تفسير سورة الطور

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الطور من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الطور
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي وثمان وأربعون في البصري وسبع وأربعون في الحجازي ومناسبة أولها لآخر ما قبله اشتمال كل على الوعيد وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفر ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الأشتراك في غير ذلك.

سورة الطّور
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي، وثمان وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الحجازي، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد، وقال الجلال السيوطي: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ الطور اسم لكل جبل على ما قيل: في اللغة العربية عند الجمهور، وفي اللغة السريانية عند بعض، ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا طُورِ سِينِينَ [التين: ٢] الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده، ويقال له: طور سيناء أيضا، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة، وقال أبو حيان في تفسير سورة «التين» : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، وقال في تفسيره: هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف
27
البكالي: إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال، قيل: وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي، وقيل: جبل من جبال الجنة، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة، وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين، وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته.
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى:
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء: ١٣]، وقال الكلبي: هو التوراة، وقيل: هي. والإنجيل.
والزبور وقيل: القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ، وفي البحر لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الاحتمال، والتنكير قيل: للإفراد نوعا، وذلك على القول بتعدده، أو للإفراد شخصا، وذلك على القول المقابل، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: ١٤] ففي التنكير كمال التعريف، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكّر أو عرف، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ والرق بالفتح ويكسر، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال: ترقرق الشيء إذا لمع. أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها. والمنشور المبسوط والوصف به قيل: للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضا لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه، وقيل: هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناء على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظهر للملائكة عليهم السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناء على أنه اللوح، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناء على الأقوال الأخر، وفي البحر مَنْشُورٍ منسوخ ما بين المشرق والمغرب
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إلخ
وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها.
وروي عن مجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت، وقال الحسن: هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة، وأنت تعلم أن من المجاز المشهور- مكان معمور- بمعنى مأهول مسكون يحل الناس في محل هو فيه، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ أي السماء كما رواه جماعة، وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه
، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة، وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد، وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي الموقد نارا.
28
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه لرجل من اليهود: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: البحر فقال كرم الله تعالى وجهه: ما أراه إلا صادقا، وقرأ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ
[التكوير: ٦] وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش، وقال قتادة: المسجور المملوء يقال: سجره أي ملأه، والمراد به عند جمع البحر المحيط، وقيل:
بحر في السماء تحت العرش، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وفي البحر أنهما قالا فيه ماء غليظ، ويقال له: بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به القضاء الواسع المملوء ملائكة، وعن ابن عباس «المسجور» الذي ذهب ماؤه، وروى ذو الرمة الشاعر، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الاضداد، وحمل كلامه رضي الله تعالى عنه على إرادة البحر المعروف، وأن ذهاب مائه يوم القيامة، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عنى المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه، وقيل الْمَسْجُورِ المختلط، وهو نحو قولهم للخليل المخالط: سجير، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودّة صاحبه، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها، وقيل: اختلاطها بحيوانات الماء، وقيل: المفجور أخذا من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار: ٣] ويحتمله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الاضداد أيضا، وقال منبه بن سعيد، هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموأها، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا- وبه أقول- وبأن المسجور بمعنى الموقد، ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح، وهو هاهنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز وجل مع كونها متعلقة بالمبدأ والمعاد، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه السلام، ومهبط آيات البدء والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق، ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ لأنه مطاف الرسل السماوية، ومظهر لعظمته تعالى، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات، وفيه الجنة: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ لأنه محل النار، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن- الرق المنشور- لا يناسبها لأنها كانت في الألواح، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في- رق- وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم، وقال الإمام: يحتمل أن تكون الحكمة في القسم- بالطور والبيت المعمور والبحر المسجور- أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه، أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز وجل بما خاطب، وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وقد قال عنده: «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
وأما البحر فليونس عليه السلام قال فيه: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٨٧] فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها، وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم ذكر وجها آخر، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما، والواو الاولى للقسم وما بعدها على
29
ما قال أبو حيان للعطف، والجملة المقسم عليها قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أي لكائن على شدّة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- واقع- بدون لام، وقوله تعالى: ما لَهُ مِنْ دافِعٍ خبر ثان- لأن- أو صفة لَواقِعٌ أو هو جملة معترضة، ومِنْ دافِعٍ إما مبتدأ للظرف أم مرتفع به على الفاعلية، ومِنْ مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما، وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب، وهو لا يأتي أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة «ومن غريب ما يحكى» أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال: تهيأ لما لا يسر فقال له: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قوله عز وجل: وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص، وقوله سبحانه: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً منصوب على الظرفية (١) وناصبه (واقع) أو دافِعٍ أو معنى النفي وإبهام أنه لا ينتفي دفعه غير ذلك اليوم بناء على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم، ومنع مكي أن يعمل فيه- واقع- ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر، ومعنى تَمُورُ تضطرب كما قال ابن عباس أي ترتج وهي في مكانها، وفي رواية عنه تشقق، وقال مجاهد: تدور، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب، وقيل: التحرك في تموج، وقيل: الجريان السريع، ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً عن وجه الأرض فتكون هباء منبثّا، والإتيان بالمصدرين الإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي إذا وقع ذلك (٢) أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطر كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها، وقرأ زيد بن علي والسيلمي وأبو رجاء «يدعّون» بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون دَعًّا حالا أي ينادون إليها مدعوعين (٣) ويَوْمَ إما بدل من يوم تَمُورُ أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك يَوْمَ إلخ،
(١) لأنه مفعول فيه.
(٢) يشير إلى أن الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر. اهـ. [.....]
(٣) الحال مقدرة لأن الدفع بعد الدعوة، وقيل: إنها مقارنة بإجراء قرب الوقوع مجرى المقارنة وفيه نظر.
30
ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها، وقوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هذا توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل: كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحر أيضا وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ.
أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذا جملة واردة تقريعا مثل هذا النار إلخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره، ودل عليه قوله تعالى: فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ وقوله سبحانه: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم: هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول:
أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ، وأَمْ كما هو الظاهر منقطعة، وفي البحر لما قيل لهم: هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال، والظاهر أنه جعل أَمْ معادلة والأول أبعد مغزى.
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه.
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه- فسواء- خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك، وقوله تعالى: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب، وجوز أن يكون من جملة المقبول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوي كما لا يخفى.
فاكِهِينَ متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الإحسان، وقرىء- فكهين- بلا ألف، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني من جنات الواقع خبرا لأن، وقرأ خالد- فاكهون- بالرفع على أنه الخبر، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام، ومن أجاز بعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على «في جنات» على تقدير كونه خبرا كأنه قيل: استقروا فِي جَنَّاتٍ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ إلخ، أو على آتاهُمْ إن جعلت (ما) مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة، وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا. والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن، وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال. وإما من فاعل آتى أو من مفعوله. أو منهما، وإظهار الرب في موقع
31
الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة «وقّاهم» بتشديد القاف كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا، فالكلام بتقدير القول: وهَنِيئاً نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر. أو على أنه مفعول به، وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق- بكلوا واشربوا، على التنازع، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت (١)
فإن ما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال كأنه قيل: هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلا على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله، وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل كفى على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم إلخ، وفيه نوع تكلف مُتَّكِئِينَ نصب على الحال قال أبو البقاء: من الضمير في كُلُوا أو في وَقاهُمْ أو في آتاهُمْ أو في فاكِهِينَ أو في الظرف يعني في جنات، واستظهر أبو حيان الأخير عَلى سُرُرٍ جمع سرير معروف، ويجمع على أسرّة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف.
مَصْفُوفَةٍ مجعولة على صف وخط مستو وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن- قاله الراغب- ثم قال: ولم يجىء في القرآن زوجناهم حورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين، وقيل: فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الإلصاق، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم، وقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ عطف على آمنوا، وقيل اعتراض للتعليل، وقوله تعالى: بِإِيمانٍ متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناء على تفاوت مراتب نفس الإيمان، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء اليه، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل: هو حال من الذرية، وقيل: من الضمير وتنوينه للتعظيم، وقيل: منهما وتنوينه للتنكير
(١) هذا البيت من قصيدة مشهورة لكثير أولها
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم احللا حيث حلت
قيل كان كثير في حلقة البصرة ينشد أشعاره فمرت به عزة مع زوجها فقال لها: أغضبيه فاستحيت من ذلك فقال لتغضبنه أو لأضربنك فدنت من الحلقة فأغضبته، وذلك أن قالت: هذا وهذا بفم الشاعر فقال ذلك.
32
والمعول عليه ما قدمنا أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الدرجة.
أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية» وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وفي رواية ابن مردويه والطبرائي عنه أنه قال: «إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به»
وقرأ ابن عباس الآية، وظاهر الاخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصاله بهم أحيانا ولو للزيارة. وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل، وما قيل: لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه، وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته وَما أَلَتْناهُمْ أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ أي من ثواب عملهم مِنْ شَيْءٍ أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان، وقال ابن زيد- الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا- وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار.
وروي عن الحبر والضحاك أنهما قالا: إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل: وكأن من يقول بذلك يفسر اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى، وقيل:
الموصول معطوف على حور، والمعنى قرنّاهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ عطف على زَوَّجْناهُمْ وقوله سبحانه:
بِإِيمانٍ متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره، وقيل عليه: إنه تعصب منه، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم.
وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بقطع الهمزة وفتحها، وإسكان التاء، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا، وابن عامر كذلك رفعا، وقرأ «ذرّيّاتهم» بكسر الذال «واتبعتهم ذريتهم» بتاء الفاعل، ونصب ذريتهم على المفعولية، وقرأ الحسن وابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب، وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت، وابن مسعود وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش، ورويت عن شبل وابن كثير، وعن طلحة والأعمش أيضا- لتناهم- بفتح
33
اللام، قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد، وقال: لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية- وليس كما قال- بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز، وقرىء وما ولتناهم من ولت يلت، ومعنى الكل واحد، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال: لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ أي بكسبه وعمله رَهِينٌ أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب، ولذا قال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر: ٣٨، ٣٩] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى: هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: ٢٨] ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين- المدعوعين. والمتقين- وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم، قال في الكشف: ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداء لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد، وقيل: رَهِينٌ فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت، وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء، فالجملة تعليل لما قبلها، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى.
34
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء، وأصل المدّ الجر، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاعر في الزيادة، وغلب الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المدّ نفسه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل:
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقيل: التنازع مجاز عن التعاطي، والكأس مؤنث سماعي كالخمر، ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الامتلاء، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازا لعلاقة المجاورة، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر، وبعضهم بالخمر، والاول أوفق بالتجاذب، والثاني بقوله سبحانه: لا لَغْوٌ فِيها أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام وَلا تَأْثِيمٌ ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا لغو» «ولا تأثيم» بفتحهما وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي بالكأس غِلْمانٌ لَهُمْ أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، وقيل: أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف لم تنله الأيدي- كما قال ابن جبير- ووجه الشبه البياض والصفاء، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن،
أخرج عبد الرزاق ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
«والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»

وروي «أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيء ألف ببابه لبيك لبيك».
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسؤولا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جدا قالُوا أي المسئولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل هذا الحال فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله عز وجل معتنين بطاعته سبحانه، أو وجلين من العاقبة، وفِي أَهْلِنا قيل: يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون بيانا لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى: فَمَنَّ
35
اللَّهُ عَلَيْنا
أي بالرحمة والتوفيق وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به، وقال الحسن: السَّمُومِ اسم من أسماء جهنم عاما لهم ولأهلهم، فالمراد بيان ما منّ الله تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم، وقيل: ذكر فِي أَهْلِنا لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأسا، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليست بشيء، وقيل: لعل الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز وجل: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بيانا للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي المحسن ما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان- كبرّ في يمينه- أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير، وأبرّ الله تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة، وأبرّ فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس، أو العالي في صفاته، أو خالق البرّ، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات، أو غايات ذلك البر؟ الرَّحِيمُ الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب، وقرأ أبو حيوة «ووقّانا» بتشديد القاف، والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي «أنّه» بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه فَذَكِّرْ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل.
فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب، والباء في بِكاهِنٍ مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن وَلا مَجْنُونٍ واختلف في باء بِنِعْمَةِ فقال أبو البقاء: للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن، أو مجنون، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبسا بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه عز وجل، وقيل: للقسم فنعمة ربك مقسم به، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو- ما أنت بكاهن ولا مجنون- وهذا كما تقول: ما زيد والله بقائم وهو بعيد، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه، والمراد الرد على قائل ذلك، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس، وقيل: الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله تعالى عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وممن قال كاهن: شيبة بن ربيعة، وممن قال مجنون: عقبة بن أبي معيط أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ أي ننتظر بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي الدهر، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها، ومنه حبل منين أي مقطوع، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل، والمراد بنزوله إهلاكه، وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر:
36
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وبيت أبي ذؤيب
أمن المنون وريبه يتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قيل: ظاهره ذلك، وكذلك قول الأعشى:
أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به ريب المنون ودهر متبل خبل
ولهذا أنشده الجوهري شاهدا له، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا: المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه، وقد يراد به المنية فيؤنث، وقد روي ريبها، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل، وهو أيضا من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات، ولذا قيل: المنية تقطع الأمنية، وريب المنون عليه نزول المنية، وجوز أن يكون معنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار- كما قال الضحاك- تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك ما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت، وقرأ زيد بن علي «يتربّص» بالياء مبنيا للمفعول، وقرىء «ريب» بالرفع على النيابة.
قُلْ تَرَبَّصُوا تهكم بهم، وتهديد لهم فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى- وذلك على ما قال الجاحظ- لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة، وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟! فقال: تلك عقول كادها الله عز وجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا- وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم- ولعلها تدل على ضد ذلك بِهذا التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل، وقيل: جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيها مضمرا في النفس، وتثبت له الأمر على طريق التخييل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحصنة الخارجة عن دائرة العقول، وقرأ مجاهد «بل هم» أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه.
وقال ابن عطية: معناه قال عن الغير إنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص، وضمير المفعول للقرآن بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى إِنْ كانُوا صادِقِينَ فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة
37
على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدّعى، وجوز أن يكون ردّا لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادا منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم، وقرأ الجحدري، وأبو السمال بحديث مثله على الاضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدا منهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق، وقال الطبري: المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات، وقيل: المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون، ومِنْ عليه للسببية، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح له، ويؤيده قوله سبحانه: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى:
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الطور: ٣٦] إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا، وقال ابن عطية: المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل وانقاد له أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا، ويمسكوها عمن شاؤوا، وقال الرماني: خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه، وقال ابن عطية: المعنى أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن الله تعالى، وقال الزهري: يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب، وفي معناه قول ابن عباس:
المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغرا كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات، وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر، وواحد من الأسماء وهو مجيمر اسم جبل، وقرأ الأكثر الْمُصَيْطِرُونَ بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالا والظرفية على حقيقتها، وقيل: هو متعلق- بيستمعون- على تضمينه معنى الصعود.
وقال أبو حيان: أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول يَسْتَمِعُونَ محذوف أي كلام الله تعالى، قيل: ولو نزل منزلة اللازم جاز فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدق استماعه أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ تسفيه لهم وتركيك لعقولهم، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ مصدر ميمي
38
من الغرم والغرامة وهو- كما قال الراغب- ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير- لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول- مُثْقَلُونَ أي محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ويخبرون به الناس- قاله ابن عباس- وقال ابن عطية: أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم، وقال قتادة: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يتربصون به، وفسر بعضهم يَكْتُبُونَ بيحكمون أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلّى الله عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار فَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل: ولذا وقعت كلمة أَمْ مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر، ومثله على ما قال الشهاب: لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه عز وجل.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة فهو مفرد وقد قرىء في جميع القرآن كسفا وكسفا جمعا وإفرادا إلا هنا فإنه على الإفراد وحده، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفا عظيما مِنَ السَّماءِ ساقِطاً لتعذيبهم يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم سَحابٌ أي هو سحاب مَرْكُومٌ متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم فَذَرْهُمْ فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقى يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد: من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل: يصعقون بفتح الياء والعين، والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوم يوم بدر، وقيل: وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم، ولا يخفى أن التعرّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعا بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر، وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى في مدافعته الكيد والحيل، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضا يصعقون وهم داخلون في عموم «من» وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح، عن الثاني بأن الكلام على نهج قوله:
39
على لا حب لا يهتدى بمناره فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان، وقيل: هو يوم القيامة- وعليه الجمهور- وفيه بحث، وقيل: هو يوم موتهم، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفع العذاب عنهم وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولا أوليا عَذاباً آخر دُونَ ذلِكَ دون ما لا قوه من القتل أي قبله وهو- كما قال مجاهد- القحط الذي أصابهم سبع سنين.
وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح، وفسر دُونَ ذلِكَ بقبل يوم القيامة بناء على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك، وعنه أيضا. وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير، وذهب إليه بعضهم بناء على أن دُونَ ذلِكَ بمعنى وراء ذلك كما في قوله:
يريك القذى من دونها وهو دونها وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه، ودُونَ ذلِكَ بقبله، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر، أو المصائب الدنيوية، وفي مصحف عبد الله- دون ذلك تقريبا- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا، أو لا يعملون شيئا.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي في حفظنا وحراستنا، فالعين مجاز عن الحفظ، ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور، وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في «طه» لإضافته إلى ضمير الواحد، ولوح الزمخشري- في سورة المؤمنين- إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظا يكلؤونه بأعينهم، وقال العلامة الطيبي: إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام، وهاهنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل انتهى، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور، وقرأ أبو السمال «بأعينّا» بنون مشددة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر، والمراد سبحه تعالى واحمده حِينَ تَقُومُ من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير،
وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس:
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال: كفارة لما يكون في المجلس»

والآثار في ذلك كثيرة، وقيل: حين تقوم إلى الصلاة، أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: «حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول: سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية:
حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» وحكاه في البحر عن ابن عباس وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: «سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة» وروي نحوه عن ابن السائب، وقال زيد أسلم: «حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر» وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما
40
يلوح به تقديمه على الفعل وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح، وقيل:
التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، وَإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر، وعن عمر رضي الله تعالى عنه وعلي كرم الله تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل: وإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر، وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب- أدبار- بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقد أي في أعقابها إذا غربت، أو خفيت بشعاع الشمس.
هذا ونظم الآيات من قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطور: ٣٠] إلى قوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ إلخ فيه غرابة ولم أر أحدا كشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه الله تعالى خيرا، ولغاية حسنه- وكونه مما لا مزيد عليه- أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار ما، فأقول: قال: أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى:
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الأنبياء: ٥] : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه، والثاني أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاء لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به، فالمتعين هو الثاني، ووجهه- والله تعالى أعلم- أن قوله: فَذَكِّرْ معناه إذ ثبت كون العذاب واقعا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار، ومن قوله تعالى: فَما أَنْتَ إلى قوله سبحانه: هُمُ الْمَكِيدُونَ تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي، وقوله سبحانه: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [الطور: ٢٩] إلخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولا على فساد آرائهم ويجعله دستورا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيا وأرجحهم عقلا وأبينهم آيا منذ ترعرع الى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون، ثم ترقى مضربا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقديما قيل: أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم، وقوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور: ٣١] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولا تلويحا بقوله تعالى: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ [الطور: ٣٢] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة، ثم قيل: لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراء وعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر- في الأحقاف- ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته، ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار، والتدرج عن الشعر هاهنا عكس التدرج اليه في الأنبياء لأن بناء الكلام هاهنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل: إن افتراءه لا
41
يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءات كثيرة، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الاضراب في الردّ فقيل: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ [الطور: ٣٣] وعقب بقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا [الطور: ٣٤] ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما، ثم الشعر، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فهو ينسبه الى الافتراء حيث لم يرسله، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور: ٣٦] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بمازن، فكأنه قيل: مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه
لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم، فالأول لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث إن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته، والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا البتة، وأدمج فيه إنكارهم للمعاد، ونسبتهم إياه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [الطور: ٤١] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: ٣٧] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبيّن فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل: لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم، وقيل: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ [الطور: ٣٨] وذيل بقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ [الطور:
٣٩] إشعارا بأنه من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل: ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما، ثم قيل: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً [الطور:
٤٠] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا، أو جاها، أو ذكرا، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث، ثم قيل أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ على معنى بل أعندهم اللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز الى الأخير: ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاء لحق الإعجاز، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث إنهم لم يرسلوه، وهذا من تلك الحيثية، ومن حيث إنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا لا يقفون على هذا المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إله غيره، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا
42
أظهر في هذا المساق انتهى، وكأن ما بعد تأكيدا لأمر (١) طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية، ويعلم مما ذكره- لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة- أن أَمْ في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية، والإضراب هاهنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم.
ومما ذكروه من باب الاشارة في بعض الآيات وَالطُّورِ إشارة إلى قالب الإنسان وَكِتابٍ مَسْطُورٍ إشارة إلى سره فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ إشارة إلى قلبه وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى روحه وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى صفته وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر، وقيل:- الطور- إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك- والكتاب المسطور في الرق المنشور- إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى بحر القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى، وقيل: إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون، ووصفه- بالمسجور- إما لأنه مملوء منهم، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز وجل، وقيل: غير ذلك فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي يخوضون في غمرات البحر اللجى الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وهو عذاب الحجاب كُلُوا من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية وَاشْرَبُوا من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي مقام العبودية وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي عند نزول السكينة عليك وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عند ظهور نور شمس الوجه، وتسبيحة سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
(١) هكذا الأصل وصوابه «تأكيد لأمر طغيانهم» برفع تأكيد.
43
Icon