تفسير سورة الطارق

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

والنساء، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أفتّان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ ب السَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها ونحوها؟».
القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها وإثبات إمكان البعث
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)
الإعراب:
وَما أَدْراكَ جملة أَدْراكَ خبر ما. مَا الطَّارِقُ مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدرى.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ لَمَّا بالتخفيف، فتكون لَمَّا زائدة، وإِنْ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي إنه، واللام فارقة، أي إن كل نفس لعليها حافظ.
وبالتشديد، فتكون إِنْ بمعنى «ما» النافية، ولَمَّا بمعنى «إلا» مثل: نشدتك اللَّه لمّا فعلت، أي إلا فعلت، وتقديره: ما كل نفس إلا عليها حافظ.
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ الهاء في إِنَّهُ إما أن تعود على الماء، أي على رجع الماء إلى موضعه من الصلب لقادر، وحينئذ ينصب يَوْمَ بتقدير: اذكر لأن رد الماء لا يكون في الآخرة، وإما أن تعود على الإنسان، أي على بعثه لقادر، وهو الظاهر، ويَوْمَ ظرف، ولا يجوز أن يتعلق ب رَجْعِهِ لأن يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بخبر إن، وهو قوله لَقادِرٌ. وإنما يتعلق بفعل دلّ عليه قوله: رَجْعِهِ أي يرجعه يوم تبلى السرائر، أو يتعلق بقوله: لَقادِرٌ والوجه الأول أوجه لأن اللَّه قادر في جميع الأوقات، فأي فائدة في تعيين هذا الوقت؟
173
البلاغة:
وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ استفهام للتفخيم والتعظيم ورفعة الشأن.
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ كناية، كنى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأة.
المفردات اللغوية:
وَالسَّماءِ كل ما علاك فأظلك. وَالطَّارِقِ النجم الطالع ليلا، وأصله عرفا: كل آت ليلا، أو الذي يجيئك ليلا، ثم استعمل للبادي فيه، وأطلق على النجوم لطلوعها ليلا.
وَما أَدْراكَ وما أعلمك؟ وفيه تعظيم لشأن الطارق. النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه، فينفذ فيه، والمراد به كل نجم، أو الثريا. إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، أو إن الشأن كل نفس لعليها، إذا جعلت إِنْ مخففة من الثقيلة، وحافِظٌ: رقيب وهو اللَّه أو الملائكة تحفظ عملها من خير وشرّ. والجملة على الوجهين جواب القسم، والمراد بالقراءتين واحد.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ فلينظر نظر اعتبار واتعاظ وتأمل من أي شيء خلق لأن وجود الحافظ يستدعي النظر إلى المبدأ ليعلم صحة قضية إعادته بالبعث، فلا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي ماء مدفوق منصب بدفع وسرعة سواء من الرجل والمرأة في رحمها، والمراد: الممتزج من الماءيين في الرحم، بدليل ما يأتي: الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ، والجملة جواب الاستفهام في قوله: مِمَّ خُلِقَ. الصُّلْبِ أي من النخاع الشوكي في ظهر الرجل، ثم ينصب إلى عروق في البيضتين. وَالتَّرائِبِ عظام صدر المرأة، جمع تريبة، مثل فصيلة وفصائل، والمراد: من الماء المتكون من الدم في العروق والشعب النازلة إلى الترائب، ويعتبر الصلب والترائب أقرب أوعية المني، فلذلك خصّا بالذّكر.
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ أي إن اللَّه تعالى على بعث الإنسان بعد موته لقدير، فإذا تأمل الإنسان في أصله، علم أن القادر على خلقه ابتداء، قادر على بعثه. تُبْلَى تختبر وتكشف، والمراد: تظهر السرائر وتعرف المكنونات ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال، وما خبث منهما. السَّرائِرُ ضمائر القلوب وما يسرّ فيها من العقائد والنيات وما خفي من الأعمال، جمع سريرة. فَما لَهُ ما لمنكر البعث وهو الإنسان الكافر. مِنْ قُوَّةٍ يمتنع بها من العذاب. وَلا ناصِرٍ ينصره ويدفع عنه السوء.
174
سبب النزول: نزول الآية (٥) :
فَلْيَنْظُرِ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ قال: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، كان يقوم على الأديم (الجلد)، فيقول: يا معشر قريش: من أزالني عنه فله كذا، ويقول:
إن محمدا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر، فأنا أكفيكم وحدي عشرة، واكفوني أنتم تسعة.
التفسير والبيان:
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي قسما بالسماء البديعة، والكوكب النير البادي ليلا، وما أعلمك ما حقيقته؟ إنه النجم المضيء الشديد الإضاءة، كأنه يخرق بشدة ضوئه ظلمة الليل البهيم.
والحلف بالسماء والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار التي أكثر اللَّه تعالى في كتابه الحلف بها لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة، وفيها دلالة على أن لها خالقا مدبرا ينظم أمرها. وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ يراد به التهويل والتفخيم، كأن هذا النجم البعيد في آفاق السموات لا يمكن لبشر إدراكه ومعرفة حقيقته، قال سفيان بن عيينة: كل شيء في القرآن: ما أَدْراكَ فقد أخبر اللَّه الرسول به، وكل شيء فيه ما يُدْرِيكَ لم يخبره به، كقوله: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى ٤٢/ ١٧].
والطارق: اسم جنس، وسمي طارقا لأنه يطرق بالليل، ويخفى بالنهار، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق.
175
وفسّره بقوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي هو طارق عظيم الشأن، رفيع القدر، وهو الذي يضيء ظلمة الليل، ويهتدي به في ظلمات البر والبحر، وتعرف به أوقات الأمطار وغيرها من أحوال المعايش، وهو الثريا عند الجمهور، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: هو عام في سائر النجوم لأن طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. والظاهر أن المراد جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر.
ويؤيد ذلك
ما جاء في الحديث الصحيح: نهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يطرق الرجل أهله طروقا، أي يأتيهم فجأة بالليل.
وفي حديث آخر مشتمل على الدعاء: «أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن».
ثم ذكر اللَّه تعالى المقسم عليه أو جواب القسم بقوله:
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي قسما بالسماء وبالنجم الثاقب، ما كل نفس إلا عليها من اللَّه حافظ، يحرسها من الآفات، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ، كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد ١٣/ ١١]. والحافظ على الحقيقة هو اللَّه عزّ وجلّ، وحفظ الملائكة: من حفظه لأنه بأمره.
ولم تبين الآية من هو الحافظ، فقال بعض المفسرين: إن ذلك الحافظ هو اللَّه تعالى، وقال آخرون: إن ذلك الحافظ هم الملائكة، كما قال: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام ٦/ ٦١]، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار ٨٢/ ١٠- ١١]، وقال: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق ٥٠/ ١٧- ١٨]، وقال: لَهُ مُعَقِّباتٌ... الآية المتقدمة.
قال أبو أمامة: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وكّل بالمؤمن
176
مائة وستون ملكا يذبّون عنه ما لم يقدر عليه، من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب، ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين، لا لاختطفته الشياطين».
ثم نبّه الإنسان إلى مبدأ الخلق ليكون ذلك دليلا على إمكان المعاد، فقال:
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه، ليعلم قدرة اللَّه على ما هو دون ذلك من البعث، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم، وهو ماء الرجل وماء المرأة، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما، وإنه ماء يخرج من ظهر الرجل في النخاع الشوكي الآتي من الدماغ، ومن بين ترائب المرأة، أي عظام صدرها أو موضع القلادة من الصدر، والولد يتكون من اجتماع الماءين، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم، فيتكون الجنين بإرادة اللَّه تعالى، كما قال تعالى:
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج ٢٢/ ٥٠].
ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب: أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن، والماء في الحقيقة يشترك في تكوينه جميع أجزاء البدن، ويتبلور في الخصية والمبيض في بدء التكوين، وكلاهما يجاور الكلى، ويقع بين الصلب، والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع، وكل ذلك آثار عضوية مولدة من الدماغ، والنخاع قناة الدماغ، وهو في الصلب، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن، وهو الترائب جمع تريبة.
وبعد السؤال والجواب عنه لمعرفة المبدأ الذي هو مقدمة لمعرفة المعاد، والذي ناسب أن يبدأ اللَّه به، ذكر تعالى النتيجة المترتبة على ذلك وهي بيان القدرة على الإعادة، فقال:
177
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي إن اللَّه تعالى على رجع الإنسان، أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة، وقد ذكر تعالى هذا الدليل في مواضع متعددة في القرآن الكريم.
وقيل: إنه تعالى على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. والراجح القول الأول بدليل قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.
ويرجعه يوم القيامة يوم تختبر وتعرف السرائر، أي ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها. وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار، كقوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣١].
وكيفية دلالة المبدأ على المعاد: أن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا، فإنه بعد موته وتفرق أجزائه، لا بدّ وأن يقدر على جمع تلك الأجزاء، وجعلها خلقا سويا «١».
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أي فما للإنسان حين بعثه من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب اللَّه، ولا ناصر ينصره، فينقذه مما نزل به، أي فلا قوة ذاتية له، ولا قوة من غيره، لينقذ نفسه من عذاب اللَّه، فهذا نفي للقوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على ما يأتي:
١- أقسم اللَّه تعالى بالسماء وبالكواكب المنيرة المضيئة على أن لكل نفس حفظة يحفظون عليها رزقها وعملها وأجلها.
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ١٣٠
178
وقد أكثر سبحانه في كتابه الكريم الإقسام بالسموات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة.
٢- الدليل على إمكان البعث والمعاد هو بدء الخلق للإنسان. ووجه الاتصال أو التعلق بين هذا وبين ما قبله: أن اللَّه تعالى حين ذكر أن على كل نفس حافظا، أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبة أمره.
٣- خلق اللَّه الإنسان ابن آدم من المني المدفوق، مني الرجل والمرأة المجتمعين، والذي يستقر في رحم المرأة، ولا شك أن الصب فعل الشخص، والفاعل الحقيقي هو اللَّه، فيكون ذلك من الإسناد المجازي الظاهري.
وتكوّن المني من عملية مشتركة تشترك فيها جميع أجزاء الإنسان، وقد عبّر تعالى عن الكل بالأكثر الذي يحسّ به الشخص عادة وهو خروج الماء من بين الصلب أي الظهر، والترائب أي الصدر، جمع تريبة: وهي موضع القلادة من الصدر. والصلب من الرجل، والترائب من المرأة.
٤- إذا كان الخالق الحقيقي للإنسان أولا هو اللَّه تعالى، فإن اللَّه جلّ ثناؤه قادر على إعادته وبعثه مرة أخرى بعد الموت، في يوم القيامة، وفي اليوم الذي تنكشف فيه السرائر وتبدو وتظهر، ويصبح السرّ علانية، والمكنون مشهورا.
والسرائر: كل ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات، وما أخفي من الأعمال الحسنة أو القبيحة. واختبار هذه السرائر معناه الكشف والإظهار وترجيح الاتجاه الراجح من الأفعال وتمييز المرجوح، فتنجلي الحقائق، ويعرف الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل.
٥- نفى اللَّه سبحانه وجود القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن
179
الإنسان يومئذ، بقوله: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ. والآية دليل على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم، لا من نفسه ولا من غيره، ولا شك في أن نفي القوة زجر وتحذير، ويتجه أولا إلى أصحاب القوة والنفوذ في الدنيا الذين يعتمدون على الأعوان والأنصار، وهناك يوم القيامة يفقدون كل شيء.
القسم على صدق القرآن والرسالة وتهديد الكائدين لهما
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١١ الى ١٧]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥)
وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
الإعراب:
رُوَيْداً مصدر مؤكد لمعنى العامل، مصغر رود أو إرواد على الترخيم.
البلاغة:
السَّماءِ والْأَرْضِ بينهما طباق، وكذا بين (الفصل.. والهزل).
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ سجع رصين يزيد في جمال الأسلوب، ومثله إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ.
يَكِيدُونَ كَيْداً جناس اشتقاق.
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إطناب بتكرار الفعل مرة أخرى، مبالغة في الوعيد.
المفردات اللغوية:
ذاتِ الرَّجْعِ الرجع: إعادة الشيء إلى ما كان فيه أولا، والمراد به هنا المطر لأنه يعود إلى الأرض من السماء. ذاتِ الصَّدْعِ الشّق عن النبات والعيون وغيرهما من كنوز الأرض.
إِنَّهُ القرآن. لَقَوْلٌ فَصْلٌ يفصل بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ باللعب والباطل، فإنه جدّ كلّه.
إِنَّهُمْ الكفار من أهل مكة وأمثالهم. يَكِيدُونَ كَيْداً يدبرون ويعملون المكايد
180
لإطفاء نور الإسلام، وإبطال أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَأَكِيدُ كَيْداً أقابلهم بما يعلي أمره، وأدبّر أمرا خفيا لهم، وأستدرجهم للانتقام منهم بحيث لا يحتسبون ولا يعلمون. وليس المقصود بالكيد إذا أسند إلى اللَّه على حقيقته لأن اللَّه تعالى ليس بحاجة إليه، وإنما المراد به جزاء العمل، من قبيل المشاكلة والمشابهة للجرم المرتكب. فَمَهِّلِ أنظرهم أو أعطهم مهلة يا محمد، فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم. أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أمهلهم إمهالا يسيرا، أو قليلا أو قريبا، وتكرار الفعل وتغيير بنيته للمبالغة في الوعيد. وقد أخذهم اللَّه تعالى ببدر، وفتح مكة، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الوثنية.
المناسبة:
بعد إثبات توحيد اللَّه وقدرته على خلق الإنسان أولا، وإعادته بالبعث والمعاد، أقسم اللَّه قسما آخر على صحة نزول القرآن من عند اللَّه مشتملا على القول الفصل، وصحة رسالة النبي الكريم الذي نزل عليه الوحي القرآني، ثم أردفه بوعيد المفترين على القرآن والكائدين للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، ووعد هذا النبي وكل داع إلى الحق بالفوز والغلبة على الأعداء.
التفسير والبيان:
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يجيء ويرجع ويتكرر من السماء، فيحيي الأرض بعد موتها، وينبت النبات، والأرض ذات الصدع: وهو ما تتصدع وتنشق عنه الأرض من النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة النفطية والمائية، كما قال تعالى: ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا... الآية [عبس ٨٠/ ٢٦- ٣٢] قسما بالسماء والأرض، إن القرآن الكريم لقول حق لا ريب فيه، يفصل بين الحق والباطل، ولم ينزل باللعب واللهو، فهو جدّ حقّ ليس بالهزل، ولا بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، تنزيل من حكيم حميد. فقوله:
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ جواب القسم. وسمي المطر رجعا من ترجيع الصوت وهو
181
إعادته، لكونه عائدا مرة بعد أخرى، ولأنه ينشأ من تبخر بحار الأرض ثم يعود إلى الأرض.
أخرج الترمذي والدارمي عن علي كرم اللَّه وجهه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول اللَّه؟ قال: كتاب اللَّه تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللَّه. وهو حبل اللَّه المتين، ونوره المبين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن لمّا سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن ٧٢/ ١- ٢]، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
ثم أوعد اللَّه تعالى المكذبين بالقرآن الكائدين للمؤمنين بقوله:
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً أي إن الكفار زعماء مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لإبطال ما جاء به من الدين الحق، وللصد عن سبيل اللَّه وعن القرآن، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر، ويتآمرون على قتله، كما أخبر تعالى بقوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال ٨/ ٣٠].
ولكني أدبر لهم تدبيرا آخر، فأستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم جزاء كيدهم. وقد سمى جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدة العذاب كيدا.
182
ثم وعد رسوله بالنصر عليهم، وأمره بالصبر والتمهل، فقال:
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي أخّرهم وأنظرهم، ولا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل به، وارض بما يدبره اللَّه لك في أمورهم.
ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة، فقال: أمهلهم إمهالا يسيرا قليلا، أو قريبا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال، والعقوبة والهلاك، كما قال تعالى:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
وهذا وعيد شديد، تحقق يوم بدر، ويعقبه عذاب يوم القيامة، وفيه تحذير عن مثل سيرتهم، وترغيب في خلاف طريقتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أقسم اللَّه تعالى بالسماء (السحاب) ذات الأمطار النافعة، والأرض ذات الشقوق والصدوع التي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار على أن القرآن يفصل بين الحق والباطل، وأنه جدّ حق ليس بالهزل، أي اللعب والباطل، وأنه منزل من عند اللَّه تعالى، وأن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
٢- أخبر اللَّه تعالى أن أعداء اللَّه يمكرون بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه مكرا، ويدبرون لهم مكائد إما بالقتل، أو بتوجيه التهم كالطعن بكون محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ساحرا وشاعرا ومجنونا، أو بوصف القرآن بأنه أساطير الأولين.
٣- يجازي اللَّه أولئك الأعداء على كيدهم إما في الدنيا بالاستدراج إلى المعاصي والمنكرات من حيث لا يعلمون، وإما في الآخرة بإعداد العذاب الأليم المهين لهم. ويدفع اللَّه تعالى في الدنيا أيضا كيد الكفرة عن محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينصره ويعلي دينه.
183
والكيد في حق اللَّه تعالى محمول على هذا الجزاء المذكور، تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠] وقوله: نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر ٥٩/ ١٩] وقوله:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء ٤/ ١٤٢].
٤- اقتضت الحكمة الإلهية الرفق والتأني بأعداء الإسلام، فأمر اللَّه نبيه بألا يدعو عليهم، ولا يتعجل إهلاكهم، وأن يرضى بما دبره اللَّه في أمورهم، وأن ينتظر حتى يحل العقاب بهم، فإنهم في المستقبل القريب مهزومون مخذولون، ويتحقق في النهاية النصر للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه. ويظل عذاب القيامة محفوظا لهم، وكل ما هو آت قريب.
184

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعلى
مكيّة، وهي تسع عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الأعلى، لافتتاحها بقول اللَّه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عز وجل عن كل نقص، وصفه بكل صفات التمجيد والتعظيم لأنه العلي الأعلى من كل شيء في الوجود. وتسمى أيضا سورة سَبِّحِ.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في أن سورة الطارق ذكرت خلق الإنسان في قوله تعالى: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [٦] وبدء خلق النبات في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [١١- ١٢].
وهذه السورة تحدثت بما هو أعم وأشمل من خلق الإنسان وغيره: خَلَقَ فَسَوَّى [٢] وخلق النبات في قوله: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [٤- ٥].
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة المكية الحديث عن توحيد اللَّه وقدرته، والقرآن وتيسير حفظه، والأخلاق الكريمة بتهذيب النفس الإنسانية. وقد افتتحت
185
بالأمر بتنزيه اللَّه تعالى عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، ووصفه بصفات التعظيم والتمجيد، لخلقه المخلوقات وإتقان الخلق وتناسبه، وإخراجه الأعشاب والنباتات: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى..
[الآيات ١- ٥].
ثم تحدثت عن تيسير حفظ القرآن وترسيخه في قلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحيث لا ينساه أبدا، لينقله إلى الناس: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى.. [٦- ٧].
وأردفت ذلك بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتذكير بالقرآن لإصلاح النفوس وتهذيب الطبائع: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى.. [الآيات ٨- ١٣].
وختمت السورة ببيان فلاح كل من طهر نفسه من الكفر والشرك والمعاصي، وتذكّر دائما في نفسه جلال اللَّه وعظمته، ولم يؤثر الدنيا على الآخرة، وعرف أن هذه الأصول الاعتقادية والخلقية قديمة جاءت بها جميع الشرائع الإلهية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى.. [١٤- ١٩].
فضلها:
ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لمعاذ: «هلّا صليت ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى».
وأخرج الجماعة (أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وبقية أهل السنن) عن النعمان بن بشير: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وربما اجتمعا في يوم واحد، فقرأهما».
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبيّ بن كعب وعبد اللَّه بن عباس وعبد الرحمن بن أبزى وعائشة أم المؤمنين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في الوتر
186
Icon