ﰡ
٢٩ - قال الله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما أصاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشاً يوم بدر وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: (يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قريشاً) قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في ذلك: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) قرأ مصرف إلى قوله: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ببدر (وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبباً لنزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور وعند النظر في سبب النزول المذكور تبين أنه لا يصح للعلة المشار إليها، ولعل النظر في السياق القرآني يؤيد ذلك فإن اللَّه قال في الآية: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ... ) وهذا مما شاهده المشركون يوم بدر، ولم يشاهده اليهود، فكيف يكون لهم آية؟
فإن قيل: يمكن أن يكون ذلك آية لليهود ولو لم يروه لكنهم سمعوه من المشركين وحينئذٍ تتحقق العظة؟
فالجواب: أن العظة تتحقق بالسماع لكن بالنظر أبلغ ولهذا كرر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك وختم به الآية فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) وهذه الجملة الأخيرة من الآية دالةٌ بوضوح على الحديث عن أمر مشاهد وهذا ما لم يتحقق لليهود وإنما وقع للمشركين، فصح بهذا أن يكون الخطاب موجهاً لهم وليس لغيرهم.
وربما يؤيد هذا أن اللَّه صدّر الحديث عن الكافرين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).
والمفاخرة والمباهاة بالأموال والأولاد من شأن المشركين لا الكتابيين
وقد مال إلى هذا الطاهر بن عاشور فقال: (والظاهر أن المراد بهم المشركون خاصة ولذلك أُعيد الاسم الظاهر ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعده: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ) إلى قوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وذلك مما شاهده المشركون يوم بدر) اهـ.
* النتيجة:
أن هذه الآية لم تنزل على سبب إنما هي وعيد للكافرين بأنهم سيحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ثم ذكرهم بما جرى لأشباههم يوم بدر وأنهم إن لم يؤمنوا فسيصيبهم ما أصابهم. وذلك لضعف سند الحديث، ومخالفته لسياق القرآن واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألك بينة)؟ قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: (احلف). قال: قلت: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية.
٢ - أخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أقام
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين عند ذكرهم لنزول الآية الكريمة منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
وحينئذٍ لا بد من النظر هل نزلت الآية على أحد السببين أو نزلت عليهما جميعاً؟
الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مال إلى الثاني وقال: (لا منافاة بينهما ويحمل على أن النزول كان بالسببين جميعاً، ولفظ الآية أعم من ذلك ولهذا وقع في صدر حديث ابن مسعود ما يقتضي ذلك) اهـ.
وابن العربي - رحمه الله - يميل إلى ترجيح حديث ابن مسعود في قصة الأشعث بن قيس فقال بعد أن ذكر أسباب النزول في الآية: (والذي يصح أن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث.... ثم قال: وذلك يحتمل ما صح في الحديث وما روي عن اليهود) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن الراجح ما اختاره ابن العربي في ترجيح حديث ابن مسعود لأن القصة بين الأشعث وبين رجل من اليهود والآية التي بعد هذه الآية تتحدث عن اليهود في قوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
ومما يؤيد هذا أيضًا أن حديث ابن مسعود رواه السبعة بينما لم يرو حديث ابن أبي أوفى سوى البخاري، والكثرة في الغالب قرينة على الصواب.
ثم الأشعث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحلف ويقول: فيَّ واللَّه كان ذلك وهو لن يحلف إلا على ما ثبت عنده.
بقي أن يُقال: ما الجواب عن حديث ابن أبي أوفى؟
فالجواب: أن يُقال هذا ما غلب على ظنه من نزولها وليس بالضرورة أن يكون هو الصواب.
أو يُقال: قوله (فنزلت) أن حكم تلك الصورة يتناوله لفظ الآية فعبر عن ذلك بالنزول وهذا مبني على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية ما جرى للأشعث بن قيس في خصومة له مع يهودي في أرض حين خاف من يمين اليهودي أن تذهب بأرضه فأنزل اللَّه الآية. لصحة سنده، وموافقته لسياق الآيات، وتصريحه بالنزول والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي وأحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن فلانًا قد ندم، دانه قد أمرنا أن نسألك: هل له من توبة؟ فنزلت: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) إلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إليه فأسلم.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات، وقد ذكر المفسرون هذا الحديث
قال الطبري: (اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفيمن نزلت، فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري وكان مسلماً فارتد بعد إسلامه ثم ساق الحديث الذي معنا، وذكر قولاً آخر في نزولها، إلا أن الأخبار بالقول الأول أكثر، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن) اهـ بتصرف.
وقال البغوي عن الآية: (فحملها إليه رجل من قومه، وقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله فيما علمت لصدوق، وإن رسول الله - جمعّ - لأصدق منك، وإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآيات الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به، وموافقته لسياق الآيات والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد والنَّسَائِي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخَّر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: (أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر اللَّه هذه الساعة غيركم) قال: وأُنزل هؤلاء الآيات: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) حتى بلغ: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية، وقد أورد بعض المفسرين هذا الحديث
فقال الطبري: (ليس فريقاً أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر سواء، يعني بذلك أنهم غير متساوين وليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر، وإنما قيل: ليسوا سواءً، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب الذَين ذكرهما اللَّه بقوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة، فقال: ((لَيْسُوا سَوَاءً) أي ليس هؤلاء سواء المؤمنون منهم والكافرون، ثم ابتدأ الخبر عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم بعدما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونخب الجنان، ومحالفة الذل والصغار وملازمة الفاقة والمسكنة وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة) اهـ.
وقال ابن العربي: (وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر) اهـ.
وقال ابن عطية: (لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقّب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه) اهـ.
وقال ابن كثير بعد أن ساق حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد اللَّه بن
وقال ابن عاشور: (استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمهم، تأكيداً لما أفاده قوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) فالضمير في قوله: (لَيْسُوا) لأهل الكتاب المتحدث عنهم آنفاً وهم اليهود) اهـ.
ومن خلال ما تقدم من نصوص العلماء في تفسير الآية المذكورة يتبين أنه ليس بين الآية المذكورة والحديث الذي سيقت فيه أيُّ ارتباط وعلى هذا فليست القصة المذكورة هي سبب نزول الآية واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي سيقت في ثناياه الآية ليس هو سبب نزولها لضعف سنده، ومخالفته لسياق القرآن وأقوال المفسرين، فلعل لها سبباً آخر لم يخرجه أصحاب الكتب التسعة.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: فينا نزلت: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سَلِمة، وما نحب - وقال سفيانُ مرةً: وما يسرني - أنها لم تنزل، لقول الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية وابن كثير وابن عاشور.
قال البغوي: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا) أي: تجبنا وتضعفا وتتخلفا، والطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى أحد في ألف رجل وقيل: في تسعمائة وخمسين رجلاً، فلما بلغوا الشوط انخذل عبد اللَّه بن
وقال القرطبي: (والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أُبيّ بمن معه من المنافقين فحفظ اللَّه قلوبهم فلم يرجعوا فذلك قوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) يعني حافظ قلوبهما عن تحقيق هذا الهم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وهمت بنو سلمة وبنو حارثة من المسلمين بالانخزال ثم عصمهم الله، فذلك قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) أي ناصرهما على ذلك الهم الشيطاني الذي لو صار عزمًا لكان سبب شقائهما فلعناية اللَّه بهما برأهما اللَّه من فعل ما همَّتا به) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما جرى لبني حارثة وبني سلمة من الهم في الانصراف عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك الجهاد معه في غزوة أحد لما انصرف رأس المنافقين بثلث الجيش مغاضبًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه لم يأخذ برأيه ومشورته في البقاء في المدينة وترك الخروج إلى أحد. لصحة سنده وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أُحد كسرت رباعية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشُجَّ في وجهه، قال: فجعل الدم يسيل على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى اللَّه؟). قال: فأنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
٢ - أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: (اللهم العن فلانًا وفلاناً وفلانًا) بعد ما يقول: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) فأنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)
وفي لفظ لأحمد والنَّسَائِي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ثم قال: (اللهم العن فلاناً وفلانًا) دعا على ناسٍ من المنافقين فأنزل اللَّه تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ... ). وفي لفظ لأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (اللهم العن فلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية) قال: فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ... ). قال: فتيب عليهم كُلِّهم.
وأخرجه البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد اللَّه يقول: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو على صفوان بن أُمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام. فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
ولفظ مسلم عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (اللهم العن لحيان ورِعْلاً وذكوان وعُصَيَّةَ عصت الله ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد ذكر المفسرون هذه الأحاديث في سبب نزولها لكنهم لم يخلصوا فيها إلى سبب معين يركن إليه ويعتمد عليه، ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يمكن القول بأن هذه الأحاديث جميعاً سبب لنزول الآية الكريمة وحينئذٍ لا بد من النظر فيما يمكن اعتباره سبباً لنزولها فأقول مستعيناً باللَّه تعالى:
حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الدعاء على القبائل المذكورة ليس سبباً للنزول لما يلي:
١ - أن الآية نزلت في سياق الحديث عن قصة أحد - كما ذكره ابن القيم، وابن حجر - رحمة اللَّه عليهما، وقصة رعل، ولحيان، وذكوان، وعصيَّة كانت لما قُتل القراء في بئر معونة، وذلك في صفر من السنة الرابعة فكيف يتقدم النزول على السبب؟.
٢ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الدعاء عليهم لما جاؤوا تائبين مسلمين وليس لأن الآية نزلت ناهيةً عن الدعاء عليهم.
٣ - أن ذكر النزول بسبب هذه القضية لم يثبت من حيث الإسناد وقد
وبما تقدم يتبين أن ذكر نزول الآية عند الدعاء على هؤلاء الأحياء من العرب لم يصح سنداً ومتناً وإن كان الدعاء عليهم ثابتًا في الصحيح والعلم عند الله تعالى.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ناسٍ من المنافقين فأنزل اللَّه الآية. فقد تقدم بيان شذوذها من جهة الإسناد، وهي كذلك شاذة من جهة المتن إذ كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعامل المنافقين كما يعامل أصحابه المؤمنين لأنهم أصحاب في الظاهر ويشهد لذلك ما روى البخاري عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا في غزاةٍ فذكر الحديث... إلى أن قال عبد اللَّه بن أبي: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ، فبلغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام عمر، فقال: يا رسول اللَّه دعني أضربْ عنق هذا المنافق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه). فانظر كيف عدهم أصحابًا فقد كانوا يصحبونه في الظاهر، وأمر سرائرهم إلى الله وحده فلماذا الدعاء عليهم؟.
أما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تسمية النفر الثلاثة من قريش عند الدعاء عليهم فلم يصح في حديث مرفوع كما تقدم بحث ذلك، وإنما الذي صح هو الدعاء على أُناس مبهمين فأنزل اللَّه الآية.
وحينئذٍ ينحسر النظر في حديث أنس في قصة أحد والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم) وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع فما الجواب عن هذين السببين؟.
ثم ساق حديث أنس وذكر من القائلين به ابن عبَّاسٍ، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس.
وما ذُكر يشير إلى اختياره لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سبب نزولها.
وقال السعدي: (لما أُصيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، وكسرت رباعيته وشج في رأسه جعل يقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية وبيّن أن الأمر كله للَّه، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس له من الأمر شيء؛ لأنه عبد من عبيد اللَّه، والجميع تحت عبودية ربهم مدبَّرون لا مدبرون.
وهؤلاء الذين دعوت عليهم أيها الرسول، أو استبعدت فلاحهم وهدايتهم إن شاء اللَّه تاب عليهم، ووفقهم للدخول في الإسلام، وقد فعل فإن أكثر أولئك هداهم اللَّه فأسلموا.
وإن شاء اللَّه عذبهم فإنهم ظالمون، مستحقون لعقوبات اللَّه وعذابه) اهـ.
فالسعدي - رحمه الله - وإن كان قدم حديث أنس، إلا أنه أشار إلى حديث ابن عمر في قوله: وهؤلاء الذين دعوت عليهم أيها الرسول. فإن حديث أنس خلا من الدعاء على أحد.
أما الطاهر بن عاشور فرد حديث أنس بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدّع لنفسه شيئاً أو عملاً حتى يقال: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
وردَّ حديث ابن عمر بحديث ورد فيه قولُه: (إني لم أبعث لعاناً) ولم يعزه وبما ثبت من خُلُقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان لا ينتقم لنفسه.
ومرةً جمع بينهما فقال: (وطريق الجمع بينه - أي حديث أنس - وبين حديث ابن عمر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا على المذكورين بعد ذلك في صلاته فنزلت الآية في الأمرين معاً، فيمًا وقع له من الأمر المذكور، وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم وذلك كله في أحد) اهـ.
وعندي - والله أعلم - أن حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسعد بنزول الآية لما يلي:
١ - أن العلماء - فيما أعلم - متفقون على أن الآية نزلت في قصة أحد، وهذا ما جاء نصاً في حديث أنس، بخلاف حديث ابن عمر الذي خلا من هذا.
٢ - أن السبب معلوم في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم) لأنهم كسروا رباعيته، وشجوا وجهه، بينما السبب في لعنه لهؤلاء النفر غير معلوم، إذ يحتمل أن لعنهم كان في أحد ويحتمل أنه في غيرها، ولا يوجد ما يُعيّن ذلك.
وقول ابن حجر: (أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد) غير مسلَّم فأين الدليل على ذلك؟ ثم ما صلة هؤلاء النفر على وجه الخصوص بأحد؟ تعيينهم بالأسماء لم يثبت كما تقدم. ولو فرضنا جدلاً ثبوته لقلنا ألم يكن في المشركين من هو أنكى على المسلمين من هؤلاء النفر كخالد بن الوليد مثلاً فلماذا ترك الدعاء عليه إذا كان للدعاء علاقة بأحد؟
٣ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لعنه لهؤلاء النفر لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يلعنهم بإذن اللَّه له، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعاتبه الله على ذلك بقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) مع أنه قد أذن له فيه.
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا نهى عائشة، وأخبر أن فعلها من العنف أو الفحش الذي ينافي الرفق، مع أن اليهود هم أول من بدأ بالسوء، والله قد لعنهم وغضب عليهم في كتابه.
أفيمكن بعد هذا أن يفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، وهو يناجي ربه، ما ينهى عنه عائشة - رضي الله عنها - وهو أتقى الناس لله وأخشاهم له؟
فلم يبق إلا أن لعنه لهؤلاء كان بأمر إلهي يستحق عليه الثناء، لا التوبيخ والعتاب.
٤ - أن المستقر من سيرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحاله مع الناس أنه لا ينتقم لنفسه كما روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما خُيِّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه إلا أن تُنتهك حرمةُ الله فينتقم للَّه بها.
ولو كان لِلعنه صلة بأُحد لكان انتقاماً لنفسه لأن أبلغ ما فعله المشركون بأحد إصابتهم إياه، ولهذا استبعد فلاحهم بقوله: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى اللَّه). ومعلوم أن الدعاء على أحدٍ بسبب مع إهمال سببٍ أبلغَ منه ينافي حكمة العقلاء، فكيف بحكمة سيد الثقلين؟.
فإن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؟
وذِكرُ آية آل عمران في القصة لا تدل على نزولها في أُحدٍ وإنما تدل على اجتهاد ابن عمر وظنه أنها نزلت في أحد وليس الأمر كذلك واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أُصيب في أُحد: كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى اللَّه، لصحة سنده، وتصريحه بالنزول وتحديداً في غزوة أحد، وموافقته للفظ الآية ومناسبته لحال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزلت هذه الآية (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر، فقال بعض الناس لعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) إلى آخر الآية.
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسير الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور، لكن منهم من تعقّبه كالطبري وابن عاشور ومنهم من سكت عنه وهم الباقون.
وقد قال الطبري معقباً: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) بمعنى: ما الغلول من صفات الأنبياء ولا يكون نبياً من غلَّ، وإنما اخترنا ذلك لأن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أوعد عقيب قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أهلَ الغلول، فقال: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... ) الآية والتي بعدها، فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتهموا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغلول لعقّب ذلك بالوعيد على التهمة وسوء الظن برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا بالوعيد على الغلول، وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول بيان بيّن، أنه إنما عرّف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم؛ لأن ذلك جرم عظيم والأنبياء لا تأتي مثله).
وقد أجاد وأفاد الطاهر بن عاشور حين أشار إلى أن هذا الحديث لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية إذ كيف تفقد القطيفة يوم بدر ولا تنزل الآية لأجل هذا إلا يوم أحد مع أن بين الغزوتين سنة وشهراً إذ كانت بدر في رمضان من السنة الثانية، وأحد في شوال من الثالثة، والآية إنما جاءت في سياق الحديث عن غزوة أحد، فهل يمكن أن يتأخر الجواب عن الحدث هذه المدة؟ هذا ما لم يقع والعلم عند اللَّه تعالى.
فإن قال قائل: إن فقد القطيفة إنما كان يوم أحد فنزلت الآية جواباً لهذا.
وهذا القول هو الراجح ويعضده من جهة السند أنه مضطرب، فهاتان علتان في المتن والإسناد.
* النتيجة:
أن هذا الحديث المذكور لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية الكريمة لما تقدم فإما أن تكون الآية لم تنزل على سبب أصلاً، أو كان لها سبب لا يندرج ضمن نطاق البحث فالله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم بدر قال: نظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيِّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: (اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً) قال: فما زال يستغيث ربه - عَزَّ وَجَلَّ -، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فردَّاه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي اللَّه، كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك وأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
فلما كان يومئذٍ والتقوا فهزم الله - عَزَّ وَجَلَّ - المشركين فقتل منهم سبعون رجلاً وأُسر منهم سبعون رجلاً فاستشار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وعلياً وعمر فقال أبو بكر: يا نبي اللَّه، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوةً لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عَضُداً، فقال رسول اللّّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ترى يا ابن
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد ابن كثير - رحمه الله - هذا في تفسيره لكنه لم يتعقبه.
والصحيح والله أعلم أن هذا لا يصح سببًا لنزول الآية الكريمة، لأمرين:
الأول: أنه قد تبين أن هذه الزيادة في قصة أحد مما انفرد بها عبد الرحمن بن غزوان الملقب (بقراد) وخالف فيها الثقات فهي شاذة لا تصح.
الثاني: قوله: فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فيقال: سبحان الله وهل يمكن أن يؤاخذ الله أحداً بذنب قد عفا عنه وغفر لصاحبه؟ فإن قيل: وكيف كان هذا؟
فالجواب: ما أنزله الله تعالى فِي سورة الأنفال في قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩). فانظر قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨). فالكتاب الذي سبق من الله منع من عذابهم وحال دونه.
وانظر قوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) فقد أحلَّ ذلك لهم وأذن لهم فيه، وختم ذلك بالمغفرة والرحمة. فهل يصح أن يُقال بعد ذلك إن ما أصابكم يوم أحد عقوبة على أخذكم الفداء يوم بدر؟
أن ما ذكر هنا واعتبر سببًا لنزول الآية لا يصح لشذوذ الزيادة وخلو الأحاديث الصحيحة منها مع ما فيها من مخالفة سياق القرآن، والآية إنما نزلت تتحدث عن قصة أحد وما جرى فيها من هزيمة المسلمين وأسباب ذلك ودواعيه...
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضْرٍ ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظلِّ العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع اللَّه لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أنا أبلغهم عنكم) فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هؤلاء الآيات على رسوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا).
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة وقد أورد المفسرون هذين السببين وغيرهما وجعلوها سبباً لنزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وغيرهم.
قال ابن عطية بعد أن ساق الأسباب المذكورة في نزول الآية: (كثرت الأحاديث في هذا المعنى واختلفت الروايات، وجميع ذلك جائز على ما اقتضته من هذه المعاني) اهـ.
وقال القرطبي بعد ذكر الأسباب: (وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم) اهـ.
والظاهر واللَّه تعالى أعلم أن حديث جابر في قصة والده عبد الله بن عمرو بن حرام لا تصح سبباً لنزول الآية:
ثانياً: أن سياق الآيات لا يعين على ذلك لأن الله يتحدث عن هؤلاء الشهداء بصيغة الجمع فقال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١). وهذا يصدق على الجماعة دون الواحد، فضمائر الجمع كثيرة في الآيات المتقدمة مما يبعد إرادة الواحد.
أما حديث ابن عبَّاسٍ: فهو وإن كان فيه انقطاع بين أبي الزبير وابن عباس إلا أنه مؤيد بما روى مسلم عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبما روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عبَّاسٍ موقوفاً عليه.
وسياق الآيات يدل على ذلك فإن الشهداء في حديث ابن عبَّاسٍ قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال اللَّه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا... ) مرغباً لهم في الجهاد مبيناً لهم عاقبته وأثره مخبراً لهم عن حياة وسعادة من ماتوا عليه، بخلاف حديث عبد اللَّه بن حرام الذي ليس فيه إلا سؤاله أن يعيده الله ثانية لأجل الجهاد، على أن هذا لا يمنع أن يكون عبد اللَّه بن حرام أحد الشهداء الذين نزلت فيهم الآية بل هو منهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعاً.
* النتيجة:
أن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس سبباً لنزول الآية لما في سنده من الضعف وعدم موافقته لسياق الآيات، أما حديث ابن عبَّاسٍ فهو وإن تكلم في سنده إلا أن له شواهد تجبره ومع هذا فلفظ الآيات يوافقه وأقوال المفسرين تؤيده والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما انصرف المشركون عن أُحد وبلغوا. الروحاء قالوا لا محمدًا قتلتموه ولا الكواعب أردفتم وبئس ما صنعتم ارجعوا، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فندب الناس، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد وبئر أبي عتبة فأنزل اللَّه تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) وقد كان أبو سفيان قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أَهُبَّةَ القتال والتجارة فلم يجدوا بها أحدًا وتسوقوا فأنزل اللَّه تعالى:
٢ - وأخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ). قالت لعروة: يا ابن أُختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال: (من يذهب في إثرهم) فانتدب منهم سبعون رجلاً، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون ما تقدم وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وغيرهم، وحجتهم في ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - المتقدم عند البخاري.
قال الطبري: (إنما عنى اللَّه تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أثره حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم). اهـ.
لا يخرج معنا إلا من شاهدنا بالأمس وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ولكن تجلدوا | إلى أن قال فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية ومدحهم لصبرهم) اهـ بتصرف. |
أما ما أخرجه النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقد تقدم أن الصحيح فيه أنه من مرسل عكرمة لكنه يعتضد ويقوى بحديث عائشة.
وإذا نظرت في حديث عائشة وصحة سنده وضممت إليه حديث ابن عباس وما فيه من التصريح بنزول الآية وجمعت الحديثين إلى سياق القرآن تبين لك أن سبب نزولها ما جرى من استجابة الصحابة لِلَّهِ ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اتباع المشركين من بعد ما أصابهم القرح وعلى هذا جرى المفسرون.
أما سبب نزول قوله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.. ) الآية فستأتي دراسته إن شاء الله تعالى في النص الذي يليه.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ثناء اللَّه سبحانه على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أجابوه لما ندبهم لِلحاق المشركين مع ما فيهم من الجراح والآلام إظهارًا للجلد والقوة وإرهابًا لأعداء الله وذلك لدلالة سياق القرآن، واتفاق المفسرين، مع ما في الحديثين مجتمعين من صحة السند والتصريح بالنزول والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما انصرف المشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمدًا قتلتموه ولا الكواعب أردفتم وبئس ما صنعتم، ارجعوا فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد وبنو أبي عتبة فأنزل اللَّه تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) وقد كان أبو سفيان قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع، فأخذ أهُبَّةَ القتال والتجارة فلم يجدوا بها أحدًا وتسوقوا فأنزل اللَّه تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء عن عكرمة في سبب نزول قوله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ).. الآية وبهذا قال مجاهد أيضًا، لكن هذا مخالف لقول جمهور المفسرين وغيرهم من العلماء ولهذا قال ابن عطية: (وشذ مجاهد - رحمه الله - فقال: إن هذه الآية من قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى قوله (فَضْلٍ عَظِيمٍ) إنما نزلت في خروج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قولوا: نعم. فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشًا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وصمموا حتى
وقال القرطبي: (وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا: إن هذه الآية من قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى قوله (عَظِيمٍ) إنما نزلت في خروج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بدر الصغرى) ثم ذكر ما تقدم عن ابن عطية.
وقد ساق ابن القيم - رحمه الله - ما جرى سياقًا جميلاً مرتبًا فقال: (ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال فشق ذلك عليهم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن هم جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأُناجزنّهم فيها). قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: موعدكبم الموسمُ ببدر فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قولوا نعم قد فعلنا) قال أبو سفيان: (فذلكم الموعد) ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكتهم وحدَّهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال) فقال له عبد اللَّه بن أبي: أركب معك؟ قال: (لا) فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعًا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد اللَّه وقال: يا رسول اللَّه إني أحب ألا تشهد مشهدًا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على
فتبين بما ذكره ابن عطية والقرطبي، شذوذ ما ذكراه عن مجاهد وعكرمة رحمهما اللَّه تعالى، من أن السبب خروج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بدر الصغرى.
وتبين بما ذكره ابن القيم أن ذلك حصل عند خروجهم إلى حمراء الأسد، وإن كان قد ذكر أن أبا سفيان قد ناداهم فقال: موعدكم الموسم ببدر، وهو ما ذكره عكرمة أيضًا في الحديث الذي معنا، لكن عكرمة جعله سبب النزول، وابن القيم وغيره جعلوه موعداً، وسبب النزول خروجهم إلى حمراء الأسد. واللَّه أعلم.
فإن قيل: ما الدليل الصحيح على هذا الترجيح؟
فالجواب: أن الدليل ما تقدم في حديث عائشة عند البخاري في استجابتهم لِلَّهِ والرسول وسياق الآيات واحد لا يختلف في خروجهم ثم تخويفهم ثم توكلهم على الله ثم انقلابهم بالنعمة والفضل.
أن الآية الكريمة نزلت لما استجابوا وخرجوا للقتال بعد تحذيرهم وتخويفهم منه فلم يفت ذلك في عزيمتهم بل زادهم إيمانًا بتوكلهم على الله وكانت العاقبة السارة لهم حيث انقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء بل واتبعوا رضوان الله واللَّه عظيم الفضل والإحسان حيث قادهم إلى مواقع فضله ورحمته في خروجهم إلى حمراء الأسد، وإنما اخترت هذا لدلالة السياق القرآني عليه والموافقة بين تاريخ النزول وزمن القصة. واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك عن أبيه، وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم وكان كعب بن الأشرف يهجو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان واليهود، وكانوا يؤذون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فأمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل اللَّه: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: طُرق صاحبنا فقتل
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه من أسباب نزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي، وغيرهم.
وقد ذكر المفسرون أيضاً في نزولها قصة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع فنحاص اليهودي وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر الصديق إلى فنحاص يستمده، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر: (لا تفتاتن عليّ بشيء حتى ترجع) فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال: قد احتاج ربكم أن نمده، فهمَّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تفتاتن عليَّ بشيء حتى ترجع، فكف ونزلت: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.. ) إلى قوله: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ).
وقد تبين من دراسة الإسنادين أن حديث كعب بن الأشرف مرسل، وحديث فنحاص اليهودي في قصة أبي بكر فيه انقطاع وإرسال، وبهذا يسقط الاحتجاج بهما على السببية وربما كان هذا هو السبب في إعراض ابن كثير - رحمه الله - عن هذين الحديثين حيث لم يذكرهما مع أنه شديد العناية بالروايات وأسانيدها، ولعل مما يعين على هذا الظن ويومئ إليه قوله - رحمه الله - عند هذه الآية: (يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسلياً لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمراً لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج اللَّه فقال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ثم ساق حديث أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين أردفه في عيادته لسعد بن عبادة فذكر الحديث إلى أن قال: فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد اللَّه بن رواحة: بلى يا
* النتيجة:
أن الأسباب المذكورة لنزول الآية الكريمة قد تبين ضعفها وعدم حجيتها ولا أعلم سببًا صحيحًا يمكن أن أسطره بين يدي القارئ، وأما حديث أسامة بن زيد فإن سياقه يتفق ولفظ الآية كثيرًا لكني لا أجزم بأنه سبب نزولها لعدم الدليل على ذلك والعلم عند الله تعالى.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد والبخاري، والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال: اذهب يا رافع - لبوَّابه - إلى ابن عبَّاسٍ فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذباً لنعذبن أجمعون. فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ). هذه الآية. وتلا ابن عبَّاسٍ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا). وقال ابن عبَّاسٍ: سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
٢ - أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الغزو تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا... ) الآية.
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة وقد أورد المفسرون هذين السببين وغيرهما مما لا يستند إلى حجة في الإسناد وتباينت مواقفهم عند النظر فيهما فذهب بعضهم إلى الجمع بينهما وأن الآية نزلت بسببهما ومن هؤلاء القرطبي وابن كثير رحمهما اللَّه تعالى.
قال القرطبي: (والحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني، ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد فكانت جواباً للفريقين واللَّه أعلم).
وقال ابن كثير: (ولا منافاة بين ما ذكره ابن عبَّاسٍ وما قاله هؤلاء - أي نزولها بشأن المنافقين - لأن الآية عامة في جميع ما ذكر والله أعلم).
وذهب بعض المفسرين إلى أنها في أهل الكتاب خاصة ومن هؤلاء الطبري وابن عاشور، قال الطبري بعد أن ساق الأقوال في نزولها: (وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا.. ). الآية قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أخبر اللَّه جل وعز أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يكتمونه، لأن قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم، مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك).
وقال ابن عاشور بعد أن ساق الآية: (تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدث عنهم ببيان حالة خُلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالموصول للتوصل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشر والخسة ثم لا يقف عند حد الانكسار لما فعل أو تطلب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترقب ثناء الناس على سوء صنعه ويتطلب المحمدة عليه) والراجح - واللَّه أعلم - ما ذكره ابن
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما ذكره ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في سؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهود عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن. ولم يظهر لي من وجه صحيح ما هو الشيء الذي سألهم عنه فكتموه. وأما الحديث عن المنافقين وتخلفهم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسيأتي في موضعه مع قصته في سورة براءة إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة فأنزل الله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسير الآية كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي.
قال الطبري: (وذُكر أنه قيل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة فأنزل اللَّه هذه الآية). اهـ.
وقال ابن عطية: (وروي أن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، قد ذكر اللَّه تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك فنزلت الآية). اهـ.
والراجح - واللَّه أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب قول أم سلمة - رضي الله عنها - لوجهين:
الأول: أن هذا لم يصح عنها - رضي الله عنها - للعلة المذكورة في إسناد الحديث.
الثاني: أن السياق القرآني لا يؤيد هذا ولا يسعفه، وإنما يؤيد أن الآية جاءت جواباً من اللَّه لهؤلاء الذين يدعونه رهباً ورغباً بقولهم: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.. ) إلى قولهم.. (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤).
ثم قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).
ولو كانت الآية نزلت بسبب قول أم سلمة - رضي الله عنها - لانقطع الاتصال بين الدعاء والجواب وهذا لا يخفى على من تأمله.
ولهذا قال الطبري مؤيداً لهذا المعنى بعد سياق الآية: (يعني تعالى ذكره فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف اللَّه عنهم أنهم دعوا به ربهم بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيراً ذكراً كان العامل أو أنثى) اهـ.
وقال ابن كثير بعد سياق الآية: (ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب
*النتيجة:
أن الآية لم تنزل بسبب قول أم سلمة - رضي الله عنها - وإنما جاءت جوابًا من اللَّه سبحانه لهؤلاء الخاشعين الذين يدعون ربهم رغبةً في جزائه وعطائه ورهبة من عقابه وعذابه فاجابهم المنعم المتفضل إلى ما طلبوا ونجاهم مما هربوا والله ذو الفضل العظيم، وإنما اخترت هذا لدلالة سياق الآيات عليه وعدم وجود معارض راجح صحيح والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما جاء نعي النجاشي قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا عليه) قالوا: يا رسول اللَّه، نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ).
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة وقد أورد المفسرون هذا الحديث وغيره عند تفسير الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وغيرهم.
والظاهر عندي واللَّه أعلم أن الآية إنما تتحدث عن مؤمني أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره وبيان ذلك أن يقال:
إذ قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، قد تقرر أنها نزلت في اليهود كما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثم ذكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حال المؤمنين في تفكرهم وذكرهم لربهم ودعائهم إياه وما أجابهم به وتفضل عليهم ثم عاد بعد ذلك إلى ذكر الطائفة الأخرى من أهل الكتاب فأثنى عليهم بإيمانهم وخشوعهم وما لهم من الأجر عند الله على ذلك.
ولعل مما يعضد هذا الفهم وأن الحديث عن طائفتين من أهل الكتاب كافرة؛ ومؤمنة أن اللَّه قال عن الكافرة: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) أي نبذوا الكتاب. بينما وصف الأخرى بأنهم (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) فهاتان طائفتان متقابلتان.
فإن قال قائل: لماذا قدم الحديث عن الفئة الكافرة وأخّرَ الحديث عن الطائفة المؤمنة ولم يجعل الحديث عنهما متصلاً؟
فالجواب: أن الحديث عن الفئة الكافرة قدمه لصلته بما قبله من الحديث عنهم في وصفهم لربهم بأنه فقير وهم أغنياء وما تلى ذلك من مقالات السوء التي لا ينقطعون عنها.
وأخّر الحديث عن مؤمني أهل الكتاب لأنهم يتلون في الرتبة والمنزلة
أما الحديث عن النجاشي، فضعيف لضعف الحديث في ذلك، وعدم المناسبة بين سياق القرآن وسياق الحديث.
* النتيجة:
أن الآية لم تنزل على سبب صحيح بل هي تتحدث عن المؤمنين من أهل الكتاب في إيمانهم وخشوعهم لِلَّهِ وما أعد الله لهم من النعيم المقيم بعد الحديث عن الكافرين منهم ليظهر ويتبين عدل الله بين عباده وأنه لا يظلم أحداً. واللَّه أعلم.
* * * * *