن يأمر أهله بالصلاة والزكاة.
لكن، لماذا اختص أهله بالذات ؟ اختص أهله لأنهم البيئة المباشرة التي إن صلحت للرجل صلح له بيته، وصلحت له ذريته إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر الله والصلاة خمس مرات في اليوم والليلة فإنه بذلك يسد الطريق على الشيطان، فليس له مجال في البيت يصلي أهله الخمس صلوات.
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " رحم الله امرأ استيقظ من الليل فصلى ركعتين ثم أيقظ أهله فإن امتنعت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ركعتين، ثم أيقظت زوجها، فإن امتنع نضحت في وجهه الماء ".
إذن : فكل رجل وكل امرأة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولاً لأهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة الرسول ؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، فليس بعد تشريعه تشريع، وليس بعد كتابة كتاب ؛ لأن أمته ستحمل رسالته من بعده، وكل مؤمن منهم يعلم من الإسلام حكماً، فهو خليفة لرسول الله في تبليغه.
كما قال تعالى :
﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.. " ١٤٣ " ﴾( سورة البقرة ).
فالرسول يشهد أنه بلغكم، وعليكم أن تشهدوا أنكم بلغتم الناس، ومادمتم بلغتم الناس منطقاً ولفظاً فلابد أن يكون سلوكاً أيضاً، لأن لكم في رسول الله أسوة حسنة.
ودائماً ما يقرن الحق تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة، والصلاة تأخذ بعض الوقت، والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت، فإن كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت، فالصلاة تأخذ الوقت نفسه. إذن : ففي الصلاة زكاة أبلغ من الزكاة.
وإن كان في الزكاة نماء المال وبركته وإن كانت في ظاهرها نقصاً ففي الصلاة نماء الوقت وبركته، فإياك أن تقول : أنا مشغول، ولا أجد وقتاً للصلاة ؛ لأن الدقائق التي ستصلي فيها فرض ربك هي التي ستشيع البركة في وقتك كله.
كما أنك حين تقف بين يدي ربك في الصلاة تأخذ شحنة إيمانية نورانية تعينك على أداء مهمتك في الحياة، وتعرض نفسك على ربك وخالقك وصانعك، ولن تعدم خيراً ينالك من هذا اللقاء.
ولك أن تتصور صنعة تعرض على صانعها خمس مرات كل يوم، هل يصيبها عطل أو عطب ؟ ! وإن كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلأنه حسي مشهود، أما الخالق سبحانه فهو غيب يصلحك من حيث لا تدري.
وإن كان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة فهو حريص عليها من باب أولى. وقوله تعالى :
﴿ وكان عند ربه مرضياً " ٥٥ " ﴾( سورة مريم ) : أي : رضى الله عنه، ليس لخصال الخير التي وصفه بها، بل من بدايته، فقد رضى عنه فاختاره رسولاً ونبياً.
مازال القرآن يعطينا لقطات من موكب الرسالات والنبوات. وإدريس عليه السلام أول نبي بعد آدم عليه السلام، فهو إدريس بن شيث بن آدم. وبعد إدريس جاء نوح ثم إبراهيم، ومنه جاءت سلسلة النبوات المختلفة.
وقوله :﴿ إنه كان صديقاً نبياً " ٥٦ " ﴾( سورة مريم ).
تحدثنا عن معنى الصديق في الكلام عن إبراهيم عليه السلام، الصديق هو الذي يبالغ في تصديق ما جاءه من الحق، فيجعل الله له بذلك فرقاناً وإشراقاً يميز به الحق فلا يتصادم معه شيطان ؛ لأن الشيطان قد ينفذ إلى عقلي وعقلك.
أما الوارد من الحق سبحانه وتعالى فلا يستطيع الشيطان أن يعارضه أو يدخل فيه، لذلك فالصديق وإن لم يكن نبياً فهو ملحق بالأنبياء والشهداء، كما قال تعالى :
﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً " ٦٩ " ﴾( سورة النساء ).
وكذلك كان إدريس عليه السلام ( نبياً )ولم يقل : رسولاً نبياً، لأنه بينه وبين آدم عليه السلام جيلين، فكانت الرسالة لآدم مازالت قائمة.
مكاناً عالياً من السماء، رفعة معنوية، أو رفعة حسية، خذها كما شئت، لكن إياك أن تجادل : كيف رفعه ؟ لأن الرفعة من الله تعالى، والذي خلقه هو الذي رفعه.
قوله تعالى :
﴿ أولئك.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ) : أي : الذين تقدموا وسبق الحديث عنهم من الأنبياء والرسل ﴿ من ذرية آدم.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ) : أي : مباشرة مثل إدريس عليه السلام ﴿ وممن حملنا مع نوحٍ.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ).
الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة ﴿ ومن ذرية إبراهيم.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ) : أي : الذين جاءوا بعد نوح. وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم.
الأول : فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة، بداية من يعقوب، ثم يوسف، ثم موسى وهارون، ثم داود وسليمان، ثم زكريا ويحيى، ثم ذو الكفل، ثم أيوب، ثم ذو النون.
والفرع الآخر : فرع إسماعيل عليه السلام الذي جاء منه جماع جواهر النبوة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وإسرائيل.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم )هو نبي الله يعقوب ﴿ وممن هدينا واجتبينا.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ).
الذين هديناهم واجتبيناهم. أي : اخترناهم واصطفيناهم للنبوة ﴿ إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ).
لماذا قال ﴿ آيات الرحمن.. " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ).
ولم يقل : آيات الله ؟ قالوا : لأن آيات الله تحمل منهجاً وتكليفاً، وهذا يشق على الناس، فكأنه يقول لنا : إياكم أن تفهموا أن الله يكلفكم بالمشقة، وإنما يكلفكم بما يسعد حركة حياتكم وتتساندون، ثم يسعدكم به في الآخرة ؛ لذلك اختار هنا صفة الرحمانية.
وقوله :﴿ خروا سجداً وبكياً " ٥٨ " ﴾( سورة مريم ).
لم يقل : سجدوا، بل سقطوا بوجوههم سريعاً إلى الأرض. وهذا انفعال قسري طبيعي، لا دخل للعقل فيه ولا للتفكير، فالساجد يستطيع أن يسجد بهدوء ونظام، أما الذي يخر فلا يفكر في ذلك، وهذا أشبه بقوله تعالى :
﴿ فخر عليهم السقف من فوقهم.. " ٢٦ " ﴾( سورة النحل ).
وهذا الانفعال يسمونه " انفعال نزوعي " ناتج عن الوجدان، والوجدان ناتج عن الإدراك، وهذه مظاهر الشعور الثلاثة : الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع. والإنسان له حواس يدرك بها : العين والأذن والأنف واللسان.. الخ.
فهذه وسائل إدراك المحسات، فإذا أدركت شيئاً بحواسك تجد له تأثيراً في نفسك، إما حباً وإما بغضاً، إما إعجاباً وإما انصرافاً، وهذا الأثر في نفسك هو الوجدان، ثم يصدر عن هذا الوجدان حركة هي " النزوع ".
فمثلاً، لو رأيت وردة جميلة فهذه الرؤيا " إدراك "، فإن أعجبت بها وسررت فهذا " وجدان "، فإن مددت يدك لتقطفها فهذا " نزوع ". والشرع لا يحاسبك على الإدراك ولا على الوجدان، لكن حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك : قف فهذه ليست لك، ولا يمنعك الشارع ويتركك، إنما يمنعك ويوحي لك بالحل المناسب لنزوعك، فعليك أن تزرع مثلها، فتكون ملكاً لك أو على الأقل تستأذن صاحبها.
كذلك الحال فيمن يتسمع لكلام الله وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلاوة ومواجيد في نفسه، وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نزوعي، فلا يجد إلا أن يخر ساجداً لله تعالى. والنزوع هنا لم يكن نزوعاً ظاهرياً بل وأيضاً داخلياً، ففاضت أعينهم بالدمع :
﴿ سجداً وبكياً " ٥٨ " ﴾( سورة مريم )وقد عولج هذا المعنى في عدة مواضع أخر، كما في قوله تعالى :
﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً " ١٠٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
ومعنى : للأذقان : مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود ؛ لأن السجود يكون أولاً على الجبهة ثم الأنف لكن على الأذقان، فهذا سجود على حق، وليس كنقر الديكة كما يقولون. إذن : فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه سيأتي بالقرآن على فترة من الرسل، وهاهم الآن يسمعون القرآن ؛ لذلك يقولون :
﴿ سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً " ١٠٨ " ﴾( سورة الإسراء ).
ومن النزوع الانفعالي أيضاً قوله تعالى عن أهل الكتاب :
﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.. " ٨٣ " ﴾
( سورة المائدة ).
وقوله تعالى :
﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " ٢٣ " ﴾( سورة الزمر ).
فلماذا يؤثر الانفعال بالقرآن في كل هذه الحواس والأعضاء من جسم الإنسان ؟ قالوا : لأن الذي خلق التكوين الإنساني هو الذي يتكلم، والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي، فإنه سبحانه لا يخاطب عقلك فقط، بل يخاطب كل ذرة من ذرات تكوينك ؛ لذلك تخر الأعضاء ساجدة، وتدمع العيون، وتقشعر الجلود، وتلين القلوب، كيف لا والمتكلم هو الله ؟.
قوله تعالى :
﴿ فخلف من بعدهم خلف.. " ٥٩ " ﴾( سورة مريم ) : أي : أن المسائل لم تستمر على ما هي عليه من الكلام السابق ذكره، بل خلف هؤلاء القوم ( خلف )والخلف : هم القوم الذين يخلفون الإنسان. أي : يأتون بعده أو من ورائهم.
وهناك فرق بين خَلْف وخَلَف : الأولى : بسكون اللام ويراد بها الأشرار من عقب الإنسان وأولاده، والأخرى : بفتح اللام ويراد بها الأخيار. لذلك، فالشاعر حينما أراد أن يتحسر على أهل الخير الذي مضوا قال :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فماذا تنتظر من هؤلاء الأشرار ؟ لابد أن يأتي بعدهم صفات سوء ﴿ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. " ٥٩ " ﴾( سورة مريم ).
إذن : هم خلف فاسد، فأول ما أضاعوا أضاعوا الصلاة التي هي عماد الدين، وأولى أركانه بالأداء.
صحيح أن الإسلام بني على عدة أركان، لكن بعض هذه الأركان قد يسقط عن المسلم، ولا يطلب منه كالزكاة والحج والصيام، فيبقى ركنان أساسيان لا يسقطان عن المسلم بحال من الأحوال، هما : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة.
وسُئلنا مرة من بعض إخواننا في الجزائر : لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج : الحاج فلان، ولا نقول للمصلي : المصلي فلان، أو المزكي فلان، أو الصائم فلان ؟.
فقلت للسائل : لأن بالحج تتم نعمة الله على العبد، وحين نقول : الحاج فلان. فهذا إشعار وإعلام أن الله أتم له النعمة، واستوفى كل أركان الإسلام، فمعنى أنه أدى فريضة الحج أنه مستطيع مالاً وصحة، ومادام عنده مال فهو يزكي، ومادام عنده صحة فهو يصوم، وهو بالطبع يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدي الصلاة، وهكذا تمت له بالحج جميع أركان الإسلام.
ثم يقول تعالى :
﴿ فسوف يلقون غياً " ٥٩ " ﴾( سورة مريم ).
هذه العبارة أخذها المتمحكون الذين يريدون أن يدخلوا على القرآن بنقد، فقالوا : الغي هو الشر والضلال والعقائد الفاسدة، وهذه حدثت منهم بالفعل في الدنيا فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فكيف يقول : فسوف يلقونه في المستقبل ؟.
لكن المراد بالغي هنا أي : جزاء الغي وعاقبته. كما لو قلت : أمطرت السماء نباتاً، فالسماء لم تمطر النبات، وإنما الماء الذي يخرج النبات، كذلك غيهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جر عليهم العذاب في الآخرة.
إذن : المعنى : فسوف يلقون عذاباً وهلاكاً في الآخرة.
ومع ذلك، فالحق تبارك وتعالى لرحمته بخلقه شرع لهم التوبة، وفتح لهم بابها، ويفرح بهم إن تابوا ؛ لذلك فالذين اتصفوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات لا ييأسون من رحمة الله، مادام باب التوبة مفتوحاً.
وفتح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم الله بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات والانحرافات، وإلا لو أغلقنا الباب في وجوههم لشقي بهم المجتمع، حيث سيتمادون في باطلهم وغيهم، فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله.
والتوبة تكون من العبد، وتكون من الرب تبارك وتعالى، فتشريع التوبة وقبولها من الله وإحداث التوبة من العبد ؛ لذلك قال تعالى :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا.. " ١١٨ " ﴾( سورة التوبة ) : أي : شرعها لهم ليتوبوا فيقبل توبتهم، فهي من الله أولاً وأخيراً ؛ لذلك يأتي هذا الاستثناء.
وللتوبة شروط يجب مراعاتها، وهي : أن تقلع عن الذنب الذي تقع فيه، وأن تندم على ما بدر منك، وأن تنوي وتعزم عدم العودة إليه مرة أخرى. وليس معنى ذلك أنك إن عدت فلن تقبل منك التوبة، فقد تتعرض لظروف توقعك في الذنب مرة أخرى.
لكن المراد أن تعزم صادقاً عند التوبة عدم العود، فإن وقعت فيه مرة أخرى تكون عن غير قصد ودون إصرار. وإلا لو دبرت لهذه المسألة فقلت : أذنب ثم أتوب، فمن يدريك أن الله تعالى سيمهلك إلى أن تتوب ؟ إذن : فبادر بها قبل فوات أوانها.
هذه إذن شروط التوبة إن كانت في أمر بين العبد وربه، فإن كانت تتعلق بالعباد فلابد أن يتوفر لها شرط آخر وهو رد المظالم إلى أهلها إن كانت ترد، أو التبرع بها في وجوه الخير على أن ينوي ثوابها لأصحابها، إن كانت مظالم لا ترد.
ثم يقول تعالى بعدها :﴿ وآمن وعمل صالحاً.. " ٦٠ " ﴾( سورة مريم ).
معنى : وآمن بعد أن تاب، تعني أن ما أحدثه من معصية خدش إيمانه، فيحتاج إلى تجديده. وهذا واضح في الحديث الشريف : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
فساعة مباشرة هذه المعاصي تنتفي عن الإنسان صفة الإيمان ؛ لأن إيمانه غاب في هذه اللحظة ؛ لأنه لو استحضر الإيمان وما يلزمه من عقوبات الدنيا والآخرة ما وقع في هذه المعاصي.
لذلك قال :( وآمن )أي : جدد إيمانه، وأعاده بعد توبته، ثم ﴿ وعمل صالحاً.. " ٦٠ " ﴾( سورةمريم ) : ليصلح به ما أفسده بفعل المعاصي. والنتيجة :
﴿ فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً " ٦٠ " ﴾( سورة مريم ).
وفي موضع آخر، كان جزاء من تاب وآمن وعمل صالحاً :
﴿ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ.. " ٧٠ " ﴾( سورة الفرقان ).
فلماذا كل هذا الكرم من الله تعالى لأهل المعاصي الذين تابوا ؟ قالوا : لأن الذي ألف الشهوة واعتاد المعصية، وأدرك لذته فيها يحتاج إلى مجهود كبير في مجاهدة نفسه وكبحها، على خلاف من لم يتعود عليها، لذلك احتاج العاصون إلى حافز يدفعهم ليعودوا إلى ساحة ربهم.
لذلك قال سبحانه :
﴿ فأولئك يدخلون الجنة.. " ٦٠ " ﴾( سورة مريم )دون أن يعيروا بما فعلوه ؛ لأنهم صدقوا التوبة إلى الله
﴿ ولا يظلمون شيئاً " ٦٠ " ﴾( سورة مريم ).
وبقدر ما تكون التوبة صادقة، والندم عليها عظيماً، وبقدر ما تلوم نفسك، وتسكب الدمع على معصيتك بقدر ما يكون لك من الأجر والثواب، وبقدر ما تبدل سيئاتك حسناتٍ. وكل هذا بفضل الله وبرحمته.
قوله :
﴿ جنات عدنٍ.. " ٦١ " ﴾( سورة مريم ) : أي : إقامة دائمة ؛ لأنك قد تجد في الدنيا جنات، وتجد أسباب النعيم، لكنه نعيم زائل، إما أن تتركه أو يتركك. إذن : فكل نعيم الدنيا لا ضامن له.
وجنات عدن ليست هي مساكن أهل الجنة، بل هي بساتين عمومية يتمتع بها الجميع، بدليل أن الله تعالى عطف عليها في آية أخرى ( ومساكن طيبة )في قوله تعالى :
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدنٍ.. " ٧٢ " ﴾( سورة التوبة ).
وقوله :﴿ التي وعد الرحمن عباده بالغيب.. " ٦١ " ﴾( سورة مريم ).
والوعد : إخبار بخير قبل أوانه ؛ ليشجع الموعود عل العمل لينال هذا الخير، وضده الوعيد : إخبار بشر قبل أوانه ليحذره المتوعد، ويتفادى الوقوع في أسبابه.
واختار هنا اسم الرحمن ليطمئن الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي أن ربهم رحمن رحيم، وإن تابوا إليه قبلهم، وإن وعدهم وعداً وفي. وقد وعدنا الله تعالى في قرآنه فآمنا بوعده غيباً
﴿ وعد الرحمن عباده بالغيب.. " ٦١ " ﴾( سورة مريم ).
وحجة الإيمان بالغيب فيما لم يوجد بعد المشهد الذي نراه الآن، فالكون الذي نشاهده قد خلق على هيئة مهندسة هندسة لا يوجد أبدع منها، فالذي خلق لنا هذا الكون العجيب المتناسق إذا أخبرنا عن نعيم آخر دائم في الآخرة، فلابد أن نصدق، ونأخذ من المشاهد لنا دليلاً على ما غاب عنا ؛ لذلك نؤمن بالآخرة إيماناً غيبياً ثقةً منا في قدرته تعالى التي رأينا طرفاً منها في الدنيا.
ثم يقول تعالى :﴿ إنه كان وعده مأتياً " ٦١ " ﴾( سورة مريم ).
فمادام الرحمن تبارك وتعالى هو الذي وعد، فلابد أن يكون وعده ( مأتياً )أي : محققاً وواقعاً لاشك فيه، ووعده تعالى لا يتخلف و( مأتياً )أي : نأتيه نحن، فهي اسم مفعول.
وبعض العلماء يرى أن ( مأتياً )بمعنى آتياً، فجاء باسم المفعول، وأراد اسم الفاعل، لكن المعنى هنا واضح لا يحتاج إلى هذا التأويل ؛ لأن وعد الله تعالى محقق، والموعود به ثابت في مكانه، والماهر هو الذي يسعى إليه ويسلك طريقه بالعمل الصالح حتى يصل إليه.
اللغو : هو الكلام الفضولي الذي لا فائدة منه، فهو يضيع الوقت ويهدر طاقة المتكلم وطاقة المستمع، وبعد ذلك لا طائل من ورائه ولا معنى له.
والكلام هنا عن الآخرة ﴿ لا يسمعون فيها لغواً.. " ٦٢ " ﴾( سورة مريم ).
فإن كانوا قد سمعوا لغواً كثيراً في الدنيا فلا مجال للغو في الآخرة. ثم يستثنى من عدم السماع
﴿ إلا سلاماً.. " ٦٢ " ﴾( سورة مريم ).
والسلام ليس من اللغو، وهو تحية أهل الجنة وتحية الملائكة :
﴿ تحيتهم فيها سلام.. " ١٠ " ﴾( سورة يونس ).
وقد يراد بالسلام السلامة من الآفات التي عاينوها في الدنيا، وهم في الآخرة سالمون منها، فلا عاهة ولا مرض ولا كد ولا نصب. لكن نرجح هنا المعنى الأول أي : التحية، لأن السلام في الآية مما يسمع.
فإن قلت : فكيف يستثنى السلام من اللغو ؟ نقول : من أساليب اللغة : تأكيد المدح بما يشبه الذم، كأن نقول : لا عيب في فلان إلا أنه شجاع، وكنت تنتظر أن نستثنى من العيب عيباً، لكن المعنى هنا : إن عددت الشجاعة عيباً، ففي هذا الشخص عيب، فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عيباً، إلا إذا ارتكبنا محالاً وعددنا الشجاعة عيباً. وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم. ومن ذلك قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم**** بهن فلول من قراع الكتائب
ثم يقول تعالى :
﴿ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً " ٦٢ " ﴾( سورة مريم ).
لم يقل الحق سبحانه وتعالى : وعلينا رزقهم، بل : ولهم رزقهم : أي أنه أمر قد تقرر لهم وخصص لهم، فهو أمر مفروغ منه. والرزق : كل ما ينتفع به، وهو في الآخرة على قدر عمل صاحبه من خير الدنيا.
ومن رحمة الله تعالى بعباده من أهل الجنة أن نزع ما في صدورهم من غل ومن حسد ومن حقد، فلا يحقد أحد على أحد افضل مرتبة منه، ولا يشتهي من نعيم الجنة إلا على قدر عمله ودرجته، فإن رأى من هو أفضل منه درجة لا يجد في نفسه غلاً منه، أو حقداً عليه ؛ لأن موجب الغل في الدنيا أن ترى من هو أفضل منك.
أما في الآخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر، منظار النفس الصافية التي لا تعرف الغل، قال تعالى :
﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " ٤٧ " ﴾( سورة الحجر ).
فإن رأيت من هو أعلى منك درجة فسوف تقول : إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم، فقد كان يجاهد نفسه وهواه في الدنيا. ويكفي في وصف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى :
﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.. " ٧١ " ﴾( سورة الزخرف ).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "
إذن : ففي الجنة أشياء لا تقع تحت إدراكنا ؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تعبر عن هذا النعيم ؛ لأنك تضع في اللغة اللفظ الذي أدركت معناه، وفي الجنة أشياء لا تدركها ولا علم لك بها ؛ لذلك حينما يريد الحق تبارك وتعالى أن يصف لنا نعيم الجنة يصفه بما نعرف من نعيم الدنيا : نخل وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان.
ويقول :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى.. " ١٥ " ﴾( سورة محمد ).
مع الفارق بين هذه الأشياء في الدنيا والآخرة. ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل، وبين خمر الآخرة التي نفي الله عنها السوء، فقال :
﴿ لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " ٤٧ " ﴾( سورة الصافات ).
وقوله :﴿ بكرة وعشياً " ٦٢ " ﴾( سورة مريم )فكيف يأتيهم رزقهم بكرة وعشياً، وليس في الجنة وقت لا بكرة ولا عشياً، لا ليل ولا نهار ؟ نقول : إن الحق تبارك وتعالى يخاطبنا على قدر عقولنا، وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا، وإلا فنعيم الجنة دائم لا يرتبط بوقت، كما قال سبحانه :
﴿ أكلها دائم وظلها.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ).
وفي آية أخرى قال تعالى :
﴿ أولئك هم الوارثون " ١٠ " الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " ١١ " ﴾( سورة المؤمنون ).
قوله :
﴿ تلك الجنة.. " ٦٣ " ﴾( سورة مريم ) : أي : التي يعطينا صورة لها هي :
﴿ التي نورث من عبادنا من كان تقياً " ٦٣ " ﴾( سورة مريم ) : أي : يرثونها، فهل كان في الجنة أحد قبل هؤلاء، فهم يرثونه ؟.
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق عرف منهم من سيؤمن باختياره، ومن سيكفر باختياره، علم من سيطيع ومن سيعصى، فلم يرغم سبحانه عباده على شيء، إنما علم ما سيكون منهم بطلاقة علمه تعالى، إلا أنه تعالى أعد الجنة لتسع جميع الخلق إن أطاعوا، وأعد النار لتسع جميع الخلق إن عصوا، فلن يكون هناك إذن زحام ولا أزمة إسكان، إن دخل الناس جميعاً الجنة، أو دخلوا النار.
إذن : حينما يدخل أهل النار النار، أين تذهب أماكنهم التي أعدت لهم في الجنة ؟ تذهب إلى أهل الجنة، فيرثونها بعد أن حرم منها هؤلاء.
هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر، فبعد أن تحدث عن الجنة وأهلها عرض لأمر حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي، وقلنا : إن الوحي ينزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهو ملك، على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بشر.
ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى الله عليه وسلم بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلا بتقارب هذين الجنسين وعملية تغيير لابد أن تطرأ على أحدهما، إما أن ينزل الملك على صورة بشرية، وإما أن يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من الملك ليأخذ عنه، وذلك ما كان يحدث لرسول الله حين يأتيه الوحي.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا التغيير فقال : ".. فغطني حتى بلغ مني الجهد.. "
وكان صلى الله عليه وسلم يتفصد جبينه عرقاً لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية، ثم حينما يسري عنه تذهب هذه الأعراض.
وقد أخبر بعض الصحابة، وكان يجلس بجوار رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يضع ركبته على ركبته، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي : شعرت بركبة رسول الله وكأنها جبل.
وإذا أتاه الوحي وهو على دابة كانت الدابة تئط أي : تنخ من ثقل الوحي، وقد قال تعالى :
﴿ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " ٥ " ﴾( سورة المزمل ).
إذن : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشق عليه، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يقول : زملوني زملوني " أو " دثروني دثروني " كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملك ومباشرة الوحي أولاً.
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التعب بقيت له حلاوة ما نزل من الوحي، فيتشوق إليه من جديد، كما يشتاق الإنسان لمكان يحبه دونه الأشواك ومصاعب الطريق، فالحب للشيء يحدث عملية كالتخدير، فلا تشعر في سبيله بالتعب.
وقلنا : لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا : إن رب محمد قد قلاه يعني : أبغضه وتركه.
وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه : ساحر وكذاب ؟ ففي البغض يتذكرون أن له رباً منع عنه الوحي، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا : من أين جاء بهذا الكلام ؟.
لذلك فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً :
﴿ ألم نشرح لك صدرك " ١ " ووضعنا عنك وزرك " ٢ " الذي أنقض ظهرك " ٣ " ورفعنا لك ذكرك " ٤ " ﴾
( سورة الشرح ).
إذن : كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله. فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلاء درساً من خلال درس كوني مشاهد يشهد به المؤمن والكافر، هذا الأمر الكوني هو الزمن، وهو ينقسم إلى ليل ونهار، ولكل منهما مهمته التي خلقه الله من أجلها، كما قال سبحانه :
﴿ والليل إذا يغشى " ١ " والنهار إذا تجلى " ٢ " ﴾( سورة الليل ) : فإياك أن تغير مهمة الليل إلى النهار، أو مهمة النهار إلى الليل. ثم يرد عليهم قائلاً :
﴿ والضحى " ١ " والليل إذا سجى " ٢ " ما ودعك ربك وما قلى " ٣ " وللآخرة خير لك من الأولى " ٤ " ﴾
( سورة الضحى ).
والمعنى : إن كان النهار لحركة الحياة واستبقائها، والليل للراحة والسكون، فهما آيتان متكاملتان لا متضادتان، وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعده، بل سيأتي نهار آخر، وستستمر حركة الحياة.
وكذلك الأمر إن فتر الوحي عن رسول الله، فلا تظنوا أنه انقطع إلى غير رجعة، بل هي فترة ليرتاح فيها رسول الله، كالليل الذي يرتاحون فيه من عناء العمل في النهار، ومن هنا كانت الحكمة في أن يقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على ﴿ ما ودعك ربك وما قلى " ٣ " ﴾( سورة الضحى ).
ونلحظ في هذا التعبير دقة الإعجاز في أداء القرآن، حيث قال :﴿ ما ودعك.. " ٣ " ﴾( سورة الضحى ).
بكاف الخطاب ؛ لأن التوديع يكون لمن تحب ولمن تكره، أما في القلي فلم يقل : قلاك. لأن القلي لا يكون إلا لمن تكره.
ومعنى :﴿ وللآخرة خير لك من الأولى " ٤ " ﴾( سورة الضحى ) :
الآخرة أي : الفترة الأخيرة من نزول الوحي خير لك من الفترة الأولى ؛ لأنها ستكون أوسع، وستأتيك بلا تعب ولا مشقة، وفعلاً نزلت جمهرة القرآن بعد ذلك في يسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان الأمر في الآية التي نحن بصددها :﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك.. " ٦٤ " ﴾( سورة مريم ) :
فيقال : إنها نزلت حينما قال الكفار : إن رب محمد قد قلاه، أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة الأسئلة الثلاثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " سأخبركم غداً " لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يوماً، فشق ذلك عليه وحزن له فنزلت :
﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك.. " ٦٤ " ﴾( سورة مريم ) : أي : الملائكة لا تنزل إلا بأمر، ولا تغيب إلا بأمر. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك.. " ٦٤ " ﴾( سورة مريم ).
قوله تعالى :﴿ ما بين أيدينا.. " ٦٤ " ﴾( سورة مريم )أي : في الخلف.
﴿ وما بين ذلك.. " ٦٤ " ﴾( سورة مريم ) : أي : ما بين الأمام والخلف، فماذا بين الأمام والخلف ؟ ليس بين الأمام والخلف إلا أنت. فسبحانه وتعالى المالك، الذي له الملك والمملوك، وله المكان والمكين، وله الزمان والزمين. وقوله :
﴿ وما كان ربك نسياً " ٦٤ " ﴾( سورة مريم ).
وهل يرسل الحق تبارك وتعالى رسولاً، ثم ينساه هكذا دون إمداد وتأييد ؟ فسبحان تنزه عن الغفلة وعن النسيان.
أولاً : ما علاقة قوله تعالى :﴿ وما كان ربك نسياً " ٦٤ " ﴾( سورة مريم ).
بقوله تعالى في هذه الآية :﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما.. " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ).
قالوا : لأن هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه، وما فيه من هندسة التكوين وإبداع الخلق قائم بقيومية الله تعالى عليه، كما قال سبحانه :
﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا.. " ٤١ " ﴾( سورة فاطر ).
فلا تظن أن الكون قائم على قانون يديره، بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون، والحق تبارك وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم. فمادام الأمر كذلك، وأنه تعالى يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا، وما بين ذلك، وأنه تعالى قيوم لا ينسى ولا يغفل وبه يقوم الكون. فهو إذن يستحق العبادة والطاعة فيما أمر وقد أعطاك قبل أن يكلفك عطاء لا تستطيع أنت أن تفعله لنفسك، ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أن يكلفك بشيء من العبادات. لذلك هنا يقول تعالى :
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته.. " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ).
وقد أكد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية، وأنه رب واحد فقال :
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما.. " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ).
وقال :﴿ رب العالمين " ٢ " ﴾( سورة الفاتحة ).
وقال :﴿ ربكم ورب آبائكم الأولين " ٢٦ " ﴾( سورة الشعراء ) : لأن القدماء، ومنهم مثلاً قدماء المصريين كانوا يجعلون رباً للسماء، ورباً للأرض، ورباً للجو، ورباً للأموات، ورباً للزرع.. الخ ومادام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على الربوبية. والعبادة : طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى، وكيف لا نطيع الله ونحن خلقه وصنعته، ونأكل رزقه، ونتقلب في نعمه ؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه :( من يأكل لقمتي يسمع كلمتي.
ولابد أن نعلم أن الله تعالى له الكمال المطلق قبل أن يخلق الخلق وبصفات الكمال خلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. فإن قلت : فلماذا إذن يكلف الخلق بالأمر والنهي ؟ نقول : كلف الله الخلق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ولا تتصادم، فيحدث في حياتهم الارتقاء ويسعدوا بها، إنما لو تركهم وأهواءهم لفسدت الحياة، فأنت تبني وغيرك يهدم.
<لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " >
والحق تبارك وتعالى يقول :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. " ٧١ " ﴾( سورة المؤمنون ).
إذن : التشريعات جعلت لصالحنا نحن :﴿ فاعبده واصطبر لعبادته.. " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ).
لأن العبادة فيها مشقة، فلابد لها من صبر ؛ لأنها تأمرك بأشياء يشق عليك أن تفعلها، وينهاك عن أشياء يشق عليك أن تتركها لأنك ألفتها.
والصبر يكون منا جميعاً، يصبر كل منا على الآخر ؛ لأننا أبناء أغيار، فإن صبرت على الأذى صبر الناس عليك إن حدث منك إيذاء لهم ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ٣ " ﴾
( سورة العصر ).
والحق سبحانه وتعالى يعلمنا : إن أذنب أحد في حقك، أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن أغفر لك ذنبك، وأعفو عن سيئتك. يقول تعالى :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " ٢٢ " ﴾( سورة النور ).
ولا تظن أن صبرك على أذى الآخرين أو غفرانك لهم تطوع من عندك ؛ لأنه لن يضيع عليك عند الله، وسترد لك في سيئة تغفر لك. حتى من فضح مثلاً أو أدعى عليه ظلماً لا يضيعها الله، بل يدخرها له في فضيحة سترها عليه، فمن فضح بما لم يفعل، ستر عليه ما فعل.
وقوله تعالى :
﴿ هل تعلم له سمياً " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ) :
سبق أن تكلمنا في معنى ( السمي )وقد اختلف العلماء في معناها، قالوا : السمي : الذي يساميك، أي : أنت تسمو وهو يسمو عليك، أو السمي : النظير والمثيل.
والحق سبحانه وتعالى ليس له سمي يساميه في صفات الكمال، وليس له نظير أو مثيل أو شبيه، بدليل قوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء.. " ١١ " ﴾( سورة الشورى ).
وقوله تعالى :﴿ قل هو الله أحد " ١ " الله الصمد " ٢ " لم يلد ولم يولد " ٣ " ولم يكن له كفوا أحد " ٤ " ﴾
( سورة الإخلاص ).
وللسمي معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى، حيث قال تعالى :﴿ لم نجعل له من قبل سمياً " ٧ " ﴾
( سورة مريم ) :
أي : لم يسبق أن تسمي أحد بها الاسم. وكذلك الحق تبارك وتعالى لم يتسم أحد باسمه، لا قبل هذه الآية، ولا بعد أن أطلقها رسول الله تحدياً بين الكفار والملاحدة الذين يتجرؤون على الله. فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أن يسمي ولده الله ؟
الحقيقة أن هؤلاء وإن كانوا كفاراً وملاحدة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله، ويعترفون بوجوده، ويخافون من عاقبة هذه التسمية، ولا يأمنون أن يصيبهم السوء بسببها.
إذن : لم تحدث، ولم يجرؤ أحد عليها ؛ لأن الله تعالى قالها وأعلنها تحدياً، وإذا قال الله تعالى، ملك اختيار الخلق، وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة.
ما المراد بالإنسان ؟ الإنسان تطلق ويراد بها عموم أي إنسان مثل :
﴿ إن الإنسان خلق هلوعاً " ١٩ " ﴾( سورة المعارج ) : ويراد بها خصوصية لبعض الناس، كما في قوله تعالى :﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. " ٥٤ " ﴾( سورة النساء ) :
فالمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو قوله تعالى :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ١٧٣ " ﴾( سورة آل عمران ) :
فالمراد : ناس مخصوصون. والمعنى :
﴿ ويقول الإنسان.. " ٦٦ " ﴾( سورة مريم ) : أي : الكافر الذي لا يؤمن بالآخرة، ويستبعد الحياة بعد الموت :
﴿ أئذا ما مت لسوف أخرج حياً " ٦٦ " ﴾( سورة مريم ) : والاستفهام هنا للإنكار، لكن هذه المسألة الرد عليها سهل ميسور.
فلان يعاد الإنسان من شيء أهون من أن يعاد من لا شيء ؛ لذلك قال تعالى في توضيح هذه المسألة :
﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.. " ٢٧ " ﴾( سورة الروم ) :
مع أن الخالق سبحانه وتعالى لا يقال في حقه تعالى هين وأهون، أو صعب وأصعب، ولكنه يحدثنا بما نفهم وبما نعلم في أعرافنا.
ففي عرفنا نحن أن تنشئ من موجود أسهل من أن تنشئ من عدم، وإن كان فعل العبد يقوم على المعالجة ومزاولة الأسباب ففعل الخالق سبحانه إنما يكون بقوله للشيء " كن فيكون ". وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ.. " ٢٨ " ﴾( سورة لقمان ) :
ولما سئل الإمام علي كرم الله وجهه : كيف يحاسب الله الناس جميعاً في وقت واحد ؟ قال : كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد.
فقوله :﴿ أولا يذكر الإنسان.. " ٦٧ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : لو تذكر هذه الحقيقة ما كذب بالبعث، وقد عولجت هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى :
﴿ وضرب لنا مثل ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " ٧٨ " ﴾( سورة يس ).
فلو تذكر خلقه الأول ما ضرب لنا هذا المثل. ثم يأتي الجواب منطقياً :﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرةٍ وهو بكل خلقٍ عليم " ٧٩ " ﴾( سورة يس ).
وهنا أيضاً يكون الدليل :﴿ أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً " ٦٧ " ﴾( سورة مريم ).
قوله تعالى :
﴿ فوربك لنحشرنهم والشياطين.. " ٦٨ " ﴾( سورة مريم ) :
الحشر : أن يبعثهم الله من قبورهم، ثم يسوقهم مجتمعين إلى النار هم والشياطين الذين كانوا يغرونهم بالمعصية ويزينونها لهم.
﴿ ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً " ٦٨ " ﴾( سورة مريم ) : يقال : جثا يجثو فهو جاثٍ. أي : ينزل على ركبتيه، وهي دلالة على الذلة والانكسار والمهانة التي لا يقوى معها على القيام.
النزع : خلع الشيء من أصله بشده، ولا يقال : نزع إلا إذا كان المنزوع متماسكاً مع المنزوع منه، ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء.. " ٢٦ " ﴾( سورة آل عمران ) :
كأنهم متمسكين به حريصين عليه. وقوله :﴿ من كل شيعةٍ.. " ٦٩ " ﴾( سورة مريم ) : أي : جماعة متشايعون على رأي باطل، ويقتنعون به، ويسايرون أصحابه :
﴿ أيهم أشد على الرحمن عتياً " ٦٩ " ﴾( سورة مريم ) : العتي : هو الذي بلغ القمة في الجبروت والطغيان، بحيث لا يقف أحد في وجهه، كما قلنا كذلك في صفة الكبر :﴿ وقد بلغت من الكبر عتياً " ٨ " ﴾( سورة مريم ) : لأنه إذا جاء الكبر لا حيلة فيه، ولا يقدر عليه أحد.
ومعلوم أن رسالات السماء لما نزلت على أهل الأرض كان هناك أناس يضارون من هذه الرسالات في أنفسهم، وفي أموالهم، وفي مكانتهم وسيادتهم، فرسالات الله جاءت لتؤكد حقاً، وتثبت وحدانية الله، وسواسية الخلق بالنسبة لمنهج الله.
وهناك طغاة وجبارون وسادة لهم عبيد، وفي الدنيا القوي والضعيف، والغني والفقير، والسليم والمريض، فجاءت رسالات السماء لتحدث استطراقاً للعبودية.
فمن الذي يضار ويغضب ويعادي رسالات السماء ؟ إنهم هؤلاء الطغاة الجبارون، أصحاب السلطة والمال والنفوذ، ولابد أن لهؤلاء أتباعاً يتبعونهم ويشايعونهم على باطلهم.
فإذا كان يوم القيامة ويوم الحساب، فبمن نبدأ ؟ الأنكي أن نبدأ بهؤلاء الطغاة الجبابرة، ونقدم هؤلاء السادة أمام تابعيهم حتى يروهم أذلاء صاغرين، وقد كانوا في الدنيا طغاة متكبرين، كذلك لنقطع أمل التابعين في النجاة.
فربما ظنوا أن هؤلاء الطغاة الجبابرة سيتدخلون ويدافعون عنهم، فقد كانوا في الدنيا خدمهم، وكانوا تابعين لهم ومناصرين، فإذا ما أخذناهم أولاً وبدأنا بهم، فقد قطعنا أمل التابعين في النجاة.
وقد ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى :﴿ ويوم نحشر من كل أمةٍ فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يزرعون " ٨٣ " ﴾( سورة النمل ) :
أي : من كبارهم وطغاتهم، ليرى التابعون مصارع المتبوعين، ويشهد الضعفاء مصارع الأقوياء، فينقطع أملهم في النجاة.
وفي حديث القرآن عن فرعون، وقد بلغ قمة الطغيان والجبروت حيث ادعى الألوهية، فقال عنه :
﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود " ٩٨ " ﴾( سورة هود ).
فهو قائدهم ومقدمتهم إلى جهنم، كما كان قائدهم إلى الضلال في الدنيا، فهو المعلم وهم المقلدون.
فعليه إذن وزران : وزر ضلاله في نفسه، ووزر إضلاله لقومه، كما جاء في قوله تعالى :
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً.. " ٧٩ " ﴾
( سورة البقرة ).
صلياً : اصطلاء واحترافاً في النار من صلى يصلي : أي دخل النار وذاق حرها. أما : اصطلى أي : طلب هو النار، كما في قوله تعالى :﴿ لعلكم تصطلون " ٧ " ﴾( سورة النمل ) :
والمعنى : أننا نعرف من هو أولى بدخول النار أولاً، وكأن لهم في ذلك أولويات معروفة ؛ لأنهم سيتجادلون في الآخرة ويتناقشون ويتلاومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رهيب يفضح ما اقترفوه.
فالتابع والمتبوع، والعابد والمعبود، كل يلقى باللائمة على الآخر، اسمعهم وهم يقولون :
﴿ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " ٦٧ " ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً " ٦٨ " ﴾( سورة الأحزاب ).
وفي آية أخرى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب " ١٦٦ " ﴾
( سورة البقرة ).
وصدق الله العظيم حين قال :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " ٦٧ " ﴾( سورة الزخرف ).
وهذا خطاب عام لجميع الخلق دون استثناء، بدليل قوله تعالى بعدها :﴿ ثم ننجي الذين اتقوا.. " ٧٢ " ﴾
( سورة مريم ).
إذن : فالورود هنا يشمل الأتقياء وغيرهم.
فما معنى الورود هنا ؟ الورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي : أخذ الماء دون أن تشرب منه، كما في قوله تعالى :﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون.. " ٢٣ " ﴾( سورة القصص ) : أي : وصل إلى الماء. إذن معنى :
﴿ وإن منكم إلا واردها.. " ٧١ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : أنكم جميعاً متقون ومجرمون، ستردون النار وترونها ؛ لأن الصراط الذي يمر عليه الجميع مضروب على متن جهنم.
وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس، فناج مسلم، ومخدوش به، ثم ناج ومحتبس به، ومنكوس ومكدوس فيها " >
فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله ويعلم نعمته ورحمته به. ومن العلماء من يرى أن ورد أي : أتى الماء وشرب منه ويستدلون بقوله تعالى :﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار.. " ٩٨ " ﴾( سورة هود ) :
أي : أدخلهم. لكن هذا يخالف النسق العربي الذي نزل القرآن به، حيث يقول الشاعر :
ولما وردن الماء زرقاً جمامه**** وضعنا عصى الحاضر المتخيم
أي : حينما وصلوا إلى الماء ضربوا عنده خيامهم، فساعة أن وصولا إليه وضربوا عنده خيامهم لم يكونوا شربوا منه، أو أخذوا من مائه، فمعنى الورود أي : الوصول إليه دون الشرب من مائه.
وأصحاب هذا الرأي الذين يقولون :﴿ واردها.. " ٧١ " ﴾( سورة مريم ) : أي : داخلها يستدلون كذلك بقوله تعالى :﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " ٧٢ " ﴾( سورة مريم ).
يقولون : لو أن الورود مجرد الوصول إلى موضع الماء دون الشرب منه أو الدخول فيه ما قال تعالى :﴿ ونذر الظالمين فيها " ٧٢ " ﴾( سورة مريم ).
ولقال : ثم ينجي الله الذين اتقوا ويدخل الظالمين.. لكن :﴿ ونذر الظالمين.. " ٧٢ " ﴾( سورة مريم ) :
فيها الدليل على دخولهم جميعاً النار.
فعلى الرأي الأول : الورود بمعنى رؤية النار دون دخولها، تكون الحكمة منه أن الله تعالى يمتن على عباده المؤمنين فيريهم النار وتسعيرها ؛ ليعلموا فضل الله عليهم، وماذا قدم لهم الإيمان بالله من النجارة من هذه النار، كما قال تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " ١٨٥ " ﴾
( سورة آل عمران ) :
ويمكن فهم الآية على المعنى الآخر : الورود بمعنى الدخول ؛ لأن الخالق سبحانه وتعالى خلق الأشياء، وخلق لكل شيء طبيعة تحكمه، وهو سبحانه وحده القادر على تعطيل هذه الطبيعة وسلبها خصائصها.
كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلام، فيكون دخول المؤمنين النار كما حدث مع إبراهيم، وجعلها الله تعالى عليه برداً وسلاماً، وقد مكنهم الله منه، فألقوه في النار، وهي على طبيعتها بقانون الإحراق فيها، ولم ينزل مثلاً على النار مطراً يطفئها ليوفر لهم كل أسباب الإحراق، ومع ذلك ينجيه منها لتكون المعجزة ماثلة أمام أعينهم.
وكما سلب الله طبيعة الماء في قصة موسى عليه السلام فتجمد وتوقفت سيولته، حتى صار كل فرقٍ كالطود العظيم، فهو سبحانه القادر على تغيير طبائع الأشياء. إذن : لا مانع من دخول المؤمنين النار على طريقة إبراهيم عليه السلام :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " ٦٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
ثم ينجي الله المؤمنين، ويترك فيها الكافرين، فيكون ذلك أنكى لهم وأغيظ.
ثم يقول تعالى :﴿ كان على ربك حتماً مقضياً " ٧١ " ﴾( سورة مريم ) : الحتم : هو الشيء الذي يقع لا محالة، والعبد لا يستطيع أن يحكم بالحتمية على أي شيء ؛ لأنه لا يملك المحتوم ولا المحتوم عليه. فقد تقول لصديقك : أحتم عليك أن تزورني غداً، وأنت لا تملك من أسباب تحقيق هذه الزيارة شيئاً، فمن يدريك أن تعيش لغد ؟ ومن يدريك أن الظروف لن تتغير وتحول دون حضور هذا الصديق ؟
إذن : أنت لا تحتم على شيء، إنما الذي يحتم هو القادر على السيطرة على الأشياء بحيث لا يخرج شيء عن مراده.
فإن قلت : فمن الذي حتم على الله ؟ حتم الله على نفسه تعالى، وليست هناك قوة أخرى حتمت عليه، كما في قوله تعالى :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة " ٥٤ " ﴾( سورة الأنعام ).
ثم يؤكد هذا الحتم بقوله :﴿ مقضياً " ٧١ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : حكم لا رجعة فيه، وحكم الله لا يعدله أحد، فهو حكم قاطع. فمثلاً : حينما قال كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، يريدون أن يتعايش الإيمان والكفر.
لكن الحق تبارك وتعالى يريد قطع العلاقات معهم بصورة نهائية قطعية، لا تعرف هذه الحلول الوسط، فقال سبحانه :﴿ قل يا أيها الكافرون " ١ " لا أعبد ما تعبدون " ٢ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٣ " ولا أنا عابد ما عبدتم " ٤ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٥ " لكم دينكم ولي دين " ٦ " ﴾( سورة الكافرون ) :
وقطع العلاقات هنا ليس كالذي نراه مثلاً بين دولتين، تقطع كل منهما علاقتها سياسياً بالأخرى، وقد تحكم الأوضاع بعد ذلك بالتصالح بينهما والعودة إلى ما كانا عليه، إنما قطع العلاقات مع الكفار قطعاً حتمياً ودون رجعة، وكأنه يقول لهم : إياكم أن تظنوا أننا قد نعيد العلاقات معكم مرة أخرى ؛ لذلك تكرر النفي في هذه السورة، حتى ظن البعض أنه تكرار ؛ ذلك لأنهم يستقبلون القرآن بدون تدبر.
فالمراد الآن : لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، وكذلك في المستقبل : ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد. فلن يرغمنا أحد على تعديل هذا القرار أو العودة إلى المصالحة. لذلك أتى بعد سورة ( الكافرون )سورة الحكم :﴿ قل هو الله أحد.. " ١ " ﴾( سورة الإخلاص ).
فلا ثاني له يعدل عليه، فكلامه تعالى وحكمه نهائي وحتماً مقضياً لا رجعة فيه ولا تعديل.
جثياً : من جثا يجثو أي : قعد على ركبه دلالة على المهانة والتنكيل.
هذا حوار دار بين المؤمنين والكافرين، المؤمنين وكانوا عادة هم الضعفاء الذين لا يقدرون حتى على حماية أنفسهم، وليس لهم جاه ولا سيادة يحافظون عليها، وجاء منهج الله في صالحهم يسوي بين الناس جميعاً : السادة والعبيد، والقوي والضعيف.
فطبيعي أن يقابل هذا الدين بالتكذيب من كفار مكة، أهل الجاه والسيادة، وأهل القوة الذين يأخذون خير الناس من حولهم، أما الضعفاء فقد آمنوا بدين الله في وقت لم يكن لديهم القوة الكافية لحماية أنفسهم، فعندما نزل قول الحق تبارك وتعالى :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر " ٤٥ " ﴾( سورة القمر ).
قال عمر رضي الله عنه وما أدراك من هو عمر ؟ قال : أي جمع هذا ؟ وأي هزيمة، ونحن غير قادرون على حماية أنفسنا ؟
وفي هذه الآونة، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة. فلما جاء نصر الله للمؤمنين وتأييده لهم في بدر. قال عمر : صدق الله :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر " ٤٥ " ﴾( سورة القمر ) :
وفي هذا الحوار يعير الكفار المؤمنين بالله : ماذا أفادكم الإيمان بالله وهاأنتم على حال من الضعف والهوان والذلة وضيق العيش ؟ أيرضى رب أن يكون المؤمنون به على هذه الحال، وأعداؤه والكافرون به هم أهل الجاه والسيادة وسعة الرزق. وهكذا فتن الله بعضهم ببعض، كما قال سبحانه :
﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعضٍ " ٥٣ " ﴾( سورة الأنعام ) :
فالمؤمن والكافر، والغني والفقير، والصحيح والمريض، كل منهم فتنة للآخر ليمحص الله الإيمان، ويختبر اليقين في قلوب المؤمنين ؛ لأن الله تعالى يعدهم لحمل رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا كلها في جميع أزمنتها وأماكنها، فلابد أن يختار لهذه المهمة أقوياء الإيمان الذين يدخلون الإسلام، ليس لمغنم دنيوي، بل لحمل رسالته والقيام بأعبائه، فهذا هو المؤمن المؤتمن على حمل منهج الله.
ومن ذلك ما نراه من أن مناهج الباطل في الدنيا من يدعو إليها يرشو المدعو ويعطيه، أما منهج الله فيأخذ منه ليختبره ويمحصه.
فكيف يكون الغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني ؟ الغني مفتون بالفقير حيث هو في سعة من العيش والفقير في ضيق، الغني يأكل حتى التخمة والفقير جائع، ويرتدي الغني الفاخر من الثياب والفقير عريان. فهل سيعرف نعمة الله عليه ويؤدي حقها ؟
والفقير مفتون بالغني حين يراه على هذه الحال، فهل سيصبر على هذه الشدة ؟ أم سيعترض على ما قدره الله له، ويحقد على الغني ؟
ولو علم الفقير أن الفقر درس تدريبي أجرى لجنود الحق الذين يحملون منهج الله إلى خلق الله في كل زمان ومكان، وأن هذه قسمة الله بين خلقه لما اعترض على قسمة الله، ولما حقد على صاحب الغنى.
وكذلك يفتن الصحيح بالمريض والمريض بالصحيح، فالصحيح يعيش مع نعمة الله بالعافية، أما المريض فيعيش مع المنعم سبحانه، كما جاء في الحديث القدسي : " يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. فيقول : وكيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ".
لذلك ترى أهل الأمراض من المؤمنين يتألم زوارهم من أمراضهم، في حين أنهم في أنس بالله يشغلهم عن أمراضهم وعن آلامهم، ومن الذي يزهد في معية الله ؟ إذن : لو حقد المريض على السليم فهو مفتون به، وكان يجب عليه أن يعلم : إن كان الصحيح في معية النعمة فهو في معية المنعم سبحانه وتعالى.
وسيدنا نوح عليه السلام بعد أن لبث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كان جواب قومه :
﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا " ٢٧ " ﴾( سورة هود ) :
فكان أتباع نوح في نظرهم حثالة القوم، ثم حاولوا أن يغروه بهم ليطردهم، فهم ضعاف لا جاه لهم ولا سلطان، فما كان منه إلا أن قال :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم.. " ٢٩ " ﴾( سورة هود ).
وقال في آية أخرى :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين " ٣١ " ﴾( سورة هود )
فعلى مر الأزمان واختلاف الرسالات كان الكفار تزدري أعينهم الفقراء والضعفاء المؤمنين، ويحاولون طردهم وإخراجهم من ديارهم، ألم يقل الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين " ٥٢ " ﴾( سورة الأنعام ).
وهكذا جاءت اللقطة التي معنا :
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن ندياً " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ).
قوله :﴿ آياتنا بينات.. " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ) :
الآيات : جمع آية وهي الشيء العجيب الذي يتحدث به، وتطلق كما قلنا على الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله تعالى، وتلفتنا إلى بديع صنعه كآيات الليل والنهار والشمس والقمر، وتطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسول، كما جاء في قوله تعالى :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " ٩٢ " أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " ٩٣ " ﴾( سورة الإسراء ) :
كما تطلق الآيات على آيات القرآن التي تحمل الأحكام، وهذه هي المرادة هنا ؛ لأن آيات القرآن تنطوي فيها كل الآيات. وقوله :﴿ قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين.. " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : لقد ارتضينا حكمكم في هذه المسألة : نحن الكفار في سعة، وأنتم يا أهل الإيمان في ضيق، فأي الفريقين خير مقاماً ؟ والله بمقاييسكم أنتم. فأنتم خير، أما بمقياس الأعلى والأبقى فنحن. والمقام بفتح الميم : اسم لمكان قيامك من الفعل : قام. أما " مقام " بضم الميم، فمن أقام. والمراد هنا :
﴿ خير مقاما.. " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ) : أي : مكاناً يقوم فيه على الآخر أي : بيت كبير وأثاث ومجلس يتباهى به على غيره.
﴿ وأحسن ندياً " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ).
الإنسان عادة له بيت يأويه، وله مجلس يأوي إليه، ويجلس فيه مع أصحابه وأحبابه يسمونه " حجرة الجلوس " أو " المندرة "، وفيها يجلس كبير القوم ومن حوله أهله وأتباعه، كما نقول في العامية :( عامل قعر مجلس ) ؛ لذلك إذا قام انفض المجلس كله ؛ لأنهم تابعون له، كما قال الشاعر :
وانفض بعدك يا كليب المجلس
وهناك النادي، وهو المكان الذي يجتمع فيه عظماء القوم والأعيان، بدل أن يكون لكل منهم مجلسه الخاص، كما نرى الآن : نادي الرياضيين ونادي القضاة.. الخ إذن : فالنادي دليل على أنهم متفقون ومتكاتفون ومتكتلون ضد الإسلام وضد الحق.
ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى :﴿ فليدع ناديه " ١٧ " ﴾( سورة العلق ) :
ومن ذلك ما كان يسمى قبل الإسلام " دار الندوة "، وكانوا يجتمعون فيها ليدبروا المكائد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن النادي ما كان مأخوذاً لعمل المنكر والفاحشة والعياذ بالله، فيجتمعون فيه لكل ما هو خبيث من شرب الخمر والرقص والفواحش، كما في قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ .. وتأتون في ناديكم المنكر.. " ٢٩ " ﴾( سورة العنكبوت ) :
وفي هذا دليل على شيوع الفاحشة والقحة بين القادرين والمجاهرة بها، فلم يكونوا يقترفونها سراً، بل في جمع من رواد هذه الأماكن.
والنادي أو المنتدى مأخوذ من الندى أي : الكرم، ولما مدحت المرأة العربية زوجها قالت : رفيع العماد، كثير الرماد، قريب البيت من الناد. والمعنى : أن بيته أقرب البيوت إلى النادي، فهو مقصد الناس في قضاء حاجياتهم. إذن : كان قول الكفار للمؤمنين :
﴿ أي الفريقين خير مقاما وأحسن ندياً " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ). موضع فتنة للفريقين، فقال المؤمنون :
﴿ لو كان خيراً ما سبقونا إليه " ١١ " ﴾( سورة الأحقاف ) :
وقال الكفار : مادام أن الله حبانا في الدنيا وهو الرزاق، فلابد أن يحبونا في الآخرة، لكن لم تتعرض الآيات للقول المقابل من المؤمنين.
كم : خبرية تدل على الكثرة التي لا تحصى، وأن المقول بعدها وقع كثيراً، كأن يقول لك صاحبك : أنت ما عملت معي معروفاً أبداً، فتعدد له صنائع المعروف التي أسديتها إليه، فتقول : كم فعلت معك كذا، وكم فعلت كذا.
والقرن : هم الجماعة المتعايشون زماناً، بحيث تتداخل بينهم الأجيال، فترى الجد والأب والابن والحفيد معاً، وقد قدروا القرن بمائة عام. كما يطلق القرن على الجماعة الذين يجتمعون على ملك واحد، أو رسالة واحدة مهما طال زمنهم كقوم نوح مثلاً.
والأثاث : هو فراش البيت، وهذا أمر يتناسب وإمكانات صاحبه.
والرئي : على وزن فِعْل، ويراد به المفعول أي : المرئي، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وفديناه بذبحٍ عظيمٍ " ١٠٧ " ﴾( سورة الصافات ).
فذبح بمعنى : مذبوح.
وورد في قراءة أخرى :( احسن أثاثاً وزياً )وهي غير بعيدة عن المعنى الأول ؛ لأن الزي أيضاً من المرئي، إلا أنه يتكون من الزي والذي يرتديه، والمراد هنا جمال الشكل والهيئة ونضارة الشخص وهندامه، وقد افتخر الكفار بذلك، في حين كان المؤمنون شعثاً غبراً يرتدون المرقع والبالي من الثياب.
وقد جاء الاختلاف في بعض ألفاظ القرآن من قراءة لأخرى ؛ لأن القرآن الكريم دون أول ما دون غير منقوط ولا مشكول اعتماداً على ملكة العربي وفصاحته التي تمكنه من توجيه الحرف حسب المعنى المناسب للسياق، وظل كذلك إلى أن وضع له العلماء النقاط فوق الحروف في العصر الأموي. فمثلاً النبرة في كلمة دون نقط يحتمل أن تقرأ من أعلى : نون أو تاء أو ثاء. ومن أسفل تقرأ : باء أو ياء.
والعربي لمعرفته بمواقع الألفاظ يستطيع تحديد الحرف المراد فكلمة ( رئيا )تقرأ ( زيا )والمعنى غير بعيد. ومن ذلك كلمة :﴿ فتبينوا " ٩٤ " ﴾( سورة النساء ) : قرأها بعضهم ( فتثبتوا )وكلمة :
﴿ صبغة " ١٣٨ " ﴾( سورة البقرة ) : قرأها بعضهم ( صنعة )، ودليل فصاحتهم أن الاختلاف في مثل هذه الحروف لا يؤدي إلى اختلاف المعنى.
لذلك، كان العربي قديماً يغضب إن كتب إليه كتاب مشكل، لأن تشكيل الكلام كأنه اتهام له بالغباء وعدم معرفته باللغة. ومن هنا وجدنا العلماء الذين وضعوا قواعد اللغة ليسوا من العرب ؛ لأن العربي في هذا الوقت كان يستنكف أن يضع للغة قواعد، فهي بالنسبة له ملكة معروفة لا تحتاج إلى دراسة أو تعليم. أما الأعاجم فلما دخلوا الإسلام ما كان لهم أن يتعلموا لغته إلا بهذه الدراسة لقواعدها.
والحق تبارك وتعالى يقول هنا :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " ٧٤ " ﴾( سورة مريم )
لأنهم قالوا :﴿ أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ) :
يريد أن يدلل على أنهم حمقى لا ينظرون إلى واقع الحياة ليروا عاقبة من كانوا أعز منهم مكاناً ومكانة، وكيف صار الأمر إليهم ؟
الحق تبارك وتعالى يرد على الكفار ادعاءهم الخيرية على المؤمنين، فهذه الخيرية ليست بذاتيتكم، بل هي عطاء من الله وفتنة، حتى إذا أخذكم أخذكم عن عزة وجاه ؛ ليكون أنكى لهم وأشد وأغيظ، أما إن أخذهم على حال ذلة وهوان لم يكن لأخذه هذا الأثر فيهم. فالحق سبحانه يملى لهم بنعمه ليستشرفوا الخير ثم يأخذهم على حد قول الشاعر :
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامة**** فلما رأوها أقشعت وتجلت
فأطمعهم في البداية، ثم أخذهم وخيب آمالهم في النهاية. وضربنا لذلك مثلاً بالأسير الذي بلغ به العطش مبلغاً، فطلب الماء، فجاءه الحارس بالماء حتى كان على فيه، واستشرف الري منعه وحرمه لتكون حسرته أشد، وألمه أعظم، ولو لم يأته بالماء لكان أهون عليه.
إذن : حينما تجرون مقارنة بينكم وبين المؤمنين وتعيرونهم بما معكم من زينة الدنيا، فقد قارنتم الوسائل وطرحتم الغايات، ومن الغباء أن نهتم بالوسائل وننسى الغايات، فلكي تكون المقارنة صحيحة فقارنوا حالكم بحال المؤمنين، بداية ونهاية.
ومثال ذلك : فلاح مجتهد في زراعته يعتني بها ويعفر نفسه من تراب أرضه كل يوم، وآخر ينعم بالثياب النظيفة والجلوس على المقهى والتسكع هنا وهناك، وينظر إلى صاحبه الذي أجهده العمل، ويرى نفسه افضل منه، فإذا ما جاء وقت الحصاد وجد الأول ثمرة تعبه ونتيجة مجهوده، وجلس الآخر حزيناً محروماً. فلابد أن تأخذ في الاعتبار عند المقارنة الوسائل مع الغايات.
لذلك وفق الشاعر حين قال :
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي**** ومن أين والغايات بعد المذاهب ؟
وقد عزل الكفار الوسيلة في الدنيا عن الغاية في الآخرة، فتباهوا وعيروا المؤمنين :﴿ أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " ٧٣ " ﴾( سورة مريم ).
وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه " ٢٤ " ﴾( سورة العنكبوت ) :
وهكذا اتفقوا على الإحراق، ونجى الله نبيه وخيب سعيهم، ثم كانت الغاية في الآخرة :
﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " ٢٥ " ﴾( سورة العنكبوت ).
فكان عليهم ألا ينظروا إلى الوسيلة منفصلة عن غايتها. وهنا يرد الحق تبارك وتعالى على هؤلاء المغترين بنعمة الله :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " ٧٤ " ﴾( سورة مريم ) :
وكما قال في آيات أخرى :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد " ٦ " إرم ذات العماد " ٧ " التي لم يخلق مثلها في البلاد " ٨ " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد { ٩ ﴾وفرعون ذي الأوتاد " ١٠ " }( سورة الفجر ) :
وهلاك هؤلاء وأمثالهم سهل لا يكلف الحق سبحانه إلا أن تهب عليهم عواصف الرمال، فتطمس حضارتهم، وتجعلهم أثراً بعد عين.
فدعاهم إلى النظر في التاريخ، والتأمل في عاقبة أمثالهم من الكفرة والمكذبين، وما عساه أن يغني عنهم من المقام والندى الذي يتباهون به، وهل وسائل الدنيا هذه تدفع عنهم الغاية التي تنتظرهم في الآخرة ؟
وكأن الحق تبارك وتعالى لا يرد عليهم بكلام نظري يقول : إن عاقبتكم كذا وكذا من العذاب، بل يعطيهم مثالاً من الواقع. ويخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم " ٧٧ " ﴾( سورة غافر ) : أي : من القهر والهزيمة والانكسار.
﴿ أو نتوفينك فإلينا يرجعون " ٧٧ " ﴾( سورة غافر ) : فمن يفلت من عذاب الآخرة.
والقرآن حين يدعوهم إلى النظر في عاقبة من قبلهم :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ.. " ٧٤ " ﴾( سورة مريم ).
فإنما يحثهم على أخذ العبرة والعظة ممن سبقوهم، ويستدل بواقع شيء حاضر على صدق غيبٍ آت، فالحضارات التي سبقتهم والتي لم يوجد مثلهم في البلاد، وكان من صفاتها كذا وكذا، ماذا حدث لهم ؟ فهل أنتم أشد منهم قوة ؟ وهل تمنعون عن أنفسكم ما نزل بغيركم من المكذبين ؟
هذا من ناحية الواقع، أما الغيب فيعرض له القرآن في مشهد آخر، حيث يقول تعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " ٢٩ " وإذا مروا بهم يتغامزون " ٣٠ " وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين " ٣١ " وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون " ٣٢ " وما أرسلوا عليهم حافظين " ٣٣ " ﴾
( سورة المطففين ).
هذا المشهد في الدنيا، فما بالهم في الآخرة ؟ :
﴿ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " ٣٤ " على الأرائك ينظرون " ٣٥ " ﴾( سورة المطففين ).
ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى المؤمنين فيقول :﴿ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " ٣٦ " ﴾
( سورة المطففين ) :
يعني : بعد ما رأيتموه من عذابهم، هل قدرنا أن نجازيهم عما فعلوه بكم من استهزاء في الدنيا ؟ وعلى كل فإن استهزاءهم بكم في الدنيا موقوت الأجل، أما ضحككم الآن عليهم فأمر أبدى لا نهاية له. فأي الفريقين خير إذن ؟
فإياكم أن تغركم ظواهر الأشياء، أو تخدعكم برقات النعيم وانظروا إلى الغايات والنهايات ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " ٤٦ " ﴾
( سورة الكهف ).
وفي سورة الأعراف لقطة أخرى من مواقف القيامة، حيث يقول أصحاب الأعراف لأهل النار :﴿ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون " ٤٨ " ﴾( سورة الأعراف ).
ثم يلتفتون إلى المؤمنين في الجنة :﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمةٍ " ٤٩ " ﴾( سورة
الأعراف ).
فأين أنتم منهم الآن ؟
قوله :( قل )أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً " ٧٥ " ﴾
( سورة مريم ) :
أي : يمهله ويستدرجه ؛ لأنه رب للجميع، وبحكم ربوبيته يعطي المؤمن والكافر، وكما يعين المؤمن بالنصر، كذلك يعين الكافر بمراده، كما في قوله تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً " ١٠ " ﴾
( سورة البقرة ) : لأنهم ارتاحوا إليه، ورضوا به، وطلبوا منه المزيد.
﴿ فليمدد له الرحمن " ٧٥ " ﴾( سورة مريم ) : أي : في الدنيا وزينتها، كما قال :
﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيبٍ " ٢٠ " ﴾( سورة الشورى ).
وفي موضع آخر يقول : إياك أن تعجب أموالهم وأولادهم ؛ لأنها فتنة لهم، يعذبهم بها في الدنيا بالسعي في جمع الأموال وتربية الأولاد، ثم الحسرة على فقدهما، ثم يعذبهم بسببها في الآخرة :
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " ٥٥ " ﴾( سورة التوبة ).
ثم يقول تعالى :﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة.. " ٧٥ " ﴾( سورة مريم ) : العذاب : عذاب الدنيا. أي : بنصر المؤمنين على الكافرين وإهانتهم وإذلالهم.
﴿ وإما الساعة.. " ٧٥ " ﴾( سورة مريم ) : أي : ما ينتظرهم من عذابها، . وعند ذلك :﴿ فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً " ٧٥ " ﴾( سورة مريم ) :
لكنه علم لا يجدي، فقد فات أوانه، فالموقف في الآخرة حيث لا استئناف للإيمان، فالنكاية هنا أعظم والحسرة أشد.
لكن، ما مناسبة ذكر الجند هنا والكلام عن الآخرة ؟ وماذا يغني الجند في مثل هذا اليوم ؟ قالوا : هذا تهكم بهم كما في قوله تعالى :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون " ٢٢ " من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم " ٢٣ " ﴾( سورة الصافات ).
فهل أخذهم إلى النار هداية ؟
ثم يلتفت إليهم :﴿ ما لكم لا تناصرون " ٢٥ " بل هم اليوم مستسلمون " ٢٦ " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ٢٧ " قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " ٢٨ " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين " ٢٩ " وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين " ٣٠ " ﴾( سورة الصافات ) : أي : لم نجبركم على شيء، مجرد أن أشرنا لكم أطعتمونا. لذلك، سيقولون في موضع آخر :
﴿ ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين " ٢٩ " ﴾
( سورة فصلت ).
قلنا : إن للهداية معنيين : هداية بمعنى الدلالة على الخير وبيان طريقه، وهداية المعونة والتوفيق للإيمان، فمن صدق في الأولى أعانه الله على الأخرى، ومن ذلك قوله تعالى :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
وقوله تعالى :﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً " ٧٦ " ﴾( سورة مريم ) : والباقيات الصالحات : هي الأعمال الصالحة التي كانت منك خالصة لوجه الله :﴿ خير عند ربك ثواباً وخير مرداً " ٧٦ " ﴾( سورة مريم ) :
هذه هي الغاية التي ننتظرها ونسعى إليها، فساعة أن تقارن السبل الشاقة فاقرنها بالغاية المسعدة، فيهون عليك عناء العبادة ومشقة التكليف.
وقوله :﴿ وخير مرداً " ٧٦ " ﴾( سورة مريم ) : أي : مرجعاً ترد إليه.
نلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا هذا الشخص الذي قال هذه المقولة ولم يعينه، وإن كان معلوماً لرسول الله الذي خوطب بهذا الكلام ؛ وذلك لأن هذه المقولة يمكن أن تقال في زماننا وفي كل زمان، إذن : فليس المهم الشخص بل القول نفسه. وقد أخبر عنه أنه أمية بن خلف، أو العاصي بن وائل السهمي.
وقوله تعالى :﴿ أفرأيت.. " ٧٧ " ﴾( سورة مريم ) : يعني : ألم تر هذا، كأنه يستدل بالذي رآه على هذه القضية :
﴿ الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً " ٧٧ " ﴾( سورة مريم ).
ويروي أنه قال : إن كان هناك بعث فسوف أكون في الآخرة كما كنت في الدنيا، صاحب مال وولد.
كما قال صاحب الجنة لأخيه :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ).
والإنسان لا يعتز إلا بما هو ذاتي فيه، وليس له في ذاتيته شيء، وكذلك لا يعتز بنعمة لا يقدر على صيانتها، ولا يصون النعمة إلا المنعم الوهاب سبحانه إذن : فلم الاغترار بها ؟
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معينٍ " ٣٠ " ﴾
( سورة الملك ).
ويقول :﴿ قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليمٍ " ٢٨ " ﴾( سورة الملك ).
يعني : أقلت هذا القول متطوعاً به من عند نفسك، أم اطلعت على الغيب، فعرفت منه ما سيكون لك في الآخرة :﴿ أم اتخذ عند الرحمن عهداً " ٧٨ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : أعطاه الله تعالى عهداً بأن يكون له في الآخرة كما له في الدنيا، فإما هذه وإما هذه، فأيهما توافرت لك حتى تجزم بهذا القول ؟
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى :﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين " ٣٥ " ما لكم كيف تحكمون " ٣٦ " أم لكم كتاب فيه تدرسون " ٣٧ " إن لكم فيه لما تخيرون " ٣٨ " أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون " ٣٩ " ﴾( سورة القلم ) :
والمراد : من يضمن لهم هذا الذي يدعونه ؟
<وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدخل على مؤمن سروراً فقد أخذ العهد من الله "، " ومن صلى الصلوات بفرائضها وفي وقتها فقد أخذ العهد من الله " >
فمن هؤلاء الذين لهم عهد من الله تعالى ألا يدخلهم النار ؟
والعهد : الشيء الموثق بين اثنين، والعهد إن كان بين الناس فهو عهد غير موثوق به، فقد ينفذ أو لا ينفذ ؛ لأن الإنسان ابن أغيار، ويمكن أن تحول الظروف بينه وبين ما وعد به، أما إن كان العهد من الله تعالى المالك لكل شيء، وليست هناك قوة تبطل إرادته تعالى، فهو العهد الحق الموثوق به، والذي لا يتخلف أبداً.
فحين تعاهد ربك على الإيمان فإنك لا تضمن ما يطرأ عليك من الأغيار، أما حين يعاهدك ربك على الجزاء، فثق أنه نافذ لا يخلف.
<لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن ينصح الإمام علياً رضي الله عنه قال : " أدعو الله أن يجعل لك عهداً في قلوب المؤمنين " >
أي : حباً ومودة في قلوبهم، ومادام أن الله أعطاه هذا العهد، فهو نفاذ محقق. واختار هنا اسم الرحمن لما فيه من صفة الرحمانية التي تناسب المعونة على الوفاء.
كلا : أداة لنفي ما قيل قبلها وإبطاله، أي : قوله :﴿ لأوتين مالاً وولداً " ٧٧ " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً " ٧٨ " ﴾( سورة مريم ).
ثم يأتي ما بعد كلا حجة، ودليلاً على النفي. ورد هذا الحرف ( كلا )في قوله تعالى :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن " ١٥ " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن " ١٦ " كلا " ١٧ " ﴾( سورة الفجر ) :
فالحق تبارك وتعالى ينفي الكلام السابق ؛ لأن النعمة وسعة الرزق ليست دليل إكرام، كما أن الفقر وضيق الرزق ليس دليل إهانة، فكلاهما ابتلاء واختبار كما أوضحت الآيات، فإتيان النعمة حد ذاته ليس هو النعمة إنما النعمة هي النجاح في الابتلاء في الحالتين.
فقد يعطيك الله المال فلا تصرفه فيما أحل الله، فيكون لك فتنة وتخفق في الاختبار، إذن : لم يكرمك بالمال، بل جعله لك وسيلة إغواء وإغراء، فبيدك يتحول المال إلى نعمة أو نقمة، ويكون إكراماً أو إهانة.
وقوله تعالى :﴿ سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً " ٧٩ " ﴾( سورة مريم ) :
لقد جاءت كلمة ( سنكتب )حتى لا يؤاخذه سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنه فعله، ولكن بما كتب عليه وليقرأه بنفسه، وليكون حجة عليه، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً.
يقول تعالى :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " ١٤ " ﴾( سورة الإسراء ) :
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم، أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها.
وقوله سبحانه :﴿ ونمد له من العذاب مداً " ٧٩ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : يزيده في العذاب، لأن المد هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيده في العذاب.
أي : في حين ينتظر أن نزيده ونعطيه سنأخذ منه.
﴿ ونرثه " ٨٠ " ﴾( سورة مريم ) : أي : نأخذ منه كما في قوله تعالى :﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " ٤٠ " ﴾( سورة مريم ).
وقوله :﴿ وكنا نحن الوارثين " ٥٨ " ﴾( سورة القصص ).
فكأن قوله تعالى :
﴿ ونرثه " ٨٠ " ﴾( سورة مريم ) : تقابل قوله :﴿ لأوتين مالاً " ٧٧ " ﴾( سورة مريم )، وقوله تعالى :﴿ ويأتينا فرداً " ٨٠ " ﴾( سورة مريم ) : تقابل :﴿ وولداً " ٧٧ " ﴾( سورة مريم ) :
فسيأتينا في القيامة فرداً، ليس معه من أولاده أحد يدفع عنه.
آلهة : جمع إله، وهو المعبود والرب الذي أوجدك من عدك، وأمدك من عدم، وتولاك بالتربية، فعطاء الألوهية تكليف وعبادة، وعطاء الربوبية نعم وهبات. إذن : فمن أولى بعبادتك ومن أحق بطاعتك ؟
هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله آلهة من شمس، أو قمر، أو حجر، أو شجر، بماذا تعبدتكم هذه الآلهة ؟ بماذا أمرتكم ؟ وعن أي شيء نهتكم ؟ وبماذا أنعمت عليك ؟ وأين كانت وأنت جنين في بطن أمك ؟
إن أباك الذي رباك وأنت صغير وتكفل بكل حاجياتك، وأمك التي حملتك في بطنها وسهرت على راحتك، هما أولى الناس بطاعتك، ولا ينبغي أن تقدم على أمرهما أمراً. أما أن يستحوذ عليك آخرون، ويكون لهم طاعتك وولاؤك دون أبويك فهذا لا يجوز وأنت في ريعان شبابك وأوج قوتك.
لذلك، من أصول التربية أن يربي الآباء أبناءهم على السمع والطاعة لهم، ونحذرهم من طاعة الآخرين خاصة غير المؤتمنين على التربية، من العامة في الشارع، أو أصدقاء السوء الذين يجرون الأبناء إلى ما لا تحمد عقباه.
والآن نحذر أبناءنا من السير مع شخص مجهول، أو قبول طعام، أو شراب منه. وما نراه في عصرنا الحاضر يغني عن الإطالة في هذه المسألة. هذه إذن مناعة يجب أن تعطى للأبناء كالمناعة ضد الأمراض تماماً.
وهكذا الحال فيمن اتخذوا من دون الله آلهة وارتاحوا إلى إله لا تكليف له ولا مشقة في عبادته، إله يتركهم يعبدونه كما يحلو لهم، إنهم أخذوا عطاء الربوبية فتمتعوا بنعمة الله، وتركوا عطاء الألوهية فلم يعبدوه سبحانه وتعالى.
ولما كان الإنسان متديناً بطبعه فقد اختار هؤلاء ديناً على وفق أهوائهم وشهواتهم، واتخذوا آلهة لا أمر لها ولا تكليف. ومن ذلك ما نراه من كثير من المثقفين الذين يأخذون دين الله على هواهم، ويطيعون أعداء الله في قضايا بعيدة كل البعد عن دين الله، وهم أصحاب ثقافة وعقول ناضجة، ومع ذلك يقنعون أنفسهم أنهم على دين وأنهم على الحق.
ثم يقول تعالى :
﴿ ليكونوا لهم عزاً " ٨١ " ﴾( سورة مريم ) :
العز : هو الغلبة والامتناع من الغير، بحيث لا ينال أحد منه شيئاً، يقولون : فلان عزيز أي : لا يغلب.
ولنا أن نسأل : ما العزة في عبادة هذه الآلهة ؟ وما الذي سيعود عليك من عبادتها ؟
كلا : تنفي أن يكون لهؤلاء عز في عبادة ما دون الله، بل :﴿ كلا سيكفرون بعبادتهم " ٨٢ " ﴾( سورة مريم ) :
هذه الآلهة نفسها ستكفر بعبادتهم، وتنكر أن تكون هي آلهة من دون الله، وأكثر من ذلك :﴿ ويكونوا عليهم ضداً " ٨٢ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : في حين اتخذها الكفار آلهة من دون الله وطلبوا العزة في عبادتها تنقلب عليهم، وتكون ضداً لهم وخصماً.
والضد : هو العدو المخالف لك، والذي يحاول أن ينكل بك. وفي القرآن الكريم حوارات كثيرة بين هذه المعبودات ومن عبدوها، فمثلاً الذين عبدوا الملائكة واتخذوها آلهة من دون الله : يسأل الله الملائكة :
﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون " ٤٠ " ﴾( سورة سبأ ).
فيجيبون :﴿ سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " ٤١ " ﴾( سورة سبأ ).
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا.. " ١٦٦ " ﴾( سورة البقرة ).
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء :﴿ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون " ٥ " ﴾( سورة الأحقاف ).
إذن : ما ظنه الكفار عزاً ومنعة صار عليهم ضداً وعداوة، كالفتاة التي قالت لأبيها : يا أبت ما حملك على أن تقبلني مخطوبة لابن فلان ؟ أي : ماذا أعجبك فيه ؟ قال : يا بنيتي إنهم أهل عز وأهل جاه وشرف وأهل قوة ومنعة، فقالت : يا أبت لقد قدرت أن يكون بيني وبين ابنهم ود، ولم تقدر أن يكون بيني وبينه كراهية، فإن حدثت الكراهية سيكون ما قلته ضدك، وستشقى أنت بهذا العز وبهذا الجاه.
ومن الناس من اتخذ من المال إلهاً، على حد قول الشاعر :
وللمال قوم إن بدا المال قائلاً**** أنا المال قال القوم إياك نعبد
وهؤلاء الذين يعبدون المال، ويرون فيه القوة، ويعتزون به لا يدرون أنه سيكون وبالاً ونكالاً عليهم يوم القيامة :
﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " ٣٥ " ﴾( سورة التوبة ).
وهكذا، كلما زاد حرصه على المال زاد كيه. وتلحظ في الآية الترتيب الطبيعي لموقف السؤال حين يقف السائل الفقير أمام الغني اللئيم، فأول ما يطالع السائل يتغير وجهه، ثم يشيح عنه بوجهه، فيعطيه جنيه، ثم يدير له ظهره معرضاً عنه، وبنفس هذا الترتيب يكون العذاب ويكون الكي والعياذ بالله. وينقلب المال الذي ظن العزة فيه إلى نكالٍ ووبالٍ.
يقول تعالى :﴿ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " ٦ " ﴾( سورة الأحقاف ).
حتى الجوارح التي تمتعت بمعصيتك في الدنيا ستشهد عليك :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " ٢٤ " ﴾( سورة النور ) :
ذلك لأنك غفلت عمن كان يجب ألا تغفل عنه، وذكرت من كان يجب ألا تذكره، فالإله الحق الذي غفلت عنه يطلبك الآن ويحاسبك، والإله الباطل الذي اتخذته يتخلى عنك ويسلمك للهلاك.
الأز : هو الهز الشديد هو الهز الشديد بعنف أي : تزعجهم وتهيجهم، ومثله النزغ في قوله تعالى :
﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. " ٢٠٠ " ﴾( سورة الأعراف ) :
والأز أو النزغ يكون بالوسوسة والتسويل ليهيجه على المعصية والشر، كما يأتي هذا المعنى أيضاً بلفظ الطائف، كما في قوله تبارك وتعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " ٢٠١ " ﴾( سورة الأعراف ).
وهذه الآية :﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين.. " ٨٣ " ﴾( سورة مريم ) :
تثير سؤالاً : إذا كان الحق تبارك وتعالى يكره ما تفعله الشياطين بالإنسان المؤمن أو الكافر، فلماذا أرسلهم الله عليه ؟
أرسل الله الشياطين على الإنسان لمهمة يؤدونها، هذه المهمة هي الابتلاء والاختبار، كما قال تعالى :
﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " ٢ " ﴾( سورة العنكبوت ) :
إذن : فهم يؤدون مهمتهم التي خلقوا من أجلها، فيقفوا للمؤمن ليصرفوه عن الإيمان فيمحص الله المؤمنين بذلك، ويظهر صلابة من يثبت أمام كيد الشيطان.
وقلنا : إن للشيطان تاريخاً مع الإنسان، بداية من آدم عليه السلام حين أبى أن يطيع أمر الله له بالسجود لآدم، فطرده الله تعالى وأبعده من رحمته، فأراد الشيطان أن ينتقم من ذرية آدم بسبب ما ناله من آدم، فقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " ﴾( سورة ص ).
وقال :﴿ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم " ١٦ " ﴾( سورة الأعراف ) :
وهكذا أعلن عن منهجه وطريقته، فهو يتربص لأصحاب الاستقامة، أما أصحاب الطريق الأعوج فليسوا في حاجة إلى إضلاله وغوايته. لذلك نراه يتهدد المؤمنين :﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. " ١٧ " ﴾( سورة الأعراف ).
ومعلوم أن الجهات ست، يأتي منها الشيطان إلا فوق وتحت ؛ لأنهما مرتبطتان بعز الألوهية من أعلى، وذلك العبودية من أسفل، حين يرفع العبد يديه لله ضارعاً وحين يخر لله ساجداً ؛ لذلك أغلقت دونه هاتان الجهتان ؛ لأنهما جهتا طاعة وعبادة وهو لا يعمل إلا في الغفلة ينتهزها من الإنسان.
والمتأمل في مسألة الشيطان يجد أن هذه المعركة وهذا الصراع ليس بين الشيطان وربه تبارك وتعالى، بل بين الشيطان والإنسان ؛ لأنه حين قال لربه تعالى :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " ﴾
( سورة ص ).
التزم الأدب مع الله. فالغواية ليست مهارة مني، ولكن أغويهم بعزتك عن خلقك، وتركك لهم الخيار ليؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر، هذه هي النافذة التي أنفذ منها إليهم، بدليل أنه لا سلطان لي على أهلك وأوليائك الذين تستخلصهم وتصطفيهم :
﴿ إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾( سورة ص ).
وهنا أيضاً يثار سؤال : إذا كان الشيطان لا يقعد إلا على الصراط المستقيم ليضل أهله، فلماذا يتعرض للكافر ؟
نقول : لأن الكافر بطبعه وفطرته يميل إلى الإيمان وإلى الصراط المستقيم، وهاهو الكون بآياته أمامه يتأمله، فربما قاده التأمل في كون الله إلى الإيمان بالله ؛ لذلك يقعد له الشيطان على هذا المسلك مسلك الفكر والتأمل ليحول بينه وبين الإيمان بالخالق عز وجل.
فالشيطان ينزغك، إما ليحرك فيك شهوة، أو لينسيك طاعة، كما قال تعالى :﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان.. " ٦٣ " ﴾( سورة الكهف ).
وقال :﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " ٦٨ " ﴾( سورة الأنعام ).
وكثير من الإخوان يسألون : لماذا في الصلاة بالذات تلح علينا مشاكل الحياة ومشاغل الدنيا ؟
نقول : هذه ظاهرة صحية في الإيمان، لأن الشيطان لولا علمه بأهمية الصلاة، وأنها ستقبل منك ويغفر لك بها الذنوب ما أفسدها عليك، لكن مشكلتنا الحقيقية أننا إذا أعطانا الشيطان طرف الخيط نتبعه ونغفل عن قول ربنا تبارك وتعالى :
﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. " ٣٦ " ﴾( سورة فصلت ) :
فما عليك ساعة أن تشعر أنك ستخرج عن خيط العبادة والإقامة بين يدي الله إلا أن تقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى وإن كنت تقرأ القرآن، لك أن تقطع القراءة وتستعيذ بالله منه، وساعة أن يعلم منك الانتباه لكيده وألاعيبه مرة بعد أخرى سينصرف عنك وييأس من الإيقاع بك.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً باللص ؛ لأنه لا يحوم حول البيت الخرب، إنما يحوم حول البيت العامر، فإذا ما اقترب منه تنبه صاحب البيت وزجره، فإذا به يلوذ بالفرار، وربما قال اللص في نفسه : لعل صاحب البيت صاح مصادفة فيعاود مرة أخرى، لكن صاحب الدار يقظ منتبه، وعندها يفر ولا يعود مرة أخرى.
ويجب أن نعلم أن من حيل الشيطان ومكائده أنه إذا عز عليه إغواؤك في باب، أتاك باب آخر ؛ لأنه يعلم جيداً أن للناس مفاتيح، ولكل منا نقطة ضعف يؤتي من ناحيتها، فمن الناس من لا تستميله بقناطير الذهب، إنما تستميله بكلمة مدح وثناء. وهذا اللعين لديه ( طفاشات )مختلفة باختلاف الشخصيات.
لذلك من السهل عليك أن تميز بين المعصية إن كانت من النفس أم من الشيطان : النفس تقف بك أمام شهوة واحدة تريدها بعينها ولا تقبل سواها، فإن حاولت زحزحتها إلى شهوة أخرى أبت إلا ما تريد، أما الشيطان فإن عزت عليك معصية دعاك إلى غيرها، المهم أن يوقع بك.
فالحق تبارك وتعالى يحذرنا الشيطان ؛ لأنه يحارب في الإنسان فطرته الإيمانية التي تلح عليه بأن للكون خالقاً قادراً، والدليل على الوجود الإلهي دليل فطري لا يحتاج إلى فلسفة، كما قال العربي قديماً : البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟ !
وكذلك، فكل صاحب صنعة عالم بصنعته وخبير بدقائقها ومواطن العطب فيها، فما بالك بالخالق سبحانه :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ١٤ " ﴾( سورة الملك ) :
إذن : فالأدلة الإيمانية أدلة فطرية يشترك فيها الفيلسوف وراعي الشاة، بل ربما جاءت الفلسفة فعقدت الأدلة. ولنا وقفة مع قوله تعالى :﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين.. " ٨٣ " ﴾( سورة مريم ) :
ومعلوم أن عمل الشيطان عمل مستتر، كما قال تعالى :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيل لا ترونهم.. " ٢٧ " ﴾( سورة الأعراف ).
فكيف يخاطب الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بقوله :
﴿ ألم تر.. " ٨٣ " ﴾( سورة مريم ) : هي مسألة لا يراها الإنسان ؟ نقول :﴿ ألم تر.. " ٨٣ " ﴾( سورة مريم ) :
بمعنى ألم تعلم ؟ فعدل عن العلم إلى الرؤيا، كما في قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " ١ " ﴾( سورة الفيل ).
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ير هذه الحادثة، فكيف يخاطبه ربه عنها بقوله :﴿ ألم تر.. " ١ " ﴾
( سورة الفيل ).
ذلك، ليدلك على أن إخبار الله لك أصح من إخبار عينك لك ؛ لن رؤية العين ربما تخدعك، أما إعلام الله فهو صادق لا يخدعك أبداً. فعلمك من إخبار الله لك أولى وأوثق من علمك بحواسك.
والشياطين : جمع شيطان، وهو العاصي من الجن، والجن خلق مقابل للإنسان قال الله عنهم :﴿ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا " ١١ " ﴾( سورة الجن ) :
فمن هم دون الصالحين، هم الشياطين.
تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لو أن الله أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدعوة، فقال تعالى :
﴿ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا " ٨٤ " ﴾( سورة مريم ) :
فالله يريد أن تطول أعمارهم، وتسوء فعالهم، وتكثر ذنوبهم، فالكتيبة يعدون عليهم ويحصون ذنوبهم. ومعنى :﴿ إنما نعد لهم عدا " ٨٤ " ﴾( سورة مريم ) : أنها مسألة ستنتهي ؛ لأن كل ما يعد ينتهي، إنما الشيء الذي لا يحصى ولا يعد فلا ينتهي، كما في قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها.. " ٣٤ " ﴾( سورة إبراهيم ) : لأن نعم الله لا تحصى ولا تعد ولا تنتهي ؛ لذلك سبقت بإن التي تفيد الشك، فهي مسألة لا يجرؤ أحد عليها ؛ لأن :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ.. " ٩٦ " ﴾( سورة النحل ) :
وهانحن نرى علم الإحصاء وما وصل إليه من تقدم حتى أصبح له جامعات وعلماء متخصصون أدخلوا الإحصاء في كل شيء، لكن لم يفكر أحد منهم أن يحصي نعم الله في كونه، لماذا ؟ لأن الإقبال على العد معناه ظن أنك تستطيع أن تنتهي، وهم يعلمون تماماً أنهم مهما عدوا ومهما أحصوا فلن يصلوا إلى نهاية.
إذن :﴿ نعد لهم عدا " ٨٤ " ﴾( سورة مريم ) : نحصى سيئاتهم ونعد ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم، وكلما طالت الأعمار كثرت الذنوب، وكل ما ينتهي بالعدد ينتهي بالمدد.
الحق تبارك وتعالى أعطانا صوراً متعددة ومشاهد مختلفة ليوم القيامة، فأعطانا صورة للمعبود الباطل، وللعابدين للباطل، وما حدث بين الطرفين من جدال ونقاش، وأعطانا صورة لمن تعاونوا على الشر، ولمن تعاونوا على الخير. وهذه صورة أخرى تعرض للمتقين في ناحية، والمجرمين في ناحية، فما هي صورة المتقين ؟
نحشر : أي : نجمع، والوفد هم الجماعة ترد على الملك لأخذ عطاياه، جمعها وفود، والواحد وافد. وهذه حال المتقين حين يجمعهم الله يوم القيامة وفداً لأخذ عطايا ربهم تبارك وتعالى. ولا تظن أنهم يحشرون ماشين مثلاً، لا، بل كل مؤمن تقي يركب ناقة لم ير مثل حسنها، رحلها من ذهب، وأزمتها من الزبرجد.
ونسوق : والسائق يكون من الخلف ينهرهم ويزجرهم، كما جاء في قوله تعالى :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا " ١٣ " ﴾( سورة الطور ) :
ولم يقل مثلاً : نقودهم ؛ لأن القائد يكون من الأمام، وربما غافله أحدهم وشرد منه. وقوله تعالى :
﴿ ورداً " ٨٦ " ﴾( سورة مريم ) :
الورد : هو الذهاب للماء لطلب الري، أما النار فمحل اللظى والشواظ واللهب والحميم. فلماذا سمى إتيان النار بحرها ورداً ؟ هذا تهكم بهم، كما جاء في آيات أخرى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) :
وأنت ساعة تسمع ( يغاثوا )تنتظر الخير وتأمل الرحمة، لكن هؤلاء يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه. وكذلك في قوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم " ٤٩ " ﴾( سورة الدخان ) :
في توبيخ عتاة الكفر والإجرام. ومنه قوله تعالى :﴿ فبشره بعذاب أليمٍ " ٧ " ﴾( سورة لقمان ) :
والبشرى لا تكون إلا بشيء سار. إذن : فقوله تعالى :﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً " ٨٦ " ﴾
( سورة مريم ) : تهكم، كما تقول للولد المهمل الذي أخفق في الامتحان : مبروك عليك السقوط.
الكافر حين يباشر العذاب يطمع أول ما يطمع في أن يشفع له معبوده، ويخرجه مما هو فيه لكن هيهات، ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى :﴿ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون " ٥ " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " ٦ " ﴾( سورة الأحقاف ).
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء يوم القيامة :﴿ لا يملكون الشفاعة.. " ٨٧ " ﴾( سورة مريم ) : لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخذ الإذن بها :﴿ إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " ٨٧ " ﴾( سورة مريم ).
والعهد الذي تأخذه على الله بالشفاعة أن تقدم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت، ثم تزيد عليها ما يؤهلك لأن تشفع للآخرين، والخير لا يضيع عند الله، فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يهمل مثقال ذرة.
وعلى المؤمن مهما كان مسرفاً على نفسه ساعة يرى إنساناً مقبلاً على الله مستزيداً من الطاعات أن يدعو له بالمزيد، وأن يفرح به ؛ لأن فائض طاعاته لعله يعود عليك، ولعلك تحتاج شفاعته في يوم من الأيام. أما من يحلو لهم الاستهزاء والسخرية من أهل الطاعات، كما أخبر الحق تبارك وتعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " ٢٩ " وإذا مروا بهم يتغامزون " ٣٠ " وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين " ٣١ " وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون " ٣٢ " ﴾( سورة المطففين ) :
فكيف ستقابل أهل الطاعات، وتطمع في شفاعتهم بعدما كان منك ؟ فإن لم تكن طائعاً فلا أقل من أن تحب الطائعين وتتمسح بهم، فهذه في حد ذاتها حسنة لك ترجو نفعها يوم القيامة.
وما أشبه الشفاعة في الآخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا، فحين يستعصي عليك قضاء مصلحة يقولون لك : اذهب إلى فلان وسوف يقضيها لك. وفعلاً يذهب معك فلان هذا، ويقضي لك حاجتك، فلماذا قضيت على يديه هو ؟ لابد أن له عند صاحب الحاجة هذه أيادي لا يستطيع معها أن يرد له طلباً.
إذن : لابد لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة، وإذا تأملت لوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قدم رصيداً إيمانياً وسع تكليفه وتكليف أمته، ألم يخبر عنه ربه بقوله :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين.. " ٦١ " ﴾( سورة التوبة ) : لذلك وجبت له الشفاعة، وأذن له فيها.
والحق تبارك وتعالى لا يغفل الرصيد في خلقه أبداً، فكل ما قدمت من طاعات فوق ما كلفك الله به مدخر لك، حتى أن الإنسان إذا اتهم ظلماً، وعوقب على عمل لم يرتكبه فإن الله يدخرها له ويستر عليه ما ارتكبه فعلاً فلا يعاقب عليه.
فالعهد إذن في قوله تعالى :﴿ إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " ٨٧ " ﴾( سورة مريم ) :
أن تدخل مع ربك في مقام الإحسان، ولا يدخل هذا المقام إلا من أدى ما عليه من تكليف، وإلا فكيف تكون محسناً وأنت مقصر في مقام الإيمان ؟
واقرأ إن شئت قول الله تعالى :﴿ إن المتقين في جنات وعيون " ١٥ " آخذين ما آتاهم ربهم.. " ١٦ " ﴾
( سورة الذاريات ) :
ما العلة ؟
﴿ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " ١٦ " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " ١٧ " وبالأسحار هم يستغفرون " ١٨ " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " ١٩ " ﴾( سورة الذاريات ) :
فالمحسن من يؤدي من الطاعات فوق ما فرض الله عليه، ومن جنس ما فرض، فالله تعالى لم يكلفنا بقيام الليل والاستغفار بالأسحار، ولم يفرض علينا صدقة للسائل والمحروم، ولابد أن نفرق هنا بين ( حق )و( حق معلوم )هنا قال ( حق )فقط ؛ لأن الكلام عن الصدقة أما الحق المعلوم ففي الزكاة.
هذا الكلام منهم عبث وافتراء ؛ لأنه متى كان اتخاذ هذا الولد ؟ في أي قرن من القرون من ميلاد المسيح عليه السلام ؟ إن هذه المقولة لم تأت إلا بعد ثلاثمائة سنة من ميلاد المسيح، فما الموقف قبلها ؟ وما الذي زاد في ملك الله بعد أن جاء هذا الولد ؟
الشمس هي الشمس، والنجوم هي النجوم، والهواء هو الهواء، إذن : موضوعية اتخاذ الولد هذه عبث ؛ لأنه لم يزد شيء في الملك على يد هذا الولد، ولم تكن عند الله تعالى صفة معطلة اكتملت بمجيء الولد ؛ لأن الصفات الكمالية لله تعالى موجودة قبل أن يخلق أي شيء.
فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن يخلق، ورازق قبل أن يرزق، ومحي قبل أن يحيي، ومميت قبل أن يميت. فبالصفات أوجد هذه الأشياء، فصفات الكمال فيه سبحانه موجودة قبل متعلقاتها. وضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى بالشاعر الذي قال قصيدة. وقلنا : إنه قال القصيدة لأنه شاعر بداية، ولولا أنه شاعر ما قالها.
لذلك يرد الحق على هذا الافتراء بقوله :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً " ٥ " ﴾
( سورة الكهف ).
والإد : المتناهي في النكر والفظاعة، وهو الأمر المستبشع، من : آده الأمر. أي : أثقله ولم يقو عليه، ومنه قوله تعالى في آية الكرسي :﴿ ولا يئوده حفظهما.. " ٢٥٥ " ﴾( سورة البقرة ) :
أي : لا يثقل عليه. لكن، لماذا جعل هذا الأمر إداً ومنكراً فظيعاً ؟
قالوا : لأن اتخاذ الولد له مقاصد، فالولد يتخذ ليكون لك عزوة وقوة ؛ أو ليكون امتداداً لك بعد موتك، والحق سبحانه وتعالى هو العزيز، الذي لا يحتاج إلى أحد، وهو الباقي الدائم الذي لا يحتاج إلى امتداد.
إذن : فاتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا علة له، كما أن اتخاذ الولد لله تعالى ينفي سواسية العبودية له سبحانه.
أي : فلسنا نحن فحسب الذين ننكر هذا الأمر، بل الجماد غير المكلف أيضاً ينكره، فالسماوات بقوتها وعظمها تتفطر أي : تتشقق، وتكاد تكون مزعاً لهول ما قيل، تقرب أن تنفطر لكن لماذا لم تنفطر بالفعل ؟ لم تنفطر ؛ لأن الله يمسكها :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا.. " ٤١ " ﴾( سورة فاطر ).
وفي الحديث القدسي : " قالت السماء : يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض : يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال : يا رب ائذن لي أن أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فقال لهم : دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
فما العلة في أن السماء تقرب أن تنفطر، والأرض تقرب أن تنشق، والجبال تقرب أن تخر ؟
هذه هي العلة والحيثية التي من أجلها يكاد الكون كله أن يتزلزل ويثور غاضباً لهذه المقولة الشنيعة.
وعلينا هنا أن نفرق بين نفي الحدث ونفي انبغاء الحدث، فمثلاً في قول الحق تبارك وتعالى في شأن نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وما علمناه الشعر وما ينبغي له.. " ٦٩ " ﴾( سورة يس ) :
فنفى عنه قول الشعر، ونفى عنه انبغاء ذلك له، فقد يظن ظان أن النبي لا يستطيع أن يقول شعراً، أو أن أدوات الشعر من اللغة ورقة الإحساس غير متوافرة لديه صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله قادر على قول الشعر إن أراد، فهو قادر على الحدث، إلا أنه لا ينبغي له.
كذلك في قوله تعالى :﴿ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً " ٩٢ " ﴾( سورة مريم ) : فإن أراد سبحانه وتعالى أن يكون له ولد لكان ذلك، كما جاء في قوله تبارك وتعالى :﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " ٨١ " ﴾( سورة الزخرف ) :
أي : إن كان له سبحانه ولد فعلى العين والرأس، إنما هذه مسألة ما أرادها الحق سبحانه، وما تنبغي له، فكيف أدعي أنا أن لله ولداً هكذا من عندي ؟
وما حاجته تعالى للولد.
ذلك لأن الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان، وجعل له منطقة اختيار يفعل أو لا يفعل، يؤمن أو لا يؤمن، وكذلك جعل فيه منطقة قهر، فالكافر الذي ألف الكفر، وتعود عليه، وتمرد على الطاعة والإيمان، هل يستطيع أن يتمرد مثلاً على المرض أو يتمرد على الموت، أو على الفقر ؟
إذن : فأنت مختار في شيء وعبد في أشياء، كما أن منطقة الاختيار هذه لك في الدنيا، وليست لك في الآخرة. وسبق أن فرقنا بين العباد والعبيد، فالجميع : المؤمن والكافر عبيد لله تعالى، أما العباد فهم الذين تنازلوا عن اختيارهم ومرادهم لمراد ربهم، فجاءت كل تصرفاتهم وفقاً لما يريده الله.
وهؤلاء الذين قال الله فيهم :﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا.. " ٦٣ " ﴾( سورة الفرقان ).
ومعنى :﴿ إلا آتى الرحمن عبداً " ٩٣ " ﴾( سورة مريم ) : أي : في الآخرة، حيث تلغي منطقة الاختيار، ولا يستطيع أحد الخروج عن مراد الله تعالى، ويسلب الملك من الجميع، فيقول تعالى :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة غافر ) : وهو سبحانه القادر على العطاء، القادر على السلب :
﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء.. " ٢٦ " ﴾
( سورة آل عمران ).
الإحصاء : هو العد، وكانوا قديماً يستخدمون الحصى أو النوى في العد، لكن النوى فرع ملكية النخل، فقد لا يتوفر للجميع ؛ لذلك كانوا يستخدمون الحصى، ومنه كلمة الإحصاء.
أي : وحده، ليس معه أهل أو أولاد أو عزوة، كما قال تعالى :﴿ يوم يفر المرء من أخيه " ٣٤ " وأمه وأبيه " ٣٥ " وصاحبته وبنيه " ٣٦ " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " ٣٧ " ﴾( سورة عبس ) :
فكل مشغول بحاله، ذاهل عن أقرب الناس إليه :﴿ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت.. " ٢ " ﴾
( سورة الحج ).
وتأمل قوله :﴿ آتيه.. " ٩٥ " ﴾( سورة مريم ) :
فالعبد هو الذي يأتي بنفسه مختاراً لا يؤتي به، فكأن الجميع منضبط على وقت معلوم، إذا جاء يهرع الجميع طواعية إلى الله عز وجل.
وداً : مودة ومحبة تقوم على الإيمان، وتقود إلى شدة التعلق، وقد جعل الحق تبارك وتعالى في كونه أسباباً لهذه المحبة والمودة، كأن ترى إنساناً يحبك ويتودد إليك، فساعة تراه مقبلاً عليك تقوم له وتبش في وجهه، وتفسح له في المجلس، ثم تسأل عنه إن غاب، وتعوده إن مرض، وتشاركه الأفراح وتواسيه في الأحزان وتؤازره عند الشدائد، فهذه المودة ناشئة عن حب ومودة سابقة.
وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة، فهذه أسباب المودة في الدنيا بين الخلق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، أما هنا :﴿ سيجعل لهم الرحمن وداً " ٩٦ " ﴾( سورة مريم ) :
أي : بدون سبب من أسباب المودة هذه، مودة بدون قرابة، وبدون مصالح مشتركة أو صداقة، وهذه المودة بين الذين آمنوا، كأن ترى شخصاً لأول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه، وتقول له : إني أحبك لله.
هذه محبة جعلها الله بين المؤمنين، فضلاً منه سبحانه وتكرماً، لا بسبب من أسباب المودة المعروفة.
لذلك قال هرم بن حيان رحمة الله : إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل عليه بقلبه وأسكنه فيه، وأبعد عن قلبه الأغيار، وسلم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات العقائد وينبوع الصالحات وقدمه لربه إلا فتح له قلوب المؤمنين جميعاً.
كما جاء في الحديث القدسي : " ما أقبل على عبد بقلبه إلا أقبلت عليه بقلوب المؤمنين جميعاً " أي : بالمودة والرحمة دون أسباب ".
وفي الحديث القدسي : " إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء : إنني أحببت فلاناً فأحبوه، وينادي جبريل في الأرض : إن الله أحب فلاناً فأحبوه. ويوضع له القبول في الأرض ".
فيحبه كل من رآه عطية من الله وفضلاً، دون سبب من أسباب المودة، وإن كنت قد تبرعت لله تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها، فإنه تعالى وهب لك ما يملك من قلوب الناس جميعاً، فهي في يده تعالى يوجهها كيف يشاء.
وقد علمنا ربنا تبارك وتعالى في قوله :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها.. " ٨٦ " ﴾( سورة النساء ) :
أن نرد الجميل بأحسن منه، فإن لم نقدر على الأحسن فلا أقل من الرد بالمثل، فإن كان هذا عطاء العبد، فما بالك بعطاء الرب ؟
<ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف " من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " >
والعون يقتضي معيناً ومعاناً، ولابد أن يكون المعين أقوى من المعان، فيفيض عليه من فضل ما عنده : صحة، أو قدرة، أو غنى، أو علماً. وإعانة العبد لأخيه محدودة بقدراته وإمكاناته، أما معونة الله لعبده فغير محدودة ؛ لأنها تناسب قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى.
وهكذا عودنا ربنا تبارك وتعالى حين نضحي بالقليل أن يعطينا الكثير بلا حدود، فضلاً من الله وكرماً. ألم تر أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف ؟ أليست هذه تجارة مع الله رابحة، كما قال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليمٍ " ١٠ " ﴾( سورة الصف ).
وقال عنها :﴿ تجارة لن تبور " ٢٩ " ﴾( سورة فاطر ) :
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتؤلف بيننا، ثم يمنحنا سبحانه الثمن.
إذن : العملية الإيمانية لا تظن أنها إيثار، بل الإيمان أثرة، وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما عند الله من مضاعفة الأجر، فالإيمان إذن أنانية عالية. والحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نعود على غيرنا بفضل ما نملك، كما جاء في الحديث : " من كان عنده فضل مال فليعد به على من لا مال له.. " >
واعلم أن الله سيعوضك خيراً مما أعطيت. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى : هب أن عندك ولدين، أعطيت لكل منهما مصروفه، فالأول اشترى به حلوى أكل منها، وأعطى رفاقه، والآخر بدد مصروفه فيما لا يجدي من ألعاب أو خلافه، فأيهما تعطي بعد ذلك ؟ كذلك الحق سبحانه يعاملنا هذه المعاملة.
الفاء هنا تفيد : ترتيب شيء عن شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب، فالمعنى : بشر المتقين، وأنذر القوم اللد لأننا يسرنا لك القرآن.
ويسرنا القرآن : أي : طوعناه لك حفظاً وأداءً وإلقاء معانٍ، فأنت توظفه في المهمة التي نزل من أجلها. وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة، كقوله تعالى في سورة القمر :﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكرٍ " ١٧ " ﴾( سورة القمر ) :
والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه، فترى الآية تأتي في سورة بنص، وتأتي في نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر، فالمسألة إذن ليست ( أكلاشيه )ثابت، وليست عملية ميكانيكية صماء، إنه كلام رب.
خذ مثلاً قوله تعالى :﴿ كلا إنه تذكرة " ٥٤ " فمن شاء ذكره " ٥٥ " ﴾( سورة المدثر ).
وفي آية أخرى :﴿ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً " ٢٩ " ﴾( سورة الإنسان ).
مرة يقول :﴿ إن هذه تذكرة.. " ٢٩ " ﴾( سورة الإنسان ).
ومرة يقول :﴿ كلا إنها تذكرة " ١١ " ﴾( سورة مريم ).
ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة ( الرحمن )حيث يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان " ٤٦ " ﴾( سورة الرحمن ) :
ثم يأتي الحديث عنهما : فيهما كذا، فيهما كذا إلى أن يصل إلى قاصرات الطرف فيقول :﴿ فيهن قاصرات الطرف.. " ٥٦ " ﴾( سورة الرحمن ).
وكذلك في :﴿ ومن دونهما جنتان " ٦٢ " ﴾( سورة الرحمن ) : فيهما كذا وفيهما كذا إلى أن يصل إلى الحور العين فيقول :﴿ فيهن خيرات حسان " ٧٠ " ﴾( سورة الرحمن ).
ولك أن تتساءل : الحديث هنا عن الجنتين، فلماذا عدل السياق عن ( فيهما )إلى ( فيهن )في هذه النعمة بالذات ؟
قالوا : لأن نعيم الجنة مشترك، يصح أن يشترك فيه الجميع إلا في نعمة الحور العين، فلها خصوصيتها، فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغيرة عند الرجل، ففي هذه المسألة يكون لكل منا جنته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد.
لذلك لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة رأى فيها قصراً فابتعد عنه، فلما سئل عن ذلك صلى الله عليه وسلم قال : " إنه لعمر، وأنا أعرف غيرة عمر " >
فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن، وإلى هذه الدرجة تكون دقة التعبير في القرآن الكريم.
ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسره لما حفظه أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآيات، وحين يسري عنه يمليها على الصحابة، ويظل يقرؤها كما هي، ولولا أن الله قال له :
﴿ سنقرئك فلا تنسى " ٦ " ﴾( سورة الأعلى ) : ما تيسر له ذلك.
ونحن في حفظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً، فالصبي في سن السابعة يستطيع حفظ القرآن وتجويده، فإن غفل عنه بعد ذلك تفلت منه، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه.
إذن : مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على ود وألفة بكتاب الله ظل معك، وإن تركته وجفوته تفلت منك، كما جاء في الحديث الشريف : " تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها ".
ذلك ؛ لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق، إنما حروف القرآن ملائكة تصف، فتكون كلمة، وتكون آية، فإن وددت الحرف، ووددت الكلمة والآية، ودتك الملائكة، وتراصت عند قراءتك.
ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إن أعملت عقلك في القرآن تتخبط فيها وتخطئ، فإن أعدت القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك.
وتلحظ هنا أن القرآن لم يأت باللفظ الصريح، إنما جاء بضمير الغيبة في ﴿ يسرناه.. " ٩٧ " ﴾( سورة مريم ). لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن، كما في قوله تعالى :
﴿ قل هو الله أحد " ١ " ﴾( سورة الإخلاص ) : فضمير الغيبة هنا لا يعود إلا على الله تعالى. وقوله :
﴿ بلسانك " ٩٧ " ﴾( سورة مريم ) : أي : بلغتك، فجعلناه قرآنا عربياً في أمة عربية ؛ ليفهموا عنك البلاغ عن الله في البشارة والنذارة، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي.. " ٤٤ " ﴾( سورة فصلت ).
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وتنذر به قوماً لداً " ٩٧ " ﴾( سورة مريم ) :
والإنذار : التحذير من شر سيقع في المستقبل، واللدد : عنف الخصومة، وشراسة العداوة، نقول : فلان عنده لدد أي : يبالغ في الخصومة، ولا يخضع للحجة والإقناع، ومهما حاولت معه يصر على خصومته.
الحق تبارك وتعالى يسري عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يلاقي من عنت في سبيل دعوته، كأنه يقول له : إياك أن ينال منك بغض القوم لك وكرههم لمنهج الله، إياك أن تتضاءل أمام جبروتهم في عنادك، فهؤلاء ليسوا أعز من سابقيهم من المكذبين، الذين أهلكهم الله، إنما استبقى هؤلاء لأن لهم مهمة معك.
وسبق أن أوضحنا أن الذين نجوا من القتل من الكفار في بعض الغزوات، وحزن المسلمون لنجاتهم، كان منهم فيما بعد سيف الله المسلول خالد بن الوليد.
يقول تعالى :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ.. " ٩٨ " ﴾( سورة مريم ) : كم : خبرية تفيد الكثرة، من قرن : من أمة.
﴿ هل تحس منهم من أحدٍ.. " ٩٨ " ﴾( سورة مريم ) : لأننا أخذناهم فلم نبق منهم أثراً يحس.
ووسائل الحس أو الإدراك كما هو معروف : العين للرؤية، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للتذوق، واليد للمس، فبأي أداة من أدوات الحس لا تجد لهم أثراً. وقوله :﴿ أو تسمع لهم ركزاً " ٩٨ " ﴾
( سورة مريم ) :
الركز : الصوت الخفي، الذي لا تكاد تسمعه. وهذه سنة الله في المكذبين من الأمم السابقة كما قال سبحانه :﴿ أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين " ٣٧ " ﴾( سورة الدخان ).
أين عاد وثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد ؟ وأين فرعون ذو الأوتاد ؟ فكل جبار مهما علت حضارته ما استطاع أن يبقي هذه الحضارة ؛ لأن الله تعالى أراد لها أن تزول، وهل كفار مكة أشد من كل هؤلاء ؟
لذلك حين تسمع هذا السؤال :﴿ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً " ٩٨ " ﴾( سورة مريم ) :
لا يسعك إلا أن تجيب : لا أحس منهم من أحد، ولا اسمع لهم ركزاً.
Icon