تفسير سورة الممتحنة

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الممتحنة مدنية وآيها ثلاث عشرة.

﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ نزلتْ في حاطبِ ابنِ أبي بَلْتَعةَ وذلكَ أنَّه لمَّا تجهزَ رسولُ الله ﷺ لغزو الفتحِ كتبَ إلى أهلِ مكةٍ أن رسولَ الله ﷺ يريدُكُم فخُذُوا حذْرَكُم وأرسلَهُ مع سارةَ مولاةِ بني المطلبِ فنزلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ بالخبرِ فبعثَ رسولَ الله ﷺ علياً وعماراً وطلحةَ والزبيرَ والمقدادَ وأبا مرثدٍ وقالَ انطلقُوا حتى تأتُوا روضةَ خاخٍ فإنَّ بها ظعينةً معها كتب حاطبٍ إلى أهلِ مكةَ فخذُوه منهَا وخلُّوها فإنْ أبتْ فاضربُوا عنقَهَا فأدركُوهَا ثمةَ فجحدتْ فسلَّ عليٌّ سيفَهُ فأخرجْتَهُ من عقاصِهَا فاستحضر رسول الله ﷺ حاطباً وقال ما حملكَ على هَذا فقالَ يا رسولَ الله ما كفرتُ منذ أسلمتُ ولا غششتكَ منذُ نصحتكَ ولكني كنتُ أمرأ ملصَقاً في قريشٍ وليسَ لي فيهم مَنْ يحمي أَهْلِي فأردتُ أن آخذَ عندهُم يداً وقد علمتُ أن كتابي لن يغنة عنهُم شيئاً فصدَّقَهُ رسولُ الله ﷺ وقبلَ عذرَهُ ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة﴾ أى توصلون إليم على أن الباء زائدة كما في قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو تلقونَ إليهم أخبارَ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ بسببِ المودَّةِ التي بينكُم وبينَهُم والجملةُ إما حالٌ من فاعل لا تتخِذُوا أو صفةٌ لأولياءَ وإبرازُ الضميرِ في الصفاتِ الجاريةِ على غيرِ مَنْ هيَ لهُ إنما يُشترطُ في الإسمِ دونَ الفعلِ أو استئنافٌ ﴿وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق﴾ حالٌ من فاعلِ تلقونَ وقيل من فعل لا تتخذُوا وقُرِىءَ لِمَا جاءَكُم أي كفرُوا لأجلِ ما جاءكُم بمعنى جعلِ ما هو سببُ الإيمانِ سبباً للكفرِ ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم﴾ أي منْ مكةَ وهو إما حالٌ من فاعلِ كفرُوا أو استئنافٌ مبينٌ لكفرِهِم وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ وقولِهِ تعالى ﴿أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبّكُمْ﴾ تعليل للإخراج فيه تغليل المخاطبِ على الغائبِ والتفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبة للإشعارِ بما يوجبُ الإيمانَ من الأُلوهيةِ والرُّبوبيةِ
235
﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى﴾ متعلقٌ بلا تتخذُوا كأنَّه قيلَ لا تتولَّوا أعدائِي إن كُنتُم أوليائِي وقولُهُ تعالى ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة﴾ استئنافٌ واردٌ على نهجِ العتابِ والتوبيخِ أي تُسرونَ إليهِم المودَّةَ أو الأخبارَ بسببِ المودَّةِ ﴿وَأَنَاْ أَعْلَمُ﴾ أيْ والحالُ أنِّي أعلمُ منكُم ﴿بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾ ومُطْلعٌ رسولِي عَلى ما تسرونَ فأيُّ طائلٍ لكم في الإسرارِ وقيلَ أعلمُ مضارعٌ والباءُ مزيدةٌ وما موصلة أو مصدريةٌ وتقديمُ الإخفاءِ على الإعلانِ قد مرَّ وجهُه في قولِهِ تعالى يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ﴾ أي الاتخاذَ ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل﴾ فقد أخطأَ طريق الحقَّ والصوابَ
236
﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ﴾ أيْ إنْ يظفر وا بكُم ﴿يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء﴾ أي يُظهروا ما في قلوبِهِم منَ العداوةِ ويرتبُوا علَيها أحكامَهَا ﴿وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء﴾ بمَا يسُوؤكم من القتلِ والأسرِ والشتمِ ﴿وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ أي تمنَّوا ارتدادكُم وصيغةُ الماضى للإيذان بتحقيق ودادتِهِم قبل أن يثقفُوهُم أيضاً
﴿لن تنفعكم أرحامكم﴾ قرباتكم ﴿وَلاَ أولادكم﴾ الذين توالونَ المشركينَ لأجلِهِم وتتقربُونَ إليهِم محاماةً عليهِم ﴿يَوْمُ القيامة﴾ بجلبِ نفعٍ أو دفعِ ضرَ ﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ استئنافٌ لبيانَ عدمِ نفعِ الأرحامِ والأولادِ يومئذٍ أي يفرق الله بينكم بما اعتراكُم من الهولِ الموجبِ لفرارِ كلِّ منكُم من الآخرِ حسبما نطق به قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ المرء من أخيه الآية فمالكم ترفضونَ حقَّ الله تعالى لمراعاةِ حقِّ منْ هَذا شأنُهُ وقُرِىءَ يُفْصَل ويفصَّل مبينا للمفعول ويفصل يفصل مبينا للفاعلِ وهُو الله تعالَى ونفصِل ونفصِّل بالنون ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكُم بهِ
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ أيْ خصلةٌ حميدةٌ حقيقةٌ بأنْ يُؤتَسَى ويُقْتَدى بهَا وقولُهُ تعالَى ﴿فِى إبراهيم والذين مَعَهُ﴾ أي منْ أصحابِهِ المؤمنينَ صفةٌ ثانيةٌ لأسوةٌ أو خبرٌ لكانَ ولكُم للبيانِ أو حالٌ من المستكنِّ في حسنةٌ أو صلةٌ لها لا لأسوةٌ عندَ من لا يجوزُ العملَ بعدَ الوصفِ ﴿إِذْ قَالُواْ﴾
236
ظرفٌ لخبرِ كَان ﴿لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ﴾ جمعُ برئ كظريف وظرفاء وقرئ بِراءٌ كظِرافٍ وبُراءٍ كرُخالٍ وبَرَاءٌ على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ من الأصنام ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ أي بدينِكُم أو بمعبودِكُم أو بِكُم وبهِ فلا نعتدُّ بشأنِكُم وبآلِهَتِكُم ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً﴾ أيْ هَذا دأبُنَا معكُم لا نتركُهُ ﴿حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ﴾ وتتركُوا ما أنتُمْ عليهِ من الشركِ فتنقلبُ العداوةُ حينئذٍ ولايةً والبغضاءُ محبةً ﴿إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ استثناءٌ من قولِهِ تعالى أسوةٌ حسنةٌ فإنَّ استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ الكافرِ وإنْ كانَ جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعِهِ قبل تبينِ أنَّهُ من أصحابِ الجحيمِ كما نطقَ به النصُّ لكنَّهُ ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُؤتسى بهِ أصلاً إذ المرادُ بهِ ما يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بما سيأتي من قولِه تعالى وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد فاستثناؤهُ من الأسوةِ إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاءِ الإيمانِ والمغفرةِ للكافرِ المرجوِّ إيمانُهُ وذلكَ مما لا يرتابُ فيه عاقلٌ وأما عدم وأما عدمُ جوازِهِ فلا دِلالةَ للاستثناءِ عليهِ قطعاً هذا وأما تعليلُ عدمِ كونِ استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ الكافرِ مما ينبغي أنْ يُؤتَسى بهِ بأنَّه كانَ قبل النَّهيِ أو لموعِدة وعَدَهَا إياهُ فبمعزلٍ منَ السَّداد بالكلية لابتنائه على تناول النَّهي لاستغفارِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له وإنبائِهِ عن كونِهِ مُؤْتَسَى به لو لم يُنْهَ عنه وكلاهما بين البلان لما أنَّ موردَ النَّهي هو الاستغفارُ للكافر بعد تبين أمرِهِ وقد عرفتَ أن استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ كان قبلَ ذلكَ قطعاً وأنَّ ما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ لا ما يجوزُ فعلُهُ في الجملة وتجويزُ أن يكونَ استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ له بعدَ النَّهيِ كما هو المفهومُ من ظاهر قوله أو لموعِدة وعدها إياه مما لا مساغَ له وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفار بقوله اغفر لاِبِى الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملةَ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامَ على الاستغفارِ وتخصيصُ هذهِ العِدَة بالذكر دون ما وقع في سورة مريمَ من قوله تعالى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي لورودها على طريق التوكيدِ القسَميّ وأما جعلُ الاستغفارِ دائراً عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبين الأمرِ فقد مر تحقيقه في سورة التوبةِ وقولِهِ تعالى ﴿وَمَا أملِك لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء﴾ من تمامِ القولِ المُستثنى محلُّه النصبُ على أنه حال من فاعل لأستغفرنَّ لكَ أي أستغفرُ لكَ وليسَ في طاقتِي إلا الاستغفارُ فموردُ الاستثناءِ نفسُ الاستغفارِ لا قيدُهُ الذي هُو في نفسه من خصال الخيرِ لكونِه إظهاراً للعجزِ وتفويضاً للأمرِ إلى الله تعالَى وقولُهُ تعالَى ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير﴾ الخ من تمام ما نُقلَ عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ ومنْ معَهُ منَ الأسوةِ الحسنةِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لقصرِ التوكلِ والإنابةِ والمصيرِ على الله تعالَى قالُوهُ بعدَ المُجَاهَرَةِ وقشرِ العَصَا التجاءً إلى الله تعالَى في جميعِ أمورِهِم لا سيما في مدافعةِ الكفرةِ وكفايةِ شرورِهِم كما ينطق به قوله تعالَى
237
﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بأنْ تسلطَهُم علَيْنَا فيفتنونَا بعذابٍ لا نطيقُهُ ﴿واغفر لَنَا﴾ ما فرط منا من العذاب ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز﴾ الغَالِبُ الذي لاَ يَذِلُّ
237
من التجأَ إليهِ ولاَ يخيبُ رجاءُ مَنْ توكَّلَ عليهِ ﴿الحكيم﴾ الذي لاَ يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ بالغةٌ وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في التضرعِ والجؤارِ هَذا وأما جعلُ الآيتينِ تلقيناً للمؤمنينَ من جهتِهِ تعالَى وأَمراً لهم بأنْ يتوكلُوا عليهِ وينيبُوا إليهِ ويستعيذُوا بهِ من فتنةِ الكفرةِ ويستغفُرُوا مما فرطَ منهم تكملةً لما وصَّاهُم بهِ من قطعِ العلائقِ بينهُمْ وبينَ الكفرةِ فلا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ
238
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ﴾ أي في إبراهيمَ ومن مَعَهُ ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ تكريرٌ للمبالغةِ في الحثِّ على الائتساءِ به عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ صُدرَ بالقسمِ وقولُهُ تعالى ﴿لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر﴾ بدلٌ من لكُم فائدَتُهُ الإيذانُ بأنَّ مَن يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ لا يتركُ الاقتداءَ بهم وأنَّ تركَهُ منْ مخايل عدمِ الإيمان بهما كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى ﴿وَمِنَ يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد﴾ فإنَّهُ مما يوعَدُ بأمثالِهِ الكفرةُ
﴿عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم﴾ أي منْ أقاربكم المشركين ﴿مودة﴾ بأن يوافقكم في الدين وعدهم الله تعالى بذلكَ لِما رأى منهم من التصلبِ في الدينِ والتشددِ لله في معاداةِ آبائِهِم وأبنائِهِم وسائِرِ أقربائِهِم ومقاطعَتِهِم إيَّاهُم بالكليةِ تطيبا لقلوبِهِم ولقد أنجزَ وعدَهُ الكريمَ حينَ أتاحَ لهم الفتحَ فأسلمَ قومُهُمْ فتمَّ بينَهُم من التحابِّ والتَّصافِي ما تمَّ ﴿والله قَدِيرٌ﴾ أي مبالغٌ في القُدرةِ فيقدرُ على تقليبِ القلوبِ وتغييرِ الأحوالِ وتسهيلِ أسبابِ المودَّةِ ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فيغفرُ لمن أسلمَ منَ المشركينَ ويرحمُهُم وقيلَ غفورٌ لما فرطَ منكُم في موالاتِهِم مِن قبلُ ولِمَا بقِيَ في قلوبِكُم من ميلِ الرحمِ
﴿لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم﴾ أي لا ينهاكُم عن البرِّ بهؤلاءِ فإنَّ قولَهُ تعالى ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ بدلٌ من الموصولِ ﴿وَتُقْسِطُواْ إليهم﴾ أى تفضوا إليهم بالقسطِ أي العدلِ ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ أي العادلينَ رُويَ أنَّ قُتيلةَ بنتَ عبدِ العُزَّى قدمتْ مشركةً على بنتِهَا أسماءُ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بهدايَا فلم تقبلْها ولم تأذنْ لَها بالدخولِ فنزلتْ فأمرَها رسول الله ﷺ أنْ تُدخلَها وتقبلَ منْهَا وتُكرمَها وتُحسنَ إليها وقيلَ المرادُ بهم خزاعةُ وكانوا صالحوا رسول الله ﷺ على أن لا يقاتلُوه ولا يعينوا عليهِ
﴿إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم﴾ وهم عتاةُ أهلِ مكةَ
238
} ٠
﴿وظاهروا على إخراجكم﴾ وهم سائرُ أهلِها ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ بدل اشتمال من الوصول أي إنما ينهاكُم عن تتولهم ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون﴾ لوضعهم الولايةَ في موضعِ العداوةِ أو هم الظالمونَ لأنفسِهِم بتعريضِها للعذابِ
239
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ بيانٌ لحكمِ من يُظهرُ الإيمانَ بعدَ بيانِ حُكم فريقي الكافرينِ ﴿إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات﴾ من بينِ الكفار ﴿فامتحنوهن﴾ فاختبروهم بما يغلبُ على ظَنِّكم موافقة قلوبهنَّ للسانِهنَّ في الإيمانِ يُروى أنَّ رسولِ الله ﷺ كانَ يقولُ للتي يمتحنُهَا بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هُو ما خرجتِ من بغضِ زوجٍ بالله ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرضٍ بالله ما خرجتِ التماسَ دُنيا بالله ما خرجتِ إلا حباً لله ورسولِه ﴿الله أَعْلَمُ بإيمانهن﴾ لأنَّه المطلعُ على ما في قلوبهنَّ والجملةُ اعتراضٌ ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾ بعدَ الامتحانِ ﴿مؤمنات﴾ علماً يمكنكم تحصيلُه وتبلغُه طاقتُكم بعد اللتيا واللتى من الاستدلال بالعلائمِ والدلائلِ والاستشهادِ بالأماراتِ والمخايلِ وهو الظنُّ الغالبُ وتسميتُه علماً للإيذانِ بأنه جارٍ مجرى العلمِ في وجوبِ العملِ به ﴿فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار﴾ أي إلى أزواجِهِنَّ الكفرةِ لقولهِ تعالى ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ والتكريرُ إما لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ والثانيَ لبيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ ﴿وَأَتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ﴾ أي وأعطُوا أزواجهنَّ مثلَ ما دفعُوا إليهنَّ من المهورِ وذلكَ أنَّ صلحَ الحديبيةِ كانَ على أنَّ من جاءنا منكم ورددناه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنَّبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحديبية فأقبل زوجها مسافرٌ المخزوميُّ وقيلَ صيفيُّ بنُ الراهبِ فقال يا محمدُ ارددْ عليَّ امرأتِي فإنكَ قد شرطتَ أن تردَّ علينا من أتاكَ منا فنزلتْ لبيانِ أن الشرطَ إنما كانَ في الرجالِ دُونَ النساءِ فاستحلفَها رسولُ الله ﷺ فحلفتْ فأَعطى زوجَها ما أنفقَ وتزوجَها عمرُ رضيَ الله عنهُ ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن تَنكِحُوهُنَّ﴾ فإنَّ إسلامَهُنَّ حالَ بينهنَّ وبينَ أزواجهن الكفار ﴿إذا آتيتموهن أُجُورَهُنَّ﴾ شُرطَ إيتاءُ المهرِ في نكاحهنَّ إيذاناً بأنَّ ما أُعطَى أزواجُهُنَّ لا يقومُ مقامَ المَهْرِ ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر﴾ جمعُ عصمةٍ وهي ما يُعتصم به من عقدٍ وسببٍ أيْ لا يكُنْ بينكُم وبين المشركات ولا عُلقةٌ زوجيةٌ قال ابن عباس رضي الله عنهُمَا من كانتْ له امرأة كافرة بمكة ة فلا يعتدنَّ بها من نسائِهِ لأنَّ اختلافَ الدارينِ قطعَ عصمتَها منْهُ وعنِ النخعى رحمه الله هيَ المسلمةُ تلحقُ بدارِ الحربِ فتكفُرُ وعن مجاهدٍ أمرهُم بطلاقِ الباقياتِ مع الكفار ومفارقتهن وقرىء ولاتمسكوا بالتشديد ولا تَمسّكوا بحذف إحدى
239
} ٢ ١ ﴿
التاءين من تتمسكوا {واسألوا مَّآ أَنفَقْتُمْ﴾
من مهورِ نسائكم للاحقات بالكفار ﴿وليسألوا مَآ أَنفَقُواْ﴾ من مهورِ أزوزاجهم المهاجراتِ ﴿ذلكم﴾ الذي ذُكِرَ ﴿حُكْمُ الله﴾ وقولُه تعالَى ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ كلامٌ مستأنفٌ أو حالٌ من حكمِ الله على حذفِ الضميرِ أي يحكمُه الله أو جعل لكم حاكماً على المبالغةِ ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ يشرعُ ما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآية أدَّى المؤمنونَ ما أُمروا بهِ من مهورِ المهاجراتِ إلى أزواجهنَّ المشركينَ وأبى المشركونَ أنْ يؤدُوا شيئاً من مهورِ الكوافرِ إلى أزواجِهنَّ المسلمينَ فنزلَ قولُه تعالى
240
﴿وَإِن فَاتَكُمْ﴾ أي سبقكُم وانفلتَ منكُم ﴿شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار﴾ أي أحدٌ من أزواجِكم وقد قُرِىءَ كذلكَ وإيقاعُ شيءٌ موقعَهُ للتحقيرِ والإشباعِ في التعميمِ أو شيءٌ من مهورِ أزواجِكم ﴿فعاقبتم﴾ أي فجاءتُ عقبتُكم أي نوبتُكم من أداءِ المهرِ شبه ما حَكَم بهِ على المسلمينَ والكافرينَ من أداءِ هؤلاء مهورِ نساءِ أولئكَ تارةً وأداءِ أولئكَ مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى بأمر يتعاقون فيه كما يتعاقبون في الركوبِ وغيرِه ﴿فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ﴾ من مهرِ المهاجرةِ التي تزوجتُموها ولا تؤتوهُ زوجَها الكافرَ وقيلَ معناهُ إنْ فاتكم فأصبتُم من الكفارِ عُقْبى هيَ الغنيمةُ فآتُوا بدلَ الفائتِ من الغنيمةِ وقُرىءَ فأعقبتُم وفعقَّبْتُم بالتشديدِ وفعقِبْتُم بالتخفيفِ وفتحِ القافِ وبكسرِهَا قيلَ جميع من لحق بالمشكرين من نساءِ المؤمنينَ المهاجرينَ ستُّ نسوةٍ أمُّ الحكمِ بنتُ أبي سفيانَ وفاطمةُ بنتُ أميةٍ وبَرْوعُ بنتُ عُقْبةٍ وعبدةُ بنتُ عبدِ العُزَّى وهندُ بنتُ أبي جهل كثلوم بنتُ جرولٍ ﴿واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ فإن الإيمانَ بهِ تعالى يقتضِي التَّقوى منهُ تعالَى
﴿يا أيها النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ﴾ أي مبايعاتٍ لكَ أيْ قاصداتٍ للمبايعةِ نزلتْ يومَ الفتحِ فإنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ شرعَ في بيعة النساءِ ﴿على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً﴾ أي شيئا من الأشياءِ أو شيئا من الإشراكِ ﴿وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن﴾ أُريدَ به وأدُ البناتِ وقُرِىءَ ولا يُقَتِّلْنَ بالتشديدِ ﴿وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ كانتِ المرأةُ تلتقطُ المولودَ فتقولُ لزوجِها هُو ولدي منكَ كُنِيَ عنْهُ بالبهتانِ المُفترى بينَ يديها ورجلَيها لأنَّ بطنَها الذي تحملُهُ فيهِ بينَ يديها وَمَخرجُه بينَ رِجْلَيْها ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ﴾ أي فيما تأمرهنَّ بهِ من معروفٍ وتنهاهنَّ عنْهُ من منكرٍ والتقييدُ بالمعروفِ مع أنَّ الرسولَ صلى الله عله وسلم لا يأمرُ إلا بهِ للتنبيه على أنَّه لا يجوزُ طاعةُ مخلوقٍ في معصيةِ الخالق
240
} ﴿
وتخصيص الأمر المعدودةِ بالذكرِ في حَقِّهنَّ لكثرةِ وقوعِها فيمَا بينهنَّ معَ اختصاصِ بعضها بهنَّ {فَبَايِعْهُنَّ﴾
أي على ما ذُكر وما لم يُذكر لوضوحِ أمرِهِ وظهورِ أصالتِهِ في المبايعةِ من الصلاةِ والزكاةِ وسائرِ أركانَ الدِّينِ وشعائرِ الإسلامِ وتقييد مبايعتهنَّ بِما ذُكِرَ من مجيئهنَّ لحثن على المسارعةِ إليها مع كمالِ الرغبةِ فيهَا من غيرِ دعوةٍ لهنَّ إليها ﴿واستغفر لَهُنَّ الله﴾ زيادةٍ على ما في ضمنِ المبايعةِ فإنها عبارةٌ عن ضمانِ الثوابِ من قبلِهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمقابلةِ الوفاءِ بالأمورِ المذكورةِ من قبلهنَّ ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ فيغفرُ لهنَّ ويرحمهنَّ إذا وفَّينَ بما بايعنَ عليهِ واختلفَ في كيفيةِ مبايعتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهن يومئذٍ فَرُوِيَ أنه عليه الصلاةُ والسلام لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ جلسَ على الصَّفا ومعه عمرُ رضيَ الله عنْهُ أسفلَ منْهُ فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يشترطُ عليهن البيعةَ وعمرُ يصافحهنَّ ورُوِيَ أنَّه كلفَ امرأةٍ وقفتْ على الصَّفا فبايعتهنَّ وقيلَ دَعا بقدحٍ من ماءٍ فغمسَ فيهِ يدَهُ ثم غمسنَ أيديهنَّ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام بايعهنَّ وبين يديهِ وأيديهِنَّ ثوبٌ قطريٌّ والأظهرُ الأشهرُ ما قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنها والله ما أخذ رسول الله ﷺ على النساءِ قطُّ إلا بما أمرَ الله تعالَى وما مستْ كفُّ رسولِ الله ﷺ كفَّ امرأةٍ قَط وكانَ يقولُ إذا أخذَ عليهنَّ قَدْ بايعتكنَّ كلاماً وكانَ المؤمناتُ إذَا هاجرنَ إلى رسول الله ﷺ يمتحنهن يقولُ الله عزَّ وجلَّ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات إلى آخرِ الآيةِ فإذا أقررنَ بذلكَ من قولِهِنَّ قالَ لهنَّ انطلقنَ فقد بايعتكن
241
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ﴾ هُم عامةُ الكفرةِ وقيلَ اليهودُ لما رُوي أنَّها نزلتْ في بعض فقراء المسملين كانُوا يواصلونَ اليهودَ ليصيبُوا من ثمارِهِم ﴿قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة﴾ لكفرِهِم بهَا أو لعلهم بأنَّه لا خلاقَ لهُمْ فيهَا لعنادِهِم الرسولَ المنعوتَ في التوراة المجيد بالآياتِ ﴿كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور﴾ أيْ كَما يئسَ منها الذينَ ماتُوا منهُم لأنَّهم وقفُوا على حقيقةِ الحالِ وشاهدُوا حرمانَهُم من نعيمِهَا المقيمِ وابتلاءَهُم بعذابِهَا الأليمِ والمرادُ وصفهُم بكمالِ اليأسِ منهَا وقيلَ المَعْنَى كما يئسُوا من موتاهُم أنْ يُبعثوا ويرجعُوا إلى الدُّنيا أحياءً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعار بعلة بأسهم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الممتحنةِ كانَ لهُ المؤمنونَ والمؤمناتُ شفعاءَ يومَ القيامة
241
} ﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
242
Icon