ﰡ
- ٢ - ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
- ٣ - إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
- ٤ - قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا
- ٥ - وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
- ٦ - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ البقرة. وقوله: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ أي هذا ذكر رحمة الله عبده زكريا، وزكريا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَكَانَ نَبِيًّا عَظِيمًا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده فِي النِّجَارَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا أَخْفَى دُعَاءَهُ لِئَلَّا يُنْسَبَ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ إِلَى الرُّعُونَةِ لكبره، حكاه الماوردي، وقال الآخرون: إِنَّمَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ نَامَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ خُفْيَةً: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَقَالَ اللَّهُ له: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ أَيْ ضَعُفَتْ وَخَارَتِ الْقُوَى ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾ أَيِ اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الإخبارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ أَيْ وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي﴾، قال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، ووجه خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدَا يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يُوحَى إِلَيْهِ، فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من ورائه عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ليحوز ميراثه
هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ فِي دُعَائِهِ فَقِيلَ لَهُ: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ نَجْعَل لَهُ مِن قَبْلِ سَمِيّاً﴾. قال قتادة: أَيْ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الِاسْمِ (وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ أَيْ شَبِيهًا، أَخَذَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾؟ أي شبيهاً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السلام كان لا يولد له، وكذلك كانت امرأته عَاقِرًا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهَا، بِخِلَافِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَعَجَّبَا مِنَ الْبِشَارَةِ بإسحاق لكبرهما، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تبشرون﴾ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ قَبْلَهُ إسماعيل بثلاث عشرة سنة.
- ٩ - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا
هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، وَبُشِّرَ بِالْوَلَدِ فَفَرِحَ فرحاَ شَدِيدًا وَسَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُولَدُ لَهُ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْهُ الْوَلَدُ، مَعَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ مِنْ أول عمرها مع كبرها (ذكر السهيلي: أن امرأته اسمها (إيشاع بنت قافوذ)، وهي أخت حنة بنت قافوذ، قاله الطبري، وحنة هي أم مريم. وقال العتبي: امرأة زكريا هي (إيشاع بنت عمران)، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى على الحقيقة، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه، وفي حديث الإسراء قال عليه السلام: «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى»، وهذا شاهد للقول الأول)، ومع أنه
- ١١ - فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِن الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أَيْ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي، لِتَسْتَقِرَّ نَفْسِي وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى * قال أو لم تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، ﴿قَالَ آيَتُكَ﴾ أَيْ عَلَامَتُكَ ﴿أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ أي أن يُحبس لِسَانَكَ عَنِ الْكَلَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ، مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عِلَّةٍ، قَالَ ابن عباس ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ولا علة. قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ قَوْمَهُ إِلَّا إِشَارَةً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ أي متتابعات (القول الأول عن ابن عباس وعن الجمهور أصح كما في آل عمران ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والإبكار﴾). وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَأَيَّامِهَا ﴿إِلاَّ رَمْزاً﴾ أَيْ إِشَارَةً، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ أَيِ الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ بِالْوَلَدِ ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ أَيْ أَشَارَ، إِشَارَةً خَفِيَّةً سَرِيعَةً ﴿أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أَيْ مُوَافَقَةً لَهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فِي هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، شكراً لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ أي أشار (وهذا القول أرجح، وبه قال وهب وقتادة). وقال مجاهد: أي كتب لَهُمْ فِي الأرض.
- ١٣ - وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا
- ١٤ - وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً
- ١٥ - وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
وَهَذَا أَيْضًا تَضَمَّنَ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ وَجَدَ هَذَا الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ وَهُوَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَهُوَ (التوراة) التي كانوا يتدارسونها بينهم، وَقَدْ كَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، فَلِهَذَا نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ
أبا مُنْذِرٌ أفنيتَ فَاسْتَبْقِ بعضَنا * حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهون من بعض
وقوله تعالى: ﴿وَزَكَاةً﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿وَحَنَاناً﴾ فَالزَّكَاةُ الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ الْعَمَلُ الصالح، وقال الضحّاك: العمل الصالح الزكي، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَزَكَاةً﴾ قَالَ: بَرَكَةً ﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ طاهراً فلم يذنب، وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً﴾ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَاعَتَهُ لِرَبِّهِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ ذَا رَحْمَةٍ وَزَكَاةٍ، وَتُقًى، عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بِهِمَا، وَمُجَانَبَتِهِ عُقُوقَهُمَا قَوْلًا وَفِعْلًا، أمراً وَنَهْيًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً﴾، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ أَيْ لَهُ الأمان في هذه الثلاثة الأحوال، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وفي إسناده ضعف)، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أن الحسن قَالَ: إِنَّ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مني، فقال له الآخر: أنت خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سلمتُ عَلَى
نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَعُرِفَ وَاللَّهِ فَضْلُهُمَا.
- ١٧ - فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا
- ١٨ - قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
- ١٩ - قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
- ٢٠ - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً - ٢١ - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ أَوْجَدَ مِنْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعُقْمِ زَوْجَتِهِ وَلَدًا زَكِيًّا طَاهِرًا، مُبَارَكًا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك ﴿فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ (رَوَاهُ ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذه هي العلة في توجه النصارى جهة المشرق). وعنه قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ وَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿مَكَاناً شَرْقِياً﴾ شَاسِعًا مُتَنَحِّيًا، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً﴾ أَيِ اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ أَيْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ والضحاك ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾: يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قلبلك لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾، ﴿قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أَيْ لَمَّا تَبَدَّى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أَيْ إِنْ كُنْتَ تَخَافُ الله تذكيراً له بالله، قال أبو وائل: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حِينَ قالت:
﴿إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ أَيْ فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا، لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ بَعَثَنِي الله إليك ﴿لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾، ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غلام﴾ أَيْ فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا، وَقَالَتْ كَيْفَ
- ٢٣ - فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ، أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جبريل ما قال، اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من علماء السلف، أن الملك وهو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ فِي الْفَرْجِ فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ، بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا حَمَلَتْ به ضاقت ذرعاً، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها لم تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا امْرَأَةِ زَكَرِيَّا، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَرْيَمُ، فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ: أَشَعَرْتِ يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَهَلْ عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى، وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِهَا، وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الأكمة والأبرص (أخرجه ابن أبي حاتم). ثُمَّ اخْتَلَفَ
الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وقال ابن جريج، عن ابن عباس، وسئل عن حمل مَرْيَمَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فوضعت (قال ابن كثير: هذا القول عن ابن عباس غريب، وكأنه مأخوذ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مكانا قصيا * فأجاءها المخاض﴾ فالفاء للتعقيب ولكن تعقيب كل شيء بسببه).
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ أَيْ فَاضْطَرَّهَا وألجأها إلى جذع النخلة، فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنَحَّتْ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ شَرْقِيَّ مِحْرَابِهَا الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبُ بن منبه: كَانَ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَيْتِ المقدس، في قرية يقال لها بيت لحم، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ النَّصَارَى أَنَّهُ ببيت لحم، وقوله تعالى إخباراً عنها: ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهَا سَتُبْتَلَى وَتُمْتَحَنُ بِهَذَا الْمَوْلُودِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ النَّاسُ فيه أمرها على السداد ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَابِدَةً نَاسِكَةً تُصْبِحُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يظنون عاهرة زانية، فقال ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ أَي قَبْلَ هذا الحمل ﴿وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ أَي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أك شيئاَ قاله ابن عباس، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾: أَيْ شَيْئًا لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري الناس من أنا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا قَطُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وتوفني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾.
- ٢٥ - وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
- ٢٦ - فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً
وقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً﴾ أَيْ مَهْمَا رَأَيْتِ مِنْ أَحَدٍ، ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾، الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ، لِئَلَّا يُنَافِيَ ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾، قَالَ أنَس بْنُ مَالِكٍ فِي قوله: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً﴾ قال: صَمْتًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، وَفِي رواية عن أنَس: صوماً وصمتاً، والمراد أنهم إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ والكلام. روى ابن إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أن لا يُكَلِّمَ النَّاسَ الْيَوْمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تِلْكَ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا، أنهما حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذَا سُئِلَتْ (رواه ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن جرير). وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ عيسى لمريم ﴿لاَّ تَحْزَنِي﴾ قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾.
- ٢٨ - يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
- ٢٩ - فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
- ٣٠ - قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
- ٣١ - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
- ٣٢ - وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
- ٣٣ - وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
هارون (قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، ليس بهارون أخي موسى بن عمران، فإن بينهما من الدهر الطويل والقرون الماضية والأمم الخالية ما قد عرفه الناس)، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ. كَمَا قال الإمام أحمد، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ، فقالوا: أرأيت ما تقرأون ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب).
وقال ابن جرير، عن قتادة قوله ﴿يا أخت هَارُونَ﴾ الآية قَالَ: كَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَلَا يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَآخَرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَكَانَ هَارُونُ مُصْلِحًا مُحَبَّبًا فِي عَشِيرَتِهِ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ، قَالَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هَارُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَرَابُوا فِي أَمْرِهَا وَاسْتَنْكَرُوا قَضِيَّتَهَا، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا مُعَرِّضِينَ بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صَائِمَةً صَامِتَةً، فَأَحَالَتِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ، فَقَالُوا مُتَهَكِّمِينَ بِهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا تَزْدَرِي بِهِمْ وَتَلْعَبُ بِهِمْ ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صَبِيّاً﴾؟ قال السُّدِّيُّ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا وَقَالُوا لَسُخْرِيَّتُهَا بنا حتى تَأْمُرُنَا أَنَّ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا ﴿قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً﴾ أَيْ مَنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي مَهْدِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَصِغَرِهِ، كَيْفَ يَتَكَلَّمُ؟ ﴿قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى وبرأه عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ تَبْرِئَةٌ لِأُمِّهِ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، قَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: لَمَّا قَالُوا لِأُمِّهِ مَا قَالُوا كَانَ يَرْتَضِعُ ثَدْيَهُ، فَنَزَعَ الثَّدْيَ مِنْ فَمِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَقَالَ: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً - إِلَى قَوْلِهِ - مَا دُمْتُ حيا﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: وجعلني معلماً للخير، وفي رواية عنه: نفاعاً، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿واعبد رَبَّكَ حتى يأتيك اليقين﴾. وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ أَيْ وَأَمَرَنِي بِبِرِّ وَالِدَتِي، ذكره بعد طاعة رَبِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾
- ٣٥ - مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
- ٣٦ - وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
- ٣٧ - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام ﴿قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ أَيْ يَخْتَلِفُ المبطلون والمحققون ممن آمن به وكفر به، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا نَبِيًّا نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَالَ: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾ أَيْ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، أَيْ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً فَإِنَّمَا يَأْمُرُ به، فيصير كما يشاء كما قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أَيْ ومما أمر به عيسى قَوْمَهُ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذاك أن الله ربه وربهم، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَقَالَ ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَيْ قَوِيمٌ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَهَدَى وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاخْتَلَفَ الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ أي اختلف قول أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِيسَى بَعْدَ بَيَانِ أَمْرِهِ وَوُضُوحِ حَالِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فصممت طائفة منهم وَهُمْ جُمْهُورُ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنْيَةٍ، وَقَالُوا: كَلَامُهُ هَذَا سِحْرٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخرى: إِنَّمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ، وَقَالَ آخرون: بل هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ آخَرُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وهذا هو قَوْلَ الحق الذي أرشد إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابن جُرَيْجٍ وقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ (قُسْطَنْطِينَ) جَمَعَهُمْ فِي مَحْفَلٍ كَبِيرٍ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ جَمَاعَةُ الْأَسَاقِفَةِ مِنْهُمْ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وسبيعن أُسْقُفًا، فَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السلام اختلافاً متبانياً جداً، فقالت كل شرذمة فيه قولاً، وَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى مَقَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ ثلثمائة وَثَمَانِيَةٍ مِنْهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ فمال إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ، وَكَانَ فَيْلَسُوفًا، فَقَدَّمَهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَرَدَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَوَضَعُوا لَهُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ بَلْ هِيَ الْخِيَانَةُ الْعَظِيمَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ كُتُبَ الْقَوَانِينِ وَشَرَّعُوا لَهُ أَشْيَاءَ وَابْتَدَعُوا بِدَعًا كَثِيرَةً، وَحَرَّفُوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذٍ الْكَنَائِسَ الْكِبَارَ فِي مَمْلَكَتِهِ كُلِّهَا، بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ، فَكَانَ مَبْلَغُ الْكَنَائِسِ فِي أَيَّامِهِ ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة، وَقَوْلُهُ: ﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ تهديد
- ٣٩ - وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
- ٤٠ - إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار يوم القيامة: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم﴾ أي في الدينا ﴿فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ أَيْ أَنْذِرِ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾: أَيْ فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النار، وصار كُلٌّ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَلَّدًا فِيهِ، ﴿وَهُمْ﴾ أَيِ الْيَوْمَ ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ عَمَّا أُنْذِرُوا به يوم الحسرة والندامة ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون وَيَقُولُونَ، نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ، فَيَشْرَئِبُّونَ وينظرون وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا موت" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وأشار بيده ثم قال: «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري واللفظ له وأخرجه الشيخان عن ابن عمر ولفظهما قريب من ذلك).
وقال السُّدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يُمِيتُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي أَهْلِ عِلِّيِّينَ، وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ فِي الجنة إلاّ نظر إليه، ثم ينادي مناد: يَا أَهْلَ النَّارِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يميت الناس في الدينا فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، فَيَفْرَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرْحَةً لَوْ كان أحدا مَيِّتًا مِنْ فَرَحٍ مَاتُوا، وَيَشْهَقُ
- ٤٢ - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
- ٤٣ - يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
- ٤٤ - يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا
- ٤٥ - يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَاذْكُرْ فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ﴾ أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، خبر إبراهيم خليل الرحمن، وقد كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً مَعَ أَبِيهِ كَيْفَ نَهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ أَيْ لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ يَقُولُ: وإن كنت من صلبك وتراني أَصْغَرُ مِنْكَ، لِأَنِّي وَلَدُكَ، فَاعْلَمْ أَنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا تَعْلَمْهُ أَنْتَ، وَلَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ وَلَا جَاءَكَ ﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾ أَيْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا مُوَصِّلًا إِلَى نَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ، ﴿يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ أَيْ لَا تُطِعْهُ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ وَالرَّاضِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا يني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عدو مبين﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً﴾ أَيْ مُخَالِفًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فلا تتبعه ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ﴾: أَيْ عَلَى شِرْكِكَ وَعِصْيَانِكَ لِمَا آمُرُكَ بِهِ ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾ يَعْنِي فَلَا يَكُونُ لَكَ مَوْلًى وَلَا نَاصِرًا وَلَا مُغِيثًا إِلَّا إِبْلِيسُ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ اتِّبَاعُكَ لَهُ مُوجِبٌ لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
- ٤٧ - قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
- ٤٨ - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً
إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أَيْ أَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أَيْ وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً﴾ وعسى هَذِهِ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
- ٥٠ - وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
يقول تعالى: فَلَمَّآ اعْتَزَلَ الْخَلِيلُ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي اللَّهِ، أَبْدَلَهُ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، يَعْنِي ابْنَهُ وَابْنَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾، وقال: ﴿وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يعقوب﴾، وَلَا خِلَافَ أَنَّ إِسْحَاقَ وَالِدُ يَعْقُوبَ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ولهذا إنما ذكر ههنا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُ نَسْلًا وَعَقِبًا أَنْبِيَاءَ، أَقَرَّ اللَّهُ بِهِمْ عَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
- ٥٢ - وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا
- ٥٣ - وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْكَلِيمِ فَقَالَ: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى
إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ بكسر اللام من الإخلاص في العبادة، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُصْطَفًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾، ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ جمع الله لَهُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْكِبَارِ، أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، وَهُمْ (نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جانب الطور﴾ أي الجانب ﴿الْأَيْمَنِ﴾ مِنْ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ يَبْتَغِي مِنْ تلك النار جذوة، فرآها تَلُوحُ فَقَصَدَهَا فَوَجَدَهَا فِي جَانِبِ الطُّوْرِ الْأَيْمَنِ منه، غربية عند شاطئ الوادي، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ قَالَ: أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم. وَقَالَ السُّدِّيُّ ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ قَالَ: أُدْخِلَ فِي السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه، وروى ابن أبي حاتم، عن عمرو بن معد يكرب قَالَ: لَمَّا قَرَّبَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا بِطُورِ سَيْنَاءَ قَالَ: يَا مُوسَى إِذَا خَلَقْتُ لَكَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ، فَلَمْ أُخَزِّنْ عَنْكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَمَنْ أُخَزِّنُ عَنْهُ هَذَا فَلَمْ أَفْتَحْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾ أَيْ وَأَجَبْنَا سُؤَالَهُ وَشَفَاعَتَهُ فِي أَخِيهِ فَجَعَلْنَاهُ نَبِيًّا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُكَذِّبُونِ﴾، وقال: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى﴾، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا شُفِّعَ أَحَدٌ شَفَاعَةً فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَةِ مُوسَى فِي هَارُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾، قال ابن عباس: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ وهب نبوته له (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم).
- ٥٥ - وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
هَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ وَالِدُ عَرَبِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ عِدَةً إِلَّا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بِنَذْرٍ إِلَّا قَامَ بِهَا، وَوَفَّاهَا حَقَّهَا. وَقَالَ ابن جرير، عن سهل بن عقيل، أَنَّ (إِسْمَاعِيلَ) النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ رَجُلًا مكاناً أن يأتيه فيه،
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ فَقَطْ، وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، فَدَلَّ
عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾، هَذَا أَيْضًا مِنَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالصِّفَةِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَّةِ السَّدِيدَةِ، حَيْثُ كَانَ صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمِرًا بِهَا لِأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عليها﴾ الآية. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كثيراً والذكرات» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ له).
- ٥٧ - وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
ذِكْرُ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ كَانَ صدِّيقاً نَّبِيّاً، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ خَيَّاطًا فَكَانَ لَا يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ أحد أفضل عملاً منه، وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ كَمَا رُفِعَ عِيسَى. وقال سفيان، عن مجاهد ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ قال: السماء الرابعة، وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ قَالَ: الْجَنَّةُ.
يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ، ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ الْآيَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ (إِدْرِيسَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ (إِبْرَاهِيمَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ (مُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ، (قُلْتُ): هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ قِيلَ إنه من أنبياء بني إسرئيل، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقِلْ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا السلام، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي ﴿ص﴾ سَجْدَةٌ؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: ﴿أولئك الذي هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ فَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، قَالَ وَهُوَ مِنْهُمْ يَعْنِي دَاوُدَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ أَيْ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلَائِلَهُ وَبَرَاهِينَهُ سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعًا واستكانة حمداً وَشُكْرًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْبُكِيُّ جَمْعُ بَاكٍ فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ على شرعية السجود ههنا اقْتِدَاءً بِهِمْ وَاتِّبَاعًا لِمِنْوَالِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُورَةَ مَرْيَمَ فَسَجَدَ، وَقَالَ هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ" (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير).
- ٦٠ - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حِزْبَ السُّعَدَاءِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْقَائِمِيْنَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ الْمُؤَدِّينَ فَرَائِضَ اللَّهِ التَّارِكِينَ لِزَوَاجِرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ ﴿خَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ أي قرون أخر، ﴿أَضَاعُواْ الصلاة﴾، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، فَهَؤُلَاءِ سَيَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ خَسَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بإضاعة الصلاة ههنا، فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ محمد بن كعب القرظي وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا هُوَ مشهور عن الإمام أحمد، إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ: «بَيْنَ الْعَبْدِ وبين الشرك ترك الصلاة» (الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر بلفظ «بين الرجل وبين الشرك الكفر... »)، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: «الْعَهْدُ الَّذِي
- ٦٢ - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
- ٦٣ - تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا
يَقُولُ تَعَالَى: الْجَنَّاتُ الَّتِي يدخلها التائبون هِيَ ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أَيْ إِقَامَةٍ ﴿الَّتِي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ﴾ بظهر الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَا رَأَوْهُ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ
﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نور أبداً مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ. وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ، بِرَفْعِ الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة: فِيهَا سَاعَتَانِ بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ، لَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ. وَقَالَ مجاهد: ليس بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ هِيَ الَّتِي نُورِثُهَا عِبَادَنَا المتقين، وهم الميطعون لِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمُونَ الْغَيْظَ وَالْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة المؤمنين: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
- ٦٥ - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لجبرائيل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا؟» قَالَ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ (أخرجه البخاري في باب التفسير ورواه الإمام أحمد). وقال العوفي عن ابن عباس: احتبس جبرائيل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآية. وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا﴾، قِيلَ: الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمَا خَلْفَنَا أَمْرُ الْآخِرَةِ ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ ما بين النفختين، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي، وقيل ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾: ما يستقبل مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾
- ٦٧ - أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا
- ٦٨ - فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا
- ٦٩ - ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا
- ٧٠ - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ وَيَسْتَبْعِدُ إِعَادَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا ترابا أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾، وَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وهي رميم﴾، وقال ههنا: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾، يَسْتَدِلُّ تَعَالَى بِالْبَدَاءَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً، أَفَلَا يُعِيدُهُ؟ وَقَدْ صَارَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، وَفِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري في صحيحه)، وَقَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ﴾ أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يحشرهم جميعاً، وشياطينهم الذي كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قُعُودًا كَقَوْلِهِ: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية﴾ وقال السدي في قوله ﴿جِثِيّاً﴾ يعني قياماً، وروي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ يَعْنِي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً﴾ قال الثوري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْبِسُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ أَتَاهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً﴾، وَقَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قَادَتَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ
- ٧٢ - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظالمين فيها جثيا
روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ: يَرِدُونَهَا جَمِيعًا، وأهوى بأصبعه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظالمين فِيهَا جِثِيّاً». وعن قيس ابن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ فَبَكَى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، قَالَ إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وكان مريضاً (أخرجه عبد الرزاق). وقال ابن جرير عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: كَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: يَا لَيْتَ أُمِّي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا وَلَمْ نُخْبَرْ أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لِأَخِيهِ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ وَارِدٌ النَّارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ صَادِرٌ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَفِيمَ الضَّحِكُ، قَالَ: فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا حتى لحق بالله، وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، فَقَالَ نَافِعٌ: لَا، فَقَرَأَ ابْنَ عَبَّاسٍ ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنتُمْ لها واردون﴾ وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَالَ: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ أوردهم أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَى الله مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع. وقال: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَاشِدٍ، وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ. فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾، قَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرِدُ النَّاسُ كلهم ثم يصدون عنها بأعمالهم» (رواه أحمد والترمذي). وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ جَمِيعًا الصِّرَاطَ، وَوُرُودُهُمْ قِيَامُهُمْ حَوْلَ النَّارِ، ثم يصدون عَنِ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَعَدْوِ الرجُل، حَتَّى إِنَّ آخرهم مراً رجل نوره على موضع قدميه يمر فيتكفأ بِهِ الصِّرَاطَ، وَالصِّرَاطُ دَحْضُ مَزَلَّةٍ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ الْقَتَادِ، حَافَّتَاهُ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نار يختطفون بها الناس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن جرير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ
- ٧٤ - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ، أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ ويعرضون عن ذلك، وَيَقُولُونَ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا مُفْتَخِرِينَ عَلَيْهِمْ وَمُحْتَجِّينَ عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ أَيْ أَحْسَنُ مَنَازِلَ، وَأَرْفَعُ دُوْرًا، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَهُوَ مجتمع الرِّجَالِ لِلْحَدِيثِ، أَيْ نَادِيهِمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ وَارِدًا وطارقاً، يعنون فكيف نكون نحن بهذه المثابة على باطل؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ﴾، وَقَالَ قَوْمُ نُوحٍ، ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾: أَيْ وَكَمْ مِنْ أمة وقرن من المكذبين، وقد أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ ﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا﴾ أَيْ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمْوَالًا وَأَمْتِعَةً وَمَنَاظِرَ وأشكالاً. قال ابن عباس ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ الْمَقَامُ: الْمَنْزِلُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْأَثَاثُ: الْمَتَاعُ، وَالرِّئْيُ: المنظر، وهو كما قال الله تَعَالَى: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ فَالْمَقَامُ الْمَسْكَنُ وَالنَّعِيمُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْمَجْمَعُ، الَّذِي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فِيمَا قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِ لوط ﴿وَتَأْتُونَ في ناديكم المنكر﴾ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَجْلِسَ النَّادِي، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عيشهم خشونة وفيهم
يَقُولُ تَعَالَى ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمُ، الْمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ ﴿مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ﴾ أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ أي فليمهله الرَّحْمَنُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ وينقضي أجله، ﴿إِمَّا العذاب﴾ يصيبه، و ﴿إما السَّاعَةَ﴾ بَغْتَةً تَأْتِيهِ، ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ حينئذٍ ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ فِي مُقَابَلَةِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ خَيْرِيَّةِ الْمَقَامِ وَحُسْنِ النَّدِيِّ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ فليدعه في ظيغانه، هَكَذَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.
لَمَّا ذكر تَعَالَى إِمْدَادَ مَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَزِيَادَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أخبره بِزِيَادَةِ الْمُهْتَدِينَ هُدًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا﴾ الآيتين. وقوله: ﴿والباقيات الصالحات﴾ قد تقدم تفسيرها فِي سُورَةِ الْكَهْفِ ﴿خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً﴾ أَيْ جَزَاءً ﴿وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ أَيْ عَاقِبَةً وَمَرَدًّا على صاحبها. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَحَطَّ وَرَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ، خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ». قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لَأُهَلِّلَنَّ اللَّهَ وَلَأُكَبِّرَنَّ اللَّهَ وَلَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ، حَتَّى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون (رواه عبد الرزاق وظاهره أنه مرسل ولكن وقع في سنن ابن ماجه عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكره وهو حديث مرفوع).
- ٧٨ - أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا
- ٧٩ - كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا
- ٨٠ - وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فردا
روى الإمام أحمد، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى (الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) دين فأتيته أتقاضاه منه، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ
وروى عبد الرزاق، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أَعْمَلُ لِلْعَاصِ بْنِ وائل، فاجتمعت لي عليه دارهم، فجئت لأتقاضاها، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِذَا بُعِثْتُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ، قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ الآيات. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَطْلُبُونَ (العاص بن وائل) بِدَيْنٍ، فَأَتَوْهُ يَتَقَاضُونَهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْآخِرَةُ فَوَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، وَلَأُوتَيَنَّ مِثْلَ كِتَابِكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا - إِلَى قوله - وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾، قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ ﴿وَلَداً﴾ وَقَرَأَ آخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُوَ بمعناه، وَقِيلَ: إِنَّ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ جَمْعٌ، وَالْوَلَدَ بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ إِنْكَارٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَعَلِمَ ماله فِي الْآخِرَةِ، حَتَّى تَأَلَّى وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ أَمْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عند البخاري أنه الموثق، وقال ابن عباس: ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ قَالَ: لَا إله إلا الله فيرجو بها، وقال القرظي: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قرأ ﴿ألا من اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿كَلاَّ﴾ هِيَ حَرْفُ رَدْعٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا ﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ أَيْ مِنْ طَلَبِهِ ذَلِكَ، وحكمه بنفسه، بما يتمناه وَكَفْرِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى قَوْلِهِ ذلك وكفره بالله في الدينا، ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ أَيْ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، نَسْلُبُهُ مِنْهُ عَكْسَ مَا قَالَ إِنَّهُ يُؤْتَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، زِيَادَةً عَلَى الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ فِي الْآخِرَةِ يُسْلَبُ مِنَ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ أَيْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، قَالَ مجاهد ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾: ماله وولده، وقال قَتَادَةَ ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ قَالَ: مَا عِنْدَهُ، وهو قوله: ﴿لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وقال عبد الرحمن بن زيد ﴿وَنَرِثُهُ مَا يقول﴾ قال: من جمع من الدنيا وما عمل فيها، ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ قَالَ: فَرْدًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَتْبَعُهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
- ٨٢ - كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً
- ٨٣ - أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
- ٨٤ - فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ، أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لِتَكُونَ لهم تِلْكَ الْآلِهَةُ ﴿عِزّاً﴾ يَعْتَزُّونَ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُونَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا يَكُونُ مَا طَمِعُوا، فَقَالَ ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾: أي
- ٨٦ - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - ٨٧ - لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ خَافُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ، وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ وأطاعوهم فينا أمروهم به، وانتهوا عما زَجَرُوهُمْ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفْدًا إِلَيْهِ، وَالْوَفْدُ هُمُ الْقَادِمُونَ رُكْبَانًا وَمِنْهُ الْوُفُودُ، وَرُكُوبُهُمْ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمْ قَادِمُونَ عَلَى خَيْرِ مَوْفُودٍ إِلَيْهِ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَأَمَّا الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ عُنْفًا إِلَى النَّارِ ﴿وِرْداً﴾ عطاشاً (قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد)، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ وَجْهَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا، فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي فَيَرْكَبُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم)، قال ابن عباس: ركباناً، وقال أبو هُرَيْرَةَ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ قال: على الإبل. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ قَالَ: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ
وقوله تعالى ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ أَيْ عِطَاشًا، ﴿لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ كَمَا يَشْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ هذا اسثناء مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، والقيام بحقها. قال ابن عباس: الْعَهْدُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهِ عَزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ الله بن مَسْعُودٍ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ ثُمَّ قَالَ: اتَّخِذُوا عِندَ اللَّهِ عَهْداً، فإن الله يقول الْقِيَامَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَلْيَقُمْ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَعَلِّمْنَا، قَالَ قُولُوا: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَكَانَ يُلْحِقُ بِهِنَّ: خَائِفًا مُسْتَجِيرًا مُسْتَغْفِرًا رَاهِبًا راغباً إليك.
- ٨٩ - لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً
- ٩٠ - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً
- ٩١ - أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً
- ٩٢ - وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
- ٩٣ - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً
- ٩٤ - لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
- ٩٥ - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَقَالَ: ﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ﴾ أَيْ فِي قَوْلِكُمْ، هَذَا ﴿شَيْئاً إِدّاً﴾، قال ابن عباس: أي عظيماً، وَقَوْلُهُ: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً﴾ أَيْ يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فجَرَة بَنِي آدَمَ إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا، لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَأَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ، قال ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً﴾ قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إلاّ الثقلين، وكادت تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عند موته وجبت له الجنة»، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ فَوُضِعْنَ فِي كفة الميزان ووضعا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ» (هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وقال
آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ أي لا ناصر وَلَا مُجِيرَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فيحكم في خلقه بما يشاء، هو الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا يظلم أحداً.
- ٩٧ - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا
- ٩٨ - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَغْرِسُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وجه فروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يحب فلاناً فأحبوه، قَالَ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِن اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيَبْغَضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ، فَيَبْغَضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يوضع له البغضاء في الأرض" (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد). وعن ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثم يهبط إلى الأرض (أخرجه الإمام أحمد) وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يُنَزِّلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿بِلِسَانِكَ﴾: أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ الْفَصِيحُ الْكَامِلُ، ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ الْمُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ، ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾: أَيْ عُوَّجًا عن الحق مائلين إلى الباطل، وقال مُجَاهِدٍ ﴿قَوْماً لُّدّاً﴾ لَا يَسْتَقِيمُونَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾: عوجاً عن الحق. وقال الضحّاك: الألد الخصيم، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: الْأَلَدُّ الْكَذَّابُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ﴿قَوْماً لُّدّاً﴾ صُمًّا، وَقَالَ غَيْرُهُ: صُمُّ آذَانِ القلوب، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿قَوْمًا لُدًّا﴾: فُجَّارًا، وَكَذَا رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَلَدُّ الظَّلُومُ، وقرأ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾: أَيْ مِنْ أُمَّةٍ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾: أَيْ هَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأبو العالية وعكرمة: يَعْنِي صَوْتًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: هَلْ تَرَى عَيْنًا أَوْ تَسْمَعُ صَوْتًا وَالرِّكْزُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا * عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سقامها.