٢ انظر: صحيح البخاري ٦/١٢١ (كتاب التفسير) قال ابن الجوزي: هي مكية بإجماعهم من غير خلاف نعلمه) انظر: زاد المسير ٥/٣٣٨، والدر المنثور ٤/٣١٣..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء[سورة] "الأنبياء" -مكية.
قوله تعالى ذكره: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾.
معناه: دنا حساب الله لناس على أعمالهم ونقمته منهم ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾ يعني: في الدنيا.
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " في غفلة في الدنيا ".
وروي أن أصحاب النبي عليه السلام كان يقول بعضهم لبعض كل يوم، ما الخبر؟. أي: ما حدث؟. فمر رجل برجل يبني حائطاً له، فقال له: ما الخبر؟ فقال: نزلت: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ". فنزل وترك البناء، فلم يبن ذلك الحائط بعدها.
فالمعنى: قرب [من الناس حسابهم وهم قد غفلوا عما يراد بهم من محاسبة
قال ابن عباس: " عنى بذلك الكفار " دليله، قوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.
ومعنى الآية ما يأتي الكفار.
وقال ابن عباس: " اقترب للناس حسابهم " معناه: قرب عذابهم.
قوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾.
أي: ما يأتيهم من قرآن يذكرهم الله به ويعظمهم إلا استمعوه وهم يلعبون، لا يعتبرون ولا يتفكرون في وعده ووعيده.
ومعنى " محدث " أي: محدث عند النبي ﷺ، لأنه لم يكن يعلمه فعلمه بإنزال جبريل صلى الله عليهما وسلم إياه عليه فهو محدث في علم النبي عليه السلام ومعرفته. غير محدث عند الله تعالى ذكره.
وقد قيل: عني بذلك: أن النبي ﷺ كان يذكرهم ويعظهم فتذكيره لهم محدث على الحقيقة.
وقال: ﴿مِّن رَّبِّهِمْ﴾ لأنه لا ينطبق إلا بما يؤمر به، قال تعالى ذكره:
ثم قال: ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾.
أي: غافلة، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه كتابه.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾.
أي: أسر هؤلاء الناس الذين اقترب حسابهم، النجوى بينهم، أي: أظهروا المناجاة بينهم، فقالوا: هل محمد إلا بشر مثلكم، وهو يزعم أنه رسول من عند الله إليكم.
وقيل: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ أي: قالوا ذلك سراً.
وقال أبو عبيدة: " هو من الأضداد ".
وقوله: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض﴾ [الأنبياء: ٤].
الآية يدل على أنه بمعنى أخفوا.
ثم قال: ﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾.
زعموا أن محمداً ﷺ وشرف وكرم ساحر، وأن ما جاء به سحر. أي تقبلون ما جاءكم به وهو سحر وأنتم تبصرون أنه بشر مثلكم.
وفي الضمير الذي أتى بلفظ الجمع في قوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ مع
الأول: أن يكون ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾ بدلاً من الواو في ﴿وَأَسَرُّواْ﴾.
فيكون التقدير: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾.
والثاني: أن يكون ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾ رفعاً بابتداء مضمر، والتقدير: " هم الذين ظلموا ".
والثالث: أن يكون ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾ رفعاً بفعلهم. والتقدير: يقول الذين ظلموا هل هذا.
والرابع: أن يكون ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾ في موضع نصب بإضمار، أعني.
والخامس: أن يكون على لغة من جمع الفعل مقدماً، كما حكي: أكلوني البراغيث، وهو قول الأخفش.
والسادس: أن يكون ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾ بدلاً من الناس أو نعتاً. كأنه قال: اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم.
والوقف على ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى﴾ حسن على القول الثاني والثالث والرابع.
أي: قل يا محمد: ربي يعلم قولكم بينكم، ﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ويعلم غير ذلك في السماوات والأرض وهو السميع لجميع ذلك/، العليم بجميع خلقه، فيجازي كلا على قدر أعمالهم.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾.
أي: بل قال المشركون: الذي جاء به محمد أضغاث أحلام. أو هم أضغاث أحلام. أي: لم يصدقوا بالقرآن، ولا آمنوا به ولكن قالوا: هو أضغاث أحلام، أي رؤيا رآها في النوم.
" الأضغاث " الأخلاط. ومنه ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾.
وقال بعضهم: بل هي فرية واختلاق من عند نفسه.
وقال بعضهم: بل محمد... شاعر، فنقض بعضهم قول بعض.
ثم قالوا بعد ذلك. ونقضوا قولهم كلهم ورجعوا عن ما قالوا، فقالو: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾ أي: بل يأتينا محمد بآية تدل على صدقه، كما جاءت به الرسل قبل محمد؟ من مثل الناقة، وإحياء الموتى وشبهه. وذلك منهم تعنت، لأن الله تعالى قد
ثم قال تعالى ذكره: ﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ﴾.
في هذه الآية بيان لإثبات القدر، لأن المعنى: أن امتناع من تقدم من الكفار من الإيمان حتى هلكوا لا يوجب امتناع من بعدهم، لكن كل ذلك بقدر من الله جل ذكره؛ وتحقيق المعنى على قول المفسرين، مآ آمن قبل هؤلاء الذين كذبوا محمداً من أهل قرية عذبناها بالهلاك في الدنيا إذ كفروا بعد مجيء الآية.
﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ استفهام معناه التقرير. أي: فهؤلاء المكذبون محمداً السائلون الآية، يؤمنون إن جاءتهم آية. فلم يبعث الله تعالى إليهم آية لعلمه أنهم يكذبون بها، فيجب عليهم حلول العذاب. وقد تقدم في علمه أن ميعادهم الساعة.
قال تعالى: ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٨]. فلما كان أمر هذه الأمة وعقوبتها، أخّرها الله إلى قيام الساعة، لم يرسل إليها آية مما اقترحوا به من الآيات التي توجب حلول العذاب عليها إذ كفرت بعد ذلك كما فعل بالأمم الماضية.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ أي: وما أرسلنا قبلك يا محمد من الرسل إلا رجالاً مثل الأمم المرسل إليها. يوحي الله إليهم ما يريد. أي: لم يرسل
وهذا جواب لقول المشركين: ﴿هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾.
ثم قال: ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: اسألوا: أهل الكتب التي نزلت قبل كتابكم، يخبرونكم أنه لم تكن الرسل التي أتتهم بالكتب إلا رجالاً مثلهم.
قال سفيان: " يريد: اسألوا من أسلم من أهل التوراة والإنجيل ".
ويراد بالذكر: التوراة والإنجيل.
وروي عن عبد الله بن سلام: " أنه قال: " نزلت في ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر﴾ فهذا يدل على أن " الذكر " التوراة.
وقال قتادة: ﴿أَهْلَ الذكر﴾: " أهل التوراة ".
وقيل: ﴿أَهْلَ الذكر﴾ " أهل القرآن " من آمن منهم.
وقال علي: " نحن أهل الذكر ".
وقال ابن زيد: " الذكر: القرآن. لقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾ ".
أي: وما جعلنا الرسل الذين أرسلنا في الأمم الخالية، جسداً لا يأكلون الطعام. أي: لم نجعلهم ملائكة، ولكن جعلناهم مثلك، يأكلون الطعام.
وقال قتادة: معناه: " ما جعلناهم جدساً إلا ليأكلوا الطعام ".
وقال الضحاك: معناه: " لم أجعلهم جسداً لا روح فيه، لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجساداً فيها أرواح يأكلون الطعام ". والجَسَدُ وُحِّدَ وقَبلَهُ جماعة، لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: وما جعلناهم خلقاً لا يأكلون الطعام.
والتقدير: ذوي جسد. وهذا جواب لقوهم ﴿وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام﴾ [الفرقان: ٧]. فأعلمهم [الله] أن الرسل تأكل الطعام، وأنهم يموتون. وهو معنى قوله: وما كانوا خالدين.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد﴾.
أي: صدقنا الرسل الوعد بإهلاك قومهم إذ سألوا الآيات، فأتتهم وكذبوا بها. كقوله تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ﴾ [المائدة: ١١٥].
﴿فَأَنجَيْنَاهُمْ﴾.
أي: أنجينا الرسل لما أتى العذاب لأممها. ﴿وَمَن نَّشَآءُ﴾ أي: وأنجينا من نشاء،
ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾. يخاطب قريشاً. أيك فيه شرفكم إن آمنتم به، لأنه عليكم نزل، وبلغتكم. وهو قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ أي: حديثكم.
وقال سفيان: " نزل القرآن بمكارم الأخلاق "، فهو شرف لمن اتبعه وآمن به.
والذكر: يستعمل بمعنى الشرف: يقال فلان مذكور في هذا البلد، إذا كان فيه رفيعاً مذكوراً بالشرف والفضل.
وقيل: معناه: فيه [ذكركم أي]: ذَكَّرْنَاكُم به أَمْرَ دينكم وأمر آخرتكم ومعادكم فجعله ذكرهم، إذ كان به يذكرهم ما وصفنا. وقد قال الله تعالى:
وقوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
تقرير توبيخ وتنبيه على فهم ذلك وقبوله [أي]: أفلا تعقلون أن ذلك على ما أخبرناكم به.
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ إلى قوله: ﴿عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
المعنى: وكثيراً أهلكنا من أهل القرى كانوا ظالمين بكفرِهم ف " كم " في موضع نصب بقصمنا، وهي خبر، وفيها معنى التكثير. وانقصم أصله الكسر. يقال انقصم سنه، وقصمت ظهر فلان، أي: كسرته.
وروى ابن وهب عن بعض رجاله، أنه كان باليمن قربتان، فبطر أهلها وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فبعث الله تعالى إليهم نبياً فدعاهم، فقتلوه، فألقى الله في نفس بخث نصر غزوهم، فبعث إليهم جيشاً، فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه. فخرج
قال مجاهدك " قصمنا ": أهكلنا. وجرى الخبر عن القرية والمراد أهلها، لأن المعنى مفهوم.
ثم قال: ﴿وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾ أي: أحدثنا بعد إهلاك هؤلاء الظالمين قوماً آخرين سواهم.
ثم قال: ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾.
أي: فلما عاين هؤلاء الظالمون من أهل القرى العذاب، ووجدوا مسه، إذا هم مما أحسوا يركضون. أي: يهربون سراعاً يعدون. وأصله من ركض الدابة إذا حركت رجليك عليها فعدت.
فقوله: ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ﴾.
ثم قال: ﴿لاَ تَرْكُضُواْ﴾.
أي: لا تفروا ولا تهربوا. ﴿وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾. أي: إلى ما أنعمتم فيه من عيشكم وإلى، ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ أي: تسألون عن دنياكم شيئاً. على وجه السخرية بهم والاستهزاء. قاله: قتادة.
وقال مجاهد: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ أي: تنتهون.
وقيل: معناه: لعلكم تسألون شيئاً مما شغلكم عما لكم فيه الصلاح، على التهدد.
وقيل: معناه: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة وعاينتموه من العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
أي: قالوا لمّا حلَّ عليهم العذاب: يا ويلنا. وهي كلمة يقولها من وقع في هلكة وتقال لمن وقع في هلكة.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾.
أي: فما زالت تلك الكلمة دعواهم وهي الدعاء بالويل، والإقرار بالظلم.
﴿حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ﴾.
أي: حتى هلكوا فحصدوا من الحياة كما يحصد الزرع أفصاروا مثل الحصيد من الزرع. ﴿خَامِدِينَ﴾ أي: قد سكنت حركتهم كما تخمد النار فتطفأ.
قال الضحاك ومقاتل ومجاهد: " حصدوا قتلاً بالسيف ".
قال قتادة: " لما عاينوا العذاب، لم يكن لهم هِجِّيرَي إلا قولهم: يا ويلنا، إنا كنا ظالمين.
حتى دمّر الله تعالى عليهم فأهلكهم.
قال ابن عباس: " خامدين خمدوا النار، أي طفئت ولم ينتفعوا بالإيمان والندم/ عند معاينة العذاب، لأنه وقت قد رفع عنهم فيه التكليف. وإذا رفع التكليف، ارتفع القبول. وإنما القبول منوط بالتكليف.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين﴾.
أي: ما خلقناهما لعباً وعبثاً، إنما خلقناهم حجة عليكم أيها الناس، لتعتبروا
وقيل: المعنى، ما خلقناهما وما بينهما لعباً ولا باطلاً، أي: ليظلم بعض الناس بعضاً، ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا فلا يجازون بأفعالهم.
وقيل: المعنى: ما خلقناهما لعباً، بل خلقناهما ليؤمر الناس بحسن وينهوا عن قبح.
ثم قال تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً﴾.
أي: زوجة وولداً، ﴿لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ﴾ أي: من عندنا. أي مما نخلق. لكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله.
قال الحسن: اللهو: المرأة. وقاله مجاهد.
وقال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن - المرأة.
وقال ابن عباس: " لهواً: ولداً ".
وقوله: ﴿إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
أي: ما كنا فاعلين. قاله قتادة.
وقيل: إن: للشرط. والتقدير: إن كنا فاعلين، ولسنا ممن يفعله.
واقل ابن جريج: " قالوا: مريم صاحبته، وعيسى ولده. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فأنزل الله: ﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ﴾ الآية.
ومعنى: " من لدنا " عند ابن جريج: " من عندنا من أهل السماء ولم نتخذه من أهل الأرض الذي تلحقهم الآفات والنقص ".
﴿إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ أي: ما كنا نفعل ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل﴾.
قال مجاهد: الحق: القرآن، والباطل الشيطان. وكذلك كل ما في القرآن من
قوله ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾.
أي: ذاهب مضمحل.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ﴾.
أي: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته بقولكم: إنه اتخذ ولداً وزوجة.
وقيل: معناه: ولكم واد في جهنم يستعيذ أهل جهنم منه.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ﴾.
أي: كيف يجوز أن يتخذ ولداً من له من في السماوات والأرض، ومن عنده من الملائكة الذين ادعيتم أنهم بنات الله لا يستكبرون عن عبادتهم إياه ﴿وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾ أي: ولا يعيون ولا ينقطعون عن عبادته.
" وعند " في هذا بمعنى: قرب المنزلة عند الله لهم، وليس بمعنى قرب المسافة، لأنه لا تحويه الأمكنة فقد علمتم أنه ليس يستعبد والد ولده، ولا صاحبته، وكل من
ثم قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾. أي: لا يكلون من تسبيحهم.
قال كعب: " التسبيح لهم بمنزلة النفس لبني آدم ".
وعنه أنه قال: " الهموا التسبيح كما ألهمتم الطرف والنفس ".
وذكر علي بن معبد أن عمر بن الخطاب قال لكعب: خوفنا يا كعب. قال: " إن لله تعالى ملائكة من يوم خلقهم قيام، ما ثنوا أصلابهم، وآخرين وركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين سجوداً ما رفعوا رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعاً: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك كما ينبغي لك أن تعبد ثم قال: والله لو أن رجلاً عمل عمل سبعين نبياً لا ستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ، والله لو دلي من غسلين دلو واحد من مطلع الشمس، لغلت منه جماجم قوم من مغربها والله لتزفرن جهنم زفرة ولا يبقى ملك مقرب إلاّ خرّ
وروى ابن المبارك في حديث عن بعض شيوخه: " أن ملكاً لما استوى الرب جل ذكره على عرشه سجد فلم يرفع رأسه ولا يرفعه إلى يوم القيامة. فيقول يوم القيامة: لم أعبد حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً ".
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: " إن الله جزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل الملائكة تسعة أجزاء، وسائر الخلق جزء. وجزأ الملائكة/ عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون وجزءاً لرسالته. وجزأ سائر الخلق عشرة أجزاء فجعل الجن تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً. وجزأ بني آدم عشرة أجزاء، فجعل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً ".
وعنه أيضاً أنه قال: " الملائكة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء منهم الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفتون، وجزءاً واحداً لرسالته ولما شاء من أمره ".
وقال ابن عباس: " كل تسبيح في القرآن، يعني: به الصلاة ".
ثم قال تعالى: ﴿أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض﴾.
أي: اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض: ﴿هُمْ يُنشِرُونَ﴾ أي: هذا الآلهة تحيي الموتى. بل الله هو الذي يحيي الموتى.
وقرىء ﴿هُمْ يُنشِرُونَ﴾ بفتح الياء. والمعنى: هم يحيون فلا يموتون أبداً، كالله
ثم قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾.
أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير والله. و " إلا " بمعنى: غير: فاعرب الاسم الذي بعد " إلا " كإعراب " غير " لو ظهرت فرفع.
هذا مذهب البصريين وسيبويه.
وقال الفراء: " إلا " بمعنى سوى. ومعنى الآية: لو كان المعبود آلهة أو إلهين لفسد التدبير، لأن أحدهما يريد ما لا يريد الآخر، فإذا تم ما أراد أحدهما، عجز الآخر. والعاجز لا يكون إلهاً. وإذا فسد وجود إلهين أو آلهة، ولم يكن بد من خالق مقدر للأشياء، يقدم المقدم منها، ويؤخر المؤخر منها، ويوجدها بعد عدمها، ثبت أنه واحد.
ثم قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي: فتنزيه لله تعالى وتبرئة له عما يفتري عليه هؤلاء المشركون من الكذب.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
أي: لا سائل يتعب عليه فيما يفعله بخلقه من حياة وموت وصحة ومرض، وغير ذلك وجميع الخلق. مسؤولون عن أفعالهم ومحاسبون عليها.
قوله تعالى: ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
المعنى: اتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضر، وتحيي وتميت. قل
وقيل: معناه: بل اتخذوا آلهة. وهو بعيد لقوله: " هم ينتشرون " لأنه يصير أنه أوجب ذلك لهم. وذلك لا يجوز.
ثم قال: ﴿هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾، أي: هذا الذي جئتكم به من القرآن خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم، وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه، وكفرهم به. " وذكر من قبلي " من الأمم التي سلفت قبلي. أي خبرهم، وما فعل الله بهم في الدنيا، وما هو فاعل بهم في الآخرة.
قال قتادة: " ذكر من معي " القرآن فيه الحلال والحرام. " وكذكر من قبلي " ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم، وماهو صانع بهم وإلى ما صاروا.
وقال ابن جريج: معناه: هذا حديث من معي، وحديث من قبلي.
وقيلأ: المعنى: " وذكر من قبلي " يعني الكتب المتقدمة. أي: هذا القرآن وهذه الكتب المتقدمة لا يوجد في شيء منها. أن الله اتخذ ولداً، ولا كان معه إله. فالمعنى
وقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ أي: هذا ذكر من معي وهو القرآن وذكر من قبلي وهو التوراة والإنجيل هل فيهما أن العبادة للآلهة أو فيهما أن الله تعالى أذن لأحد أن يتخذ إلهاً من دونه. ول فيهما إلا أن الله إله واحد. ودل على ذلك كله أيضاً قوله بعد ذلك: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون﴾.
وقرأ يحيى بن يعمر " هذا ذكر " من معي " وذكر " من قبلي بالتنوين وكسر الميم من " مِن " وتقديره: هذا ذكر مما أنزل إلى وذكر مما قبلي.
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة، ولم يعرف لها وجهاً.
ثم قال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق﴾ أي: لا يعلمون الصواب من الخطأ. فهم معرضون عن الحق جهلاً به.
وقال قتادة: " معناه: فهم معرضون عن كتا بالله.
وقرأ الحسن: " الحقُّ " بالرفع، على معنى: هذا الحق، أو هو الحق.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون﴾.
أي: ما أرسلنا الرسل من قبلك يا محمد إلا بالتوحيد وإلا بالعبادة لله
كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨].
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾.
أي: قال الكافرون بربهم اتخذ الرحمان ولداً من ملائكته " سبحانه " ينزه نفسه وبيرؤها مما قالوا: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾.
أي: بل هم عباد مكرمون، أي: بل الملائكة الذين جعلوهم بنات الله عباد مكرمون.
وقيل: عهنى به، الملائكة وعيسى عليه السلام.
قال قتادة: " قالت اليهود إن الله جل ذكره صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم: " بل هم عباد مكرمون ".
وعنه أيضاً أنه قال: قالت اليهود وطوائف من الناس ذلك.
ثم قال: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول﴾.
أي: لا يتكلمون إلا بما أمرهم به قاله قتادة. ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ أي: لا يأمرون حتى يأمر.
ثم قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
أي: يعلم ما بين أيدي ملائكته مما لم يبلغوه وهم قائلون وعاملون. ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي: وما مضى قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور وما عملوا فيه.
قال ابن عباس: معناه: " يعلم ما قدموا وما أضاعوا من أعمالهم ".
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾.
أي: لا يشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنهـ.
قال ابن عباس: " إلا لمن ارتضى " أي: ارتضى له بشهادة أن لا إله إلا الله وهذا من أبين الدلالة على جواز الشفاعة بشرط الرضا من الله تعالى وقال مجاهد: " لمن رضي علمه ".
ثم قال: ﴿وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾.
أي: من خوف الله وحذر عقابه حذرون خائفون.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾.
أي: من يقل نم الملائكة إن إله من دون الله فَثَوَابُهُ جهنم.
وقيل: عنى به إبليس، لأنه كان من الملائكة، ولم يقل ذلك أحد من الملائكة
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين﴾.
أي: كذلك نجزي كل من عبد غير الله، أو ادعى ما لايجب من الألوهية.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.
أي: أو لم يعلم هؤلاء المشركون بقلوبهم فيعلمون أن السماوات والأرض كان كل واحد منهما لا صدع فيه. لا تمطر السماء ولا تنبت الأرض، ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾. أي: فصدعهما الله بالماء والنبات، فأنزل الله من السماء الماء، وأخرج من الأرض النبات. هذا معنى قول عكرمة. قال: " فتقت السماء بالمطر، وفتقت الأرض بالنبات وهو قوله: ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع﴾
[الطارق: ١١ - ١٢] وهو أيضاً قول عطية وابن زيد. وهذا القول اختيار الطبري، لأن بعده: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أي: من الماء الذي فتقنا السماء به. ووحد رتقاً، لأنه مصدر. يقال: رتق فلان الفتق. إذا سده، فهو يرتقه رتقاً.
وقيل: معنى: الآية كانتا ملتصقتين ففصلنا بينهما بالهواء، قاله: الحسن وقتادة.
وعن ابن عباس أن المعنى: " أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين بالظلام لأن الليل خلق قبل النهار، ففتقهما الله تعالى بضوء النهار ".
وقوله: " إن السماوات " تدل على قول مجاهد.
وقد قيل: إنما قال السماوات يريد به السماء، لأن كل قطعة منها سماء.
وقيل: إنما قال: " السماوات " لأن املطر وري أنه ينزل من السماء السابعة. وروي أنه ينزل من الرابعة. وقد قالوا: ثوب أخلاق، فجمعوا لأن كل قطعة منه خلقة، فجمع لأن فيها قطع كثيرة.
وقوله: " كانتا "، ولم يقل " كنَّ "، فإنما كان ذلك لأنهما صنفان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر: ٤١] وقيل: إنما كان ذلك لأن السماوات كانت سماء واحدة، فعبر على الأصل.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾.
وقيل: هو حياة جميع الحيوان، إنما جيء بالماء الذي بنباته يعيش كل [شيء] حي.
وقيل: عنى بالماء هنا، النفطة خاصة.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ﴾. إلى قوله: ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾.
أي: وجعلنا الأرض جبالاً لئلا تميد بالناس.
قال قتادة/: " كانوا على الأرض تمور بهم، ولا يثبت عليها بناء فأصبحوا وقد خلق الله الجبال أوتاداً حتى لا تميد الأرض ". والميد التحرك والدوران.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً﴾.
قال قتادة: " فجاجاً ": إعلاماً. " سبلاً ": طرقاً.
قال ابن عباس: " وجعلنا فيها فجاجاً " أي: في الرواسي.
وعنه: " الفجاج " كل شعب في جبل أو واد له منفذ.
والفج في اللغة، الطريق بين الجللين.
وقيل: الضمير في فيها يعود على الأرض، وهو اختيار الطبري لقوله تعالى: ﴿لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾. أي: يهتدون إلى السير في الأرض. والأرض تؤنث وتذكر. والتأنيث أكثر. وحكى أبو زيد أرضون وأراض وأروض في جميع الأرض. ويجوز في القياس أرضات.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾. أي: سقفاً للأرض محفوظاً بالملائكة من الشياطين.
وقيل: معناه: محفوظاً من أن يقع على الأرض.
وقيل: محفوظاً بالنجوم من الشياطين. وهو أولى، ودليله قوله تعالى ذكره: ﴿وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ [الصافات: ٧].
وقال ابن جبير: السماء بحر مكفوف. ورفعه إلى النبي ﷺ.
قال قتادة: ﴿سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ أي: مرفوعاً، وموجاً مكفوفاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾.
أي: وهم عن شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من آياتنا، معرضون عن التفكر فيها، وتدبر ما فيها من الحجج والدلائل على توحيد الله وقدرته.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر﴾.
أي: ابتدعها. فمن ابتدع هذه الأشياء وخلقها، فله تجب العبادة لا لغيره.
قال عكرمة: سئل ابن عباس عن الليل أكان قبل النهار أم قبل الليل؟ فقال: أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاص، أكان بينهما إلا ظلمة ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
والليلة اسم للزمان من غروب الشمس إلى الانفجار الثاني.
واليوم: اسم للزمان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وكذلك النهار، واليوم ألزم لهذا الوقت من النهار، لأن بعض العرب يجعل النهار من طلوع الشمس إلى غروبها.
وقد يقع اليوم، اسماً للزمان، من طلوع الشمس إلى غروبها. وذلك مما جرت به العادات من الاستجارات ونحوها مما تعارق ذلك بين الناس، والأصل في اليوم، أنه اسم للزمان الذي تَعَبَّدَ الله به خلقه بالصيام والنهار مثله في أكثر اللغات.
وأصل الليل والنهار أنهما صفتان لزمانين معلومين على ما ذكرنا.
وقد قال الخليل: النهار ما بين الفجر إلى الغروب.
ثم قال تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
قال مجاهد: " الفلك " كهيئة حديدة الرحى. وقاله ابن جريج.
وقال الضحاك: " الفلك " هو سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وسيرها.
وقيل: " الفلك ": موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقيل: " الفلك " القطب الذي تدور به النجوم.
وقال ابن عباس وقتادة: " في فلك السماء ".
وعن الحسن أن الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.
وقال: " يسبحون " لأنه أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. فأتى بالواو والنون في فعلها.
ومعنى: " يسبحون " يجرون وينصرفون ويدرون.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد﴾.
أي: ما خلدنا أحداً من بني آدم في الدنيا، فنخلدك يا محمد فيها. أفئن مت فهؤلاء المشركون خالدون بعدك في الدنيا. وتقديره: أهم الخالدون إن مت.
ثم قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾.
أي: كل نفس معالجة غصص الموت، ومتجرعة كأسه.
﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾.
أي: ونختبركم أيها الناس بالرخاء والشدة وبما تحبون وما تكرهون، لننظر صبركم عند البلاء وشكركم عند الرخاء.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
أي: تردون فتجازون بأعمالكم. والرجوع إلى الله في هذا وفي كل ما في القرآن، إنما معناه: إلى حكمه وإلى قضائه وعدله، وليس برجوع إلى مكان الله، ولا إلى ما قرب منه، لأنه لا تحويه الأمكنة، إنما هو بمنزلة قولك: رجع أمرنا إلى القاضي وإلى الأمير. فقرب المسافة لا يجوز على الله جل ذكره، فافهمه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً﴾.
أي: يسخرون منك يا محمد إذا رأوك. يقول بعضهم لبعض: ﴿أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ بسوء ويعيبها، تعجباً من ذلك. فيعجبون يا محمد من ذكرك آلهتهم وهي لا تضر ولا تنفع. وهم بذكر الرحمان الذي خلقهم، وأنهم عليهم كافرون
ثم قال تعالى: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾.
يعني: آدم خلق من العجلة وعلى العجلة.
وقال ابن جبير: " لما نفخ في آدم الروح إلى ركبتيه ذهب لينهض فقال الله تعالى: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾.
وقال سلمان الفارسي: " لما خلق الله من آدم وجهه ورأسه، جعل ينظر، وهو
فلما كان بعد العصر قال: يا رب عجل قبل الليل. فقال: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾. ذكره ابن وهب عن رجاله.
وقال قتادة: " معناه: خلق الإنسان عجولاً.
وقال السدي: لما نفخ الله في آدم الروح فدخل في رأسه، عطس، فقال له الملائكة: قل الحمد لله. فقال: الحمد لله. فقال الله تعالى له: رحمك ربك. فلما دخل الروح في عينيه. نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن ينتهي الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾.
وقيل: معناه: خلق آدم آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس فكان خلقه على استعجال. قاله ابن جريج: وغيره.
قال ابن جريج: خلق الله آدم بعد خلق كل شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق. فلما آتى الروح عينيه ولسانه ورأسه، ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس، فذلك قوله: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾.
وقال الأخفش: إنما خلق الإنسان من عجل، لأنه خلق على تعجيل من الأمر، لأنه إنما قال له كن فكان. فخلق على استعجال وقال جماعة من النحويين: هو مقلوب. والمعنى: خلق العجل من الإنسان.
وقيل: المعنى: خلق الإنسان من طين، لأن العجل من الطين.
ثم قال: ﴿سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾.
أي: سأوريكم أيها المستعجلون ربهم بالآيات، القائلون لنبيه " فليأتنا بآية " فلا تستعجلون بالآيات فستأتيكم.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد﴾ إلى قوله: ﴿ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
أي: ويقول المشركون متى يأتنا هذا الذي تعدنا يا محمد والوعد بمعنى الموعود. كما قيل: الخلق بمعنى المخلوق. والوزر بمعنى الموزور. ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ يخاطبون النبي ﷺ والمؤمنين.
و" متى " في موضع رفع عند البصريين. وفي موضع نصب عند الكوفيين
وحكى الفراء: اجتمع الجيشان: المسلمون جانب، والكفار جانب صاحبهم برفع الأولى لأنه نكرة. ونصب الثاني لأنه معرفة. والرفع عند البصريين، في جميع هذا الوجه، إذا كان الظرف متمكناً تقول: موعدك غُدْوة وبُكْرَة فترفع. فإن قلت موعدك بَكْرَاً. نصبت لأن بكراً غير متمكن. ويدل على صحة البصريين إجماع القراء المشهورين على الرفع في قوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة﴾ [طه: ٥٩].
ثم قال تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار﴾.
أي: لو يعلم هؤلاء المستعجلون عذاب الله ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وظهورهم ولا يقدرون أن يكفوا ذلك عن أنفسهم، ففي " يكفون " ضمير " المشركين ". ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي: ولا ناصر لهم من عذاب الله يستنقذهم منه/.
وفي الكلام حذف. قيل: التقدير: لو علموا ذلك، ما أقاموا على كفرهم.
وقيل: التقدير: لو يعلمون ذلك، لا تعظوا وازدجروا عن كفرهم.
وقيل: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة.
فالمعنى: لو يعلمون ذلك علم يقين، لعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيه. ودل على هذا المعنى قوله: " بل تأتيهم بغتة " هذا قول الكسائي ومثله، ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين﴾ [التكاثر: ٥].
أي: لو علمتم ذلك يقينً ما ألهاكم التكاثر.
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا﴾.
أي: ألهؤلاء المستعجلون ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم من دون الله إن حل عليهم العذاب.
ثم وصف تعالى ذكره الآلهة بالضعف، فقال: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ﴾ فمن لا يقدر أن ينصر نفسه، فكيف يقدر أن ينصر غيره.
أي: لا تصحب آلهتهم من الله تعالى بخير. قاله قتادة.
وقال مجاهد: ﴿يُصْحَبُونَ﴾. أي: ينصرون.
وعن مجاهد أيضاً: ﴿يُصْحَبُونَ﴾ يحفظون.
وعن ابن عباس: ﴿يُصْحَبُونَ﴾ يمنعون.
وعن ابن عباس: ﴿وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ﴾ أي: ولا الكفار منا يجارون من قوله: ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ وهذا القول: اختيار الطبري ليكون الضمير يعود على الكفار.
ويحتمل قول من قال: يحفظون ويمنعون وينصرون أن يكون الضمير يعود على الكفار.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر﴾.
أي: متعناهم بالحياة، ومتعنا آباءهم من قبلهم، حتى طال عليهم العمر. وهم على كفرهم مقيمون.
﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾.
أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون أنا نأتي الأرض نخربها من نواحيها بقهرنا أهلها
وقال قتادة: ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ يعني بالموت.
وقال الحسن والضحاك: يعني فتح البلدان والأرض، يراد بها أرض مكة.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَهُمُ الغالبون﴾.
هذا تقريع وتوبيخ: أي: ليس هم الغالبون. ولكن رسول الله ﷺ الغالب.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي﴾.
أي: بالقرآن.
﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء﴾.
أي: من أصم الله قلبه عن قبول الذكر، فليس يسمع سماعاً ينتفع به، إنما ينتفع به المؤمن. فعُني بالصم هنا المعرضون عن ذكر الله. فمن أعرض عن قبول شيء، فهو بمنزلة من لا يسمعه، وقت ما ينذر به.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾.
أي: ولئن مسهم نصيب وحظ من عذاب ربك، " يقال: نفخ فلان لفلان من عطائه إذا أعطاه قسماً أو نصيباً من المال.
وقيل: النفحة ها هنا: الجوع الذي أخذهم الله به بمكة.
وقيل: " نفحة "، أقبل شيء من العذاب، وأدنى شيء منه. ﴿لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
أي: ظلمنا في عبادتنا الأصنام وتركنا عبادة الله الذي خلقنا، وأنعم علينا.
قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين﴾.
أي: ونضع الموازين العدل في يوم القيامة. " اللام ": بمعنى: " في ". وقيل: " اللام " على بابها. والتقدير لأهل يوم القيامة.
﴿فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾.
أي: لا يؤخذ/ أحد بذنب غيره، أو بذنب لم يعلمه، أو يسقط له عما عمله من خير.
قال ابن عباس: هذا بمنزلة قوله: ﴿والوزن يَوْمَئِذٍ الحق﴾ [الأعراف: ٨].
وروي أن الميزان له كفتان، وأن الأعمال تمثل بما يوزن.
ويروى أنه إنما يوزن خواتمها.
فيقولون: سبحان ربنا ما عبدناك حق عبادتك.
وعن حذيفة: أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل ﷺ وشرّف وكرّم.
وعن مجاهد: " الموازين ": العدل.
وقال النبي ﷺ: " لا يذكر أحد حميمه عند الميزان ".
وقوله: ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾.
أي: إن كان له عمل من الحسنات أو [عليه] عمل من السيئات وزن حبة من خردل، جئنا بها، فوفينا كلاً ما عمل.
وقال ابن زيد: " أتينا بها " أي كتبناها، وأحصيناها له وعليه.
﴿وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.
أي: وكُفينا حاسبين. أي حسب من شهد الموقف ذلك اليوم بنا حاسبين. إذ لم يغب عنا من أعمالهم شيء. " وحاسبين " نصب على الحال، أو على التمييز.
وروى أحمد بن صالح عن قالون عن نافع: " القطط " بالصاد، لأجل الطاء والأصل، السين.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾.
أي: أعطيناهما الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل. وهو التوراة،
قال ابن زيد: الفرقان: الحق أتاه الله موسى وهارون، ففرق به بينهما وبين فرعون. قضى بينهم بالحق، وهو مثل: ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان﴾ [الأنفال: ٤١] يعني: يوم بدر. وهذا القول اختيار الطبري لقوله: وضياء. فالضياء هو التوراة، أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم. وفي دخول الواو في " وضياء " دليل علكى أن الضياء غير الفرقان.
وقوله: ﴿وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ أي: وذكراً لمن اتقى الله بطاعته، وخاف ربه بالغيب أن يعاقبه في الآخرة.
﴿وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ﴾.
أي: من قيام القيامة حذرون أن تقوم عليهم، فيردوا على ربهم مفرطون فيما يجب عليهم من طاعته.
وقرأ ابن عباس: " الفرقان ضياء " بغير واو.
فيكون الفرقان على هذا القراءة التوراة بغير اختلاف.
يعني القرآن.
﴿أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾.
تقرير وتوبيخ للمشركين الذين أنكروه وقالوا: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾. ثم قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ﴾.
أي: ولقد وفقنا إبراهيم فأعطيناه هداه من قبل موسى وهارون.
قال مجاهد: " معناه: هديناه صغيراً ".
وقال ابن عباس: لما خرج وهو صغير من الموضع الذي جعل فيه، رأى كوكباً في السماء، وهي الزهرة تضيء فقال: هذا ربي. فلما غابت، قال: لا أحب الآفلين. ثم فعل ذلك مع الشمس والقمر. ثم قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ٧٩].
وقوله: ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾.
أي: عالمين أنه ذو يقين وإيمان بالله. إذ قال لأبيه: " أي حين ﴿قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾.
أي: ما هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون. يعني أصنامهم التي كانوا يعيدون.
ثم قال: ﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾.
أي: قالوا لإبراهيم إنما عبدنا هذه الأصنام لأنَّا وجدنا آباءنا لها عابدين.
" مبين " أي: ظاهرين. قالوا لإبراهيم ﴿أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين﴾ أي: أحق ما تقول. أم أنت لاعب من اللاعبين.
قال لهم إبراهيم: ﴿بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ﴾ أي: بل جئتكم بالحق لا باللعب. " ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن " أي: خلقهن. ﴿وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين﴾ أي: أنا شاهد من الشاهدين أن ربكم رب السماوات والأرض/ دون التماثيل التي تعبدون.
ثم قال: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾.
أقسم إبراهيم بهذا في نفسه سراً من قومه، لم يسمعه منهم أحد إلا الذي أفشاه عليه. إذ قال: ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٠].
قال مجاهد: قال ذلك إبراهيم حين استأذنه قومه إلى عيد لهم فأبى وقال: " إني سقيم "، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر وهو الذي يقول: " سمعنا فتى يذكر يقال له إبراهيم ".
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ﴾.
وقيل: هو أكبرها عندهم، لا أكبرها في صورته.
وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾.
أي: لعلهم يؤمنون به إذا رأوها مكسرة لم تدفع عن أنفاسها ضر من أرادها، ولم يدفع عنها كبيرها شيئاً.
قال السدي: " قال أبو إبراهيم له، إن لنا عيداً لو خرجت معنا، والله قد أعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه، معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي وهو صريع.
فلما مضوا، نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ﴾ فسمعوها منه. ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هن في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة. قالوا: إذا كان حين نرجع، رجعنا وقد
" والجذاذ " بالضم جمع جذاذة، كزجاجة وزجاج. وقيل: هو مصدر كالحطام والرفات. ومن كسر جعله جمع جذيذ وجذيذ معدول عن مجذود كجريح بمعنى مجروح، فيكون ككبير وكبار وصغير وصغار وثقيل وثقال.
وقال قطرب: هو مصدر ضم أو كسر أو فتح، وهي لغات فيه بمعنى والجذاذ. أي: الحطام والفتات، ومنه الجذيذة.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين﴾.
أي: قال الذين سمعوه [حين] قال: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ﴾،
وقيل: يذكرهم: يسبهم ويعيبهم.
﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي: يقال له يا إبراهيم.
وقيل: التقدير: يقال له: هو إبراهيم، أو المعروف به إبراهيم: ﴿قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾.
أي: قال بعضهم لبعض: فجيئوا به على رؤوس الناس لعلهم يشهدون عليه أنه هو الذي فعل هذا.
قال قتادة: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
وقيل: معناه: لعلهم يعاينون العقوبة التي تختص به.
ثم قال: ﴿قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم﴾. في الكلام حذف والتقدير: فأتوا به، فلما أتوا قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال لهم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ﴾ إنه غضب من أن تعبد معه هذه الصغار، وهو أكبر منها فكسرها.
وقيل: التقدير: بل فعله كبيرهم هذا، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. أي: إن
وقد أتت الأخبار عن النبي ﷺ أنه قال: إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله. قوله تعالى: بل فعله كبيرههم هذا. وقوله: " إني سقيم " وقوله في سارة: " إنها أختي " وهذا عند أهل العلم غير مكروه، لأنه يجوز أن يكون الله تعالى أذن له في ذلك كما أذن/ ليوسف أن يقول مؤذنه لأخوته " إنكم لسارقون " ولم يكونوا سرقوةا شيئاً.
وقد خرجَّ العلماء لإبراهيم عليه السلام الأشياء الثلاثة وجوهاً تخرج إلى غير الكذب. فسارة أخته في الدين، وقوله: " إني سقيم " معناه: مغتم بضلالكم حتى أنا كالسقيم.
وقيل معناه: إني سقيم عندكم، وقيل: يجوز أن يكون ناله من ذلك الوقت مرض.
وقيل: معناه: إني سأسقم، لأن كل من كان مصيره إلىلموت، فلا بد من أن يسقم.
والمبرد معناه إذا كنا خصمين فبغى أحدنا على صاحبه فما الحكم؟.
ثم قال تعالى: ﴿فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون﴾.
أي: ففكروا حين قال لهم إبراهيم، بل فعله كبيرهم هذا. ورجعوا إلى عقولهم ونظر بعضهم إلى بضع فقالوا إنكم إيها القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقِيلكم له " من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ".
فهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ﴾.
أي: ثم [غلبوا] في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو حجة له عليهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون. أي: لا تتكلم فتخبرنا من فعل بها هذا.
وقال قتادة: " نكسوا عن رؤوسهم: " انقطعت حجتهم ". يقال: نكس الرجل على رأسه إذا انقطعت حجته، كأنه طأطأ رأسه استحياء.
وقيل: المعنى: نكسوا في الفتنة والشرط بعد المعرفة: قاله: ابن عباس والسدي فيكون معناه: ثم رجعوا كما عرفوا، وتيقنوا من حجة إبراهيم عليهم السلام. فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ﴾.
أي: قال إبراهيم لقومه لما أقروا أن آلهتهم لا تنطق، أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، لأن من لا ينفع نفسه فيدفع عنها الضرر، فليس ينفع غيره.
ثم قال لهم إبراهيم: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ﴾.
أي: قبحاً لكم، وشراً لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون خطأكم في عبادتكم ما لا ينفع ولا يضر، وترككم عبادة الذي بيده النفع والضر.
وقد تقدم شرح أف في " سبحان ".
ثم قال تعالى: ﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾.
رويَ أن الذي قاله: رجل من اكراد فارس.
وروي أن الله تعالى ذِكْرُهُ خَسَفَ به الأرضَ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وقال ابن عمر: الذي أشار بذلك، رجل من أعراب فارس. وهم الكرد، فأعراب فارس يقال لهم الكرد.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾.
في الكلام حذف، والتقدير: فأوقدوا له ناراً وألْقوه فيها، فقلنا يا نار كوني
قال السدي: حبسوه في بيت، وجمعوا له حطباً، حتى إن كانت المرأة لتمرض، فتقول: إن عافاني الله، لأجمعن حطباً لإبراهيم. فلما جمعوا وأكثروا، بنوا بنياناً وأوقدوا النار حتى أن الطير لتمر بها فتحترق من شدة وهجها وحرها. ثم عمدوا إلى إبراهيم ﷺ وشرَّفَ وكرَّم، فَرَفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه إلى السماء فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا إبراهيم يحرق فيك. فقال جل وعز: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه. وقال إبراهيم ﷺ حين رفع رأسه إلى/ السماء: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض من يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل.
فقذفوه في النار فناداها " يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ". فكان جبريل، هو الذي ناداها ".
وقال أرقم " إن إبراهيم عليه السلام حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك "؟
قال كعب: " ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولا أحرقت بالنار يومئذ شيئاً إلا وثاق إبراهيم عليه السلام.
قال كعب: ما أحرقت النار منه إلا وثاقه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " لولا أنه قال: " وسلاماً " لقتله بردها ".
قال بكر بن عبد الله: لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار، قالت الخليقة: يا رب، خليلك يلقى في النار؟ فأذن لنا حتى ننصره. فقال الله تعالى: هو خليلي، ليس لي
وقال قتادة: " كانت الدواب كلها تطفئ عن إبراهيم النار إلا الوزغ ".
وروى عن إبراهيم ﷺ أنه قال: ما كنت أياماً قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.
ولما رفع عن إبراهيم الطبق ورآه والده يرشح جبينه، قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم، فكان ذلك أحسن شيء قاله: أبو إبراهيم.
قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة وذبح إسحاق هو ابن سبع سنين، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق
وروى معتمر بن سليمان أن جبريل ﷺ لما جاء إبراهيم وهو يوثق ويقمط ليلقى في النار. قال يا إبراهيم: ألك حاجة؟ قال: أما إليك.
فلا.
ويروى أن إبراهيم كان في زمان نمرود، فملا كسر إبراهيم ﷺ أصنامهم كما قص الله علينا في كتابه بنى نمروج بناء طوله ثمانون ذراعاً في عرضه أربعون ذراعاً، وأقد فيه النيران، ثم جعل إبراهيم في منجنيق فقذف به في النار، فقال الله جل ذكره للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فبردت ذلك اليوم، فلم ينتفع به أحد. ولولا ما قال تعالى: " وسلاماً " لآذت إبراهيم ببردها.
ثم وقعت واحدة في شفة نمرود السفلى فصح حتى أمر بها فقطعت، فارتفعت إلى شفته العليا، فاستغاث فقطعت، ثم دخلت في مخره، فما كان يهدأ ليلاً ولا نهاراً. وكان يضرب رأسه بمرزبة من حديد، فأقام في ذلك أربع مائة سنة.
وقال الحسن: لما ألقي إبراهيم ﷺ في النار، لم يؤذه حرها، فقالوا: سحرها فما لها حر.
ويروى أنهم بنوا له بنياناً ارتفاعه أربعون ذراعاً وطوله على وجه الأرض ثمانون ذراعاً، فأوقدوا فيه النار، ووضعوا إبراهيم عليه السلام في المنجنيق وألقوه في الجحيم، فقال الله تعالى للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، ولو لم يقل تعالى ذكره: " وسلاماً " لمات إبراهيم من البرد في وسط النار، فكان إبراهيم جالساً في النار على زرابية من الجنة.
قال الحسن: فلما رأوه لا يؤذه حرها، قالوا: سحرها. فقال لهم إبراهيم ﷺ: جربوها برجل منكم. فألقو فيها رجللاً فأكلته.
ويروى عنه أنه قال: لما أوثقوه ليلقوه في النار، قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد والك الملك لا شريك لك.
وذكر الشعبي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما ألقي إبراهيم في البنيان والنار، قال حسبي الله ونعم الوكيل. فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.
وقال زيد بن أسلم: قال إبراهيم حين أرادوا أن يلقوه في النار: اللهم أنت إلهي، الواحد في السماء وأناع عبدك الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل. فقال الله تعالى للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.
قوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً﴾ إلى قوله: ﴿لَنَا عَابِدِينَ﴾.
أي: ونجينا إبراهيم ولوطاً من أعدائهما نمرود وقومه، من أرض العراق الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وهي أرض الشام قاله قتادة والحسن، وقاله أُبي بن كعب وغيره. وكان لوطاً ابن أخي إبراهيم.
ويروى أن سارة زوج إبراهيم أخت لوط، يريدون أخت لوط لأمه، إلا يحل تزوج أخت ابن الأخ لأب أو لأب وأم. ولوط هو ابن هارون بن بارح أبي إبراهيم. وهارون هو أخو إبراهيم. كان نمرود إله أريكوثا من أرض العراق فهاجر إلى أرض الشام، خرجا إليها مهاجرين.
ويروى أن جميع الأمواه العذبة تخرج من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.
ويقال: هي أرض المحشر والمنشر. وبها تجتمع الناس وبها ينزل عيسى، وبها يهلك الله مسيح الضلال الكاذب الدجال.
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم مهاجراً إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجراً، وتزوج إبراهيم سارة بنت عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على
وقيل: إن سارة إنما هي بنت ملك حران، تزوجها واشترط لها ألا يغيرها. وكان لوط ابن أخت إبراهيم. وكان مسك لوط بحران.
وقال ابن عباس قوله: ﴿إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾. مكة ونزول إسماعيل البيت، ودل على ذلك قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: ٩٦].
ثم قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ أي: ولد الولد/ فالنافلة يعقوب. قاله: ابن عباس وقتادة.
ومعنى النافلة: عطية. أي: وهبناهما له عطية من عندنا وكذلك قال مجاهد. فعلى القول الأول، يقف على " إسحاق " وعلى هذا القول، لا تقف عليه.
ثم قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾.
أي: وكلهم جعلنا عاملين بطاعة الله.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾.
أي: أئمة يهتدى بهم في أمر الله، قاله قتادة.
وقيل: جعلهم أئمة يؤتم بهم في الخير.
وقيل: المعنى: يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك، ويدعونههم إلى الله وإلى عبادته.
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ﴾.
أي: خاشعين لا يستكبرون عن عبادتنا.
و" عابدين " وقف إن نصبت " ولوطاً " بإضمار فعل. أي: واذكر لوطاً.
قوله تعالى: ﴿وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾.
المعنى: وآتينا لوطاً آتيناه حكماً وهو فعل القضاء بين الخصمين وعلماً بأمر دينه. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث﴾، أي: من العذاب الذي نزل بالقرية، وهي قرية سدوم التي بعث لوط إلى أهلها، والخبائث هو إتيان الذكور في أدبارهم وإظهار المنكر في مجالسهم، فاخرجه الله مع ابنتيه ومن آمن إلى الشام حينأ راد الله إهلاك قومه، لأنهم كانوا قوم سوء " فاسقين ". أي: خارجين عن طاعة الله تعالى مخالفين لأمره.
ثم قال: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ﴾.
أي: أنجيناه من العذاب فدخل في الرحمة.
وقال ابن زيد: هو دخوله في الإسلام.
أي: من العالمين بطعة الله.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ﴾.
أي: واذكر نوحاً إذ نادى ربه من قبلك. ومن قبل إبراهيم ولوط، وسأل أن يهلك قومه الذين كذبوه فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهله. يعني أهل الإيمان من ولده وحلائله من الكرب العظيم، وهو الغرق الذي حل بقومه، وبجميع من في الأرض.
ثم قال: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾.
أي: ونصرناه على القوم المكذبين، فأنجيناه منهم وأغرناقهم أجمعين، لأنهم كانوا قوم سوء، يعصون الله، ويكذبون رسوله. ف " من " بمعنى " على ".
ثم قال: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ﴾ أي: بالنجاة.
وقيل: في الإسلام.
" إنه من الصالحين " من العالمين بطاعة الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم﴾.
أي: واذكر داود وسليمان حين يحكمان في الحرث.
قال قتادة: ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في كرم ليلاً.
يقال: نفشت الغننم، إذا رعت ليلاً. فهي نفاش ونفاش ونفش وإذا رعت النهار قيل: سرحت وسَرَبَت وهملت.
قال الزهري: النفش بالليل والهمل بالنهار.
وقوله: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ أي: الحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم شاهدين، لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب.
ثم قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ أي: ففهمنا القضة سليمان دون داود، ﴿وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي: وكلهم، يعني داود وسليمان والرسل المذكورين في هذه السورة. ﴿آتَيْنَا حُكْماً﴾ يعني النبوة وعلماً بأحكام الله.
قال ابن عباس: دخلت الغنم ليلاً، فأفسدت الكرم، فاختصموا إلى داود. فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فمروا على سليمان، فأخبروه فقال: كان غير هذا الحكم أرفق بالجميع. فدخل صاحب الغنم، فأخبر داود، فقال لسليمان: كيف الحكم عندك. فقال: يا نبي الله، تدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيصيب من ألبانها وأصوافها وأولادها، وتدفع الكرم إلى صاحب الغنم يقوم به حتى يرجع إلى حاله.
فإذا رجع إلى
قال: هو منسوخ بقوله ﷺ:
" العجماء جبار " ولم يقل بهذا أحد غير أبي حنيفة.
وقد حكم بالضمان لما أفسدت البهائم بالليل ثلاثة من الأنبياء: داود وسليمان ومحمد ﷺ. قضى النبي أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.
ومعنى قوله ﷺ: " جرح العجماء جبار " إنما يعني به ما أصابت البهيمة فلا أرض فيه إذا لم يكن على صاحبها حفظها، لأن العلماء قد أجمعوا على أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها، إذ عليه حفظها ولا خلاف فيها إلا خلاف من لا يعد خلافاً. فإذا الزم ما أصابت بيديها الدابة فليس بجبار إلا إذا لم يكن على صاحبها حفظها وتضمين أصحاب الماشية ما أصابت بالليل. وهو قول مالك والشافعي.
فالذي يحكم به في مثل هذه القضية في الإسلام أن يقوم ما أفسدته الماشية من الكرم، ويغرمه أرباب الماشية لأهل الكرم، لأن حفظ الليل كان عليهم لازماً، فلما فرطوا ضمنوا الجناية.
ويروى أن ناقة للبراء بن عازب رعت نباتاً لقوم، فقضى رسول الله عليه السلام أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب المواشي ما أصابت مواشيهم بالليل.
ويجوز أن يكون من أجبرت الرجل على الشيء، إذا قهرته عليه، فتكون الدابة كلها مجبرة من حيث عليه أن لا يأخذ في الجناية بشيء.
وقد قيل: إن الذي أفسدت الماشية كان زرعاً فقضى فيه سليمان أن يأخذ صاحب الزرعغ الماشية ينتفع بألبانها. وأصوافها إلى أن يأتي حول ثاني، ويزرع له صاحب الماشية مثل زرعه. فإذا بلغ الحد الذي كان عليه وقت رعته الماشية، دفعه إلى صاحب الزرع، وأخذ ماشيته.
وقيل: كانا نبيين يحكمان في وقت بأمر الله ووحيه.
فكان داود يحكم بحكم أمره الله به. فيحكم به في الزرع، ثم نسخه الله، فأوحى إلى سليمان نسخه فحكم به في ذلك. فكل حكم بحكم الله تعالى وأمره له. وحكم سليمان ناسخ لحكم داود بأمر الله له ووحيه إليه. ولذلك قال: وكلاً آتينا حكماً وعلماً.
قال زيد بن أسلم: الحكم، أو الحكمة العقل.
وقال مالك: وإنه ليقع بقلبي أن الحكمة، الفقه بدين الله تعالى، ولين يدخله الله القلوب من رحمته وفضله.
ثم قال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ﴾.
أي: يسبحن معه إذا سبح.
وقال قتادة: " معنى " يسبحن هنا، يصلين معه إذا صلى. " والطير " يجوز أن يدخلن في التسبيح مع الجبال، وهو الأولى، ويجوز أن يدخلن في التسخير لا غير.
ثم قال: ﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
أي: فاعلين بقدر ما نريد.
وقيل: المعنى: وكنا فاعلين للأنبياء مثل هذه الآيات.
وقيل: معناه: وكنا قضينا أن نفعل ذلك به في أم الكتاب.
ثم قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾.
أي: وعلمنا لداود صنعة سلاح وهو الدرع هنا. واللبوس في كلام العرب: السلاح كله: الدرع والسيف والرمح وغير ذلك. وكان أول من صنع هذه الحلق
وقوله: ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾ أي: ليُحرزكم إذا لبستموها، ولقيتم أعداءكم من القتل، فهل أنتم أيها الناس شاكرون الله على نعمه عندكم.
قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً﴾ إلى قوله: ﴿وذكرى لِلْعَابِدِينَ﴾.
أي: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة. وعصوفها، شدة هبوبها، تجري بأمر سليمان إلى الأرض التي/ باركنا فيها، يعني إلى أرض الشام. كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث شاء، ثم تعود به إلى منزله بالشام.
وقال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج من مجلسه عكف عليه الطير وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا تاه حتى يذله، كان إذا أراد الغزو، أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه النساس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استفلت، أمر الرخاء، فمرته شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد. وهو قوله تعالى ذكره: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ وقوله: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾.
أي: بصلاح كل الخلق، وبما أعطينا سليمان مما فيه صلاح له وللخلق، عالمين بذلك، لا يخفى علينا منه شيء.
أي: وسخرنا له من الشياطين قوماً يغوصون له في البحر، " ويعملون عملاً دون ذلك " يعني البنيان والتماثيل والمحاريب وغير ذلك من الأعمال.
قال الفراء: دون ذلك: أي: سوى ذلك.
فإن قيل: كيف تهيأ للجن هذه الأعمال من البنيان العظيم واستخراج الدر من قعور البحار وغير ذلك، وأجسامهم رقيبة ضعيفة لا تقدر على حمل الأجسام العظام ولا تقدر على ضر الناس إلا بالوسوسة لضعفهم ورقة أجسامهم. فالجواب أن الذين سخروا لهذه الأعمال أعطاهم الله قوة على ذلك، وذلك من إحدى المعجزات لسليمان. فلما مات سليمان، سلبهم الله تعالى تلك القوة، وردههم على خلقتهم الأولى، فلا يقدرون الآن على حمل الأجسام الكثيفة ونقلها. ولو أظهروا ذلك، وقدروا عليه، لدخلت على الناس شبهة من جهتهم وتوهيناً لمعجزات الرسل. وكذلك سخر الطير له بأن زاد في فهمها عنه وقبولها لأمره، وخوفها عقابه، وذلك من معجزات سليمان. فلما مات، زال ذلك عنها، ورجعت إلى ما خلقت عليه.
ثم قال تعالى: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾.
أي: لأعمالهم وأعدادهم وطاعتهم له، حافظين.
وقيل: المعنى: وكنا لهم حافظين، أن يفسدوا ما عملوا.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر﴾. أي: واذكر يا محمد أيوب حين نادى ربه، وقد مسه الضر والبلاء.
رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ما به من ضر. ويروى أنه ما نادى إلا بعد تسع سنين، وكان الضر الذي نزل به اختباراً من الله تعالى له، وامتحاناً. وكان الله قد وصع عليه في دنياه، وأعطاه ولداً وأهلاً، فاختبره الله بهلاك ماله فشكر وعلم أنه من عند الله. ثم ابتلاه بذهاب أهل وولده فصبر وشكر، ثم ابتلاه بالبلاء في جسمه، فتناثر لحمه، وتذود جسمه وعظم عليه البلاء حتى أخرجه أهل بلده من قريتهم، ورموه على تل من الأرض خارج القرية وكان إبليس في خلال تلك المحن يتصور له ويستفزه أن يكفر بنعم الله أو بغضم لما حل عليه، ولم يجد فيه إحالة عن شكره وذكره، ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، وإبليس اللعين يتلطف أن يستفز أحدهما بزلة أو كفر، فلم يقدر على ذلك.
قال وهب بن منبه: فبلغني أنها التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه، فما وجدت شيئاً حتى جزت قرناً من رأسها فباعته برغيب فأتته فعشته أياه. قال وهب: فلبث في ذلك البلاء ثلاث سنين.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، ما فارقته من عناقه حتى موجهاً كل مال لهما وولد.
ويروى أن الله جل ذركه رد عليه أهله ومثلهم معهم، وأمطر عليهم فراشاً من ذهب، فجمع حتى ملأ كل ما أراد، وأقبل يشحن في ثيابه فأوحى الله إليه، أما يكفيك ما جمعت حتى تشحن في قميصك؟ فقال أيوب: وما يشبع من خيرك؟
ويروى أن إبليس اللعين تمثل لامرأة أيوب ﷺ في هيئة شريفية ومركب له هيبة، وقال [لها]:
أنت صاحبة أيوب المبتلى؟ فقالت: نعم. قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا. فقال: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني.
ثم مثل لها أباهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه وقال إن صاحبك أكل طعاماً ولم يسمنى عليه لعوفي مما به من البلاء، فرجعت امرأة أيوب إليه، فأخبرته بما قال لها وما أراها فقال لها أيوب، قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك. ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة ضربة.
قال ابن عباس: لما ابتلاه الله بما ابتلاه [ولم يشأ] الدعاء في أن يكشف عنه ما به من ضر، غير أنه كان يذكر الله كثيراً ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الكتاب أجله أذن له في الدعاء فدعا، فكشف ما به، ورد عليه مثل أهله وماله الذين ذهبوا، ولم يرج عليه الذي هلك، لكن وعده أن يوليه إياهم في الآخرة، قال مجاهد. قال: خُيِّرَ أيوب أن يرد عليه أهله ومثلهم معهم في الدنيا، أو يعطى في الدنيا مثل أهل، ويرد عليه في الآخرة أهله، فاختار أن يردوا عليه في الآخرة ويعطى في الدنيا مثلهم، وقال ابن عباس.
وقال الحسن: رد عليه ماله الذي ذهب ومثلهم معهم من النسل.
ثم قال: ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ﴾.
أي: ورحمناه رحمة ليتذكروا بذلك ويتعظوا.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنهـ أن رسول الله ﷺ قال: " مكث أيوب به بلاؤه ثمانية عشر سنة. فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان
وروي عن الليث أنه قال: " كان الذي أصاب أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم جبار من الجبابرة في بعض ما كان من ظلمة للناس، فكلموه، فأبلغوا في كلامهم، فرفق أيوب في كلامه مخافة منه على زرعه، فقال الله له: يا أيوب أتقيت عبداً من عبيدي من أجل زرعك، فنزل به ما نزل ذكره ابن وهب ".
وعن الليث أنه قال: " بلغني أنه قيل لأيوب صلوات الله عليه: ما لك لا تسأل الله العافية؟ قال: إني لأستحي من الله أن أسأله العافية حتى يمر بي من البلاء ما مر بي من الرخاء ".
وقيل: إن الذي كان حدث به داء يقال له الأكلة، فكان جسمه يتآكل ويتساقط حتى شغل عن القيام بماله، فذهب ماله وزال جميع ملكه، وحتى أن قومه أخرجوه من جوارهم، فصار في طريق من أطراق البلاد بحيث لا يجد فيه غذاء إلا ما يجده الفقراء الزمناء، وهو صابر مع ذلك، يحتسب، عارف بعدل الله في ذلك أنه لم يختر له، ولافعل به إلا ما حسن نظره في باب الدين أو أنه فعل ذلك به ليعوضه من نعيم الجنة ما هو أنفع له وأصلح مما سله من ماله وصحة جسمه، فكان إبليس اللعين يؤذيه
فعند ذلك دعا الله في كشف ما به، فاستجاب له لا إله إلا هو، فكشف ضره، ورزقه من المال والأهل أكثر مما كان قبل ذلك.
قوله: ﴿وذكرى لِلْعَابِدِينَ﴾ قيل: معنه: ليتعظ العابدون فيما يصيبهم من المحن بأيوب، فيصبروا ويحتسبوا ذلك عند الله، كما فعل أيوب. ولا يجوز لأحد أن يتأول في قوله تعالى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ فهو الذي أمرضه، وألقى الضر في بدنه، ولا يكون ذلك إلا من عند الله وبأمره وأرادته يفعل ما يشاء، ويبتلي عباده بما يشاء، ليكفر عنهم سيئاتهمه، وليثيبهم بما أصابهم. ففي كل قدر قدره الله على العبد المؤمن خير له، إما في عاجل أمره أو آجله، فعلى هذا يعبد الله من فهم عنه.
وقيل: إن الذي أصابه إبليس، إنما هو ما وسو إليه به وإلى أهله، فكان ذلك الذي شكا به إلى الله.
قوله: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ﴾ إلى قوله: ﴿نُنجِي المؤمنين﴾.
أي: واذكر يا محمد إسماعيل وإدريس وذا الكفل. ذو الكفل رجل تكفل بكفالة من الطاعة لله فأتمه.
روي أن نبياً من الأنبياء قال: من يتكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب. فقام شاب فقال: أنا. فقال: اجلس. ثم قال: من يتكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب. فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فقال: اجلس فجلس ثم عاد الثالثة فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فصام النهار وقام الليل ثم مات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب مكان فقضى بين الناس، فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضرباً شديداً، فقال: من
وقال مجاهد: لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل. قال: فجمع الناس فقال: من يتكفل بثلاثة أستخلفه؟ يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العيون فقال: أنا وقال مثلها في الثوم الثاني، فقام ذلك الرجل فاستخلفه فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم فقال: دعوني وإياه، [فأتاه] في صورة شيخ كبير قبيح الصورة فقير. وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك السريعة فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم. قال: ففتح الباب وجعل يقص عليه ويطول عليه، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة وقال له: إذا رحت فأتني وآخذ لك بحقك. فانطلق وراح وكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس فنظره فلم يره، فلما رجع إلى القائلة وأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له، فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فآتني؟ قال: إن خصمي قوم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا نمت جحدني. قال: فانطلق فإذا رحت فأتني فأتته القائلة وراج، وجعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس. فقال لأهله من الغد: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم فلما
فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال: يا عدو الله. قال: نعم. أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك، فسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوفى به.
قال مجاهد: كان رجلاً صالحاً غير نبي. وكذا قال أبو موسى الأشعري وقوله: ﴿كُلٌّ مِّنَ الصابرين﴾ أي: كلهم من أهل الصبر فيما نابه في الله، وعلى تبليغ
﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين﴾.
أي: ممن عمل بطاعة الله.
وقيل: إن ذا الكفل إنما سمي بذلك لأن الله تكفل له في عمله وسعيه بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمنه.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ﴾.
أي: واذكر [يا محمد] صاحب الحوت. وهو يونس إذ ذهب مغاضباً.
قال ابن عباس والضحاك: ذهب غاضباً على قومه.
وعن ابن عباس أنه خرج مغاضباً على ربه لما رد العذاب عن قومه وصرفه عنهم. وهذا قول مردود، لا تغضب الأنبياء على ربها، لأن الغضب على الله معاداة
إنه من القدرة عليه، وأنه يفوت الله. كان ﷺ أعلم بالله من ذلك، إنما هو من التقدير الذي هو التضييق. ظن أن الله لا يضيق عليه مسلكه في خروجه عنهم. طمع برحمة الله له في ترك التضييق عليه. وقد فسرنا هذال المعنى.
وقيل: إنما نقم الله عليه أنه خرج عن قومه فاراً من نزول العذاب بهم من غير أن يأمره الله بالخروج، وهي صغيرة والله يغفر الصغائر لغير الأنبياء، فكيف للأنبياء فنادى في بطن الحوت ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾.
أي: من الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي قبل أن تأمرني بالخروج. فاستجاب الله له، وأخرجه من بطن الحوت. وتلك معجزة وآية له: تدل على نبوته وفضله.
وقيل: إن الله غفر له صغيرته، ولم يحبسه في بطن الحوت بذنبه إنما أراد أن
فأعلم قومه بالعذاب الذي يأتيهم، فقالوا: ارمقوه، فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كان الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها، أدلج ورآه القوم فحذروا وخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله جل وعز واستقالوه فأقالهم.
قيل: خرجوا إلى موضع يقال له تل الرماد، ففرقوا بين الصبيان وأمهاتهم، وبين الرجال ونسائهم، وعجوا إلى الله تعالى ذكره وخرجوا بالبهائم، فرفع الله عنهم العذاب، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال: ما فعل أهل القرية، فقال: فعلوا أن نبيهم لما خرج عنهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهمه به من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض وفرقوا بين ذات كل ولد وولدها، ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه، فقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذاباً أبداً، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم. ومضى
قال الحسن: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضباً لربه، فاستزله الشيطان. وقاله الشعبي.
فقيل: إنه إنما لم يرجع إليهم لأنه استحيا منهم أن يجدوا عليه الخلف فيما وعدهم به/.
وقيل: كان من سنتهم قتل من كذب، فخاف أن يظنوا أنه كذبهم فيقتلوه.
وقيل: معناه: مغاضباً أي: مغاضباً من أجل ربه. أي: غضب على قومه لكفرهم بربه.
وقال الحسن: أمر بالسير إلى قوم لينذرهم بأس الله، ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليه. فقيل له الأمر أسرع من ذلك، ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها. وكان رجلاً في خلقه ضيق.
وقال وهب اليماني: إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق. فلما حملت عليه أثقال النبوة - ولها أثقال لا يحملها إلا قليل من الناس - تَفَسَخَ تحتها تَفَسُّخَ الربع تحت الحمل فقذفها من يديه، وخرج هارباً منها.
وقال الأخفش: إنما غاضب بعض الملوك.
واختار الطبري أن يكون المعنى مغاضباً لربه.
واختار النحاس أن يكون مغاضباً لقومه.
وقال ابن عباس: إنما أرسل يونس بعدما نبذه الحوت، لقوله: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ١٤٥]. ثم قال: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧].
وقوله: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي: فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. يقال: قدرت على فلان: ضيقت عليه. ومنه قوله: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله﴾ [الطلاق: ٧].
وعنه أيضاً: أن المعنى: ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء فيما صنع بقومه إذ غضب عليهم وفر منهم.
وقال مجاهد وقتادة والضحاك: المعنى: فظن أن لن نعاقبه.
وهذه الأقوال: هي الاختيار لبعد إضافة تعجيز الله جل ذكره إلى نبي، وقد قال: جماعة، وقولهم مرغوب عنه.
قال سعيد بن أبي الحسن: استزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه، وكان له سلف عبادة وتسبيح، فأبى الله أن يدعه للشيطان فأخذه فقذفه في بطن الحوت، فأقام فيه أربعين بين يوم وليلة وأمسك الله نفسه، فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه. وقال: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته لما كان سلف له من العبادة والتسبيح، فجعله من الصالحين.
وقال ابن زيد: معنى الآية على تقدير الاستفهام، التقدير أفظن أن لن نقدر
ثم قال تعالى: ﴿فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾.
يعني: فنادى يونس في ظلمه الليل وظلمه البحر، وظلمه بطن الحوت. قاله: ابن عباس وابن جريج وقتادة ومحمد بن كعب.
وقيل: إن الحوت الذي ابتلع يونس ابتلعه حوت آخر. فتلك الظلمات بطن حوت في بطن حوت في ظلمة البحر.
وقوله: ﴿إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ اعتراف منه بذنبه وتوبته منه.
قال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه، فلما تحركت، سجع مكانه، ثم نادى: يا رب، اتخذت لك مسجداً في موضع ما اتخذه أحد.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله جز وعز إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً. فأخذه
قال: فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا، إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. قال ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إلينا منه كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال: " وهو سقيم ".
ثم قال تعالى: ﴿فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم﴾ أي: من بطن الحوت.
وقيل: من غمه بخطيئته.
وقيل: / منهما جميعاً.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " دعوة يونس في بطن الحوت لن يدعو بها رجل قط إلا استجيب له ".
قال سعيد بن مالك: سمعت النبي ﷺ يقول:
" اسم الله جل وعز الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى. قال: قلت: يا رسول الله: هي ليونس بن متى خاصة أم الجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة، وللمسلمين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله جل ذكره:
﴿فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين * فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ فهو شرط الله تعالى لمن دعاه به ".
وروي عن ابن مسعود أنه قال: " لما خرج يونس من بطن الحوت مر بغلام يرعى غنماً فقال له: ممن أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس. قال له: فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم تكن له بينة على قوله يقتل، فمن يشهد لي. فقال يونس تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة. فقال الغلام: فمرها بذلك فقال لها يونس: إن جاءكما هذا الغلام فاشهدا له أني يونس. قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه وكان له أخوة، وكان في منعة. فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس، وهو يقرأ عليك السلام. فأمر به الملك أن
قوله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿فاعبدون﴾.
أي: واذكر اي محمد زكريا حين نادى ربه ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ أي وحيداً، لا ولد لي ولا عصبة، فارزقني وراثاً من آل يعقوب: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين﴾، فاستجبنا له دعاءه، ووهبنا له يحيى وارثاً. ثم قال: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾.
أي: جعلناها ولوداً بعد أن كانت عقيماً.
وقال عطاء: كانت سيئة الخلق طويلة اللسان، فأصلحها الله وصيرها حسنة الخلق، وهو قول محمد بن كعب وعون بن عبد الله.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾. يعني زكريا وزوجته ويحيى، أي: يسارعون في طاعة الله، والعمل بما يقرب إليه.
أي: رغبة فيما يرجون من ثوابه ورهبه مما يخافون من عقابه.
قال قتادة: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
والدعاء في هذا الموضع: العبادة. كما قال: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عسى﴾ [مريم: ٤٨] أي: أعبد ربي.
قال ابن زيد: معناه: خوفاً وطمعاً.
قال ابن جريج: رغباص في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾ أي: متواضعين متذللين لا يستكبرون عن العبادة والدعاء والتضرع.
قال سفيان: هو الحزن الدائم في القلب.
ثم قال: ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾.
أي: واذكر يا محمد التي أحصنت فرجها، يعني مريم: وأحصنت، حفظت ومنعت. وعنى بالفرج جيبها وقيل: فرج نفسها.
وقوله: فنفخنا فيها من روحنا: أي: من جبريل ﷺ، لأنه روح الله، نفخ في
وقيل: أمر الله تعالى جبريل ﷺ، فنفخ الروح الذي هو روح عيسى في فرجها فحيي بذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي: عبرة لعالم زمانهما. والتقدير على مذهب سيبويه: وجعلناها آية وابنها آية، ثم حذف الأولى. أي: علماً وحجة على العالمين والمعنى: جعلها آية إذا ولدت من غير فحل، وجعله آية إذ ولد من غير نطفة، وإذ نطق في يوم ولد، وتكلم بالحكمة في ذلك اليوم.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
أي: وإن هذه ملتكم ملة واحدة، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون، دون الأصنام والأوثان.
قال مجاهد وابن عباس: " أمتكم أمة واحدة " أي: دينكم دين واحد. وأمة نصبت على الحال/.
أي: وتفرقوا في دينهم الذي قضى الله به عليهم ودعاهم إليه فصاروا فيه أحزاباً، فتهودت اليهود وتنصرت النصارى، وعبدت الأوثان.
ثم قال تعالى: ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾.
أي: كلهم على اختلاف أديانهم، إلينا يرجعون. أي: إلى حكمنا فيهم، فنجازي كلاً بما صنع. وهذا كلام فيه تهديد ووعيد.
قال ابن زيد: " وتقطعوا أمرهم " أي: اختلفوا في الدين. ثم قال: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾.
أي: فمن يعمل من هؤلاء الذين تفرقوا في دينهم بما أمره الله، وهو مقر بتوحيد الله. ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾.
أي: فإن الله يشكر عمله الذي عمل ويثيبه عليه في الآخرة.
ومعناه: إذا لم يكفر بنبي بعث إليه ولا بمن قبله من الأنبياء ولا بكتاب نبيه ولا بكتاب من تقدم من الأنبياء. ف " من " للتبعيض. أي: من يعمل شيئاً من الصالحات وهو مؤمن.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾.
أي: نكتب أعماله الصالحة لنجزيه على صغيرها وكبيرها. ومعنى كتبت: جمعت.
ثم قال تعالى: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي: وحرام على قرية أهلكهم الله بالطبع على قلوبهم، والتمادي على الكفر، أن يرجعوا إلى الإيمان والتوبة. هذا معنى قول عكرمة وهو اختيار الطبري.
وقيل: المعنى: وحرام على [أهل] قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا. و " لا " زائدة. ومعنى " وحرام ": وجب أن لا يرجعوا وعزم أن لا يرجعوا إلى توبة، ولا بعد موت.
قال ابن عباس: في معنى: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ...﴾ الآية.
وجب أنهم لا يرجعون.
وقال أبو إسحاق: " لا " غير زائدة. " وحرام ": على بابها. والتقدير: حرام على أهل قرية، أهلكناها أن يُتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ولا يتوبون.
ثم قال تعالى: ﴿حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾.
أي: فتح سد يأجوج ومأجوج.
روى حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال: " أول الآيات الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونرا تخرج من قعر عدن أبين تسوق النار إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدابة ثم يأجوج ومأجوج. قال حذيفة: قلت يا رسول الله، ما يأجوج ومأجوج. قال: يأجوج ومأجوج أمة. كل أمة مائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صبله وهم ولد آدم فيسيرون إلى خراب الدنيا ويكون مقدمتهم بالشام، وساقتهم بالعراق، فيمرون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحيرة طبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولون: قد قتلنا أهل الدنيا فقاتلوا من في السماء، فيرمون بالنشاب إلى السماء، فترجع نشابهم مخضبة بالدم.
قال أبو العالية: إن يأجوج ومأجوج يزيدون على سائر الأنس الضعف. وأن الجن يزيدون على الإنس الضعف، وأن يأجوج ومأجوج رجلان اسمهما يأجوج ومأجوج.
قال عمر البكالي: إن الله جل وعز جزأ الملائكة والإنس والجن عشرة أجزاء. فتسعة منهم الكروبيون وهم الملائكة الذين يحملون العرش، ثم هم أيضاً الذي يسبحون الليل والنهار لا يفترون قال: ومن بقي من الملائكة لأمر الله ووحيه
وقال ابن عباس: يأجوج ومأجوج أمتان، في كل أمة أربعمائة ألأف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف من صلبه فصاعداً؟
وعنه أنه قال: الأرض سبعة أجزاء، ستة منها فيها يأجوج ومأجوج وجزء [واحد] فيه سائر الخلق.
ومن جعل يأجوج ومأجوج مشتقاً، أجاز همزة، وهو مشتق من أجة النار، وهو حرها. ومنه أجة الحر، ومنه ملح أجاج. ولم يصرفه لأنه جعله اسماً للقبيلة وهو معرفة، ووزنها: فاعول ومفعول، ويجوز في قراءة من لم يهمز أن يكونا أعجميين، وأن يكونا مشتقين. وخففت الهمزة.
وقال الأخفش: يأجوج من يججت ومأجوج من مججت وقوله: ﴿وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾.
قيل: يعني بني آدم يخرجون من كل موضع دفنوا فيه، يعني الحشر. قاله
وقال ابن عمر عنى به يأجوج ومأجوج، يخرجون من كل مكان يفسدون في الأرض. ومعنى: " من كل حدب " أي: من كل نشز، ومن كل شرف وأكمة.
قال ابن زيد: هو مبتدأ يوم القيامة. و " ينسلون ": يمشون مسرعين كنسلان الذئب. يقال: نسل ينسل وينسل، إذا أسرع وتقارب خطوة.
قال عطية الحوفي: يأجوج ومأجوج أمتان، في كل أمة أربعة ألف أمة، لا يشبه بعضهم بعضاً، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر في مائة عين من ولده.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن الرجل منهم ليموت فيدع لصلبه من الذرية ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عدتهم إلا الله تعالى مسنك وتأريس وتأويل، وخروجهم بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام.
قال كعب الأحبار: عرض أسكفة باب يأجوج ومأجوج السفلى أربعة
قوله تعالى: ﴿واقترب الوعد الحق﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
الواو زائدة في " واقترب " عند الكسائي والفراء.
قالا: اقترب جواب " إذ " في قوله: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " اقترب الوعد.
وأجاز الكسائي أن يكون جواب إذا، ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ﴾.
وقال أبو إسحاق: الجواب: قالوا يا ويلنا، ثم حذف " قالوا " كقوله: ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ﴾ [الزمر: ٣] أي: قالوا: ما نعبدهم وحذف القول كثير من القرآن، ومعنى الآية: وقرب بعث الأموات للجزاء لا شك فيه بعد خروج يأجوج ومأجوج.
قال حذيفة: لو أن رجلاً افتلى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه
وقوله: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ﴾. قيل: هي عماد. وقيل: هي إضمار الأبصار، والأبصر الثانية تبيين لها أي: فإذا أبصار الكافرين قد شخصت عند مجيء الوعد. يقولون ﴿ياويلنا قَدْ كُنَّا﴾ قبل هذا الوقت في الدنيا ﴿فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا﴾ الذي نرى ونعاين، ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي: بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنوده.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾.
أي: إنكم أيها الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وَقُودُ جهنم، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: حصب جهنم: حطبها.
وقال قتادة وعكرمة: حصب جهنم: يقذفون فيها.
وقال الضحاك: إن جهنم إنما تحصب بهم، أي: يرمى بهم فيها، وقرأ علي وعائشة رضي الله عنها حطب بالطاء.
وقوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ يخرج منه عُزَيْرٌ والمسيح والملائكة، لأن " ما " لما يعقل، فهي للأصنام والأوثان/.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ الآية، قال المشركون: أليس قد عبد عزير والمسيح والملائكة وأنت تقول يا محمد أنهم قوم صالحون. فأنزل الله ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.
وقيل: إن الذي قال هذا هو ابن الزبعري، وأنزل الله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ [الزخرف: ٥٧].
ثم قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا﴾.
أي: لو كان هؤلاء الذين تعبدون من دون الله آلهة ما وردوا جهنم. يقول الله
ثم قال: ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
يعني الآلهة والذين عبدوا ماكثين في النار.
ثم قال تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾. أي: للآلهة، وللذين عبدوها في جهنم زفير ﴿هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ﴾.
أي: لا يسمعون ما يسرهم، لأنهم صم.
وقال ابن مسعود: إذ بقي في النار من خلد فيها، جعلوا في توابيت من حديد، فلا يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره. ثم قرأ الآية.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.
يعني: كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه. أنه مبعد من النار، وهو مذهب علي بن أبي طالب.
وروي عنه أنه قرأ الآية وقال: عثمان منهم وأصحابه، وأنا منهم.
و" الحسنى ": الجنة والسعادة.
﴿أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ أي: عن جهنم.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾.
أي: حسها وصوتها إذا دخلوا الجنة.
وقيل: معناه: إن ذلك في موطن من المواطن، وإلا، فلا بد من سماع زفيرها.
روي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن جهنم يؤتى بها يوم القيامة تزفر زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفاً منها ".
وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس، حس.
ثم قال: ﴿وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾.
أي: ماكثون فيما تشتهيه أنفسهم من نعيمها، لا يخافون زوالاً عنها ولا انتقالاً.
يعني: النار إذا أطبقت على أهلها وذبح الموت بين الجنة والنار قاله ابن جريج.
وقال ابن عباس: هو النفخة الآخرة.
وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعبد إلى النار.
ثم قال: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾.
أي: تتلقاهم بالبشرى، وتقول: لهم: هذا يوم كرامتكم التي وُعِدْتُم في الدنيا على طاعتكم، وهذا، قبل أن يدخلوا الجنة.
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل﴾ أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء كطوي السجل، والسجل في قول عبد الله بن عمر ملك اسمه السجل قاله السدي.
والمعنى: نطوى السماء كما يطوي هذا الملك الكتاب.
وعن ابن عباس: أنه اسم الصحيفة التي يكتب فيها. والتقدير: كطي الصحيفة على الكتاب. وقاله: مجاهد، وهو اختيار الطبري. قال: واللام بمعنى: " على ". والتقدير: نطوي السماء كما تطوى الصحيفة على ما فيها من الكتاب.
وقيل: التقدير: كطي الصحيفة من أجل ما كتب فيها. كما تقول: إنما أكرمك لفلان، أي: من أجله.
ثم قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾.
أي: نعيد الخلق عراة حفاة غرلاً يوم القيامة، كما خلقناهم في بطون أمهاتهم.
قاله مجاهد.
وقال النبي ﷺ لإحدى نسائه: " تأتون حفاة عراة غلفاً، فاستترت بكم ذرعها
وقال ابن عباس في معنى: ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ قال: نهلك كل شيء كما/ كان أول مرة.
وقيل: ذلك خلق السماء مرة أخرى بعد طيها وزوالها وإفنائها يعيدها في الآخرة كما بدأها في أول خلق فجعلها سماء قبل أن لم تكن سماء ﴿وَعْداً عَلَيْنَآ﴾ أي: لا بد من كون ذلك، إنه لا يخلف الميعاد.
وقال ابن مسعود: يرسل الله جل ذكره ماء من تحت العرش كمني الرجل، فينبت منه لحماتهم وأجسامهمه كما تنبت الأرض المرعى.
ثم قال تعالى: ﴿وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
أي: وعداً حقاً لا بد منه، إنا كنا قادرين على ذلك، فاستعدوا له وتأهبوا.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور﴾ إلى قوله: ﴿على مَا تَصِفُونَ﴾
المعنى: ولقد كتبنا في كتب الأنبياء كلها والقرآن.
وقوله: ﴿مِن بَعْدِ الذكر﴾.
الذكر: أم الكتاب الذي عند الله في السماء.
قاله: مجاهد وابن زيد.
وقال ابن جبير: الزبور: القرآن. والذكر: التوراة.
وقال ابن عباس: الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء بعد التوراة.
والذكر: التوراة وقاله: الضحاك.
وقال الشعبي: الزبور، زبور داود، والذكر: التوراة.
وقوله: ﴿أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون﴾.
أي: أثبتنا وقضينا في الكتاب من بعد أم الكتاب، أن أرض الجنة يرثها العاملون بطاعة الله. قاله: ابن عباس ومجاهد، وهو قول ابن جبير وابن زيد.
وقد قيل: ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون.
ويدل على أنها أرض الجنة قوله: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾.
قال ابن زيد: فالجنة مبتدؤها في الأرض، وتذهب درجاً علواً، والنار مبتدؤها في الأرض وتذهب سفلاً طباقاً، وبينهما حجاب سور، ما يدري أحد ما ذلك السور، وقرأ ﴿بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب﴾ [الحديد: ١٣]. قال: ودرج النار تذهب سفالاً في الأرض، والجنة تذهب علواً في السماوات.
وقال عامر بن عبد الله: هي الأرض التي تجتمع فيها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هي أرض الكفار ترثها أمة محمد ﷺ يريد
وقيل: عُني بذلك بنو إسرائيل، وقد وفى لهم في تعالى بذلك.
وهو قوله: ﴿وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ...﴾ الآية.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾.
أي: إن في هذا القرآن لبلاغاً لمن آمن به وعمل بما فيه إلى رضوان الله، أي: يبلغهم القرآن إلى رضوان الله.
وقال أبو هريرة: هم الذين يصلون الصلوات الخمس في المسجد.
وقال سفيان: الثوري: ﴿لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ بلغني أنهم أصحاب الصلوات الخمس.
وقال كعب: ﴿لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ أمة محمد ﷺ وأنهم لأصحاب الصلوات الخمس، سماهم الله صالحين.
وقال ابن عباس: ﴿عَابِدِينَ﴾ عالمين.
وقال ابن جريج: ﴿إِنَّ فِي هذا﴾ يعني: هذه السورة.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
أي: للمؤمن والكافر: فهو ﷺ رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، يعافى في الدنيا من السيف، ومن حلول العذاب من الله، وفي الآخرة من النار، وهو رحمة للكافر إذ عوفي في الدنيا مما أصاب الأمم الماضية من الخسف والقذف بكفرها، قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد: العالمون من آمن به خاصة، فهو رحمة للمؤمن.
ثم قال تعالى: ذكره: ﴿قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ أي: إنما معبودكم الذي تجب له العبادة واحد، لا معبود غيره. ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ أي: فهل أنتم أيها المشركون مذعنون لله، تاركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْءَاذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ﴾.
وقال قتادة: ﴿على سَوَآءٍ﴾ على مهل/.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾.
أي: قل لهم يا محمد: ما أدري متى يحل بكم عقاب الله على كفركم. أقريب هو أم بعيد.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾.
أي: قل لهم يا محمد: إن الله يعلم سركم وجهركم، لا يخفى عليه من قولكم ولا من أحوالكم شيء.
ثم قال: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ﴾.
أي: ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم وإمهال الله إياكم على كفركم فتنة لكم أي: اختبار لكم ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾.
أي: وأمتعكم بالبقاء وتأخير العذاب إلى انقضاء المدة.
وقال مجاهد: " إلى حين الموت ".
وقال زيد بن أسلم: بلغنا أن رسول الله رأى في منامه بني أمية يجلسون على المنابر، فأخبر بذلك فخرج الحكم من عند رسول الله ﷺ فأخبر بذلك بني أمية فقالوا له ارجع فاسأله متى يكون هذا.
وروى أن الحسن بن علي خطب على الناس إذ سلم الأمر إلى معاوية، وقال في خطبته وهو يلتفت إلى معاوية: قال الله جل ذكره: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ أي: قل يا محمد: رب افصل بيني وبين من كذبني بإحلال عذابك بهم ونقمتك، وهو الحق الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأله إياه ومثله ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾ [الأعراف: ٨٩].
وروى قتادة " أن النبي ﷺ كان إذا شهد قتالاً يقول: يا رب احكم بالحق ".
وقرأ أبو جعفر يزيد: ﴿قَالَ رَبِّ﴾ بالرفع، وهو غلط عند النحويين لا يجوز عندهم رجل أقبل، لأنهم جعلوا يا عوضاً عن المحذوف والأصل يا أيها الرجل.
وقرأ عكرمة والضحاك: ﴿قَالَ رَبِّ﴾ بفتح الياء ﴿احكم﴾ بالرفع والهمز على الابتداء. أو الخبر. واحتجا في ذلك بأن الله تعالى لا يحكم إلا بالحق، فكيف يأمره أن
والتقدير عند أبي عبيد: أحكم بحكمك الحق.
ثم قال تعالى: ﴿وَرَبُّنَا الرحمن﴾.
أي: وقيل يا محمد: ﴿وَرَبُّنَا الرحمن﴾ أي: الذي يرحم عباده المؤمنين. ﴿المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾.
أي: الذين استعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم: ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [المؤمنون: ٢٤] وقولكم: ﴿بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: ٥]. وكذبكم على الله جل ذكره في قولكم: ﴿اتخذ الله وَلَداً﴾ [البقرة: ١١٦] وشبهه من باطلكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجسورة "الحج" (مكية) سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في ستة نفر من قريش، ثلاثة مؤمنون وثلاثة كافرون. فالمؤمنون عبيدة بن الحرب بن عمرو وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. دعاهم للبراز عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة فأنزل الله تعالى ذكره: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) إلى تمام الآيات الثلاث. قال أنس بن مالك: نزلت سورة الحج على النبي - عليه السلام - وهو في مسير له وأصحابه متبددون، فرفع بها صوته، فنادى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ... شَدِيدٌ) فاجتمع إليه أصحابه فقال: هل تدرون أي يوم ذلك؟ ذلك يوم يقول الله