تفسير سورة مريم

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة مريم من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
عونك اللهم وتأييدك، وصل على محمد وآله.
قال أبو محمد، مكي بن أبي طالب رضي الله عنه :
سورة ( مريم ) : مكية١.
وكان نزولها قبل أن يهاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، لأنهم قرأوا صدرها على النجاشي٢ بعد هجرتهم إلى أرض الحبشة.
١ انظر: مكيتها في: تفسير القرطبي ١١/٧٢ والبحر المحيط ٦/١٧٢ والدر المنثور ٤/٢٥٨..
٢ النجاشي لقب ملك الحبشة، وهو الملك الذي هاجر إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة الإسلامية بمكة خوفا من بطش قريش، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق"، انظر: تهذيب سيرة ابن هشام: ٨١..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة مريم
عونَك اللهم وتأييدَك، وصل على محمد وآله.
قال أبو محمد، مكي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
سوره "مريم": مكية.
وكان نزولها قبل أن يهاجر أصحاب النبي - ﷺ - إلى أرض الحبشة، لأنهم قرأوا صدرها على النجاشي بعد هجرتهم إلى أرض الحبشة.
قوله تعالى ذكره: ﴿كهيعص﴾ الآية.
قرأ بعض القراء بإمالة الهاء والياء. وعلة الإمالة أنها أحرف مقصورة، فإذا ثنيت، ثنيت بالياء، فشابهت ما ثني بالياء من الأسماء، فأميلت لذلك. وعلة..
4487
الإمالة فيها عند الخليل وسيبويه أنها أسماء للحروف، فجازت إمالتها ليفرق بينها وبين الحروف التي لا يجوز إمالتها نحو: ما ولا وإلا بمعنى الذي، لا يحسن عندهما إمالة شيء من هذا فإن سميت بشيء منها جازت الإمالة.
ولا يحسن إمالة كاف ولا قاف وصاد، لأن الألف متوسطة. وهذه الحروف عند ابن عباس مأخوذة من أسماء دالة، على ذلك. فالكاف تدل على كبير.
وقيل: الكاف تدل على كاف. قاله ابن جبير والضحاك.
4488
وروي أيضاً عن ابن جبير، أن الكاف تدل على " كريم "، وقال ابن عباس وابن جبير: الهاء تدل على هاد، وكذلك قال الضحاك.
وقال ابن جبير: الياء من حكيم.
وعن الربيع بن أنس ان الياء من [قولك]: يا من يجير ولا يجار عليه.
وقال ابن عباس وابن جبير: العين من عالم.
وعن ابن عباس أيضاً: العين من عزيز.
وقال الضحاك: العين من عدل.
وقال ابن عباس وابن جبير: الصاد من صادق.
4489
وعنه أيضاً: الكاف، كاف، والهاء، هاد. والياء، يد من الله على خلقه.
والعين، عالم بهم والصاد، صادق فيما وعدهم.
وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنهـ: ﴿كهيعص﴾ كله اسم من أسماء الله.
وروي عنه أنه كان يقول: (يا كَهَيعَص) اغفر لي.
وعن ابن عباس أنه قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وقال أبو العالية: كل حرف على حدته اسم من أسماء الله وقال
4490
قتادة: ﴿كهيعص﴾ اسم من أسماء القرآن. و ﴿كهيعص﴾ تمام عند الأخفش، وموضعها رفع عنده والتقدير: وفيما نقص عليكم، ﴿كهيعص﴾ وليس بتمام عند الفراء، لأن ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ خبره.
قوله تعالى ذكره: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ إلى ﴿واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾.
" ذِكْر " مرفوع عند الفراء على خبر ﴿كهيعص﴾. ورد هذا القول الزجاج، لأن {﴿كهيعص﴾ ليس مما أثنى الله به على زكريا، وليس " كهيعص " في شيء من قصة زكريا. وقال الأخفش: التقدير: وفيما يتلى عليكم، ذكر رحمة ربك عبده زكرياء.
4491
و [قيل] التقدير: هذا الذي يتلى عليك، ذكر رحمة ربك عبده زكريا. والتقدير: وفيما يتلى عليك يا محمد، ذكر ربك عبده زكريا برحمته.
قوله: ﴿نِدَآءً خَفِيّاً﴾.
أي: جعاه سراً كراهية الرياء. قاله ابن جريح وغيره.
وقال السدي: رغب زكريا في الولد، فقام يصلي، ثم دعا ربه سراً فقال: " ربيِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنَّي " إلى قوله " واجْعَلْهُ رّبِّ رَضِيّاً ".
ومعنى " وَهَنَ الْعَظْمُ " ضعف ورق من الكبر.
وقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾.
أي: كثر الشيب في الرأس. ونصب " شيباً " على المصدر، لأن معنى اشتعل، شاب.
وقال الزجاج: نصبه على التمييز. أي: اشتغل من الشيب.
4492
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن زكريا كان من أولاد هارون من أحل أحبار بني إسرائيل، ثم تنبأه الله جلّ ذكره.
قوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾.
أي: لم أشق بدعائي إياك قط، لأنك عودتني الإجابة إذا دعوتك حاجتي.
ثم قال تعالى حكاية عنه: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآءِى﴾ أي: أني خفت بني عمي وعصبتي من بعدي أن يرثوني.
وقيل: " من [ورائي ": من قدامي].
قال ابن عباس /: الموالي هنا، الكلالة الأولياء، خاف أن يرثوه، فوهب الله له يحيى.
وقيل: إنما خاف أن تقطع النبوة من ولده، وترجع إلى عصبته من غير ولد يعقوب، فأجاب الله دعاءه بعد أربعين سنة فيما ذكر ابن وهب وغيره.
4493
وقيل: بعد ستين سنة.
وقيل: معناه، خفت بني عمي عن الدين: يعني شرارهم فسأل الله تعالى في ولد يقوم بالدين بعده، ويرث النبوة من آل يعقوب، وقال أبو صالح، خاف موالي الكلالة. والموالي والأولياء سواء في كلام العرب.
وقيل للعصبة موالي، لأنهم يلون الميت في النسب.
وروي عن عثمان (Bهـ) أنه قرأ ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآءِى﴾ (بفتح الخاء، وتشديد الفاء، وإكسار التاء وإسكان الياء) وهي قراءة ويد بن ثابت وسعيد بن جبير، جعل الفعل للموالي، أي: إني قَلَّتْ الموالي الأويلء من بعدي فليس لي وارث.
ثم قال: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾.
أي: هب لي وارثاً ومعيناً يرثني في مال]، و " يَرِثُ من آل يعقوب "، يعني النبوة. وكان زكريا (عليه السلام) من ولد يعقوب، وهو زكريا بن آذن، وعمران من ماثان من ولد أيوب النبي ﷺ.
من سبط يهوذا بن يعقوب، وكان زكريا وعمران في زمن واحد، فتزوج زكريا أشياع بنت عمران أخت مريم ابنة عمران، واسم أمها - امرأة عمران -
4494
حنة. فيحيى وعيسى ابنا خالو. وكان زكريا نجاراً. وكفل مريم بعد موت أبيها، لأن اختها عنده، ولأن قلمه خرج دون أقلامهم. فلما حملت مريم بعيسى، أشاعت اليهود أنه ركب من مريم الفاحشة فقتلوه في جوف شجرة، فقطعوه وقطعوها معه.
قال قتادة: كان النبي ﷺ إذا قرأ هذه الآية وأتى على ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ قال: " يرحم الله زكريا ما كان عليه من ورثه، ويرحم الله لوطاً. إن كان ليأوي إلى ركن شديد.
وقال السدي: " يرثني ويرث من آل يعقوب " أي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب.
وقيل: يرث حكمتي، ويرث نبوة آل يعقوب.
وقد أنكر قوم رواثة النبوة إلا بعطية من الله، ولة ورثت بالنسب لكان الناس كلهم أنبياء، لأنهم أولاد نبي وهو آدم ونوح. وأنكر آخرون وراثة المال في هذا
4495
لقوله ﷺ: " نحن معشر لا نورث، ما تركنا صدقة ". وهذا الحديث يجب أن يكون حكمه مخصوصاً للنبي ( ﷺ)، وأخبر عن نفسه على لفظ الجماعة.
وفي بعض الروايات: " إِنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة " ويحتمل أن تكون هذه شريعة كانت ونسختها شريعة محمد ﷺ بمنع وراثته.
وقال القتبي: معناه: يرثني الحبورة.
ثم قال: ﴿واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾.
أي: ترضاه أنت ويرضاه عبادك، ديناً وخلقاً وخُلقاً وهو فعل مصروف من مفعول. وأصله رضيو، منقول من مرضي واصل مرضي، مرضو. ثم رد إلى الياء لأنها أخف.
قوله تعالى ذكره: ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾.
أي: إِنا نبشرك بهبتنا لك غلاماً اسمه يحيى.
4496
قال قتادة: إِنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان.
وقيل: سمي بذلك لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها.
ثم قال تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾. أي: لم تلد العواقر ولداً، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: لم نجعل له من قبل مثلاً ولا شبيهاً.
وقيل: المعنى، لم نأمر أحداً يسمي ابنه يحيى قبلك.
وقال قتادة وزيد بن أسلم والسدي: معناه: لم يسم أحد يحيى قبله.
ثم قال: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾.
أي: آل زكرياء: يا رب، من أي وجه يكون لي غلام وامرأتي عاقر لا تحمل،
4497
وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء. كأنه يستثبت الخبر من عند ربه. كيف يأتي هذا الغلام؟ أيحدث فيه قوة يقوى بها على مباضعة النساء ويجعل امرأته ولوداً؟ أو يتزوج / غيرها ممن تلد؟ أو كيف ذلك؟ على طريق الاسترشاد لا على طريق الإنكار، لأنه هو الراغب في ذلك إلى الله. فلا يجوز الإنكار فيه البتة.
وقيل: قال ذلك على طريق التعجب من قدرة الله إذا امرأته عاقر.
قال السدي: نادى جبريل ﷺ زكرياء: ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾. فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس من الله، إنما هو من الشيطان سخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك ما يوحى إليك غيره من الأمر فشك مكانه وقال: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾.
وقوله: " عُتِيّاً " أي قد عتوت من الكبر فصرت يابس العظام. يقال للعود اليابس، عود عات وعاس.
وقال قتادة: " عُتِيّاً نسئاً، وكان ابن بضع وسبعين سنة. وقيل: سبعين سنة.
4498
ثم قال تعالى: ﴿كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾.
الكاف في موضع رفع. والمعنى، قال: الأمر كذلك، أي: الأمر كما قيل لك. أي: أهب لك غلاماً اسمه يحيى، هو عليّ هين. أي: خلقه عليّ هين. ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ أي: ليس خلقنا لغلام نهبه لك بأعجب من خلقنا إياك ولم تك شيئاً موجوداً. هو نفي للعين عام. ولو قال: " ولم تك رجلاً أو إنساناً " لم يكن ذلك نفيا للعين ولا نفياً عاماً. فافهمه.
قوله تعالى ذكره: ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس﴾. إلى قوله: ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾.
أي: اجعل لي علامة على وقت الهبة، ودليلاً على أن ما بشرتني به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ومتى يكون.
قال ابن زيد: " اجعل لي آية أن هذا منك "، وكذا قال السدي.
﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾.
أي: علامة ذلك وصحته أنك لا تكلم الناس ثلاث ليال، بلا علة بك من خرس ولا مرض يمنعك الكلام.
4499
قال ابن عباس: " اعتقل لسانه من غير مرض ".
وقال مجاهد: " سوياً ": صحيحاً لا يمنعكم من الكلام مرض ".
وقال قتادة: " سوياً ": من غير خرس ولا بأس، إنما عوقب إذ سأل آية بعد مسافهته الملائكةبذلك، أخذ لسانه حتى كان يوميء إيماءً ".
قال ابن زيد: " حبس لسانه فكان لا يستطيع أن يسلم أحداً، وهو في ذلك يسبح ويقرأ التوراة، فإذا أراد كلام الناس، بم يستطع [أن] يكلمهم. وكذلك قال السدي. وقيل: المعنى، ثلاث ليال متتابعات.
فسوياً من نعت الليالي. وعلى القول الأول يكون " سوياً " حالاً من المخاطب. والتقدير فيه التقديم. أي: آيتك ألا تكلم الناس سوياً ثلاث ليال.
4500
ثم قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب﴾. أي: فخرج زكريا على قومه من مصلاه الذي جلس فيه حين حبس لسانه عن كلام الناس.
ذوقال ابن جريج: معناه، أشرف على قومه من المحراب والمحراب عند أهل اللغة، مكان مرتفع.
وقوله: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾.
أي: أوحى إليهم، قاله قتادة وقال الضحاك: " كتب لهم.
وقال مجاهد ووهب بن منبه: " أشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً "، أي: صلوا بكرة وعشياً. والصلاة تسمى سبحة.
وقيل: " أمرهم بالتسبيح بذكر الله طرفي النهار ". وهذا يدل على أن الإشارة ليست بكلام.
يقال: أوحى ووحى. وأومى وومى.
4501
ثم قال: ﴿يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ﴾.
والتقدير: قوله له يحيى، فقال الله تعالى له: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " أي بجد وعزم. قاله قتادة ومجاهد.
ذوقال ابن زيد: " القوة: أن يعمل ما أمره الله ويجتنب ما نهاه عنه ".
ثم قال: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾.
أي: أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه.
قال معمر: " بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال أللعب خُلقت؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾.
قال قتادة: " كان ابن سنتين أو ثلاث ".
قال مالك: " بلغني أن يحيى بن زكريا، إنما قتل في امرأة، وأن بخت نصر لما دخل بيت المقدس بعد زمان طويل وجد دمه يفور لا يطرح عليه تراب ولا شيء إلا
4502
فار وعلا عليه، فلما رآه بني إسرائيل فسألهم فقالوا لا علم لنا / هكذا وجدناه، وأخبرنا به آباؤنا عن آبائهم أنهم هكذا وجدوه.
قال بخت نصر: هذا دم مظلوم، لأقتلن عليه. فقتل [عليه] سبعين ألفاً من المسلمين والكفار فهدأ الدم بعد ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا﴾ قال ابن عباس معناه: " ورحمة من عندنا "، وهو قول عكرمة وقتادة والضحاك.
وقيل معناه: ورحمة من عندنا لزكريا، آتيناه الحكم وفعلنا به ما فعلنا، روي ذلك عن قتادة.
وقال مجاهد: " معناه، وتعطفاً من عندنا عليه فعلنا ذلك ".
4503
وقال ابن زيد: " معناه، ومحبة له من عندنا "، روي ذلك أيضاً عن عكرمة.
وعن عطاء أن معناه: " وتعظيماً من عندنا له ".
وقيل معناه آتيناه رحمة بالعباد وتحنناً عليهم ليُخلضهم من الكفر إلى الإيمان.
وعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الحنان.
وقاله عكرمة أيضاً مرة.
وقول العرب " حنانيك " لغة في حنان، وليس بتثنية. وأصل الحنان من قولهم: حن إلى كذا، إذا ارتاح إليه. ويحن على فلان، إذا تعطف عليه. والحنان مصدؤ من حننت أحن حنيناً وحناناً، ومنه قيل لزوج الرجل حنته لتحننها عليه وتعطفها.
وقوله: ﴿وَزَكَاةً﴾ قال قتادة: " العمل الصالح ".
وقوله: ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ أي خائفاً مؤدياً فرائضه.
4504
قال ابن عباس: " طهر فلم يعمل بذنب، فهو الزكاة ".
وقوله: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ﴾.
أي: مسارعاً في طاعتهما غير عاق لهما ".
﴿وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً﴾.
أي: متكبراً عن طاعة الله، ولا عصياً لربه.
ثم قال: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾.
أي: أمان له من الشيطان حين وُلد فلم يُذنب، ولا يأتي في الآخرة بذنب.
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ أ]: وأمان له من الله من فتاني القبر.
﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ﴾.
أي: وأمان له من العذاب يوم يبعث فلا يروعه شيء.
قال ابن عيينة: " أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد، فيرى
4505
نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في حشر عظيم. فخض الله تعالى يحيى بالأمان في هذه الثلاثة مواطن، وهي الفضيلة التي فضل الله بها يحيى. وروي أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا، فقال عيسى استغفر لي، أنت خير مني. وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني؟ سلمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فعرف الله فضلها. فقال النبي ﷺ: " كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إى يحيى بن زكرياء ".
وقال ﷺ: " ما من أحد يقلى الله تعالى يوم القيامة إلا وأذنب إلا يحيى بن زكرياء، ما أذنب ولا هم بامرأة ". وهو قوله تعالى: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾، أي أمان له وعصمة من الشيطان ألا يحمله على ذنب و " يوم يموت " من عذاب القبر "، ويوم يبعث " من هول المحشر.
وقد قيل: المعنى، ورحمته، وسلامته عليه يوم ولد، وذلك تفضل من الله غير جزاء له على عمله، إذ لم يعمل بعد شيئاً.
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾.
هو جزاء من الله له بعمله وسعيه.
4506
وروى ابن وهب عن مالك بن أنس عن حميد بن قيس عن مجاهد، أنه [قال]: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإن كان ليبكي من خسية الله ما لو كان القار على عينيه لحرقه. ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في وجهه.
قال أبو ادريس الخلاني: أطيب الناس طعاماً يحيى بن زكرياء. إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس معايشهم.
قال ابن وهب أن ابن شهاب قال: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى بيسير.
قوله تعالى ذكره: ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾.
4507
والمعنى: واذكر يا محمد في الكتاب الذي أنزل إليك مريم حين اعتزلت من أهلها، وانفردت في مكان شرقي، أي في شرقي المحراب.
وقال السدي: " خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ".
وقال قتادة: " شرقياً " قبل المشرق شاسعاً ".
وقيل: إنما صارت بمكان يلي المشرق، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيراً مما يلي المغرب /.
وقال ابن عباس: أظلها الله بالشمس، وجعل لها منها حجاباً ".
وهو قوله: ﴿فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً﴾ أي: ستراً يسترها عن الناس.
ويروى أن مريم كانت في منزل زكرياء، وكان زوج أختها، وكان لها محراب تصلي فيه، وكان زكرياء إذا خرج أغلق عليها الباب، فآذاها يوماً القمل في رأسها فتمنت لو وجدت خلوة إلى الجبل تفلي فيه رأسها، فانفرج لها السقف وخرجت والبيت مقفل في يوم شديد البرد، فجلست في شرفة من الشمس، وأتى زكرياء فلم يجدها فبينما هي جالسة إذ أتاها جبريل ﷺ في صورة البشر في أحسن صورة شاب
4508
مقصص عليه البياض وعليه تاج مكلل بالدر والياقوت، ومريم يومئذ بنت أربع عشرة سنة، فلما أن رأت جبريل عليه السلام يصعد نحوها نادته ﴿إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾. أي إن كنت تتقي الله فكان من شأنها ما قصّ الله علينا.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾.
قال قتادة وابن جريج ووهب بن منبه: هو جبريل ﷺ.
وقيل: الروح: عيسى، لأنه روح الله وكلمته أَلقاها إلى مريم.
وقيل: معناه، فدخل الروح في مريم فتمثل لها بشراً سوياً. أي تمثل فيها، يعني عيسى.
قال أبي بن كعب: " كان روح عيسى بن مريم من الأرواح التي أخذ الله تعالى ذكره عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل من فيها، فحملت بعيسى عليه السلام ". والله أعلم بذلك كله.
والصحيح أنه جبريل عليه السلام لقوله: " فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً " لأن عيسى بشر، ومعناه
4509
فتشبه لها في صورة آدمي، سوي الخلق، معتدلة. وإنما سمي جبريل ﷺ روحاً، لأنه يأتي بما يحيي به العباد من الوحي، ولهذا سمي عيسى أيضاً روحاً، وسمي القرآن روحاً.
وقيل: إنما اعتزلت لتغتسل من الحيض.
وقيل: لتخلو بالعبادة.
ثم قال: ﴿قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾. والمعنى: أن مريم خافت من جبريل لما رأته في هيئة آدمي.
قال قتادة: " خشيت أن يكون يريدها على نفسها ".
وقال السدي: " فزعت منه لما رأته، فتعوذت بالرحمن واستجارت به منه ".
ومعنى: ﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أي: إن كنت ذا تقوى وخوف من الله، تتقي محارمه.
وقيل: المعنى: إني أستجير بالله منك إن كنت تتقي الله في استجارتي به منك.
قال وهب بن منبه: " هو رجل من بني آدم معروف عندهم بالشر اسمه " تقي ".
4510
ف " إن " على هذه الأقوال للشرط، وما قبلها جواب للشرط.
وقيل: ﴿إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ معناه: ما كنت.
[قوله]: قَالَ: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾.
من قرأ بالهمز في لأَهَبَ، فإنه أسند إلى جبريل ﷺ، إذ قد علم أن الهبة أصلها من الله.
والتقدير: إنما أنا رسول ربك أرسلني لأهب لك.
وقال أبو عبيد: التقدير في هذه القراءة: إنما أنا رسول ربك، يقول لك: أرسلته إليك لأهب لك غلاماً.
4511
فأما من لم يهمز، فيحتمل أن يكون على أحد هذين المعنيين المتقدم ذكرهما في الهمز، لكن خففت الهمزة، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف تقديره: بعثني لِيَهَبَ لك.
وكذا حكى أبو عمرو عن ابن عباس.
و" الزكي ": الطاهر من الذنوب.
﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾.
أي: قالت مريم: من أي وجه يكون لي غلام؟ أَمِنْ قبل زوج أرزقه منه؟ أم يبتدئ الله خلقه ابتداء، ولم يمسسني بشر من بني آدم بنكاح حلال. " ولمَ ألكُ بَغيّاً " أي لم يمسسني أحد في حرام.
قال السدي: [﴿بَغِيّاً﴾ زانية].
و ﴿بَغِيّاً﴾ فعول. وفعول يقع للمؤنث والمذكر بغير هاء.
كقولك: امرأة شكور، ورجل شكور. ولا يجوز أن يكون " بغي " فعيلاً، لأنه يلزم فيه دخول الهاء ككريمة ورحيمة. ولا يلزم ذلك في فعول. فدل حذف الهاء منه على أنه فعول، وليس بفعيل. وأصله بغوى، ثم وقع القلب والإدغام على الأصول
4512
المعروفة عند أهل العربية /.
قوله تعالى ذكره: ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ﴾ إلى قوله: ﴿نَسْياً مَّنسِيّاً﴾.
أي: قال: الأمر كما قيل لك، أن الله يهب لك غلاماً زكيا.
﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي: سهل.
﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ﴾ أي: ولنجعل هذا الغلام حجة على الناس ﴿وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ أي: ورحمة منا لك، ولمن آمن به.
﴿وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾.
أي: كان خلقه منك بغير ذكر أمراً قد قضاه الله في سابق علمه أنه يكون على ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً﴾.
في الكلام حذف، تقديره: فنفخنا فيها من روحنا بغلام ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ﴾ أي: اعتزلت به مكاناً قصياً، أي: مبتاعداً عن الناس [نائياً]، وهو بيت لحم، أقصى
4513
الوادي. فنظرت إلى أكمة /، فصعدت عليها مسرعة، وإذا على الأكمة جذع نخلة، فاستندت إلى الجذع. وهو قوله: ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة﴾. فجزعت عند شدة الولادة، وخوف ما يقول النس، فقالت: ﴿ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾. فسمع جبريل ﷺ كلامها، فنادها من تحتها ﴿أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ أي: جدولاً، وهو النهر الصغير. قم قال لها: ﴿هزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾، فعجبت من قول جبريل ﷺ، لأنه كان جذعاً قد قد نخر ليس فيه سعف، فلما هزته، نظرت إلى السعف قد أطلع من بين أعلى الجذع، وقد أخضر، ونظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف أبيض، ثم نظرت إليه قد اخضرّ بعد البياض، فصار بلحاً، ثم نظرت إلى البلح قد احمرّ بعد الخضرة، ثم نظرت إليه قد صار بسراً، ثم تظرن إلى البسر قد احمرّ، ثم نظرت إليه قد صار رطباً، وكذلك كله في أقل من ساعة.
وقيل: كان ذلك كله في أقل من طرفة عين. فجعلت الرطب تسقط بين يديها، فطابت نفسها لما رأت من الآيات.
قال وهب بن منبه: " نفخ جبريل ﷺ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم. قال وهب: لما قال لها جبريل ﴿قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ استسلمت لأمر الله،
4514
فنفخ في جيبها وانصرف عنها ".
وقال السدي: " فخرجت وعليها جلبابها لما قال لها جبريل عليه السلام ذلك، فأخذ كمها، فنفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت فأتتها أختها - امرأة زكريا - تعودها، فلما فتحت لها الباب، التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم: أشعرت أيضاً أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله تعالى:
﴿مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله﴾ [آل عمران: ٣٩].
قال ابن جريج: " إنما نفخ جبريل في جيب درعها ورحمها ".
قال السدي: " لما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه ".
قوله: ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة﴾.
4515
أي: جاء بها المخاض إلى جذع النخلة. والهمزة دخلت لتعاقب الباء.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: المعنى: أَلجأها. و " المخاض ": " الحمل ".
وقال قتادة: ﴿فَأَجَآءَهَا﴾ " اضطؤها ".
وذكر بعض أهل الأخبار أنها اعتزلت، وذهبت إلى أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشام وذكر أنها هربت من قومها لما حملت، فتوجهت نحو أرض مصر.
قال وهب بن منبه: " لما اشتملت مريم على الحمل، كان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى الجبل الذي عند صيهور، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم. وكان مريم ويوسف يخدمان في ذلك
4516
المسجد، في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم. فرغبا في ذلك. فكانا يليان معالجة ذلك بأنفسهما وتحبيره وكناسته، وكل عمل يعمل فيه. وكلان لا يعمل من أهل زمانها أحد أشد اجتهاداً وعبادة منهما.
فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف. ولما رأى الذي بها، استعظمه، ولم يدر على ما يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط /، وإذا أراد يبرئها رأى الذي ظهر عليها. فلما اشتد ذلك عليه كلّمها. فكان أول كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث في نفسي من أمر أمر، وقد خشيت، وقد حرصت على أن أكتمه وأميته في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام أشفى فيه لصدري. قالت: فقل قولاً جميلاً. قال: ما كنت أقول لك إلا ذلك. فحدثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم. قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر؟ أولم تعلم ان الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده؟ أو تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء؟ ولولا ذلك لم يقدر
4517
على إنباته؟ قال يوسف: لآ أقول هذا، ولكني أعلم أن الله يقدر على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون. قالت له: أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير أثنى ولا ذكر قال: بلى. فلما قالت له ذلك، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله.
ثم دنا نفاسها فأوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك، عيروك، وقتلوا ولدك. فأفضت ذلك إلى أختها، وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى، فلما التقتا، وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجداً معترفاً بعيسى. فاحتملها يوسف ذإلى ارض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف شيء. فلما ذكان بقرب أرض مصر، في منقطع بلاد قومها، أدرك مريم النفاس، فألجأها إلى حمار أو مذوده وأصل نخلة. فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شسدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة قاموا صفوفاً محدقين بها.
وعن وهب أنها قالت له عند سؤاله: إن الله تعالى خلق البذر قبل الزرع، وإن الله خلق الحبة من غير مطر، وإن الله خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر.
4518
وعن وهب أيضاً أنه قال: لما حضر ولادتها، وجدت ما تجده المرأة من الطلق، فخرجت من المدينة حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم. فأجأها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود مقرة وتحتها نبع من الماء فوضعته عندها.
وقد قال السدي لما حضر وضعها إلى جانب المحراب الشرقي منه أتت أقصاه.
وقيل: إن عيسى ولد بمصر بكورة أهناس، ونخلة مريم قائمة بها إلى اليوم. والله أعلم بذلك كله.
قال ابن عباس: ليس إلا أن حملت فولدت في ساعة.
وعن مجاهد، أنها حملته ستة أشهر، فكانت حياته آية له لأنه لا يعيش من
4519
ولد من ستة أشهر.
وقال غيره أقامت ثمانية أشهر، وذلك آية لعيسى أيضاً، لأنه يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش.
وقوله: ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض﴾ يدل على طول المكث.
قال مجاهد: كان حمل النخلة عجوة.
وقيل: كان جذعاً بلا رأس، وكان ذلك في الشتاء، فأنبت الله له رأساً، وخلق فيه رطباً؟ في غير وقته.
وروي أنها لما رأت الآية في الرطب والجذع طابت نفسها.
وقالت: ليس ولادتي هذا الغلام من غير أب أعجب من هذا الجذع البالي، فأكلت من الرطب، وشربت من النهر.
وقوله: ﴿ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا﴾ [أي: قبل هذا] الطلق، استحياء من الناس قاله
4520
السدي.
﴿وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾.
أي: لم أخلق ولم أكن شيئاً.
قال السدي: معناه نسى ذكري وأمري، فلا يرى لي أثر ولا عين.
وقال قتادة: معناه: وكنت شيئاً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري من أنا.
وقال مجاهد وعكرمة: حيضة ملقاة.
والنسي عند أهل اللغة، ما طال مكثه فنسي. ويكون لنسي الشيء الحقير الذي لا يعبأ به.
وقرأ محمد بن كعب: " نِسْئاً " بالهمز وكسر النون. وكذا قرأ أيوب، إلا أنه فتح النون وهو من نسأه الله إذا أخره. / وإنما تمنت الموت وقد علمت أن الرضى
4521
بقضاء الله واجب عليها لآنها كرهت أن يعصى الله فيها وفيما يقول قومها فيها إذ جاءت بولد من غير ذكر، فشق عليها أن يأثموا فيها ويعضوا الله من أجلها فيما يرمونها به لا أنها سخطت قضاء الله فيها، إذ هي تعلم أن الله تعالى لم يختر لها إلا ما فيه الخيرة والصلاح لها. فتمنيها للموت إنما هو طاعة لله لأن من كره أن يعصى الله فيه فقد أطاع الله.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ إلى قوله: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾.
من قرأ " مَنْ تَحْتَهَا " بالفتح " أراد فناداها عيسى ". كذلك تأويله أُبي بهذا كعب والبراء بن عازب والنخعي، وبذلك قرؤوا. ومن قرأ بكسر الميم والتاء، أراد
4522
فناداها جبريل. كذلك قال ابن عباس والضحاك.
وقال مجاهد: هو عيسى عليه السلام.
قال الضحاك: كان جبريل ﷺ أسفل منها، فناداها من ذلك الموضع " ألاّ تحزني ".
وقال أبو عبيد: من كسر الميم والتاء، يجوز في قراءته أن يكون لجبريل ولعيسى عليهما السلام. ومن فتحهما، هو لعيسى خاصة، والاختيار عند أهل النظر في الكسر أن يكون لعيسى مثل الفتح، أي: فناداها عيسى من تحتها.
وقرئ بذلك لتقدم ذكر عيسى ولم يتقدم ذكر جبريل إلا فيما بعد، عند قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ فالحمل على الأقرب أولى من الأبعد.
قال ابن زيد: قال لها عيسى: لا تحزني، قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج، فأقول من زوج، ولا مملوكة فأقول من سيدي، أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.
قال البراء: " السري " الجدول، وهو النهر الصغير. وبذا قال ابن عباس
4523
وغيره، وهو بالنبطية.
وقال مجاهد: " السري " النهر بالسريانية.
وقال قتادة: السري عيسى نفسه. وكذا قال ابن زيد. أي: شخصاً سرياً.
وقال الحسن: كان والله سرياً من الرجال، يعني عيسى. فقيل له: يا أبا سعيد، إنما هو الجدول النهر. فقال: يرحمك الله، إنما تلتمس مجالستكم لهذا.
وقوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾.
يدل على أنه النهر لقوله تعالى بعد ذلك ﴿فَكُلِي واشربي﴾ فكلي من هذا الرطب ةاشربي من هذا الماء وقريّ عيناً بولدك.
4524
وقوله ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾.
من قرأ بالتاء، رده على النخلة ومن قرأ بالياء، رده على الجذع، ومن شدد السين أدغم فيها إحدى التاءين، ومن خفّف، حذف إحدى التاءين كتظاهرون و " رطبا " منصوب على التمييز. وقال المبرد هو مفعول بهزي أي: وهزي إليك رطباً بجذع النخلة.
وقرأه مسروق بن الأجدع " تُسقط " بتاء مضمومة. وحذف الألف فيكون على هذا " رطباً " مفعولاً به. وكذلك هو على قراءة عاصم " تساقط " على تفاعل. قيل: نصبه على التمييز.
4525
وقيل: هو مفعول بـ " هزي "
و ﴿جَنِيّاً﴾ نعت للرطب وهو فعيل بمعنى مفعول، أي: رطباً مجنياً.
والجني: الطري.
" والرطب " يؤنث على معنى الجماعة، ويذكر على معنى الجنس.
وقال أبو وائل: لو علم الله شيئاً أطيب من الرطب لأطعمه مريم ".
وقوله: ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ هو من قررت بالمكان عند الشيباني، أي: قري عيناً. وقيل: هو من قررت به عيناه مشتق من القر أي: بردت عيناً، فلم تسخ بخروج الدمع. ولغة قريش قررت به عيناً أقر وقررت بالمكان أقر.
وأهل نجد يقولون: قررت به عيناً أقر.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾.
أي: " قال لها عيسى ﷺ بعد قوله [لها] أنا أكفيك الكلام، فإما ترين...
4526
الآية ". والظاهر أن يكون هذا الأمر من الله جلّ ذكره لها، والله أعلم بذلك.
فالمعنى: إن رأيت من بني آدم أحداً يسألك. فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً. أي: أوجبت على نفسي للرحمن صوماً. أي: صمتاً: قاله ابن عباس والضحاك.
وقال قتادة صامت من الطعام والشراب والكلام.
وقال ابن زيد: كان في بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم / من الطعام إلا من ذكر الله تعالى فقال لها ذلك.
وأصل الصوم. الإمساك، وإنما أمرها بالصوم عن الكلام لأنه خاف عليها ألا تكون لها حجة فيما جاءت به، فأمرها بالكف عن الكلام ليكفيها ولدها الحجة عنها.
ولا يحل لأحد أن ينذر ترك الكلام يوماً. وإنما جعل الله ذلك آية لمريم خاصة.
وقد قيل: بل كانت ذلك اليوم صائمة عن الطعام والشراب، فأذن لها ألا تكلم الناس ذلك اليوم.
4527
روى يزيد الرقاشي أن أنس بن مالك قال: إذ ولد عيسى أصبح كل صنم يعبد من دون الله خاراً على وجهه، وأقبلت الشياطين غلى إبليس تضرب وجوهها لما حدث.
ومعنى " فَقُولي " أي: أشيري إليهم بذلك، لأنها لو كلمتهم بذلك لتناقض ما عقدت على نفسها من الصمت. وهذا يدل على أن القول قد يكون غير كلام، وهو كثير في كلام العرب.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ إلى قوله: ﴿جَبَّاراً شَقِيّاً﴾.
المعنى: أن عيسى عليه السلام لما قال لها ذلك: اطمأنت وسلمت لأمر الله وحملته حتى أتت به قومها.
قال السدي: " لما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون، فدعوها، فأتت به قومها تحمله ". قالوا: ﴿يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾. أي: جئت بأمر عجيب وعظيم لم يسبق مثلك إلى مثله.
4528
روي أنها خرجت من عندهم ضحى، وجاءت عند الظهر ومعها صبي تحمله فكان الحمل في ثلاثة ساعات من النهار ". وكانت مريم قد حاضت قبل ذلك حيضتين لا غير.
ثم قالوا لها: ﴿يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾. أي يا أخت هارون في الصلاح والعبادة.
قال قتادة: كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل، يسمى هارون، فشبهوها به. قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل سوى من ليس اسمه هارون.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: هو هارون أخو موسى. فقال لها كعب: يا أم المؤمنين، إن كان النبي ﷺ قاله فهو أعلم، وإلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، فسكتت.
وقيل: أريد بهارون هنا أخو موسى نسبت مريم إليه لأنها من ولده كما يقال
4529
للتميمي يا أخا تميم.
قال ابن جبير: كان هارون منهم رجلاً فاسقاً، فنسبوها إليه، وقد غلط بعض المؤلفين في هذا فقال: كان لها أخ صالح يسمى بهارون.
وما علمت أحداً من المفسيرين وأهل التاريخ قال هذا.
" وقال المغيرة بن شعبة: بعثني رسول الله ﷺ إلى أهل نجران فقالوا: ألستم تقرأون يا أخت هارون؟ قلت: بلى، قالوا: وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ قال: فرجعت إلى النبي ﷺ. فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ".
فهذا يدل على أن هارون المذكور في الآية كان رجلاً صالحاً وكانوا يسمون أولادهم بهارون لمحبتهم في ذلك الصالح الذي كان اسمه هارون.
4530
وقوله: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾.
أي: ما كان أبوك رجل سوء فيأتي الفواحش.
﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾. أي زانية.
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾. أي: لما قالوا لها ذلك أشارت لهم إلى عيسى أن كلّموه.
﴿الُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾. قال قتادة: " المهد " هنا حجر أمه.
و" كان " هنا، زائدة. و " صيباً " نصب على الحال، والعامل فيه الاستقرار. والمعنى: كيف نكلم من في المهد صبياً لا يفهم مثله، ولا ينطق لسانه بكلام.
وقيل: إنّ " كان " هنا بمعنى وقع. و " صبياً " نصب على الحال والعامل فيه " كان ". والمعنى على هذا القول: كيف نكلم صبياً قد خلق في المهد.
وقيل إن " من " للشرط. و " صبياً " حال. و " كان بمعنى: وقع وخلق أيضاً. والمعنى على هذا، من كان في المهد صبياً فكيف نكلمه. كما تقول: من كان لا يسمع ولا يبصر فكيف نخاطبه. قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب﴾.
أي: قال عيسى لهم ذلك. وذلك أن مريم لما أشارت لهم إلى عيسى أن
4531
يكلموه، ظنوا أن ذلك / منها استهزاء، فغضبوا.
وقوله: ﴿آتَانِيَ الكتاب﴾.
أي: قضى أن يؤتني ذلك فيما قضى.
قال عكرمة: الكتاب: القضاء.
وقوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً﴾ يدل على أن الخير والشر بقدر من الله وقضاء.
قال مجاهد: أن نفاعاً معلماً للخير حيثما كنت.
وقال محمد بن كعب: لم يبعث الله نبياً إلا أتى على إثره الشدة واحتباس المطر إلا عيسى عليه السلام، فإنه أتى على إثره الرخاء والمطر، وأتت البركات بيمينه.
وقيل: معنى، " مباركاً " ثابت على دين الله وطاعته أينما كنت لأن أصل البركة الثبات على الشيء، مأخوذ من بروك البعير.
وروى ابن وهب، عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى ابن مريم انتهى إلى قرية قد خربت حصونها، وجفت أنهارها وتشيعت شجرها. فنادى يا خراب، أين أهلك؟ فلم يجبه أحد ثم نادى ثانية، فلم يجبه أحد، ثم نادى الثالثة، فنودي يا
4532
عيسى ابن مريم بادوا وتضمنتهم الأرض، وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة يا عيسى ابن مريم فجد.
﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة﴾.
أي: قضى أن يوصيني بذلك.
وقوله: ﴿والزكاة﴾: هي زكاة الأموال.
وقيل: هي تطهير البدن من الذنوب.
﴿مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ أي: وقت حياتي في الدنيا.
﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي﴾ أي: وجعلني براً بوالدتي.
وقد قرأ أبو نهيك، " وَبِرٍّ "، بكسر الباء ةالراء. أي: وأوصاني ببر والدتي.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾.
أي: ولم يجعلني مستكبراً عليه فيما أمرني به منهاني عنه، شقياً. وهذا يدل على أن الله جعل الأشقياء أشقياء، والسعداء سعداء. فهو نص ظاهر في القدر.
قال قتادة: ذكر لنا أن عيسى ﷺ كان يقول: سلوني فإن قلبي لين، وإني صغير في نفسي، مما أعطاه الله تعالى من التواضع. قال: وذكر لنا أن امرأة رأت عيسى وهو يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي
4533
أرضعك. فقال لها عيسى: طوبى لمن تلا كتاب الله، وابتع ما فيه، ولم يكن جباراً شقياً.
ومن قرأ: " وَبِرِّ " بالخفض حسن أن يقف على " أينما كنت " ومن نصبه، لم يقف عليه، لأن " وبراً " منصوب بـ " جعلني.
قوله تعالى ذكره: ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ إلى قوله: ﴿صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾.
معناه: أن عيسى عليه السلام سلّم على نفسه في هذه الأوقات وهي أشد ما يمر على الإنسان في حياته وبعد موته. أي: الأمن علي من الشيطان أن يصيبني في حين ولادتي بسوء، ويوم أموت من هول المطلع، ويوم أبعث يوم القيامة من الفزع.
فأخبرهم أنه سيموت، وأنه يبعث حياً.
ذكر عبيد بن عمير وغيره أن عيسى ﷺ كان يأكل من الشجر ويلبس من الشعر، ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، ولا يخبئ طعام اليوم لغد، وليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب، يبيت حيث يدركه الليل.
4534
ثم قال تعالى: ﴿ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق﴾. أي: هذا الذي وصفت لكم صفته، وأخبرتكم خبره هو عيسى ابن مريم.
ثم قال: ﴿قَوْلَ الحق﴾ من رفع القول. فعلى خبر الابتداء. أي هذا الكلام الذي قصصته عليكم قول الحق. أي قول الله، ف ﴿الحق﴾ هو الله. أي هو كلامه لا كلام غيره من اليهود والنصارى فيما ادعوا في عيسى من الكذب والبهتان /.
ومن نصبه، فعلى المصدر. أي: أقول قول الحق، لا قول اليهود، الذين زعموا أن عيسى عليه السلام كان ساحراً كذاباً. ولا قول النصارى، أنه ولد الله تعالى وجلّ وعزّ عن ذلك.
قال مجاهد: ﴿قَوْلَ الحق﴾. الحق: الله.
أي: قول الله هو الحق. فمن رفع القول حسن أن يقف على مريم، ثم يبتدئ " قول الحق " أي هذا قول الله.
4535
ومن نصب، لم يحسن الوقف على مريم، لأن ما قبله قد قام مقام الفعل الناصب ل: " قول ". وقد أجازه أبو حاتم على إضمار ناصب لقول الحق، كأنه ابتدأ: أقول قول الحق.
وقوله: ﴿الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ أي: يشكون ويختصمون من المراء وهو الخصام والجدال.
قال قتادة: امترت فيه اليهود، فقالوا: ساحر كذاب، وامترت فيه النصارى، فزعموا أنه ابن الله. وذلك أن بني إسرائيل اجتمعوا فأخرجوا منهم أربعة نفر. أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السناء، وهم اليعقوبية فقال له الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه. قال فقال: هو
4536
ابن الله وهم النسطورية. فقال له الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه. فقال هو ثالث ثلاثة. الله إله، وهو إله، وأمه إله. وهم الاسرائيلية ملوك النصارى. قال له الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، وهم المسلمون. فكان لكل واحد منهم أتباع على ما قال.
فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس﴾.
قال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ يعني: اختلفوت فصاروا أحزاباً.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾.
هذا تكذيب للذين قالوا: إن عيسى ابن الله. أي: ما يصلح له أن يتخذ ولداً، بل كل شيء خلقه.
ثم قال سبحانه: ينزه نفسه عما قالوا، أي: تنزيهاً لله أن يكون له ما أضيف إليه من الولد، فقال: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾، ينفي عن نفسه وينزهها عما يقول الظالمون،
4537
وهذا اللفظ ظاهره الحظر، والله لا يحظر عليه شيء، لكنه محمول على معناه. ومعناه النفي، أي: ما كان الله ليتخذ ولداً. فهو نفي عن الله ما لا يليق به وليس فيه في الباطن حظر. ومثله قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ [النساء: ٩٢] معناه النفي، وتقديره: ما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً. فظاهره حظر، ومعناه النفي، ولو كان حظراً لم يستثنى منه الإثبات في قوله " إلا خطأ " والنفي يستثنى منه الاثبات. ومعنى الإثبات في هذا، إجازة وقوعه من المؤمن لا أنه إطلاق له أن يفعل ذلك، وقد مضى ذكر هذا. ومثله ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾ [النمل: ٦٠] ظاهره الحظر. أي لا تفعلوا وهو تعالى لم يحظر على خلقه أن يفعلوا ذلك، وإنما معنى ذلك، النفي عنهم القدرة على اختراع ذلك.
فالمعنى: ما كنتم مخترعين ذلك، ومحدثين له، بل الله اخترعه وأحدثه. وهو كثير في القرآن يقاس عليه ما شابهه.
ثم قال: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.
أي: إذا أراد خلق شيء، فإنما يقول له كن فيكون موجوداً حادثاً لا يتكلف في حدوثه معالجة ولا معاناة تصحيح، والتقدير، إذا قضى أمراً كونه. وقد زل في
4538
هذا بعض الملحدين فقال: هذا يدل على أن الأمر مخلوق، لأنه قال: قضى أمراً. قال: وأمره كلامه، وهذا إلحاد وكفر. ليس قضى في هذا بمعنى خلق، إنما هو بمعنى أراد.
والأمر في هذا إنما أحد أمور المحدثة، لا كلامه - تعالى عن ذلك - فالمعنى: إذا أراد إحداث أمر من الأمور المحدثة، قال له: كن فكان. فكن كلامه. فبهذا يحدث المحدثات. فلو كان الأمر في هذا كلامه، لحدث بكلامه كن، فيصير كلامه يحدث بكلامه، وهذا خلف من الكلام وخطأ ظاهر.
ثم فال تعالى: ﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾.
هذا من قول عيسى لهم. أخبرهم أنه وإياهم عبيد الله. فالعبادة له منا واجبة علينا.
﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي: هذا الذي أوصيتكم به طريق مستقيم ينجوا من سلكه.
فمن فتح " أن " فعلى معنى: / و " لأن الله ".
هذا مذهب الخليل وسيبويه.
وقال الفراء " أن " في موضع خفض عطف على الصلاة. أي: قال عيسى:
4539
أوصاني بالصلاة، وبأن الله ربي وأجاز أن يكون في موضع رفع على معنى: والأمر أن الله.
وحكي عن أبي عمرو أنها في موضع نصب عطف على أمر. أي: وقضى الله أن الله ربي.
وقيل: هي في موضع رفع عطف على عيسى. أي: ذلك عيسى، وذلك أن الله. وهذا ضعيف، لأن المعنى ليس عليه. ومن كسر، فعلى الابتداء، ولم يعطفها على ما قبلها.
وفي حرف ابن مسعود وأبي: " أن الله ربي " بغير واو.
فهذا يدل على صحة الاستئناف.
وقيل: الكسر على العطف على: " قال: إني عبد الله، وقال إن الله ربي ".
و" سبحانه "، وقف عند نافع.
ولا يحسن الابتداء بـ " أن " على قراءة من فتح، إلا على قول الخليل وسيبويه:
4540
لأنهما لا يجعلان في الكلام عطفاً.
وعلى قول الكسائي: الأمر أن الله يحسن الابتداء بها أيضاً.
قوله تعالى ذكره: ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾.
أي: فاختلف المختلفون بعد رفع عيسى ﷺ. فصاروا أحزاباً، وقد ذكر اختلافهم كيف كان.
ثم قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾.
أي: وادٍ في جهنم للكافرين الذين زعموا أن عيسى إله، والذين زعموا أنه ابن الله. ﴿مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يعني يوم القيامة.
ثم قال: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾.
أي: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة إذا عاينوا ما لا يحتاج إلى فكر ولا رؤية. وقد كانوا في الدنيا عمياً عن إبصار الحق، صماً عن سماع الهدى.
قال قتادة: سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.
4541
قال ابن زيد: كانت في الدنيا على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، فلما كان يوم القيامة، أبصروا، وسمعوا فلم ينتفعوا، وقرأ ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ [السجدة: ١٢].
ثم قال تعالى ذكره: ﴿لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: لكن الكافرون في الدنيا في ذهاب مبين عن سبيل الحق.
و ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ وقف حسن. والعامل فيه " أسمع بهم وأبصر " أي: ما أبصرهم وأسمعهم في هذا اليوم، أي: هم ممن يقال ذلك فيهم، ففيه معنى التعجب، ولفظه، لفظ الأمر، ولا ضمير في الفعلين، إذ ليس بأمر للمأمور، إنما هو لفظ وافق لفظ الأمر، وليس به.
ثم قال: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ أي: أنذر هؤلاء المشركين يوم حسرتهم على ما فرطوا في جنب الله إذا رأوا مساكنهم في الجنة قد أوروثها الله أهل الإيمان به، وعوضوا منها منازل في النار، وأيقن الفريقان في الخلود.
قال ابن مسعود: ليسي نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة، وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النالا البيت الذي في الجنة فيقال: / لو آمنتم، فتأخذهم الحسرة، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال لهم: لولا ما منّ به الله
4542
عليكم.
وقيل: ﴿يَوْمَ الحسرة﴾ يوم يعطى كتابه بشماله.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: " يجاء بالموت فيوضع بين الجنة والنار كأنه كبش أملح. قال فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم يؤمر به فيذبح. ٤قال: فيقول: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت. ثم قرأ رسول الله ﷺ: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ الآية. وأشار بيده في الدنيا " يريد الغفلة في الدنيا.
وكذلك رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال:
" يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط. وقال في أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من
4543
مكانهم، وقال في أهل النار، فيطلعون فرحين مسرورين، رجاء أن يخرجوا من مكانهم. وقال فيذبح على الصراط ".
قال ابن عباس: " يصور الله الموت كأنه كبش أملح. فيذبح، فييأس أهل النار من الموت، فلا يرجونه، فتأخذهم الحسرة من أجل الخلود في النار، ويأمن أهل الجنة الموت، فلا يخشونه ".
وقال ابن عباس: " يوم الحسرة " من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله وحذره عباده.
ومعنى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها ولأهل الجنة بالخلود [فيها]. /
وقوله: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ أي: هؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم القيامة.
﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: لا يصدقون بآيات الله ولا بالرجوع إليه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ أي: نفني من على الأرض، فتبقى لا مالك لها غيرنا.
﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾.
4544
اي: يرد هؤلاء المشركون وغيرهم، فيجازي كلاً بعمله. والمعنى: إلى حكم الله يرجعون وقضائه فيهم ومجازاتهم. لم يرد برجوعهم إليه، إلى مكانه، ولا إلى ما قرب منه، إنما رجوعهم إلى جزائه وحكمه فيهم. وكذلك كل ما شابهه.
﴿قُضِيَ الأمر﴾ وقف، إلا أن يجعل " وهم في غفلة " في موضع الحال فلا يقف على ذلك. والتمام " يؤمنون ".
ثم قال تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾.
أي: أتل على هؤلاء قصص إبراهيم وأبيه التي أخبرناك بها في الكتاب المنزل عليك، وكذلك معنى قوله: ﴿واذكر فِي الكتاب﴾ في كل موضع، إنما معناه اذكر لقومك ما أنزل عليك في القرآن من قصة إبراهيم، وموسى وغيرهما.
﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ أي: كان من أهل الثدق في حديثه وأخباره ومواعيده. " نبيئاً " أي: تنبأه الله وأوحى إليه.
ولا يوقف على " نبي " لأن " إذ " متعلقة بما قبلها.
﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ﴾.
أبتِ عند سيبويه لا تقع بالتأنيث إلا في النداء. ويكون للمذكر والمؤنث. و " التاء " عنده عوض من ياء الإضافة. ولذلك لا يجمع بينهما. ووقف ابن كثير بالهاء،
4545
وجميع القراء غيره يقفون بالتء، لأنه مضاف في التقدير.
وقرأ ابن عامر بفتح التاء على تقدير يا أبتاه، فحذف الهاء لأنه واصل وحذف الألف كما تحذف ياء الإضافة، لأنها بدل منها.
وقيل: إنه أبدل من كسرة " التاء " فتحة، ومن " الياء " التي كانت في الأصل ألفاً. ثم حذف الألف، إذ لا يجمع بين الياء والتاء، والألف عوض من الياء. فكما لا تثبت الياء مع التاء، كذلك لا تثبت الألف التي هي عوض من الياء.
وهذا القول أشبه من الأول، وفيهما نظر.
وقوبه: ﴿مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ﴾ يعني الأصنام، لا يسمعك إذا دعوته، ولا بيبصرك إذا أجبته ولا يغني عنك شيئاً: إن نزل بكل أمر أو ضر لم ينفعك ولا دفع عنك شيئاً.
ثم قال: ﴿يا أبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾. يعني: الوحي الذي أوحى الله إليه.
﴿فاتبعني﴾ أي: أقبل قولي، وما أدعوك إليه.
4546
﴿أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾ أي: أبصرك وأرشدك الطريق المستوي الذي لا تضل فيه إن لزمته.
ثم قال: ﴿يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾.
أي: لا تطعه فيم أمرك به فتكون بمنزلة من عبده.
﴿إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾.
أي: عاص. و " عصياً "، فعيل بمعن فاعل. لام الفعل " ياء " أدغمت فيها " ياء " فعيل.
ثم قال: ﴿يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن﴾ الآية... أي: إني أعلم أنك، إن منت على عبادة الشيطان، أن العذاب يمسك فتكون للشيطان ولياً دون الله. فالخوف هنا بمعنى العلم. كما تقع الخشية بمعنى العلم في قوله: ﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ [الكهف: ٨٠].
قوله تعالى ذكره: قال ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم﴾ إلى قوله ﴿أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾.
أي: قال أبوه له حين دعاه إلى الإيمان وترك عبادة الشيطان، أراغب أنت عن عبادة آلهتي يا إبراهيم. ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ﴾ عن ذكر آلهتي بالسوء وغبتك عن عبادتها لأرجمنك " أي: لأسبنك، قاله قتادة والسدي وابن جريح.
4547
وقيل معناه: لأقتلنك.
وقيل معناه: لرجمنك بالحجارة.
ثم قال: ﴿واهجرني مَلِيّاً﴾ أي: واهجرني يا إبراهيم حيناً طويلاً. قاله: مجاهد والحسن وعكرمة. ف " ملياً " ظرف.
وقال ابن عباس: معناه: واهجرني سالماً من عقوبتي إياك، وقاله: قتادة والضحاك.
ف " ملياً " على هذا نصب على الحال من إبراهيم، واختار الطبري هذا القول، واختار النحاس القول الأول.
و" أراغب " رفع بالابتداء، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر، ويجوز أن يكون "
4548
أنت " مبتدأ، و " أراغب " خبره مقدم عليه، وحسن رفع " أراغب " بالابتداء لاعتماد على ألف الاستفهام الذي معناه التقرير.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾. أي: قال إبراهيم لأبيه حين توعده، وامتنع من الإيمان بما جاء به: سلام عليك " أي: أمنة مني لك ان أعادوك فيما كرهت، ولكن سأستغفر لك ربي أي: أسأل لك ربي أن يستر عليك ذنوبك ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ أي: إن ربي عهدته / بي لطيفاً، يجيب دعائي إذا دعوته.
قال ابن عباس وابن زيد: " حفيّاً " لطيفاً يقال حفي به إذا بره ولطف به.
قال السدي: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ﴾ أخره إلى السحر.
﴿ياإبراهيم﴾ تمام عند نافع. وإن شئت ابتدأت يا إبراهيم.
و" سلام عليك " تمام عند ابي حاتم. و " لك ربي " عند غيره التمام.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾. أي: وأجتنبكم وعبادة
4549
ما تدعون [من دون الله] من أوثانكم وأصنامكم. و ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ بإخلاص العبادة له ﴿عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً﴾ أي: عسى أن لا أشقى بدعاء ربي.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾. لي: فحين اعتزل إبراهيم قومه وعباده ما يعبدون من دون الله. ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أي: آنسنا وحشته لما فارق قومه، فوهبنا له إسحاق، وابنه يعقوب.
﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾.
أي: وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلناهم أنبياء.
روي أنه خرج عنهم إلى ناحية الشام بإذن الله له.
ثم قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا﴾.
أي: ووهبنا لجميعهم من رحمتنا. وهو ما بسط لهم من الرزق في الدنيا.
﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ أي: ورزقناهم الثناء الحسن والذكر الجميل من الناس إلى قيام الساعة.
قوله: " ويعقوب " وقف. و " نبيئاً " أحسن منه و " علياً " أحسن منهما.
4550
ثم قال: ﴿واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾.
أي: واقصص على قومك يا محمد نبأ موسى، إنه كان مخلصاً لله عبادته وأعماله كلها. هذه على قراءة من كسر " اللام " في " مخلصاً " ومن فتحها فمعناه: إنه كان مختاراً اختاره الله لكلامه ورسالته.
﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ أي: أرسله الله إلى نبي إسرائيل، وتنبأه.
ثم قال تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن﴾ أي: وكلمناه من جانب الجبل الأيمن، قاله قتادة.
وقال الطبري: يعني يالأيمن هنا: يمين موسى، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال.
﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾، أي: وأديناه مناجياً.
قال ابن عباس: إن الله تعالى أدناه حتى سمع صريف القلم.
وقال أبو صالح: قربه حتى سمع صريف القلم.
4551
وعن مجاهد في معنى ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ قال: بين السماء الرابعة أو قال السادسة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة، فما زال يقرب موسى حتى كان بينه وبينه حجاب وسمع صريف القلم، وقال: أرني أنظر إليك.
وقال قتادة: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ (نجا بصدقه).
وقيل معناه: قربناه في الكرامة والرفعة في منزلة رفيعة، لأن الله تعالى ذكره وجلّ ثناؤه وليس بمحدود، فيكون بعض الأجسام أقرب إليه من بعض. فهو كلام فيه توسع. فقد يقرب الرجل عبده بإكرامه له، وإن بعد منه ويبعد عبده الآخر بإهانته له وإن قرب مكانه منه، فذلك شائع في اللغة.
والمعنى: إنا رفعنا بكلامنا له.
4552
ثم قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾.
أي: وهبنا لموسى - رحمة منا له - أخاه هارون نبياً. اي: أيدناه بنبوته.
قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد أنه وهب له نبوته.
قوله تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾.
المعنى: واقصص عليهم يا محمد، نبأ إسماعيل، إنه كان صادق الوعد، أي: لا يخلف وعده.
قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها.
وقيل: إن هذا مما يدل على أنه هو الذبيح، لأنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فصبر حتى فداه الله.
قال سهل بن عقيل: وعد إسماعيل رجلاً مكانه أن يأتيه، فجاءه إسماعيل، ونسي الرجل، وظن أنه قد اشتغل، فبات إسماعيل في المكان حتى جاء الرجل من الغد. فقال له الرجل: ما برحت من ها هنا؟ فقال إسماعيل: لا والله. فقال الرجل: إني
4553
نسيت. فقال إسماعيل إني لم أكن لأبرح حتى تأتينَي، فذلك قوله " كان صادق الوعد ".
وروي أن إبليس اللعين تمثّل له، فوقع بينهما موعد ألا يبرح إسماعيل حتى يعود إليه. فكان في اعتقاد إسماعيل أن ينتظر سنة فأتاه جبريل ﷺ فأعلمه أنه إبليس، فذهب وأرسله الله إلىجرهم.
وقوله: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة﴾.
يعني أمته كلها، ذات نسب وغير ذات نسب.
﴿وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ /.
أي: محمداً فيما كلفه، غير مقصر. و " مرضي " مفعول، والأصل فيه عند سيبويه. " مرضو ". ولكن أبدلوا من الواو لأنها أخف، ولأنها واو قبلها ضمة، وليس ذلك في كلامهم فأبدل ولم يعتد بالساكن الذي قبل الواو المضمومة. ومثله قولهم مسنية، أصلها مسنوة.
وقال الكسائي والفراء: من قال: " مرضى " بناه على رضيت وقالا وأهل
4554
الحجاز يقولون " مرضو ". وحكايا أنَّ من العرب من يُثني رضا على رضوان، ورضيان، وربوان، وربيان.
فمرضي على رضيان. ومرضو على رضوان.
ولا يعرف البصريون في التثنية إلا رضوان بالواو. وربوان بالوا.
ثم قال تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً﴾.
أي: واقصص نبأ إديس، إنه كان لا يقول إلا الحق فيما يوحى إليه، وفي غيره " نبيئاً " تنبأه الله.
كان إدريس خياطاً، وكان كلما وخز وخزة بالإبرة سبّح الله وهو أول من خاط الثياب، وبينه وبين آدم خمسة آباء.
ثم قال: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ قال كعب: أوحى الله إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة، فقال: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدراً، فلكم ملك الموت في الذي كلّمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ فقال هو ذا على ظهري.
فقال ملك الموت: فالعجب، بعثت، وقيل لي: اقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض، فجلعت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في
4555
الأرض. فقبض روحه هناك، فذلك قوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾.
وقيل: إن الله جلّ ذكره جعله في السماء الرابعة قاضياً كالملك في وسط ملكه وجعل خزائن السموات بيده.
وقيل: رفع إلى السماء السادسة.
وقال مجاهد: رفع إدريس ولم يمت كما رفع عيسى.
وقال مجاهد: وقتادة: رف إلى السماء الرابعة.
وروى قتادة عن أنس أن النبي ﷺ قال لما عرج به إلى السماء، قال: " أتيت على إدريس في السماء الرابعة ".
وقيل: ﴿مَكَاناً عَلِيّاً﴾ عنى به في النبوة والعلم.
4556
وسأل ابن عباس كعباً عن إدريس وما يجد من خيرة في التوراة فقال: إن في كتاب الله أن إدريس كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله عمل جميع أهل الارض. فأستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه، فأذن الله له أن يؤاخيه، فسأله إدريس؟ أي أخي، هل بينك وبين ملك الموت إخاء؟ قال: نعم، ذلك أخي دون الملائكة، وهم متآخرون كما يتآخى بنو آدم فقال: هل لك أن تسأله كم بقي من عمري لكي أزداد في العمل؟.
قال إن شئت سألته وأنت تسمع. قال: فحمله الملك تحت جناحيه حتى سعد به إلى السماء [فقال لملك الموت] أي أخي، كم بقي من أجل إدريس؟ فقال: ما أدري حتى أنظره قال: فنظر فقال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من أجله إلا طرفة عين. فنظر الملك تحت جناحه، فإذا إدريس قد قبض وهو لا يشعر. ذكر ذلك ابن وهب.
4557
وروى ابن وهب أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إن إدريس أقدم من نوح، بعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله ويعملوا بما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله.
وروى أن ادريس سَار ذات يوم في حاجته فأدركه وهج الشمس فقال: يا رب، إني مشيت في الشمس يوماً. فآذاني حرّها، فكيف بمن يحملها مسيرة خمس مائة عام في يوم واحد، اللهم خفف عن من يحملها، واحملعنه حرها. فلما أصبح الملكم، وجد خفة فسأل الله عن ذلك، فأعلمه أن إدريس دعا له في ذلك، فسأل الله أن يجمع بينه وبينه، وأن يجعل بينه وبينه خلة، فأذن الله له في ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين﴾.
المعنى: أولئك الذين قصصت عليك، أنبأهم، هم الذي أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء ﴿مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ﴾. يعني إدريس. و ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ (أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في الفلك، يعني: إبراهيم).
﴿وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ﴾ يعني من ذرية إبراهيم وإسماعيل من ذرية إبراهيم، ومن ذريته أيضاً هارون وموسى، وزكريا، وعيسى، وأمه.
﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾ للإيمان والعمل الصالح.
4558
﴿واجتبينآ﴾ أي: واصطفيا للرسالة والواحي.
ثم قال تعالى: ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن﴾.
أي: أدلته وحججه التي أنزلها في كتابه.
﴿خَرُّواْ سُجَّداً﴾ أي خضعاً.
﴿وَبُكِيّاً﴾ أي باكين. فبكى يجوز أن يكون مصدراً لبكى يبكي بكياً. بمعنى: بكاء. ويكون أصله بكوياً. كجلس يجلس جلوسا. ثم نقل ورد إلى الياء، على أصل اجتماع الواو والياء. والأول ساكن، وبكسر ما قبلها، لأنه ليس من كلامهم ياء سكانة قبلها ضمة، من كسر أوله، اتبع الكسر الكسر والياء. ويجوز أن يكون جمع باكٍ على فعول، كما قالوا شاهدوا وشهود. فأما العتي والجثي فهما جمع جاث وعات على فعول، ثم غير ما تقدم في " مرضي ". لأن لامه واو. فهو مخالف لبكياً. إذ لامه ياء، ولام جثياً وعتياً واو، لأن ذلك من بكى يبكي، وهذين من جثا يجثو،
4559
وعتا يعتو، فقس على هذا ياءات هذه السورة وغيرها.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ سورة " مريم " فسجد فقال " هذا السجود، فأين البكي " وهذا يدل على أنه مصدر لا جمع يريد به فأين البكاء.
قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة﴾. إلى قوله: ﴿وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾.
المعنى: فخلف من بعد من ذكرنا من الأنبياء، خلف سوء خلفوهم في الأض.
يقال في الردئ " خَلْف " بإسكان اللام، وفي الصلاح " خَلَفْ " بتحريك اللام. وعن أبي إسحاق ضد هذا. والأول أشهر.
ثم قال: ﴿أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات﴾ أي أخروا الصلاة عن مواقيتها، ولم يتركوها، ولو تركوها لكان كفراً.
قاله عمر بن عبد العزيز: وهو معنى قول ابن مسعود. وكذلك قال ابن مسعود: في قوله تعالى ذكره: ﴿الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: ٥] إنه تأخيرها عن
4560
وقتها.
قال مسروق: لا يحافظ على الصلوات الخمس أحد فيكتب من الغافلين.
وروى الخدري أن النبي ﷺ قال: " الخلف من بعد ستين سنة ".
قال أبو محمد مكي رضي الله عنهـ: وقد ذكر الجعفي في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: هم ناس يظهرون في آخر الزمان من قبل المغرب، وهم شر من يملك، وذكر اسمهم.
وعن مجاهد، أن الخلف هنا النصارى بعد اليهود. رواه ابن وهب، وهو ظاهر الآية لأن بعده " إلا من تاب وآمن " فذكره لشرط الإيمان مع التوبة يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين.
وقوله: ﴿واتبعوا الشهوات﴾ قيل: معناه: اتبعوا شهواتهم فيما حرّم الله عليهم.
4561
وقال القرظي: أضاعتهم لها، تركها وهذا القول اختيار الطبري لقوله بعد ذلك: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ فلو كان المضيعون مؤمنين لم يقل: " إلا من تاب وآمن " ولكنهم كانوا كفاراً بتركهم للصلاة والزكاة.
وقال مجاهد: هؤلاء قوم يكونون عند قيام الساعة، وذهاب صالحي امة محمد ﷺ، ينزو بعضهم على بعض في الآزقة زنا.
وقال عطاء: هم من أمة محمد عليه السلام.
ثم قال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً﴾.
يعني: وادياً في جهنم قاله ابن عمر. وعنه أنه قال: هو نهر في جهنم، خبيث الطعم بعيد القعر.
وقال ابن عباس: غياً: خسراناً.
4562
وقال ابن زيد: " غياً " شراً.
والتقدير: فسوف يلقون جزاء الغي، كما قال يلق آثاماً أي: جزاء الآثلام.
وقيل: سمي الوادي غياً لأن الغاوين يصيرون إليه.
وقيل: المعنى: " فسوق يلقون غياً ". أي: خيبة من الجنة، والثواب الذي يناله المؤمنون، وعذاباً في النار.
و" الغي " في اللغة " الخيبة.
ثم استثنى فقال: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة﴾ دون أولئك.
﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾.
أي: ولا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً. ثم بيّن موضع الدخول فقال: " جنات عدن " أي: إقامة.
﴿التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب﴾ أي: وعدهم بها، وهم لم يروها فصدقوا بذلك.
﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾.
الوعد هنا بمعنى الموعود. كما قالوا: الخلق بمعنى المخلوق.
4563
و " مأتياً " أي: ياتيه أولياؤه، وأهل طاعته.
وقيل " مأتياً ": هو مفعول بمعنى فاعل. قاله ابن قتيبة واستبعده النحاس، وهو عنده/ مفعول من الإتيان، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه.
قوله تعالى ذكره: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾.
أي: لا يسمعون في الجنة لغواً وهو الهدر والباطل من القول.
﴿إِلاَّ سَلاَماً﴾ أي: تحييهم الملائكة من كل باب بالسلام.
وقوله: " إلا سلاماً " استثناء ليس من الأول.
وقيل: هو بدل من لغو.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾. أي: لهم ما يشتهون من المطاعم، قدر وقت البكرة ووقت العشي من نهار الدنيا. إذ لا ليل في الجنة ولا نهار.
قال مجاهد: ليس " بكرة " ولا " عشي " ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
خاطبهم الله بأعظم ما كان في أنفسهم من العيش.
4564
وكانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء عجب به فأخبرهم الله أن لهم في الجنة ذلك الذي يعجبهم.
وقال زهير بن محمد: " ليس في الجنة ليل. هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار. يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ".
وقيل: معنى الآية: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾. مقدار ما يكفيهم لكل ساعة ولكل وقت يريدون فيه الأكل.
ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾.
أي: الجنة التي وصفت، هي التي تورث مساكن أهل النار فيها. " من مكان تقياً " أي من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب محارمه.
قال إبراهيم بن عرفة: وعد الله بالجنة كل من اتقى، وأرجو أن يكون كل موحد من أهل التقية - إن شاء الله - ولن يهلك مؤمن بين توحيد الله، وشفاعة
4565
نبيه ﷺ.
وقيل: " التقي ": الذي قد أكثر من اتقاء معاصي الله ومحارمه.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾.
هذه الآية نزلت لما استبطأ النبي ﷺ الوحي.
قال ابن عباس: قال النبي ﷺ لجبريل عليه السلام: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا، فنزلت ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: احتبس جبريل عن النبي ﷺ بالوحي فيما سأله المشركون عنه من خبر الفتية وخبر الطواف، وعن الروح، وقد كان قال لهم النبي ﷺ سأخبركم غداً، ولم يستثن. فأبطأ عنه الوحي أربعين يوماً. ثم نزل جبريل عليه السلام: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤]، فوجد النبي ﷺ من ذلك، وحزن فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآية.
وكذلك قال قتادة ومجاهد والضحاك باختلاف لفظ واتفاق معنى.
ثم قال تعالى: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك﴾.
4566
معناه: أبي العالية: ما بين أيدينا من الدنيا وما خلفنا من الآخرة " وما بين ذلك " ما بين النفختين.
وقال ابن عباس: " ما بين أيدينا " الآخرة " وما خلفنا " من الدنيا.
وكذلك قال قتادة، إلا أنه قال: " وما بين ذلك "، ما بين الدنيا والآخرة.
وُرُوِيَ عن معمر: " ما بين ذلك " ما بين النفختين. وكذا قال الضحاك.
وقال ابن جريج: " ما بين أيدينا " ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، و " ما خلفنا، " ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة، " وما بين ذلك " ما بين ما مضى أمامهم وما بين ما يكون بعدهم.
وقال الأخفش " ما بين أيدينا ": ما كان قبل أن نخلق " وما خلفنا " ما يكون بعد أن تموت " وما بين ذلك " منذ خلقنا إلى أن نموت.
4567
وقال ابن جبير: " ما بين ذلك " ما بين الدنيا والآخرة، يعني البرزخ.
فيكون المعنى: فلا استبطاء يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نترك إلا بأمر ربك لنا بالنزول بما هو حادث من أمور الآخرة، وما قد مضى من أمر الدنيا، وما بين هذين الوقتين.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ أي ذا نيسان، فيكون تأخر نزولنا من أجل نسيانه إياكز
قال مجاهد " ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ أي ما نيسك.
قوله تعالى ذكره: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ إلى قوله: ﴿أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾.
أي: وما كان ربك - رب السماوات والأرض وما بينهما - ذ نيسان، " فاعبده " أي: الزم طاعته.
﴿واصطبر لِعِبَادَتِهِ﴾ أي: اصبر نفسك على العمل بطاعته.
﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ أي: مثلاً وشبهاً في جوده وحلمه وكرمه وطوله. قاله ابن عباس وقتادة/ ومجاهد وابن جبير.
4568
وعن ابن عباس أن معناه: هل تعلم يا محمد أحداً يمسى الرحمن سواه.
وقيل: هل تعلم أحداً يقال له الله غيره.
وقل المعنى: هل تعلم أحداً قال له رب السماوت والأرض وما بينهما غيره.
وقيل: المعنى: هخل تعلم أحداً يجوز أن يكون إلهاً معبوداً غيره.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾.
أي: ينكر الإنسان الكافر البعث، فيقول: أنبعث، إذا ما مت، إنكاراً منه للبعث.
فقال الله تعالى لنا: ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ أي: فكما خلقناه من غير شيء، وأوجدناه من عدم، كذلك نحييه بعد مماته. وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: ٧٨] فكان الجواب ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] والرؤية بمعن العلم في هذا. أي: أولم يعلم الإنسان ذلك من حدوثه قبل أن لم يكن شيئاً. ولا يجوزك أن تكنون من رؤية البصر، لأن الإنسان لم ير نفسه وقت خلقه.
والوقف على " حياً " بعيد، لأن " أولاً " معطوف، دخل عليه ألف الاستفهام للتوبيخ.
وقيل: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. ثم هي في كل من كان
4569
مثلهم من الكفار المنكرين للبعث. ودخلت اللام في " لسوف " للتأكيد جواباً لقول قيل للإنسان، كان النبي ﷺ قال له: (إذا ما مات لسوف تبعث حياً). فقال إنكاراً للبعث، وجواباً لما قيل له: " أئذا ما مت لسوف أبعث " فأتى باللام في الجواب، كما كانت في القول ولو كان مبتدئاً بذلك لم تدخل اللام، لأن اللام للتأكيد والإيجاب، وهو مكر للبعث، فلا يصلح دخول اللام في غير مكر لخبره، فإنما دخلت في هذا لمجازاة ما قبل له. أدخل اللام في الجواب كما دخلت في القول الذي أجاب عنه.
ثم قال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين﴾.
أي: لنحشرن هؤلاء المنكرين للبعث مقرنين بأوليائهم من الشياطين.
﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾.
أي: على ركبهم، وهو جمع جاث. وأصله جثو، مثل: قاعد وقعود، ثم أبدل من الواو ياء لأنها ظرف على ما تقدم في " مرضياً ".
وقيل: " جثياً " قعوداً لا يقدرون عل القيام لشدة هول ما يرون.
روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: " سمعت النبي ﷺ يقول: إنكم
4570
[ملاقو] الله حفاة عراة مشاة عزلاً " قال ابن جبير: يحشرون حفاة عراة، فأول من يكسى خليل الله ابراهيم عليه السلام.
وعن النبي ﷺ أنه قال: " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾.
أي: ثم لنأخذنّ من كل جماعة أشدهم على الرحمن عتواً وتمرداً. يعني الأكابر فالأكابر جرماً. والجبار فالجبار.
والمعنى: نبدأ بتعذيب أعظمهم جرماً ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
قال مجاهد: " من كل شيعة ": من كل أمة. والشيعة: الجماعة المتعاونون على الأمر: فالتقدير: لنأخذن من كل أمة تعاونت على الكفر أشدهم كفراً ثم الذي يليه.
" أيهم " رفع عند الخليل على الحكاية. أي لننزعنّ الذي يقال له من أجل عتوه أيهم أشد.
ومعناه: لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى، عذب أولاً أشدهم كفراً ثم
4571
الذي يليه.
ومذهب يونس أن " لننزعن " معلق. " وأيهم " رفع بالابتداء وليس هذا الفعل مما يجوز أن يعلق عند غيره.
ومذهب سيبويه أن " أيهم " مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها في الحذف، لأنك لو قلت رأيت الذي أفضل منك، ومررت بمن أفضل منك قبح، وذلك حسن في " أيهم " فخالفت أختها بحسن حذف الصلة بعدها، فبنيت على الضم.
وقد خطيء سيبويه في هذا القول، لأن مذهبه أنه إنما أعرب " أيا " إذا انفردت من أجل أنها تضاف. فكيف يعربها من أجل أنها تضاف ويبينها وهي مضافة.
وقال الكسائي: " لننزعن " واقع على المعنى. كم تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام. فترفع " أيهم " بالابتداء.
4572
وقال الفراء: المعنى: " لننزعن " بالنداء، فيكون معنى " لننزعن ": لننادين. وهذا يتعلق، ولا يتعدى، فحسن الرفع بالابتداء، إذ هو في موضع فعل يجوز أن يعلق عن العمل. أعني " لننزعن " وقع موقع " لننادين ". ونادى/ فعل يعلق عن العمل إذا كان بعده جملة. فلا يعمل في اللفظ ويعمل في المعنى كظننت وحسبت.
وقال بعض الكوفيين في " أي " معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها.
وقال المبرد: " أيهم " متعلقة بشيعة لا بننزعن. والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم. أي: من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد. فيكون المعنى على هذا ثم لننزعن من هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصف عنهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً﴾ إلى قوله ﴿فِيهَا جِثِيّاً﴾.
أي: ثم لنحن أعلم بالذين ننزعهم من كل شيعة فيقدمهم إلى العذاب فيصلونه.
" وصلياً " مصدر صلى يصلي صلياً، على فعول وأصله صلوي: ثم أعل وكسرت اللام.
ثم قال: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾.
المعنى: وإنّ من هؤلاء القوم، الذين هذا القول المتقدم قولهم في البعث، إلا وارد
4573
جهنم.
﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾.
أي: اتقوا الشرك، وأمنوا بالبعث، فهي مخصوصة فيمن تقدم ذكره على هذا القول.
وقيل: هي عامة. والمعنى: ما منكم أحد إلا يرد جهنم. كان ذلك على ربك يا محمد قضاء مقضياً في أم الكتاب.
وقال ابن مسعود وقتادة معناه: قضاءً واجباً.
قال ابن عباس: الورود، الدخول. واحتج بقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ وبقوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ وقل محتجاً للدخول: دخل هؤلاء؟ أم لا؟. وقاله ابن جريج.
وقاله ابن عباس: يردها البر والفاجر.
وقيل: إنهم يردونها وهي خامدة.
4574
وعن كعب أنه قال: تمسك النار للناس كأنها متن أهالة، حتى تستوي عليها أقدام الخلق، برّهم وفاجرهم. ثم ينادي بها مناد امسكي أصحابك ودعي أصحابي. فتخسف بكل ولي لها. فلهي أعلم بهم من الرجل بولده، وخرج المؤمنون ندية ثيابهم.
وقال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنة جهنم مسيرة سنة.
وقال ابن مسعود: الورود: الدخول.
وقال قتادة: هو الممر عليها.
وقيل: الورود هو الجواز على الصراط. والصراط على شفير جهنم مثل حد السيف. فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة، كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم. ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم.
وعن ابن عباس، أن الورود الدخول، ولكن المخاطبة للكفار خاصة. وذلك قال عكرمة.
4575
وقال ابن زيد: الورود عام، للمسلم والكافر، إلا أن ورود المؤمن المرور.
ودل على هذا أن ابن عباس وعكرمة قرآ: وإن منهم إلا واردها يريدان الكفار برد الهاء والميم على ما تقدم من ذكر الكفار.
وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين﴾ بفتح التاء. إلا أن عليا قرأ " تَنحَّى بالحاء " وكذلك قرأ ابن أبي ليلى بفتح التاء.
فورود المؤمن على الجسر بين ظهريها، وورود الكافر الدخول. وعن النبي ﷺ أنه قال: " الزالون والزالات يؤمئذٍ كثيرة وقد أحاط بالجسر سماطان من الملائكة، دعواهم يومئذٍ يا الله سلم سلم ".
وقال مجاهد: " الحمى حظ كل مسلم من النار.
وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله ﷺ يعود رجلاً من أصحابه وعكَ، وأنا معه.
4576
فقال: إن الله جلّ ذكره يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة ".
وقال السدي: يردونها كلهم، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم.
وروت حفصة، " أن النبي ﷺ: قال إني لأرجو أن لا يدخل أحد شهد بدراً والحديبية. قالت: فقلت: يا رسول الله، أليس الله جلّ وعزّ يقول: " وإن منكم إلا واردها؟ قال لها: أولم تسمعيه يقول: " ثم نُنَجي الذين اتقوا ".
وقيل: المعنى: وإن منكم إلا وارد القيامة. وهذا اختيار الطبري ودل على هذا قوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ [الأنبياء: ١٠٢] وقوله: ﴿أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١].
ودل على هذا أيضاً قوله تعالى/ قبل الآية " ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين﴾
4577
فالحشر إنما هو في القيامة.
وروى ابن وهب عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير الورود: " وإن منكم يا أهل هذا القول إلا وارد جهنم ". يعني: الذين أنكروا البعث فقالوا: أإذا متنا لسوف نخرج أحياء إنكاراً منهم بالبعث.
وقوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾ أي: ننجيهم من ورودها فلا يردونها.
وقيل: معناه: وإن منكم إلاّ يحضر جهنم ويعاينها، لا يدخلها إلا من وجب عليه دخولها. ودليله قوله: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٢٣] فهو لم يدخل الماء، إنما حضر قرب الماء وعاينه، لم يدخله فكذلك هذا، يحضرون كلهم جهنم ويعاينونها وينجي الله من دخولها المتقين وهو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾.
ثم قال: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا﴾.
أي: ننجي من النار بعد الورود الذين اتقوا الله وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه.
ثم قال: ﴿وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً﴾ أي: وندعهم في النار بروكاً على ركبهم. كذا قال قادة. وقال: إن الناس يردون جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم فأنجوا منها، وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم واحتبسوا بذنوبهم.
قال ابن زيد: لا يجلس الرجل جاثياً إلا عند كرب ينزل به.
4578
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات﴾ إلى قوله: ﴿وَأَضْعَفُ جُنداً﴾.
المعنى: أن الكفار من قريش كانوا إذا تلا عليهم النبي ﷺ آيات القرآن، قالوا للذين آمنوا (أي الفريقين منا ومنكم خير مقاماً) أي: خير موضع إقامة، وهي مساكنهم " وأحسن ندياً " أي [مجلسا].
يتركون التفكير في آيات الله والاعتبار بها ويأخذون في التفاخر بحسن المسكن وحسن المجلس.
قال ابن عباس: " المقام " المسكن. و " الندي " المجلس.
يقال: ندوت القوم أندوهم ندواً، إذا جمعتهم في مجلس [واحد]. ومنه دار الندوة المتصلة بالمسجد الحرام، لأنهم كانوا يجتمعون فيها إذا كربهم أمر. ومنه قوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر﴾ [العنكبوت: ٢٩] ومنه ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق: ١٧] أي أهل مجلسه. ويقال: هو في ندي قومه، وفي ناديهم بمعنى: مجلسهم وندي: جمع أندية.
ثم قالت تعالى ذكره: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾. أي: وكثيراً يا محمد أهلكنا من القرون هم أحسن أثاثاً ورِئْيا قبل هؤلاء القائلين للمؤمنين: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً.
قال ابن عباس: " الأثاث ": المتاع. " والرئي: المنظر.
أي: أحسن متاعاً وأحسن مرئى ومنظراً من هؤلاء فأهلك الله أموالهم،
4579
وأفسد صورهم وكذلك قال ابن زيد ومجاهد: " الأثاث: المتاع و " الرئي ": المنظر.
وقال معمر: أحسن أثاثاً: أحسن صوراً. ورئياً: أموالاً.
وروي عن ابن عباس: " أحسن أثاثاً وزياً " بالزاي.
وقرأ طلحة " ورياً " خفيفة الياء من غير همز.
ومن شدد الياء، جعله من رأيت، ولكن خفف الهمزة، فأبدل وأدغم. ويجوز أن يكون من رويت روية ورياء فيكون معناه أيضاً منظراً، لأن العرب تقول: ما أحسن روية فلان في هذا الأمر؟.. إذا كان حسن النظر فيه، والمعرفة به.
ويجوز أن يكون من ري الشارب. فيكون المعنى أن جلودهم مرتوية من النعمة.
4580
وأجاز الأخفش أن يكون من ري المنظر.
ومن همز جعله من رؤية العين.
" والأثاث " جمع واحدة أثاثه كالحمام والسحاب. هذا مذهب الأخفش.
وقال الفراء: لا واحد له كالمتاع.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء القائلين - إذا تتلى عليهم آياتنا بينات - أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً من كان من ومنكم في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً. فهو لفظأ مر، ومعناه الخير. جعل الله جزاء ضلالته في الدنيا أن يطول فيها، ويمد له كما قال تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: ١١٠]. لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كأن المتكلم يلزمه نفسه، كأنه يقول: أفعل ذلك وآمر نفسي به، فهو أبلغ.
فلذلك أتى به على الخبر.
ومعناه: فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فإن مصيره إلى الموت والعذاب.
4581
قال ابن نجيح معناه: فليدعه في طغيانه.
ثم قال تعالى: ﴿/حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب﴾.
يعني به النصر، فيعذبوا بالقتل والسبي.
" وإما الساعة " يعني يوم القيامة، فيصيرون إلى النار. و " إما " للتخيير. وهي عند المبرد إن زيدت عليها " ما ". واستدل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر، جاز له حذف " ما ". وليست عند غيره إلا حرفاً واحداً. ولم يختلفوا فيها في العطف أنها حرف واحد.
وقال أبو العباس: إذا قلت ضرب ما زيداً وإما عمراً، فالأولى دخلت لبنية الكلام على الشك، والثانية للعطف.
وقال ابن كيسان: " أما ": للشك والتخيير، والواو هي العاطفة.
وأجاز الكسائي: إما زيد قائم على النفي يجعل " إما " بمنزلة " ما ".
وأجاز الفراء أن تأتي " إما " مفردة بمنزلة " أو ". قوله: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾.
4582
أي: مسكناً، منكم ومنهم.
﴿وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ أهم؟ أم أنتم؟ يعني: إذا نصر الله المؤمنين.
فأما قراءة طلحة، فإنما يجوز على تقدير. القلب وإلقاء حركة الهمزة على الياء بعد القلب.
قوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى﴾ إلى قوله: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾.
أي: ويزيد الله المؤمنين هدى، لأنهم يؤمنون بكل ما أنزل إليهم من الفرائض، ويصدقون بها، ويعملون بها، فهم في زيادة إيمان وهذا مثل قوله تعالى: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾.. [التوبة: ١٢٤] الآية.
وقيل: يزيدهم بإيمانهم بالناسخ والمنسوخ.
وقيل: هو زيادة في اليقين يجعل جزائهم في الدنيا أن يزيدهم في يقينهم هدى.
ثم قال تعالى: ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً﴾.
يعني: الأعمال الصالحات هي خير عند ربك جزاء لأهلها.
﴿وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ عليهم من مقامات هؤلاء المشركين في أنديتهم، وافتخارهم بها
4583
في الدنيا. وقد تقدم ذكر الباقيات الصالحات، واختلاف العلماء في معناها في " الكهف ".
وقد قيل: " الباقيات الصالحات " الإيمان والأعمال الصالحة وسماها باقية، لأنها تنفع أهلها في الدنيا والآخرة ولا تبطل كأعمال الكفار الذين لا يريدون بها ما عند الله.
وروي " أن النبي ﷺ جلس ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال: إن لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله يحططن الخطايا كما تحط ورق الشجر الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك بينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة. فكان أبو الدرداء، إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون ".
وإنما سميت هذه الكلمات بالباقيات الصالحات لأنها تبقى لأهلها حتى يردوا عليها في الجنة.
4584
وروى أبو هريرة " أن النبي ﷺ قال: خذوا جنتكم خذوا جنتكم فقالوا: يا رسول الله، أمن عدو قد حضر؟ قال: لا، ولكن من النار. قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات، هن الباقيات الصالحات ".
ثم قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾.
هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي.
قال خباب: كنت قينا - والقين الحداد - قال: وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ﷺ. قلت: والكله لا أكفر بمحمد ﷺ حتى تموت ثم تبعث.
قال: وإني لمبعوث؟ قلت: نعم. قال: فإنه سكون لي ثم مال وولد، فأقضيك. فأنزل الله جل ثناؤه ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا...﴾ الآيات إلى
4585
﴿... فَرْداً﴾.
وكذلك قال مجاهد:
وقال ابن عباس: كان رجال من أصحاب النبي ﷺ يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوا يتقاضونه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهباً وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى.
قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله تعالى مثله في القرآن في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾. إلى ﴿فَرْداً﴾.
ثم قال تعالى: ﴿أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾.
أي: اعلم هذا القائل الغيب فقال ذلك عن علم/ غيب عنده؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟ أي: أم آمن بالله ورسوله وعمل بطاعته فكان له بذلك عهد عن الله فؤتيه ما يقوله له في الآخرة؟.
قال قتادة: " عهداً " عملاً صالحاً قدمه. وقاله: سفيان.
4586
وقيل: " العهد " التوحيد: " لا إله إلا الله ".
وقيل: " العهد: الوعد.
وقال عبد الله بن عمر: يقول الله تعالى يوم القيامة: من كان له عندي عهد، فليقم، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلّمنا. فقال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك عهداً في هذه الحياة الدنيا، إنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحتمك، فاجعلها لي عندك عهداً تؤديه إلى ايوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ المعنى: ليس الأمر كما قال أنه يؤتى في القيامة مالاً وولداً.
قال أبو محمد ول " كلا " كتاب مفرد في القرآن، قد ألفناه وكتب عنا، ولذلك لم نشبع الكلام فيها ها هنا.
4587
ثم قال: ﴿كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾.
أي: سنكتب قوله، فنجازيه عليه، فنمد له من العذاب مداً. أي: نزيده زيادة من العذاب على قوله هذا. أي: نطول له العذاب غير ماله من العذاب على كفره.
ثم قال: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾.
أي: نرث منه ماله وولده يوم القيامة ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ أي: وحده لا مال له، ولا ولد.
وقوله: " ونرثه " هو، فعل من فعل يفعل بالكسر فيهما، كما جاء بالضم في الفعلين في مثل: ظرُف يظرُف. ونظيره: ورم يرم وومق يمق، ووري الزنديري، ووفق بأمره يفق، وورع يرع ووثق، يثق، ومنه وسع يسع ووطيء يطأ. وإنما فتح من أجل حرف الحلق، والدليل على أنه يفعل بالكسر في الأصل، حذف الواو منه في المستقبل. وبعدها فتحة، ولم يعتد بالفتحة، إذ هي غير أصلية، إنما أحدثها
4588
حرف الحلق، والكسر هو الأصل، فلذلك حذفت الواو في المستقبل على أصل حذفها في: يزن، ويعد وشبهه.
وقد أتت أربعة أفعال من السالم على يفعَل ويفعِل باللغتين في المستقبل وهي حسب يحسب، ونعم ينعم، ويبس يبس ويئس ييسأس.
وحرف الجر، مقدر محذوف من المفعول الأول في " ونرثه " أي ونرث منه قوله.
وفي حرف ابن مسعود، و " نَرِثُهُ ما عِنْدَهُ ".
وقال ابن زيد: " وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ " ما جمع من الدنيا، وما عمل فيها.
وقيل: معناه: ويبقى عليه الإثم.
قوله تعالى ذكره: ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً﴾ إلى قوله: ﴿عِندَ الرحمن عَهْداً﴾.
المعنى: واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها، لتكون لهم منعة من
4589
عذاب الله.
ومعنى: " كلا " أي: ليس الأمر على ذلك، لا تمنعهم من عذاب الله.
ثم قال: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾.
أي: ستجحد الآلهة يوم القيامة عبادتهم لها. وهو قوله تعالى: ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣] فتبرؤها منهم هو جحدها لعبادتهم إياها.
ثم قال: ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾.
قال ابن عباس: " ضداً ": أعوانا. يعين على عذابهم.
وقال مجاهد: عوناً عليهم، تخاصمهم وتكذيبهم.
قال قتادة: " ضداً " قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
وقال الضحاك: " ضداً " أعداء.
4590
وقال ابن زيد: معناه: ويكونون عليهم بلاء.
وقيل: معناه أن آلهتهم التي عبدوها من دون الله [يوم القيامة] تلعهنم وتدعو عليهم، لأنهم عبدوا الملائكة، فهي تلعنهم وتتبرأ منهم.
وقيل: بل هي الأصنام يحييها الله تعالى [لهم] يوم القيامة لتوبخهم وتكذبهم.
" والضد " في كلام العرب " المخالف ". ووحد " ضد لأنه في معن عوناً. وعون مصدر، فلذلك لم يجمع.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾.
أي: تزعجهم على المعاصي، وتقودهم إليها قياداً، وتغويهم بها.
وقال ابن عباس: تغويهم أغواء.
وقال ابن زيد: تشليهم إشلاء على المعاصي. ومنه أزيز القدر، وهو صوت غليانها. وهذا يؤكد تحقيق القدر.
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ أي: فلا تعجل يا محمد، على
4591
هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك، إنما نعد أعمالهم وأنفاسهم لنجازيهم على جميعها ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير نريده بهم، ولكن ليزدادوا إثماً.
قال ابن عباس: " إنما نعد لهم عداً " يعني نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم وآجالهم.
ثم قال تعالى: / ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾.
التقدير: إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها يوم نحشر المتقين.
فالعامل في " يوم " ما دل عليه الكلام الأول وهو " نجازيهم " يوم كذا.
ومعنى الآية: يوم يجمع الله الذين اتقوا في الدنيا، وخافوا عقابه إلى جاء الرحمن ووعده.
" وفداً هو بمعنى جمع وافد، ونصبه على الحال، ووحد لأنه مصدر، " والوفد ": " الركبان.
قال علي رضي الله عه: أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقاً، ولكنهم يوتون بنوق، ولم تر الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، أزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة.
وقال أبو هرية: " وفداً " على الإبل.
4592
وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة: " أن النبي ﷺ قال: يبعث الله الأنبياء يوم القيامة إذا حشروا، على الدواب، ويبعث صالح نبي الله على ناقته، حتى يوافوا بالمؤمنين من أصحابهم المحشر، ويبعث أبنائي الحسن والحسين على ناقتي العضباء والقصواء وأبعث أنا على البراق، وخطوها عند أقصى طرفها. ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي بالأذان، غضا، حتى إذا بلغ. أشهد أن محمداً رسول الله، شهد بها جميع الخلائق من المؤمنين والكافرين، فيقبل ذلك من المؤمنين، ويرد على غيرهم من أهل الشك والتكذيب ".
وقيل: معنى " وفداً " أي: وافدين على ما تحبون. من كان يحب ركوب الخيل، وفد على الله على خيل لا تروث، ولا تبول، لجمها من الياقوت الأحمر، ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض، وسرجها من السندس والاستبرق. من كان يجب الإبل، فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول، أزمتها الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب السفن،
4593
فعلى سفن من زبرجد أخضر، وأمواج مثل ما بين السماء والأرض قد أمنوا الغرق والأهوال.
وروى عمرو بن قيس الملائي أن المؤمن إذاخرج من قبره، استقبله أحسن صورة وأطيبه ريحاً. فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك، وحسن صورتك، فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك، فاركبني أنت اليوم، وتلا ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾.
قال قتادة: " وفداً " إلى الجنة.
وقال ابن جريح: على النجائب.
وقال الثوري: على الإبل والنوق.
وفي هذا الخبر إيماء إلى الجزاء والثواب، لأن الوفد هم الواردون على الملوك، المنتظرون العطاء والبر والإكرام منهم.
ورويَ أن المؤمن يستقبله عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبه
4594
ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلا أن الله تبارك وتعالى [قد] طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، هكذا كنت في الدنيا حسن العمل، طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلّما اركبني، فيركبه. فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾ قال: ويستقبل الكافر أو قال الفاجر عند خروجه من قبره أقبح صورة رآها، وأنتنها ريحاً فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفين؟ فيقول: لا، إلا أن الله تبارك وتعالى قد قبح وجهك، وأنتن ريحك. فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا فهلمّ أركبك، فيركبه، فذلك قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١].
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾.
أي: عطاشاً، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وقتادة والثوري. فيكون تقديره: ذي ورد يقال للواردين الماء ورد وروداً، مصدر وصف به الجمع، فلذلك لم يجمع.
وروى المقدام بن معد يكرب: " أن النبي ﷺ قال: يحشر المؤمنون يوم القيامة
4595
فيحشر السقط إلى الشيخ الفاني أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في مثل خلق آدم، وحسن يوسف وقلب أيوب، مرداء مكحلين، فسئل النبي ﷺ عن الكافر فقال: يعظم للنار حتى يصبر غلظ جلده أربعون ذراعاً وحتى يصير ناب من أنيابه مثل أحد ".
ثم قال تعالى ﴿لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾.
أي: لا يملك أحد من المجرمين الشفاعة لأحد، لكن من اتخذ عندج الرحمن عهداً بالإيمان، فإنه يملك الشفاعة.
ف " من " في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
وقيل: هي في موضع رفع على البدل من الضمير في " يملكون ". فيكون التقدير: لا يملك الشفاعة إلا المؤمنون، فإنهم يشفعون.
وقيل: التقدير: لا يملك أحد من المتقين الشفاعة إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، أي: من آمن في الدنيا، فلما حذفت اللام، صارت " من " في موضع نصب.
وقال ابن عباس: " العهد " شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحلول والقوة، ولا يرجو إلا الله.
4596
وقال ابن جريج: " عهد " عمل صالح.
وقال الليث: " العهد " حفظ كتاب الله.
وقال مقاتل: " عهداً صلاة.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الشهيد ليشفع في سبعين من أهل بيته ".
وأنه قال: " إن من أمتي رجلاً ليدخلن الله بشفاعته الجنة أكثر من بني تميم ".
وقال ﷺ: " إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ".
فيكون قوله: " لا يملكون ".. ومابعده. في موضع نصب حال من المجرمين، أو من المتقين.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ إلى قوله:
4597
﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾.
معناه: وقال هؤلاء الكفار بالله: اتخذ الرحمن ولداً، فقال لهم جلّ ذكره: ﴿لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾. أي: عظيماً. أي: قلتم قولاً عظيماً. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة.
ويقال: أد واد واد على فاعل بمعنى واحد.
ثم قال تعالى: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾.
أيك يتشققن مما قلتم.
﴿وَتَنشَقُّ الأرض﴾ أي: تتصدع.
﴿وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً﴾ أي: يسبقط بعضها على بعض سقوطاً.
وقال ابن عباس: " هداً " هدمً.
والهد الأنقاض.
وقال ابن عباس: إن الشرك فزعت منه السماوات، والأرض، والجبال، وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكدن أن يزلن منه لعظمة الله. وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين مع التوحيد.
4598
قال القرظي: لقد كاد عباد الله أن يقيموا علينا الساعة.
وقال النبي ﷺ: " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله. ومن قالها عند موته وجبت له الجنة، قالوا: يا رسول الله، فمن قالها في صحته؟ مقال: تلك أوجب وأوجب. ثم قال: والذي نفسي بيده، لو جيء بالسموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وما تحتهن، فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى، لرجحت بهن ".
قال كعب: غضبت الملائكة، واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا.
ثم قال تعالى جل ثناؤه: ﴿أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً﴾. أي: من أجل أهم جعلوا له ولداً.
قال أبو ذؤيب: " دعوا " بمعنى " جعلوا.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾. أي ما يصلح له أن يتخذ ولداً، لأن كل ولد يشبه أباه، والله لا يشبهه شيء.
ثم قال: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً﴾.
أي: إلا هو عبد الكله، خاضعاً، ذليلاً.
4599
وهذه الآية تدل على أن الرجل لا يملك، ولده، فإذا صار إليه بشراء أو إرث أو هدية عتق عليه، إن شاء أو أبى.
ومعنى: ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ أن الرحمن لا شبيه له، والولد يشبه والده ومن جنسه يكون. فلو كان له ولد لأشبهه، ولكان من جنسه، وهو لا شبيه له وإلا مثل، فهذا أمر لا يتمكن، ولا ينبغي أن يكمون، فهو مستحيل ممتنع سبحانه لا إله إلا هو.
ثم قال: ﴿لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾.
أي: علمهم، وعدهم أجمعين، فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾. أي: جميع الخلائق يعرضون على الله يوم القيامة منفردين، لا ناصر لأحد منهم، فيقضي الله فيهم ما هو قاض.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾.
أي: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم، وانتهوا عما نهاهم، سيجعل لهم/ الرحمن في الدنيا في صدور عباده المؤمنين محبة، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين، وكذا قال ابن جبير عن ابن عباس.
4600
وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل بقلبه إلى الله تعالى، إلا أقبل الله تعالى بقلوب المؤمنين إليه حتى يزرقه مودتهم ومحبتهم.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنهـ يقول: " ما من الناس أحد يبذل خيراً أو شراً، إلا كساه الله رداء عمله.
ويروى أن هذه الآية نزلت في عبد الحرمن بن عوف، وذلك أنه لما هاجر إلى المدينة، وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة، فأنزل الله جل وعز، الآية يعزّيه بها ويخبره أنه سيحدث له في قلوب المؤمنين الذين هاجر إليهم محبة.
وقيل: إن الله تعالى جعل [له] في قلوب المؤمنين محبة، فلا ترى مؤمناً إلا يحبه.
4601
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ إلى آخر السورة.
فإنما سلهنا يا محمد، هذا القرآن بلسانك، وبلغتتك لتبشر به من آمن وتنذر من كفر من قومك.
ومعنى: ﴿قَوْماً لُّدّاً﴾ أي: أشداء في الخصومة، لا يقبلون الحق.
قال ابن عباس: " قَوْماً لُدّاً " أي: ظلمة.
وقال أبو صالح: لداً: عوجاً ع الحق.
وقال مجاهد: اللّد ": الظالم الذي لا يستقيم.
وقال قتادة: " لداً " جدلاً بالباطل.
وقال حسن: " لدا " صماً ".
وقال أبو عبيدة: " اللّد " الذي لا يقبل الحق، ويدعي الباطل.
وعن مجاهد: " قوماً لداً " فجاراً.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾. أي: وكثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين، بلسوكهمه مسلك قومك في الكفر والخصومة في الدين.
﴿تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾.
4602
أي: هل ترى منهم من أحد أو تعاينه ﴿أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾. أي: صوتاً. بل بادوا وهلكوا، ولقوا ما عملوا، وكذلك، قومك يا محمد صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن ماتوا على ما هم عليه من الكفر، يقال: أحسست فلاناً: أبصرته، وحسسته أحسه قتلته.
قال قتادة: معناه: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً.
والرِكْز في كلام العرب الصوت الخفي.
4603
Icon