تفسير سورة الزخرف

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

في ج ٣، إذ أجمع المفسرون على أن المراد به في هذه الآية الصلاة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء الله، ولهذه الأسباب يجوز أن يعدل هنا عن الحقيقة إلى المجاز لوجود الصارف وعدم إمكان الصيرورة إليها والأخذ بمجرد الظاهر، وقد ألمعنا في المقدمة أن طريقتنا في هذا التفسير لزوم الظاهر ما استطعنا، وأن لا نحيد عنه، وهذا مما لم نتمكن من التقيد بظاهره لما علمت «وَلكِنْ جَعَلْناهُ» أي ذلك الكتاب «نُوراً» يهتدى به من الضلال، ومما يؤيد عود الضمير إلى الكتاب لا إلى الإيمان قوله «نَهْدِي بِهِ» بذلك الكتاب «مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» لأنه أمر محسوس يهتدى به، أما الإيمان فمعنى من المعاني يقر في القلب ويعبر عنه اللسان «وَإِنَّكَ» يا خاتم الرسل «لَتَهْدِي» الناس «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٥٢ عدل سوي «صِراطِ اللَّهِ» وطريقه الموصل إلى الحق الدال على الرشد، كيف لا وهو سبيل الله العظيم «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء ويريد لا يسأل عما يفعل فانتبهوا أيها الناس «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» ٥٣ كلها في الآخرة مشاهدة كما هي الآن في الدنيا وما ترى منها بيد غيره فهو صورة إذ في الحقيقة لا أمر إلا لله ولا يقع شيء إلا بأمره وإرادته، وهناك يجد المحسن نواب إحسانه والمسيء عقاب وجزاء إساءته.
ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه الكلمة، ولا مثلها في عدد الآي. هذا، والله أعم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه وسلم.
تفسير سورة الزخرف عدد ١٣- ٦٣ و ٤٣
نزلت بمكة بعد سورة الشورى عدا الآية ٥٤، فإنها نزلت بالمدينة، وهي تسع وثمانون آية، وثمنمئة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «حم» ١ تقدم ما فيه، وقد أقسم الله تعالى فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» ٢ لكل شيء وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّا جَعَلْناهُ» أي الكتاب الملقى إليك يا محمد المشار إليه آخر السورة المارة «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ٣
60
معانيه فلا تحتجوا بعدم فهمه «وَإِنَّهُ» هذا القرآن ثابت عندنا مدوّن «فِي أُمِّ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ. وسمي أما لأن كل الكتب السماوية المنزلة على الرسل وغيرها مسجلة فيه ومنه ينسخ ما ينزله الله على من يشاء من عباده، قال تعالى:
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) الآيتين من آخر سورة البروج في ج ١، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة والباقون بضمها وهو الصواب ولهذا يقول تعالى «لَدَيْنا لَعَلِيٌّ» شرفا ومنزلة وشأنا «حَكِيمٌ» ٤ لا يتطرق إليه البطلان على مرور الدوران، راجع الآية ٤٢ من سورة فصلت المارة وما ترشدك إليه من المواضع في حفظ هذا القرآن وتعهد الله به «أَفَنَضْرِبُ» نذود وننحى ونترك «عَنْكُمُ» يا أهل مكة «الذِّكْرَ» بالقرآن فلا نذكركم به ونهملكم «صَفْحاً» إعراضا عنكم، فلا نأمركم ولا ننهاكم، أو نمسك عن إنزاله بسبب «أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» ٥ بأنواع الكفر والمعاصي ونبقيكم سبهللا، كلا، لا نفعل ذلك من أجل انهماككم وإصراركم على المعاصي والكفر، بل ننزله عليكم ونكلفكم بالإيمان به وترك ما أنتم عليه، لئلا تقولوا في الآخرة ما جاءنا من كتاب ولا نذير.
قرأ نافع وحمزة بكسر الألف من أن، أي إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر، وقيل إن أن هنا بمعنى إذ، مثلها في قوله تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية ٢٧٨ من البقرة في ج ٣، أي والجزاء مقدم على الشرط، وقرأ الباقون بفتحها على التعليل وهو الأحسن والأوفى بالمرام. قال تعالى «وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» ٦ قبلكم «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٧ مثلما يسخر بك قومك فلا تضجر لما ترى منهم، فإن لك أسوة بإخوانك الأنبياء، وهذه تقدير للآية قبلها مبينة أن إسراف الأمم السابقة الكثيرة في التكذيب لم يمنعنا من إرسال الرسل إليهم ولا إنزال الكتب عليهم، فكذلك إسراف قومك يا محمد لم يحل دون إرسالنا إياك إليهم وإنزالنا كتابك عليهم، وفيها تسلية لحضرة الرسول ليهون عليه ما يلاقية من قومه، قال تعالى يا محمد لا يغرّ قومك ما هم عليه من القوة والكثرة في المال والولد «فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً» وقوة ومن هم أكثر منهم أموالا وأولادا، وهذا نوع آخر
61
من التسلية لحضرة الرسول صرف فيه الخطاب من قومه إليه ضمن إخباره عن حكاية حال سابقة لقوله جل قوله «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» ٨ أي القصة التي أهلكوا فيها وحالتهم مع أنبيائهم إذ سلف ذكرهم على التفصيل فيما قصه الله قبل، وقد كرره مرارا حتى صار ما أوقعه بالأولين كالمثل السائر، فحذّر قومك من أن ينزل بهم مثله ويصيبهم ما أصابهم، يريد قوم نوح وصالح وهود وشعيب ولوط وموسى وعيسى، ومن بينهم. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ» بالغ القدرة منيع الجانب العظيم الذي لا يكيّف «الْعَلِيمُ» ٩ بما فيهن وبالحكمة التي خلقهنّ من أجلها لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا خلقهن غيره تعالى ولا يتمكنون من إنكارهما أو نسبة شيء بما فيهن منهما لأولهم خشية الكذب المستقبح عندهم، وذلك الإله الفعال «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» لتستريحوا عليها، ومنه مهد الصبي السرير الذي ينام فيه لأن فيه استراحته ومنامه، وإنما جعلها مهدا ليمكن مخلوقاته من الانتفاع بها «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» في الصحارى وفجاجا في الجبال ومرتفعا في الأودية ليتيسر لكم المشي عليها لتمام النفع «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ١٠ في أسفاركم لمقاصدكم من القرى والبلاد والمراعي والمقالع وغيرها.
مطلب نعمة المطر ونعمة الدواب والأنعام وما يقال عند السفر والرجوع منه:
«وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياتكم، وهذا من جملة رأفته بكم أيها الناس ورحمته بدوابكم وأنعامكم وجعله «بِقَدَرٍ» لكل خلقه من نام وجامد يحسب الحاجة إليه وقدر ما اقتضته المشيئة المبينة على الحكم والمصالح، فلم يشح عن الحاجة ولم يزد لحد الغرق الذي لا يكون إلا للعذاب أو أمر آخر يريده، وهذا القدر الذي ذكره لا يعلمه غيره والإبرة المحدثة (أودوميتر) لا تفيد على التحقيق نزوله بالبقعة التي هي فيها أو بساعة معلومة، لأن المطر قد يكون فيها أو بأطرافها قريبا منها أو بعيدا، وقد يكون قليلا بمكان كثيرا بآخر، لهذا لا يعرف مقداره على الضبط، لأنه قد يكون فوقها قليلا وبأطرافها كثيرا وبالعكس، وبمقدار ما تتأثر منه الأرض، لذلك فإن ما يزعمونه من تقدير الأمطار هو بحسب التخمين
62
والحسبان بالنسبة للبقعة المغروزة فيه الآلة، وهذا إذا لم يطرأ على الجو ما يغير رطوبته، فإذا طرأ قد لا تمطر تدبر. «فَأَنْشَرْنا» أحيينا «بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالمطر «تُخْرَجُونَ» ١١ من قبوركم أحياء في الآخرة بعد موتكم في الدنيا «وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من ذوات الأرواح والنمو من بشر وحيوان وحوت وطير وحشرات ونبات هو ذلك الإله العظيم الذي خلق السموات والأرض «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» ١٢ عليه برا وبحرا وتحت الأرض والبحر وفي الخلاء «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ» ما ظهر منه لجهة العلو وبطن الفلك بالنسبة للركوب فيه يسمى ظهرا لأن ظهرها طائف على الماء «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ» على لطفه بكم وعطفه عليكم «إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» أي الفلك أو ظهور الأنعام والدواب وغيرها من كل ما يركب، فيدخل فيه الطائرات والغواصات والسيارات على اختلاف أنواعها، وهذا الشكر واجب، لأنه بمقابل نعمة الركوب والتسخير، لأنها أقوى منكم سواء أكانت بنفسها أو بما يسيرها من ماء وهواء أو بخار أو قوة أخرى، ومن نعمته تذليلها فلولا تذليل الحيوان للإنسان ما استفاد منه شيئا لا ركبا ولا أكلا، راجع قوله تعالى (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) الآية ٧٢ من سورة يس في ج ٢، والآية ٣٢ من سورة الشورى المارة لتعلم هذه النعمة العظيمة، وأنها تستحق الذكر والشكر، ولها صلة في الآية الأخيرة من سورة لقمان المارة أيضا، «وَتَقُولُوا» عند استواءكم على ما تركبونه شكرا لمسخره لكم «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» الفلك والأنعام والمراكب «وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» ١٣ مطيقين وضابطين بسبب قوتها وصعوبتها والصعب القوي لا يكون قرينا للضعيف، ولولا نعمة الله علينا بتذليلها لما كان لنا أن نقرن هذه الدواب والفلك والمراكب والسيارات والطيارات وغيرها، لأنها أقوى منا، قال عمر بن معد يكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقال ابن هرم:
63
بما يدل على أن قرن بمعنى طاق، ويقول الراكب أيضا «وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» ١٤ في المعاد وآخر ما تركب عليه هو النعش، اللهم أحسن سيرنا إليك وأكرم وفادتنا عليك، روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي إلخ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون سفرنا هذا وأطوعنا بغده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من عناء السفر (تعبه وشدته) وكآية المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد. وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون. قال تعالى «وَجَعَلُوا لَهُ» كفار قريش لذلك الإله العظيم مع إنعامه عليهم «مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً» نسبوه إليه وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الوالد «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه «لَكَفُورٌ مُبِينٌ» ١٥ مظهر جحوده لنعم الله بلا حياء ولا خجل. قال تعالى على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ اتَّخَذَ» لنفسه «مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ» وأنتم أيها الكفرة تأنفون منهن «وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ» ١٦ منهم أي كيف يؤثركم على نفسه لأن من يقدر على الاتخاذ يتخذ لنفسه الأحسن فكيف يجدر بهم أن يقولوا هذا «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» من جنس البنات وآثر ذكر الرحمن إعلاما بأنه لولا سبق رحمته وسعتها لأهلكهم بهذا القول الذي لا يجوز نسبته له تعالى «ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» صار مكفهرا من سوء ما بشر به «وَهُوَ كَظِيمٌ» ١٧ مملوء كربا وشدة حزن وغيظ وغم بحيث لا يكاد يتحمل أكثر مما هو فيه، قيل إن بعض العرب هجر زوجته لأنها جاءت ببنت فخاطبته بقولها:
وأقرنت ما حملتني ولقلّما يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا حكمة رب ذي اقتدار فينا
فلم يرد عليها لشدة غضبه. قال تعالى توبيخا لهؤلاء الكفرة «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا» بالتشديد مبينا للمفعول وقرىء بالتخفيف وقرىء يناشأ بالمفعول أيضا بمعنى الإنشاء
64
كالمغالات بمعنى الاغلاء أي يتربّى «فِي الْحِلْيَةِ» الزينة يريد البنات لأنهن يزخرفن بالحليّ ليرغب فيهن أو باعتبار أنهن ناقصات، ولهذا احتجن للتزيين «وَهُوَ» جنس البنات «فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» ١٨ لضعف حالهن وقلة عقولهن، أي ألا ينسبوا لله الولد الذكر القادر علي الخصومة والإتيان بالبرهان والحجة إذا كانوا لا بدّ ناسبين له تعالى ولدا، تعالى عن ذلك، أفضلوا أنفسهم عليه فجعلوا له البنت ولهم الولد، قاتلهم الله. وما قيل إن هذه الآية بالأصنام لأنهم كانوا يزينونها بالذهب والفضة، يبعده قوله (فِي الْخِصامِ) لأن الأصنام جامدة لا تخاصم ولا توصف بشيء من الأنانية، والكلام وارد على تقبيح قولهم، وانهم من عادتهم المناقضة في أقوالهم ورميهم القول بغير علم رجما بالغيب. وتشير هذه الآية على النشء في الزينة والنعومة بالعيش من المعايب والمذام، لأنه من صفات ربات الحجال فعلى الشهم أن يتباعد عن ذلك ويأنف عنه ويربأ بنفسه عن التشبه بهن ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا، فإن الحاضرة لا تدوم، أي تزيّوا بزيّ خشن الطعام واللباس، لأن كلمة تمعددوا تأتي لثلاث معان: التزيّيّ بزيّ الغير، والبرء من المرض يقال تمعدد إذا برىء، والضعيف إذا أخذ بالسمن يقال له تمعدد أيضا كما في القاموس، والأول هو المنطبق على المعنى المراد والله أعلم. هذا، وإذا أراد أن يزين نفسه فليحلها بلباس التقوى قال تعالى (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) الآية ٢٦ من الأعراف في ج ١، وقال عليه السلام: ليس للمؤمن ان يذلّ نفسه، وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله والتزين بزينة التقوى، وإن كان لا بد فاعلا ومقلدا غيره فليتزين بما أحلّ الله له من اللباس لا غير على أن لا يتشبه بما هو من خصائص النساء، لأن ذلك من التخنّث الذي تأباه مروءة المؤمن، وقد جمع الكفرة في مقالتهم هذه ثلاث كفرات:
نسبوا إلى الله الولد وهو كفر، ونسبوا إليه أخس النوعين وهو كفر مزدوج لما فيه من الإهانة بنسبة شيء لجلاله لا يرضونه لأنفسهم، وجعلوا هذه البنات المشئومات من الملائكة وهو كفر لاستخفافهم بالملائكة وتسميتهم إناثا وهم ليسوا بإناث بل هم جنس خاص لا يوصف بأنوثة ولا بذكورة، لذلك شنع الله عليهم بقوله عز قوله
65
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ» حتى يجزموا بذلك وهذا تهكم بهم لأنهم لم يشهدوا خلقهم وإنما قالوه جرأة على الله قاتلهم الله «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ» هذه على إفكهم هذا «وَيُسْئَلُونَ» ١٩ عنه يوم القيامة. نزلت هذه الآية حينما قال لهم حضرة الرسول وما يدريكم أن الملائكة إناث؟ قالوا سمعناه من آبائنا ونشهد أنهم لم يكذبوا، فوبخهم الله على ذلك وعلى قولهم «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» أي الملائكة والأصنام، والسياق يؤيد الأول إذ لم يسبق للأصنام ذكر، وقد استدلوا بنفي مشيئة الله ترك عبادتها على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وقالوا إن الله لم يشأ ترك عبادتها، ولو شاء لتحققت مشيئته ولعجل عقوبتنا على عبادتها، بل إنه شاء عبادتها لأنها متحققة، فتكون مأمورا بها أو حسنة، ويمتنع أن تكون منهيا عنها أو قبيحة.
وهذا استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا، وقد استدلت المعتزلة فيها أيضا على أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان لأن الكفار ادعوا أن الله تعالى شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأوثان لقولهم (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء منا ترك عبادتها لمنعنا من عبادتها ولكن شاء عبادتها فلم يمنعنا، فوبخهم الله تعالى ورد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» البتة بدلالة التنكير والتأكيد بحرف الجر «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» ٢٠ يحزرون ظنا وتخمينا وهو كذب محض لأن الله تعالى لم يشأ عبادتها ولم يرض بها ولم يستحسنها، وعدم تعجيل العقوبة هو عدم حلول الأجل المعين لها وسبق الكلمة منه تعالى بذلك، راجع ما تقدم في الآية ١٦٣ من الصافات المارة، لأن الله تعالى قدر لكل ما يقع في كونه وقتا لا يتعداه ولا يسبقه.
قال تعالى «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن ذكرنا لهم فيه ما يزعمونه «فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» ٢١ كلا لم نأتهم بكتاب ولم نرسل لهم رسولا بعد إسماعيل غير محمد وحيث لم يكن لهم حجة يتمسكون بها من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع، وإنما حجتهم التقليد المحض المشار إليه بقوله عزّ وجل
66
«بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» طريقة مأخوذة من الأم وهو القصد وتطلق على الدين لأنه يؤم أي يقصد ويقتدى به يقال فلان لا أمّة له أي لا دين له ولا نحلة، قال قيس بن الحطيم:
كنا على أمة آبائنا... ويقتدي بالأول الآخر
وقال غيره: وهل يستوي ذو أمة وكفور. وقيل الأمة بمعنى الجماعة وهو كذلك، إلا أنه لا يتجه هنا «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» ٢٢ باتباعهم التقليدي فقط، أخبر الله حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم بأن قومه مسبوقون بمقالتهم هذه وأنهم ما يقولونها إلا تقليدا لآبائهم كما أن اتّباعهم تقليدي عار عن البرهان على صحة بقوله جل قوله «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» رؤساؤها وأغنياؤها «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» ٢٣ وقومك كذلك معترفون بهذا التقليد وهو داء قديم فيهم لا يعدل عنه إلا من وفقه الله، وفيه تسلية لحضرة الرسول، لأن ما يسمعه من قومه سجية فيهم تناقلوها دون سند أو حجة أو دليل، فيا أكرم الرسل «قل» لهؤلاء المتنطعين «أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى» بدين أصوب وأعدل وأقوم «مِمَّا» من الدين الذي «وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ» وأحسن منه وأيسر ألا تقبلونه وتتركون دين آبائكم، فأجابوه بما حكى الله عنهم رأسا دون ترو بالأمر «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» ٢٤ لسوء حظهم وسبق شقائهم، قالوا هذه المقالة القبيحة ولم يوفقوا أن يقولوا يتبعك إذ جئننا بدين خير من ديننا ودين آبائنا، وهذا كقول قوم صالح (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الآية ٧٦ من الأعراف، قاتلهم الله تشابهت قلوبهم، ويشير عدم توفيقهم لقول الحق الذي به نفعهم ما جاء في الآية ٣٢ من سورة الأنفال ج ٢، قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» إذ آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم ورضاهم «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ٢٥ من الإهلاك والتدمير «وَ» اذكر لقومك يا محمد «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» ٢٦ من الأوثان وإني لا أعبد «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» ١٧ إلى دينه
67
القويم الحق وطريقه المستقيم الصدق «وَجَعَلَها كَلِمَةً» أي جعل براءته تلك من الأوثان «باقِيَةً» تردد «فِي عَقِبِهِ» ذريته وبعض من بعده وهي كلمة لا إله إلا الله، لأن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جاريا مجرى لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى إلا الله، فلا يزالون يلهجون بها ويوحدون الله بالعبادة «لَعَلَّهُمْ» إذا تلقوها عنه عقبا بعد عقب، وقد أشرك بعضهم فلم يقلها «يَرْجِعُونَ» ٢٨ عن الشرك إلى التوحيد اقتداء بجدهم الكريم، وان من أشرك منهم يرجع إلى الله بدعاء من وجد منهم، لأن ذريته عليه السلام لم تخل قط ممن يوحد الله ويدعو إليه منذ نشأ إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة إن شاء الله القائل «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ» قومك يا محمد «وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم المترادفة ولم أعاقبهم «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ» من عندنا وهو القرآن «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» ٢٩ موضح لهم الحق من الباطل من الأحكام والحدود والأخبار «وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ» بدل أن يصدقوه «قالُوا هذا سِحْرٌ» قد افتريته من عندك يا محمد «وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» ٣٠ فزادوا بالطين بلة والنار شرارة إذ ضموا العناد إلى الكفر والاستخفاف إلى البهت، فسموا القرآن سحرا وكفروا به، وسموا الرسول ساحرا وكذبوه
«وَقالُوا» فوق ذلك كله مفترحين علينا رأيهم الفاسد «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ٣١ صفة لرجل، وفيه دليل على جواز الفصل بين الصفة والموصوف يريدون أعماهم الله الوليد بن المغيرة من قريش مكة وعروة ابن مسعود من الطائف من ثقيف، فرد الله تعالى عليهم مؤنبا لهم جرأتهم هذه «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» كلا لا حقّ لهم بذلك ولم تكن النبوة خاصة بالأشراف والأغنياء الذين يزعمون، وإنما هي فضل الله يختص به من يشاء من عباده الذين هم أهل لها، قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية ١٢٥ من الأنعام المارة، فهو أعلم بمن يصطفيه لها، ثم ضرب مثلا بقوله عز قوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا شريفا وهذا حقيرا «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» متفاوتة في الأموال والأولاد والنسب والعشرة والجاه والمنصب «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً
68
سُخْرِيًّا»
في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا. وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه، بل ليستقيم نظام العالم، ولولا ذلك لما سخر أحد لأحد، ولأفضى الحال إلى خراب الكون، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر، وفي التساوي تنعدم الفائدة، إذ لا ينقاد أحد لغيره، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ٣٢ لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة الله باقية، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى، قال ابن الوردي:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقا وبالحق نزل
ويرحم الله الشافعي إذ يقول:
فأعددت للمرت الإله وعفوه وأعددت للفقر التجلد والصبرا
فمن تمسك بهاتين العدّتين أمن من هول الدارين وفاز بالنجاة.
مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:
قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة «لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ» مصاعد من فضة أيضا «عَلَيْها يَظْهَرُونَ» ٣٣ إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» من فضة أيضا «وَسُرُراً» من فضة «عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ» ٣٤ خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون «وَزُخْرُفاً» وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» ٣٥ الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء الله فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال:
69
العرار وردة طيبة الرائحة ناعمة وكان القائل مر بها قبل العشية وهو سائر، فإذا لم يشمها في ذلك الوقت فاته ريحها، فكذلك الإنسان إذا لم يمتع نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح وهو قادر عليه فاته ذلك بالسقم والهرم والموت على حين غرة فيندم ولات حين مندم، لذلك يجب على العاقل أن لا يضيع الفرص بالتسويف والتأني.
وليعلم أن الدنيا بما فيها كله زهيد عند الله تعالى ولذلك يقول في صدر هذه الآية (لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ) إلخ أي لأعطيت الكفار أكثر أسباب الحياة المفيدة للرزق ليتنعموا بها في هذه الدنيا الحقيرة، ولكن لم نفعل ذلك لئلا تزداد الرغبة في الكفر، وتشير هذه الآية إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى والتمسك بالدين القويم. أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء. وعن علي كرم الله وجهه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم. هذا، وأخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي إذا كان بناء سفلي لرجل وعليه بناء علوي لآخر فيكون السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت. وقرىء سقفا بضمتين وبضم وسكون وفتح وسكون. وأخرج الترمذي بحديث حسن عن المسور بن شداد جدّ بنى فهر قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله، قال فإن الدنيا أهون على الله تعالى من هذه الشاة على أهلها.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر. راجع الآية ١٠٤ من سورة يوسف المارة تعلم هذا. وان الله تعالى لم يعط الكفرة جميع الأسباب المفضية للنعم كراهية أن يرغبوا فيها فتؤدي بهم إلى الكفر حين يرون أهله منعمين، فيتوهمون أن ذلك لفضيلة فيهم. قال تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ» فلم يذكره عند شدّته ورخائة ويعش بضم الشين بمعنى يتعامى ويتجاهل، وقرىء بفتح الشين أي يعمى، والفرق بينهما أن الأول من عشا يعشو إذا نظر ولا آفة في بصره، والثاني عشي يعشى إذا كان في بصره آفة
70
فلا يكاد يبصر جيدا، إذ يصير على عينيه كالضباب، ونظيره عرج بضم الراء لمن به عرج حقيقة، وعرج بفتحها لمن مشى مشية الأعرج من غير آفة في رجله، وفعل يعش هذا من الأول أي يتعامى «نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً» يحمله على الغفلة عن ذكره ويسوقه إلى الهفوات في أقواله وأفعاله «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» ٣٦ لا يفارقه أبدا فيزين له العمى ويخيل له أنه على الهدى حتى يستولي عليه، فيجب على الإنسان المسارعة لفعل الخير والتملّي في ذكر الله بعين بصره وبصيرته، ولا يترك للشيطان مجالا في قلبه ليستولي، ولهذا فإن من يداوم على ذكر الرحمن يتباعد عنه الشيطان فلا يقربه مادام ذاكرا له. قال تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ» يصدون العاشين «عَنِ السَّبِيلِ» السوي والهدى والرشد «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» ٣٧ بسبب وساوسه ودسائسه يريهم الشر خيرا والإيمان كفرا، وقد جمع الضمير في أنهم لأن من مبهمة في جنس العاشي، ولفظ شيطان مبهم في جنسه أيضا، فأرجع الضمير في أنهم الذي يعود على الشيطان مجموعا لذلك، ولأن من باعتبار معناها تدل على الجمع «حَتَّى إِذا جاءَنا» وقرأ بعضهم جاءنا أي العاشي وقرينه «قالَ» العاشي لقرينه اذهب عني «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» غلب المشرق على المغرب كما غلب القمر على الشمس في القمرين، أو أنه أراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء، لما بينهما من البعد، والأول أبلغ لأنه المتعارف ولأنه أكبر بعدا، أي انك أهلكتني بمقارننك في الدنيا، ليتني لم أتعرف عليك «فَبِئْسَ الْقَرِينُ» ٣٨ أنت، قال تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ» العتاب والمجادلة والحذر من قرب بعضكم لبعض «إِذْ ظَلَمْتُمْ» أنفسكم بالأمس أي الدنيا ولم تذكروا يومكم هذا الذي منه حذركم أنبياؤكم «أَنَّكُمْ» اليوم «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» ٣٩ كما كنتم في الدنيا مشتركين بالكفر، قالوا إن عموم البلوى بطيب القلب، وعلى هذا قول الخنساء في بعض رثائها لأخيها صخر:
تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار
ولولا كثرة الباكين عندي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزّي النفس عني بالتأسي
فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم في العذاب ولكن لا يروّحهم لعظم ما هم فيه،
71
قال تعالى «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ» في علم ربك الأزلي «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٤٠ كلا لا تقدر أن تهديه ولا تفدر على هداية من أضللناه
«فَإِمَّا» مركبة من إن الشرطية وما التأكيدية للشرط مثل لا التي في الاقسام «نَذْهَبَنَّ بِكَ» لنمينك وننقلك إلى الدار المهيأة لكرامتك قبل أن نوقع فيهم ما قدر لهم من العذاب «فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» ٤١ لك منهم بعدك في الدنيا وفي الآخرة لا محالة، لأنا لا نتركهم سدّى وهم قد فعلوا ما فعلوا، واقتصر بعض المفسرين هنا على عذاب الآخرة وبعضهم على عذاب الدنيا لقوله تعالى (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إلخ الآية ٤٣ من سورة يونس المارة والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما جرينا عليه أتمّ فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكر الانتقام فلا تدل على تخصيص العذاب في الدنيا، لأن من يهدده الله بعذابه في الآخرة لا يؤمنه من عذاب الدنيا، كما أن من يعذبه في الدنيا لا يحتم عذابه في الآخرة «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ» به من العذاب الدنيوي قتلا وأصرا وجلاء في حياتك «فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» ٤٢ في كل وقت، وهذا من قبيل التسلية لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاما له بإنجاز وعده إياه بالانتقام الشديد من المشركين في حياته أو بعد وفاته، وقد كررت هذه الآية معنى في الآية ٤٦ من يونس والآية ٧٧ من المؤمن المارتين وفي الآية ٤٠ من سورة الرعد في ج ٣ وغيرها لأنها بمثابة العهد لحضرة الرسول من ربه عز وجل بنصرته والانتقام له من أعدائه، قال تعالي يا محمد «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ» من هذا القرآن وأدم العمل به كما أنت عليه «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٤٣ في طريقتك لا ميل فيها ولا عوج «وَإِنَّهُ» القرآن الموحى إليك «لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» في حياتك وبعد موتك وشرف عظيم تذكرون فيه بالملأ الأعلى وفي الأرض «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» ٤٤ عنه يوم القيامة هل قمتم بحقه فشكرتموه حق شكره وعظمتم منزله حق تعظيمه أم لا راجع الآية ٣٠ من سورة الفرقان في ج ١، ويؤذن إفراد الضمير بالخطاب كله وجمعه آخر الآية أن المراد بمن يسأل هو قومه، لأنهم هم الذين يترقب منهم التقصير حاشا البشير النذير أن يقصر في شكر ربه وتعظيمه،
72
كان صلّى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية إذا سئل لمن يكون الأمر في أمتك من بعدك؟
يسكت، لأن الله لم يخبره بذلك وهو لن ينطق من نفسه فيما هو من هذا القبيل، فلما نزلت هذه الآية صار يقول لمن يسأله: هو لقريش. وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان. وروى البخاري عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه (الحديث). راجع بحث النزول في المقدمة، وفيه: فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة، إلى أن قال عدي ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سرّه حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم. وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية التي تشير إلى أن الإنسان بالطبع يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن هذا مرغوبا فيه لما امتنّ به على رسوله بقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ولما طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الآية ٨٤ من سورة الشعراء ج ١، وهو لا يسأل الله شيئا لنفسه من نجاته من النار، راجع الآية ٨٣ من الصافات المارة، والآية ٢٥٨ من البقرة في ج ٣ وما يرشدانك إليه تقف على ما جرى لإبراهيم مع قومه وربه وأبيه والنمرود وغيرهم، وذلك لأن الثناء خير من الغنى، وقائم مقام الحياة الشريفة، ولذا قيل ذكر الفتى هو عمره الثاني، وقال ابن زيد:
إنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر:
73
فقد يكون الذكر أفضل من الحياة لأنه يحصل في كل مكان بخلافها، حكي أن الطاغية هلاكو بعد أن بلغ ما بلغ من الظفر سأل أصحابه من الملك؟ فقالوا أنت دوخت البلاد، وأطاعتك الملوك، وملكت الأرض، وصار العباد في طوعك، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن، فقال كلا، الملك هذا الذي له أكثر من ستمئة سنة قد مات، وهو يذكر الآن على المآذن كل يوم وليلة خمس مرات ذكرا مكررا من ملايين الناس، يريد محمدا صلّى الله عليه وسلم. ولو لم يقل هذا الجبار هذه الجملة الدالة على حضرة الرسول لصرف قوله إلى الملك الأعظم حضرة المولى جلّ جلاله لأن ذكره على المآذن أكثر من ذكره رسوله صلّى الله عليه وسلم ولاثيب بكلامه هذا ثوابا عظيما يوشك أن يقربه إلى الله، ولكن أبت نفسه بل أبى الله أن يلهمه ذلك، وهو إنما قالها بحق الرسول حسدا ليس إلا. وهذه الآية نزلت في بيت المقدس قبل الهجرة زمن الإسراء، فتصير مكية أيضا، وهي «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» ٤٥ قال ابن عباس لما أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلم بعث له آدم وولده من المرسلين، فأذن جبريل وأقام الصلاة، وقال يا محمد تقدم فصلّ بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل اسأل يا محمد وتلا الآية، ان قريشا زعمت أن لله شريكا وأن الملائكة بناته، وزعمت اليهود والنصارى أن له ولدا، فاسأل هؤلاء الأنبياء جميعهم هل كان شيء من ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال عليه السلام ما أنا بالذي أشك، وما أنا بالذي أسأل، فكان صلّى الله عليه وسلم أثبت يقينا من ذلك.
هذا، وقال أبو القاسم المفسر في كتابه التنزيل: نزلت هذه الآية في بيت المقدس ليلة المعراج، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرّوا لله تعالى بالوحدانية وقالوا بعثنا في التوحيد، وبهذا قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، وهذا القول أقوى وأوثق من القول بأنها نزلت في السماء ليلة المعراج، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ بالأنبياء في السماء، وإنما صلى بالملائكة كما بيناه في قصة الإسراء والمعراج أول سورة الإسراء في ج ١، على أن ما وقع في المعراج لا يعد حجة لوجود الخلاف فيه بخلاف الإسراء المجمع عليه وعلى كفر من ينكره، وكانت الصلاة بالأنبياء
74
ليلة الإسراء في بيت المقدس. وهذا الأذان والصلاة الكائنة بالأنبياء في الأرض والتي بالسماء بالملائكة هي غير الأذان والصلاة المفروضة، لأنها لم تفرض بعد إذ كان ذلك عند العروج، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا هناك، وهذا التفسير أولى من تقدير كلمة (أمم) قبل لفظ (مَنْ) أي اسأل أمم من أرسلنا من قبلك من أقوامهم الموجودين في زمنك من أهل الكتابين وغيرهم، إذ لا مانع من إجرائها على ظاهرها، ولا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف أو تأويل آخر، وعلى كل إنه لم يأت نبي ولا رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى القائل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ» إلى فرعون «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» ٤٦ إليكم وإلى بني إسرائيل، وفيها تعريض لما يدعيه فرعون من الربوبية الكاذبة «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا» المار ذكرها في الآية ١٣٢ من الأعراف في ج ١ «إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» ٤٧ سخرية بها واستهزاء، وقد علمت ما فعل الله بهم، قال تعالى «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» التي أريناها لهم قبلها، أي أن كل آية منها موصوفة بالكبر والعظم على حد قولك إخواني كل منهم أكرم من الآخر أي كلهم كرماء، وعليه قول الحماسي:
إنما الدنيا محاسنها طيب ما يبقى من الخبر
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
أي كلهم أكابر عظماء «وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ» الأدنى أولا كالقحط والنقص والطوفان والدم والقمل والجراد «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ٤٨ عن كفرهم لترحمهم فلم يرجعوا، ولم تؤثر بهم الآيات ونقضوا عهودهم التي أعطوها لموسى بالإيمان به عند كشف كل آية «وَقالُوا» فرعون وملؤه «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» الماهر في السحر، إذ كان السحرة عندهم مقدمين لما يرون من أعاجيبهم، كما أن الطبيب كان مقدما زمن عيسى عليه السلام، وذا الفصاحة في عهد محمد صلّى الله عليه وسلم وكان التفاخر بها ساريا بينهم فالطبيب والبليغ له القدم الأعلى عند قومه «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» بأننا إذا آمنا يكشف عنا العذاب فاسأله يكشفه «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» ٤٩ وقد دعى فكشف عنهم وعادوا مصرين على كفرهم ومتهمين رسولهم بالسحر، قال تعالى «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ» الأخير كما هو الحال في كل مرة
75
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» ٥٠ بعهدهم أيضا، ويقولون ما أصابنا إلا الخير لما يروا بعد كشف كل آية من آيات عذابهم خيرا وبسطة
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ» بقصد إغرائهم «قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» وكان قصره يمر من تحته نهر النيل يتدفق يمينا وشمالا، قالوا له نعم، ثم قال لهم «أَفَلا تُبْصِرُونَ» ٥١ عظمتي وفقر موسى وضعفه، قالوا نعم نبصر وقد جمعهم وخطب فيهم هذه الغاية، قال لهم «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» يشير إلى موسى عليه السلام وقد كذب بل شر من كل ذي شر، ثم وصم موسى عليه السلام وحاشاه مما وصمه به، فقال ما موسى بخير مني بل أنا خير من هذا «الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» ٥٢ يفصح عن كلامه عايه الخبيث باللثغة التي سببها هو كما بيناه في الآية ٢٧ من سورة طه في ج ١، وأجاب نفسه بالتفضيل عليه ولم ينتظر جواب قومه الذين جمعهم وألقى عليهم هذه الجملة، إذ انتقل بنفسه من ذلك إلى الإخبار بالأخيرية، وعليه قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت بالعين أملح
ثم بين نوعا آخر من أسباب افتخاره فقال «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» مثلي ليعلم الناس أنه ألقي إليه مقاليد الملك فيطيعونه وينقادون لأمره، وكان في ذلك الزمن إذا سور الرجل بسوارين من ذهب وطوق بطوق من ذهب يكون دلالة على سيادته في قومه، ويريد الملعون بقوله هذا أن لو كان لما يدعيه موسى من صحة بأنه رسول الله رب العالمين أجمع لألبسه الذي أرسله أسورة ذهبية إعلاما برسالته وإيذانا بلزوم طاعته لينقاد له الناس «أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» ٥٣ بعضهم ببعض متتابعين يشهدون له بصدق ما جاء به ويعينونه على من خالفه على الأقل إذا لم يحلّ بما يدل على السيادة والحاكمية، قالوا له لم يسور ولم تأت معه الملائكة قال لهم حينئذ لا صحة لدعواه قالوا نعم، وقد ظن اللعين أن الرياسة والقوة من لوازم الرسالة في المرسل ولم يعلم أن الله الذي أرسله كافيه عن ذلك، ويقرب من قوله قول كفار قريش (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ) الآية ٣١ المارة.
76
مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد الله بن الزبعرى:
هذه الآية المدنية من هذه السورة وذلك أنه حينما تليت عليهم الآيات المارّة التي ذكرها الله تعالى عن فرعون قالوا وكيف أطاعه قومه وهم عقلاء، وكان بهم قوام الملك، وكيف سمعوا قوله، قال تعالى «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ» بما موّه عليهم من كلامه، ولمّا رآهم يسمعون له علم أنهم سخفاء، لأنه يعلم أنه لا يصغي لقوله ذلك عاقل، وأنه استفزهم بكلامه، فأذعنوا له وطأطئوا رءوسهم لسلطانه، وقد استزلهم بما ألقى عليهم من عظمة لجهلهم بحقيقة الأفضلية التي ذكرها لهم وعدم علمهم بأن الرسالة لا تستلزم الرياسة والمال والقوة، وكانت هذه الثلاثة من دواعي التسلط على البشر فموّه عليهم بها وهو يعرف من أين تؤكل الكتف، فصدقوا أقواله الواهية «فَأَطاعُوهُ» ووافقوه على تكذيب موسى بما استخف من عقولهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ٥٤ خارجين عن الطاعة منقادين لإغواء فرعون مغرورين في النظر إلى الأمور الظاهرة، قال تعالى «فَلَمَّا آسَفُونا» أسخطونا وأغضبونا بإفراطهم لطاعة فرعون وتفريطهم بالإعراض عن موسى وصاروا بحالة يؤسف عليها فقد استوجبوا إنزال العذاب عليهم وعدم الحلم الذي عاملناهم به لذلك «انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» ٥٥ مع فرعون وملائه الذين أركسوهم بذلك «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً» إلى النار وقدوة إلى الكفار «وَمَثَلًا» عبرة وموعظة «لِلْآخِرِينَ» ٥٦ من بعدهم بأن صار حديثهم تتداوله الألسن وصار يضرب المثل لسيدهم، فيقال لكل باغ لم يقبل النصح مثلك مثل فرعون، وتقدمت كيفية إغراقهم في الآية ٥٣ من سورة الشعراء ج ١، قال تعالى «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا» بالعبادة من حيث أن النصارى عبدته كما عبدت العرب الملائكة «إِذا قَوْمُكَ» يا سيد الرسل «مِنْهُ» من هذا المثل «يَصِدُّونَ» ٥٧ بكسر الصاد أي يضجّون وقرىء بضمها بمعنى يعرضون عنك ولا يلتفتون لقولك، والقراءة الأولى أولى وأنسب بالمقام، أي يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا أو ضحكا مع إعراض وتمايل «وَقالُوا» قومه من قريش «أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» يعني عيسى عليه السلام يخاطبون
77
محمدا صلّى الله عليه وسلم قال له ربه «ما ضَرَبُوهُ لَكَ» أي المثل بعيسى «إِلَّا جَدَلًا» خصومة بالباطل لا حقا ولا لطلب التميز بين الحق والباطل، بل لئلا يفهموا الحق فيذعنوا له «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» ٥٨ ألدّاء شديد والخصومة واللجاج على طريق المغالبة والمكابرة والوقاحة، أخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية. وقد نزلت هاتان الآيتان في عبد الله بن الزبعرى القرشي قبل إسلامه، إذ كان يقول لحضرة الرسول إذا كان الآلهة المعبودة كلها في النار وأن اليهود عبدت عزيرا والنصارى عيسى بن مريم وبنو مليح من العرب عبدت الملائكة ونحن عبدنا الأوثان فترضى أن تكون آلهتنا مع هؤلاء، ونحن مع أولئك، إذ ليس ما عبدناه بأحسن مما عبدوه، ولسنا بأحسن منهم أيضا، ففرحت قريش، ارتفعت أصواتهم بالضحك على زعمهم أنه حج محمدا صلّى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، كيف وهم عبيد لمولاهم وهم أطوع الناس إليه، ولم يرضوا بعبادتهم وأنهم سيتبرءون منهم بحضورهم في الموقف العظيم يوم يخيب ظنهم وظن أمثالهم بكل معبود من دون الله تعالى، فرد الله عليهم بما تقدم من أنهم ضربوا لك هذا المثل على طريق الجدال عنادا وعتوا، وسيأتي تمام هذا البحث في الآية ٩٩ من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله فراجعه. قال تعالى «إِنْ هُوَ» ما عيسى ابن مريم الذي ضربتم به الأمثال وقلتم ما قلتم فيه بأنه إله وهو براء من ذلك، إذ ليس بإله وما هو «إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ» بالنبوة والرسالة كسائر عبادنا الذين اصطفيناهم لإرشاد العباد «وَجَعَلْناهُ مَثَلًا» عبرة عجيبة وآية كبيرة «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» ٥٩ إذ خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم من للتراب، راجع الآية ٩٠ من آل عمران في ج ٣، وصار يضرب فيه المثل ليتأكدوا من قدرة الله تعالى ويعلموا أن العبد المخلوق لا يكون إلها، قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا» ولدنا منكم يا أهل مكة وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة كما ولدنا حواء من آدم على خلاف ما جرت به العادة «مَلائِكَةً» كما ولدنا عيسى، وهذا تذييل لوجه دلالته على القدرة البالغة وهو أعجب وأبدع من خلق عيسى من غير أب،
78
أقررناهم «فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» ٦٠ يخلفونكم فيها في
السكن والتصرف كما كنتم خلفا لمن قبلكم وكما يخلفكم أولادكم، وإذا صيرناهم كذلك فإنهم لا يستحقون العبادة أيضا لأنهم مخلوقون مثلكم، إلا أن خلقهم على طريق الإبداع وشأنهم التقديس والتحميد والتسبيح، وأنتم خلقكم بطريق التوالد وشأنكم العمل، ومع هذا فنحن قادرون على أن نخلقهم منكم ونجعلهم يعملون كما تعملون من عمارة الأرض ويعبدونني ويطيعونني كالملائكة في السماء ونجعلهم متصرفين في الأرض، كما أن الملائكة يتصرفون في السماء
«وَإِنَّهُ» عيسى ابن مريم «لَعِلْمٌ» علامة «لِلسَّاعَةِ» أي نزوله من محل رفعه علامة على قرب القيامة، وهذه الآية صريحة بأن سيدنا عيسى سينزل من السماء إلى الأرض التي رفع منها، ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. وفي رواية أبي ذرّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ليس بيني وبين عيسى نبي وانه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصّرتين (المحصرة من الثياب التي فيها صفرة خفية) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل (أي أن له لمعانا وبريقا خلقة) فيقاتل الناس على الإسلام، يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم وفي رواية فامامكم منكم قال ابن ذؤيب فأمّكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلم. ويروى أنه ينزل على تينة من الأرض المقدسة يقال لها أفيق (وهذه واقعة على بحيرة طبرية وهي مركز قضاء الزوية الآن من أعمال حوران ويحتمل أن رفعه كان منها) وبيده حربة وهي التي يقتل فيها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام فيقوم عيسى ويصلي خلفه علي شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس (المراد بتخريبها إزالة ما فيها من الصور والتماثيل وقلبها إلى مساجد عادية أو أنه يهدمها جزاء لما
79
وقع فيها من المحرمات) ويقتل النصارى إلا من آمن أي آمن به ومشى على شريعته التي يقوم فيها في الأرض وهي شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم) وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ينزلنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وقرأ ابن عباس (لعلم) بفتح العين واللام أي علامة على الساعة، وهذه القراءة كالتفسير لعلم بكسر الغين وسكون اللام بأنه بمعنى العلامة وهي قراءة جائزة ولو كانت على خلاف ما عليه المصاحف إذ لا زيادة فيها ولا نقص، أما ما جاء بأن أبيا قرأ (وإنه لذكر للساعة) فلا يجوز لأنها تخالف رسم القرآن وحروفه أيضا، وكل قراءة هذا شأنها لا عبرة بها ولا قيمة لنقلها كما أشرنا إلى ذلك غير مرة، وإن القراءات السبع كلها لا تخالف القرآن رسما ولا حروفا، وما جاء فيها من مد المقصور وقصر الممدود وإشباع بعض الحروف بالحركات واختلاس بعض الحركات ونقلها لما بعدها وحذفها مثل بامركم وفي الأرض وبامركمو وما أشبه ذلك فلا بأس به، إذ لا تبديل لأصل الكلمة ولا زيادة ولا نقص، تدبر. هذا وإن السيد عيسى عليه السلام كما أنه ثبت رفعه إلى السماء بالآية القرآنية ١٥٨ من سورة النساء في ج ٣ وبالأحاديث الصحيحة، كذلك نزوله ثبت في هذه الآية وبالأحاديث الصحيحة المار ذكرها، وأنه عليه السلام يعمل بالشريعة المحمدية ويأخذ أحكامه من الكتاب والسنة، وقال بعضهم إنه يأخذ الأحكام من نبينا عليه الصلاة والسلام شفاها بدليل حديث أبي يعلى الذي فيه: والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم، ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنّه. وقد تجتمع روحانيته بروحانيته ويأخذ عنه، وقد وقع لكثير من الكاملين رؤيته صلّى الله عليه وسلم مناما والأخذ منه، كما وقع لبعضهم رؤيته يقظة والأخذ عنه كالشيخ عبد القادر الجبلي والشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي والشيخ أبي العباس المرسي وغيرهم، وواقعة الرفاعي رحمه الله مشهورة متواترة حينما زار قبره الشريف وقال بحضور جماعة لا يحتمل تواطؤهم على الكذب:
80
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدها صلّى الله عليه وسلم وقبلها بحضور جم غفير وتناقلتها الركبان وشاع خبرها في مشارق الأرض ومغاربها، وألفت فيها الرسائل والمدائح، وقد رد الجلال السيوطي على منكري ذلك مستدلا بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي. وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة وقال الإمام محمد بن أبي جمرة: هذا يدل على أن من يراه في النوم فسيراه في اليقظة، وان رؤيته بصفته المعلومة إدراك الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للخيال.
هذا، وقد جاء في الخبر: ما من مسلم يسلم عليّ إلا ردّ الله تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام. وأخرج بن عدي عن أنس: بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا، فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال قد رأيتموه؟ قالوا نعم، قال ذلك عيسى بن مريم سلم علي. وفي رواية ابن عسكر عنه كنت أطوف مع النبي صلّى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا لم أره، قلنا يا رسول الله رأيناك صافحت شيئا ولا نراه، قال ذلك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه. فهذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على صحة الاجتماع بحضرة الرسول والأخذ عنه، ولا بدع فقد جاء بالقرآن العظيم خطاب الملائكة لمريم في الآية ٤٥ ولزكريا في الآية ٣٩ من آل عمران في ج ٣ ولإبراهيم ولوط في الآية ٦٩ فما بعدها من سورة هود المارة وغيرها، وثبتت رؤية الملائكة لكثير من أصحاب رسول الله بغير هورهم الحقيقية، وإن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) الآية ٣٠ من سورة السجدة المارة تقيد جواز نزول الملائكة على غير الأنبياء. أما صفة ذاته الشريفة التي يجتمع بها من يراه وكيفية حياته في البرزخ وردّ روحه إليه كما جاء في الحديث فلا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، والصحيح أن عيسى عليه السلام قد يوحى إليه كما في حديث
81
مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وجاء في رواية صحيحة: فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحوّل عبادي إلى الطور (أي لا قدرة ولا طاقة يقال ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان لأن المباشرة والدفاع إنما يكونان باليد واليدين فكأن يديه معدومتان لعجزه عن الدفع بهما) وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام وما جاء في الخبر: (ألا لا وحي بعدي) باطل لا أصل له، وكذلك ما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد وفاه النبي صلّى الله عليه وسلم باطل لا أصل له أيضا، ويرده خبر الطبراني: ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام.
فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله على الإيمان وهو على طهارته، ومن نفى الوحي أراد نفى وحي التشريع وهو كذلك، لأن ما ذكر من الوحي وحي لا تشريع فيه، لأن شريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم باقية إلى الأبد، وان عيسى عليه السلام يحكم فيها ويبقى في الأرض أربعين سنة وقيل سبع سنين تتمة الثلاث والثلاثين سنة التي مكثها قبل رفعه والله أعلم، راجع الآية ٥٥ من سورة المؤمن المارة لتقف على ما يتعلق في هذا البحث، وان المهدي يقدمه للصلاة فيقول له إنما أقيمت لك ويصلي خلفه بما يدل على دفع توهم نزوله ناسخا بل متبعا لشريعة محمد ومؤيدا كونه مفتديا بشريعته، وما عدا هذه الصلاة يكون هو الإمام دائما، لأنه صاحب الوقت ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد، وان الدنيا ستيتهج بأهلها مدة مكثه، ثم أنه عليه السلام يموت ويصلي عليه المؤمنون ويدفن بالحجرة الشريفة في الحرم النبوي. وما بعده من خير لأهل الأرض وإذ ذاك يكون بطنها خيرا من ظهرها، لأن موته عليه السلام علامة على قرب الساعة وهو حق واقع لا محالة «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» لا تشكوا بها أيها الناس إذ لا محل للشك في نزول عيسى ولا موته بعد إقامته المدة المقدرة له في الدنيا، قال تعالى «وَاتَّبِعُونِ» إيها الناس واهتدوا بهداي وتمسكوا برسلي وتعبدوا بشرعي «هذا» الذي أدعوكم إليه على لسان رسلي «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ٦١ يوصل إلى النجاة فإياكم أن تنحرفوا عنه «وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ» عن سلوك هذا الطريق السوي ولا تسمعوا
82
لوساوسه بعدم التصديق بما جاءكم في كنابي وعلى لسان رسولي وعدم الإيمان بي «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ٦٢ عداوته من زمن آدم فاحذروه وتباعدوا عنه لا يوقعنكم بأشراكه فتندموا.
مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا:
قال تعالى حاكيا عن سيدنا عيسى عليه السلام زمن إرساله الأول بمناسبة ذكر نزوله «وَلَمَّا جاءَ عِيسى» قومه «بِالْبَيِّناتِ» التي أظهرها الله على يديه من إبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى وإحياء الموتى وغيرها «قالَ» إلى قومه المرسل إليهم «قَدْ جِئْتُكُمْ» يا بني إسرائيل «بِالْحِكْمَةِ» العدل والحلم والعلم والإنجيل والنبوة «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ» في الكتاب المنزل علي من ربي عز وجل «بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» من التوراة في أمر الدين والدنيا، وقال في الآية ٥٠ من آل عمران في ج ٣ (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وكان عليه السلام غابة همه في الدعوة ما يتعلق بأمر الدين لأنه عن الدنيا بمعزل لذلك لم يبالغ في أمر الدنيا ولم يلتفت إليها ولم يلفت نظرهم إليها «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ٦٣ فيما آمركم وأنهاكم وإني أقول لكم «إِنَّ اللَّهَ» فاطر السموات والأرض «هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» لأني بشر مثلكم قد فضلني بالنبوة والرسالة «فَاعْبُدُوهُ» كما أنا أعبده وحده «هذا» الذي أنا عليه من التوحيد الذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ٦٤ يوصلكم إلى الجنة إن تمسكتم بعبادة ربكم الواحد «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى وتحزبوا عليه وهموا بقتله وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية الذين كانوا في زمنه، وقدمنا شيئا من هذا في الآية ١٦٥ من الأعراف في ج ١، «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم بالإنكار على عيسى والإصرار على قتله «مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» ٦٥ في الآخرة راجع الآيتين ٣٣/ ٣٤ من سورة مريم في ج ١، قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ» قوم عيسى بإصرارهم على الكفر به وقتله «إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غرة من انهماكهم في هذه الدنيا «وَهُمْ
83
لا يَشْعُرُونَ»
٦٦ بها وإذ ذاك يرون سوء صنيعهم فيه. وإلى هنا انتهى ما جاء في حق عيسى عليه السلام. قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ» على المعاصي في الدنيا «يَوْمَئِذٍ» يوم تقوم الساعة ويقفون في الموقف يكون «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» فيه، لأن كلّا منهم يحمل على صاحبه وخليله بما حل به من العذاب، فيقول له أنت الذي سببته لي «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» ٦٧ الذين تحابوا في الدنيا على تقوى الله وتخاللوا من أجله فهؤلاء ينتفعون بها بالآخرة فيشفعون لبعضهم كما انتفعوا بها في الدنيا بأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهيهم عن المنكر ويرون ثواب ما كانوا مجتمعين عليه ويتناصحون فيه، راجع الآية ٦٣ من سورة يونس المارة والآية ٣١ من سورة إبراهيم الآتية في بحث الصداقة، ويقول الله تعالى لهؤلاء «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يخاف الناس العصاة من أهوال يوم القيامة «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» ٦٨ على ما فاتكم في الدنيا، قال المعتمر بن سليمان إن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادى يا عبادي، فيرجوها كل أحد، فيتبعها قوله عز قوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) التي أظهرناها على أيدي رسلنا «وَكانُوا مُسْلِمِينَ» ٦٩ لنا منقادين لأوامرنا، فييأس الكفار ويقفون حائرين مبهوتين، ويقال لهؤلاء المؤمنين «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ» المؤمنات «تُحْبَرُونَ» ٧٠ تسرون فيها وتنعمون بنعيمها فيظهر على وجوههم آثار الفرح والسرور والرضاء
ثم «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ» جمع صحيفة أواني الطعام «مِنْ ذَهَبٍ» بيان لنوعها وجنسها «وَأَكْوابٍ» أوانى الشرب من ذهب أيضا، ولما كان الطعام عادة أكثر من الشراب جمع الصحاف جمع كثرة والأكواب جمع قله «وَفِيها» أي الجنة التي أدخلوها «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» من المأكول والمشروب والملبوس والمنام والنساء وغيرها، وجاء هنا ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهائها تخصيص بعد تعميم كما ذكر أولا الوصف الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف بأواني الذهب الذي هو بعض من النعيم والترفه تعميم بعد تخصيص، قال تعالى «وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» ٧١ أبدا لا تتحولون عنها «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ» العظيمة بهية المنظر منعشه الأرواح
84
«الَّتِي أُورِثْتُمُوها» شبه الله تعالى ما استحقوه بأعمالهم الصالحة من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه الرجل لوارثه من الأملاك والأموال، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه العمل نفسه بالمورث بكسر الراء فاستعير الميراث لما استحقوه، ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقيل تمثيلية، وجاز أن تكون مكنية، فالتبعية هي التي لا تجري الاستعارة فيها ابتداء غير اسم الجنس بل تبعا، وردها السكاكي إلى المكنية، وهي لفظ المشبه به المتروك المستعمل في المشبه المرموز إليه بذكر لازمه كلفظ السبع المتروك في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان، والتمثيلية هي الهيئة الحاصلة في الذهن المنتزعة من عدة أمور نحو إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لمن يتردد في الفتوى والأمر، ولكل أقسام مذكورة في محلها، وقد فسرها الخطيب بغير هذه التفاسير، ومن أراد تمام الاطلاع على هذا فليراجع علم البيان. هذا، ويقول الله تعالى قوله وقد جعلت لكم الجنة ميراثا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٧٢ بسبب عملكم الطيب في الدنيا ونعم الميراث الجنة الدائمة من الدنيا الفانية يا عبادي الأبرار «لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ» لا يحصى نوعها ولا جنسها فهي ألوان وأشكال وطعمها متنوع لا يقدر أن يصفها واصف ولا يعدها عاد «مِنْها تَأْكُلُونَ» ٧٣ متى اشتهيتم بلا تعب ولا ثمن، أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من يا قوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت. وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك. وجاء في حديث آخر أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا بنت مكانها مثلها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزلته في النار والمؤمن يرث الكافر منزلته في الجنة وذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) الآية، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ٤٣ من سورة الأعراف وله صلة في الآية ٣٢ من سورة النحل الآتية.
85
وأخرج هناد وعيد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط يعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم. أي بفضل الله لأن الأعمال وحدها لا تكفي، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة. بعمله أي على سبيل الاستقلال والسببية، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث. واعلم أن الآية السابقة تفيد أن ما كان بين الناس في الدنيا من مودة ومحبة وخلة تنقطع كلها إلا ما كان منها على تقوى الله وطاعته ورضاه، وهؤلاء هم المتحابون في الله، المتصادقون على محبته. روي عن علي كرم الله وجهه في تلك الآية قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني
غير ملاقيك، يا رب أضلّه ولا تهده كما أضلني، ولا تكرمه كما أهانني، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. وقيل في هذا:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك ان ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقال الآخر:
وتعجب في قطعي مودة صاحب وقد كنت قدما مولعا بوداده
فقلت لها يا عزّ لا تعجبي له من الحزم قطع العضو عند فساده
هذا وقد ذكر الله تعالى الملاذ كلها ولم يذكر اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجهه الكريم، على انها تدخل في قوله (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وعلى هذا قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس: حبب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة. وقال قيس بن ملوح:
86
ولقد هممت بقتلها من حبها كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه: شتان ما بين ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذّ الأعين كإصبع تغمس في البحر، لأن شهوات الجنة لها عد ونهاية لأنها مخلوقة، ولأتلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل جلاله ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية.
ولسائل أن يسأل هل في الجنة توالد لأنه من جملة ما تشتهيه النفس؟ فالجواب نعم أخرج الإمام احمد وهناد والدارمي وعيد بن حميد وابن ماجه وابن حبّان والترمذي وحسّنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور، فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي. قال ابن منده لا ينكر هذا الحديث إلا جاهل أو جاحد أو مخالف للكتاب والسنة لأنه من جملة ما يشتهى وهو مذكور في الكتاب والسنة.
وقال في حاوي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم. وقال السفاريني في البحور الزاخرة حديث أبي سعيد أجود أسانيده اسناد الترمذي. وقال الأستاذ أبو سهيل فيما نقله الحاكم إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ.
وأما من قال إنه لا يولد لهم فقد احتج بقوله تعالى (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) والمطهرات لا يحضن ولا ينفسن كما أنهن لا يبلن ولا يتغوطن، وان الولد يجعل من المني ولا مني هناك، ويعقبه الطمث والوجع ولا وجع هناك، ولم ينظر. هذا القائل إلى أن الله تعالى قادر على أن يولدهن في الجنّة بلا نفاس ولا ألم ويحملهن بلا حيض وبلا مني، لأن في اشتراط لزوم ذلك تعجيزا للقدرة. وما قيل إن التوالد في الدنيا لبقاء النوع الانساني وهو باق في الجنة بلا توالد فيكون عبثا، يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب والسماع والنظر فإنها للدنيا لشيء، وفي الجنة لشيء آخر. بقي هنا أن من أصحاب النفوس الخبيثة الذميمة من يقول انه ليشتهي اللواط في الجنة وهو بعيد عنها كما يشتهيها في الدنيا وهو من أهلها، فيقال
87
له إنها لا تكون في الجنة لأن ما لا يلبق أن يكون فيها لا يشتهيه أهلها لأن أنفسهم طاهرة سليمة من الأرجاس، والجنة مقدسة لا يدخلها إلا مقدس وهذه الفعلة القبيحة لا يشتهيها في الدنيا إلا ذو والأنفس الرذيلة مثل المعتزلي الذي أشرنا إليه في الآية ٨٤ من الأعراف في ج ١ ومن تحدثه نفسه بذلك ويشتهي اللواطة في الجنة فالجنة عليه حرام، لأن ذلك دليل على ولعه فيها والوالع فيها لا شك مستحلّ ومستحل الحرام كافر بالإجماع ولا يشم ريح الجنة لوطي، وهو داخل في قوله تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» ٧٤ لأنها خبيثة وأهلها خبثاء وأنفسهم خبيثة والخبيث أحق أن لا يخرج من النار ويدوم عليه العذاب وأجدر أن «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ» العذاب أبدا «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» ٧٥ آيسون من رحمة الله وأنى لأمثالهم الرحمة في الآخرة وكانوا لا يؤمنون بها وكيف يرجون لطف الله وهم قد كفروا به، قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بتخليدهم بالعذاب لأنا لا نعذب أحدا بلا جرم «وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» ٧٦ أنفسهم بجناياتهم وشهواتهم وسوء فعلاتهم الدنيئة. قال تعالى «وَنادَوْا يا مالِكُ» خازن النار يستغيثون به، قيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ يا مال فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم، وهذا الثناء على طريق الاستفهام المعنوي «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هذا العذاب فنموت ونستريح منه فرد عليهم بقوله «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» ٧٧ فيه لا خلاص لكم منه خلود بلا موت، راجع الآية ١٠٨ من سورة هود المارة «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وعدناكم به على لسان رسلنا يا أهل النار «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ٧٨ لأنكم في الدنيا كنتم تنفرون عنه ولا تقبلونه لما فيه من تعب النفس وعدم رغبتها له وقد اخترتم رغبة الدنيا عليه فتعبتم بالآخرة. قال تعالى مخبرا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم بما يحوك في صدر قومه من تجمعاتهم ومذاكراتهم في شأنه «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً» في المكر بك والكيد لك، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في دار النّدوة يتناجون فيما يفعلونه به ليتخلصوا منه وقد بعث رحمة لهم، قال تعالى لا تخشهم يا حبيبي «فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» ٧٩ أمورا كثيرة من أنواع الكيد والمكر بأعظم وأكبر مما يتصورونه ومهيئون لهم ما يدحض إبرامهم مما
88
يخلصك منهم «أَمْ يَحْسَبُونَ» هؤلاء الكفرة الذين يريدون اغتيالك بما تسول لهم أنفسهم الضالّة الغاشمة فيظنون «أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى» وحياتك يا حبيبي أنا أسمع له منهم وأعلم بما تحدثه به أنفسهم «وَرُسُلُنا» أيضا الموكلون بالخلق والمرسلون لهذه الغاية «لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» ٨٠ ما يقع منهم سرا وعلنا لا يتركون منه شيئا، لأنا أرسلناك لتدبر لهم أسباب الرحمة الدائمة رحمة بهم، وهم يحيكون لك أسباب العذاب ليجلوك أو يحبسوك أو يقتلوك ولجهلهم لا يعلمون أنا حافظوك منهم ومن غيرهم ومؤيدوك عليهم، وهذا إيماء لحضرة الرسول بالهجرة عن قومه الذين أشغلوا أنفسهم بكيفية التخلص منه وهو متعب نفسه الكريمة بماهية خلاصهم من الكفر وإنجائهم من العذاب، ولكن كل ينفق مما عنده، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» كما تظنون «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» ٨١ له المعظمين شأنه ولسبقتكم بطاعته كما يعظم ابن الملك احتراما للملك، وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد لأنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال، فالمعلق بها محال مثلها، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له: والله لأبدلنك في الدنيا نارا تلظى، فقال سعيد لو عرفت هذا إليك ما عبدت إلها غيرك.
وهاتان الآيتان باعيتان على المشركين عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم وإسنادهم الولد إلى الله وهو منزه عنه «سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» ٨٢ من الافتراء عليه وهو براء من الولد وغيره «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ودعهم «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في دنياهم ويستبروا في اللهو «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» ٨٣ به بالدنيا قتلا وأسرا أو الجلاء والموت وفي الآخرة بأنواع العذاب الأليم «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» الآية يعبد ويقدس ويطاع لا إله غيره له الخلق والأمر. ونظير هذه الآية ٤ من سورة الأنعام المارة من حيث المعنى فكأنه جلّ ذكره ضمّن معنى المعبود فيهما وحذف الضمير الراجع إلى الموصول لطول الكلام ليصح تعليق الجار والمجرور فيه وهو هو
89
ولا يقال هنا إن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى لأن المعنى هنا أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض، وهي دلالة قاطعة على أنه تعالى غير مستقر في السماء وكما أنه غير مستقر في الأرض وهو إلههما فكذلك هو إله السماء مع أنه غير مستقر فيها تدبر. ومن الشك فاحذر فتسقط إلى الحضيض. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله تعالى غير ذلك، راجع الآيتين ١٨/ ١٠٣ من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْعَلِيمُ» ٨٤ بما يصلحهم «وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها فلا يعلمه غيره «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ٨٥ في الآخرة «وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ» لأن أمرها منوط به وحده وما يزعمون من أن أوثنهم تشفع زور وبهت، لأنها باطلة ولا يأذن الله بالشفاعة لأحد «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» كالأنبياء والرسل والملائكة ومن يشاء من عباده العارفين الكاملين، ولمن يأذن لهم من غيرهم أن يشفعوا له «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ٨٦ بحالة المشفوع له لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعوّل عليها. وجمع الضمير هنا باعتبار معنى من، كما أن الإفراد باعتبار لفظها والاستثناء متصل لأن المراد به أي بالذين يدعون هم المشركون وبمن دونه كل من يعبد من دون الله عز وجل لما في معنى من من معنى الشمول والعموم.
وسبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا بأنه يشفع لمن يتبعه فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة منه وكذلك قول اليهود والنصارى إن عزيرا والمسيح يشفعان لهم، فردّ الله تعالى على هؤلاء كلّهم بأن ما يتوخونه من الشفاعة من أولئك باطل لأنهم لا يملكون شيئا من الشفاعة لهم، وأن الذين يمكن أن يشفعوا هم الذين اعترفوا بالإله الواحد الحق إذا خولهم ذلك لمن يشاء من عباده، فالشافعون مقيدون بمشيئة الله والمشفوع لهم مقيدون برضاء الله، راجع الآية ٧٩ من سورة الإسراء والآية ١٠٩ من سورة طه في ج ١. ولهذا البحث صلة في الآية ٢٨ من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أوثانكم أم الله «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» الذي خلقهن لعلمهم بعجز أوثانهم لأنها من صنع أيديهم فقل لهم عند ذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» ٨٣ تختلقون
90
القول بأن أصنامكم شركاء لله، والشريك لا بد وأن يعمل مثل شريكه أو أقل منه وشركاؤكم عاجزون عن عمل شي ما في السموات والأرض، فكيف تسندون لهم أمر الشفاعة وهم لا يدفعون عن أنفسهم سوءا، وكيف تعبدون غير الله مع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم؟ وفي هذه الجملة تعجيب مما هم عليه من المناقضات «وَقِيلِهِ» قول محمد صلّى الله عليه وسلم «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ» قومي «قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» ٨٨ بك ولا يصدقوني وفيه معنى التحسر والتحزّن منه صلّى الله عليه وسلم وهنا قد شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان كما قال ابن عباس وقال قتادة هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربه وهو آسف من ذلك. وفيه معنى القسم أي وحق قيله، وإنما أقسم بقيله لبيان رفع جنابه وعلو شأنه والتعظيم لدعائه والتبجيل لا لتجائه إليه، قال تعالى «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» يا سيد الرسل لا تدع عليهم وأمهلهم كما أمهلتهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَقُلْ سَلامٌ» أي اتركهم الآن لأن السلام هنا سلام متاركة لا سلام تحية، ومن قال إنه سلام تحية استدل بجواز السلام على الكفار وابتداؤهم بالتحية محتجا بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعيب بن الحجاب قال كنت مع علي بن عبد الله العارفي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه، فقال شعيب فقلت انه يهودي أو نصراني فقرأ علي هذه الآية. وما أخرجه بن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول في ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ما أرى بأسا أن تبدأهم، قلت ولم؟ قال لقوله تعالى وتلا هذه الآية. وان هذين الحديثين لا حجة فيهما، لأن اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين لا يقولون بنبوة عيسى وكونه ثالث ثلاثة ولا بإلهيته، والذين لا يقولون بنبوة عزير وبالبداء على الله من اليهود وليسوا من الكفار والمشركين مع الله غيره المعهودين بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ٨٩ عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم وقبيح اعتقادهم وفساد آمالهم وخيبة رجائهم لأنها بحقهم خاصة لا دخل لأهل الكتابين بها والأولى بالسياق أن يكون سلام متاركة مثل سلام ابراهيم عليه السلام لأبيه، كما مر في الآية ٤٧ من سورة مريم في ج ١.
هذا، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل غير سديد، قال الإمام: وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل، لأن الأمر
91
Icon